فتح القدير للكمال ابن الهمام [كِتَابُ الْمَعَاقِلِ]
(كِتَابُ الْمَعَاقِلِ) الْمَعَاقِلُ جَمْعُ مَعْقُلَةٍ،
وَهِيَ الدِّيَةُ، وَتُسَمَّى الدِّيَةُ عَقْلًا لِأَنَّهَا
تَعْقِلُ الدِّمَاءَ مِنْ أَنْ تُسْفَكَ: أَيْ تُمْسِكُ. قَالَ
(وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَكُلُّ
دِيَةٍ تَجِبُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ،
وَالْعَاقِلَةُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ) يَعْنِي يُؤَدُّونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِأَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ مَجْمُوعُ مَا يَجِبُ عَلَى
الْعَاقِلَةِ كُلِّهِمْ لَا مَا يَجِبُ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَحْذُورَ الْمَذْكُورَ فِي
الِاعْتِرَاضِ الْمَزْبُورِ إنَّمَا هُوَ أَنْ يَكُونَ
الَّذِينَ عَقَلُوا عَنْهُمْ هُمْ الَّذِينَ عَقَلُوا لَهُمْ
وَهُمْ الْوَرَثَةُ كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ قَوْلُ
الْمُعْتَرِضِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَعْقِلُوا عَنْهُمْ
لَهُمْ، لَا أَنْ يَكُونَ مَنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ
عَيْنَ مَنْ وَجَبَتْ لَهُمْ حَتَّى يُقَالَ إنَّ مَنْ
وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ غَيْرُ الْوَرَثَةِ وَمَنْ
وَجَبَتْ لَهُمْ هُمْ الْوَرَثَةُ فَلَا اتِّحَادَ. عَلَى
أَنَّ الْعَاقِلَةَ إذَا كَانَتْ أَعَمَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ
وَرَثَةً أَوْ غَيْرَ وَرَثَةٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ذَلِكَ
الْمُجِيبُ تَكُونُ الْوَرَثَةُ أَيْضًا مِمَّنْ وَجَبَتْ
عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى
الْعَاقِلَةِ كُلِّهِمْ لَا عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ فَيَلْزَمُ
اتِّحَادُ مَنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ. وَمَنْ
وَجَبَتْ لَهُمْ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَرَثَةِ لَا مَحَالَةَ
فَلَا يَصِحُّ الْجَوَابُ الْمَزْبُورُ عَلَى كُلِّ حَالٍ
كَمَا لَا يَخْفَى.
(كِتَابُ الْمَعَاقِلِ)
أَقُولُ: هَكَذَا وَقَعَ الْعُنْوَانُ فِي عَامَّةِ
الْمُعْتَبَرَاتِ، لَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ
الْعَوَاقِلَ بَدَلَ الْمَعَاقِلِ، لِأَنَّ الْمَعَاقِلَ
جَمْعُ الْمِعْقَلَةِ وَهِيَ الدِّيَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى كِتَابَ
الدِّيَاتِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُؤَدِّيًا إلَى تَكْرَارٍ
لَيْسَ بِتَامٍّ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ بَيَانَ أَقْسَامِ
الدِّيَاتِ وَأَحْكَامِهَا قَدْ مَرَّ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ
الدِّيَاتِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ هَاهُنَا
بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ بِتَفَاصِيلِ
أَنْوَاعِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ،
فَالْمُنَاسِبُ فِي الْعُنْوَانِ ذِكْرُ الْعَوَاقِلِ
لِأَنَّهَا جَمْعُ الْعَاقِلَةِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ:
لَمَّا كَانَ مُوجِبُ الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ
الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ
مَعْرِفَتِهَا وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا فَذَكَرَهَا فِي
هَذَا الْكِتَابِ انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ
الْعِنَايَةِ أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ
مَدَارَهُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي هَذَا
الْفَصْلِ مَعْرِفَةَ الدِّيَاتِ نَفْسِهَا وَمَعْرِفَةَ
أَحْكَامِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَحَلَّهَا كِتَابُ
الدِّيَاتِ وَاسْتُوْفِيَتْ هُنَاكَ عَلَى التَّفْصِيلِ،
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ هُنَا مَعْرِفَةُ
الْعَوَاقِلِ وَأَحْكَامِهَا وَذِكْرُ الدِّيَةِ عَلَى سَبِيلِ
الِاسْتِطْرَادِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَكَرَ الْكِتَابَ
هُنَا بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْبَابَ أَوْ
الْفَصْلَ لِكَوْنِ الْمَذْكُورِ هُنَا إذْ ذَاكَ شُعْبَةً
مِنْ الدِّيَاتِ، بِخِلَافِ الْعَوَاقِلِ فَإِنَّهَا أَمْرٌ
مُغَايِرٌ لِلدِّيَاتِ ذَاتًا وَحُكْمًا فَكَانَتْ مَحَلًّا
لِذِكْرِ الْكِتَابِ، وَكَأَنَّ ذَيْنِك الشَّارِحَيْنِ
إنَّمَا اغْتَرَّا بِذِكْرِ الْمَعَاقِلِ فِي عُنْوَانِ هَذَا
الْكِتَابِ بَدَلَ الْعَوَاقِلِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ آنِفًا.
وَالْوَجْهُ السَّدِيدُ هُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ
الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ: لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ
الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَتَوَابِعَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ
يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا
انْتَهَى (قَوْلُهُ وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ
وَالْخَطَإِ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى
الْعَاقِلَةِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: قَوْلُهُ وَكُلُّ
دِيَةٍ مُبْتَدَأٌ
(10/394)
الْعَقْلَ وَهُوَ الدِّيَةُ، وَقَدْ
ذَكَرْنَاهُ فِي الدِّيَاتِ. وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهَا عَلَى
الْعَاقِلَةِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
فِي حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
لِلْأَوْلِيَاءِ «قُومُوا فَدُوهُ» وَلِأَنَّ النَّفْسَ
مُحْتَرَمَةٌ لَا وَجْهَ إلَى الْإِهْدَارِ وَالْخَاطِئُ
مَعْذُورٌ، وَكَذَا الَّذِي تَوَلَّى شِبْهَ الْعَمْدِ نَظَرًا
إلَى الْآلَةِ فَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْعُقُوبَةِ
عَلَيْهِ، وَفِي إيجَابِ مَالِ عَظِيمٍ إجْحَافُهُ
وَاسْتِئْصَالُهُ فَيَصِيرُ عُقُوبَةً فَضَمَّ إلَيْهِ
الْعَاقِلَةَ تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ. وَإِنَّمَا خُصُّوا
بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَصَرَ لِقُوَّةٍ فِيهِ وَتِلْكَ
بِأَنْصَارِهِ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَكَانُوا هُمْ
الْمُقَصِّرِينَ فِي تَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتِهِ فَخُصُّوا بِهِ.
قَالَ (وَالْعَاقِلَةُ أَهْلُ الدِّيوَانِ إنْ كَانَ
الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ يُؤْخَذُ مِنْ
عَطَايَاهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) وَأَهْلُ الدِّيوَانِ
أَهْلُ الرَّايَاتِ وَهُمْ الْجَيْشُ الَّذِينَ كُتِبَتْ
أَسَامِيهمْ فِي الدِّيوَانِ وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْعَشِيرَةِ
لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا نَسْخَ بَعْدَهُ
وَلِأَنَّهُ صِلَةٌ وَالْأَوْلَى بِهَا الْأَقَارِبُ. وَلَنَا
قَضِيَّةُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَمَّا
دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ جَعَلَ الْعَقْلَ عَلَى أَهْلِ
الدِّيوَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ بَلْ هُوَ تَقْرِيرُ مَعْنًى لِأَنَّ
الْعَقْلَ كَانَ عَلَى أَهْلِ النُّصْرَةِ وَقَدْ كَانَتْ
بِأَنْوَاعٍ: بِالْقَرَابَةِ وَالْحِلْفِ وَالْوَلَاءِ
وَالْعَدِّ.
وَفِي عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ صَارَتْ
بِالدِّيوَانِ فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِهِ اتِّبَاعًا
لِلْمَعْنَى وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ كَانَ الْيَوْمَ قَوْمٌ
تَنَاصُرُهُمْ بِالْحِرَفِ فَعَاقِلَتُهُمْ أَهْلُ
الْحِرْفَةِ، وَإِنْ كَانَ بِالْحِلْفِ فَأَهْلُهُ وَالدِّيَةُ
صِلَةٌ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ إيجَابَهُمْ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ
وَهُوَ الْعَطَاءُ أَوْلَى مِنْهُ فِي أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ،
وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ سِنِينَ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَقَوْلُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ خَبَرُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا
قَالُوهُ لَكَانَ قَوْلُهُ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ
الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا
مُسْتَقِلًّا وَكَانَ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ
وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ كَلَامًا
تَامًّا مُسْتَقِلًّا أَيْضًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ
قَوْلُهُ وَالدِّيَةُ مُبْتَدَأً، وَقَوْلُهُ فِي شِبْهِ
الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ خَبَرُهُ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى
وَالدِّيَةُ كَائِنَةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ
وَالْخَطَإِ، وَهَذَا مَعَ اسْتِلْزَامِهِ أَنْ يَكُونَ
قَوْلُهُ وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ
مُسْتَدْرَكًا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ هَاهُنَا، إذْ كَوْنُ
الدِّيَةِ وَاجِبَةً فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَقَدْ
ذُكِرَ مُفَصَّلًا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ
وَكِتَابِ الدِّيَاتِ، وَلَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِكِتَابِ
الْمَعَاقِلِ يَفُوتُ بِهِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ هَاهُنَا
وَهُوَ بَيَانُ كَوْنِ الدِّيَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ
وَالْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، إذْ بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ
تَصِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ
الْمَعَاقِلِ.
وَالْحَقُّ الصَّرِيحُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ وَالدِّيَةُ
مُبْتَدَأٌ وَقَوْلَهُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ
صِفَتُهُ: أَيْ الدِّيَةُ الْكَائِنَةُ أَوْ الْوَاجِبَةُ فِي
شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَقَوْلُهُ وَكُلُّ دِيَةٍ
وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ
وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَقَوْلُهُ
عَلَى الْعَاقِلَةِ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ وَهُوَ قَوْلُهُ
فَيَصِيرُ الْحُكْمُ بِكَوْنِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ
مُنْسَحِبًا
(10/395)
وَمَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْعَطَاءِ لِلتَّخْفِيفِ
وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً (فَإِنْ
خَرَجَتْ الْعَطَايَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ
أَقَلَّ أُخِذَ مِنْهَا) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَتَأْوِيلُهُ
إذَا كَانَتْ الْعَطَايَا لِلسِّنِينَ الْمُسْتَقْبِلَةِ
بَعْدَ الْقَضَاءِ، حَتَّى لَوْ اجْتَمَعَتْ فِي السِّنِينَ
الْمَاضِيَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ
الْقَضَاءِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ
بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ ثَلَاثُ عَطَايَا فِي سَنَةٍ
وَاحِدَةٍ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ يُؤْخَذُ مِنْهَا
كُلُّ الدِّيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ
الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَكُلُّ ثُلُثٍ مِنْهَا فِي
سَنَةٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَلَى الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ جَمِيعًا فَلَا
يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ أَصْلًا وَيَحْصُلُ الْمَعْنَى
الْمَقْصُودُ هُنَا بِلَا رَيْبٍ.
