فصول البدائع في أصول الشرائع القسم الثالث في
المحكوم فيه
وهو فعل المكلف وفيه مباحث:
الأول: شرط المطلوب الإمكان فلا يجوز تكليف ما لا يطاق عند
المحققين وهو مذهب الغزالي رحمه الله تعالى، والمعتزلة خلافا
للشيخ الأشعري وجماعة فمنهم من جوز وقوعه أيضًا وتحريره أن
المحال يطلق على ثلاثة:
1 - الممتنع بالذات كإعدام القديم وقلب الحقائق والحق أنه لا
تكليف به اتفاقا.
2 - الممتنع بالغير كالمفقود لازمه أو شرطه العقلي ويكلف به
اتفاقا.
3 - الممتنع العادي وهو ما لا يتعلق به القدرة الكاسبة للعبدة
عادة وهو المبحث.
وقيل: القسم الثاني أيضًا من محل النزاع وهو المناسب لأدلة
الخصم وقبل الأول هو المناسب لأدلتنا وأجوبتنا.
لنا: العقل والنقل: أما الأول: فلأن استدعاء حصول المستحيل لا
يليق من الحكيم وإن جاز فليس مبنيًا على وجوب رعاية الأصلح على
الله تعالى وامتناع إسناد ما هو قبيح في علمنا كما عند
المعتزلة بل لأنه لا يناسب حكمته وهذا يمنع الوقوع فقط كذا ظن.
وأقول: بل والجواز لأن الوجوب بمقتضى الحكمة والوعد والفضل لا
يمنعه كما أن الإيجاب يتخلل الاختيار لا يمنعه. وقيل: ولا يجوز
مطلقًا لتوقفه على تصور حصوله مثبتًا في الخارج فإذا انتفى
والفرق بينهما تجويز الحسن والقبيح العقلين في الجملة عندنا
وإن لم يكن موجبًا فإنه إما مدرك أو عاجز لا مناف مقنض لنقيض
حكم الله تعالى لأن العقل من حججه التي لا تتناقض والممتنع في
المستحيل ليس مطلق تصوره بل تصوره مثبتًا ولا مطلقًا بل في
الخارج لأنه المستحيل إذ هو تصور الأمر على خلاف حقيقة كأربعة
ليست بزوج.
وأما النقل فقوله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية 286) {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: من الآية 78) ونحوهما وكل ما
أخبر الله تعالى بعدم وقوعه يستحيل وقوعه وإلا أمكن كذبه
وإمكان المحال محال فهذ إليس دليلًا على عدم الوقوع فقط كما
ظن، نعم كل دليل على عدم الجواز دليل عليه كما أن دليل الوقوع
دليل الجواز قالوا في الجواز فقط أفعاله غير معللة بالأغراض
حتى يمتنع عند عدمها
(1/288)
قلنا معللة بالمصالح كمنافع العباد لاقتضاء
حكمته وليس ذا غرضا ولهم في الوقوع وجوه:
1 - تكليف العصاة كإيمان أبي جهل وقد علم الله كذلك وخلاف
معلومه ملزوم جهله المحال.
2 - أنه أخبر بعدم وقوعه في قوله تعالى {لَا يُؤْمِنُونَ}
(البقرة: من الآية 6) وخلافه ملزوم كذبه المحال.
3 - تكليف من علم بموته قبل التمكن الحقيقي كمن مات وسط وقت
الموسع وكذا من نسخ عنه قبل التمكن في الجملة كما قبل الموت
فإن الامتثال يمتنع منهما.
4 - أن الاستطاعة تقارن الفعل والتكليف الذي هو طلبه قبله فلا
قدرة حال التكليف.
5 - أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فهم مجبرون عليها بلا
قدرة ولذهاب الشيخ إلى هذين الأصلين نسب تكليف المحال إليه
وإلا فهو لم يصرح به والنسبة بهما إلى هذا العظيم ضعيفة إذ لا
تقتضينها فإن مناط التكليف الإمكان بمعنى صحة تعلق قدرته
الكاسبة بإيقاعه عادة وهي بالقدرة المفسرة بصحة الآلات
والأسباب إجماعًا لا الاستطاعة الحقيقية وإلا لكان كل تكليف
تكليفًا بالمح لأن الفعل معها واجب فطلبه طلب إيجاد الموجود
وهو تكليف محال لأن الطلب يقتض مطلوبًا غير حاصل لأنه تكليف
بالمح كما ظن وبدونها ممتنع والتعميم باطل إجماعًا لأن من جوزه
لم يعمم ولزم أن لا يعصى أحد لأنه إذا لم يأت بالمأمور لم يكلف
به حاصل وبذا يندفع أيضًا أن الفعل بدون علته التامة ممتنع
ومعها واجب فلا تكليف إلا بالمحال ولأن قوله بأن الأفعال
مخلوقة لله تعالى مبنى على أن ترجيح الاختيار من جانبه لا كما
قال الجهمية من أن أفعال الحيوانات كحركات الجمادات فيكون
امتناع أحد الطرفين بالغير ونحن مساعدون على التكليف بمثله
والجواب عن باقي الأدلة أن الأول منقوض بما اتفقوا على إمكانه
لاقتضائه أن لا يكون مكلف به ممكنًا لتعلق علم الله بأحد طرفي
كل ممكن ومناقض كالثاني بأن علمه تعالى وإخباره مرادا بهما
تعلقهما بفعل العبد اختياريًا وبعدمه مع اختياره في الإيقاع
مسلم ولا ينافي قدرته بل يحققها واجبًا ممنوع لأنهما تابعان
المعلوم والمخبرية بمعنى أنهما حاكيان لهما ولكيفيتهما ولذا
يحققان الاختيار لا بمعنى وقوعهما بعدهما حتى ينافيه القدم
ويصح الحكاية لأن الكل مشهود له كالمحسوس. لنا: كيف ولو لم
يتبعهما لزم الجبر وقد مر نفيه ولئن سلم فالممتنع بالغير ليس
محل النزاع وإلا لزم تعميم الامتناع والثالث يندفع بما مر أن
الشرط الامكان
(1/289)
بالنسبة إلى مرضحة كسب المكلف ولهم سادس
منه يفهم تجويزهم التكليف الممتنع لذاته وهو أبا جهل مكلف
بالإيمان أي بتصديق جميع ما جاء به الرسول فيكون مكلفًا
بالتصديق في عدم التصديق بشيء لقوله تعالى: {لَا يُؤْمِنُونَ}
(البقرة: من الآية 6) وهو محال لأنه ملزوم الجمع بين النقيضين
وهما التصديق في الجملة وعدمه أصلًا ولأن ذلك التصديق ملزوم
لعدم التصديق أصلًا وهذا معنى أن التصديق يستلزم التكذيب في
عدم التصديق أصلًا لأن وقوعه يقتضي كذب الخبر وإلا كان الوجه
الثاني وإنما استلزم التكذيب لأنه إذا صدق فقد علم بتصديقه
وجزم بكذب الخبر بعدم التصديق أصلًا والجزم بالكذب تكذيب
والجواب أن الإيمان في حق كل مكلف التصديق في الجميع إجمالا
وفي كل معلوم له تفصيلًا وذلك ممكن في نفسه متصور وقوعه من أبي
جهل لجواز أن لا يكون مجيء الأخبار بعدم التصديق معلومًا له
على التفصيل وعلم الله تعالى وإخباره للرسول لا ينافي ذلك كما
مر فهو كقوله تعالى لنوح عليه السلام {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ
مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} (هود: من الآية 36)
ولئن كان معلومًا لا يخرج أيضًا عن الإمكان بل كان من قبيل ما
علم المكلف امتناعه منه بالغير ومثله جائز غير واقع لانتفاء
فائدة التكليف وهي الابتلاء بالعزم على الفعل أو الترك ولا عزم
لأنه الجزم بعد التردد ولقائل أن يقول إن الإيمان أن كان
التصديق في الجملة لم يلزم من التكليف بالإيمان التصديق بكل
وبهذا النص وإن كان التصديق بكل كان نفيه في لا يؤمنون رفع
الإيجاب الكلي لا السلب الكلي فلا ينافيه التصديق بشيء وهو هذا
النص فليس هذا الدليل هائلًا كما ظن.
تتمة في تقسيم القدرة وأحكام
قسمتها
القدرة التي هي شرط سابق للتكليف وهي سلامة الآلات والأسباب
كما مر مفسرة ما يتمكن به العبد من أداء ما لزمه من غير حرج
غالبًا قيد به ليخرج الحج بلا زاد وراحلة فإنه نادر وبلا راحلة
فقط كثير أما بهما فغالب كالجذام والمرض والصحة وهي شرط لوجوب
الأداء لا لنفس الأداء لوجوب تقدم الشرط.
