قواعد الأحكام في مصالح الأنام

[فَصْلٌ فِيمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ الصَّغَائِرُ مِنْ الْكَبَائِرِ]
فِيمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ الصَّغَائِرُ مِنْ الْكَبَائِرِ
إذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ فَاعْرِضْ مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ عَلَى مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ أَقَلِّ مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ فَهِيَ مِنْ الصَّغَائِرِ وَإِنْ سَاوَتْ أَدْنَى مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ أَوْ أَرْبَتْ عَلَيْهَا فَهِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ. فَمَنْ شَتَمَ الرَّبَّ أَوْ الرَّسُولَ أَوْ اسْتَهَانَ بِالرُّسُلِ أَوْ كَذَّبَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ ضَمَخَ الْكَعْبَةَ بِالْعَذِرَةِ أَوْ أَلْقَى الْمُصْحَفَ فِي الْقَاذُورَاتِ فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَمْسَكَ امْرَأَةً مُحْصَنَةً لِمَنْ يَزْنِي بِهَا أَوْ مُسْلِمًا لِمَنْ يَقْتُلُهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَفْسَدَةَ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ الْكُفَّارَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَسْتَأْصِلُونَهُمْ بِدَلَالَتِهِ وَيَسْبُونَ حُرُمَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ، وَيَغْتَنِمُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَزْنُونَ بِنِسَائِهِمْ وَيُخَرِّبُونَ دِيَارَهُمْ، فَإِنَّ تَسَبُّبَهُ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَعْظَمُ مِنْ تَوْلِيَتِهِ يَوْمَ الزَّحْفِ بِغَيْرِ عُذْرٍ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَذَبَ عَلَى إنْسَانٍ كَذِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِسَبَبِهِ، وَلَوْ كَذَبَ عَلَى إنْسَانٍ كَذِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُ تَمْرَةٌ بِسَبَبِ كَذِبِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ وَأَكْلَ مَالَ الْيَتِيمِ مِنْ الْكَبَائِرِ فَإِنْ وَقَعَا فِي مَالٍ خَطِيرٍ فَهَذَا ظَاهِرٌ، وَإِنْ وَقَعَا فِي مَالٍ حَقِيرٍ كَزَبِيبَةٍ وَتَمْرَةٍ فَهَذَا مُشْكِلٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ الْكَبَائِرِ فِطَامًا عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ، كَمَا جُعِلَ شُرْبُ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَفْسَدَةُ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضْبَطَ ذَلِكَ الْمَالُ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ.

(1/23)


وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَبِيرَةٌ فَإِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ مُتَسَبِّبٌ مُتَوَسِّلٌ وَالْحَاكِمُ مُبَاشِرٌ فَإِذَا جُعِلَ التَّسَبُّبُ كَبِيرَةً فَالْمُبَاشَرَةُ أَكْبَرُ مِنْ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالزُّورِ عَلَى قَتْلٍ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ فَسَلَّمَ الْحَاكِمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إلَى الْوَالِي فَقَتَلَهُ وَكُلُّهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فَشَهَادَةُ الزُّورِ كَبِيرَةٌ وَالْحُكْمُ أَكْبَرُ مِنْهَا وَمُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ أَكْبَرُ مِنْ الْحُكْمِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى تَسَاوِي الْمَفَاسِدِ وَتَفَاوُتِهَا عِزَّةٌ وَلَا يَهْتَدِي إلَيْهَا إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْوُقُوفُ عَلَى التَّسَاوِي أَعَزُّ مِنْ الْوُقُوفِ عَلَى التَّفَاوُتِ، وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ إلَّا بِالتَّقْرِيبِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ النَّصِّ عَلَى كَوْنِ الذَّنْبِ كَبِيرَةً أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِغَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ، فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَشْتُمَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ فَقَالَ. نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ. جَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّسَبُّبَ إلَى سَبِّهِمَا مِنْ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مُبَاشَرَةَ سَبِّهِمَا أَكْبَرُ مِنْ التَّسَبُّبِ إلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ»
جُعِلَ اللَّعْنُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ لِفَرْطِ قُبْحِهِ بِخِلَافِ السَّبِّ الْمُطْلَقِ. وَقَدْ نَصَّ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ، مَعَ الْخِلَافِ فِي رُتَبِ الْعُقُوقِ، وَلَمْ أَقِفْ فِي عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَلَا فِيمَا يَخْتَصَّانِ بِهِ مِنْ الْحُقُوقِ عَلَى ضَابِطٍ أَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَا يَحْرُمُ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ فَهُوَ حَرَامٌ فِي حَقِّهِمَا وَمَا يَجِبُ لِلْأَجَانِبِ فَهُوَ وَاجِبٌ لَهُمَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ طَاعَتُهُمَا فِي كُلِّ مَا يَأْمُرَانِ بِهِ وَلَا فِي كُلِّ مَا يَنْهَيَانِ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ حَرُمَ عَلَى الْوَلَدِ الْجِهَادُ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا لِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمَا مِنْ تَوَقُّعِ قَتْلِهِ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَلِشِدَّةِ تَفَجُّعِهِمَا عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ أُلْحِقَ بِذَلِكَ كُلُّ سَفَرٍ يَخَافَانِ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَقَدْ سَاوَى الْوَالِدَانِ الرَّقِيقَ فِي النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالسُّكْنَى. وَقَدْ ضَبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْكَبَائِرَ بِأَنْ قَالَ. كُلُّ ذَنْبٍ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ لَعْنٌ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ. فَتَغْيِيرُ مَنَارِ الْأَرْضِ كَبِيرَةٌ لِاقْتِرَانِ اللَّعْنِ بِهِ.
وَكَذَلِكَ قَتْلُ