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْعَطَاءِ لِلتَّخْفِيفِ،
وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً) أَقُولُ: فِي
تَمَامِ هَذَا التَّعْلِيلِ كَلَامٌ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ الْعَطَاءُ الْخَارِجُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي
سَنَتَيْنِ وَافِيًا بِتَمَامِ الدِّيَةِ لِكَثْرَةِ آحَادِ
الْعَاقِلَةِ، فَيُمْكِنُ أَخْذُهَا بِالتَّمَامِ مِنْ
الْعَطَاءِ الْخَارِجِ فِي سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، فَلَا
يُفِيدُ هَذَا التَّعْلِيلُ الْمَزْبُورُ الْمُدَّعَى وَهُوَ
التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ سِنِينَ. وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ لَا
تَكُونَ الْعَطَايَا الْخَارِجَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ
وَافِيَةً بِتَمَامِ الدِّيَةِ لِقِلَّةِ آحَادِ الْعَاقِلَةِ،
فَلَا بُدَّ أَنْ تُؤْخَذَ إذْ ذَاكَ مِنْ الْعَطَايَا
الْخَارِجَةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَا
يُفِيدُ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ الْمُدَّعَى مِنْ هَذِهِ
الْحَيْثِيَّةِ أَيْضًا كَمَا تَرَى. نَعَمْ يُفِيدُ
التَّأْجِيلُ مُطْلَقًا لَكِنَّ الْمُدَّعَى هُنَا هُوَ
التَّأْجِيلُ بِثَلَاثِ سِنِينَ لَا التَّأْجِيلُ مُطْلَقًا
(قَوْلُهُ فَإِنْ خَرَجَتْ الْعَطَايَا فِي أَكْثَرَ مِنْ
ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَقَلَّ أُخِذَ مِنْهَا لِحُصُولِ
الْمَقْصُودِ) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ
كَانَ يَأْبَى إيجَابُ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ
الْمُحْتَرَمَةِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا، إلَّا
أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ،
وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِإِيجَابِهِ مُؤَجَّلًا بِثَلَاثِ
سِنِينَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا مَرَّ آنِفًا،
فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ التَّأْجِيلُ بِثَلَاثِ سِنِينَ،
إذْ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّرْعَ الْوَارِدَ
عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَخْتَصُّ بِمَا وَرَدَ بِهِ،
وَسَيَجِيءُ نَظِيرُ هَذَا فِي الْكِتَابِ فِي تَعْلِيلِ أَنَّ
مَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ كَمَا إذَا قَتَلَ
الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا لَيْسَ بِحَالٍّ عِنْدَنَا بَلْ
مُؤَجَّلٌ بِثَلَاثِ سِنِينَ فَتَأَمَّلْ هَلْ يُمْكِنُ
دَفْعُهُ؟ (قَوْلُهُ وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ ثَلَاثُ
عَطَايَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ) قَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ
الدِّرَايَةِ: وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ: وَلَوْ خَرَجَ
لِلْقَابِلِ: أَيْ لِلْعَامِ الْقَابِلِ وَهُوَ الْأَصَحُّ
انْتَهَى. وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ.
أَقُولُ: كَيْفَ يَكُونُ ذَاكَ هُوَ الْأَصَحُّ، وَحِينَئِذٍ
يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ مَعْنَاهُ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ لَغْوًا مَحْضًا، لِأَنَّ مَا يَخْرُجُ
لِلْعَامِ الْقَابِلِ: أَيْ الْمُقْبِلِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي
الْمُسْتَقْبَلِ قَطْعًا، فَمَا مَعْنَى تَفْسِيرِ الْمُرَادِ
بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ اللَّهُمَّ إلَّا
أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ خُرُوجٍ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ
وَبَيْنَ خُرُوجٍ لِلْعَامِ الْقَابِلِ وَيَدَّعِي إمْكَانَ
كَوْنِ الْخُرُوجِ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فِي الْمَاضِي بِأَنْ
خَرَجَ الْعَطَاءُ فِي الْمَاضِي لِلْعَامِ الْقَابِلِ: أَيْ
لِأَجْلِ الْعَامِ الْقَابِلِ بِطَرِيقِ تَعْجِيلِ إعْطَاءِ
عَطِيَّةِ الْعَامِ الْآتِي أَيْضًا لِمَصْلَحَةٍ لَكِنَّهُ
تَعَسُّفٌ لَا يَخْفَى.
نَعَمْ فِي النُّسْخَةِ الْأُولَى أَيْضًا كَلَامٌ، وَهُوَ
أَنَّهُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُؤْخَذُ مِنْهَا
كُلُّ الدِّيَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ الدِّيَةِ إنَّمَا
يُؤْخَذُ مِنْ الْعَطَايَا الَّتِي خَرَجَتْ لِلْعَاقِلَةِ
أَجْمَعِهِمْ لَا مِمَّا خَرَجَتْ لِلْقَاتِلِ فَقَطْ، إلَّا
أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمُضَافُ فِي قَوْلِهِ
وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ: أَيْ لَوْ خَرَجَ لِعَاقِلَةِ
الْقَاتِلِ وَتَقْدِيرُ الْمُضَافِ طَرِيقَةٌ مَعْهُودَةٌ
فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا
يَخْفَى (قَوْلُهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ لِمَا
ذَكَرْنَا) قَالَ الشُّرَّاحُ: قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا
إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ.
(10/396)
وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ بِالْعَقْلِ
ثُلُثَ دِيَةِ النَّفْسِ أَوْ أَقَلَّ كَانَ فِي سَنَةٍ
وَاحِدَةٍ وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ
الثُّلُثَيْنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَمَا زَادَ عَلَى
ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ
وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى
الْقَاتِلِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَهُوَ فِي
مَالِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَا وَجَبَ
عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ فَهُوَ حَالٌّ، لِأَنَّ
التَّأْجِيلَ لِلتَّخْفِيفِ لِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ فَلَا
يَلْحَقُ بِهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ.
وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ وَالشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ
مُؤَجَّلًا فَلَا يَتَعَدَّاهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَقُولُ: أَرَاهُمْ خَرَجُوا هُنَا عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ إذْ
الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ عَلَى
قَوْلِهِ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ فَحِينَئِذٍ لَا
مَجَالَ لِكَوْنِ قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ إشَارَةً إلَى
قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ، إذْ لَا تَأْثِيرَ
لِكَوْنِ الْوُجُوبِ بِالْقَضَاءِ فِي أَنْ يُؤْخَذَ كُلُّ
الدِّيَةِ مِنْ الْعَطَايَا الْخَارِجَةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ
فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ قَوْلُهُ
الْمَزْبُورُ حِينَئِذٍ إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِحُصُولِ
الْمَقْصُودِ فَإِنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا
عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ.
نَعَمْ لَوْ جُعِلَ قَوْلُهُ الْمَزْبُورُ دَلِيلًا عَلَى
قَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَصَحَّ جَعْلُ ذَلِكَ
إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ
لَكِنَّ جَعْلَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا وَقَعَ ذِكْرُهُ مِنْ
الْمُصَنِّفِ اسْتِطْرَادًا وَبِالتَّبَعِ وَهُوَ قَوْلُهُ
مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَرَكَ مَا هُوَ أَصْلُ
الْمَسْأَلَةِ وَمَقْصُودٌ بِالذَّاتِ هُنَا خَالِيًا عَنْ
الدَّلِيلِ بِالْكُلِّيَّةِ مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ
السَّلِيمَةُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ
ذَلِكَ لَمَا أَخَّرَ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ جَوَابِ
الْمَسْأَلَةِ بَلْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَهُ مُتَّصِلًا
بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
(قَوْلُهُ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ
أَوْ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا
فَهُوَ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) أَقُولُ: هَذَا
التَّحْرِيرُ مُخْتَلٌّ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ خَبَرَ " مَا "
فِي قَوْلِهِ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ إنَّمَا هُوَ
قَوْلُهُ فَهُوَ فِي مَالِهِ، إذْ لَوْ كَانَ خَبَرُهُ فِي
ثَلَاثِ سِنِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ
فِي مَالِهِ مَعْنًى، بَلْ لَمْ يَظْهَرْ لِضَمِيرِ هُوَ فِي
قَوْلِهِ فَهُوَ فِي مَالِهِ ارْتِبَاطٌ بِمَا قَبْلَهُ،
وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَهُ
دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ وَالْقَوَاعِدِ
الْأَدَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ خَبَرُ " مَا " قَوْلَهُ فَهُوَ
فِي مَالِهِ لَمْ يَصِحَّ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي الْمَقَامِ،
فَإِنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ لَيْسَ
مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ بِلَا رَيْبٍ.
فَالْحَقُّ فِي تَحْرِيرِ الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: وَمَا
وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى
الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا
فَهُوَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ
الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ، وَالشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ مُؤَجَّلًا
فَلَا يَتَعَدَّاهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ
قَوْلِهِ إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ: أَيْ الْقِيَاسُ يَأْبَى
إيجَابَ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ: يَعْنِي لَا
يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ وَهِيَ
لَا تَتَنَاقَضُ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ. أَمَّا أَوَّلًا
فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنَّ
الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ هُوَ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ لَمَا
أَثْبَتَ دَلِيلُنَا الْمَذْكُورُ هَاهُنَا مُدَّعَانَا،
فَإِنَّ إيجَابَ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ لَا يَكُونُ
حِينَئِذٍ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، لِأَنَّ عَدَمَ اقْتِضَاءِ
الْقِيَاسِ إيَّاهُ لَيْسَ بِاقْتِضَاءٍ لِعَدَمِهِ،
وَالْمُخَالَفَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الثَّانِي دُونَ
الْأَوَّلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا
لِلْقِيَاسِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُرُودِ الشَّرْعِ بِإِيجَابِ
الْمَالِ فِي الْخَطَإِ مُؤَجَّلًا أَنْ لَا يَتَعَدَّى
غَيْرُهُ، لِأَنَّ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى مَوْرِدُهُ إنَّمَا
هُوَ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ
الْأُصُولِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ
بِقَوْلِهِ " وَهِيَ ": أَيْ حُجَجُ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ
أَنَّ حُجَجَهُ الْمَعْمُولَ بِهَا لَا تَتَنَاقَضُ
فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الْقِيَاسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ
بِمَعْمُولٍ بِهِ بَلْ هُوَ مَتْرُوكٌ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ
بِإِيجَابِ الْمَالِ فَلَا مَحْذُورَ فِي اقْتِضَائِهِ عَدَمَ
إيجَابِ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ، وَإِنْ أَرَادَ
بِهِ أَنَّ حُجَجَ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ مُطْلَقًا: أَيْ
سَوَاءٌ كَانَتْ مَعْمُولًا بِهَا أَوْ لَا فَمَمْنُوعٌ،
كَيْفَ وَقَدْ وَضَعُوا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بَابًا
لِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ
وَالتَّرْجِيحِ، وَبَيَّنُوا أَحْكَامَ ذَلِكَ عَلَى
التَّفْصِيلِ. وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ
أَنَّهُ رَفَضَ هُنَا عِدَّةً مِنْ الْقَوَاعِدِ
(10/397)
وَلَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا خَطَأً
فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ
اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ إذْ هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ،
وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مُدَّةُ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ
الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ
الْمِثْلُ وَالتَّحَوُّلَ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ
فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِهِ كَمَا فِي وَلَدِ
الْمَغْرُورِ.
