فصول البدائع في أصول الشرائع

فصول البدائع
في
أصول الشرائع
تأليف العلامة المحقق شمس الدين محمد بن حمزة بن محمد
الفناري الرومي
المتوفي 834 هـ
تحقيق
محمد حسن محمد حسن إسماعيل
الجزء الثاني
دار الكتب العلمية
أسسها محمد علي بيضون سنة 1971
بيروت - لبنان

(2/1)


منشورات محمد علي بيضون
دار الكتب العلمية بيروت لبنان
جميع الحقوق محفوظة

جميع حقوق الملكية الأدبية والفنية محفوظة
لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان
ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملًا أو
مجزأ أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر
أو برمجته على أسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطيًّا.

الطبعة الأولى
2006 م - 1427 هـ
منشورات محمد علي بيضون
دار الكتب العلمية
بيروت لبنان

الكتاب: فصول البدائع في أصول الشرائع
المؤلف: محمد بن حمزة الفناري
المحقق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
عدد الصفحات: 864 (جزءان)
سنة الطباعة: 2006 م
بلد الطباعة: لبنان
الطبعة: الأولى

(2/2)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وأما المقصد الأول ففي الأدلة الأربعة، وفيه أربعة أركان؛
الركن الأول من الكتاب، وفيه مقدمة وعشرون فصل في أحكام عشرين قسمًا
فالمقدمة فيها مباحث:
الأول: فيما يتعلق بتعريفه، هو لغةً للكتابة ثم للمكتوب ثم غلب عرفًا للشرع على القرآن كالقرآن لكنه أشهر، وهو الكلام المنزل المعجز سورة منه (1)، فخرج غير المنزل وغير المعجز كسائر الكتب السماوية والسنة المتواترة؛ لأن المراد بالمنزل المحقق منزليته لفظًا لا ما ادعى أو ثبت منزليته معنى فقط فيخرج ثابت بالآحاد من القرآن والسنن أيضًا، وكذا المنسوخ تلاوته؛ لأن منزليته لم تتواتر، والسورة البعض المبين أوله بالتسمية وآخره بالانتهاء إليها وإلى آخر الكل توقيفًا، فسورة منه إن كان للبيان أو للتبعيض الحقيقط فلإخراج البعض؛ لأن سورة نكرة أريد بها الجنس المبهم أو واقعة من سياق النفي المستفاد من الإعجاز والذي يعجز كل سورة من السور المبهمة منه هو كل القرآن وإن كان للتبعيض المجازي أو على حذف المضاف من جنسه في البلاغة العالية فليتناول الكل والبعض وهو أقرب.
قيل: كونه للإعجاز ليس لازمًا بينًا ومعرفة السورة تتوقف على معرفته، لأنها في عرف المتشرعة البعض المذكور من القرآن وإلا فإنه للاحتراز عن نحو سور الإنجيل، فهذا التعريف ليس للتمييز أي لإحداث تصور لم يكن بل لتصوير مفهوم لفظ القرآن أي للالتفات إلى تصور حاصل للعلم بالمراد، والجواب عن الأول: إن المعتبر البينية وقت التعريف وذلك حاصل لسبق العلم بإعجازه في الكلام. وعن الثاني: بأن تميز القرآن غير تصور ماهيته الاصطلاحية، فيجوز أن يتوقف معرفة السورة على تميزه، ويكون الموقوف عليها تصور ماهيته.
وقال الغزالي رحمه الله: هو ما نقل إلينا بين دفتي المصاحف تواترًا. وأورد عليه الدور، فإن الصحيفة الكتاب والمصحف غلب عرفًا على ما كتب فيه القرآن، فقيل: يراد به ليعلم أنه المراد به ليعلم أنه الدليل، وعليه يبنى الأحكام من منع ولمس، والتنبيه على أن ضابط معرفته التواتر دون التعريف لا لكلام الأولى ولا المنسوخ تلاوته ولا ما لم يتواتر كمتتابعات في قضاء الصوم وإلا فهو اسم علم شخصي والتعريف للحقائق الكلية ويمكن الجواب بمثل
__________
(1) المتعبد بتلاوته، وتعريفه بما نقل بين دفتى المصحف نقلًا متواترًا دوري.
انظر أحكام الأحكام للآمدي (1/ 288)، المختصر في أصول الفقه لابن اللحام (ص 70) بتحقيقنا، حاشية التلويح على التوضيح (1/ 26 - 29).

(2/3)


ما مر، وبأن تصور المصحف ليس تصور كنهه بل ما يعلم عرفًا أن هذا مصحفٌ وذاك والموقوف تصور كنهه على أنا لا نعلم شخصيته فإن له أفرادًا في صدور الحفاظ ومتون الصحف، ولئن سلم أن المراد به أنه كالشخصي أو شخصي بالاصطلاح الخاص فلا نعلم أن مثله لا يقبل التعريف الرسمي بحسب الوجود الخارجي، ولا سيما في المركبات الاعتبارية، نعم لا يقبل التحديد، لكن ليس التعريف بالمنزل والمنقول كن ذلك في شيء.
وقال مشايخنا: هو القرآن المنزل على رسولنا المكتوب في المصاحف المنقول تواترًا بلا شبهة، فالقرآن تعريف لفظي والباقي رسمي وصفًا كاشفًا، فالمنزل جنس المنزلة وخرج بقيده الكتب السماوية وبالمجموع الأحاديث المنزل معناها فقط إذْ المراد نظمه ومعناه، وبالمكتوب المنسوخ تلاوته بقي حكمه أولًا، وبالتواتر الآحاد كالشاذة، ومنها متتابعات في قضاء رمضان وبالأخير المشهوركمتتابعات في كفارة اليمين، فلا يجوز صلاة المتفرد به هذا إن أريد بالتواتر تواتر الفرع أو الأعم كما فعله الجصاص، وإن أريد به المتعارف فالقيد الأخير تأكيد، وهذا محزه لقوة شبه المشهور به وتصور النقل يتوقف على تصور مطلق المنقول فلا دور ولفظ النبي عليه السلام داخل؛ لأن المراد ما تعلق به الكتب والنقل لغةً، وكذا كل حرف أو كلمة من حيث انتظامها مع طرفيها، وقكد الحيثية لا بد من إرادته فيما يختلف بالاعتبار حتى لا يحرم الحمد لله رب العالمين شكرا على الجنب.
وفي التسمية روايتان عن أبي حنيفة آية فذة أنزلت للفصل والتبرك وليست من القرآن إلا في النمل، فعلى الأول يخرج كل واحدة أو عدة بعينهما بقيد المنزلية إذ لم ينزل شيء منها على تعينه أو التواتر إذ لم يتواتر قرآنية شيء منها على تعينه بخلاف نحو {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13]، فإن المنزل والمتواتر قرآنيته صادقٌ على كل منها ولم يكن تكرارها في أول كل سورة زندقة لكون إنزالها للفصل والتبرك، وعلى الثاني: بالتواتر إذْ لم يتواتركونها من القرآن ولذا يخالف مالك - رحمه الله -.

الثاني: أن المنقول آحادًا ليس بقرآن بل واجب تواتر تفاصليه لأنه متضمن للإعجاز والتحدي وأصل للأحكام وكل ما هو كذلك فالعادة تقضى بتواتر تفاصليه بخلاف سائر المعجزات إذْ ليست أصل الأحكام وبذا علم أن القرآن لم يعارض وإلا لتواتر، فما لم يتواتر تفصيله ليس بقرآن بعكس النقيض، وهذا متفق عليه بين الأئمة الأربعة فالخلاف في بسم الله في أوائل السور مبني على أن الواجب تواتر نقله في كل محل عند الشافعي لتوصيتهم بتجريد القرآن عما ليس منه حتى من النقط، وقضاء العادة قطعًا بعدم الاتفاق على مثله جمع أن أحاديث ابن عباس وأبي هريرة وأم سلمة رضي الله عنهم تناسب قوله أنه آية من

(2/4)


كل سورة أو من غير الفاتحة بعض آية منها وتواتر كونه قرآنا في كل محل عند غيره كما في سائر المكررات فإذا لم يتواتر ذلك في محل ما لم يكن قرآنًا عند مالك وأبي حذيفة في رواية ولأن التوصية بالتجريد إنما يقتضي عادة قرآنيته في الجملة لا قرآنيته في كل محل كما ظنه الشافعي لجواز كونه آية فذة أنزلت للفصل والتبرك أختاره أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله على رواية أبي بكر الرازي وبها أخذ المتأخرون ولذا كتبت بقلم الوحي، أي حين نزلت وإنما كتبت بخط آخر ليعلم أنها ليست أول سورة وآخر أخرى والرواية حيث قالوا ثم يتعوذ ثم يقرأ ويخفي البسملة حيث أدخلوها في القراءة شاهدة له والأحاديث آحاد ومؤولة لتعارضها فحديث ابن عباس رضي الله عنه من حيث كونه آية فذة أو مائة وأربع عشرة آية عن التأويلات ومع أنها من كتاب الله لا من كل سورة وحديثا أبي هريرة وأم سلمة أو بعض آية من الفاتحة فخطأ مالك - رحمه الله - في عدم اختيار التوصية بالتجريد أصلا وخطأ الشافعى في اعتبارها في كل سورة مع الجواز المذكور.
ثم تفريع عدم الجهر على مذهب مالك - رحمه الله - منتظم كالجهر على مذهب الشافعي أما على الرواية الأخيرة لأبي حنيفة فلأنه غير معلوم قرآنيته من حيث ذلك المحل والأصل في الأذكار الإخفاء، وليعلم بالإخفاء أنه ليس من ذلك المحل والجهر ليس من لوازمه كالشفع الأخير ولأن اختلاف العلماء من حيث إن دليل كل شبهة قوية من حجة غيره أوْرث شبهةً في قرآنيته أو في كونها آية تامة لم يجز الصلاة به إذْ المقطوع لا يؤدي بالمظنون وحرمت على نحو الجنب عند نيته القراءة لا الثناء للاحتياط ولم يكفر إحدى الطائفتين الأخرى إجماعًا مع أن كلا من نفي الضروري كونه من القرآن وإثبات الضروري عدم كونه منه مظنة للتكفير، لا يقال دليل كل طائفة قطعيٌ عنده وإلا لم يتضح التمسك به في نفي القرآنية أو إثباتها، فلا معتبر لتعارض الشبهة وألا تجري في الاعتقاديات المختلف فيها كالوحدة وغيرها لأنا نقول قد تبين عدم قطعية دليلي الشافعي ومالك أما دليلنا وإن كان قطعيًا بالنظر إلى نفسه فالقطع به من قضاء العادة التي لا معتبر بها عند معارضة النص، فالنصوص المعارضة لها لو كانت قطعية كان الأخذ بها وترك العادة واجبًا وعند ظنيتها أورثت قدرًا من الشبهة صالحًا لدفع ما يندفع بالشبهات وهذا معنى قوتها بخلاف أدلة سائر الاعتقاديات ولا نعلم عدم صحة التمسك بمثل هذا القطعي في نفي القرآنية وإثباتها.
بقى بحث هو منع أن العادة تقتضي بتواتر تفاصيل مثله لما لا يكفى تواتره في محل ما سواء كان في النمل أو في كونه قرآنًا لإثباته في محالٍ، وجوابه أنه لو لم يجب التواتر في كل

(2/5)


محل وكفي ذلك لزم محالان جواز وقوع سقوط بعض القرآن وثبوت بعض ما ليس فيما مضى، أما الأول فلاحتمال كون الآيات الغير المكررة مكررة أسقط عما لم يتواتر فيه اكتفاء بمحل التواتر.
وأما الثاني: فلاحتمال كون الآيات المكررة غير متواترة بل غير نازلة إلا في محل فأثبت لذلك في غيره مع عدم قرآنيتها. واعترض بأنا لا نعلم لزوم المحالين لأن جواز عدم التواتر في كل محل إنما يستلزمها فيما مضي لو منع وقوع التواتر فيه في كل محل والممكنة السالبة لا تناقض المطلقة الموجبة وكيف يمنعه والوقوع لا يوجب الوجوب إذ المطلقة لا تستلزم الضرورية فلم لا يجوز أن يكون الواقع تواتر المكرر في كل محل وإن لم يجب فلم يقع السقوط والثبوت المذكوران فيما مضي وأجيب بوجوه:
1 - أن المحال الأول لازم وذلك كاف، فإن التواتر لو لم يجب لجاز سقوط بعض المكرر قبل اتفاق تواتره ولا ينافيه وقوع التواتر في سائر المكررات وبذا لم يحصل الجزم بعدم السقوط مع أنا جازمون به، ولا يقال تواتر عدم سقوط بعض المكرر كما تواتر ثبوت بعضه؛ لأن التواتر في العدم لا يتصور إما لأنه لا يستند إلى الحسن، وإما لأنه قبل حصول حد التواتر.
2 - أن وقوع حد التواتر وإن قدح في لزومها فيما مضى فلا يقدح في الجوازين المحذورين فيما يستقبل لولا وجوب التواتر في كل محل مع أن فاعلها مجنون أو زنديق.
3 - أن لنا وجوب التواتر في كل محل دليلًا آخر وهو كونه ما يتوفر الدواعي على نقله كما سيجىء وهذا على مذهب مجوز الانتقال.
تتمة: اختلاف القراءات السبع إن كان فيما لا يختلف خطوط المصاحف به وهو المنتهى بنفس الأداة والهيئة لا بحسب دائرة كالمد واللين أعني تطويل صوت حرف العلة إلى مقدار وعدمه والإمالة والتفخيم وتخفيف الهمزة وغيرها، وإن كان فيما يختلف وهو المسمى بقبيل جوهر اللفظ نحو ملك ومالك يجب تواتر كل منهما ليكون قرآنا.

الثالث: يجوز العمل بالقراءات الشاذة إذا اشتهرت كالخبر المشهور عند الحنفية مثل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه في كفارة اليمين فصيام ثلاثة أيام متتابعات بخلاف قراءة أبي رضي الله عنه في قضاء رمضان خلافًا لغيرهم في أنه قرآن أو خبر ورد بيانًا فظن قرآنًا، وأيًّا كان يجب العمل به، قيل يجوز أن يكون مذهبًا لجواز أن يجتهد الصحابي في خبر فرواه بالمعني على زعمه ولئن سلم فالخبر خطأ قطعًا لأنه نقل قرآنًا وليس بقرآن لعدم تواتره فارتفع الثقة. والجواب عن الأول: أن إلحاق ما اجتهد فيه بالقرآن بحيث يظن

(2/6)


كونه قرآنًا من عدل مثله بعيد. وعن الثاني أن خطأيته بالنسبة إليه ممنوعة لجواز أن يتواتر عنده أو يشافه بقرآنيته وبالنسبة إلينا لا يرفع الثقة ولئن سلم فالخطأ في قرآنينه، ويجوز أن يكون مقصوده خبريته لهم أنه ليس بقرآن وشرط صحة العمل بالخبر نقله خبرًا ولا عبرة بغيرهما قلنا لا نعلم الثاني والإجماع فيه كيف والاعتماد على نقل الثقة في إلحاقه بالقرآن أقوى.

الفصل الأول في الخاص
وفيه مقامات:

الأول: في حكم مطلقه وضعًا هو تناول مدلوله يقينًا، أي: في ذاته وقطعا أي للمحتمل وهو إرادة الغير أو لاحتمال البيان كما في المجمل أو المجمل أو لمطلق الاحتمال الناشئ عن الدليل وأيًّا كان لا ينافيه احتمال المجاز حيث لا قرينة لعدم دليله خلافًا لمشايخ سمرقند ومذهبهم مردودٌ باتفاق العرف فبيانه وحقيقته إثبات الظهور ولازمته ازالة الخفاء أما إثبات الثابت وإزالة الزائل وعليه أصول وفروع ونقصان لهما منوع فالأصول منها أن اسم العدد لا يحتمل الأقل والأكثركالواحد لا يحتمل العدد فثلاثة قروء حيض لا أطهار كما عند الشافعي وإلا فعدة الطلاق الشرعي الواقع في الطهر إن احتسب كما هو مذهبه قرآن وبعض الثالث وإن لم يحتسب فثلاثة وبعفى الرابع وبعض الطهر ليس به إذ لا يراد المسمي وإلا لانقضى بثلاث ساعات وإن شرط تحلل الدم بين أفراده فبساعة من الثالث وأشهر عام أو واسطة تجوز فيه بإرادة البعض كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} [آل عمران: 42]، وإتمام الحيضة الرابعة في عدة المطلقة أثناء الحيض لضرورة تكميل ما لا يجزئ ولذا صارت عدة الأمة قرءين وقطح يد العبد السارق مع إن الرق منصف، ولا يطلق في أنت طالق إذا حضت نصف حيضة حتى يطهر كما في حيضة بخلاف إذا حضت، وتاء الثلاثة للفظ القرء، ومذهبنا مؤيد بقوله عليه السلام "دعي الصلاة أيام أقرائك" (1) مع قوله وعدتها حيضتان وبالاستبراء فإنه بحيضة وبالاشتقاق كما مر. ومنها: أن إلحاق الشيء به فرضًا لأنه يوجب رفعًا لحكم شرعي كزيادة جزء للتخيير أو ركن أو شرط حيث يرفع حرمة ترك الأصل وإجزائه نسخ خلافًا للشافعي وسيجيء بخلاف زيادة عبادة مستقلة فلا يجوز إلا بما يجوز النسخ به فلا يلحق فرضا في أن لا يجوز الصلاة بدونه لا في أن يكفر جاحده.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 59).