أما القدرة الحقيقية فعلة تامة لا شرط ولذا يقارنه ولا لنفس
الوجوب بل شرطه السبب والأهلية لأن المقصود الأداء فلما أمكن
انفكاك وجوبه عن نفس الوجوب لم يكن إلى اشتراطها له حاجة ولأنه
جبري ولذا يتحقق في النائم والمغمي عليه إذا لم يؤد إلى الحرج
ولا قدرة لا يقال نفس الوجوب لا ينفك عن التكليف المستلزم
للقدرة فكيف
(1/290)
ينفك عن لازمه لأنا نقول معنى اشتراط
التكليف بها أن الله تعالى لا يأمر إلا بما يستطعه عند إرادة
أحداثه فهذه القدرة لا تلزم التكليف مطلقا بل حالتئذ ولئن سلم
فعدم انفكاك نفس الوجوب عن القدرة لا يقتض اشتراطها فيه فلا
يشترط للقضاء حتى إذا قدر في الوقت ثم زالت بعد خروجه بحث
القضاء إما إذا فات بتقصيره فلأن القضاء مرتب على نفس الوجوب
ولأن بقاءهما لا يشترط لبقاء الواجب كالشهود في النكاح ولذا
يجب تدارك الفوائت في النفس الأخير بالإيصاء وينفى إثمها بعد
الموت وليس تكليفًا بما لا يطاق لأنه ليس تكليفًا ابتدائيًا بل
بقاؤه وهو أسهل إلا عند من أوجب القضاء بسبب جديد فيجعله
تكليفًا ابتدائيًا فلا بد أن يشترطها وهذه ثمرة ذلك الخلاف قيل
وفي تفريغ وجوب التدارك في النفس الأخير وبقاء الإثم على عدم
اشتراط بقائها لبقاء الواجب ليشترط في القضاء بحث لأن اللازم
من اشتراطه عدم بقاء الفعل ولم يبق بعد الموت لا بقاء الإثم
ولذا يبقى فيما ثبت بالميسرة كماذا فرط في أداء الزكاة بعد
التمكن فهلك يبقى الإثم ولأنه كما يشترط عند كون المطلوب نفس
الأداء حقيقتها وعند كونه خلفه توهمها فليشترط في القضاء كذلك
فليكلف توهم القدرة في النفس الأخير بناء على توهم الامتداد
ليظهر في المؤاخذة.
وأقول عن الأول: بقاء الإثم أثر بقاء الوجوب وإن لم يبق القدرة
والاستدلال بالأثر على المؤثر طريق صحيح ولا نعلم عدم بقاء
الفعل في حق الإثم ولذا وجب الايصاء والباقي في الميسرة إثم
التقصير لا إثم الوجوب ولذا لا إثم عند عدم التقصير كما في
المنقطع عن ماله.
وعن الثاني: أن حكمنا بكفاية توهم القدرة عند طلب الخلف
لايجابه مقام الأصل وبإقامة صحة أسباب الخلف مقام صحة أسباب
الأصل للاحتياط في الامتثال بقدر الامكان والإثم في الآخرة لا
يتعلق به لا الطلب ولا الإيجاب ولا رعاية صحة الأسباب.
تقسيمها: أنها نوعان
مطلق وتسمى الممكنة وهي
أدني ذلك فهي الأصل الذي شرط لوجوب أداء كل واجب بدنيا كان أو
ماليًا وحسنًا لنفسه أو لغيره من غير اشتراط بقائه لبقاء
الواجب ولذا لم يسقط الفطر بهلاك المال بعد وجوبهما وذلك عدل
وحكمة من الله تعالى في التقويم ومنه في أصول فخر الإِسلام
وليس ميلًا إلى جواز التكليف بدونها بل التوفيق أن اشتراطها
عدل وإعطاءها فضل.
فروع:
1 - من يعجز عن الوضوء كالمفلوج وليس له معين وقيل: إعانة الحر
والمرأة كعدمها
(1/291)
وفي العبد روايتان أحديهما لأنه كيده أو
يتضرر بزيادة مرضه أو ينقص ماله فاحشًا كضعف القيمة أو عدم
دخوله تحت التقويم يتمم.
2 - يعتبر حال المصلي عند أدائها قائمًا أو قاعدًا أو موميا
ولاعتبار حاله عند الأداء لم يتعين أحد الحالات عند فواته في
حق القضاء فاعتبر حال القضاء قائمًا أو قاعدًا أو موميًا وحكم
بالخروج عن العهدة اعتبارًا لحكايته في مطلق القدرة لا في
القدرة المكيفة لا لأن القدرة بشرط للقضاء أيضًا فلا إشكال.
3 - أعتبر الزاد والراحلة في الحج من الممكنة لأن غالب التمكن
بهما فبدون الزاد بادر وبدون الراحلة كثير لا غالب وإنما لم
يعتبر توهم القدرة بالمشي فيه مع صحة النذر به بخلاف الصلاة
لأنه فيه مفض إلى التلف ولا خلف له ينفي بما أشرفه الحرج وفيها
مفيد ليظهر أثره في خلفه ولذا لم يعتبر في الزاد والراحلة
الإباحة مثل القدرة المالية بخلاف الوضوء لأن صفة العبادة فيه
غير مقصودة والمقصود الطهارة كيفما حصلت.
4 - يسقط الزكاة بهلاك النصاب بعد الحول قبل التمكن من الأداء
إجماعا كالمنقطع عن ماله ومن لم يجد المصرف إما سقوطه بعد
التمكن فبناء على التيسير.
5 - يلزم الأداء على من صار أهلًا للصلاة في آخر جزء الوقت كمن
أسلم أو بلغ حث لم يبق من الوقت إلا ما يسع فيه كلمة الله
عندهما وعند أبي يوسف الله أكبر أو طهرت لتمام العشرة وقد بقي
ما يسع التحريمة أو قبله ببقاء وقت يسع الغسل والتحريمة حتى
يقوم لزوم حكم من أحكام الطاهرة مقام الطاهرة وعند زفر رحمه
الله تعالى أن أدرك وقتًا صالحًا للأداء وإلا فلا إذ لا قدرة
بالعنين جميعًا واحتمال امتداد الوقت كما كان لسليمان عليه
السلام لا يكفى لصحة التكليف لبعده وقدرته بل هو أبعد من الحج
بدون الزاد والراحلة والصوم للشيخ الفاني والقدرة على الأركان
للمدنف والمقعد وعلى الإبصار للأعمى.
قلنا: أولًا اعتبار توهم القدرة ليس فيما يكون المطلوب أداؤه
كما في تلك المسائل بل ليثبت وجوب الأداء ثم العجز عنه يخلفه
خلفه كالوضوء التيمم وكمن حلف على مس السماء أو تحويل الحجر
ذهبًا بخلاف الغموس فإن الزمان إن أعاده الله تعالى لم يبق
ماضيًا.
وثانيًا: اشتراط القدرة لوجوب الأداء فلئن سلم عدمها فالقضاء
ليس مبنيًا عليه بل على نفس الوجوب كما في صوم المريض المسافر
بل النائم والمغمي عليه.
(1/292)
وثالثا: القدرة المشروطة سلامة الأسباب وهي
حاصلة في حق الأداء وفي الأخيرين بحث ففي الثاني أن وجوب
القضاء للتكليف فلو بني على مجرد نفس الوجوب وليس القدرة شرطًا
له لوقع التكليف بدون شرطه وإن وجوب الأداء أن تراخى عن نحو
صوم المغمى عليه لكان الواقع بعد الوقت فيها أداء والإجماع على
خلافه وكيف يقال بأن الخطاب المقيد بوقت يطلب به الأداء بعده
وها هنا يظهر سر قول من قال بتلازم الوجوبين في حقوق الله
تعالى بخلاف حقوق العباد فإن المؤدي بعد الأجل ليس قضاء.
وفيه بحث: إذ لا يلزم من عدم صحة تراخي وجوب الأداء إلى ما بعد
الوقت عدم صحته أصلًا لجواز تراتخيه إلى تضيق الوقت كما مر مع
سائر أمثلته وفي الثالث أن الوقت الصالح من جملة أسباب الأداء
فلا نعلم سلامتها وكان الحق أن وجوب الأداء لا يتوقف بعد نفس
الوجوب حين يتضيق الوقت إلا على توهم فهم الخطاب باعتبار إمكان
الانتباه ليترتب عليه وجوب القضاء لا على فهمه بالفعل وذلك
يتحقق في نحو المريض والمغمي عليه كالناسي وفي مسألتنا غير
متحقق إلا في الجزء الأخير لعدم الأهلية قبله وإن المعتبر في
حق القضاء سلامة له بأنه لأسباب الأداء فالجواب هو الأول.
النوع الثاني الكامل
ويسمى الميسرة لتحصيلها اليسر بعد الإمكان فهي زائدة على الشرط
المحض اشترطت لوجوب بعض الواجبات كرامة من الله تعالى لتصيره
سهلًا، مع جوازه بدونها ولذا اشترطت في أكثر الواجبات المالية
لكون أدائها أشق على النفس عند العامة ولتوقف وجوبه على تغيرها
صفته صارت بمعنى علة لا يمكن بقاء المعلول بدونها إذ لولاها لم
يبق اليسر وانقلب عسرًا فلا يبقى الوجوب بخلاف الرمل في الحج
والشروط كالشهود في النكاح.