قَالَ (وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ
فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ) لِأَنَّ نُصْرَتَهُ بِهِمْ وَهِيَ
الْمُعْتَبَرَةُ فِي التَّعَاقُلِ. قَالَ (وَتُقْسَمُ
عَلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يُزَادُ الْوَاحِدُ عَلَى
أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَيُنْتَقَصُ مِنْهَا)
قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَذَا ذَكَرَهُ
الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِهِ، وَهَذَا
إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُزَادُ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ جَمِيعِ
الدِّيَةِ، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى
أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ
الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَوْ
أَرْبَعَةٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ
سَنَةٍ إلَّا دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ وَهُوَ
الْأَصَحُّ.
قَالَ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَتَّسِعُ الْقَبِيلَةُ لِذَلِكَ
ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ) مَعْنَاهُ: نَسَبًا
كُلُّ ذَلِكَ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ وَيُضَمُّ الْأَقْرَبُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْفِقْهِيَّةِ بِلَا ضَرُورَةٍ أَصْلًا. ثُمَّ قَالَ ذَاكَ
الشَّارِحُ: فَإِنْ قِيلَ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْخَطَإِ
فَلَا يَلْحَقُ بِهِ. قُلْنَا: هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ
كَوْنُهُ مَالًا وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً. أَقُولُ: إنَّ
قَيْدَ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ وَجَبَ بِالْقَتْلِ
ابْتِدَاءً يُنَافِي مَا مَرَّ مِنْهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ
الْمَعَاقِلِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي الْكِتَابِ هُنَاكَ
وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى
الْعَاقِلَةِ، قَالَ ذَلِكَ الشَّارِحُ وَغَيْرُهُ فِي شَرْحِ
قَوْلِهِ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ: يَعْنِي ابْتِدَاءً،
وَقَالُوا: يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ دِيَةٍ تَجِبُ بِسَبَبِ
الصُّلْحِ أَوْ الْأُبُوَّةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ،
فَإِنَّهَا فِي مَالِ الْقَاتِلِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ
انْتَهَى. وَوَجْهُ الْمُنَافَاةِ غَيْرُ خَافٍ عَلَى ذِي
مُسْكَةٍ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا خَطَأً فَعَلَى
كُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ
اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ) أَقُولُ: قَدْ مَرَّ فِي
كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَنَّهُ إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا
عَمْدًا اُقْتُصَّ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَقَالُوا فِي بَيَانِ
وَجْهِهِ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتَلَ بِوَصْفِ
الْكَمَالِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَجَزَّأُ فَجَاءَ
التَّمَاثُلُ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ هَذِهِ
الْحَيْثِيَّةِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ،
فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هُنَا: فَلِمَ لَا تَجِبُ عَلَى
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَشَرَةِ الْقَاتِلِينَ وَاحِدًا خَطَأً
دِيَةٌ كَامِلَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
قَاتَلَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ كَمَا فِي الْعَمْدِ بِنَاءً
عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَجَزَّأُ، وَقَدْ مَرَّ فِي
كِتَابِ الدِّيَاتِ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فِي ضَرْبَةٍ
وَاحِدَةٍ ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ
وَالْبَصَرُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ (قَوْلُهُ
وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ
الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ
الْمِثْلُ وَالتَّحَوُّلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ
فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِهِ) قَالَ الشُّرَّاحُ
فِي بَيَانِهِ
(10/398)
فَالْأَقْرَبُ عَلَى تَرْتِيبِ
الْعَصَبَاتِ: الْإِخْوَةُ ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ
الْأَعْمَامُ ثُمَّ بَنُوهُمْ. وَأَمَّا الْآبَاءُ
وَالْأَبْنَاءُ فَقِيلَ يَدْخُلُونَ لِقُرْبِهِمْ، وَقِيلَ لَا
يَدْخُلُونَ لِأَنَّ الضَّمَّ لِنَفْيِ الْحَرَجِ حَتَّى لَا
يُصِيبَ كُلَّ وَاحِدٍ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ
أَرْبَعَةٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ
الْكَثْرَةِ وَالْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ لَا يَكْثُرُونَ،
وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الرَّايَاتِ إذَا لَمْ يَتَّسِعْ
لِذَلِكَ أَهْلُ رَايَةٍ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ
الرَّايَاتِ: يَعْنِي أَقْرَبَهُمْ نُصْرَةً إذَا حَزَبَهُمْ
أَمْرُ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَيُفَوَّضُ ذَلِكَ إلَى
الْإِمَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِهِ، ثُمَّ هَذَا
كُلُّهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِينَارٍ فَيُسَوَّى
بَيْنَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ صِلَةٌ فَيُعْتَبَرُ بِالزَّكَاةِ
وَأَدْنَاهَا ذَلِكَ إذْ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَهُمْ نِصْفُ
دِينَارٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هِيَ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْهَا؛
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ
فَيُنْتَقَصُ مِنْهَا تَحْقِيقًا لِزِيَادَةِ التَّخْفِيفِ.
(وَلَوْ كَانَتْ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَصْحَابَ الرِّزْقِ
يُقْضَى بِالدِّيَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ
فِي كُلِّ سَنَةٍ الثُّلُثُ) لِأَنَّ الرِّزْقَ فِي حَقِّهِمْ
بِمَنْزِلَةِ الْعَطَاءِ قَائِمٌ مُقَامَهُ إذْ كُلٌّ
مِنْهُمَا صِلَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ
كَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ تَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَكَمَا
يَخْرُجُ رِزْقٌ يُؤْخَذُ الثُّلُثُ بِمَنْزِلَةِ الْعَطَاءِ،
وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَخَرَجَ
بَعْدَ الْقَضَاءِ يُؤْخَذُ مِنْهُ سُدُسُ الدِّيَةِ وَإِنْ
كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ شَهْرٍ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ رِزْقٍ
بِحِصَّتِهِ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْتَوْفِي فِي
كُلِّ سَنَةٍ مِقْدَارَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمِثْلِ
بِالنَّصِّ، وَمِثْلُ النَّفْسِ النَّفْسُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا
رُفِعَ إلَى الْقَاضِي وَتَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِيفَاءِ
النَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَهُوَ
مَرْفُوعٌ عَنْ الْخَاطِئِ تَحَوَّلَ الْحَقُّ بِالْقَضَاءِ
إلَى الْمَالِ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا أَنَّ
ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ مُطْلَقًا حَتَّى النَّفْسُ
الْمُتْلَفَةُ بِالْقَتْلِ خَطَأً إنَّمَا يَكُونُ بِالْمِثْلِ
بِالنَّصِّ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}
[النساء: 92] الْآيَةَ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ
جَزَاءِ الْقَتْلِ خَطَأً تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةً مُسْلِمَةً إلَى أَهْلِهِ لَا قَتْلَ الْقَاتِلِ
بِمُقَابَلَةِ ذَاكَ، نَعَمْ إنَّ قَوْله تَعَالَى
{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
[البقرة: 194] كَانَ يَقْتَضِي بِإِطْلَاقِهِ أَنْ يَكُونَ
الضَّمَانُ فِي النَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ بِالْقَتْلِ خَطَأً
أَيْضًا بِالْمِثْلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْقَتْلِ خَطَأً
مُخَصَّصًا مِنْهُ بِنَصٍّ آخَرَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]
وَلَمَّا خُصَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ جَوَابُ الدِّيَةِ فِي
الْقَتْلِ خَطَأً مَنْصُوصًا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَبِّ
الْعِزَّةِ ثَابِتًا قَبْلَ الْقَضَاءِ بَلْ قَبْلَ أَنْ
يُخْلَقَ الْقَاضِي، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ ضَمَانَ
الْمُتْلَفَاتِ مَا عَدَا النَّفْسِ إنَّمَا يَكُونُ
بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَا مَحَالَةَ،
وَلَكِنْ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَا
يَخْفَى (قَوْلُهُ وَقِيلَ لَا يَدْخُلُونَ لِأَنَّ الضَّمَّ
لِنَفْيِ الْحَرَجِ حَتَّى لَا يُصِيبَ كُلَّ وَاحِدٍ أَكْثَرُ
مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ وَهَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا
يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْكَثْرَةِ، وَالْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ
لَا يَكْثُرُونَ) أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ
كَثْرَةِ الْآبَاءِ مُسَلَّمٌ، وَأَمَّا عَدَمُ كَثْرَةِ
الْأَبْنَاءِ كَكَثْرَةِ الْإِخْوَةِ فَمَمْنُوعٌ، كَيْفَ
وَأَخَوَاتُهُ أَبْنَاءُ أَبِيهِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُكْثِرَ
أَبْنَاءَ أَبِيهِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكْثِرَ أَبْنَاءَ
نَفْسِهِ فَتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَصْحَابَ
الرِّزْقِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ فِي ثَلَاثِ
سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ الثُّلُثُ، لِأَنَّ الرِّزْقَ فِي
حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَطَاءِ قَائِمٌ مُقَامَهُ، إذْ
كُلٌّ مِنْهُمَا صِلَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) قَالَ تَاجُ
الشَّرِيعَةِ: الْفَرْقُ
(10/399)
الثُّلُثِ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ
الْقَضَاءِ بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ أُخِذَ مِنْ رِزْقِ ذَلِكَ
الشَّهْرِ بِحِصَّةِ الشَّهْرِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ
أَرْزَاقٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَأَعْطِيَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ
فُرِضَتْ الدِّيَةُ فِي الْأَعْطِيَةِ دُونَ الْأَرْزَاقِ
لِأَنَّهُ أَيْسَرُ، إمَّا لِأَنَّ الْأَعْطِيَةَ أَكْثَرُ،
أَوْ لِأَنَّ الرِّزْقَ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ فَيَتَعَسَّرُ
الْأَدَاءُ مِنْهُ وَالْأَعْطِيَاتُ لِيَكُونُوا فِي
الدِّيوَانِ قَائِمِينَ بِالنُّصْرَةِ فَيَتَيَسَّرَ
عَلَيْهِمْ.