(2/7)


تعديل الأركان وهو الطمأنينة في الركوع والسجود بأمرهما بقوله عليه السلام للأعرابي قم فصلي فإنك لم تصلي" (1) ثلاثًا لأن الركوع ميل عن الاستواء بما يقطعه حتى لو كان إلى القيام أقرب من الركوع لم يجزه والسجود وضع الجبهة على الأرض ولا فاتحة بأمر القراءة بقوله عليه السلام لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ووقوعها فرضًا حين الاقتصار ليس بذلك كسائر السور لأن ذا من حيث قرآنيتها فلا ينافي وجوبها من حيث الخصوصية ولا الطهارة بأمر طواف الزيارة لقوله عليه السلام "ألا لا يطوفن بهذا البيت محدث ولا عريان" (2) وقوله الطواف صلاة فإنه الدوران حولها وهو في نفسه معلوم وإن كان مجملا في حق المبالغة المنصوصة حيث يحتمل العدد والإسراع وفي حق الابتداء إذْ لا بد لتحقق الحركة وتعينها الواجب شرعًا منه وتعينه فالتحقيق خبر العدد والابتداء من الحجر بيانًا ولذا لا يعتبر ما قبله في رواية الرقيات والطهارة أمر زائد، كأمر المسح مجمل في حق المقدار لأنه إمرار وتفسيره بالإصابة لدفع الإسالة خاص في حق التثليث وتعين الناصية أو لأن خبر الأشواط السبعة متواترٌ غير أن التقدير يحتمل أن يكون للاعتداد والإكمال فأخذنا الثاني لتيقنه وجوزنا بأكثرها لقيامه مكان الكل لترجح جانب الوجود كالاقتداء في الركوع ونية التطوع بالصوم قبل الزوال وقد روي إن الابتداء من غير الحجر مكروه لأنه ترك سنة لا باطل.
أما وجوب إعادة طواف الجنب والعريان والمعكوس فليس لعدم جوازه عندنا حتى يكون مجملا لمعنى زائد ثبت شرعًا كالربا بل لنقصانه الفاحش وجوب إعادة الصلاة المنقوص واجبها سهوًا ولذا ينجبر بالدم إنجبارها بالسجدة فهذه الثلاثة عندنا واجبة ورواية ابن شجاع في الطهارة محجوجة بوجوب الدم، وعند الشافعي فرضٌ ولا الولاء بما روي إنه عليه السلام كان يوالي في وضوئه كما شرط مالك - رحمه الله - والترتيب بقوله عليه السلام: "ابدأوا بما بدأ الله به" (3)، والنية بقوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات" (4)، كما شرطهما الشافعي - رحمه الله - والتسمية بقوله عليه السلام: "لا وضوء لمن لم يسم
__________
(1) أخرجه البخاري (1/ 263) ح (724)، ومسلم (1/ 298) ح (397).
(2) لم أجده هكذا، وقوله: "لا يطوف بالبيت عريان" أخرجه: البخاري (1/ 144) ح (362)، ومسلم (2/ 982) ح (1347).
(3) أخرجه مسلم (2/ 886) ح (1218).
(4) أخرجه البخاري (1/ 30) ح (54)، ومسلم (3/ 1515) ح (1907).

(2/8)


الله" (1) كما شرطها الطاهر به بأنه الوضوء لأنه غسل ومسح واشتراط النية في التيمم لإشارته، والمفهوم من ترتب الحكم على المشتق عليه مأخذ؛ لا وجوب نية العلية لا سيما في الشرط الذي شأنه أن يعتبر وجوده كيفما كان لا قصدًا كستر العورة واستقبال القبلة فوجوب النية في كفارة القتل لدفع المزاحمة فهذه تعنيه، ولا التغريب بقوله عليه السلام "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" (2) بأمر الجلد فإنه لكونه جزاء كاف أو كل المذكور بل ذلك على تقدير ثبوته بطريق التعزيز منسوخٌ كالرجم بالحجارة دليله قول على رضي الله عنه كفي بالنفي فتنة، وحلف عمران لا يقيم النفط حين ارتد من نفاه، ولذا لم يجعل التغريب واجبًا أو سنةً أو لأن خبره غريب مع عموم البلوى وفي ما بين القبيلين فرق ما بين تبع لأصل وتبعه رعاية لمنازل المشروعات وربما يقرر بأن الإلحاق بالفرضية إذا بطل يصار إلى أقرب المنازل منها هي الوجوب إن أمكن بأن كان الملحق به مقصودًا لذاته كالصلاة والحج؛ لأن الظن يوجب العمل وإلا كأن كان مقصودًا لغيره كالوضوء فإلى السنية إذ لا يمكن جعله واجبًا لعينه بمعنى إثم تاركه لأنه مما يسقط كله بلا إثم بسقوط الغير، ولا واجبا لأجل الصلاة بمعنى عدم جوازها إلا به وإلا لترجح على واجب الصلاة وساوى فرض الوضوء على تقدير عدمها ولا بمعنى أثم المصلي لتركه مع جواز صلاته وإلا لساوى واجب الصلاة واقتضى سهوه جائزا، وإن أريد إثم ما فذا بالسنية كما جاز الوعيد على النقيض عن الثلاث وهذا سر أن أبا حنيفة - رحمه الله - لم يجعل في الوضوء واجبا وقيل لتفاوت درجات الأدلة فإنها أربعة قطعى الثبوت والأدلة وقطعي أحدهما وظنهما:
فالأول: كالنصوص المتواترة تثبت الفرضية والمتوسطان كالآيات المؤولة وأخبار الآحاد القطعية الوجوب والرابع كالأخبار المؤولة السنية، ومن سوى فقد سهى من وجهين كمن سوي بين شريف وخسيس فخبر التعديل للتكرار والفاتحة لشهرته والطهارة للمبالغة من الثالث وهكذا كان غسل اليد ابتداءً للمبالغة في حديث المتيقظ ولكونه مقدمة لولا تعليل آخر الحديث وطهارة العضو حقيقة وحكما ووروده فيما ليس مقصودا لذاته وغيرها من الرابع فخبر الولاء؛ لأن المواظبة ليست دليل الوجوب مطلقًا فإنه عليه السلام واظب على المضمضة والاستنشاق بل هو المواظبة بلا ترك فيما هو مقصودا لذاته وخبر النية مشترك الدلالة لإضمار فيه وخبر الترتيب والتسمية معارض ومستعمل في نفى الفضيلة.
__________
(1) قال اللفظ ابن حجر: لم أجده بهذا اللفظ. انظر / الدراية (1/ 14).
(2) أخرجه مسلم (3/ 1316) ح (1690).

(2/9)


ويرد على الثالث والرابع طردًا وعكسًا وجوب الفاتحة وضم السورة فإن استعمال مثل حديثهما في نفي الفضيلة شائع والمجاز الشائع قادحٌ في القطع باعترافه كما في التسمية، وسنية تخليل اللحية والأصابع الثانية بالأمر القطعي الدلالة لا سيما مع اقترانه بالوعيد وفي أمثلته سعة، ويمكن الجواب بأن القواعد الأربع أصول يجوز العدول عنها لدليل كضعف قرنية المجاز في حديثهما وكشهرته فيهما وتكرر وروده في الفاتحة بخلاف حديث التسمية، وكورود حديثي التخليلين فيما ليس مقصودًا لذاته وهذا كحديث السعي فإنه من حيث كونها مصدرًا بالكتب ومعجزًا بالأمر يصح دالا على ركنيته بيانا لمجمل الحج كما قال الشافعي، لكن صيغة الإباحة في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، أوجب العدول عنه فقلنا بالوجوب إما لأنه أقرب المَنازل أو فيه الإجماع أو الجمع بين دليلي الركنية والإباحة ومنها أن الخلع طلاق فيزيد به عدده لأنه تعالى بدأ بفعل الزوج وهو الطلاق ثم جمعهما في أن لا يقيما ثم أفرد فعل المرأة وهو الاقتداء بالذكر ففيه بيان بطريق الضرورة أن فعله ما سبق كما في قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11].
وسبب نزول الآية يفصح عن أنه الخلع لا الطلاق على المال ولا الرجعي ولا يلزم منه زيادة الطلاق على الثلاث مع سبق الطلقتين إذ ليس كل ذكر لبيان الوقوع والإلزام قطعا بل لبيان الشرعية ويحتمل أيضًا أن يكون تنويعًا للثاني إلى الخلع وغيره ويصدق عليه الطلاق بعوض أو للثالث المستفاد من التسريح على ما روي أو زرين عنه عليه السلام ويكون فإن طلقها بيان حكم الثالث، وفيه بعد الخروج الفاء عن التعقيب.
وقال الشافعي رضي الله عنه أولًا فسخ لأنه يحتمله كما بخيار عدم الكفاءة والعتق والبلوغ عندكم كالبيع قلنا تمامه لا نقبله وهذه الصور امتناع قبله والفروع منها أن الصريح يلحق البائن خلافًا للشافعى رضي الله عنه ويتحقق في المختلفة رواية واحدة وفي المطلقة على مال إحدى الروايتين عنه ولا يري البينونة في غيرهما له زوال النكاح كما بعد العدة.
قلنا فاء التعقيب في فإن طلقها المرتبة له على الخلع الذي هو أحد نوعي فعل الزوج المذكور في صدر الآية وذلك عين وصله يصدر الآية كما ذكره المفسرين؛ لأن وجود النوع والجنس واحد ذهابا إلى أن المراد به التطليق الشرعي مرة بعد مرة لا الرجعي وإلا لم يكن هذا أحد نوعية تفيد شرعيته عقيب الخلع؛ لأن بيان حكمه الخاص يستدعيها وحديث أبي سعيد الخدري يويدها فن وصله بصدر الآية بحيث فصله عن الاقتداء فقد

(2/10)


أبطل التركيب، وهذا لا ينافي كون الطلقة الثالثة مستفادة من التسريح ولا تقتضى عدم مشروعيتها إلا بعد الخلع كما ظن فقبله أما بالتسريح أو لكونه مرتبا على صدر الآية، وهو أعم أو بالإجماع، أو بحديث العسيلة ومنها أن المفوضة تستحق مهر المثل بنفس العقد لا بالوطء فلو مات قبله أو طلق بعده يجب كلا وقبله متعة لا يزيد على نصفه وعند أكثر الشافعية به فلو مات أو طلق قبله فلا شيء وبعده يجب كلا واتفقا أنه إذا فرض فات أو طلق بعده يجب كمال المفروض وقبله نصفه لهم إنه خالص حقها، فيتمكن من نفيه ابتداء كما من إسقاطه انتهاء، قلنا: الماء في أن تبتغوا بأموالكم حقيقته الإلصاق بنص العربية، ففى غيره مجاز ترجيحًا له على الاشتراك فلا ينفك الطلب، أي: بالعقد الصحيح لا بالإجارة والمتعة لقوله تعالى: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]، ولا بالنكاح الفاسد لتراخي وجوب المهر فيه إلى الوطء إجماعا عن المال وسائر النصوص المطلقة، وإن كانت مطلقة محمولة على المقيد لاتحاد الحكم والحادثة ككفارة اليمين.
وكما في اشتراط الشهود وحرمة جمع غير الأختين كلاهما بالخبر المشهور والمهر وجوبا حق الشرع إبانة لشرف المحل؛ ولقوله تعالى: {فَرَضْنَا} على وجه، وإنما يصير حقها حالة الملك فتملك الإبراء دون النفي، ومنها: أن المهر مقدر شرعًا بمقدار بعينه معلوم عند الله يظهر باصطلاح الزوجين أو المماثلة كالقيم الظاهرة بالتقويم وكخصال كفارة اليمين فلا يجوز أقل من عشرة دراهم (1).
وعند الشافعي رضي الله عنه كل ما يصلح ثمنًا يصلح مهرًا (2)؛ لأنه حقها فالتقدير إليها، قلنا قوله تعالى: {مَا فَرَضْنَا} [الأحزاب: 50]، أي قدرنا من مهور النساء وأعواض الإماء كما فسر به البعض يفيد أن المتولي لتقديره صاحب الشرع لكن لكونه مجملا في تعيين المقدار بالنسبة إلينا بينه حديث جابر رضي الله عنه من حيث نفي نقصانه أو قياسه على نصاب السرقة بجامع بدليه العضو وتقدير العبد امتثال به ظاهرًا به من حيث كونه فوق ما دون العشرة وباطنا بإظهار ما عينه في عمله فلا يلزم جواز الاصطلاح على ما دونها ولكون التقدير نافيا للنقصان كمقادير الزكاة لا الركعات جاز الزيادة، وقد مر أن المهر وجوبا حق الشرع إبانة للشرف بالتقدير بماله خطر قبل حقيقة الفرض القطع كما في سورة النور من الكشاف ففي التقدير مجاز كالبيان والإيجاب ولئن سلم فمشترك بينهما مع أن حمله على الإيجاب أولى هنا لوصله بولي، وإذ لم يقدر على المولي للإماء
__________
(1) انظر المبسوط لشيخ الإِسلام السرخسي (5/ 66).
(2) انظر الأم للإمام الشافعى (5/ 160).

(2/11)


شيء وجوابه أن في التقدير حقيقة شرعية وإن كان مجازا لغويا لاشتهار استعماله إلى أن استغنى عنه القرنية لقوله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، والفرائض وفرض القاضي، ففي سائر المعاني مجاز ترجيحًا له على الاشتراك فوصله بولي لتضمين معنى الإيجاب والمقدر في الإماء الأعواض كما مر لا النفقة والكسوة غير إن تقدير العوض لم يبين أصلًا فافترقا في جواز القلة ولئن سلم كونه حقيقة في الإيجاب إذ لم يشتهر في غيرهما شرعا لكنه يستلزم تقديرًا فلا محيص عن الإجمال في جعل التقدير كالشافعي أو اختيار الترك والإيجاب في المهر كمالك القائل، بأن نفي المهر يفسده كنفي الثمن إلى
العبد فقط أبطله.
ونقصان أحدهما قول محمَّد والشافعى لأن قولهما بمحلية الزوج الثاني وهدمه دون الثلاث إبطال لقوله حتى ينكح؛ لأن غاية الحرمة منهية لها ولا إنهاء قبل الثبوت إذ نهاية الشيء لتوقفها من حيث هي غاية عليه توقف البعض من حيث هو بعض على الكل تلغو قبله في حكم الإنهاء كما لو حلف لا يكلمه في رجب حتى يستشير أباه فاستشاره قبل رجب لغت حتى لو كلمه في رجب قبلها حنث، ولأن الثبات ضد المغيا لا أثر للغاية فيه فالثابت بعدها الحل السابق كحل الأكل بعد الليل ولئن سلم فالحل فيما دونها ثابت وإثبات الثابت محال وجوابه أن محليته لم تثبت بالأية بل بإشارة حديثي العسيلة واللعن فحديث العسيلة لشهرته يزاد به على الكتاب فزيد الدخول بعبارته وفهم التحليل من إشارته فإن العود فيه وهو الرجوع إلى الحالة الأولى التي هي الحل أمر حادث بعد الدخول لأن عدمه غيابه فيضاف إليه والمستند إلى السبب الأصلي هو الحل الأصلي لا الحاصل
بالعود إليه بل هو إلى سبب العود وهذا إذا كان النكاح في الآية لمعنى العقد لا الوطء كما اختاره المتأخرون وإلا فالدخول بالآية وهو مختار متقدمي أصحابنا لأنه وإن سلم اشتماله على مجازين لغوين في النكاح، والزوج أولى من ارتكاب المجاز العقلي في إسناد الوطء إليها ولو لمعنى التمكين إذ لا يكاد يستعمل كالراكب في المركوب، بخلاف الزنا فإنه اسم للتمكين الحرام ومع نساء لا يفيد لأن التمكين لا ينهي ولا يستلزم الوطء، وحديث اللعن وإن كان من الآحاد أثبت التحليل لأنه ليس زيادةً تكون نسخًا لأن التحليل محقق للإنهاء لا رافع له يوجه، ورفع الشيء قد يكون بإثبات ضده، فلا ينفي كونه غاية كـ {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] و {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] وكالليل مع النهار واللعن غير قادح؛ لأن سببه للمحل شرط التحليل أو قصد تغير المشروع حيث لم يتزوج للتناسل، وللمحلل له تسببه والمسبب شريك المباشر، والأليق أن الغرض من إثبات خساستهما،

(2/12)


لأنه عليه السلام ما بعث لعانا ولما ثبت العود إلى الحالة الأولى لم يزل الحل إلا بثلاث طلقات كالأول فبعد الثلاث أثبت الحل الكامل وبعدما دونها كله ولم يكن إثبات الثابت بل زيادة حل كزيادة الحرمة في انعقاد ظهار ويمين بعده أو لم يزد على الثلاث، إذْ لا زيادة شرعًا فاقتضى ثبوت الحل الثاني انتفاء الأول كتجديد البيع بثمن أقل، أو تداخل العدتين ثم قولهما لأن فيه إعمال الكتاب والسنة جميعًا أولى بما فيه إهمال إحداهما.
وثانيهما: قول الشافعي رضي الله عنه إن مذهب في نقل عصمته المسروق إلى الله وهو المعنى ببطلانها على العبد حيث قلنا حكم السرقة قطع بنفي الضمان، فلو هلك عند السارق أو استهلكه قبل القطع أو بعده لا يضمن إلا في رواية الحسن، فيما استهلك بعده كإتلاف خير المسلم لقوله عليه السلام لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه إبطال لخاص الكتاب به حيث جعل القطع جميع الموجب، ومع نقل العصمة يكون بعضه ولولا هذا الاعتبار لما ورد الإيراد؛ لأن إثبات حكم سكت عنه النص بخبر الواحد غير محذور ونحوه ما مر في زيادة التغريب على الجلد، فللشافعي رضي الله عنه: أن القطع لا ينفي الضمان صريحًا ولا دلالة لاختلافهما اسمًا ومقصودًا ومحلا وسببًا واستحقاقًا فلا يقتضي ثبوت أحدهما انتفاء الآخر فيثبت لعمومات الضمان. قلنا: نقلها بإشارة جزاء إما لفظا فلأن مطلقه عن جبر النقصان في معرض العقوبة يراد به خالص حقه تعالى، وهذا كذلك ولذا لم يكون كون الغصب القصاص مقيدا بالمثل ولم يملك الصنروق منه إثبات الحد وعفوه بعده ولم يورث وأشترط دعواه ليظهر السرقة ويسترد إن أمكن حتى لو وجد المظهر بلا ملك كفي كالمكاتب والمستعير والمستأجر والمستبضع والقابض على سوم الشراء والمستودع والمضارب والمرتهن ومتولي الوقف وسدنه الكعبة وكل جزاء يخلص بهتك حرمة خالصة له ليكون طبقها ومن ضرورته لخويل العصمة إليه، وإما معنى فلأنه مأخوذ من جزى أي قضي وأحكم أو جزءا، أي: كفي فيشير لإطلاقه إلى كماله المستدعي لكمال الجناية بكونها حرامًا لعينهاكشرب الخمر والزنا لا لغيره وإلا كانت مباحة في نفسهاكشرب عصير العنب لأحد والوطء حالة الحيض فيتحول العصمة إليه، وقد يجاب بإن كمال الجزاء يقتضي كون القطع جميع الموجب فلا يجب الضمان معه وهذا لا يحتاج إلى توسط كمال الجناية، وتحول العصمة فلا تناسب فأوجه منه أن القطع إن لم يكن جميع الموجب جاز زيادة نقل العصمةكزيادة التغريب عنده، وإن كان لم يجز زيادة الضمان بالعمومات إذْ لا تصح ناسخة لعدم قوتها أو تراخيها ولا مخصصة للخاص وههنا فوائد:

(2/13)


1 - أن عصمة المال واحدة كانت للعبد إذْ لا يجب القطع إلا بسرقة مال يختص به خلاف صيد الحرم وحشيشه فإذا نقلها الله إلى نفسه تحقيقا لصيانته على العبد لم يبق للعبد حرمة يجب الضمان بهتكها خلاف قتل الصيد المملوك في الحرم والإحرام، وشرب حفر الذمي والقتل الخطأ، واختير هذا النوع من الصيانة وإن اشتمل على إبطال حقه في الضمان لأن نفع القطع يعمه، وغيره كالقود.
2 - أن ملك العبد لا يستلزم عصمته كعصير المسلم إذا تخمر ينتقل عصمتها إلى الله تعالى فلا يلزم من انتقالها بدونه، حيث يثبت له ولاية الاسترداد إن كان قائمًا بقاء اللزوم، بلا لازم فلا ينتقل المالك وإن توقف انعقاد السرقة موجبه للقطع عليه توقفه على العصمة وإذ لا يقطع النباش وذا لوجوه:
أ- كون انتقال العصمة للضرورة فيتقدر بقدرها، ولذا لو وهبه المالك للسارق أو باعه منه أو من غيره صح أو أتلفه غيره يضمن.
ب- كن نقل الملك مبطلا للعصمة أصلًا لأن خالص ملكه تعالى يوصف بالإباحة لأنها كالاحتطاب ونحوه.
ج- كون الملك صفة المالك مقصودا لا لمحل الجناية كالعصمة.
3 - نقل العصمة إليه تعالى لا يوجب الإباحة وإلا لتسبب الجناية للتخفيف وصار القطع مناقضًا لنفسه فاشترط العصمة السابقة التي يحدث انتقالها مع الأخذ تحقيقًا للحفظ في تلك الحالة ويتم بالاستيفاء كما في كل ما يحب الله فعنده يتبين أنها كانت لله فلا يجب الضمان وإن تعذر الاستيفاء تبين أنها للعبد فيجب وبهذا يندفع كثير من الأسئلة.
4 - إن سقوط الضمان لتعذر الحكم به على القاضي حيث اعتبر عصمته في القطع فلا ينافيه الإفتاء بالضمان كما رواه هشام عن محمد - رحمه الله - لدفع الخسران اللاحق بجهة هو متعد فيها.