فروع:
1 - يسقط الزكاة بهلاك النصاب بعد التمكن من الأداء عندنا
خلافًا للشافعي (1) له أن الواجب بعد التقرر لا يسقط بالعجز
كما في حقوق العباد وصدقة الفطر والحج، قلنا وجوب الزكاة بقدرة
ميسرة ولذا خصصه بنصاب فاضل نام حقيقة أو تقديرًا وبربع العشر
من نمائه مع بقاء أصله فلو قلنا ببقائها بعد هلاكه انقلب غرامة
على أصله ولا يضر منعه
__________
(1) انظر / بدائع الصنائع للكاساني (2/ 22).
(1/293)
بل استهلاكه كمنع المولى العبد الجاني عن
الدفع أو المديون عن البيع أو المشتري الدار المشفوعة عن الشفع
حتى هلكت لا يضمن بخلاف منع الوديعة والرهن إذ لا بد غصب هنا
بإبطال حق المالك كما في منع الوديعة أو اليد المتقومة كما في
منع الرهن أما المستهلك فمتعد على الفقير لتعين حقه فيه ولذا
يبرأ بهبة ذلك النصاب منه دون مال آخر وبهلاكه قبل التمكن فيعد
باقيًا تقديرًا زجرًا على تعديه وردًا لما قصده من ابطال حق
الفقير نظرًا له كما عد أصله ناميًا تقديرًا وإلا لأدى إلى عدم
الزكاة أصلًا كالمستهلك عبده الجاني والصائم إذا سافر بخلافه
إذا مرض وشرط انتصاب ليس للتيسير نظرًا إلي أن المكنة يثبت
بدونه لأن نسبة ربع العشر إلى كل المقادير على السوية أو في
الأقل أيسر بل هو شرط الأهلية كالعقل والبلوغ أو شرط وجوب
الأداء لأن حسن الإغناء لا يتحقق غالبًا إلا بالغنى الشرعي كما
أن أصله لا يتحقق من غير الغني كالتمليك من غير المالك وإلا لم
يكن لدفع الحاجة بل لإحواج المؤدي وليس لكثرة حد معين فقدرة
الشرع بملك النصاب والإيثار ممدوح لكنه نادر والغالب عدم الصبر
عليه فالمراد بقوله عليه السلام "أفضل الصدقة جهد المقل" (1)
تفضيل الموبد من عند الله بالصبر على الحاجة وايثار مراد العبر
ولو كان به خصاصة وبقوله خير الصدقة ما يكون عن ظهر غنى تفضله
لمن لا بصير على ذلك وقبل مراده غنى القلب حتى لا يتبعه بالمن
والاستكثار فلا تمسك قائما لم يشترط بقاء النصاب لبقاء الواجب
بل يبقى الباقي بعد هلاك بعضه يقسطه إما سقوطه بعد هلاك كله
فلفوت اليسر يفوت النماء لا لعدمه.
2 - إذا اعتبر المؤشر بعد الحنث يكفر بالصوم لأن وجوب الكفارات
بالميسر إذا للأيسر وإذ لم يعتبر للانتقال إلى الصوم أو
الإطعام عدم القدرة في العمر وإلا لبطل أداؤهما إذ لا يتحقق
العجز إلا في آخه كما في إن لم آت البصرة أو لم أتكلم، إما
تخيير صدقة الفطر فصوري لا معنوي لتساويها معنى ومثله يراد
لتأكيد الواجب لا للتيسير غير إن مال التكفير غير معين فأي مال
إصابة بعد الحنث دامت به القدرة ولذا ساوى الهلاك الاستهلاك
فيها إذ لم يكن اعتبار التعدي في غير المعين فصارت القدرة فيها
كالاستطاعة في كونها معتبرة حال التكفير وحكمها كالزكاة في أن
المال مع الدين كعدمه في الأصح ولذا يحل له الصدقة كماء
المسافر المعد للعطش وفي آخر لا يجزيه التكفير بالصوم بخلاف
الزكاة والفرق اشتراط كمال الغنى فيها للأمر بالاغناء كصدقة
الفطر شكرًا
__________
(1) تقدم تخريجه.
(1/294)
والكريم لا يوجب الشكر إلا لنعمة كاملة إذ
القاصر له حكم العدم من وجه ولذا لا يتأدى إلا بتمليك عين
متقومة لا بالإباحة ولا بتمليك المنافع والدين يسقط الكمال ولا
يعدم الأصل والكفارات لم تشرع للإغناء بل إما سافرة لترقيع
تمزيق لباس التقوى وذلك بالثواب الحاصل من معنى العبادة أو
زاجرة لما فيها من معنى العقوبة ولذا تأدى بالتحرير والصوم
والإباحة فالمعتبر فيها أدني ما يصلح لكسب ثواب تقابل به موجب
اجداية لقوله تعالى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ} (هود: من الآية 114) ولمعنى الإغناء في صدقة
الفطر أيضًا لا يجب مع الدين وإلا فوجوبها لا بالميسرة فإنها
تجب برأس الحر ولا غنى به وبالغنى بثياب البذلة والمعنى
وبالحملة بنصاب ليس بتام ولو تقديرًا ولا يسر به وإنما لم
يعتبر دين العبد الذي يؤدي عنه حيث وجبت لاحتمال الغنى بمال
آخر والمعتبر فيها مطلق الغنى بأي مال كان بخلاف زكاة عبد
التجارة فإن شرطها كمال الغنى يعين ذلك المال ولذا يسقط بهلاكه
وإن كان له مال آخر.
3 - يسقط العشر بهلاك الخارج لوجوبه بالميسرة فإن قدرة آدائه
تستغنى عن بقاء تسعة الأعشار ولم يجب إلا بأرض تامة بعين
الخارج وكذا الخراج تسقط إذا اصطلم الزرع آفة فامتنع استغلال
السنة لوجوبه بالميسرة ولذا إذا قل الخارج خط الخراج إلى نصفه
فإن التنصيف عين التنصيف ويجب بأرض نامية لا سبخة ونحوها غير
أن النماء التقديري بالتمكن من الزراعة كاف فيه لكون الواجب
غير جنس الخارج وغير جزء منه مضاف إليه كالعشر فلا تحمل تقصيره
عذرا في إبطال حق الغزاة، واعترض بعض الأفاضل على قولهم بقاء
الميسرة شرط اتقاء الواجب وإلا انقلب اليسر عسرا بأن الكرامة
تيسر لا يقتضيها تيسير آخر كالنصاب النامي وبقائه وإلا لأدى
إلى إبطال الزكاة حتى لو هلك النصاب بعد خمسين سنة لسقطت زكاة
الكل وبأن اليسر الحاصل بالحولان لا ينقلب عسرا بل غايته أن لا
يترتب عليه يسر آخر، وجوابه أن المقصود وطول مكث الملك عند
المالك ليس تعديا كما مر من أمثلته فما لم يؤد لا يحصل يسر
واحد هو المقصود وهو الفائت بالهلاك ومعنى الانقلاب تحول
الأداء من اليسر إلى العسر كانقلاب الوجود عدمًا ومن العجب عد
البقاء يسرًا فلو صح ذلك لكان الحولان على أي مال كان نماء
وليس كذلك والله الميسر لكل عسير، الثاني: حصول الشرط العقلي
للمكلف به إن لم يمكن تحصيله للمكلف شرط للتكليف فينتفي
التكليف بانتفائه وإن أمكن ليس شرطًا واللغوي سبب غالبًا إما
الشرط الشرعي فحصوله ليس بشرط عند أكثر الشافعية
(1/295)
والعراقين من أصحابنا وشرط عند مشايخ ما
وراء النهر كأبي زيد والسرخسي وفخر الإِسلام ومتابعيه وعند أبي
حامد الاسفراييني والمسألة ليست على عمومها إذ لا خلاف في أن
مثل الجنب والمحدث مأمور بالصلاة بل منزلة في جزئى منها وهو أن
الكفار مخاطبون بالشرائع أي بفروع العبادات عملًا عند الأولين
وليس كذا عند الآخرين وقال قوم من الآخرين مكلفون بالنواهي
لأنهم أليق بالعقوبات الزاجرة دون الأوامر والأول هو الصحيح من
أصحابنا وأصحاب الشافعي (1) ولا خلاف في إنهم مخاطبون بأمر
الأيمان لأنه مبعوث إلى الكافة وبالمعاملات لأنهم أليق بمصالح
الدنيا حيث آثروها على العقبى وبالفروع في المؤاخذة الأخروية
بترك الاعتقاد وفي عدم جواز الأداء حال الكفر وفي عدم وجوب
القضاء بعد الإِسلام وإنما الثمرة زيادة العقوبة بتركها عليها
بترك الاعتقاد لقوله تعالى {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ
أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} (الفرقان: من الآية
68 - 69) الآية وما قبل من فرض المسألة الكلية في الجزئية لا
بد أن ديدن مألوف تسهيلا للمناظرة كما يقرض أن وجود الممكن
زائد على ماهيته في وجود المثبت فلا يردان القاعدة لا تثبت
بمثال جزئى لأنه لغرض يسهل مع اتحاد المأخذ ولا سيما فيما نصح
فيه التمسك بعدم القائل بالفصل مشعر كليتها باقية على الخلاف
وليس كذلك بالإجماع ومنه يعلم عدم إفادة تمسك الأولين بأنه لو
كان شرطًا لم يجب صلاة على محدث وجب ولا هي ولا الله أكبر قبل
النية ولا اللام قبل الهمزة مع وجوبها بكل جزء وجزء جزء بل
الأوجه تمسكهم بوجوه:
1 - عموم النصوص الموجبة للأعمال والعقاب على تركها مع أن
الكفر لا يصح مانعًا لإمكان إزالته إذ النسبة كالحدث ولا
داعيًا إلى التخفيف ويتحقق المقتضى وانتفاء المانع يتم الأمر.