قَالَ (وَأُدْخِلَ الْقَاتِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فَيَكُونُ
فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ) لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ
فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِ وَمُؤَاخَذَةِ غَيْرِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ
مِنْ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ فِي
النَّفْيِ عَنْهُ وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ مَعْذُورًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ أَنَّ الرِّزْقَ مَا يُفْرَضُ
لِلْإِنْسَانِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ
وَالْكِفَايَةِ يُفْرَضُ لَهُ مَا يَكْفِيهِ كُلَّ شَهْرٍ أَوْ
كُلَّ يَوْمٍ، وَالْعَطَاءُ مَا يُفْرَضُ كُلَّ سَنَةٍ لَا
بِالْحَاجَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: تَفْسِيرُ الْعَطَاءِ بِمَا
ذَكَرَهُ لَا يُلَائِمُ مَسْأَلَةً مَرَّتْ فِيمَا قَبْلُ
وَهِيَ قَوْلُهُ وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ ثَلَاثُ عَطَايَا
فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ،
فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهَا جَوَازُ أَنْ يُفْرَضَ لِرَجُلٍ
عَطَاءٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَتَخْرُجُ لَهُ فِي
سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثُ عَطَايَا، وَالظَّاهِرُ مِنْ
التَّفْسِيرِ الْمَزْبُورِ أَنْ يَكُونَ الْعَطَاءُ مَا
يُفْرَضُ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً. نَعَمْ يُلَائِمُ
قَوْلَ الْمُصَنِّفِ قَبِيلُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ:
وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً،
فَاَلَّذِي يُمْكِنُ فِي التَّوْفِيقِ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ
الْمُصَنِّفِ وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً
وَاحِدَةً، وَكَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ تَاجُ
الشَّرِيعَةِ لِلْعَطَاءِ عَلَى مَا هُوَ الْأَكْثَرُ
الْأَغْلَبُ وُقُوعًا، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي
الْمُتَعَارَفِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: الْفَرْقُ بَيْنَ
الرِّزْقِ وَالْعَطِيَّةِ أَنَّ الرِّزْقَ مَا يُفْرَضُ
لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ، وَالْعَطِيَّةُ مَا يُفْرَضُ
لِيَكُونُوا قَائِمِينَ بِالنُّصْرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: الْعَطِيَّةُ مَا
يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَالرِّزْقُ مَا يُجْعَلُ
لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلَةً.
وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: إذَا كَانَ لَهُمْ
أَرْزَاقٌ وَأَعْطِيَاتٌ فُرِضَتْ الدِّيَةُ فِي
أَعْطِيَاتِهِمْ دُونَ أَرْزَاقِهِمْ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ
الرِّزْقَ يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ أَيْضًا انْتَهَى.
أَقُولُ: إنَّ صَاحِبَ الْمُغْرِبِ قَدْ ذَكَرَ الْفَرْقَ
بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ
الْمُغْرِبِ: أَحَدُهُمَا مَوْضِعُ بَيَانِ الرِّزْقِ،
وَالثَّانِي مَوْضِعُ بَيَانِ الْعَطَاءِ، فَقَالَ فِي
الْأَوَّلِ: الرِّزْقُ مَا يُخْرَجُ لِلْجُنْدِيِّ عِنْدَ
رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ، وَقِيلَ يَوْمًا بِيَوْمٍ. ثُمَّ قَالَ:
وَفِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ: الْعَطَاءُ مَا يُفْرَضُ
لِلْمُقَاتِلَةِ، وَالرِّزْقُ لِلْفُقَرَاءِ. وَقَالَ فِي
الثَّانِي: الْعَطَاءُ اسْمُ مَا يُعْطَى وَالْجَمْعُ
أَعْطِيَةٌ وَأَعْطِيَاتٌ، وَقَوْلُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ
الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ فَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّ
الْعَطَاءَ مَا يَخْرُجُ لِلْجُنْدِيِّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ
فِي السُّنَّةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَالرِّزْقُ مَا
يَخْرُجُ لَهُ كُلَّ شَهْرٍ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي شَرْحِ
الْقُدُورِيِّ فِي الْعَاقِلَةِ. الدِّيَةُ فِي
أَعْطِيَاتِهِمْ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا
أَهْلَ عَطَاءٍ وَكَانَتْ لَهُمْ أَرْزَاقٌ جُعِلَتْ الدِّيَةُ
فِي أَرْزَاقِهِمْ. وَقَالَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ
الْعَطِيَّةَ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَالرِّزْقُ مَا
يُجْعَلُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا
مُقَاتِلَةً انْتَهَى.
فَنَظَرُ صَاحِبِ الْغَايَةِ لَا يَرِدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ
فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ قَطُّ، وَكَذَا لَا يَرِدُ عَلَى
مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي أَوَّلًا بِقَوْلِهِ
فَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَطَاءَ مَا يَخْرُجُ
لِلْجُنْدِيِّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي السَّنَةِ مَرَّةً
أَوْ مَرَّتَيْنِ وَالرِّزْقُ مَا يَخْرُجُ لَهُ كُلَّ شَهْرٍ،
وَإِنَّمَا يَرِدُ عَلَى مَا نَقَلَهُ مَنْ شَرْحِ
الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ وَقَالَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
أَنَّ الْعَطِيَّةَ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَالرِّزْقَ
مَا يُجْعَلُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا
مُقَاتِلَةً، وَهُوَ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ عِنْدَ صَاحِبِ
الْمُغْرِبِ، فَنِسْبَةُ ذَلِكَ الْقَوْلِ إلَى صَاحِبِ
الْمُغْرِبِ نَفْسِهِ وَإِيرَادُ النَّظَرِ عَلَيْهِ لَيْسَ
كَمَا يَنْبَغِي، وَالْعَجَبُ هَاهُنَا مِنْ صَاحِبِ
الْعِنَايَةِ أَنَّهُ خَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ مَا
ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَطِيَّةِ وَالرِّزْقِ
ذَلِكَ الْقَوْلَ الَّذِي رَدَّهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ وَلَمْ
يَتَعَرَّضْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورِ وَلَمْ يَذْكُرْ
شَيْئًا يَدْفَعُهُ مَعَ ظُهُورِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ
الْآتِيَةَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ
أَرْزَاقٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَأَعْطِيَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ
فُرِضَتْ الدِّيَةُ فِي الْأَعْطِيَةِ دُونَ الْأَرْزَاقِ
يَأْبَى ذَلِكَ الْقَوْلَ جِدًّا.
(قَوْلُهُ وَأُدْخِلَ الْقَاتِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فَيَكُونُ
فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ:
اعْلَمْ أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَكُونُ كَأَحَدِ
الْعَوَاقِلِ فِي أَدَاءِ نَصِيبِهِ مِنْ الدِّيَةِ إذَا كَانَ
الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فِي الدِّيوَانِ. وَأَمَّا
إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فَلَا يَجِبُ
عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ عِنْدَنَا أَيْضًا لِأَنَّ
الدِّيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ وَقَالَ وَهُوَ
هَكَذَا مَنْصُوصٌ فِي الْمَبْسُوطِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي
تَقْيِيدِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْوَجْهِ الْمَزْبُورِ
أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ:
هَذَا مُشْكِلٌ عِنْدِي، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ
مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ
(10/400)
قُلْنَا: إيجَابُ الْكُلِّ إجْحَافٌ بِهِ
وَلَا كَذَلِكَ إيجَابُ الْجُزْءِ، وَلَوْ كَانَ الْخَاطِئُ
مَعْذُورًا فَالْبَرِيءُ مِنْهُ أَوْلَى، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:
164]
(وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ مِمَّنْ كَانَ
لَهُ حَظٌّ فِي الدِّيوَانِ عَقْلٌ) لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَعْقِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ صَبِيٌّ
وَلَا امْرَأَةٌ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى
أَهْلِ النُّصْرَةِ لِتَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتَهُ، وَالنَّاسُ
لَا يَتَنَاصَرُونَ بِالصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَلِهَذَا لَا
يُوضَعُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَهُوَ
الْجِزْيَةُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا
أَوْ امْرَأَةً لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا مِنْ الدِّيَةِ
بِخِلَافِ الرَّجُلِ، لِأَنَّ وُجُوبَ جُزْءٍ مِنْ الدِّيَةِ
عَلَى الْقَاتِلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَحَدُ الْعَوَاقِلِ
لِأَنَّهُ يَنْصُرُ نَفْسَهُ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيهِمَا،
وَالْفَرْضُ لَهُمَا مِنْ الْعَطَاءِ لِلْمَعُونَةِ لَا
لِلنُّصْرَةِ كَفَرْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ.
(وَلَا يَعْقِلُ أَهْلُ مِصْرٍ عَنْ مِصْرٍ آخَرَ) يُرِيدُ
بِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الدِّيوَانِ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ لِأَنَّ نُصْرَتَهُ
بِهِمْ وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي التَّعَاقُلِ وَلَا شَكَّ
أَنَّ قَبِيلَةَ مَنْ لَا يَكُون مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فِي
الدِّيوَانِ قَدْ لَا تَكُونُ هِيَ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ
الْعَطَاءِ فِي الدِّيوَانِ وَقَدْ مَرَّ أَيْضًا أَنَّهُمْ
قَالُوا: لَوْ كَانَ الْيَوْمَ قَوْمٌ تُنَاصِرُهُمْ
بِالْحِرَفِ فَعَاقِلَتُهُمْ أَهْلُ الْحِرْفَةِ وَإِنْ كَانَ
بِالْحِلْفِ فَأَهْلُهُ وَعَلَى مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ فِي
النِّهَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ
الْأَعْطِيَاتِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ
يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ
مِنْ الدِّيَةِ عِنْدَنَا أَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ لَا تَجِبَ
الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَيْضًا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ
الْقَاتِلُ وَلَا عَاقِلَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ لِعَدَمِ
إمْكَانِ الْأَخْذِ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ هُنَاكَ لَا فِي حَقِّ
الْقَاتِلِ وَلَا فِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ
لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ
فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ
فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ أَلْبَتَّةَ يَنْبَغِي
أَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْهَا وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي
ذُكِرَتْ فِي الْكِتَابِ وَهِيَ أَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ
الْفَاعِلُ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِ وَمُؤَاخَذَةِ
غَيْرِهِ فَتَدَبَّرْ.
(قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ
امْرَأَةً لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا)
(10/401)
لِأَهْلِ كُلِّ مِصْرٍ دِيوَانٌ عَلَى
حِدَةٍ لِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِالدِّيوَانِ عِنْدَ وُجُودِهِ،
وَلَوْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ فِي السُّكْنَى فَأَهْلُ
مِصْرِهِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ
(وَيَعْقِلُ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ مِنْ أَهْلِ سَوَادِهِمْ)
لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لِأَهْلِ الْمِصْرِ، فَإِنَّهُمْ إذَا
حَزَبَهُمْ أَمْرٌ اسْتَنْصَرُوا بِهِمْ فَيَعْقِلُهُمْ أَهْلُ
الْمِصْرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبِ فِي النُّصْرَةِ
(وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِالْبَصْرَةِ وَدِيوَانُهُ
بِالْكُوفَةِ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ) لِأَنَّهُ
يَسْتَنْصِرُ بِأَهْلِ دِيوَانِهِ لَا بِجِيرَانِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِنْصَارَ بِالدِّيوَانِ أَظْهَرُ
فَلَا يَظْهَرُ مَعَهُ حُكْمُ النُّصْرَةِ بِالْقَرَابَةِ
وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَقُرْبِ السُّكْنَى وَغَيْرِهِ
وَبَعْدَ الدِّيوَانِ النُّصْرَةُ بِالنَّسَبِ عَلَى مَا
بَيَّنَّاهُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ كَثِيرٌ مِنْ صُوَرِ
مَسَائِلِ الْمَعَاقِلِ (وَمَنْ جَنَى جِنَايَةً مِنْ أَهْلِ
الْمِصْرِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الدِّيوَانِ عَطَاءٌ وَأَهْلُ
الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ وَمَسْكَنُهُ الْمِصْرُ عَقَلَ
عَنْهُ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ) وَلَمْ
يُشْتَرَطْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الدِّيوَانِ
قَرَابَةٌ، قِيلَ هُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الَّذِينَ يَذُبُّونَ
عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَيُقَدَّمُونَ بِنُصْرَتِهِمْ
وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ أَهْلِ
الْمِصْرِ وَلَا يَخُصُّونَ بِهِ أَهْلَ الْعَطَاءِ.
وَقِيلَ تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ قَرِيبًا لَهُمْ، وَفِي
الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: وَأَهْلُ
الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ، وَهَذَا
لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ الْقَرَابَةِ وَأَهْلُ
الْمِصْرِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ مَكَانًا فَكَانَتْ الْقُدْرَةُ
عَلَى النُّصْرَةِ لَهُمْ وَصَارَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ
الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ (وَلَوْ كَانَ الْبَدْوِيُّ
نَازِلًا فِي الْمِصْرِ لَا مَسْكَنَ لَهُ فِيهِ لَا
يَعْقِلُهُ أَهْلُ الْمِصْرِ) لِأَنَّ أَهْلَ الْعَطَاءِ لَا
يَنْصُرُونَ مَنْ لَا مَسْكَنَ لَهُ فِيهِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ
الْبَادِيَةِ لَا تَعْقِلُ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ النَّازِلِ
فِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ (وَإِنْ كَانَ
لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَوَاقِلُ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: إنَّ قَوْلَهُ هُنَا لَا يَجِبُ
عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ
الْقَاتِلَةَ يُخَالِفُ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا
قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ
فِي دَارِ امْرَأَةٍ حَيْثُ أَدْخَلَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ
هُنَاكَ فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ مَعَ الْعَاقِلَةِ انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ بِقِيلِ:
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا
كَانَتْ قَاتِلَةً حَقِيقَةً وَهُنَاكَ تُقَدَّرُ قَاتِلَةً
بِسَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ لَا يُقَالُ: إذَا لَمْ يَجِبْ
عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ وَهِيَ قَاتِلَةٌ
حَقِيقَةً فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْهَا
وَهِيَ قَاتِلَةٌ تَقْدِيرًا أَوْلَى، لِأَنَّا نَقُولُ:
الْقَسَامَةُ تَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى
الْمُقْسِمِ إمَّا بِالِاسْتِقْلَالِ أَوْ بِالدُّخُولِ فِي
الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ
الْمَلْزُومُ فَيَتَحَقَّقُ اللَّازِمُ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ
مُبَاشَرَةً فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ الدِّيَةَ
انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ اسْتِلْزَامَ الْقَسَامَةِ
وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْمُقْسِمِ عِنْدَنَا إمَّا
بِالِاسْتِقْلَالِ أَوْ بِالدُّخُولِ فِي الْعَاقِلَةِ
بِالِاسْتِقْرَاءِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُ إذَا وُجِدَ
الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةِ امْرَأَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ وَلَا يَجِبُ
عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ
عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ كَمَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ
وَالْكِفَايَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْمُتَأَخِّرُونَ وَإِنْ
قَالُوا: إنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي
تَحَمُّلِ الدِّيَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إلَّا أَنَّ
تَعْلِيلَهُمْ إيَّاهَا بِقَوْلِهِمْ لِأَنَّا أَنْزَلْنَاهَا
قَاتِلَةً وَالْقَاتِلَةُ تُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ كَمَا مَرَّ
فِي الْكِتَابِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ يَأْبَى
الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاتِلَةِ حَقِيقَةً وَالْمُقَدَّرَةِ
قَاتِلَةً، بَلْ يَقْتَضِي قِيَاسَ الْمُنَزَّلَةِ قَاتِلَةً
عَلَى الْقَاتِلَةِ حَقِيقَةً وَإِلَّا لَا يَتِمُّ
تَعْلِيلُهُمْ الْمَذْكُورُ لَا عَلَى قَاعِدَةِ الْفِقْهِ
وَلَا عَلَى قَاعِدَةِ الْمِيزَانِ كَمَا يَظْهَرُ
بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ، فَالْحَقُّ فِي التَّوْفِيقِ
بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي
الْمَقَامَيْنِ مَا ذَكَرَهُ سَائِرُ الشُّرَّاحِ فَإِنَّهُ
قَالَ فِي الْكِفَايَةِ: هَذَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ قُبَيْلَ
الْمَعَاقِلِ مِنْ
(10/402)
بِهَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمْ قَتِيلًا
فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ)
لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي
الْمُعَامَلَاتِ لَا سِيَّمَا فِي الْمَعَانِي الْعَاصِمَةِ
عَنْ الْإِضْرَارِ، وَمَعْنَى التَّنَاصُرِ مَوْجُودٌ فِي
حَقِّهِمْ (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ عَاقِلَةٌ مَعْرُوفَةٌ
فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ
يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ) كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لِمَا
بَيَّنَّا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْقَاتِلِ وَإِنَّمَا
يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى الْعَاقِلَةِ أَنْ لَوْ وُجِدَتْ،
فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ
تَاجِرَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَتَلَ
أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي
مَالِهِ لِأَنَّ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَعْقِلُونَ
عَنْهُ، وَتَمَكُّنُهُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ لَيْسَ
بِنُصْرَتِهِمْ.
(وَلَا يَعْقِلُ كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمٌ عَنْ
كَافِرٍ) لِعَدَمِ التَّنَاصُرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
اخْتِيَارِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ فِي
التَّحَمُّلِ مَعَ الْعَاقِلَةِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ
بِأَصْلِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ
الْمُتَأَخِّرِينَ، وَمَا ذُكِرَ هُنَا هُوَ اخْتِيَارُ
الطَّحَاوِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ أَصْلُ رِوَايَةِ
مُحَمَّدٍ انْتَهَى.
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
مُخَالِفَةٌ لِمَا مَرَّ قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ
أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ امْرَأَةٍ أَنَّ
الْمَرْأَةَ تُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ،
إلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى رِوَايَةِ
الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَدْخُلُ فِي
الْعَوَاقِلِ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ انْتَهَى، وَقَالَ
فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: فَإِنْ قُلْت: قَدْ مَرَّ قُبَيْلَ
كِتَابِ الْمَعَاقِلِ أَنَّ الْقَتِيلَ إذَا وُجِدَ فِي
قَرْيَةِ امْرَأَةٍ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا وَالدِّيَةُ
عَلَى عَاقِلَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ،
وَذَهَبَ الْمَشَايِخُ الْمُتَأَخِّرُونَ إلَى أَنَّهَا
تُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ فِي الدِّيَةِ فَكَيْفَ لَمْ
تُشَارِكْهُمْ هُنَا. قُلْت: ثَمَّةَ لَا تُشَارِكُهُمْ فِي
الدِّيَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ مِنْ مُحَمَّدٍ،
وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي تِلْكَ
الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ
الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قُلْت: هَذَا الْجَوَابُ يَبْتَنِي عَلَى
إيجَابِ الْقَسَامَةِ عَلَيْهَا وَفِي ذَلِكَ تَنَاقُضٌ،
لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا وَلَا قَسَامَةَ عَلَى صَبِيٍّ
إلَى أَنْ قَالَ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا عَبْدٍ، وَقَالَ
هَاهُنَا: لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا
تُكَرِّرُ الْأَيْمَانَ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ أَلْبَتَّةَ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ
وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ كُرِّرَتْ
الْأَيْمَانُ، فَمَعْنَاهُ لَا يُكْمِلُ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ
خَمْسِينَ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ
لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْيَمِينِ
عَلَى أَهْلِهَا، وَأَمَّا هُنَا فَالْقَتِيلُ وُجِدَ فِي
قَرْيَتِهَا فَتَجِبُ عَلَيْهَا نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْقَتْلِ
فَإِنَّهَا تَتَحَقَّقُ مِنْهَا، وَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ
الْقَسَامَةَ إذَا وَجَبَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ تُعَلَّلُ
بِالنُّصْرَةِ، فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا يَدْخُلُ وَمَنْ
لَا فَلَا، فَلَا يَدْخُلُ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ
وَالْمَرْأَةُ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى وَاحِدٍ تُعَلَّلُ
بِتُهْمَةِ الْقَتْلِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا وَجَبَتْ
عَلَيْهِ وَمَنْ لَا فَلَا فَتَدْخُلُ الْمَرْأَةُ، إلَى هُنَا
كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ. أَمَّا أَوَّلًا
فَلِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ
وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ كُرِّرَتْ
الْأَيْمَانُ مَمْنُوعٌ، بَلْ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ
مَقْصُودَةٌ بِالْبَيَانِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، إذْ لَوْ
كَانَ مَعْنَاهُ لَا يُكْمِلُ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ
مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ لَا
نَفْيُ صَلَاحِيَتِهِمْ لِلْقَسَامَةِ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ
كَانُوا مُنْضَمِّينَ إلَى الْغَيْرِ لِتَكْمِيلِ الْخَمْسِينَ
أَوْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ
بَيَانُ حَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ فِي
أَمْرِ الْقَسَامَةِ عِنْدَ كَوْنِهِمْ مُنْفَرِدِينَ غَيْرَ
مُنْضَمِّينَ إلَى الْغَيْرِ مَتْرُوكًا بِالْكُلِّيَّةِ فِي
هَذَا الْكِتَابِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ،
إذْ الْفَرْضُ أَنَّ عَدَمَ الصَّلَاحِيَّةِ لِلْقَسَامَةِ
حَالَ الِانْضِمَامِ إلَى الْغَيْرِ لِتَكْمِيلِ الْخَمْسِينَ
لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الصَّلَاحِيَّةِ لَهَا حَالَ
الِانْفِرَادِ إذْ هُوَ حَاصِلُ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ
لِدَفْعِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فِي حَقِّ
الْمَرْأَةِ كَمَا تَرَى.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ
الْقَسَامَةِ إذَا وَجَبَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ تُعَلَّلُ
بِالنُّصْرَةِ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْوَاحِدِ تُعَلَّلُ
بِتُهْمَةِ الْقَتْلِ مِنْ عِنْدِيَاتِهِ لَا يُسَاعِدُهُ
الْعَقْلُ وَلَا النَّقْلُ، أَمَّا عَدَمُ مُسَاعَدَةِ
الْعَقْلِ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تَرْكِ النُّصْرَةِ
وَاحْتِمَالِ الْقَتْلِ مُتَحَقِّقٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ
صُورَتَيْ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ
وَوُجُوبِهَا عَلَى الْوَاحِدِ، فَتَعْلِيلُ إحْدَاهُمَا
بِالْأَوَّلِ وَالْأُخْرَى بِالثَّانِي دُونَ الْعَكْسِ أَوْ
الْجَمْعِ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ. وَأَمَّا عَدَمُ مُسَاعِدَةِ
النَّقْلِ فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّلُونَ وُجُوبَ
الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ مُطْلَقًا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ
الْعِلَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى
مَنْ يُرَاجِعُ الْمُعْتَبَرَاتِ وَقَدْ مَرَّتْ
(10/403)
وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا
بَيْنَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ
كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. قَالُوا: هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ
الْمُعَادَاةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ظَاهِرَةً، أَمَّا إذَا
كَانَتْ ظَاهِرَةً كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَنْبَغِي أَنْ
لَا يَتَعَاقَلُونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَهَكَذَا عَنْ
أَبِي يُوسُفَ لِانْقِطَاعِ التَّنَاصُرِ
وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَهُ بِهَا
عَطَاءٌ فَحَوَّلَ دِيوَانَهُ إلَى الْبَصْرَةِ ثُمَّ رُفِعَ
إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى
عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: يُقْضَى عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ
الْمُوجِبَ هُوَ الْجِنَايَةُ وَقَدْ تَحَقَّقَ وَعَاقِلَتُهُ
أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَصَارَ كَمَا إذَا حُوِّلَ بَعْدَ
الْقَضَاءِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْقَضَاءِ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ
وَبِالْقَضَاءِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَالِ، وَكَذَا الْوُجُوبُ
عَلَى الْقَاتِلِ وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ، وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ مَنْ يَكُونُ عَاقِلَتَهُ
عِنْدَ الْقَضَاءِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ
الْوَاجِبَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَنْتَقِلُ
بَعْدَ ذَلِكَ، لَكِنَّ حِصَّةَ الْقَاتِلِ تُؤْخَذُ مِنْ
عَطَائِهِ بِالْبَصْرَةِ لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ الْعَطَاءِ
وَعَطَاؤُهُ بِالْبَصْرَةِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ نَفْسِ
الْكِتَابِ فَتَذَكَّرْ.
(قَوْلُهُ وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ
وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ
مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا
مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ بَابِ جِنَايَةِ
الْمَمْلُوكِ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَتَعَاقَلُونَ
فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى
الْغَالِبِ انْتَهَى. أَقُولُ: يَأْبَى هَذَا الْجَوَابَ
قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ فَلَا عَاقِلَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ
إنَّهُمْ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّ
النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى مَا
عُرِفَ. فَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ
هُنَاكَ نَفْيُ الْوُقُوعِ: أَيْ لَمْ يَقَعْ التَّعَاقُلُ
فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالْمُرَادُ هُنَا بَيَانُ الْجَوَازِ:
أَيْ وَقَعَ التَّعَاقُلُ فِيمَا بَيْنَهُمْ جَازَ وَلَا
يَضُرُّ اخْتِلَافُ مِلَلِهِمْ تَبَصَّرْ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ
وَلَهُ بِهَا عَطَاءٌ فَحَوَّلَ دِيوَانَهُ إلَى الْبَصْرَةِ
ثُمَّ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَى
عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ
يَقُولَ: قَدْ مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ أَنَّ
الْعَاقِلَةَ إنَّمَا خُصُّوا بِالضَّمِّ إلَى الْقَاتِلِ فِي
أَدَاءِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا قَصَّرَ
لِقُوَّةٍ فِيهِ، وَتِلْكَ الْقُوَّةُ بِأَنْصَارِهِ وَهُمْ
الْعَاقِلَةُ فَكَانُوا هُمْ الْمُقَصِّرِينَ فِي تَرْكِهِمْ
مُرَاقَبَتَهُ فَخُصُّوا بِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُقْتَضَى
ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ زُفَرُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ
إنَّمَا صَدَرَتْ عَنْهُ حَالَ كَوْنِ عَاقِلَتِهِ أَهْلَ
الْكُوفَةِ فَالْقُوَّةُ فِيهِ وَقْتَ صُدُورِهَا عَنْهُ
إنَّمَا كَانَتْ بِأَنْصَارِهِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ
الْكُوفَةِ، وَالتَّقْصِيرُ فِي مُرَاقَبَتِهِ وَقْتَئِذٍ
إنَّمَا وَقَعَ مِنْهُمْ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عُهْدَةَ
الْمُرَاقَبَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ عَلَيْهِمْ لَا
عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى
بِالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ.
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ حِكْمَةٌ
أَنْ خُصَّتْ الْعَاقِلَةُ بِالضَّمِّ إلَى الْقَاتِلِ فِي
تَحَمُّلِ الدِّيَةِ لَا عِلَّتُهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ
عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ تُرَاعَى فِي الْجِنْسِ لَا فِي
كُلِّ فَرْدٍ، كَمَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ فِي الْبِكْرِ فَلَا
يَقْدَحُ عَدَمُ تَمْشِيَةِ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ فِي
مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، فَإِنْ مِلَاكَ الْأَمْرِ فِي تَمَامِ
جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الدَّلِيلُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ إنَّمَا
يَجِبُ عِنْدَ الْقَضَاءِ إلَخْ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ
يَقْتَضِي أَنْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ
لَا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ
لَمَّا كَانَ عِنْدَ الْقَضَاءِ لَا قَبْلَهُ وَكَانَ دِيوَانُ
الْقَاتِلِ مُتَحَوِّلًا إلَى الْبَصْرَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ
لَمْ يَبْقَ مَجَالٌ أَنْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ
الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ
وَقْتَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ حَالَ
كَوْنِهِمْ عَاقِلَتَهُ لِعَدَمِ سَبْقِ وُجُوبِهَا
الْقَضَاءَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُقْضَى بِهَا عَلَى مَنْ هُوَ
عَاقِلَتُهُ وَقْتَ الْوُجُوبِ تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ عَنْ
(10/404)
بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ
بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يُضَمُّ إلَيْهِمْ
أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ، لِأَنَّ فِي النَّقْلِ
إبْطَالَ حُكْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَفِي
الضَّمِّ تَكْثِيرُ الْمُتَحَمِّلِينَ لِمَا قُضِيَ بِهِ
عَلَيْهِمْ فَكَانَ فِيهِ تَقْرِيرُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ لَا
إبْطَالُهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مَسْكَنُهُ
بِالْكُوفَةِ وَلَيْسَ لَهُ عَطَاءٌ فَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ
حَتَّى اسْتَوْطَنَ الْبَصْرَةَ قُضِيَ بِالدِّيَةِ عَلَى
أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَلَوْ كَانَ قَضَى بِهَا عَلَى أَهْلِ
الْكُوفَةِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ، وَكَذَا الْبَدْوِيُّ
إذَا أُلْحِقَ بِالدِّيوَانِ بَعْدَ الْقَتْلِ قَبْلَ
الْقَضَاءِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ،
وَبَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَادِيَةِ لَا
يَتَحَوَّلُ عَنْهُمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ
قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قُضِيَ بِالدِّيَةِ
عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ثُمَّ
جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ فِي الْعَطَاءِ حَيْثُ تَصِيرُ
الدِّيَةُ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَضَى بِهَا
أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ
نَقْضُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَضَى بِهَا فِي
أَمْوَالِهِمْ وَأَعْطِيَاتُهُمْ أَمْوَالُهُمْ، غَيْرَ أَنَّ
الدِّيَةَ تُقْضَى مِنْ أَيْسَرِ الْأَمْوَالِ أَدَاءً،
وَالْأَدَاءُ مِنْ الْعَطَاءِ أَيْسَرُ إذَا صَارُوا مِنْ
أَهْلِ الْعَطَاءِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَالُ الْعَطَاءِ
مِنْ جِنْسِ مَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ الْقَضَاءُ
بِالْإِبِلِ وَالْعَطَاءُ دَرَاهِمَ فَحِينَئِذٍ لَا
تَتَحَوَّلُ إلَى الدَّرَاهِمِ أَبَدًا لِمَا فِيهِ مِنْ
إبْطَالِ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ يُقْضَى ذَلِكَ مِنْ
مَالِ الْعَطَاءِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ.
قَالَ (وَعَاقِلَةُ الْمُعْتَقِ قَبِيلَةُ مَوْلَاهُ) لِأَنَّ
النُّصْرَةَ بِهِمْ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» .
قَالَ (وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ يَعْقِلُ عَنْهُ مَوْلَاهُ
وَقَبِيلَتُهُ) لِأَنَّهُ وَلَاءٌ يُتَنَاصَرُ بِهِ فَأَشْبَهَ
وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ
مَرَّ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ.