المقام الثاني في حكم قسمه المسمى بالأمر: إذْ الخاص كمطلق اللفظ فيما مر إما خبرًا أو إنشاءً ولكون السند عين الإخبار أخرنا مباحثه إلى أوانه فالإنشاء المعتبر هنا الأمر والنهى المنوط بهما طرفا التكليف، ولذا عد مباحثهما معظم المفاسد ونعني بهما أياهما معنى وإن استعير عنهما بالخبر في {لَا تَعْبُدُونَ} [البقرة: 83] وتحسنون المقدر كعكسه فيما يجيء من اصنع ما شئت، واستعارة النهى والمستعار في نحو {يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] {يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233]، مجرد خبر المبتدأ فقد يقع إنشاء في مثل كيف زيد، لا أين زيد ونحوه لأنه في الحقيقة مقدرة وتنافي الإنشاء لا معه، وعندي أن الخبر جزء

(2/14)


مدلولاتها، والجزء الإنشائي معتبر في الجملة، وهذا أصح، لأن الدليل على إمتناعه صحيح ومنه {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، من وجه والمستعار أوْكد لكونه خبرا عن وقوع المطلوب صورة.
ففي الأمر مباحث: الأول: في تعريفه ولكونه من المبادي، قد مر فيها وتكراره هنا لاستيفاء حقه مطابقة وبيان حال تعاريف الطوائف صحة وفسادًا ومثله الخبر وغيره فمن قال بالكلام النفسي كالأشاعرة عرفه تارة بحقيقته الكلامية كاقتضاء فعل غير كف صيغي استعلاء فدخل كف دون لا تكف من غير عناية، وخرج النهي، وما فيه التسفل ولو من الأعلى وهو الدعاء أو التساوي كذا وهو الالتماس إذْ هما لا يسميان أمرًا اتفاقًا، بخلاف ما مع الاستعلاء، ولو من الأدنى وإلا لم يذم بأمر الأعلى ولذا لم يشترط العلو كالمعتزلة ولم يهمل الشرط كالأشعري، وحمل قول فرعون {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110]، وقد كان معبودًا لهم على معنى تشيرون أو تومرون أي تشاورون أو إظهار التواضع لملائه لغاية دهشته من أمر موسى عليه السلام وارتكاب خلاف الظاهر للدليل ليس أول قارورة كسرت في الإِسلام.
وأخرى باللفظ الدالة عليه وهو المناسب لغرضنا فصار حقيقة الأصولية ومنه قول القاضي هو القول المقتضي طاعة المأمور، بفعل المأمور به ورد الدور الوارد من جهة أخذ المشتق، والطاعة التي هي موافقة الأمر بأن الأمر يمكن أن يعرف سابقًا من حيث هو كلام فذلك كاف في معرفة الأشياء الثلاثة، أو يتميز عما عداه ويطلب تصور حقيقته.
وقيل: خبر عن الثواب على الفعل أو عن استحقاقه لئلا يلزم الخلف في خبره عند عفو العمل أي محوه بالردة ولا يقدح استلزام الخبر إما الصدق أو الكذب دونه إذ عدمهما لازم المأمور به فعلا أو تاركًا ووجود لازم للثواب عليه واستحقاقه لغةً ولا تنافي بينهما.
ومن أنكر الكلام النفسي كالمعتزلة لم يمكنهم تعريفه بالطلب فتارة عرفوه بذلك اللفظ، أو بالطلب به ومنه قول القائل لمن دونه فيزعمه أفعل مرادًا به الطلب المطلق وهو المراد بما يتبادر عند الإطلاق لا الاستعلائي، فلا يتكرر قيد الاستعلاء كما ظن فخرج الفعل والإرادة الإشارة، وما من الحاكى والنائم ونحوهما إذْ لا يسمي قوله ومن غير المستعلي ونحو التهديد ولا وجه لمنع كون الصادر من الأدنى المستعلي أمرًا لغةً، أو كونه موجب الامتثال؛ لأن ذمه شامل ودليل عليهما بل كل افعل أمر لغةً وافعل قيل كناية عن كل ما يدل على الطلب من صيغ أي لغة كانت.
والحق ما في إيضاح المفصل أنه علم جنس لذلك من لغة العرب، كفعل ويفعل لكل

(2/15)


مبني للمفعول من الفعلين فيخرج به الإخبار القول عن الطلب، ومنه صيغة افعل مجردة عن القرائن الصارفة عن الأمر أي عما وضعت الصيغة له وهو الطلب الاستعلائي فالمعروف غير المعرف غير أنه تعريف بالمبهم، وأخري باعتبار الإرادة المقترنة بالصيغة كصيغة افعل بإرادات ثلاث إرادة وجود اللفظ ودلالته على الطلب والامتثال ليخرج نحو النائم ومثل التهديد وشبه المبلغ واشتراط مجموع الثلاث لتحقيق ماهية الأمر وإلا فالقيد الأخير كاف في الاحتراز كالفصل القريب والبعيد وأخرى بنفس الإرادة كإرادة الفعل واعتراض عليهما بأن قول السيد لعبده افعل كذا بحضرة سلطان توعد له بالإهلاك على ضربه ليعصيه فيتخلص أمر والألم يظهر عذره وهو مخالفة الأمر ولا يريد ما يفضي إلى هلاكه لكن قد يطلب إذا علم أن طلبه لا يفضي إلى وقوعه فهذا يبطل كون الإرداة عينه وشرطه وقد مر تمامه وإبطالهما بلزوم وقوع المأمورات لا يلزمهم لأن الإرادة عندهم ميل يتبع اعتقاد النفع أو دفع الضرر فيجوز تخلف مراد الله تعالى عندهم بسوء اختيار العبد، لا الصفة المخصصة بالوقوع ومنه يعلم فساد الاستدلال، بنحو إيمان أبي لهب بأنه مأمور به إجماعًا وليس بمراد الله تعالى؛ لأن قوله {لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] يدل على علمه بأنه مستحيل فكيف يريده لأن الإرادة بما فسروه لا تنافي العلم، باللاوقوع والفرق بين الإدارة من العبد وبينها من غيره في التفسير أفسد لأنه مع عدم ثبوته لا يجدي، فإن تقيد الوقوع بالاختيار لا يجوز عدم وقوع المراد نعم، ينفي الجبر ونحوها التقدير والعلم متبوعًا أما تابعًا فأبعد.
الثاني: في أن مراده يختص بصيغة لازمة ولكل من الاختصاص واللزوم معنى لغوي هو اتخاذها خاصة، كما اختص به أبو حنيفة من المسائل، والتبعية أي أن لا يوجد إلا حيث يوجد الملزوم كلزوم أم المتصلة لهمزة الاستفهام.
ومعنى عرفي وهو صيرورته خاصة لها وعدم انفكاكها منه فإن اتفق مرادهما لغةً وعرفًا كان أحدهما مؤكدًا للآخر، وإلا فهم الاختصاص من الطرفين وحمل على كل منهما، والمقصود ها هنا أن الوجوب مثلا لا يستفاد من الفعل أي أن الفعل ليس أمرًا حقيقة ليفيده إذْ لا خلاف في أن كل أمر موجب ولا يخفي توقف هذه الكلية على القول بعموم المشترك، وقد ذهب إليه مالك في رواية والإصطخري وابن أبي هريرة وغيرهما من الشافعية، ولا ريب في أن أصله مجاز فالأمر في المأمور به وهو الفعل مصدرًا كان أو حاصلا به كالشأن في المشؤون من شأنت أي قصدت فالخلاف المذكور ها هنا في كونه أمرًا لا في إيجابه ابتداء وسنستوفيهما في السنة إن شاء الله تعالى.

(2/16)


الثالث: في موجب الأمر وهو مدلول مسماه والتعبير عنه بأن الأمر هل له صيغة تخصه لا يختص بالقول بالكلام النفسي وليس بخطأ، أما الأول فلأن المعنى مراد الأمر، وأما الثاني فلأن المعنى إنها خاصة به حقيقة فيه من حيث هي صيغة لا في غيره عن الندب كأبي هاشم (1) والإباحة (2) كالبعض ولا مشتركة بين الأولين معنويا للطلب، أو لفظيا ولا بين الثلاثة معنويا للإذن، أو لفظيا ولا بينها وبين التهديد لفظيا، ولا للوقف كالاشعري والقاضي ابن سريج بالجيم، فهذه تسعة مذاهب لنا في الوجوب الكتاب والإجماع ودلالته والمعقول فالكتاب من وجوه:
1 - أن قوله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، أي إذا أردنا وجوده نقول أحدث فيحدث على كل من التوجيهات الثلاث المبنية على أن يكون الشيء بالإيجاد، أو بكلمة كن نفسيا في الأزل يفيد كون الوجود مع المنع عن النقيض مقصودا بأمر كن فكذا بجميع الأوامر لأنها كن كذا وهو الوجوب والفرق بالتامية والناقصية، غير موثر في حقيقة المقصود غير أن ترتب الوجود في أمر الله تعالى اعتبارا لجانب الأمر يقتضي الجبر ورفع التكليف وقد تفضل الله تعالى له بنوع اختيار وإن كان ضروريا أي تابعا لمشيئته، أو مخلوقا بلا شعوره كالعقل فالعمل يشبه جانب المأمور أيضًا أن بتأكد وجوه الطلب وهو الوجوب المفضى إلى الوجود للعقل والديانة ولا يحتاج هذا في الأوامر الجارية بين العباد لجواز التخلف في طلبهم عن أفراده وفي مرادهم ومطلوب الله مراد لولا نفى الجبر بنقل الإرادة من الوجود المطلق إلى الوجود بالاختيار ولا تخلف في مراده وبهذا يتضح أن أوامر الشرع حقائق والتأويل ليس في دلالة اللفظ بل في ثبوت مؤداه والعمل فيندفع الأوهام المضربة إما بيان الإفادة فلأن التكون إذاكان بالإيجاد وعليه أكثر المفسرين واختاره علم الهدي وأبو زيد كان مجازا عن سرعة الإيجاد وتمثيلا لغائب كمال قدرته يشاهد مفروض قدرته على الإيجاد بأوجز الكلمات بلا صنع آخر ولا يوجد جامع هذا التمثيل إذا لم يكن الوجود قطعًا مقصودًا بالأمر وإذا كان بهذه الكلمة إجراء لسنته على التكوين بها وإن لم يمتنع بدونها كمذهب الأشعري كان حقيقة، لكن المراد الأزلي القائم بذاته أعني بلا تعطل في الأزل لكن بحسب أوقاته المخصوصة ولذا ترتب في الآية على الإرادة فلا يلزم قدم الحادث كما ظن لا المركب من الحروف والأصوات أعنى وبلا تشييد لاستحالة والتسلسل لاحتياج حدوثه إلى أمر آخر وعندهم
__________
(1) انظر المعتمد لأبي الحسين البصري (1/ 50 - 51).
(2) انظر المعتمد لأبي الحسين البصري (1/ 50 - 51).

(2/17)


يتدرج التكوين في الكلام ونفسه عين المكون والأمر التكويني لا يقتضي الفهم لإفادته بدونه بل عدمه فعلى هذا كون الوجود مقصودا به أظهروا كذا إذا كان بهما وكانت كلمة مقرونة بالإيجاد تعظيما واظهارا لقدرته كنفخ الصور، وإن أمكنه بدونها والبحث في هذا بأن الوجود حينئذ أما إن تعلق بكليهما فافتقار الإيجاد دلالة النقصان أو بكل منهما فيتوارد العلتان أو بالإيجاد فقط فلا يستقيم التمسك ساقط إذْ لا نسلم أن افتقار صفة للذات إلى أخرى له دلالة النقصان كافتقار الإيجاد إلى الإرادة وافتقارها إلى القدرة خلاف المستحيل وافتقار الكل إلى الحياة، ولا فرق في اقتضاء الافتقار النقصان بينه إلى الشرط وبينه إلى جزء المؤثر مع تعلقه بالايجاد فقط قسم لا يحتمله المورد.
2 - نسبة قيام السماء والأرض بمعنى وجودهما بأمره قال الفراء: قال لهما كونا قائمتين أي ثابتتين تماما لمنافع الخلق وأن سلم أنه كنى بالأمر عن إيجادهما ففي شرح التقويم أن طريقها السببية وذا يجعل الأمر للأيجاب المفضى إلى الإيجاد.
3 - انتفاء الخبرة عن المأمور في قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب: 36]، الآية لأن القضاء هنا إتمام الشيء قولًا كما في {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا} [الإسراء: 23]، أي حكمًا لا فعلا كما في {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12]، بدلالة عطف الرسول وكذا الأمر هو القول مصدرا، أو مميزًا أو حالًا لا الفعل إذْ لو أريد فعله لم يبق لتقى المومنين معنى ولو أريد فعل العبد أو الشيء كما في {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [آل عمران: 47]، لزم تقدير الباء وهو خلاف الأصل ولأنه لا يقتضي نفي الخيرة مطلقا لجواز أن يحكم بفعل بالإباحة.
4 - استحقاق الوعيد لتاركه في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]، الآية إذ لا وعيد إلا بترك الواجب وهنا بمخالفة الأمر قضية لتركيب الحكم عليها وظاهرها ترك الإمتثال به لأنه المتبادر لا عدم اعتقاد حقيقته ولا حمله على ما يخالفة من الندب وغيره وهذا لا يتوقف على وجوب الحذر حتى يلزم المصادرة بل على نفسه والدليل عام لأن أضافة المصدر للعموم.
5 - الذم والتوبيخ والإنكار على ترك السجود في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]، على زيادة لا أو بمعنى ما دعاك إلى أن لا تسجد إذ المانع من الشيء داع إلى تركه والمراد بإذ أمرتك قوله تعالى: {اسْجُدُوا} [الأعراف: 11]، فلولا أنه وقد ذكر مطلقا للوجوب لأمكنه أن يقول ما ألزمتني فعلام الإنكار.
6 - الذم على المخالفة في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}

(2/18)


[المرسلات: 48].
7 - عصيان التارك بقوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93]، أي تركت مقتضاه إجماعا وتوعد العاصي بقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 14]، الآية.
8 - ذمه عليه السلام أبا سعيد بن المعلى على ترك استجابته وهو يصلي حين دعاء فلم يجب مستدلا بقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24]، فأوجب ترك المأمور الذم ولا سيما مع عذر ولا يستفاد الوجوب منقوله تعالى: {إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24]، لولا إفادة الأمر وهذا على أن الظن يكفي فيما مقصوده العمل.
وأما الإجماع فتدلال الأئمة بصيغة الأمر مجردة عن القرآن على الوجوب حتى شاع ولم ينكر وسيجىء تمامه في العمل بالخبر وهذا ليس ظنا في الأصول بل قطعًا ويقينًا بالمعنى الأعم أو على كفاية الظهوركما سيجيء، وأما دلالته أي تثبت من الإجماع في صورة أخرى فإذًا كل من أراد طلب فعل جزما لا يطلبه إلا بلفظ الأمر ونحو أوجبت فعل كذا يدل على الأخبار عنه لا عليه واستعماله إنشاء عارض فالأصل عدم الالتفات إليه ولأنه بواسطة اقتضائه أمرًا.
وأما المعقول ونعني به الاستفادة من موارد اللغة لا إثباتها بالقياس أو الترجيح فمن وجوه:
1 - أن المولى يعد العبد الغير الممتثل عاصيًا ولا ذلك إلا بالوجوب.
2 - أن الإشتراك خلاف الأصل كما في سائر الأفعال والمضارع أيضًا حقيقةً في أكل كما في كل ما أملكه حر وليس حقيقة في الإباحة والتهديد لأنه يقتضي ترجيح الفعل ولا في الندب لاقتضائه الذم على الترك عرفًا.
3 - إن الائتمار لازم الأمر أي مطاوعة فإنه وإن تعدى إلى واحد لازم بالنسبة إلى ما يتعدى إلى اثنين وكل مطاوع لازم لما يطاوعه كالانكسار للكسر فالامتثال لازم للأمر غير أن قاعدة رفع الجبر جوزت التراخي إلى أوان الاختيار وإن كان المأمور به مطلوبا ومردا لمن لا يتخلف إرادته ولولا نقل إرادته من مطلق الوجود إلى الوجود باختيار العبد تمهيدًا لقاعدة التكليف لما كان فرق بينه وبين الجماد والفرق ضروري وإذا جوز الاختيار تخلف المراد عن المطلوب بأوامر الله تعالى فلأن يجوز بين العبد أولى فلذا جاز أمرته فلم يمتثل بخلاف كسرته فلم ينكسر إذْ ذلك أمر لا يتخلل في حصوله الاختيار فبهذا يسقط أن المطاوع هو الائتمار بمعنى المأمورية لا بمعنى الامتثال بل هو مسببه لأن الأثر المطلوب بالأمر ليس المأمورية بل وجود الفعل وحين منع الاختيار اللزوم عادة وشرعا

(2/19)


استعمل الأمر للوجوب المفضي إليه لغة وشريعة فهو حقيقة فيه من الحيثتين وبذا صار المطاوع قسمين وهذا حل لما رمزه المشايخ وشدوه ولما يحم أحد حول فهمه ردوه {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 73].
للمبيح أنها طريق أدنى وجود الفعل وللنادب أنه أدنى الفعل الراجح الذي يقتضيه الطلب وإن لا فارق اجماعًا بين الأمر والسؤال إلا الرتبة فيكون للندب مثله ويردهما أن الأصل فيما ثبت ان اللفظ وضع له وهو الطلب ها هنا الكمال لأن الناقص ثابت من وجه لا سيما إذا لم يمنع مانع كالقصور في الصيغة باقترانها بالصارف عن الإيجاب نحو {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، أو في ولاية المتكلم كما في الدعاء والالتماس فإنه معترض الطاعة وهما صرفهما قصور ولاية المتكلم عنه. قالوا: قال عليه السلام: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" (1) رده إلى مشيئتنا قلنا بل إلى استطاعة وهو معنى الوجوب للقائلين لمطلق الطلب أن الثابت في مقتضاه رجحان الفعل فيكون للقدر المشترك دفعا للاشتراك والمجاز. قلنا: بل مع خصوصية الوجوب لأدلتنا وإما أنه إثبات اللغة بلوازم لماهيات فلا بل عدم القول بالخصوصية بلا دليلها وكذا القول لمطلق الإذن تقريرا وجوابا وللمشرك إطلاقه عليهما والأصل الحقيقة. قلنا: المجاز أولى من الإشتراك وللواقفية أولا لو تعين ما وضع له فبدليل.
وليس إذْ لا مدخل للعقل والنقل آحادًا لا يفيد العلم وتواترًا يوجب استواء طبقات الباحثين، والاختلاف ينافيه قلنا لأتم الحصر بل بالأدلة الاستقرائية المتقدمة ومرجعها تتبع مظان استعماله والأمارات الدالة على مقصوده عند الإطلاق وهنا فائدتان:
1 - أن الاستنباط من النقل قد لا يسمى نقلا وإن كان عائد إليه، كقولنا الجمع المحلي باللام عام إذ يدخله الاستثناء فيراد بالنقل ما مقدماته القريبة نقلية.
2 - إن الظن كاف في مداولات الالفاظ.
وثانيا: أنه مستعمل في معان فلا يتعين شيء منها للإرادة إلا بدليل:
1 - الوجوب أقيموا.
2 - الندب فكاتبوهم.
3 - لإباحة فاصطادوا لأكلوا وأشربوا فأنهما واجبان بخلاف {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51].
__________
(1) أخرجه البخاري (265816) ح (6858).

(2/20)


4 - التهديد ويسمى التوبيخ {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، ويشترط قدرة المخاطب عليه.
5 - التأديب كقوله عليه السلام: "كل مما يليك" (1) وهو لمحاسن الأخلاق.
6 - الإرشاد {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وهو للمنافع الدنيوية والندب للأخروية.
7 - الإنذار {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر: 8]، وهو إبلاغ مع تخويف والتهديد تخويف.
8 - التقريع وهو التعجيز {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ} [البقرة: 23]، ولكون المخاطب قادرا فقدله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} [الإسراء: 64]، من التهديد.
9 - الإفحام هو الإسكات {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] ويختص بموضع المناظرة بخلاف التعجيز.
10 - التكوين {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117].
11 - الدعاء والسوال {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127].
12 - الإهانة {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49].
13 - التسوية {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطور: 16].
14 - الإجلال وهو الإكرام {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46].
15 - التعجب {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38].
16 - الاحتقار {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس: 80]، فالإهانه للمخاطب والاحتقار لفعله.
17 - الإخبار {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82]، ومنه فاصنع ما شئت، أي صنعت عكس {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233].
18 - الامتنان {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 142]، ففيه إظهار منه بخلاف الإباحة.
19 - التسخير {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، ويقصد فيه الانتقال إلى حالة مهينة وسرعة الوجود في التكوين.
20 - التمني ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي، وليس ترجيا لأنه في زعم المحب الساهر
__________
(1) أخرجه البخاري (5/ 2056) ح (5062)، ومسلم (3/ 1599) ح (2022).

(2/21)


المتكلم مع النجوم من برجاء الشوق الباهر مستحيل الانجلاء وبلا آخر.
21 - الالتماس وهو ظاهر (1) قلنا الأصل ترجيح التجوز وعد الاشتراك واستعمال مطلقه في غير الوجوب ممنوع ومع أن غيره مشترك في استدعاء القرينة الصارفة وذا المارة المجاز لو اعتبر في التوقف مثله من الاحتمال يبطل حقائق الألفاظ إذْ ما من لفظ إلا وفيه احتمال تجوز، أو خصوص أو غيرهما أو حقائق الأشياء لاحتمال تبدلها لحظة فلحظة في جنب قدرة الله تعالى بل يعتبر في أن لا يكون محكما ومن ادعاه والفرق بأن لهذا الاحتمال بخلافهما دليل كالوضع ممنوع وإلا فلا كلام وكالشيوع وكثرة الاستعمال غير مفيد لأنهما في المعاني المعلومة مجازيتها أكثر من أن يحصى وأوفر منهما في أكثر هذه المعاني ولأن الأشياء كما يحتمل كثرة تبدلها أيضًا فمن أين علم الشيوع والكثرة ها هنا دونها ثم نقول لو وجب لتوقف في الأمر لذلك لوجب في النهي لاستعماله في معان:
1 - التحريم {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130].
2 - الكراهة النهي عن الصلاة في أرض مغصوبة وعنها في ثوب واحد.
3 - التنزيه {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6].
4 - التحقير {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [الحجر: 88].
5 - بيان العاقبة {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} [إبراهيم: 42].
6 - اليأس {لَا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 66].
7 - الإرشاد {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101].
8 - الشفقة "لا تأخذوا دوابكم كراسي ولا تمشوا في نعل واحد".
9 - الدعاء كقوله عليه السلام: "لا تكلني إلى نفسي" (2).
10 - التسلية {لَا تَحْزَنْ} [التوبة: 40].
ولأن النهي أمر بالانتهاء وكان موجبهما واحد وذا باطل لا لضديتهما مطلقا كما ظن، بل للقطع ببديهية اللغة والشرع بالفرق بينهما حتى من الصبيان والمجانين، ومن
__________
(1) انظر إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 346 - 345)، المختصر في أصول الفقه لابن اللحام (ص 112).
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه (3/ 250) ح (970)، والحاكم في مستدركه (1/ 730) ح (2000)، والضياء في المختارة (6/ 300) ح (2319)، وأبو داود (4/ 324) ح (5090)، والنسائي في الكبرى (6/ 147) ح (10405)، وابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 20) ح (29154)، والإمام أحمد في مسنده (5/ 42)، والطبراني في الصغير (1/ 270) ح (444).

(2/22)


أجاب بإن بين التوقف بين معاني الأمر وبينه بين معاني النهي بونًا بينا لم يفهم معنى التوقف ها هنا فإنه بمعنى لا ادري ولا يتصور التفاوت فيه، لا بمعنى التردد بين المعاني وإلا لم يبق بينه وبين القول بالاشتراك اللفظي فرق ولم يكن لذكر المعاني التي لم يقل أحد بكونه حقيقة فيها وجه وهو غير المعاني الأربعة لا الخمسة فإنه خطأ وتفسيرها بالأحكام الخمسة أفسد وزمام الفهم بيد الله تعالى ثمت ثلاثة:
1 - كذا بعد الحظر لعدم فصل الأدلة ولأن الثابت لا يتغير بلا مغير والورود بعده ليس به، وقيل بالإباحة وهو اختيار الشافعي وعلم الهدى - رحمه الله - أو بانتدب حتى قيل يستحب العقد، وتوقف أمام الحرمين وقيل أن علق بزوال علة عروض النهي كان كما قبل النهى ذكران هذا ليس ببعيد ونقص بقوله تعالى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب: 53]، فإن الدعوة تزيل علة حرمة الدخول وهي عدم الإذن وقد وجب عندها، وجوابه أنها مستلزمة لإزالتها لنفس الإزالة والكلام فيها، قالوا: غلبت في الإباحة بعده في كلام الشارع فتقدم على مقتضي اللغة نحو فاصطادوا فانتشروا فادخروها فزروها فانتبذوها قلنا لا ثم الغلبة كما في {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا} [التوبة: 5] وكالأمر بالصلاة بعد السكر وبها وبالصومَ بعد زوال الحيض والنفاس، وبالقتل لمسلم أو ذمي لقطع أوردة أو حرب وبالحدود للجنايات وأمر المولى بالسقى مثلا بعد النهي وفهم الإباحة فيما ذكروا بالنصوص المبيحة، أو بالقرائن كشرعية الإصطياد والبيع والإدخار وغيرها لنا فلوكان علينا وذا بالوجوب لعاد على موضوع بالنقض ولذا فهمت في الكتابة به عند المدانية والإشهاد عن المبايعة مع عدم قدم الخطر.
2 - إذا أريد به الإباحة والندب قيل حقيقة وعليه فخر الإِسلام لأن معناهما بعض معنى الوجوب والشيء في بعضه حقيقة قاصرة كالإنسان، والرقبة في الأعمى والاشل وكالجمع في بعض الأفراد وفيها منع إذ جواز الترك مأخوذ فيهما وبه تباينهما وإذ إطلاق الكل على الجزء من مشاهير طرق التجوز وقيل مجاز إذ لو كان حقيقة لكان المندوب والمباح مأمورا بهما حقيقة فلا تنفيه عنهما وقد صح أني غير مأمور بصلاة الضحي وصوم أيام البيض بخلافه بالصلوات الخمس، وصوم رمضان ولتعدي أصله وهو مختار الكرخي والجصاص ورد بأن الجزء ليس غير الامتناع انفكاكه. وجوابه: أن الغير في حد المجاز لغوي لا ما اصطلح في الكلام وإلا لم يوجد مجاز إذ لا بد فيه من إطلاق الملزوم على اللازم الغير المنفك فليس غيرا أو تخصيصه بما ليس جزأ غير متعارف أصلًا على أنه ليس إطلاق الكل على الجزء لما مر من المباينة بل استعارة بجامع جواز الفعل قيل الأمر غير

(2/23)


مستعمل في تمام الندب والإباحة بل في جواز الفعل الذي هو حزؤهما وجواز الترك إنما يثبت بعدم دلالة هذا الأمر على حرمة الترك لا بالأمر وجوابه أن معنى الأمر لا يكون ندبا وإباحة بل أمرًا ثالثا ليس معدودا في معانيه ولو سلم ثبوته فليس الكلام فيه فليس كل مامه الخاطر صحيحًا ثم الشيء في بعضه بمعنى الفائت بعض أجزائه الغير المحمولة مع تمام مسماه حقيقة قاصرة كما في الأمثلة المذكورة إذ لا ينتقص مسمى الإنسان بنحو العمى وكذا ما وراء الاثنين تمام حقيقة الجمع العام عند شارطي الانتقال، وإن كانت قاصرة عند شارطي الاستغراق. وقيل: هذا الخلاف في "أم ر" لا في الصيغة فهو عين ما مر في المبادي أن المندوب مأمور به وليس بصحيح إذ لا يساعد الأدلة من الطرفين وللتسوية بين الندب والإباحة هنا لأنه وإن قيل بأنه في الإباحة مجاز بالاجماع وإذ هذا تتمه موجب الصيغة.
3 - إذا استعمل في الوجوب ثم نسخ فبقي الندب أو الإباحة على مذهب الشافعي كما مر فالصيغة حقيقة فيهما لا مجاز ليجتمع الحقيقة والمجاز في الإرادة لأن مرادها الوجوب وإن بقى بالآخر بعض مدلولاته كماذا قلت لشبح تراى هذا إنسان وبعد ما دنا منك ليس بناطق أو ذهب إلى كذا وبعدما نصف الطريق لا نذهب.
الرابع: في أن مطلقه عن قيد العموم وعدمه لا يقتضي العموم أي شمول الأفراد والتكرار أي تعدده في الأوقات وعند الاقتصار على الثاني كالشافعية لم يتدرج فيه الأثنين أو الثلاث معا في طلقي تحته ومعناه اقتضاء الواحدة كمذهب أبي الحسين ومالك وكثير منهم لعدم اقتضائهما كمختار أمام الحرمين، وقال الأستاذ للتكرار مدة العمر دائمًا في المطلق وبحسب الوقت إن أمكن في المؤقت إلا لدليل فلا يلزم تكليف ما لا يطاق وقيل بالوقف يمعنى التردد الاشتراكي وكما لا يوجبه لا يحتمله أيضًا ليثبت بالنية لا مطلقًا خلافًا للشافعي في رواية والصحيح منه كمذهبنا ولا معلقًا بشرط نحو {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} [المائدة: 6]، الآية أو مخصوصا بوصف نحو {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]، الآية لأن دليلنا مشترك ولذا لم يتكرر الطلاق في إن دخلت الدار فأنت طالق، أما إلحاق الشرط بالعلة ففاسد لأنها موجبة دونه خلافا لبعض منا ومن الشافعية وقولهم لا يحتمله غلا حينئذ كقول النحاة لا يجوز صرف غير المنصرف إلا لضرورة.
لموجبه أولا أنه مختصر من طلب الفعل بمصدرة المعرف كاضرب من اطلب منك الضرب فيكون في معنى المطول العام لجنسيته والأصل في الجنس عند عدم العهد العموم قلنا لا دليل على التعريف.
وثانيًا: فهم الأقرع بن حابس حين قال النبي عليه السلام: "فحجوا" التكرار الذي فيه

(2/24)


العموم حيث قال: أكل عام يا رسول الله، فسكت الرسول حتى قالها ثلاثًا، فقال: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم"، أو سراقة حيث قال في حجة الوداع: ألعامنا هذا أم للأبد، والأمر غير مصرح به، قيل: لو فهما لما سألا وأجيب بأنه لعله لمكان الحرج المنفي عنه، قلنا بل مورث الشبهة قياسه على سائر العبادات المتكررة زعمًا منه تكرر سببه مثلها مع معارضة احتمال سببية البيت.
وثالثا: قياسه على النهي قلنا قياس في اللغة ومع الفارق، إما لأن انتفاء الحقيقة مستغرق دون إثباتها، أو لأن دوام فعل بعطل سائر المأمورات والمصالح لا دوام ترك إذ التروك تجتمع وتجامع الأفعال، قيل: الأمر بالشيء نهى عن ضده وإذا وجب التكرر في انتفاء الضد وجب في ثبوته، قلنا لا ولو سلم فإنما يراد النهي عن الضد دائما إن لو أريد الأمر الشيء دائما وإلا ففى ذلك الوقت فاقتضاء النهي الضمني عينا كان أو لازمًا للأمر التكرر موقوف عليه فلو استفيد منه لدار.
ورابعًا: تكرر العبادات قلنا لا بالأمر بل بغيره من السنة والإجماع وربط الحكم بالسبب.
وخامسا: تمسك الصديق - رضي الله عنه - في التكرار بقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، من غير نكير حين امتنع بنو حنيفة عن أدائها بعد وفاته عليه السلام، قلنا لعل قوله أو فعله عليه السلام كإرساله الجباة كل حول إلى الملاك أفاد تكراره.
وسادسا: أنه لو لم يتكرر لم يزد النسخ ولا سيما إذا اقتضى الإمرة ولا الاستثناء وإلا كان الواحد حسنا وقبيحا ومستثنى عن نفيه، قلنا لا اللزوم فإن النسخ قبل الفعل جائز ولئن سافلا نسخ إلا بعد دليل التكرار وكذا الاستثناء عين دليله لا النسخ كما ظن وإلا لم يفهم التكليف قبله، ولمجوزه مع إيجاب الوحدة كالشافعي أنه لما اختصر من طلب الفعل كمصدره المنكر الواقع على الأعلى والمحتمل للكل كان كذلك، قلنا: لكنه مفرد ومن الواجب في ألفاظ الوحدان رعاية الوحدة حقيقة إن أمكنت وإلا فاعتبارية ومحض العدد بمعزل منهما ويجيء الحديثان تقريرا وجوابا، ولمجوزهما كالإمام إن شأن الحقيقة احتمالهما إذ كل منهما قيد خارج والامتثال بالمرة لوجود الحقيقة لا لدلالة الأمر، قلنا: لا إن اسم الجنس للحقيقة لا شرط بل مع قيد الوحدة بخلاف علم الجنس ذكره أئمة العربية، ولئن سلم فغايته أن لا يفهم الوحدة من المادة لا من الصيغة، قيل: حسن الاستفسار دليل الاشتراك ولا أقل من المعنوي، قلنا: قد يستفسر عن خلاف الظاهر لشبهة، ولموجبه عند التعليق والوصف تكرر الأحكام عندهما قلنا لفهم السببية لا للأمر، فالتكرر ثمة عقلي لا

(2/25)


صيغي ولذا إذا لم يعتبر التعليل لم نتكرر كمسألة الطلاق، إذ ليس للعبد نصب العلة؛ لأنه شركة في الشرع ولا إذن له فيه، بل في مجرد التعليق.
ولذا لا يقع بقوله جعلت الدخول علة للطلاق ولا يعتق جميع غلمانه السود بقوله أعتقت فإنما لسواده والتكرر في كلما للصيغة لا للعلية. قيل: هذا الخلاف فيما لم يثبت عليه الشرط أو الوصف نحو إذا دخل الشهر فأعتق عبدًا من عبيدي مستدلًا من يثبته بنحو: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]، مما ليس بعلة، وقد تكرر فأجيب بأنه بدليل آخر ولذا لم يتكرر الحج وقد علق بالاستطاعة. وأيضًا يعد العبد بالاشتراء مرة بعد أن دخلت السوق فاشترى كذا ممتثلا وليس بشيء؛ لأن التكرر ثمة بالعلية الثابتة بدليلها لا للصيغة والكلام فيه وللواقفية ما مر أنه لو ثبت فبدليل ولا مدخل للعقل والنقل آحاد إلا يفيد وتواترا يمنعه الخلاف قلنا كما مر أن دليله الاستقراء وأن الظن كاف في معرفة اللغة فالحق مذهب أصحابنا أنه للوحدة إلا لدليل؛ لأن الوحدة مراعي في ألفاظ الوحدان بإجماع أئمة العربية، ولا يلزم من جواز تقيده بالمرة والكثرة التكرار والتناقض لجواز كون التقييد لتأكيد الحقيقة أو لتعيين المجاز، فالمفرد المقترن بأدوات العموم عام بدليله فلا يرد نقضا كما زعم وكذا اقتران دليل العدد والعموم في نحو طلقي ثنتين أو ضم عشرة أو كل يوم فإنه مغير كالشرط والاستثناء والغاية وكالطليقة في اختاري تطليقة فقالت: اخترت فهي رجعية لا مفسر كما في اختاري نفسك فقالت اخترت أو بائنة، ولذا كان الوقوع به فلم يقع حين ماتت قبله وتلك الوحدة إما حقيقية موجبة تثبت ولو بلا نية أو اعتبارية كالجنس الواحد الذي هو جميع الأفراد محتملة لا يثبت إلا بنية والوحدان كما في جميع أسماء الأجناس إما وحدان صيغة نحو: لا أشرب ماء أو الماء وإما دلالة نحو لا أتزوج النساء، ولا أكلم العبيد وبني آدم حيث لا عهد تحقيقًا كما في خالعني على ما في يدي من الدراهم أو تقديرا نحو لا أكلمه الأيام والشهور أو معنى نحو لا أكلم عبيد زيد هذه لأنه جمع صار مجازًا عن الجنس لئلا يلغو آلة العهد ويعمل بالجمعية من وجه، وذلك مؤيد بالنص والعرف فإن كل ذلك يقع على الأقل ويحتمل الكل والثمرة في طلقي نفسك أو امرأتي تطلق واحدة بلا نية ومعها ثلاثًا لاثنتين إلا في الأمة خلافا للشافعى، ولا بالعكس خلافا للواجب ولا مع النية مطلقا خلافا للواقفين وإنما لا يحتاج الواحدة إلى النية عند الإمام لأنه أدنى ما يتحقق به الحقيقة لا لدلالة اللفظ وكذا ينبغى في إن دخلت الدار فطلقي نفسك أن لا يقع ثلاث بلا نية خلافا للطائفة الأخيرة وإنما لم يعمل نية الثلاث في طلقتك وأنت طالق؛ لأنه حين

(2/26)


أنشأ نية لا يحدث إلا ما يقتضيه إخبار به وهو الواحدة إذْ الخبر لا يقتض وجود المخبر به إلا ضرورة الصدق فيتقدر بقدرها بخلاف الإنشاء الأصلي.
وبخلاف أنت بائن الثلاث أحد نوعي البينونة المدلولة ولغلظتها لا تثبت إلا بدليل "تعميم" كذا كل مصدر دل عليه اسم فاعل فرد كالسارق فيراد به السرقة في حق كل سارق يد واحدة إذ لامتناع إرادة كل السرقات وإلا فلا قطع براد سرقة واحدة وبها لا يقطع يدان إجماعًا وإن اقتضاه ظاهرها ولا ليسري أو لا إجماعا وسنة قولًا وفعلا وبقراءة ابن مسعود إذ يحمل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم والحادثة كمتتابعات وكقوله عنيت سالما بعد ما قال أعتق عبدا في فلا تقطع أصلا.
وقال الشافعى: تقطع في الثالثة اليد اليسرى ثم الرجل اليمنى وإلا لتعدد القطع، ولا يحتمله النص ولا يقال ليس لكل سارق إيمان لأن أيديهما كقلوبكما وإذا تحقق إرادة اليد الواحدة بل واليمين فليس أيديكما مثل عبيدكما عاما لكل يد ولا يرد تكرر الجلد بتكرر الزنا والأيتان متماثلتان؛ لأن محل الجلد باق دون محل القطع كما بعد الرابعة.
الخامس: في أن مطلقه عن الوقت كالزكاة وصدقة الفطر والعشر والنذر بالصدقة المطلقة وهو قسيم المؤقت الذي له وقت محدد إن أخر عنه يكون قضاء أو غير مشروع كالصوم في الليل إن قيل بإيجابه العموم فللفور وإلا فللتراخي بمعنى عدم وجوب التعجيل وهو مذهب الشافعى أيضًا لا وجوب التأخير فإنه مذهب الجبائيين وأبي الحسين البصري وبعض الأشاعرة، وقيل للفور فلو أخر عصي وينسب إلى بعض الحنفية.
وقال القاضي: يقتضي الفور إما الفعل في الحال وإما العزم عليه في ثانيها، وقال الإِمام بالوقف في مدلوله لغه أهو الفور أو القدر المشترك وبالامتثال بالفور؛ لأن وجوب التراخي غير محتمل بخلاف العكس والصحيح من مذهبه ما في البرهان من تجويز الامتثال بهما والتوقف في الإثم بالتأخير لكن لا كالقضاء فإن الصيغة مسترسلة، وقيل بالوقف فيه وفي امتثال المبادر لاحتمال وجوب التراخي فهذه خمسة، لنا: أن المطلوب مطلق الفعل وكل من الفور ووجوب التأخير صفة خارجية لا دلالة عليهما وأنه لو حمل على أحدهما عاد على موضوع إطلاقه بالنقض وأنه جاء لهما فلا يثبت الفور إلا بقرينة ولا يقلب لأن ما قلنا به من التراخي أعم وقريب من قولهم ورد لهما، والأصل عدم الاشتراك والتجوز لا كون أحد التقييدين تكرارا والآخر تناقضا كما مر.
للقائل بالفور أولًا أن العبد المأمور بالسقي يعد عرفا بالتأخير من غير عذر عاصيا، قلنا بقرينة إن طلب السقي عند الحاجة لا لمطلق الصيغة.

(2/27)


وثانيًا: أن كل خبر وإنشاء للمحال فيلحق بالأغلب، قلنا قياس في اللغة وأنه للاستقبال بخلافهما. وثالثًا: أن النهي للفور فهكذا هو لأنه مثله أو لأنه نهي عن الضد، قلنا قد مر جوابهما ولأن النس يفيد التكرار دونه.
ورابعا: ذم إبليس في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75]، الآية على ترك المبادرة والألم بتوجه، قلنا: أمر مقيد بقوله فإذا سويته والكلام في المطلق وبمثله يراد الفور عرفا، أما أن فاء التعقيب قرينة الفور فلا؛ لأنها جزائية ليس من موجبها التعقيب ولذا قال أبو حنيفة: يكبر القوم مع الإِمام مع قوله عليه السلام: "إذا كبر الإِمام فكبروا" (1).
وخامسا: أنه لو جاز التأخير شرعا لوجب أن يعرف وقته وإلا كان تكليفا بألح سواء كان آخر أزمنة الإمكان أولا، ولا دلالة عليه ولا يجاب بالنقض بالتصريح كافعل متى شئت لأن فيه دلالة على التعميم فليس مثله بل بأن المعرفة إنما يجب لو وجب التأخير ولم يكن وقته مسترسلا بل معينا وليس فإن عدم التعيين إطلاق عرفا.
وسادسا: أن النصوص نحو: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} [آل عمران: 133]، والمراد سببها اتفاقا وهو فعل المأمور به واستبقوا الخيرات وفعله منها أوجبت الفور، قلنا دلالتها على أفضلية الفور لا الوجوب وإلا فلا مسارعة ولا استباق إذْ لا يتصوران في المضيق ولئن سلم فليس في جميع أسباب المغفرة إذ لا عموم للمقتضي وإن سلم فبدليل منفصل وهو هذه الأوامر ولا نزاف فيه.
وسابعًا: أنه لو جاز التأخير فإلى أمد إذْ لوكان إلى أبد جاز تركه فلا يكون واجبا فلابد من تعيينه وإلا لكان التكليف بامتناع تأخيره عن ذلك الأمد لا بالأداء إليه كما ظن تكليفا بالمح ولا ذم إلا بذلك وغايته النوعي كحد يغلب على الظن فيه إن عدم يفوته وذلك بأمارة كالمرض فلا يجب على من ليست فيه كمن كموت فجأة فلا يكون الواجب شاملا والكلام فيه.
قلنا: منقوض بقوله افعل متى شئت وبالموسعات العمرية وليس التمسك ها هنا بعدم
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (3/ 34) ح (1576)، وابن حبان في صحيحه (2/ 128) ح (402)، وابن عوانة في مسنده (1/ 454) ح (1681)، والبيهقي في الكبرى (2/ 141) ح (2652)، والدارقطني في سننه (1/ 330)، والنسائي في الكبرى (1/ 222) ح (651)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 238)، والإمام أحمد في مسنده (2/ 438) ح (9650).

(2/28)


الدلالة حتى يندفع بالفرق كما ظن وحله أنه إلى الأبد بشرط عدم التفويت، وتقييد المباح بشرط فيه خطر مستقيم شرعا كالمشي في الطريق العام بشرط السلامة والرمي إلى الصيد بشرط ألا يصيب معصوما.
وثامنًا: أنه لو جاز الترك في أول الوقت فأما مع البدل فيجب أن يسقط عند الإتيان به، وليس إنفاقا ولا يختص البدلية بأول الأوقات وإلا فلا وجوب في غيره، إذ ليس الأمر للتكرار وأما لا معه فلا واجب إذ ما يجوز تركه بلا بدل ليس بواجب.
قلنا بعد النقض ما مر لا يلزم من عدم البدل في أول الوقت عدمه مطلقا فلعله الإثم بالتفويت، وإن أريد البدل من الأعمال فغير ما ملتزم في الواجب كالموسعات العمرية.
للقاضي ما تقدم من أن الفعل والعزم حكم خصال الكفارة وكذا جوابه بإن الإمتثال ليس إلا بالفعل والعزم من أحكام الأيمن.
للإمام أن وجوب الفوز محتمل دون التراخي فيجب البدار، ليخرج عن العهدة بيقين وهذا على ظاهر المنقول عنه لا على الصحيح "قلنا لأنما لجواز التأخير بالأدلة السالفة".
السادس: في أن للأمر بالشىء حكما في ضده أولا ويذكر النهى معه استطرادا "ولتحرير المبحث مقدمات ينكشف بها سره".
1 - أن لكل منهما لفظا مركبا من مادة هي "ام رن هـ ي" وصورة ومفهوما، هو نحو أفعل كذا ولا تفعل ضده، ومعنى مفهوم هو إيجاب الفعل أو ندبه وتحريمه، أو كراهته فليس الخلاف في اللفظين لتباينهما ولا في المفهومين له ولا اختلافهما بالإضافة بل في معنيهما أي الإيجاب والتحريم وغيرهما ذكره أبو الحسين في المعتمد.
2 - أنه بين الأمر والنهى المعينين وإنما يتعينان بتعين متعلقيهما فالتعين معتبر في أربعة مواضع في نفس الأمر، وأن اعتبره بعضهم في الأمر مثلا، وبعضهم في المأمور به.
3 - ليس المراد بالضد الذي تعلق به النهى أو الأمر الضمنيان ترك المأمور به كما ظن أو ترك لمنهي عنه كما ينسب إلى علم الهدي - رحمه الله - وإلا صار النزاع لفظيا، ويلزم كون النهى نوعا من الأمر وقيل لأن النهى عن تركه طلب الكف عن الكف وانتهي طلب الكف عن الفعل وكذا الأمر وهو منقوض بلا تكفف عن الصلاة وكف عن الزنا ولا مطلق الضد لأنه غير معين والضد من حيث هو ضد مضأيف ومن حواص الإضافة تكافؤ المتضائفين تحصيلا وإطلاقا وإن عين بالكف أو الترك المذكورين فقد بان فساده ولأنه لا معنى لاختلافهم في مطلق الضد أن الثابت حرمته أو كراهته ولا للتفصيل بإنه هل يفوت المأمور به أو لا بل أضداده الجزئية المعينة كان يكون الأمر بالصلاة نهيا عن الأكل

(2/29)


والشرب وكلام البشر وغيرها مما هو أضداد الشرائط والأركان المعتبرة شرعا أو وعقلا وعرفا، ولذا سيقول الجصاص بأن النهي عن فعل له أضاد ليس أمرا بشيء منها.
4 - قيل: مبني القول بالعينية أعتبار مجموع الاضداد المعينة وبالاستلزام اعتبار كل منها فالأمر بالشي عين النهي عن مجموع الأضداد ومستلزم للنهي عن كل منها وهذا لا يتأتي من جانب النهي وظني أن مبني القول بالعينية النظر إلى نفس التكليف، لتفاصيل لوازمه وسيجيء توضيحه.
5 - ذكر كثير من المشايخ كأبي اليسر وشمس الأئمة وغيرهما أن تصوير العينية يختص بأمر الفور كالواجب المضيق ليدوم فيكون كل ضد منه مفوتا والحق خلافه لجواز كون الموسع نهيا عن مجموع الأضداد الجزئية الشاملة للوقت إذ لولا شمولها لم يتحقق التضاد بحسب الوقت المعتبر أو الكائنة وقت الاشتغال كما مر من المثال فليس هذا النزاع مبنيا على أن الأمر إيجابا بنفس النهي عن ضده متحدًّا وجميع أضداده متعددًا تحريمًا، وهو قول الجصاص وقيل عن غير عين متعددا ليناسب النهي وإنه يستلزم النهي عن الكل لوقوع النكره في سياق النفي وآخرا يتضمنه أي يستلزمه والنهي كذلك في الوجهين، عند القاضي أي أمر بضد بعينه واحدًا ولا بعينه متعددا ولا يستلزمه آخرا وعند الجصاص أمر بضد واحد لا بشيء من الأضداد المتعددة وقيل لا انتهي في الوجهين فقال بعضهم وندبا نهى ندب للترك أي تنزيه عن الفعل وبعضهم لا، وقال علم الهدي الأمر نهي بضد واحد وهو تركه والنهي أمر بضد المنهي عنه، وهو تركه وإن تعدد طرق الترك وفيه ما مر "وممن قال يستلزم حرمة ضده من قال يوجبها أي بالإشارة، ومن قال يدل عليها أي بالدلالة ومن قال يقتضيها أي بالاقتضاء، ويعني بالمقتضي الثابت بالضرورة غير مقصود لا ما يتوقف عليه غير متطوق تصحيح المنطوق واختار الإمام والغزالي أن لا عينية ولا استلزام وهو مذهب المعتزلة ومبناه وجوب ملاحظة الحكم للحاكم، وليس تحريم الضد للإمر وايجاب الضد للناهي ملاحظا فففي كل منهما ثلاثة عشر قولا ومبنى الخلاف أن إيجاب الشيء إيجاب لمقدماته العقلية والعرفية كالشرعية أولًا، فإن قال إيجاب ومن قضيته أن لا يشترط الملاحظة جعل عينه أن اعتبر نفس التكليف والحكم فإنه واحد ولازمه أن اعتبر تفاصيل لوازمه على الكيفيات الثلاث للزوم في الأوال الثلاثة ثم من جعل الكف عن فعل مستلزما لفعل ضد له وأقله السكون طرد الحكم في النهي بأحد الاعتبارين ومن فر من الإلزام الفظيع وهو إلزام وجوب كل من الزنا واللواطة لكونه ضد الآخر أوكن مذهب الكعبي في ابطال المباح وجعله واجبا لكونه ضد منهي عنه اقتصر

(2/30)


عليه، وأما الآخران فلا يصلحان سببا للاقتصار كما ظنوا إذ لا ينافيان الاستلزام كما خصص بأمر الوجوب دون الندب للزوم إبطال المباح إذ ما من وقت إلا ويندب فيه فعل فإن استغراق الأوقات بالمندوبات مندوب فلو كان ضده مكروهًا لم يكن مباح بخلاف استغراقها بالواجبات.
وأما فقدان الذم على الترك فليس داعيا؛ لأن التنزيه على الترك ها هنا كاف، ومن لم يقل بأنه إيجاب إلا للشرعية؛ لأن الملاحظة أعني للشارع تختص بها فقد نفي، إما في غير الشرعي فلأن السكوت لا يصلح دليلا إلا يرى أن الأمر لا يصلح للإيجاب في غير مدلوله وقد وضع له فلان لا يصلح للتحريم ولم يوضع له أولى وأما في الأمر الشرعي فلأن البحث لغوي ويكفي في الشرعي الاتفاق على الإيجاب في بحه المقدمة فاعلم أن الحق الذي ذهب إليه أصحابنا ثبوت الاستلزام من الطرفين في الجملة ولا يرو الالزام الفظيع وإبطال المباح لعدمة فيهما ولما مر في تلك المسأله أن الفعل الواحد يجوز اتصافه بالحرمة والوجوب أو به وبالإباحة وعارضا والاعتبار في نوط الثواب والعقاب لجهة في ذاته لكونه أقوى وأن الملاحظة غير واجبة للأحكام اللزومية سيما الاقتضائية. ولذا لم يثبت المقتضي لكونه غير مقصود إلا بقدر ما يندفع به الضرورة ولذا اختاروا وجوب جميع مقدمات الواجب كما مر ويقرر الأصل ها هنا عند المتأخرين المحققين على أن تحريم ضد المأمور به أن قصد كما في قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222]، فلا كلام فيه وإلا فلم يعتبر تحريمه إلا حال تفويته الَمأمور به كالإفطار للكف المستدام المستفاد من قوله تعالى: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فإذا لم يفوته اقتضى كراهته؛ لأن الضرورة تندفع به كالأمر بالقيام في قوله عليه السلام: "ثم ارفع رأسك حتى تستوي قائما" (1) ليس ينهى عن القعود قصدًا فيكره الصلاة لو قعد فقام ولم يفسد به.
وكذا النهى قيل يقتضي كون الضد في معنى سنة واجبة أي موكدة فإنها قريبة منها والمختار أنه يحتمل اقتضائه فقال الجصاص هذا منقوض بقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} [البقرة: 228]، الآية حيث أوجب ضده وهو الإظهار لكونه ضدًا واحدًا بخلاف نهي المحرم عن لبس المخيط فلم يوجب لبس شيء متعين غيره، ولذا وجب قبول قولها فيما تخبر به من حيض أو حبل أو غيرهما، قلنا: إذا لم يفوت عدم الضد ترك المنهي
__________
(1) أخرجه البخاري (5/ 2307) ح (5897).