2 - الآيات الموعدة بتركها نحو قوله تعالى عن الكفار {مَا
سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ} (المدثر:42 - 43) لا يقال قولهم ليس بحجة بلو
أن كذبهم لأنهم لو كذبوا لكذبوا فإن قيل غير واجب كم إلي نحو
قوله تعالى {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} (النحل: من الآية
28) قلنا: يستبد العقل بدرك كذبهم ثمه دونه هنا وللاجماع على
أن
__________
(1) انظر / المحصول لفخر الدين الرازي (1/ 316 - 332)،
المستصفى لحجة الدين الغزالي (1/ 91 - 93)، إحكام الأحكام لسيف
الدين الآمدي (1/ 206 - 211)، نهاية السكل للإسنوي (1/ 369 -
383)، حاشية التلويح على التوضيح (1/ 213 - 215)، إرشاد الفحول
للشوكاني (1/ 67 - 71).
(1/296)
المراد تصديقهم فيما قالوا وتحذير غيرهم
لأن العذاب بمجرد التكذيب بيوم الدين لأنه سبب مستقل فلا يحال
على غيره إذ لا توارد لأن العذاب لو لم يترتب على الكل للغي
سائر القيود وكلام الله منزه عنه ولا توارد لأن المرتب عليها
زيادة لا يفسد إذا لتوارد جائز في العلل الشرعية لكونها إمارات
لأن المصلين بمعنى المؤمنين كما في قوله عليه السلام "نهيت عن
قتل المصلين" (1) كيف ومنهم من يصلى ويتصدق ويومن بالغيب لأن
الأصل الحقيقة ولأن قوله تعالى {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ
الْمِسْكِينَ} يلغو حينئذ ولا تماثل بين الصلاتين فكيف
يتناولهما لفظ مع أنه يعم العموم المتيقن لخروجه جوابًا عن
المجرمين وكقوله تعالى {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)
الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (فصلت: من الآية 6 - 7)
على ما علم من مقتضي ترتيب الحكمَ على المشتق وعلى المقيد
وحملهما على نفى الاعتقاد لوجوب الصلاة والزكاة كما قاله
الزجاج أو القول بأن معنى لا يؤتون الزكاة لا يز كون أنفسهم
بالإيمان كما قاله الحسن خلاف الظاهر ولتخصيهم من العمومات لا
يصار إليهما إلا لدليل صحيح.
3 - أن الكفار مكلفون بالنواهي لوجوب حد الزنا عليهم فكذا
بالأوامر بجامع حصول مصلحة التكليف ورد تارة يمنع إنهم مكلفون
بالنواهي ووجوب حد الزنا لالتزامهم الأحكام لا لحرمته ولذا لا
يحد الحربي مطلقًا ولا إلزامي بذميته إلا عند الترافع ولا رحم
مع الكفر ويجوز أن يحد أحد على المباح عنده كإقامة الشافعي على
الحنفي الشاري للتقيد وأخرى بالفرق بأن اجتناب الكافر عن
المناهي ممكن الامتثال بالواجبات لأنها عبادة وذلك لأن النية
لا تعتبر مع الترك كإزالة الخبث وبه يتحقق دليل المذهب الثالث.
والجواب عن الأول: أن عموم الخطابات يقتض اندراجهم تحت القسمين
وإذا خص الواجبات لعدم أهليتهم للعبادة بخلاف العقوبة بقي
المناهي على الأصل وعدم حد الحربي لتقسيماته ووجوب الترافع
للثبوت وذلك لأن جواز العقوبة على المباح عند الفاعل غير مسلم.
وعن الثاني: بأن الانتهاء على قصد إلامتثال بدون النية بل
وبدون الأيمان متعذر والممكن صورته ولا عبرتهما مع إنها مشتركة
بين القسمين وإلا أنيط بها الثواب،
__________
(1) أخرجه البيهقي في الكبرى (8/ 224)، والدارقطني قى سننه (2/
54)، وأبو داود (4/ 282) ح (4928)، والطبراني في الأوسط (5/
194) ح (5058)، وأبو يعلى في مسنده (9011) ح (90)، والطبراني
في الكبير (18/ 26) ح (44)، والبيهقي في الشعب (3/ 35) ح
(2798)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/ 917) ح (963).
(1/297)
وليس أهلًا له بخلاف الترك الحسي من نحو
إزالة الخبث، وللطائفة الثانية أن المترتب على كل من الفعل
والكف أولا وبالذات هو الثواب والكافر ليس أهلًا له والشيء
يفوت بفوات مقصوده وإذا انتفى العقاب بمخالفتهما المترتب
ثانيًا وبالعرض وهذا إسقاط لهم عنه غير الخطاب وتغليظ بأخراجهم
عن الأهلية لا تخيف كان لا يأمر الطيب العليل بشرب الدواء وهذا
هو المقتض للعدول عن الظاهر بالوجهين السابقين فإن الجمع بين
الأدلة أولى بقدر الإمكان على أنه مؤيد بقوله عليه السلام "فإن
أجابوك فأعلمهم بأن الله تعالى فرض عليهم خمس صلوات (1) "
الحديث فإن المعلق بالشرط عدم قبل وجوده وأقول في الجواب أن
اندراجهم تحت الخطابات من حيث الثواب بالموافقة وإن امتنع فلم
يمتنع من حيث العقاب بالمخالفة والكلام فيه فوجب العمل بالعموم
والحقيقة في ذلك المقدار ولذا عوقبوا بترك اعتقاد الفروع
اتفاقًا مع أن الأمر به لنيل الثواب وحديث الإسقاط عن غير
الخطاب منقوض بخطاب الإيمان الذي هو أصل السعادات فكيف بتوابعه
وبخطاب المعاملات كيف والنص مملوء بخطابهم والمعلق بالشرط في
الحديث هو الأمر بالاعلام لنس الفرضية إما الاستدلال بأنهم لو
كلفوا لصحت لأن الصحة موافقة الأمر أو لأمكن الامتثال لأن
الإمكان شرطه حالة الكفر لا يمكن منه وبعده أي حاله الموت لا
يمكن أيضًا لسقوط الخطاب أو لوجب القضاء ولا يجب فاسدًا ما
الأول فلأن حالة الكفر ليست قيد للفعل في مرادهم بل للتكليف به
مسبوقًا بالإدمان كالجنب والمحدث قبل أساس العبادات لا يثبت
تبعًا لوجوب الفروع فإن قوله لعبده تزوج أربعًا لا يثبت الحرية
قلنا مع أنه مما يحتاط في إثباته ويجتهد في إعلائه بخلاف
المستشهد بها لا نثبته في صمته بل بأوامر المستقلة فيه
واشتراطه لا لإثباته بل لترتيب العقاب الملايم لعدمه وإما
الثاني فلإمكانه حالة الكفر يسبق الإيمان لا يقال هو كافر
حينئذ فلو كان ممكنا اجتمع المتنافيان لأن نفيه ضرورة بشرط
المحمول فلا يتنافي الامكان الذاتي وإما الثالث فلجواز سقوط
القضاء في حقهم لقوله تعالى {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ
مَا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال: من الآية 38) وإما أن القضاء بأمر
جديد إن سلم فلا يجدي لأن القائلين بمخاطبتهم بالفروع لا
يفضلون بين أمر الأداء والقضاء قال شمس الأئمة لا نص من
علمائنا ينافي هذه المسألة بل استدلوا على الخلاف بين الشافعي
وبين علماء ما وراء النهر من أصحابنا بهذه
__________
(1) أخرجه البخاري (2/ 505) ح (1331)، ومسلم (1/ 50) ح (19).
(1/298)
المسائل:
1 - أسلم المرتد لا يلزمه قضاء صلاة الردة خلافًا له.
2 - صلى في أول الوقت فارتد فأسلم والوقت باق الأداء خلافًا
له.