قَالَ (وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ
عُشْرِ الدِّيَةِ وَتَتَحَمَّلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْقَاتِلِ الْمَعْذُورِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ
الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ
الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ إلَخْ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ
الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا
الْمَقَامِ: قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ
مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَضَاءِ
وَمَعْنَاهُ لَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ إذَا كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِدِيَتِهِ
عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا
قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بِمَوْتِ بَعْضِهِمْ حَيْثُ يُضَمُّ
إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ
بَعْدَ الْقَضَاءِ مَعَ أَنَّ فِيهِ أَيْضًا نَقْلَ الدِّيَةِ
مِنْ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ الْقَضَاءِ إلَى أَقْرَبِ
الْقَبَائِلِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ لِأَنَّ فِي
النَّقْلِ إبْطَالَ حُكْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ،
وَفِي الضَّمِّ تَكْثِيرُ الْمُتَحَمِّلِينَ لِمَا قُضِيَ بِهِ
عَلَيْهِمْ فَكَانَ فِيهِ تَقْرِيرُ حُكْمِ الْأَوَّلِ لَا
إبْطَالُهُ انْتَهَى. أَقُولُ: مُقَدِّمَتُهُمْ الْقَائِلَةُ
مَعَ أَنَّ فِيهِ أَيْضًا نَقْلَ الدِّيَةِ مِنْ
الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ الْقَضَاءِ إلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ
مَعَ كَوْنِهَا مُسْتَدْرَكَةً فِي بَيَانِ مَعْنَى الْمَقَامِ
غَيْرَ صَحِيحَةٍ فِي نَفْسِهَا، إذْ لَيْسَ فِيمَا إذَا
قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ نَقْلُ الدِّيَةِ مِنْ
أَحَدٍ إلَى أَحَدٍ قَطُّ، بَلْ إنَّمَا فِيهِ تَكْثِيرُ
الْمُتَحَمِّلِينَ لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ
أَنَّ التَّكْثِيرَ يُغَايِرُ النَّقْلَ بَلْ يُنَافِيهِ.
وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ
الصُّورَتَيْنِ: إنَّ فِي النَّقْلِ إبْطَالَ حُكْمِ
الْأَوَّلِ، وَفِي الضَّمِّ تَقْرِيرُ حُكْمِ الْأَوَّلِ لَا
إبْطَالُهُ، وَلَوْ كَانَتْ الْمُقَدِّمَةُ الْكَاذِبَةُ
مُعْتَبَرَةً فِي مَعْنَى الْمَقَامِ لَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي
الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ إنَّ
أَمْرَ النَّقْلِ فِي صُورَةِ الْقِلَّةِ كَذَا وَفِي صُورَةِ
التَّحَوُّلِ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَذَا تَأَمَّلْ تَقِفْ.
(قَوْلُهُ قَالَ وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ أَقَلَّ مِنْ
نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ وَتَتَحَمَّلُ
(10/405)
نِصْفَ الْعُشْرِ فَصَاعِدًا) وَالْأَصْلُ
فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَعْقِلُ
الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا
اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ» وَأَرْشُ
الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ النَّفْسِ، وَلِأَنَّ
التَّحَمُّلَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِجْحَافِ وَلَا إجْحَافَ
فِي الْقَلِيلِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْكَثِيرِ،
وَالتَّقْدِيرُ الْفَاصِلُ عُرِفَ بِالسَّمْعِ.
قَالَ (وَمَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي)
وَالْقِيَاسُ فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ فَيَجِبُ الْكُلُّ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا
ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، أَوْ التَّسْوِيَةُ فِي أَنْ
لَا يَجِبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ شَيْءٌ، إلَّا أَنَّا
تَرَكْنَاهُ بِمَا رَوَيْنَا، وَبِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْجَبَ أَرْشَ
الْجَنِينِ عَلَى الْعَاقِلَةِ» وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ
الرَّجُلِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الدِّيَاتِ، فَمَا دُونَهُ
يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ يَجِبُ
بِالتَّحْكِيمِ كَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ بِالتَّقْوِيمِ
فَلِهَذَا كَانَ فِي مَالِ الْجَانِي أَخْذًا بِالْقِيَاسِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةَ فَصَاعِدًا) قَالَ فِي النِّهَايَةِ:
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَحَمَّلُ مَا دُونَ نِصْفِ
الْعُشْرِ أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِي عَمْدِهِ وَلَا
يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ فَصَارَ كَضَمَانِ الْأَمْوَالِ، كَذَا
فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ
الْعِنَايَةِ.
أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ لِكُلِّ مِفْصَلٍ مِنْ
أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ ثُلُثُ عُشْرِ الدِّيَةِ
كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي كُلِّ
أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ
عُشْرُ الدِّيَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ فِيهَا
ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ، فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُ دِيَةِ
الْأُصْبُعِ فَكَانَ لِكُلِّ مِفْصَلٍ مِنْ أُصْبُعٍ فِيهَا
ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ هُوَ أَقَلُّ مِنْ
نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي عَمْدِهِ
لَا مَحَالَةَ لِإِمْكَانِ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي
هِيَ مَبْنَى الْقِصَاصِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ
فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ،
فَانْتَقَضَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْقِصَاصَ
لَا يَجِبُ فِي عَمْدِهِ وَمِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَتَقَدَّرُ
أَرْشُهُ كَمَا تَرَى، نَعَمْ قَدْ تَدَارَكَ صَاحِبُ
الْغَايَةِ إصْلَاحَ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ: أَعْنِي
قَوْلَهُ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ حَيْثُ قَالَ: وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ
لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي نَفْسِهِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ
الْأَمْوَالِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَرْشُ
الْأُنْمُلَةِ مُقَدَّرٌ وَهُوَ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ
فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ، قِيلَ لَهُ
لَيْسَ أَرْشُهَا مُقَدَّرًا بِنَفْسِهَا بَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ
بِغَيْرِهَا وَهُوَ الْأُصْبُعُ، وَنَحْنُ إنَّمَا شَبَّهْنَا
مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِالْأَمْوَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ
لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِنَفْسِهِ انْتَهَى.
لَكِنْ بَقِيَتْ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ
إنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِي عَمْدِهِ مَجْرُوحَةٌ
تَدَبَّرْ.
(قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا
تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا
وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ» )
(10/406)
قَالَ (وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ
جِنَايَةَ الْعَبْدِ وَلَا مَا لَزِمَ بِالصُّلْحِ أَوْ
بِاعْتِرَافِ الْجَانِي) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ لَا
تَنَاصُرَ بِالْعَبْدِ وَالْإِقْرَارُ وَالصُّلْحُ لَا
يَلْزَمَانِ الْعَاقِلَةَ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ عَنْهُمْ.
قَالَ (إلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ
بِتَصَادُقِهِمْ وَالِامْتِنَاعُ كَانَ لِحَقِّهِمْ وَلَهُمْ
وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
(وَمَنْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَإٍ وَلَمْ يَرْفَعُوا إلَى
الْقَاضِي إلَّا بَعْدَ سِنِينَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ
فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى) لِأَنَّ
التَّأْجِيلَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ فِي الثَّابِتِ
بِالْبَيِّنَةِ فَفِي الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ أَوْلَى
(وَلَوْ تَصَادَقَ الْقَاتِلُ وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَى
أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى
عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَّبَهُمَا
الْعَاقِلَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَاقِلَةِ) لِأَنَّ
تَصَادُقَهُمَا لَيْسَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِمْ (وَلَمْ يَكُنْ
عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي مَالِهِ) لِأَنَّ الدِّيَةَ
بِتَصَادُقِهِمَا تَقَرَّرَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَعْقِلُ
الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا» فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ: إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَقْتُلَ الْعَبْدُ حُرًّا
فَلَيْسَ عَلَى عَاقِلَةِ مَوْلَاهُ شَيْءٌ مِنْ جِنَايَةِ
عَبْدِهِ، إنَّمَا جِنَايَتُهُ فِي رَقَبَتِهِ أَنْ يَدْفَعَهُ
إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ يَفْدِيَهُ. ثُمَّ قَالَ:
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى:
إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ
يَقْتُلُهُ حُرٌّ أَوْ يَجْرَحُهُ فَلَيْسَ عَلَى عَاقِلَةِ
الْجَانِي شَيْءٌ إنَّمَا ثَمَنُهُ فِي مَالِهِ خَاصَّةً.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَذَاكَرْت الْأَصْمَعِيَّ فِي ذَلِكَ
فَإِذَا هُوَ يَرَى الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَ ابْنِ أَبِي
لَيْلَى عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا يَرَى قَوْلَ أَبِي
حَنِيفَةَ جَائِزًا، يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ
الْمَعْنَى عَلَى مَا قَالَ لَكَانَ الْكَلَامُ لَا تَعْقِلُ
الْعَاقِلَةُ عَنْ عَبْدٍ وَلَمْ يَكُنْ وَلَا تَعْقِلُ
عَبْدًا. وَمَعْنَى قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ يُقَالُ عَقَلْت الْقَتِيلَ إذَا أَعْطَيْت دِيَتَهُ
وَعَقَلْت عَنْ فُلَانٍ إذَا لَزِمَتْهُ دِيَةٌ فَأَعْطَيْتهَا
عَنْهُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كَلَّمْت أَبَا يُوسُفَ
الْقَاضِيَ فِي ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ فَلَمْ يُفَرِّقْ
بَيْنَ عَقَلْته وَعَقَلْت عَنْهُ حَتَّى فَهَّمْته. وَأُجِيبَ
بِأَنَّ عَقَلْته يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى عَقَلْت عَنْهُ،
وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ «لَا تَعْقِلُ
الْعَاقِلَةُ عَمْدًا» وَسِيَاقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلَا صُلْحًا وَلَا
اعْتِرَافًا» يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَنْ
عَمْدٍ وَعَنْ صُلْحٍ وَعَنْ اعْتِرَافٍ، كَذَا فِي
الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: الْجَوَابُ مَحِلُّ الْكَلَامِ، إذْ
لِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ مَعْنَاهُ مَا ذُكِرَ
وَيَقُولَ: بَلْ مَعْنَاهُ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ مَنْ
قُتِلَ عَمْدًا بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَمَنْ صُولِحَ عَنْ
دَمِهِ وَمَنْ اُعْتُرِفَ بِقَتْلِهِ عَلَى صِيغَةِ
الْمَجْهُولِ أَيْضًا فَيَئُولُ الْمَعْنَى فِي الْكُلِّ إلَى
مَعْنَى عَقَلْت الْقَتِيلَ لَا إلَى مَعْنَى عَقَلْت عَنْ
فُلَانٍ فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ إلْزَامًا.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ فِي
الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فَفِي الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ
أَوْلَى) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يُرِيدُ أَنَّ
الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْإِقْرَارِ،
لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَا كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً، وَفِي
الْقَتْلِ مُعَايَنَةً الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِقَضَاءِ
الْقَاضِي فَهَذَا أَوْلَى انْتَهَى. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ
الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي
الدِّيَةِ بَلْ فِي التَّأْجِيلِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَالَ:
وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ
الْخَطَأُ بِالْبَيِّنَةِ يَلْزَمُ الدِّيَةُ عَلَى
الْعَاقِلَةِ وَمَعَ هَذَا يُؤَجَّلُ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ
تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ، فَفِي الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ
أَوْلَى يُؤَجَّلُ
(10/407)
عَلَى الْعَاقِلَةِ بِالْقَضَاءِ
وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا، بِخِلَافِ
الْأَوَّلِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَطَاءٌ مَعَهُمْ
فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ) لِأَنَّهُ فِي
حَقِّ حِصَّتِهِ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ
الْعَاقِلَةِ مُقِرٌّ عَلَيْهِمْ.