(2/31)


عنه وهنا له ضد واحد فيفوت فدمه تركه أو لبس بنهي بل نسخ لجواز الكتمان كقوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52]، نسخ لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ} [الأحزاب: 50]، الآية أو للإباحة المطلقة في حقه عليه السلام فلم يبق مشروعا كخبر "لا نكاح إلا بشهود".
فروعنا:
1 - النهي عن الخروج والتزوج في قوله تعالى {وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]، {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235]، لما أفاد وجوب التربص والكف عنهما بالاقتضاء لا قصدا لم يعتبر فعلا بل إثما وحرمة، ومن الجائز اجتماع الحرمات كصيد الحرم للمحرم بوجهين وخمر الذمى على الصائم الذي حلف لا يشرب خمرًا بوجوه جرى التداخل في العدة للزوج، والواطيء يشبه مقصودهما ولذا سميت أجلا فيجتمع اجتماع الآجال كما في الديون وكمن حلف مرات لا يكلم يوما ينقضي إيمانه بيوم وكمرأة تحرم على أزواج بثلاث تطليقات تنقضي بإصابة زوج واحد بخلاف الصوم الذي قاس عليه الشافعي فإن الكف وجب ثمة مقصودًا فاعتبر فعلا ولا تداخل فيه، وحين لم يثبت حرمة الوقاع فيه قصدا لم تتعد إلى دواعيه عكس الاعتكاف تأثيما لا افسادا وعكس الإحرام إلا في وجوب الدم للتمتع بالمرأة، ولذا تساوى الإنزال وعدمه فيه إذ منهية الرفث ولا يتعلق عقوبة حقيقته كما دونه كالحد والكفارة في الصوم إما معنى بهيهما فقضاء الشهوة فيفسدهما بعد الإنزال لا قبله.
2 و 3 - جواز أبو يوسف - رحمه الله - صلاة من سجد على نجس فأعاد على طاهر لأنه لا يفوت المأمور به، فتكره ولا تفسد، وبقي تحريمة من ترك القراءة في ركعات النفل في جميع المسائل الثمانية لأن حرمة ترك القراءة اقتضائية من أمر اقرؤا فلا يحرم إلا قدر ما يفوت القراءة ويفسد الأداء لا التحريمة، وليس من ضرورة فساده، فسادها كما إذا فسد بتذكر الفائته ولأنها شرطه كالطهارة. وقال الساجد على النجس مستعمل له بحكم الفرضية كحامل النجاسة في وجهه، وهو أقوى من حملها في الثوب وبذا يفوت التطهير الواجب المستدام كالكف في الصوم ومحمد - رحمه الله - لم يبق التحريمة بتركها مطلقا لأنها فرض دائم حكمًا، ولذا تفسد باستخلاف الأمي بعد رفع الرأس من السجدة الأخيرة فتركها في ركعة تفسد الأفعال فكذا التحريمة كسائر منافيات الصلاة.
وقال الإمام كما قال محمَّد غير أن تأثيره في فساد التحريمة أيضًا موقوف على أن يقوي لأنها على التيسير ومما يسقط ويتحمل وقوته بالترك في شفع لأنه في ركعة مجتهد في

(2/32)


جوازه وفيه إجماع، ولذا قال أيضا ترك مسافر قراعة فرض الظهر لا يقطعها فلو نوى الإقامة يتم أربعا ويقرأ في الأخريين لإن هذا الاحتمال يمنع تعدي الفساد إلى الإحرام خلاف فجر المقيم وهو قول أبي يوسف - رحمه الله - وعند محمد لما فسد بترك القراءة مطلقا لم يكن إصلاحه كفجر المقيم وهذا أصل أجدى من تفاريق العصا كبطلان الاعتكاف بالخروج من غير ضرورة والصلاة بالانحراف عن القبلة بالبن وكشف العورة ولو ساعة؛ لأن اللبس والاستقبال والستر فروض مستدامة فعمدتنا ما أشرنا إليه من أن فعل المأمورية لا يحصل إلا بالانتهاء عن أضداده وترك المنهي عنه الا بفعل ضده وأقله السكون فإنه كون عندنا وتصور الحاكم لوازم الحكم غير لازم فكان كل منهما مقدمة الواجب وإن كان عقليا لو عاديا فهذا فرع ذلك والاختلاف في النية والتضمن اعتباري ولا يلتفت إلى أنه لو لم يكن عينه لكان إما مثله أو ضده فلا يجتمعان أو خلافه فيجوزا اجتماع كل منهما مع ضد الآخر ولا يجوز اجتماع الأمر بالشيء مع ضد النهي عن ضده وهو الأمر بضده لأنهما يعدان أمرا متناقضا ولأنه تكليف بالمح وذلك لأنا لا نعلم جواز اجتماع كل من الخلافين مع ضد الآخر كليا فأنهما قد يكونان متلازمين إن سميا غيرين وإلا فالملازمة ممنوعة كما ها هنا فيمتنع ذلك وقد يكون كل منهما ضد الضد الآخر كالعلم للشك ولضده وهو الظن ولا إلى إن فعل السكون عين ترك الحركة فطلبه طلبه؛ لأن العينية ممنوعة تعقلا ومثال جزئي، أما رجوع النزاع منه لفظيا كما ظن فلا ولا إلى إن أمر الإيجاب يقتض الذم على تركه وهو فعل لأنه المقدور ولا ذم بما لم ينه عنه وذلك لأنه ريما يذم على إن لم يفعل ما أمر به والذم لا ينحصر في فعل المنهي عنه لتحققه في ترك الواجب ولو سمي الكف عن الترك فعلا وطلبه نهيا صار النزاع لفظيا كما مر.
وللإمام ومن تبعه ما مر أنه لو استلزم النهي عن الضد لم يحصل بدون تعقله وتعقل الكف عنه؛ لأن الطلب يستدعي تصور المطلوب ومتعلقه والسكوت لا يصلح دليلا لكنا نقطع بصحة الأمر مع الذهول عنهما، أما عن الأضداد الجزئية فظ، وأما عن الضد العام فلما مر ولأن مشاهدة الكف عن الشيء أي عدم الكف لكن لا نزاع فيه، قلنا ذلك حكم الطلب القصدي لا الضمني والاقتضائي ومن له.
السابع: في أن الامتثال أعني الإتيان بالمأمور به على وجهه وكما أمر به يوجب الإجزاء خلاف لأبي هاشم وأتباعه كالقاضي عبد الجبار.
لنا أولا أنه إن بقي متعلقا بعين المأتي عنه كان طلب تحصيل الحاصل أو بغيره فلم يكن المأتي به كل المأثور به هف.

(2/33)


وثانيا: أنه يقتضي الحسن وما ذلك غلا بالصحة الشرعية.
وثالثا: أنه لو لم ينفض عن عهدته بذلك لوجب عليه ثانيا وثالثا فلم يعلم امتثال مع أنه لا يفيد التكرار.
ورابعا: أن قول المولى لعبده افعل ولا يجزئ عنك يعد تناقضا.
وخامسا: أن القضاء استدراك ما قد فات من مصلحة الأداء والفرض أنه لم يفت شىء فاستدراكه تحصيل الحاصل لا يقال القضاء ليس عين الأول بل مثله فإما أن يوجب بالأمر الأول فلم يمتثل أولا بالكلية أو بأمر آخر فلا نزاع فيه، لهم أولا أن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه حتى يجوز الصلاة في الدار المغصوبة والبيع وقت النداء فكذا الأمر.
قلنا لا نعلم أنه لا يقتضيه فيما فيه القبح وفي المثالين في مجاوره لا في ذاته فلذا جاز ولا نسلم الجامع وتعلق الطلب الجامع يشير مؤثرا في الحكم ولأن بينهما فرقا وهو أن الانتهاء عن الشيء يكون بترك شيء منه فيمكن أن يكون المطلوب ترك وصفه أو مجاوره، أما الامتثال به فليس إلا بالإتيان بجميعه، أما أن القياس بين المتقابلين فاسد لقياس العكس، نعم في إثبات الأصل بالقياس نزاع.
وثانيا أن كثيرا من العبادات الفاسدة يجب المضى فيهاكالحج والصوم الفاسدين، قلنا الإجزاء فيهما للأمر الوارد بإتمامهما لا بأصلهما إذ هو لفساده وجب قضاؤه والحج وإن كان فرض العمر يتضيق بالشروع ولا فرق فيه بين حج الفرض والنفل.
وثالثا. أن مقتضى الأمر فعل المأمور به وسقوط التكليف زائد، قلنا مقتضى المقتضى لما مر.
ورابعا: من صلى آخر الوقت متوضئا بنجس ظنه طهورا مأمور بها ولذا لا يأثم مع وجوب القضاء إذا ظهر نجاسته، قلنا ليس بمأمور بها إذا ظهرت ولا بالإعادة إذا لم تظهر لأن المأمور به صلاة بظن الطهارة لكن إذا تبين خلافه وجب مثله بأمر آخر والأول لا يقض وتسميته قضاء مجاز؛ لأنه مثل الأول بخلاف إعادة الحج الفاسد إذ لا استدراك للفائت هنا بل فعله في وقته على الوجه المأمور به كصلاة فاقد الطهورين، وكان المأتي به ثانيا واجبا مستأنفا بخلاف الفاسد ومما سلف يعلم أن المبحث هو الصحة بمعنى سقوط القضاء لا بمعنى حصول الامتثال به إذْ لا معنى لإنكاره عن مثل أبي هاشم؛ لأن حقيقة الامتثال ذلك.
الثامن: في أن إرادة وجود المأمور به ليست بشرط لصحته فكل ما علم الله وجوده

(2/34)


مراد أمر به أم لا وعند المعتزلة شرط فكل مأمور به مراد، وكل منهى عنه مكروه لله تعالى وجد أم لا لنا نحو: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام: 125]، {ِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، فالإضلال والإغواء وكذا الضلالة والغواية مرادة والمأمور به نقيضها ثم هي منهى عنها وليست مكروهة.
وكذا ما روي عنه عليه السلام وعن جميع الأمة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والإجماع المتواتر حجة قطعية لهم أولًا قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]، نفي إرادة الظلم للعباد وعندكم كل ظلم واقع مراده، قلنا اللام كمعنى علَى كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، أي لا يظلم عليهم.
وثانيا: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فلم يخلق الكافر للكفر ولا العاصي للمعصية كما تقولونَ به، قلناَ عام خص عنه الصبيان والمجانين ليوافق قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179]، فمعناه إلا ليكونوا عبيد في أو المراد من الثقلين من علم الله أن يعبدوه منهما لا العموم. والأصح عندي والله أعلم: أن معناه ليطيعوني فيما هو المراد لا فيما هو المأمور به والمرضى أو لأن أمرتهم بالعبادة وغير لازم منه الفعل وهذا مروي محيي السنة عن علي رضي الله عنه وقيل في الدنيا أو في الآخرة ولكن لا على وجه التكليفك.
وثالثا: أن إرادة غير المرضى والأمر بما لا يريد سفه في الشاهد فكذا في الغائب قلنا لا لجواز اشتمله على عاقبة حميدة كالأمر بذبح إسماعيل عليه السلام حين قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]، أقلها إلزام الحجة بالطاعة أو المعصية.
التاسع: في أن جواز المأمور به يزول بزوال وجوبه بالنسخ خلافا للشافعي؛ لأن الوجوب يتضمنه أن يستلزمه وبطلان المتضمن بطلان للمتضمن أي من حيث هو متضمن، يونسه أن حصة الخاص من العام تستلزمه ولئن سلم فنسخ الوجوب بجميع أجزائه محتمل ولا ثبوت مع احتمال الانتفاء ولذا لما نسخ وجوب قطف الثوب عند إصابة النجاسة لم يبق جوازه، له أن الجواز هو رفع الحرج عن الفعل جزء عام للوجوب الذي هو رفع عنه مع إثباته في الترك وليس من ضرورة انتفائه انتفاء الجواز فلعله بانتفاء المنع من الترك فالناسخ لا يعارض اقتضاء الجواز كما في صوم عاشوراء.
قلنا: رفع الحرج عن الفعل والترك ليس جزؤه بل مناف لجزئه على أن الكلام فيما ليس فيه دليلان ليبقى أحدهما بلا معارض ومجوز صوم عاشوراء فعل النبي عليه السلام أو الشرع العام للصوم لا لأمر الأول والثمرة أن وجوب الكفارة سابقا على الحنث كما في

(2/35)


رواية: "فليكفر ثم ليأت" (1) منسوخ إجماعا فبقي الجواز عنده.
العاشر: أن القضاء بمثل معقول يجب بموجب الأداء لا بسبب جديد كما في غير المعقول خلافا للعراقين من أصحابه وصدر الإسلام وصاحب الميزان والشافعية، لنا أن النص الوارد في قضاء الصوم والصلاة معقول المعنى لأن واجبا ما إذا ثبت لا يسقط إلا بالأداء أو الإسقاط أو العجز ولم يوجد الأولان؛ لأن فوت الوقت مقرر للعهدة لا مسقط لها ولا الثالث في حق أصله الذي هو المعصود لقدرته على صرف ما له من النفل المشروع من جنسه إلى ما عليه ليفيد رفع الإثم وإن لم يفد إحراز الفضيلة كأداء ذي العذر وسقوط فضل الوقت للعجز لا إلى مثل من جنسه لعدمه ولا ضمان من غير جنسه غلا بالإثم عامدا غير مؤثر في سقوط أصله كضمان المتلف المثلي بالتتمة للعجز وأذل سني قضاء وكالديون المؤجلة بعد آجالها.
وسره: أن الوقت وأن قيد الواجب به نصبا لأمارة وجوبه ليس مقصودا فعني العبادة تعظيم الله ومخالفة الهوى كالمأمور بالتصدق باليمنى فشلت بخالف الواجب القدرة الميسرة فإن وصف اليسر مقصود ثمة فلذا يفوت بفوته وإذا عقل الحق بهما المنذورات المتعينة من الصوم والصلاة والاعتكاف فوجب قضاؤها قياسا لا عندهم أصلًا في روياة وبالتفويت لا الفوات بمثل المرض والجنون والإغماء في أخرى وبالفوات أيضًا في ثالثة فلا ثمرة في الأحكام والنص والقياس ليس موجبا جديدا بل النص لإعلام أن ما وجب بالسبب السابق غير ساقط فجزاؤه الإتيان في وقت آخركالنص الناطق برد المغصوب وإن شرف الوقت ساقط والمأتي به بعده كهو فيه والقياس مظهر لسببية السبب، وهذا أشبه بمسائلنا كقضاء الصلوات نهارا مع الإِمام جهرا والسرية بالليل سرا، وكقضاء السفرية في الحضر ركعين وفي العكس أربعًا.
أما اعتبار حال المصلي صحة ومرضًا في القضاء فلانعقاد أصل السبب في الفصلين موجبا للأعلى بتوهم القدرة ومجوزا الانتقال إلى الأدنى للعجز الحالي ولا تفاوت بين الأداء والقضاء في ذلك كالتيمم ابتداء أو بناء ولم يعتبر كمًّا النفل في قضاء المغرب ولا كيفية في قضاء الجهرية بالنهار جهرًا فإن الجهر والثلاث في النوافل بغير مشروع؛ لأن الشرع جوز مثل هذا الفعل في ضمن القضاء فعلا لا مطلقا كتعين أحد الواجب المخير وتملك الأب جارية الابن، وكذا قضاء الظهر بأربع ركعتاها بقراءة وركعتاها بدونها ولم يجز التسليم على رأس الأوليين ولا نفل كذلك.
__________
(1) أخرجه مسلم (3/ 1273) ح (1650).

(2/36)


وأما قضاء الفائتة عن أيام التكبير بدونه فلتبعية جهره في غيرها كفوت رمي الجمار
والجمعة والأضحية عن وقتها، وإنما بطل التكبير ببطلان وصفه لكونه مقصودا كأصله لأنه من شعائر الشرائع، ولنا أيضًا ما أشرنا إليه من أن الزمان غير مقصود بالأمر فلا يؤثر اختلاله في سقوطه وأن الوقت كالأجل فلا يسقط الواجب يمضيه وأنه لو وجب بأمر جديد لكان مأتيا به في وقته وأداء.
لا يقال: لو لم يقصد التقييد بالوقت لجاز التقديم عليه ولم يجز بخلاف أداء الدين وإنما لم يسم أداء لاشتماله على استدراك مصلحة فاتت، لأنا نقول عدم صحته قبل الوقت لوقوعه قبل السبب كأداء الشيء قبل الوجوب فإنه تبرع لا يقع عما سيجب أصلًا لا لأن للوقت مدخلا في مقصود العبادة والواقع في وقته لاستدراك المصلحة تكون إعادة لا قضاء فإن التميز بينهما بفوت الوقت مع أن المصلحة الفائتة إن أريد بها فضيلة الوقت فلا استدراك لها وإن أريد بها غيرها فتصديقه مسبوق بتصويرها.
قالوا: أولًا لو وجب بالأمر لكان مقتضيا للقضاء لأن الاقتضاء وهو مطلق الطلب الشامل للندب أعم من الوجوب فيلزمه واللازم منتف للقطع بأن وجوب صوم الخميس لا يقتض وجوب صوم وقت آخر، قلنا: إن أريد عدم الاقتضاء أولًا أو مع وصف الكمال فيسلم وغير مضر أو مطلقًا فممنوعٌ، وإنما يصح لو كان وصف الإيقاع في الخميس مقصودا في أصل الإيجاب وهو ممنوع ولو سلم فلا على تقدير الفوات.
وثانيا: لو اقتضاه لكان أداء ولكان بمثابة التخيير بين الوقتين قلنا إنما يلزم لو لم يكن اقتضاؤه على طريق جبر الفائت بتسليم ما بقي القدرة عليه.
وثالثا: لو اقتضاه كانا سواء فلا يعصي بالتأخير قلنا بعد الجوابين إنما يستويان لو لم يشتمل أحد المقتضين على التقصير.
ورابعا: إن مثل كل قربة عرفت قربة بوقتها لا يعرف إلا بنص وكيف يقاس وقد ذهب فضل الوقت قلنا مسلم ولكن الكلام في أن المشروع قربة في غيره حقا للعبد يجب إقامته مقام الفائت قياسًا على ما نص عليه الشارع معقول المعنى بخلاف ما لم يشرع مثله أصلًا كالجمعة والجهر بالتكبيركما مر.
قيل: هذا النزاع مبني على أن المطلق وقيده شيئان في الخارج كما في العقل واللفظ أو واحد يعبر عنه بالمركب وهو ينظر إلى أن التركيب بين الجنس والفصل وتمايزهما في العقل فقط أو وفي الخارج وتمم بأن الحق أن لا تركيب في الخارج وإلا لم يصح الحمل لاستنادها إلى وحدة الهوية الخارجية فالموجب بالأمر المقيد بالوقت شيء واحد في الخارج لا شيئان

(2/37)


إن فات أحدهما يبقى الآخر فالمأتي بعد فواته شيء آخر فلا يقتضيه الأمر الأول.
قلنا لا إن كل مطلق مع قيده كالجنس والفصل جعلهما واحد لاحتمال أن يكونا عارضا ومعروضا عروضا عرضيا كالحجر الأبيض فينفك أحدهما عن الآخر، ومنه المقيد كمعنى كالابن والواجب في صحة الحمل مطلق وحدة الهوية ولو اعتبارية لا الحقيقية فقط، ولذا صح على الإنسان حمل صفات النفس والبدن عند القائل بتباينهما ولو سلم فذا في الوجود المحقق والمعتبر في المشروعات الوجود الاعتباري، ولذا صح اتصاف أحدهما بالجواز والآخر بالفساد وحكم بالانفكاك بينهما ولهما إيجاب واحد كأنواع الصلاة وأصنافها وأشخاصها الواجبة بنص واحد على أنه إنما يعتبر القيد جزأ في المشروع إذا كان له مدخل في مقصوده كما مر.
فرع: نذر اعتكاف رمضان فصامه ولم يعتكف وجب القضاء باعتكاف شهر بصوم مقصود لا في رمضان آخر في الأصح، فعند العراقين بسبب حديد وهو التفويت لأنه كالنذر ابتداء ورد بوجوبه بالفوات أيضًا كما بمرض يمنعه من الاعتكاف لا الصوم المبطون ولا يمكن جعله كالنذر لعدم الاختيار وعندنا بالنذر السابق لأن الاعتكاف الواجب لا النفل في الأصح يتبعه صوم مقصود شرطا فالتزامه إلتزام لصوم للاعتكاف أثر في إيجابه غير أنه سقط عند الأداء بعارض راجح معارض فضيلة الوقت، أو فضيلة اتصاله بالصوم الفرض؛ لأن الفضيلتين مع منعهما إيقاع صوم آخر من عند العبد تجبران بنقصانه فإذا مانع العجز عن مثله إذْ القدرة بعد الوقت تستوي في الحب؛ والممات كعدمها كما في تضيق الحج وضمان المغصوب المثلي بالقيمة لانقطاعه بقي مضمونا بإطلاق نذره وصار كالنذر في المطلق حالتئذ، بخلاف ما إذا فات الصوم أيضًا حيث جاز الاعتكاف في قضائه لأن فضيلة الاتصال بالفرض باقية وخلف الشيء كهو.
وروى الحسن عن أبي يوسف - رحمه الله - سقوط الاعتكاف إذ لا يمكن قضاؤه إلا بصوم قصدي لم يلتزمه فيبطل كتكبير التشريق، وقال زفر: يصح قضاؤه في رمضان آخر؛ لأن الشرط يعتبر وجوده كيف ما كان لا قصدا كالطهارة وما اخترناه أحوط الوجوه الأربعة أي إيجاب القضاء بسبب الأداء بصوم قصدي أحوط من إيجابه بالتفويت لوجوبه بالفوات أيضًا ومن إيجابه في رمضان آخر وإبطاله أصلا؛ لأن الزيادة الحاصلة بشرف الاتصال بالوقت أو الفرض إذا احتملت السقوط الزوال فلأن تحتمل رخصتها نقصان الصوم والقصدي الثابتة به العود إلى الكمال أولى ووجوه الأولوية ثلاثة كون الانتقال من نقصان في الرخصة لازيادة واجتهادا في الإيجاب والإكمال لا الإجزاء بما ثبت وجوبه ولا

(2/38)


الإبطال، وإن السبب في سقوط الزيادة خوف الفوت بالموت فقط وفي زوال النقصان هو وموضوع النذر.
الحادي عشر: الأمر للمكلف أن يأمر غيره بشيء سواء كان بلفظ "أم ر" وبالصيغة ليس أمرا لذلك الغير به (1) كقوله عليه السلام: "مروهم بالصلاة لسبع" إلا لدليل على أنه مبلغ وإلا لكان قولك مر عبدك أن يتجر في مالك تعديا ومناقضا لقولك للعبد لا يتجر وليس إذ ليس المراد أمرا على طريق التعدي والواسطة لا ترفع التناقض قالوا فهم ذلك من أمر الله رسوله أن يأمرنا وكذا من أمر الملك وزيره به قلنا ثمة دلالة على أنهما مبلغان.
الثاني عشر: المطلوب بالأمر بالفعل المطلق الماهية بلا شرط لا يقيد الكلية اتفاقا لاستحالة وجوده، ولا بقيد الجزئية خلافا لبعض، لعدم التعرض لتشخصها وهذا معنى أن أصل المطلق أجراؤه على إطلاقه قالوا القاطع لا يعارضه الظاهر فإن الماهية يستحيل وجودها في الأعيان فلا تطلب، إذ لو وجدت وكل موجود فيها جزئي كانت كلية وجزئية قلنا إنما يقوم على استحالة وجود الماهية المطلقة أي الماهية بشرط الإطلاق والكلية لا مطلق الماهية وعدم التقييد بالجزئية ليس تقييد إعدامها، ومطلقا لا ينافي الجزئية سواء وجدت بذاتها لا بكليتها في ضمن الجزئيات، كمذهب الجمهور أو وجد ما يصدق عليه كما اختار بعض المتأخرين وقد مر.
واعلم أن المختار ها هنا صحيح لا مطلقا بل باعتبار مدلول، مادة المصدر الذي يتضمنه الأمر فلا ينافيه ما مر من وجوب رعاية الوحدة الحقيقية والاعتبارية عند انضمام الصورة إلى المادة في الاعتبار فلا تخطيء فيخطأ ابن أخت خالتك.
الثالث عشر: قيل: الأمر إن المتماثلان تأسيس إلا لمانع حالي مثل لام العهد في صل ركعتين صل الركعتين أو حالي في اسقني ماءً، اسقني ماء لدفع الحاجة بمرة غالبا وقيد الآمدي بقوله إن كان قابلا للتكرار احترازا عن مثل صم هذا اليوم مكررًا فإنه غير قابل للتعدى ويغني عنه العهد إما إذا كان الثاني معطوفا فاتفاقا لأن التأكيد بواو العطف لم يعهد أو يقل حتى لو اشتمل على قرينة التأكيد، كلام العهد وغيره يصار إلى الترجيح فإن أمتنع وجب التوقف وإما إذا لم يكن فلان وضع الكلام للإفادة لا للإعادة ولسان التأسيس أكثر والأكثر أظهر ولأن الظاهر في كل أمر الإيجاب والحق أنه تأكيد إلا لمانع كالعطف لأنه عند التكرير أغلب وأكثرية التأسيس حاصلة ممنوعة وفي غيره لا يفيد وكذا وضعه للإفادة
__________
(1) انظر إحكام الأحكام للامدي (2/ 267 - 268).

(2/39)


على إن الحقيقة العرفية متقدمة على اللغوية ولأن الأصل براءة الذمة عن الثانية إذ تقليل خلاف الأصل هو الأصل وظاهر الأمر مطلق الإيجاب لا الإيجاب المستأنف والاحتياط في الإيجاب معارض به في التأكيد عند التحريم كقوله للجلاد اجلد الزاني مائة مكررًا.
الرابع عشر: في أن الأمر المطلق عن دليل عينية الحسن وغيريته يتناول الضرب الأول من القسم الأول وهو حسن لعينه لا يقبل السقوط لوجهين:
1 - أن الأمر لما اقتضى الحسن ضرورة حكمة الأمر فكماله الحاصل الإطلاق يقتضي كماله.
2 - أن لما أوجب كون المأمور به عبادة حسنة لذاتها لكونها تعظيم الله فكذا كماله فالحسن الأول سابق، والثاني لأحق فغير الضرب الأول محتمله لا يصرف إليه إلا لدليل على جواز سقوطه كالصلاة أو شبهه بها كالزكاة أو غيره كالوضوء والجهاد وغيرهما وذهب شرذمة إلا أنه يثبت الحسن لغيره لأنه مقتضى ضروري ولا يثبت به إلا الأدنى.
قلنا: على الطريق الأخير موجب لا مقتضى ولئن سلم فالاقتضاء ينافي العموم لا الكمال وفيه الكلام.
فرع: قال زفر والشافعى: فأمر الجمعة يوجب حسنها وإن لا يشرع لمن تناوله كغير المعذور إلا هي، لأن فرض الوقت واحد منهما إجماعا ولما تعينت لدفع الظهر فلا يجوز هو ما لم يفت الجمعة ولمن لم يتناوله كالمعذور إلا الظهر فإذا أداه لم ينتقض بالجمعة ويردان لا يجوز لو أداها قبله وذا خلاف الإجماع فالصحيح عنهما إن المعذور مخير بينهما فأيهما أدى لا ينتقض بالآخر كمكفر اليمين بإحدى خصالها وقلنا الأصل مسلم والنزاع في كيفية تناول الأمر فلا نعلم لنها بنسخ الظهر وألا يقضى هو بل هي بأدائه بها وإقامتها مقامه فأمر غير المعذور بنقصه بها بعد أدائه وقبلها كما أمر بإمقاطه قبله وكيف لا يبقى الظهر مشروعا في حقه وللجمعة شرائط لا يتمكن من تحصيلها بنفسه فيجوز الظهر الذي أداه قبلها لأن عدم الوجوب لا يمنع الصحة غير أنه آثم للنهى عنه وهو لمعنى في الجمعة فلا يقتضي فساده وهذا متحقق في حق المعذور أيضًا لعموم النص لكن رخص له في تركها ترفيها ورخصة الترفيه تقرر العزيمة لا تسقطها كيف ولو لم ينتفض ظهره بعد ما صلى الجمعة بل فسدت هي عاد الترخيص على موضوعه بالنقض إذ هو حرج ليس في غير المعذور فكيف فيه أما إبطال الظهر فلا كمال ولذا لو شرع المعذور فيها وخرج الوقت قبل التمام يلزمه قضاؤه عتدنا استحسانا لا عندهما.

(2/40)


المقام الثالث في حكم النهى الذي يقابله
وفيه مباحث:
الأول: إنه لغة المنع ومنه الناهية للعقل (1) واصطلاحًا اقتضاء كف صيغي عن فعل استعلاء (2) فلا يرد كف عن الزنا منعا كما مر أو لأنه تحريم للفعل وإن كان إيجابا للكف فهو أمر ونهى بالاعتبارين وهذا لا يصح جواب في الأمر إذ يبقى قوله غير كف زائدًا وألا نسب أنه اللفظ الدال عليه واعتبر به كلا من مقابلات المزيفات السبعة مع اعتراضاته والخلاف في أن لمراده صيغة تخصه ولا يستعمل في غيره وهو الخطر لا الكراهة وبالعكس أو مشتركة لفظا بينهما فقط إذ لا قائل به فيما وراءهما وللمشترك معنى بينهما فقط وهو طلب الكف استعلاء أو للوقف بمعنى لا أدري كما في الأمر.
وفي التقويم لا وقف ها هنا وإلا لصار موجب الأمر واحدا ولا سبيل إليه وقد سلف تحقيقه ويخالفه في أنها للتكرار والدوام فينسحب حكمها على جميع الأزمان لأنه عدم ويلزمه الفور فيجب الانتهاء في الحال وفي أن تقدم الوجوب الكائن مثله قرينة على أنه للإباحة في الأمر عند البعض ليس كذا هنا فإن الأستاذ نقل إجماع القائلين بالحظر على أنه له بعده أيضًا وأن توقف الإِمام لقيام الاحتمال.
الثاني: أنه يقتضي القبح ضرورة حكمة الناهي فهو مدلوله لا موجبة خلافا للأشعري كما مر ثم مطلقة عن دليل العينية أو الغيرية أن كان عن الحسيات وهي ما لا يتوقف تحققه على ورود الشرع كالقتل وشرب الخمر والزنا وعلامته صحة الإطلاق اللغوي عليه على أنه حقيقة يقتضي القبح لعينه إلا دليل نحو {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، فإن النهي للأذى ولذا يثبت به الحل للزوج الأول والنهيب وتكميل المهر وإحصان الرجم ولا يبطل به إحصان القذف وإن كان عن الشرعيات كالصلاة والبيع والنكاح والإجارة ونحوها مما زيد في حقيقته أشياء شرعا كانت غير معتبرة لغة، فالقبح لغيره عندنا فيفيد الشرعية أصلًا والقبح وصفا لكن مع رعاية إطلاقه في إفادة التحريم وحقيقته في بابه على اختيار العبد إلا لدليل يقتضي العينية كنكاح منكوحات الآباء وبيع الملاقيح هي ما في أرحام الأمهات والمضامين هي ما في أصلاب الآباء وعكسه للشافعي - رحمه الله - واجبا ومحتملا فجعله دالا على بطلان نفس المنهي عنه فقيل شرعًا وقيل
__________
(1) انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي (4/ 398).
(2) انظر فواتح الرحموت شرح مسلم (1/ 395)، إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 377).

(2/41)


لغةً، وقال أبو حسين البصري يدل عليه في العبادات دون المعاملات فتنافي الأجزاء وهو موافقة الأمر أو سقوط القضاء لا السببية وهي استتباع المعاملة أثرها فإن مقابله وهو الصحة يستعمل في الأمرين وقيل لا يدل إلا على فساد الوصف ولا على صحة الأصل فهذه خمسة مذاهب.
لنا أولًا أن النهى للانتهاء بالاختيار فيعتمد إمكانه وتصور صدوره من العبد ليثاب بالإحجام ويعاقب بالإقدام ولما لا أصل له حسًّا وشرعًا فهو ممتنع كالمنسوخ فلا يتعلق النهي به كف وامتناع مثله بناءً على عدمه وعدم المنهي عنه بناء على الامتناع ولذا لا يثاب على الأول كمن لا يشرب الخمر لأنه لا يجده فهما في طرفي نقيض لأي مما يتنافيان فلو ثبت القبح الذاتي مقتضى له كان المقتضي مبطلا لمقتضيه ومخرجا له عن حقيقته إلى النسخ وفي أبطاله أبطال نفسه فيتناقض، ومحصله توجيهان:
1 - أن المنهي عنه إذا لم يكن صحيحا بأصله لم يكن شرعيا ومعتبرا شرعا لكن المنهي هو الصوم والصلاة الشرعيان لا الإمساك والدعاء أو نقول وكل ما لم يكن شرعيا كان ممتنعا ومنسوخا فلا يكون منهيا لاختلافهما حدا وحقيقة وخاصة وحكما، ورد بأنه أنما لا يتصور ويكون ممتنعا لا شرعيا لو أريد بالشرعي المعتبر شرعا أما أريد ما يسمد الشرع بذلك وهو الصورة المعينة أي المشتملة على الأركان صحت أم لا، أي اشتملت على الشرائط أيضًا أم لا وذلك هو الحق وإلا لزم دخول شرائط الشيء فيه إذ بها اعتباره فيتصور ولذا يقال صلاة صحيحة وفاسدة وقال عليه السلام، دعي الصلاة أيام أقرائك.
2 - أنه إذا لم يكن صحيحا لم يكن شرعيا بل كان ممتعا فلم يتعلق الابتلاء بالنهي عنه لعدم تصور الإقدام والإحجام بالاختيار وإلا كان النهي نسخًا وليس كذلك إجماعًا وربما يوضح الملازمة الثانية بأن منع الممتنع لا يفيد، ورد بأنه إن أريد بالشرعي المسمي بذلك فالملازمة الأولى ممنوعة لأنه ليس ممتنعا وإن أريد المعتبر شرعا فالثانية لأن امتناعه علم بهذا النهي ومنع الممتنع بهذا المنع مفيد كتحصيل الحاصل هذا التحصيل.
والجواب عن الأول أن الكلام في النهي عن الشرعي فأن كان مجرد الصورة كان هو المعتبر في الثواب باجتنابه، والعقاب بارتكابه وليس الصورة بدون الشرائط كصورة الصلاة بدون النية والاستقبال وغيرهما والبيع بدون المال عبث وذلك لأن مفسدة النهي في الإتيان بالمجموع لا بمجرد الصورة وإلا لكان كل واحدكل لحظة مثابا بترك صور المناهي اللامتناهية وإن لم تنعقد أسبابها وشرائطها التي لم تخطر بالبال شيء منها وليس كذلك إجماعًا ولا يلزم الإثم بالسجدة بدون الطهارة لأنها حسية لا شرعية وتسمية الباطلة

(2/42)


بالصلاة مجازية، وكذا النهى عن النفط في دعي الصلاة {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]، ومن هذا يعلم أن شرائط الشيء داخله في شرعيته لا وجوده.
وتحقيقه كونه مقيدًا بها وكون المطلق مع قيوده حقيقة واحدة اعتبارية فليس هذا النزاع مبينا على أن الشرط داخل في حقيقة السبب ومانع عن انعقاده سببا عندنا وعن تأثيره لا تحققه عنده كما ظن إذ لا حاجة هنا إلى دخوله في حقيقة المشروط أو سببه بل في شرعيته مع أن الحق في تلك المسألة أيضًا مذهبنا كما سيتضح.
وعن الثاني أنا لا نعلم أن امتناعه علم بهذا النهي وأنما يصح لو صح تعلق النهى به وكيف يصح، وتعلقه به يخرجه عن حقيقته.
أما الجواب بأن تصور اللغوي أو الشرعي حاله النهي كاف لصحته ففاسد للقطع بأن النهى ليس عن الإمساك المطلق والدعاء وبأن التصور في وقت الانتهاء عن الفعل وهو المستقبل هو الواجب والمعتبر كما في الأمر له أن حقيقة النهى في اقتضاء القبح كالأمر في اقتضاء الحسن فكما كان المأمور به حسنًا لمعنى في عينه إلا لدليل يكون المنهي عنه قبحا لعينه إلا له بناء على أن المطلق يتناول الكامل إذا القاصر ثابت لا من وجه لا قياسا في اللغة فمن جعل مجازا في الأصل حقيقة في الوصف عكس الحقيقة وقلب الأصل هذا معتمدة أما التمسك باستبدال العلماء بالنهى على الفساد وبأنه بناء على تبعية الأحكام لمصالح العباد تفضلا أو لم يفسد، فإن ساوى حكمه النهى حكمه الثبوت تعارضنا وخلا النهى عنها أو كانت مرجوحة فأولى لفوات الزائد من مصلحة الصحة الخالص عن المعارض أو راجحة فامتناع الصحة لخلوها بل لفوات الزائد من مصلحة النهى الخالص عنه فإنما يفيد أن اقتضاء القبح في الجملة ولا نزاع فيه ولتفريعه طريقان:
1 - أن الرضا بالمشروع أدني درجاته لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]، والتوصية المبالغة في الأمر المقتضي للرضا ولأن المقصود من الشرع الهداية إلى السعادة العظمى وهي رضاء الله تعالى، ثم القبح ينافي الرضا وإن لم يناف المشبه والقضاء كالكفر والمعاصي ومنافي اللازم مناف للملزوم فالقبيح لا يكون مشروعا فالنهى عن التصرف الشرعي نسخ له بما اقتضاه من التحريم السابق.
2 - إن حكمه وجوب الانتهاء وكون الارتكاب معصية لا طاعة في العبادة ومشروعا في المعاملة لتضاد بين الأوليين، وتناف بين الآخرين فإن كل مشروع لا معصية فكل معصية حسيا كان أو شرعيا لا مشروع ولذا لم يفد الزنا حرمة المصاهرة وهي الحرمات الأربع فإن المصاهرة نعمة أمتن الله بها وكرامة كالنسب ولذا تعلق به الكرامات من

(2/43)


الحضانة والنفقة والإرث والولايات وكذا حرمتها صيانة للمحارم عن مذلة النكاح الذي فيه ضرب استرقاق، ولا لغضب واستيلاء الكفرة على مال المسلم بالإحراز الملك وسفر المعصية كالإباق وقطع الطريق والبغي الرخصة وهي نعمة لدفع الحرج، ثم النعمة لا تنال بالمحظور المحض بخلاف الوطء بشبهة النكاح الفاسد والجارية المشتركة ولا يرد لزوم الاغتسال وفساد الصوم والإحرام والاعتكاف بالزنا إذ ليست نعمة ولا لزوم المضي على المحرم مجامعا أو المجامع بعده مع فساد الإحرام لأنه منهي لغيره المجاور وهو الجماع مطلقا مقارنا أو معاقبا حلالًا أو حراما فينبغي أن لا يفسد به كالصلاة في المغصوب لكنه محظورة كالكلام والحدث للصلاة فيفسد وينبغي أن لا يبقي غير أنه لازم شرعا عقوبة بخلاف الصلاة فأثر في إيجاب القضاء لا في ترك الأداء والمقارن لم يعتبر مانعًا مع أن المنع أسهل من الرفع؛ لأن محظوريته فرع اعتبار الوجود للإحرام ولا الطلاق في الحيض أو في طهر الجماع مع ترتب الفرقة؛ لأن نهيهما للمجاور وهو تطويل العدة وتلبيس أمرها أهي بوضع الحمل أو بالأقراء أو تلبيس النفقة إذْ لو لم يكن حاملًا في البائن لا يجب النفقة عنده ولا لزوم كفارة الظهار لأنها جزاء حرام كالقود والرجم والكلام في حكم مطلوب تعلق بسبب مشروع له كالملك بالبيع ولترتب فروعه هذه على ماريتنا عليه اندفعت المناقشات الواهية.
قلنا: على دليله نعم لولا التناقض ببطلان المقتضي ورفع الابتلاء بذلك فما ذكرنا عمل بمقتضى النهي وهو القبح والمنهي وهو الإمكان ورعاية لمنازل المشروعات وحدودها وعلى وجهي التفريع قبح التابع لا ينافي الرضا بالمتبوع بالاعتبارين أي يجوز كون الشيء مأمورا به ذاتا ومنهيا عنه عرضا فإن المشروعات تحتمل هذا الوصف كما مر من الإحرام والطلاق الفاسدين والصلاة في المغصوب والبيع وقت النداء، والحلف على محظور.
أما الأقسام الثلاثة الباقية منها ممتنعان وقسم واقع لكن لا يتأدى به المأمور به أمرا مطلقا بخلاف الوضوء بماء مغصوب ولأثم إن كل مشروع وطاعة لا معصية من كل وجه ولا سيما في المعاملات الفاسدة المترتبة إحكامها ولئن سلم فالقبح ينافي الرضا والمشروعية في موضوعه لا مطلقا والكلام في إنه الذات أو الوصف وعلى فروعه أما ثبوت حرمة المصاهرة فلكون الزنا كالوطء الحلال سبب الماء وهو سبب الولد المعصوم وجودًا وهو سبب البعضية التي بها الحرمة فإن الاستمتاع بالجزء حرام إلا لضرورة النسل حكيما كان كما في الموطأة، أو حقيقيًّا كما في حواء رضي الله عنها وتسري إلى أبيه وأمه لأضافته

(2/44)


بكماله علي كل منهما وإلي أسبابه ودواعيه احتياطا ولم يسر إلى ما بين الأجداد والجدات إذ لضعفه لكونه حكيما لم يظهر في الأباعد وعمل مثله لا لوصف نفسه ككونه زنا بل لعله أصله وهو الولد كالتراب وهو لا يوسف بالحرمة وذمه بانخلاقه من امتزاج بين مائين غير مشروع لا معنى له.
وقوله عليه السلام "ولد الزنا شر الثلاثة" (1) كان مراده عليه السلام به مولود معين والأقرب ولد الزنا أصلح من ولد الرشدة ولهذاكان مثله في استحقاق معظم الكرامات وأما ثبوت الملك بالغصب فشرط للضمان المحتمل وجوبه فيتبع مشروطة حسنًا لآن للفائت ولئلا يجتمع البدلان في ملك، وإن قبح لو كان مقصودا لكن يعتبر مقدما على الضمان لأنه شرط مقتضى وملك البدل مترتب عليه فلذا ينفذ بيع الغاصب ويتسلم الكسب؛ لأنه كالزوائد المتصلة تبع محض يثبت بثبوت الأصل بخلاف المنفصلة كالولد والثمر فلكون زوال الملك ضروريا لا يتحقق فيها وهذا وإن كان بدل خلافة كالتيمم لا بدل مقابلة كالثمن ومن شأنه أن لا يعتبر عند القدرة على الأصل كما إذا عاد العبد الآبق أعتبر ها هنا لاتصال القضاء بزوال الملك عند الحكم بالضمان احترازا عن اجتماع البدلين في ملك وعند حصول المقصود بالبدل لا عبرة بالقدرة على الأصل كمن صلى بالتيمم ثم وجد الماء ولا يرد ضمان المدير مع عدم الملك؛ لأنه يزيل ملك المولى تحقيقا لشرطه ولا يملكه الغاصب صونا لحقه كالموقف ولم يكتف بالإزالة في جميع الصور وبها يندفع ضرورة اجتماع البدلين لأن الأصل مملوكية المال وأن يكون الغرم بأن الغنم فلا يرتكب إلا لضرورة أو يجعل ضمانه مقابلا لفوت اليد وذا جائز حال العجز والضرورة بخلاف القن.
وأما النهي عن استيلائهم فلغيره وهو عصمة المحل الثابتة لحقنا دونهم لانقطاع ولاية التبليغ والإلزام عنهم فصاركالاستيلاء على الصيد ولئي سلم ثبوتها في حق الكل لكن سببها وهو الإحراز باليد أو الدار قد يناهي بإحرازهم فسقطت في حكم الدنيا ولا يرد أنها متحققة في ابتداء لاستيلاء فلا يقيد زوالها بعده كمن أخذ صيد الحرم وأخرجه لا يملكه ويجب الضمان بالهلاك في يده وكمن اشترى خزا فصارت حلا لا ينعقد البيع؛ لأن
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/ 233) ح (2853) وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى (10/ 57)، وأبو داود (2914) ح (3963)، والنسائي في الكبرى (3/ 178) ح (3930)، والطبراني في الأوسط (7/ 210) ح (7294)، والحارث في مسنده (514/ البغية)، الطبراني في الكبير (10/ 674).

(2/45)


الأصل أن الفعل الممتد كابتدائه حكم البقاء كلبس الخف في حق المسح ولبس الثوب في حق الحنث فكان بعد الإحراز كابتداء الاستيلاء على مال مباح، وكذا صيد الحرم فإنه يملك بعد لإخراج حتى ذكر في الجامع جواز بيعه ولو أكله بحل إلا أنه يجب الجزاء صيانة لحرمة الجرم بخلاف شري الخمر فإنه غير ممتد، وهذا بخلاف استيلائهم على رقاب المسلمين؛ لأن سبب عصمة الأنفس وهو الإِسلام لم ينه بالإحراز.
وأما سفر المعصية فليس منهيا لعينه بل لمجاورة من قطع الطريق والتمرد على المولى ولذا يفترقان بتبديل القصد إلى الحج وإن أذن المولى وبالإغارة ونحوها بمسافة يوم.
فروعنا:
1 - شرع أصل بيع العبد بالخمر؛ لأن الثمن وصف للزومه لا أصل ومحل لكونه وسيلة إلى ما ينتفع بذاته ولذا لا يشترط وجوده فضلا عن تعينه ولا قدرة تسليمه ولا بقاؤه في الإقالة وجاز استبداله بخلاف المبيع فالفساد فيه كالخمر فإنه مال؛ لأن فيه مصلحة الآدمي لا متقوم إذ ليس بواجب الإبقاء بعينه أو كمثله أو بقيمته يفسد ولا يبطل لعدم الخلل في ركنه، وهو الإيجاب والقبول من الأهل في المحل وكذا بيع الخمر بالعبد معينين؛ لأن كلا يصلح ثمنا فيصرف إلى الخمر فينعقد في العبد فاسدا ويثبت الملك بالقبض بالإذن لا في الخمر فلا يثبت به وكذا إذا لم يعين الخمر إذا يجعل ثمنا كبيع خل غير معين لعبد معين أو دراهم بثوب معين بخلاف بيع الخمر الدراهم أو الدنانير لتعينه مبيعا والميتة وجلدها في المسألتين إذ ليس بمال وإنما يحصل المالية بصنع مكتسب ولا متقوم فيبطل ولو قضي بجوازه لا ينفذ، قيل: هي الميتة حتف أنفها؛ أما المخنوقة والموقوذة والمجروحة ففاسد لحلها عند المجوس وإذا يصح فيما بينهم عند أبي يوسف خلافا لمحمد.
2 - نهى الربا مرادا به العقد وهو معاوضة مالين في أحدهما فضل والبيع بشرط لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين أو المبيع المستحق نفع فيه فالنهي للفضل أو الشرط وهو وصف للزومه شرطا ولا اختلال في أصله وهو الإيجاب والقبول من الأهل في المحل فيوثر فساد الوصف في دفع وصف الأصل وهو أنه حلال جائز فصار حراما فاسدا والملك يحتمله كمحك صيد الحرم والخمر وجلد الميتة مع حرمة الانتفاع بها واشترط التقوية بالقبض لضعفه كالتبرعات وللفرق بينهما بأن المفسد في صلب العقد في البيع لم يعد صحيحا بإسقاط الفضل بخلاف إسقاط الأجل المجهول.
3 - كذا فساد شهادة من حد قذفا فلا يصح وصف أولهما فلا يقبل ويخرج منهن

(2/46)


أهلية اللعان لكن لاتصال حتى ينعقد النكاح بها كما بشهادة الأعمى إذا لا يتوقف على الأداء.
4 - كذا صوم يومي العبد وأيام التشريق فالنهى لمعنى الإعراض عن ضيافة الله تعالى فيفسد لوصفه وهو كونه يوم عيد، وبيانه: أن المتناول مشتهى بأصله طيب بوصف الضيافة لتركه طاعة بأصله في وقته معصية بوصفه وهو الإعراض عن الضيافة كالجوهر الفاسد وكذا يصح لخلوه عن المعصية ذكرا حتى لو قال لله على صوم يوم النحر لم يصح نذره في رواية الحسن كقولها لله علي صوم أيام حيضي بخلاف قوله غدا وكان يوم النحر، وبخلاف ضرب أبيه أو شتم أمه إذ لا جهة لغير المعصية فلا يصح النذر به أصلًا لا لشروعه في ظاهر الرواية لاتصاله بها فعلا وصح صلاة وقت المنهي لعراء أركانها وشروطها عن القبح حتى الوقت بأصله والفساد في وصفه لنسبه إلى الشيطان كما في بطن عرنة ووادي محسر في المكان وحديث الرغم معرفة لا تسمع في مقابلة الحديث غير أن الوقت ظرفها لا معيارها، فصارت ناقصة لا فاسدة فتضمن بالشروع بخلاف الصوم لقيامه بالوقت فإنه معياره وجودا ويذكر في حده تعقلا وقد يفرق بأن جزء الصوم ككله اسما فلا ينعقد شروعه للنهي بخلاف الصلاة إذ أولها ليست صلاة إلى السجدة وتبين الحلف بهما ولنقصانها للسببية لا يتأدى بها الكامل بخلاف الصلاة في المغصوب إذ ليس المكان سببا ولا وصفا فلا يورث فسادا ولا نقصا بل كراهة لتعلق نهيه بالشغل المجاور لا كما قال أحمد والزيدية وبعض المتكلمين كأبي الحسين البصري والإمام الرازي أنها لا تصح؛ لأن الصلاة حركة وسكون والشغل جزء منهما وجزء الجزء جزء والنهي الجزئي مبطل؛ لأن مصداق الجوار الانفكاك وهو حاصل.
ويويده إجماع السلف على أنهم ما أمروا الظلمة بقضاء الصلوات المؤدات في المغصوب ولا نهوا عنها إذ لو وقع لانتشر، وفيه بحث لأن الجزئية إذا صحت تنافي الانفكاك إذ لا كل بدون الجزء.
وتحقيقه: أن المعتبر في جزئية الصلاة شغل ما ولا فساد فيه وإلا لفسد كل صلاة بل في تعينه المكاني بل من حيث اتصافه بالتعدي وذا مما ينفك عن ذلك الشغل المعين بتعين مكانه بأن يلحقه إذن مالكه أو ينتقل ملكه إلى المصلي أو إلى بيت المال ولا يجيء مثله في الصلاة في الوقت المكروه؛ لأن نقصانه للسببية ولا في الصوم لأن تعين الوقت معتبر فيه بالوجهين وبه يعرف أن الوقت سبب للنوافل أيضًا إذ الكلام فيها إذكل وقت داع إلى الشكر فيه.

(2/47)


5 - كره البيع وقت النداء؛ لأن ترك السعي مجاور قد يقترفان بخلاف بيع الحر والمائن ونكاح المحارم وأزواج الآباء وصوم الليل فإن النهي فيها مستعار للنفى لفقد المحل ونسخ صوم الليل؛ لأن الوصال غير ممكن فتعين النهي للابتلاء لأنها المعنية لشهوة البطن غالبا، والفرج يتبعه لأنه وجاء إلا أنه لو واصل بالنية في رمضان تأدي لأن القبح في المجاور وهو الإمساك في الليل بخلاف صوم يوم النحر والمنفي في قوله عليه السلام لا نكاح إلا بشهود نكاح الشرعي، فلا خلف ولا حمل على النهي وإنما يسقط الحد ويثبت النهيب والعدة لشبهة العقد، أو نقول أريد النهي لكن مع الدليل على بطلانه فإن النكاح ملك ثابت لضرورة النسل ولذا لا يظهر أثره فيما وراء ذلك فلو قطع طرفها أو آجرت نفسها أو وطئت بشبهة فالأرش والأجرة والعقر لها لكن لا ينفك عن الحل لأنه المقصود والنهي يقتضي تحريما يضاده فبطل بالمضادة بخلاف البيع الموضوع لملك العين والحل تبع حيث لا يضاده تحريم الاستمتاع لجواز اجتماعه مع الملك كما في المحرم كالأمة المجوسية وفيما لا يحتمل الحل أصلًا كالعبد والبهائم.
للقائل بدلالته على البطلان لغة استدلال العلماء به عليه وإنه نقيض الأمر المقتضى للصحة فيقتضى نقيضها، ورد الأول بمنع دلالته استدلال لهم على البطلان اللغوي بل الشرعي.
والثاني: بأن اقتضاء الأمر الصحة شرعي فكذا اقتضاء النهي سلمنا لكن المتقابلات جاز اشتراكها في لازم واحد فضلا عن التناقض سلمنا لكن نقيض اقتضاء الصحة عدم اقتضائها لا اقتضاء البطلان وفي الكل نظر، فإن استدلالهم لا بد من الانتهاء استقراء موارد اللغة ولا سيما قبل تدوين قواعد الشرع ومنه بعلم أن اقتضاء الأمر الصحة لغوي والاستدلال على تناقض مقتضاهما ليس بمجرد التناقض المراد به التقابل بل بالعرف المستمر على أن الأثر المطلوب بإحداهما نقيض المطلوب بالآخر وقد مر، وعدم الاقتضاء ليس أثرا والكلام في أثرهما والحق أن اقتضاءهما مطلق الصحة والبطلان لغوي، والشرعيين شرعي مستفاد من اللغوي، وللنافي للبطلان مطلقا أنه لو فعلت لكان مناقضا للتصريح بصحته لكن يصح نهيتك عن الربا العينة ولو فعلت لعاقبتك ولكن يثبت به الملك. قلنا: الظهور في الشيء لا يمنع التصريح بنقيضه الصارف عنه، ولأبي الحسين أن المنهي عنه في العبادة معصية فلا يكون مأمورًا به وإن نهي لمجاوره لا في العاملة فإن اللامشروعية لا تنافي المشروعية من وجهين قلنا كذا المأمور به ذاتا القبح صفة كما مر على أن المأمور به مطلق الفعل وأن لم يتحقق إلا في المعنيات، فالتعينات غيره مجاز القبح

(2/48)


فيها دونه.
(تتمة) كذا المنهي عنه لوصفه كعقد الربا أمر إذا بنهيه نهي الفضل يكون مشروعا بأصله دون وصفه بالأولى خلافا لكثير منهم الشافعي رحمه الله تعالى قال نهي الوصف يضاد وجوب الأصل لأن نفى اللازم ملزوم نفى الملزوم قبل معناه أنه ظاهر في عدم وجوب أصله لأنه يضاده عقلا وإلا ورد نهي الكراهة لأنها كالحرمة ضد الوجوب وقد جامعته في الصلاة في المغصوب والصوم يوم الجمعة مفردا، وليس بوارد لأن الفارق اعتبار اللزوم في الوصف لا في المجاور قلنا لا ضرورة صارفة عن أصلنا إلا عند الدلالة على القبح العيني أو الجزئي فإن صحة الإجراء والشروط كافية في صحة الشىء وإن لم يصح أوصافهما وترجيح الصحة وهو الأصل باعتبار الأجزاء أولى من ترجيح البطلان باعتبار الوصف الخارجي لها ككون وقت صوم العيد يوم ضيافة الله تعالى فإنه وصف لمطلق النهار المعتبر لمعاينته جزءًا في الصوم فجعل وصف الجزء وصفا للكل بخلاف وصف وقت الصلاة في الأوقات المكروهة وهو كونه منسوبا إلى الشيطان إذا الوقت لظرفيته لم يعتبر جزأ فيها فجعل وصفه مجاورا لا مؤثرا في فساده بل نقصانه لسببيته، فهذا اتضح الفرق {حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف: 51]، وقبح اللازم ليس عدمه وليعلم أن قبح الصلاة في الوقت المكروه جعله البعض للوصف ففرق بينها وبين صوم العيد بالظرفية والبعض للمجاور ففرق بينها وبين الصلاة في المغصوب بالسببية وعليك بالاختيار بعد الاختيار.
الثالث: أنه يوجب دوام ترك المنهي عنه إلا لدليل ولذا لم يزل العلماء يستدلون به عليه في كل وقت قالوا قد انفك الدوام عنه في نحو نهي الحائض عن الصلاة والصوم قلنا نهي مقيد مع عمومة لأوقات الحيض والكلام في المطلق.