3 - أن الشرائع ليست من الإيمان عندنا خلافًا له والكل ضعيف
وأن سقوط القضاء بقوله تعالى {إِنْ يَنْتَهُوا} (الأنفال: من
الآية 38) الآية وبطلان المؤدي بقوله {وَمَنْ يَكْفُرْ
بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: من الآية 5)
والشافعي رحمه الله شرط في الإحباط الموت على الكفر حملًا
للمطلق على المقيد في قوله تعالى {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}
البقرة: من الآية 217) وأنهم مخاطبون بالعقوبات والمعاملات مع
أنها ليست من الإيمان إجماعًا فلا يكون تفريعنا منتظمًا ثم قال
فالاستدلال الصحيح على أن الردة تبطلِ وجوب الأداء أن من نذر
بصوم شهر ثم ارتد ثم أسلم لا يجب عليه وقوله تعالى {يُغْفَرْ
لَهُمْ} (الأنفال: من الآية 38) في حق السيئات ونذر الصوم من
الحسنات قبل النذر من الأعمال ولذا يترتب عليه الثواب والعقاب
فبطلانه بقوله {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: من الآية 5)
قلنا احاط الردة النذر من حيث إنه عمل مقرر لمنافاتها العمل
فكيف يتوجه الخطاب به معها، توضيحه أن الآية لما دلت على إنهم
غير مخاطبين بقوله تعالى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (الحج: من
الآية 29) دلت على عدم الخطاب بسائر الشرائع إذ لا قائل بالفصل
وبذلك يجاب عن انه لا يلزم من عدم الخطاب بالردة عدمه بالكفر
الأصلي والجواب منع أن دلالة الآية على عدم المخاطبة بإيجاب
النذر بل على المخاطبة بإحباطه، الثالث: كل مكلف به فعل ففي
النهي كف النفس خلافًا لأبي هاشم وكثير، لنا: أن القدرة مع
الفعل لأنها عرض لا تبقي زمانين فلو تقدمت لعدمت عنده فهي
مفسرة بالحالة التي يكون الفاعل عليها عنده فلا يكون عدم الفعل
مقدورًا أو على هذا لا يردان استمرار العدم يصلح أثرًا وأنه
يكفى في كونه أثرًا أن الفاعل لم يشاء فعله فلم يفعل ووجوب أن
يفعل شيئًا مصادرة فلا حاجة إلى الجواب عن الثاني بأن عدم
المشبه متحقق في الموجب بالذات مع أن عدم الفعل ليس أثرًا
للقدرة فيه اتفاقًا مع أنه غير تام لأن المراد عدم المشبه عمن
من شأنه.
للمخالف أن القدرة سابقة وتعلق الحادث بها لأنها كالباقي
المستمر الوجود فهي مفسرة بمبدأ الآثار المختلفة أو بصفة تؤثر
وفق الإرادة فنسبتها إلى الطرفين على التسوية فالعدم مقدور
وعندي أن مذهبنا مبني على أن المكلف به في النهي لو لم يكن كف
النفس عند الباعث بل عدم الفعل لكان مكلف مثابًا كل لمحة بعدم
المناهي اللامتناهي وهو خلاف
(1/299)
الإجماع وذلك لأن منا من قال ببقاء بعض
الأعراض، الرابع أن التكليف بالفعل ويعني به أثر القدرة التي
هي الأكوان لا التأثير الذي هو أحد الأعراض النسبية ثابت قبل
حدوثه اتفاقًا في الأصح وينقطع بعده إلا عند البهشمية وهو واضح
وأورد لو انقطح انعدم الطلب القائم بذات الله تعالى وصفاته
أبدية وورد بأن كلامه واحد والتعدد في العوارض الحادثة من
التعلق ككونه أمرًا أو نهيًا وانتفاؤها لا يوبا انتفاء وباق
حال حدوثه عند الأشعري خلافًا للمعتزلة والإمام وليس نزاع
الشيخ أن تعلق التكليف بالفعل لنفسه إذ لا انقطاع له أصلًا ولا
أن تنجيز التكليفى باق لأن التكليف بإيجاد الموجود محال لأنه
طلب يستدعي مطلوبًا غير حاصل لأنه تكليف بالمحال كما ظن وليس
أيضًا لا تنجيز التكليف إلا حال الحدوث كما نقض المتأخرون بأنه
المذهب للشيخ لما ذكر ولانتفاء فائدة التكليف وإن كانت
لابتدائه وهو الابتلاء لأنه عند التردد في الفعل والترك وليس
هذا النزاع أيضًا مبنيًا على أن القدرة مع الفعل عنده لا عندهم
كما زعم والألم يثبت التكليف قبله عنده وهذا لا يرتضيه عاقل
للإجماع على أن القاعد مكلف بالقيام إلى الصلاة ولأنه طلب وإن
فائدته عند التردد وأن لا معصية حاصلة وليس من لوازم كون
القدرة الحقيقية مع الفعل كون التكليف معه بل بجب كون المطلوب
بعد الطلب فالحق أنه مبنى على أن التكليف باق عند التأثير
اتفاق لكن التأثير عين الأثر عنده سابق عليه مولد له عندهم إما
سن الإله بأن الفعل الذي هو أحد الأكوان أثر القدرة اتفاقًا
فعندهم لأن القدرة الحادثة مؤثرة وعنده كاسبة وإن لم يكن مؤثرة
والأثر يستند إلى الكاسبة وتأثيرها كسبها فيوجد معها لأن
الضرورة قاضية بأن كون الشىء أثر الأخران يوجد بوجوده ويرتفع
بارتفاعه وما يتوهم من الآثار بخلاف ذلك كأكوان الحركة
فالسوابق معدات لقبول اللواحق وإذا كان مقدورًا كان مكلفًا به
لعدم مانعه وهو عدم القدرة فليس تامًا إذ لا نعلم حصر المانع
ولعله طلب إيجاد لموجود أو انتفاء الابتلاء أو غيرهما.
تقسيم المحكوم فيه على سوق أصحابنا
هو من وجوه:
1 - أن تكليف الله تعالى إيجاب الامتثال لإحكامه فكل عمل من
هذه الحيثية عبادة مطلقًا أما إذا اعتبرت خصوصياته فإن كان
المقصود الأولى منه الإقدام على ما ينبغي تعظيمًا للجناب
الإلهي شكرًا على نعمه وتحصيلًا للثواب الأخروى استجلابًا
لمزية كرمه سمي عبادة وإن كان الإحجام عما لا ينبغي عبرة خاصة
له أولًا وعامة لبني نوعه ثانيًا سمى
(1/300)
مزجرة وعقوبة وإن كان غيرهما فمعاملة سواء
كان للغير مدخل في انعقاده كنحو البيع والنكاح أو في وجوده
كنحو الطلاق والقضاء وعلامتها كونها مناطًا للنفع الخاص ببعض
العباد لا مشتركًا بين النفعين كالقصاص وحد القذف ولا نفعًا
عامًا كغيرهما فشرعية المعاملات لإصلاح ما بين الناس وشرعية
العبادات لإصلاح ما بينهم وبين الله تعالى وكذا شرعية المزاجر
إل في تينك المزجرتين ففيهما كلتا المصلحتين.
2 - أن معنى التعبد الترغيب في التوجه إلى الله تعالى والإعراض
عما سواه وذلك إما بالقلب وهو في الاعتقادات الخمس وقسيمتها
لاعتبار المباشرة في العمل وإما بالبدن وأجزائه إذا أطاعت
النفس وارتفع المانع وهو الطالق غير أن إطاعتها وهي أمارة
بقهرها ببذل شقيقها الكلي كالمال وهي الزكاة أو ترك شقيقها
الجزئي وهي المشتبهات الحالية إما دفعة وهو الصوم أو التدريج
التعويد له وهو الحج ودفع المانع بالجهاد.
3 - معنى العقوبة التنفير عن التوجه عن الله والإقبال إلى ما
سواه وذلك لا يظهر إلا بالتعدي وإلا فنعم المال الصالح للرجل
الصالح لإعانته على التوجه إلى الله فهو كالأفعى يصلح ترياقًا
وسمًا عند القدرة على استعماله والتعدي إما على الدين وله
مزجرة خلع البيضة كالقتل مع الردة وهو في مقابلة الاعتقاد وإما
على النفس وأجرائه ومزجرته القصاص وهو في مقابلة الصلاة وإما
على شقيقها الكلي ومزجرته حد السرقة الصغرى أو الكبرى وهو في
مقابلة الزكاة أو على شقيقها الجزئي الحالى ومزجرته حد الزنا
وهو في مقابلة الصوم أو التدريجي بسلب العقل ومزجرته حد الشرب
ولذا كان أم الخبائث وهو في مقابلة الحج أو على العرض المفضى
إلى التقاتل بين المسلمين ومزجرته حد القذف وهو في مقابلة
الجهاد والله أعلم بسرائر شرائعه.
4 - أن الله غني عن العالمين لكنه حكيم لا يخلو فعله عن مصلحة
وإن قلنا بأن فعله غير معلل بالغرض فإن الغرض من الشيء ما لا
يمكن تحصيله إلا به والمصلحة أعم منه فمصلحة التكليف ليست
عائدة إليه لغناه بل إلى العباد فإن كان نفع الشرعية عائدًا
إلى كلهم يسمى حق الله تعطمًا له كجميع العبادات وإلا فحق
العبد كجميع المعاملات وإما المزاجر فمن الأول خاصة إلا
المذكورتين المشتركتين.
5 - المشروعات إما حقوق الله تعالى خاصة أو حقوق العباد خاصة
وإما اجتمعا وحق الله غالب أو بالعكس إذ لا وجود لما تساويا
فيه.