قَالَ (وَإِذَا جَنَى الْحُرُّ عَلَى الْعَبْدِ فَقَتَلَهُ
خَطَأً كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ قِيمَتُهُ) لِأَنَّهُ بَدَلُ
النَّفْسِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا. وَفِي أَحَدِ
قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ بَدَلُ
الْمَالِ عِنْدَهُ وَلِهَذَا يُوجِبُ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا
بَلَغَتْ، وَمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ لَا
تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهُ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ
الْأَمْوَالِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُقِرِّ
وَحْدَهُ دُونَ الْعَاقِلَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَيْسَ مَا قَالَهُ بِسَدِيدٍ، إذْ لَيْسَ كَلَامُ
الْمُصَنِّفِ هُنَا أَصَالَةً فِي الدِّيَةِ وَلَا فِي
التَّأْجِيلِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِطَرِيقِ
التَّأْجِيلِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ، إذْ قَدْ عُلِمَ فِي
كِتَابِ الْجِنَايَاتِ وَفِي كِتَابِ الدِّيَاتِ وَفِيمَا
مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ، وَإِنَّمَا
الْكَلَامُ هَاهُنَا أَصَالَةٌ فِي كَوْنِ التَّأْجِيلِ مِنْ
وَقْتِ الْقَضَاءِ دُونَ وَقْتِ الْإِقْرَارِ، وَلِهَذَا
قَصَرَ الْمُصَنِّفُ الْبَيَانَ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ بِقَوْلِهِ
وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إلَخْ إنَّمَا يُفِيدُ
كَوْنَ الدِّيَةِ مُؤَجَّلَةً إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ، لَا كَوْنَ التَّأْجِيلِ فِيهَا مِنْ وَقْتِ
الْقَضَاءِ دُونَ وَقْتِ الْإِقْرَارِ، وَالْمَقْصُودُ
بِالْبَيَانِ هُنَا هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا
مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَيُفِيدُ الثَّانِيَ
لِأَنَّهُ قَالَ: وَفِي الْقَتْلِ مُعَايَبَةً إنَّمَا تَجِبُ
الدِّيَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَهَذَا أَوْلَى، وَهَذَا
يُثْبِتُ كَوْنَ التَّأْجِيلِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ دُونَ
وَقْتِ الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ إذَا كَانَ
بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا جَرَمَ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُوبُهَا
قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَتَأْجِيلُ الدِّيَةِ فَرْعُ
وُجُوبِهَا لَا مَحَالَةَ، إنَّمَا يُتَصَوَّرُ التَّأْجِيلُ
مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ لَا قَبْلَهُ. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي
الْمَبْسُوطِ كَمَا نَقَلَ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ.
وَالتَّأْجِيلُ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ لَا مِنْ وَقْتِ
الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ
لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَفِي
الْقَتْلِ الْمُعَايَنِ الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِقَضَاءِ
الْقَاضِي فَهُنَا أَوْلَى انْتَهَى.
(قَوْلُهُ وَمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ لَا
تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ
الْأَمْوَالِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ) أَقُولُ: فِيهِ
كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ
بِقَوْلِهِ عَلَى مَا عُرِفَ مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ
الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فِي تَعْلِيلِ أَنْ لَا
قِصَاصَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَلَا بَيْنَ
الْعَبْدَيْنِ عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ
الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ
فَيَنْعَدِمُ التَّمَاثُلُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ،
كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ هُنَا:
لَنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ
الْأَمْوَالِ، وَلِهَذَا لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ
بَيْنَ طَرَفِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ
الْعَاقِلَةُ كَطَرَفِ الْبَهِيمَةِ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي
بَابِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَهَذَا مَعْنَى
قَوْلِهِ عَلَى مَا عُرِفَ انْتَهَى. يُنْتَقَضُ حِينَئِذٍ مَا
ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِتَحَمُّلِ
الْعَاقِلَةِ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْحُرِّ إلَى مَا
دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ
الْمَذْكُورَ هُنَا يَجْرِي هُنَاكَ أَيْضًا مَعَ تَخَلُّفِ
الْحُكْمِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِهِ مَا ذَكَرَهُ
فِي فَصْلٍ بَعْدَ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ مِنْ أَنَّ
الْمُعْتَبَرَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ هِيَ
الْمَالِيَّةُ دُونَ الْآدَمِيَّةِ، بِخِلَافِ النَّفْسِ مِنْ
الْعَبْدِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إتْلَافِهَا هِيَ
الْآدَمِيَّةُ دُونَ الْمَالِيَّةِ عِنْدَنَا جَازَ أَنْ
(10/408)
وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ الْعَاقِلَةُ
تَتَحَمَّلُهُ كَمَا فِي الْحُرِّ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْقَاتِلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ
عَاقِلَةٌ فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ جَمَاعَةَ
الْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ نُصْرَتِهِ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ
أَخَصُّ مِنْ بَعْضٍ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ كَانَ
مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَكَذَا مَا يَلْزَمُهُ مِنْ
الْغَرَامَةِ يَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ أَنَّ الدِّيَةَ
فِي مَالِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَجِبَ
الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مُتْلِفٌ
وَالْإِتْلَافُ مِنْهُ، إلَّا أَنَّ الْعَاقِلَةَ
تَتَحَمَّلُهَا تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ عَلَى مَا مَرَّ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ عَادَ الْحُكْمُ إلَى
الْأَصْلِ.
(وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ تَعْقِلُهُ عَاقِلَةُ أُمِّهِ)
لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَابِتٌ مِنْهَا دُونَ الْأَبِ (فَإِنْ
عَقَلُوا عَنْهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ رَجَعَتْ عَاقِلَةُ
الْأُمِّ بِمَا أَدَّتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ فِي ثَلَاثِ
سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي الْقَاضِي لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ
عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الدِّيَةَ
وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ عِنْدَ الْإِكْذَابِ ظَهَرَ
أَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَزَلْ كَانَ ثَابِتًا مِنْ الْأَبِ
حَيْثُ بَطَلَ اللِّعَانُ بِالْإِكْذَابِ، وَمَتَى ظَهَرَ مِنْ
الْأَصْلِ فَقَوْمُ الْأُمِّ تَحَمَّلُوا مَا كَانَ وَاجِبًا
عَلَى قَوْمِ الْأَبِ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ
مُضْطَرُّونَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ
عَنْ وَفَاءٍ وَلَهُ وَلَدٌ حُرٌّ فَلَمْ يُؤَدِّ كِتَابَتَهُ
حَتَّى جَنَى ابْنُهُ وَعَقَلَ عَنْهُ قَوْمُ أُمِّهِ ثُمَّ
أُدِّيَتْ الْكِتَابَةُ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ
يَتَحَوَّلُ وَلَاؤُهُ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ مِنْ وَقْتِ
حُرِّيَّةِ الْأَبِ وَهُوَ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ
حَيَاتِهِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْمَ الْأُمِّ عَقَلُوا
عَنْهُمْ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ رَجُلٌ أَمَرَ
صَبِيًّا بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَضَمِنَتْ عَاقِلَةُ
الصَّبِيِّ الدِّيَةَ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ
إنْ كَانَ الْأَمْرُ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي مَالِ
الْآمِرِ إنْ كَانَ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ
مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي عَلَى الْآمِرِ، أَوْ
عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّ الدِّيَاتِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً
بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ.
قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَاهُنَا عِدَّةُ مَسَائِلَ
ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ مُتَفَرِّقَةً، وَالْأَصْلُ الَّذِي
يُخَرَّجُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: حَالُ الْقَاتِلِ إذَا
تَبَدَّلَ حُكْمًا فَانْتَقَلَ وَلَاؤُهُ إلَى وَلَاءٍ
بِسَبَبِ أَمْرٍ حَادِثٍ لَمْ تَنْتَقِلْ جِنَايَتُهُ عَنْ
الْأَوَّلِ قَضَى بِهَا أَوْ لَمْ يَقْضِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ
حَالَةٌ خَفِيَّةٌ مِثْلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لَا يُنْتَقَضُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا بِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ
مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْحُرِّ إلَى مَا دُونَ نِصْفِ
عُشْرِ الدِّيَةِ، إذْ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِسُقُوطِ
اعْتِبَارِ الْآدَمِيَّةِ فِي أَطْرَافِ الْحُرِّ
بِالْكُلِّيَّةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ
الْمَذْكُورُ هُنَا حِينَئِذٍ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ،
فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمَالِيَّةَ وَالْآدَمِيَّةَ مَعًا فِي
أَطْرَافِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا عَلَى أَصْلِ
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُمَا لَا يَعْتَبِرَانِ
الْآدَمِيَّةَ فِيهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ
كُلُّهُ فِي الْفَصْلِ الْمَزْبُورِ فِي بَيَانِ مَسْأَلَةِ
مَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ إنْسَانٍ، وَالْمَسْأَلَةُ
الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ
أَئِمَّتِنَا فَلَا مَعْنَى لَأَنْ يُبْنَى دَلِيلُهَا عَلَى
أَصْلِ بَعْضٍ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا
يَخْلُو الْمَقَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَنْ نَوْعٍ مِنْ
الِاضْطِرَابِ كَمَا تَرَى.
(قَوْلُهُ وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ تَتَحَمَّلُهُ كَمَا فِي
الْحُرِّ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ:
أَيْ فِي أَوَّلِ فَصْلٍ بَعْدَ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ،
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ صَاحِبُ
(10/409)
دَعْوَةِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ حُوِّلَتْ الْجِنَايَةُ إلَى
الْأُخْرَى وَقَعَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْ لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ
لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُ الْجَانِي وَلَكِنَّ الْعَاقِلَةَ
تَبَدَّلَتْ كَانَ الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ لِوَقْتِ
الْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَ قَضَى بِهَا عَلَى الْأُولَى لَمْ
تَنْتَقِلْ إلَى الثَّانِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِهَا
عَلَى الْأُولَى فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ،
وَإِنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ وَاحِدَةً فَلَحِقَهَا زِيَادَةٌ
أَوْ نُقْصَانٌ اشْتَرَكُوا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ
الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ إلَّا فِيمَا سَبَقَ أَدَاؤُهُ فَمَنْ
أَحْكَمَ هَذَا الْأَصْلَ مُتَأَمِّلًا يُمْكِنُهُ
التَّخْرِيجُ فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَائِرِ
وَالْأَضْدَادِ. |