(1/24)


الْمُؤْمِنِ كَبِيرَةٌ لِأَنَّهُ اقْتَرَنَ بِهِ الْوَعِيدُ وَاللَّعْنُ وَالْحَدُّ، وَالْمُحَارَبَةُ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالْقَذْفُ كَبَائِرُ لِاقْتِرَانِ الْحُدُودِ بِهَا، وَعَلَى هَذَا كُلُّ ذَنْبٍ عُلِمَ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ كَمَفْسَدَةِ مَا قُرِنَ بِهِ الْوَعِيدُ أَوْ اللَّعْنُ أَوْ الْحَدُّ أَوْ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ.

[فَائِدَةٌ مَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا قَذْفًا لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالْحَفَظَةَ]
(فَائِدَةٌ) فَإِنْ قِيلَ الْكَذِبُ فِيمَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ صَغِيرَةٌ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا قَذْفًا لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالْحَفَظَةَ؟ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوَاجِهْ بِهِ الْمَقْذُوفَ وَلَمْ يَغْتَبْهُ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ، هَلْ يَكُونُ قَذْفُهُ كَبِيرَةً مُوجِبَةً لِلْحَدِّ مَعَ خُلُوِّهِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْأَذَى؟ قُلْنَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ لِانْتِفَاءِ الْمَفْسَدَةِ وَلَا يُعَاقَبُ فِي الْآخِرَةِ عِقَابَ الْمُجَاهِرِ فِي وَجْهِ الْمَقْذُوفِ أَوْ فِي مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ، بَلْ عِقَابَ الْكَذَّابِينَ غَيْرِ الْمُصِرِّينَ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّ الَّذِي يُؤْذِيك مِنْهُ سَمَاعُهُ ... وَإِنَّ الَّذِي قَالُوا وَرَاءَك لَمْ يُقَلْ
شَبَّهَهُ بِاَلَّذِي لَمْ يُقَلْ لِانْتِفَاءِ ضَرَرِهِ وَأَذِيَّتِهِ، فَإِنْ قِيلَ إذَا اغْتَابَهُ بِالْقَذْفِ لَمْ يَتَأَذَّ الْمَقْذُوفُ مَعَ غَيْبَتِهِ، فَلِمَ أَوْجَبْتُمْ الْحَدَّ مَعَ انْتِفَاءِ مَفْسَدَةِ التَّأَذِّي؟ قُلْنَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ بَلَغَهُ لَكَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ الْقَذْفِ فِي الْخَلْوَةِ، وَلِأَنَّهُ إذَا قَذَفَهُ عَلَى مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ احْتَقَرُوهُ بِذَلِكَ وَزَهِدُوا فِي مُعَامَلَتِهِ وَمُوَاصَلَتِهِ، وَرُبَّمَا أَشَاعُوا ذَلِكَ إلَى أَنْ يَبْلُغَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَذْفُهُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالْإِنْسَانُ يَكْرَهُ بِطَبْعِهِ أَنْ يُهْتَكَ عِرْضُهُ فِي غَيْبَتِهِ وَأَمَّا قَذْفُهُ فِي الْخَلْوَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ إجْرَائِهِ عَلَى لِسَانِهِ وَبَيْنَ إجْرَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ.