6 - أن حق الله تعالى لا يخلو عن أحد معان ثلاث الشكر على نعمه
والزجر عن
(1/301)
نقمه والتسبب لبقاء كرمه فالثالث معنى
المؤونة والثاني معنى العقوبة والأول معنى العبادة إن ثبت في
ذمة وإلا فحق قائم بنفسه والمعاني الثلاث إما أن يعتبر فرادى
أو مركبًا والمؤونة المنفردة من حق العباد بقي العبادة
والعقوبة منفردتين وتسميان خالصتين والمركب ثلاثيًا مطلقًا
وثنائيًا على التساوي غير موجود وعلى التفاوت بالغلبة يكون ستة
واحد منها وهو الغالب عقوبته على المؤونة غير موجود يبقي
ثمانية واحد منها وهو العقوبة الخالصة جعلت قسمين كاملة وقاصرة
لتميز حكميهما حصل بالاستقراء تسعة:
1 - عبادة خالصة كالجهاد.
2 - عقوبة خالصة كالحدود.
3 - قاصرة كحرمان الميراث.
4 - عقوبة يتضمن العبادة ككفارة الطهارة والفطر.
5 - عكسه كسائر الكفارات.
6 - عبادة يتضمن الموونة كصدقة الفطر.
7 - عكسه كالعشر.
8 - موونة تتضمن العقوبة كالخراج.
9 - حق قائم بنفسه كالخمس.
أما العبادات فأما الإيمان أو فرعه ولكل منهما أصل وملحق به
وزوائد في التصديق في الإيمان أصلٌ محكم لا يحتمل التبدل
والإقرار ملحق به وكانت دالة إلى تقلب ركنًا في أحكام الدنيا
والآخرة حتى جعل مدار الحكم الظاهر وقد مر ولذا اعتبر إيمان
الحربي أو الذمي المنكرة فيه لإرادته إذ لم يجعل الإقرار ركنا
فيها وإلا كان سعيا في إثبات الكفر والإِسلام يعلو ولا يعلى
عليه بل ركنها تبديل الاعتقاد ولذا بكفر المرتد بقلبه وتبين
أمر أنه فيما بينه وبين الله تعالى فالإقرار دليل مجرد فيها
فعارضه قيام السيف وزوائده قبل تكرار الشهادة وقيل: الأعمال
والأصل في الفروع الصلاة لأنها شرعت شكرا لنعمة ظاهر البدن فق
تقلباته بأركانها التي هي روحها وبالجملة هى أجمع عبادة لدلائل
التعظيم ولذا كانت عماد الدين وتالية الأيمان وقرة عين الرسول
لكنها دونه لتوسط الكعبة ولذا صارت من الفروع، ثم الزكاة إما
الفرعية نعمة المال وإما لأن لواسطتها ضرب استحقاق فكانت دون
الصلاة في الخلوص لاستحقاق الكامل كما ظنه الشافعى رضي الله
عنه حيث جوز للفقير أن يأخذ مقدار الزكاة من المال إذا ظفر به
والملحق بها لأنه وسيلة إليها إذ بها يتم
(1/302)
روحها ولأن واسطه النفس وهي دون الأولين في
المنزلة لاستحقاقها القهر لا الإعزاز وفوقهما في كونها مقصودة
لأنها أعدى العدى حتى صار من الجهاد، ثم الحج لأنه عباده هجرة
عن المرافق والأوطان وانقطاع عن اللذات والإخوان لزيارة بيت
الرحمن لا تقوم إلا ببقاع معظمه وأوقات مشرفة بها تنقاد جموح
النفس وينطاع للصوم فكأنه وسيلة إليه والعمرة سنة متابعة له،
ثم الجماد كان فرض عين لإعلاء الدين ثم صار لانكسار شوكة
المشركين كفاية تحصل ببعض المسلمين ولأن الواسطة كفر الكافر لم
يكن عبادة أصلية فكانت دونها والزوائد هي السنن والآداب ومن
جملتها الاعتكاف المشروع لإدامة الصلاة بحقيقة الأداء أو حكمه
بالانتظار ولذا اختص بالمساجد وصح النذر به وإن لم يكن قربة من
جنسه لأنه نذر بالصلاة معنى، وإما العقوبة الكاملة فكحد الزنا
والسرقة وشرب الخمر شرعت لصيانة الإنساب والأموال والعقول
ولكمال الجنابة والقاصرة كحرمان الميراث بالقتل إذ لا يتصل
ببدنه ألم ولا بماله نقص بل مجرد منع عن التمول ويسمي اجزية
لقصورها فإن الجزاء كما يطلق على العقوبة يطلق على المثوبة
والبالغ الخاطئ يلزمه هذا الجزاء القاصر لتقصيره في التثبث لا
الكامل وهو والقصاص لخطأه ولا الصبي إذ لا يوصف بالتقصير السبب
عندنا كصاحب الشرط والسبب فإن التسبب وهو اتصال أثر الفعل
يتناولهما كحافر البئر وواضع الحجر والقائد والسالق تلف بها
المورث والشاهد على مورثه بالقتل فقتل ثم رجع خلافًا للشافعي
لأنه قتل بغير حق بالخطأ ولذا وجبت الدية قلنا قوله عليه
السلام: "إلا ميراث لقاتل" بعد صاحب البقرة ترتيب على القتل
وهو المباشرة أي اتصال نفس الفعل فلا يصح قياس ما دونها لإثبات
العقوبة والدية بدل المحل وتلفه بأمرين علي لفط واحد، وإما
العبادة المتضمنة للعقوبة فككفارة القتل واليمين وقتل الصيد
عبادة أداء لتأديتها بالصوم والتحرير وإطعام المساكين ولذا
يشترط فيها النية ويجب بطريق الفتوى ويومر بالأداء ولا تستوفى
كرها وجزاعًا وجوبًا ولذا سميت سائرة للذنب ولا مبتدأة بل
بأسباب فيها معنى الحظر فجهة العبادة كما ترى غالبة ولدور إنها
بينهما لم تجب على الكفار والصبي واشترط في سببها الدواران بين
الحظر والإباحة كالقتل الخطأ والمنعقدة بخلاف العمد والغموس إذ
لا إباحة ولم تجب على المسبب إذ لا مباشرة وغلط الشافعي في
جعلها ضمان المتلف لتجب على الصبي والمجنون والمسبب لأنها من
حقوق الله تعالى وهو منزه عن أن يلحقه خسران يحتاج إلى جبره بل
الضمان فيها جزاء الفعل ولذا يتعدد الكفارة يتعدد الفعل مع
اتحاد المحل كالجنابة على الصيد في الإحرام وبدل المحل للجبر
(1/303)
فيتخذ عند وحدة المحل ولذا تعددت الجنابة
كصيد الحرام وقولهم مراده بالمتلف حق الله كالاستبعاد الفائت
بالقتل لا المحل لا يجدي في الإيجاب على الصبي والمجنون كما في
العمد، وأما العقوبة المتضمنة للعبادة فككفارة الفطر عقوبة
وجوبًا وعبادة أداء ولذا يسقط بالشبهة كالحد كمن جامع ظانًا
أنه قبل الصبح أو بعد الغروب إما جماع زوجته وأكل ماله فلا
يورث شبهة في إباحة الإفطار كمن قتل بسيفه أو شرب خمرة
وباعتراض الحيض والمرض وحين كسافر بعد الشروع فافطر وحين رأي
الهلال وحده فرد القاضي شهادته فأفطر وإن لم يتح لهما فرده
وقوله عليه السلام صومكم يوم تصومون شبهتان فيه وألحقها
الشافعي بسائر الكفارات فلم يسقطها بالشبهة ورد بوجوه:
1 - قوله عليه السلام "من أفطر في رمضان متعمدًا فعليه ما على
المظاهر" (1) لأن قيد التعمد يشير إلى كمال الجناية فجزاؤها
عقوبة غالبة ولأنه ألحقها بالمظاهر وكفارته عقوبة غالبة وسببها
حرام إجماعا لأنه منكر من القول وزورا التوجيه هو الأول وإن
نقل الثاني من صاحب الكافي واختاره في التقيد ومبناه أن سببها
النفس الظهار لا هو مع العود كما قيل بدليل جواز التكفير قبل
العود لكن فيه بحوث:
1 - ما اتفقوا من أن سبب جميع الكفارات دائر بين الخطر
والإباحة فلو كان للعود مدخل في السببية كما هو ظاهر النص
وتجويز التقديم ليقع الفعل حلالًا فذا وإلا فلكون الظهار في
الحقيقة طلاقًا وهو مباح وكونه منكرًا وزورًا جهة حرمته لا
دليل خلوص حرمته.
2 - قول فخر الإِسلام رحمه الله أن العبادة غالبة في الكفارات
ما خلا كفارة الفطر وفرقوا بأن الجنابة على الصوم لكون شهوة
البطن والفرج أمرًا معودًا وغالبًا على صاحبه أقوى فأدعى للزجر
وبأن شُرعت الكفارة في الظهار فيما يندب تحصيل ما تعلقت به
تعلق العلل وهو العود وفي اليمين فيما يجب تحصيله تعلق الشروط
ككلام الأب فيمن حلف لا يكلم أباه وشرع الزاجر فيما يندب أو
يجب تحصيله خال عن الحكمة بخلاف كفارة الفطر.
3 - ما ذكر صاحب الكافي أنه لو ظاهر امرأته مرارًا لزمه بكل
ظهار كفارة فلو غلبت العقوبة لقد أخلت لأنه درء.
__________
(1) لم أجده.
(1/304)
2 - عدم وجوب الكفارة على من أخطأ في الصبح
والغروب إجماعا فالاعتبار كمال الجناية في سببها خلاف كفارة
قتل الخطأ وفي كمالها غلبة العقوبة إما من أخطأ يسبق الماء
والطعام حلقه فلا يفسد عنده.
3 - أن الجناية فيه على خالص حق الله تعالى والطبع يدعو إليها
فيستدعي زاجرًا يكون عقوبة محضة غير أن المجني عليه لما لم يكن
عند الجناية مسلما تامًا إلى صاحبه صار قاصرًا فاتصف الزاجر
بالعقوبة وجوبًا أي وجب للزجر بخلاف غيرها إذ لا معنى للزجر عن
القتل الخطأ والعبادة أداء حتى تأدى بنحو الصوم وبطريق الفتوى
كالعبادة لا الاستيناء كالعقوبة لوجود نظيره كإقامة الحد ولم
يعكس لعدمه ولذا قلنا يتداخلها من رمضان أو أكثر إذا لم يتخلل
التكفير فالتداخل من الدرء كما في الحدود، وأما العبادة
المتضمنة للمؤونة فكصدقة الفطر قربة لكونها صدقة وطهرة للصائم
واعتبار الغني فيمن يجب عليه واشتراط النية وعدم صحة أدائها من
غير المالك كالمكاتب عن نفسه وتعلق وجوبها بالوقت ومصرف الصدقة
كالزكاة في الكل وفيها معنى الموونة وهو الوجوب بسبب الغير
ولكون الرأس سببًا كما قال عليه السلام "أدوا عمن تمونون" (1)
كالنفقة فلم يشترط كمال الأهلية ووجبت على الصبي والمجنون
كنفقة ذوى الأرحام، وأما الموونة المتضمنة للعبادة فكالعشرة
موونة لأنها سبب بقاء الأرض وسببها الأرض النامية وباعتبار
تعلقه بالنماء وصرفه إلى الفقراء كالزكاة فيه معناها والأرض
أصل ومحل والنماء صنف وشرط تبع ولتضمنه المعنيين لابتدائه على
أرض الكافر وأجاز محمَّد رحمه الله تعالى إبقائه إذ لا إثبات
ولا إسقاط بالشك، وأما المؤونة المتضمنة للعقوبة فالخراج مؤونة
كما مر فيها عقوبة للانقطاع عن الجهاد إلى سبب الذل الذي هو
الحرث وعمارة فلا يبتدأ به المسلم وجاز إبقاؤه إذا أسلم لمثل
ما مر فقاس محمَّد إبقاء العشر على إبقائه غير أنه يضع في
الخراج على رواية ابن سماعة كمأخوذ العاشر من أهل الذمة ودق
الصدقة على رواية السير وإفساده بأن في العشر عبادة تنافي
الكفر ولو بقاء وفي الخراج عقوبة لا تنافى الإِسلام فأوجب أبو
يوسف تضعيفه لإخراج لأن تغيير الوصف أسهل وقد وجد نظيره في بني
تغلب والذمي المار على العاشر وبعد التضعيف صار في حكم الخراج
الذي هو من خواص الكفر قلنا الانتقال من الوظيفتين إلى التضعيف
ثبت في قوم بأعيانهم ضرورة
__________
(1) أخرجه البيهقي في الكبرى (4/ 161) ح (7474)، والدارقطني في
سننه (2/ 140)، والإمام الشافعى في مسنده (1/ 93).
(1/305)
الخوف من الفتنة إجماعًا على خلاف القياس
فلا يصار إليه عند عدمها بل إذا عجزنا عن أحديهما أثبتنا
الأخرى ونعني بالمؤونة فيهما أنهما سبب لحفظ انزال الأراض فإنه
ببأس الغزاة المجاهدين ودعاء الفقراء المجتهدين وغلب الشرع في
العشر معنى العبادة إكراما للمسلمين وفي الخراج معنى العقوبة
إهانة للكافرين، وإما الحق القائم بنفسه أي من غير تعلقه بذمة
فكخمس الغنائم والمعادن لأن الجهاد حق الله تعالى {قُلِ
الْأَنْفَالُ لِلَّهِ} (الأنفال: من الآية 1) لكونه إعلاء
كلمته لكنه استبقى الخمس لنفسه وأعطى باقيه للغانمين منة ولذا
يقسمه الإمام وجوز صرفه من الغنيمة إلى الغالفين وأولادهم
وآبائهم ومن المعدن إلى الواجد وقرابة أولاده عند الحاجة بخلاف
افتقار المزكي بعد الحول لا يرد الساعي ما أعطاه وان بقى ولا
يصرف حانث وجد ما يكفر به إلى نفسه لحاجته ولذا أيضًا حل لبني
هاشم خمس الخمس إذ لم يكن آلة أداء الواجب على أحد ليصير
بانتقال آثامه إليه وسخا ولذا جعلنا النصرة علة استحقاقه لا
لقرابة كما قال الشافعي والثمرة سقوطه بوفاة النبي عليه السلام
لانتهاء النصرة كما سقط سهم المولفة لانتهاء ضعف الإِسلام فعند
الكرخي وهو مختار أبي زيد في الإسرار في حق أغنيائهم خاصة وعند
الطحاوي مطلقا وعند الشافعي ثابت لبقاء القرابة له لأن قوله
تعالى {وَلِذِي الْقُرْبَى} (الأنفال: من الآية 41) ترتيب على
المشتق فالعلة مأخذة ولئن ثبت عليه اَلنصرة بالحديث يكون وصفا
يتم بها القرابة علة كالعدالة في الشاهد والنماء في النصاب
والتأثير في الوصف الملايم ولذا أعطنا بني هاشم وبني المطلب
دون غيرهم من بني نوفل وبني عبد شمس قلنا أولًا تعليق الكرامة
بالنصرة لكونها من الطاعات أولى منه بالقرابة لكونها خلقية إما
لأن الأول هو الغالب وإما اعتبارًا بأربعة الأخماس حتى لا
يملكها من دخل تاجرا ويملكها من دخلها بقصد النصرة وان لم
يقاتل وثانيا الأصل صوت قرابتها عن إعراض الدنيا بالنص وهو
قوله تعالى {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الأنعام:
من الآية 90) الآية ولأنها أعلى من أن يجعل علة لاستحقاقها وإن
صارت مانعة عن الزكاة وغير مقتضية للإرث عن الرسول وليست
النصرة منضمة لها علة لصلاحها علة بنفسها كما في أربعة لأخماس
ومثله لا يصلح مرجحًا ولكن سلم فلما عدمت بعد وفاته لم يبق
القرابة علة كنصاب لم يبق نماؤه وشاهد، ثم من فروعه بنفسه أن
الغنيمة لا تملك عندنا إلا بعد الإحراز بدارنا خلافًا له إذ لو
كانت لنا لتملكنا بمجرد الاستيلاء كالصيد وغيره وهو أصل يتفرع
عليه مسألتنا كعدم جواز القسمة في دار الحرب وإن لاحق لمن مات
فيها ويورث نصيب من مات بعد الإحراز قبل القسمة
(1/306)
وإن المدد اللاحق يشارك ولا يحل للمنفل له
الجارية أن يطأها ما لم يحرزها، وها هنا تمت الأقسام التسعة
بقي ثلاثة من أقسام مطلق الحقوق:
1 - حقوق العباد وهي كثيرة كالديات وبدل المتلفات.
2 - ما اجتمعا وحق الله غالب كحد القذف فيه حق العبد لأنه شرع
لصون عرضه ولذا شرط دعواه ووجب على المستأمن وإقامة الإِمام
بعمله ولم يبطل بالتقادم ولم يصح الرجوع وحق الله تعالى لأنه
شرع للزجر ولذا يستوفيه الإِمام وينصف بالرق ولا يحلق القاذف
إذا أنكر وهو الغالب خلافًا للشافعي رحمه الله لولايته على
حقوقهم أيضًا لأنه مولى الموالي ولذا يجري فيه عندنا التداخل
فيما قذف جماعة بكلمة أو كلمات ولا يجري الإرث ولا يسقط بعفو
المقذوف.
3 - ما اجتمعا وحق العبد غال كالقود فإن الله تعالى في نفس
العبد حق الاستبعاد وللعبد حق الاستمتاع وفي القود إبقاء لهما
ففيه حق الله لسقوطه بالشبهة وكونه جزاء الفعل لا ضمان المحل
وحق العبد لوجوبه مماثلة ففيها أنباء عن الحبر ومقابلة بالمحل
فكان غالبًا ولذا يورث ويعفي ويعتاض عنه صلحًا ويواخذ الإِمام
به لا بحدي القذف والزنا وإما حد قطاع الطريق قطعًا كان أو
قتلًا فحق الله تعالى على الخلوص عندنا لتسميته جزاء مطلقًا
وهو يقتضي الكمال كما سيجيء أن شاء الله تعالى ولأنه جعل
محاربة لله تعالى ورسوله عليه السلام وسماه خزيا ولذا يستوفيه
الإِمام ولا يسقط بالعفو ولا يجب على المستأمن إذا ارتكب سبب
فينا كحدي الزنا والسرقة وعند الشافعي إذا كان قتلًا يجتمع
الحقان إذ فيه معنى القصاص وقد ظهر الفرق.
آخر التقاسيم
هذه الحقوق تنقسم إلى أصل وخلف ففى الأيمان الإقرار خلف
التصديق مستبدأ في أحكام الدنيا كما مر ثم يخلف أداء أحد أبوي
الصغير والمعتوه والمجنون عن أدائهم لكن لا يعتبر لداؤء مع
أدائهم إلا في المجنون فلا يرتد الصغير المسلم نفسه بارتداد
أحد أبويه ويصح إسلامه بنفسه مع كفرهما ثم أداء السابي إذا قسم
أو بيع من مسلم في دارهم والكل خلف عن أداء الصغير مرتبًا
كخلفية المورث على الترتيب فلا يلزم خلف الخلف وفي الصلاة يخلف
القعود ثم الاضطجاع عن القيام الإيماء عن الركوع والسجود
والقضاء عن الأداء وغيرها وفي الزكاة يخلف القيم عن الأعيان
كما في العشر وسائر الصدقات الواجبة وفي الصوم يخلف الفدية
كالصلاة وفي الحج يخلف الإنفاق عن الأداء بنفسه وفي اليمين
(1/307)
يخلف الكفارة عن البر وفي العقوبات يخلف
المال عن القصاص صلحًا أو عفوًا وفي حقوق العباد يخلف قيم
المتلفات عنها وغير ذلك مما يطول.
تتمات:
1 - يخلف التيمم عن الوضوء مطلقًا عندنا فيرتفع به الحدث إلى
غاية وجود الماء كالطهارة والأصل قوله عليه السلام "التراب
طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء" (1) فإنه الظاهر
من الاختيار ولأنه لو لم يكن حكمه حكم الأصل بل الإباحة
الضرورية كان أصلًا لا خلفًا فجاز للفرائض الكثيرة وقيل الوقت
وطلب الماء ولا يتحرى في إنائين نجس وطاهرًا وثلاثة والغلبة
للنجس لعين الخلف المطلق عند العجز بالتعارض إما في ثلاثة
والغلبة للظاهر يتحرى اتفاقًا وقال الشافعى رحمه الله تعالى
خلف ضروري ضرورة إسقاط الفرض مع قيام الحدث كالمستحاضة فعكس
المسائل لأن الثابت يتقدر بقدرها ولا ضرورة قبل الوقت والطلب
وعند وجود الماء الطاهر مع إمكان الوصول بالتحري قيل تفريع
التحري على ضرورة الخلفية منتظم إذ لو أريد بها ضرورة العجز عن
الماء فلا خلاف ولو أريد العمل به بقدر ما يندفع به ضرورة
إسقاط الفرض فلا معنى لها في مسألة التحري بل على أن لا عجز مع
أمكان التحري سواء كان خلفًا ضروريًا أو مطلقًا وليس بشيء لأن
العجز حاصل قطعًا بالتعارض والتحري فبما يثبت من توابعه
كالتيمم فالخلاف في أن الخلف مطلق يرجح على التحري لكونه
ضروريًا أو ضروري بمعنى أن لا يضار إليه مما أمكن فلا يرجح
عليه وسيتضح تحقيقه في بحث التعارض إن شاء الله تعالى.
2 - أن الخلفية بين الفعلين عند محمَّد وكذا عند زفر في رواية
وفي أخرى لا بل يجوز اقتداء المتوضي بالتيمم وإن وجد المتوضى
ماء بين الأنيتين عندهما قالا المأمور به أصلًا وخلفًا الفعلان
قلنا رتب القصد إلى الصعد على عدم الماء لا على عدم التوضى كما
رتب إلا عند إذ بالأشهر على اليأس من المحيض فكما أن الخلفية
ثمة بين الأشهر والحيض كذا
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (4/ 138 - 139) ح (1312)، والحاكم
في مستدركه (9913) ح (4518)، والبيهقي في الكبرى (811) ح (23)،
والدارقطنى في سننه (1/ 187) برقم (2)، وابن أبي شيبة في مصنفه
(1/ 144) ح 1661)، والإمام أحمد في مسنده (5/ 146) ح (21342)،
وابن الجوزي في التحقيق (1 - 226 - 227) ح (263)، وانظر/
التلخيص الحبير (1/ 154)، نصب الراية للزيلعى (1/ 148).
(1/308)
هنا بين الآيتين ويؤيده الحديث والصعيد
طهور حكمي وإن كان ملوثًا في الحقيقة فيصلح مزيلًا للنجاسة
الحكمية وعدم اشتراط إصابة التراب كالتيمم على الحجر الملساء
ليس زيادة للخلف على الأصل في حق الحكم كاستغناعه من مسح الرأس
والرجل والثمرة جواز إمامة المتيمم للمتوضئ عندنا إلا إذا وجد
المتوضي إمام فزعم أن صلاة أمامه فاسدة كزعمه خطأه في جهة
القبلة لأن لكل منهما طهارة مطلقة وشرط الصلاة موجود في حق كل
بكماله لا عندهما لأن الإِمام صاحب الخلف قلنا الباقي عند
الصلاة هو التيمم وليس بخلف لا التراب وهو الخلف.
3 - أن الخلف مع إطلاقه قد يكون ضروريًا مع القدرة على الماء
لخوف فوت صلاة لا خلف لها كالجنازة والعيد خلافًا للشافعي وصحه
قياسًا على سائر الصلوات قلنا إذا فأتت بالتوضي لا إلى خلف صار
عادمًا في حق هذه الصلاة كالخائف من العطش بخلافها وبخلاف
الولي إذ ينتظر له وحق الإعادة.
فرع: إذا جىء بجنازة أخرى ولا تمكن من الوضوء بينهما لم يعد
عندنا لأن التيمم باق ما لم يتمكن من التوضى بحيث لا تفوته
الصلاة إذ الخلفية في الألة وعندهما يعيد لعدم بقاء الفعل الذي
هو الخلف عندنا الفراغ من الأولى لانتهاء الضرورة.
4 - أن الخلافة لا تثبت إلا بعبارة النص كالتيمم والفدية في
الصوم أو دلالته حقيقة كقضاء المنذورات المتعينة أو احتمالا
كالفدية في الصلاة أو إشارة كأداء القيم في الزكوات أو
اقتضائية.
5 - شرط العدول إلى الخلف عدم الأصل في الخال مع احتمال وجوده
لينعقد السبب له فيخلف بالعجز كما في التيمم لاحتمال وجود
الماء بطريق الكرامة وفي مسألة مس السماء والإِسلام في آخر وقت
الصلاة وهذا في الجميع بخلاف الغموس ولذا قال الصاحبان فيمن
شهد بقتله وجاء حيا بعد قتل من شهد عليه فلوليه أن يضمن الشهود
وولى الجاني وعلى الثاني لا يرجع على الشهود إجماعًا إما أن
اختيار تضمين الشهود فهم يرجعون على الولي لأن التعدي والضمان
سب ملك المضمون كما في الغضب ومملوكية الدم غير مستحيلة كمس
السماء والحرمة لا ينافيها كالعصير المتخمر والدهن النجس لكن
السبب لم يؤثر في الأصل وهو القصاص إجماعًا فيؤثر في بدله وهو
الدية كمدبر فات عند غصب الغاصب فضمن الأول يرجع على الثاني
لاحتمال ملك المدبر ولذا ينفذ القضاء بجواز بيعه وهذا شهود
الكتابة إذا رجعوا بعد الحكم بعتقه فضمنوا قيمته رجعوا على
(1/309)
المكاتب بدل الكتابة لاحتماله المملوكية وقت التعدي وإنما لم
يرجعوا بالقيمة لأن العبد استحق العتق على المولى بالبدل وهم
بضمان القيمة قاموا مقام المولى وقال الإِمام الإتلاف حكمًا
بالتسبب من الشهود وحقيقة بالمباشرة من الولى سواء في ضمان
الدية فكما لا يرجع الولي لأنه ضمن بجناية نفسه لا يرجع الولي
لأنه ضمن بجنابة نفسه لا يرجع الشهود لذلك بخلاف ما إذا شهدوا
بالقتل خطأ لأنهم ما أتلفوا نفسًا بل مالًا محتملًا للملك
فملكوه بالضمان فيأخذونه من الولى قائمًا ومثله أو بدله تالفًا
ثم الدم لا يحتمل الملك أصلًا لا في الخال بالإجماع ولا في
المال لانقطاع الوحي بخلاف المدبر كما مر والمكاتب لجواز بيعه
برضاه ورده إلى الرق بالعجز وأنه عبد ما بقى عليه درهم ولأن
الخلف يعمل عمل الأصل وملك القصاص وهو الأصل غير مضمون ولذا لا
يضمن قاتل من هو عليه فكذا خلفه. |