[فَصْلٌ فِي مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فِي ظَنِّهِ وَلَيْسَتْ فِي الْبَاطِنِ كَبِيرَةً]
فِي مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فِي ظَنِّهِ يَتَصَوَّرُهَا بِتَصَوُّرِ الْكَبَائِرِ وَلَيْسَتْ فِي الْبَاطِنِ كَبِيرَةً
إنْ قِيلَ لَوْ أَنَّ إنْسَانًا قَتَلَ رَجُلًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فَظَهَرَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ دَمَهُ

(1/25)


أَوْ وَطِئَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ وَأَنَّهُ زَانٍ بِهَا فَإِذَا هِيَ زَوْجَتُهُ، أَوْ أَمَتُهُ أَوْ أَكَلَ مَالًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لِيَتِيمٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُهُ، أَوْ شَهِدَ بِالزُّورِ فِي ظَنِّهِ وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ مُوَافِقَةً لِلْبَاطِنِ، أَوْ حَكَمَ بِبَاطِلٍ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ حَقٌّ، فَهَلْ يَكُونُ مُرْتَكِبًا لِكَبِيرَةٍ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمَفْسَدَةُ؟ قُلْنَا أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْفَاسِقِينَ، وَتَسْقُطُ عَدَالَتُهُ لِجُرْأَتِهِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَرِوَايَتُهُ، وَتَبْطُلُ بِذَلِكَ كُلُّ وِلَايَةٍ تُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ إنَّمَا شُرِطَتْ فِي الشَّهَادَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالْوِلَايَاتِ، لِتَحْصُلَ الثِّقَةُ بِصِدْقِهِ فِي أَخْبَارِهِ وَشَهَادَتِهِ وَبِأَدَائِهِ الْأَمَانَةَ فِي وِلَايَتِهِ، وَقَدْ انْخَرَمَتْ الثِّقَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِجَرَاءَتِهِ عَلَى رَبِّهِ بِارْتِكَابِ مَا يَعْتَقِدُهُ كَبِيرَةً، لِأَنَّ الْوَازِعَ عَنْ الْكَذِبِ فِي أَخْبَارِهِ وَشَهَادَتِهِ، وَعَنْ التَّقْصِيرِ فِي وِلَايَتِهِ إنَّمَا هُوَ خَوْفُهُ مِنْ الْجُرْأَةِ عَلَى رَبِّهِ بِارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ، أَوْ بِالْإِصْرَارِ عَلَى صَغِيرَةٍ، فَإِذَا حَصَلَتْ جُرْأَتُهُ عَلَى مَا ذَكَرَتْهُ سَقَطَتْ الثِّقَةُ، بِمَا يَزَعُهُ عَنْ الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ وَشَهَادَتِهِ وَالنُّصْحِ فِي وِلَايَتِهِ.
وَأَمَّا مَفَاسِدُ الْآخِرَةِ وَعَذَابُهَا فَلَا يُعَذَّبُ تَعْذِيبَ زَانٍ وَلَا قَاتِلٍ وَلَا آكِلٍ مَالًا حَرَامًا، لِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ مُرَتَّبٌ عَلَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ فِي الْغَالِبِ كَمَا أَنَّ ثَوَابَهَا مُرَتَّبٌ عَلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ فِي الْغَالِبِ، وَلَا يَتَفَاوَتَانِ بِمُجَرَّدِ الطَّاعَةِ وَلَا بِمُجَرَّدِ الْمَعْصِيَةِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَجْرُ التَّصَدُّقِ بِتَمْرَةٍ كَأَجْرِ التَّصَدُّقِ بِبَدْرَةٍ، وَلَكَانَتْ غِيبَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِنِسْبَتِهِمْ إلَى الْكَبَائِرِ كَغِيبَتِهِمْ بِنِسْبَتِهِمْ إلَى الصَّغَائِرِ، وَلَكَانَ سَبُّ الْأَنْبِيَاءِ كَسَبِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَذَّبُ تَعْذِيبَ مَنْ ارْتَكَبَ صَغِيرَةً لِأَجْلِ جُرْأَتِهِ وَانْتِهَاكِهِ الْحُرْمَةَ بَلْ يُعَذَّبُ عَذَابًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ بِجُرْأَتِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ تُضْبَطَ الْكَبِيرَةُ بِمَا يُشْعِرُ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا فِي دِينِهِ إشْعَارَ أَصْغَرِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ أَقِفْ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى ضَابِطٍ لِذَلِكَ.

(1/26)


[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ]
فِي حُكْمِ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ
فَإِنْ قِيلَ قَدْ جَعَلْتُمْ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ بِمَثَابَةِ ارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ، فَمَا حَدُّ الْإِصْرَارِ أَيَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ أَمْ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؟ قُلْنَا إذَا تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الصَّغِيرَةُ تَكَرُّرًا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِدِينِهِ إشْعَارَ ارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ بِذَلِكَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَرِوَايَتُهُ بِذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَتْ صَغَائِرُ مُخْتَلِفَةُ الْأَنْوَاعِ بِحَيْثُ يُشْعِرُ مَجْمُوعُهَا بِمَا يُشْعِرُ أَصْغَرُ الْكَبَائِرِ.

[فَصْلٌ فِي إتْيَانِ الْمَفَاسِدِ ظَنًّا أَنَّهَا مِنْ الْمَصَالِحِ]
فِي إتْيَانِ الْمَفَاسِدِ ظَنًّا أَنَّهَا مِنْ الْمَصَالِحِ
مَنْ أَتَى مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ فِي ظَنِّهِ وَهُوَ مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَنْ أَكَلَ مَالًا يَعْتَقِدُهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ يَظُنُّ أَنَّهَا فِي مِلْكِهِ، أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا يَعْتَقِدُهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ سَكَنَ دَارًا يَعْتَقِدُهَا فِي مِلْكِهِ، أَوْ اسْتَخْدَمَ عَبْدًا يَعْتَقِدُهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ وَكِيلَهُ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْ مِلْكِهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِظَنِّهِ، وَلَا يَتَّصِفُ فِعْلُهُ بِكَوْنِهِ طَاعَةً وَلَا مَعْصِيَةً وَلَا مُبَاحًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَأَفْعَالِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، وَيَلْزَمُ ضَمَانُ مَا فَوَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ، وَالْجَوَائِزُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَآثِمِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَأْثَمُ وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا.

[فَصْلٌ فِيمَنْ فَعَلَ مَا يَظُنُّهُ قُرْبَةً أَوْ وَاجِبًا وَهُوَ مَفْسَدَةٌ]
فِيمَنْ فَعَلَ مَا يَظُنُّهُ قُرْبَةً أَوْ وَاجِبًا وَهُوَ مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا يَظُنُّهُ قُرْبَةً أَوْ مُبَاحًا وَهُوَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمُحَرَّمَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ كَالْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ بِمَا يَظُنُّهُ حَقًّا بِنَاءً عَلَى الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَالْمُصَلِّي

(1/27)


يُصَلِّي عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ، أَوْ كَمَنْ يُصَلِّي عَلَى مُرْتَدٍّ يَعْتَقِدُهُ مُسْلِمًا، وَكَالشَّاهِدِ يَشْهَدُ بِحَقٍّ عَرَفَهُ بِنَاءً عَلَى اسْتِصْحَابِ بَقَائِهِ فَظَهَرَ كَذِبُ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَهَذَا خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ، وَلَكِنْ يُثَابُ فَاعِلُهُ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ فِعْلِهِ، إلَّا مَنْ صَلَّى مُحْدِثًا فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى قَصْدِهِ وَعَلَى مَا أَتَى بِهِ فِي صَلَاتِهِ مِمَّا لَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ فِيهِ.
وَلَوْ أُوجِرَ مُضْطَرًّا طَعَامًا قَاصِدًا لِحِفْظِ حَيَاتِهِ وَكَانَ الطَّعَامُ مَسْمُومًا فَقُتِلَ الْمُضْطَرُّ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ إيجَارِهِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلَوْ أَكَلَ فِي الْمَخْمَصَةِ طَعَامًا يَجْهَلُ كَوْنَهُ مَسْمُومًا فَقَتَلَهُ فَلَا دِيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي مَالِهِ اخْتِلَافُ جَارٍ فِي كُلِّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ.