التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح النوع الثاني
والثلاثين: معرفة غريب الحديث.
وهو عبارة عما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة
البعيدة من الفهم لقلة استعمالها.
هذا فن مهم يقبح جهله بأهل الحديث خاصة ثم بأهل العلم عامة
والخوض فيه ليس بالهين والخائض فيه حقيق بالتحري جدير بالتوقي.
(1/274)
روينا عن الميموني قال: سئل أحمد بن حنبل
عن حرف من غريب الحديث فقال: سلوا أصحاب الغريب فإني أكره أن
أتكلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن فأخطئ.
وبلغنا عن التاريخي محمد بن عبد الملك قال: حدثني أبو قلابة
عبد الملك بن محمد قال: قلت للأصمعي يا أبا سعيد ما معنى قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم الجار أحق بسقبه. فقال: أنا لا
أفسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن العرب تزعم أن
السقب اللزيق ثم إن غير واحد من العلماء صنفوا في ذلك فأحسنوا.
وروينا عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ قال: أول من صنف الغريب
في إلاسلام النضر بن شميل. ومنهم من خالفه فقال: أول من صنف
فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى. وكتاباهما صغيران.
وصنف بعد ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام كتابه المشهور فجمع
وأجاد واستقصى فوقع من أهل العلم بموقع جليل وصار قدوة في هذا
الشأن ثم تتبع القتيبي ما فات أبا عبيد فوضع فيه كتابه المشهور
ثم تتبع أبو سليمان الخطابي ما فاتهما فوضع في ذلك كتابه
المشهور.
فهذه الكتب الثلاثة أمهات الكتب المؤلفة في ذلك. ووراءها مجامع
تشتمل من ذلك على زوائد وفوائد كثيرة ولا ينبغي أن يقلد منها
إلا ما كان مصنفوها أئمة أجلة.
وأقوى ما يعتمد عليه في تفسير غريب الحديث: أن يظفر به مفسرا
في بعض روايات الحديث. نحو ما روي في حديث ابن صياد أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال له: "قد خبأت لك خبيئا فما هو؟ ". قال:
الدخ فهذا خفي معناه أعضل وفسره قوم بما لا يصح. وفي معرفة
علوم الحديث للحاكم أنه الدخ بمعنى الزخ الذي هو الجماع
(1/275)
وهذا تخليط فاحش يغيظ العالم والمؤمن.
وإنما معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "قد
أضمرت لك ضميرا فما هو؟ " فقال: الدخ بضم الدال يعني الدخان
والدخ هو الدخان في لغة إذ في بعض روايات الحديث ما نصه:
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد خبأت لك خبيئا"
وخبأ له: يوم تأتي السماء بدخان مبين. فقال ابن صياد هو الدخ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسأ فلن تعدو قدرك".
وهذا ثابت صحيح خرجه الترمذي وغيره. فأدرك ابن صياد من ذلك هذه
الكلمة فحسب على عادة الكهان في اختطاف بعض الشيء من الشياطين
من غير وقوف على تمام البيان. ولهذا قال له: "اخسأ فلن تعدو
قدرك" أي فلا مزيد لك على قدر إدراك الكهان والله أعلم.
(1/276)
النوع الثالث
والثلاثون: معرفة المسلسل من الحديث.
التسلسل من نعوت الأسانيد وهو: عبارة عن تتابع رجال الإسناد
وتواردهم فيه واحد ابعد واحد على صفة أو حالة واحدة وينقسم ذلك
إلى ما يكون صفة للرواية والتحمل وإلى: ما يكون صفة للرواة أو
حالة لهم.
ثم إن صفاتهم في ذلك أحوالهم أقوالا وأفعالا ونحو ذلك تنقسم
إلى مالا نحصيه.
ونوعه الحاكم أبو عبد الله الحافظ إلى ثمانية أنواع والذي ذكره
فيها إنما هو صور أمثلة ثمانية. ولا انحصار لذلك في ثمانية كما
ذكرناه ومثال ما يكون صفة للرواية والتحمل: ما يتسلسل بسمعت
فلانا قال: سمعت فلانا إلى آخر الإسناد.
__________
النوع الثالث والثلاثون معرفة المسلسل.
"قوله" ونوعه الحاكم أبو عبد الله إلى ثمانية أنواع والذي ذكره
فيها إنما هو صور وأمثلة ثمانية ولا انحصار لذلك في ثمانية كما
ذكرناه انتهى.
قلت لم يحصر الحاكم مطلق أنواع التسلسل إلى ثمانية أنواع وإنما
ذكر أنواع التسلسل الدالة على الاتصال لا مطلق المتسلسل ويظهر
ذلك بعدها وتعبيره عنها فالأول
(1/276)
أو يتسلسل ب حدثنا أو أخبرنا إلى آخره. ومن
ذلك أخبرنا والله فلان قال: أخبرنا والله فلان إلى آخره.
ومثال ما يرجع إلى صفات الرواة وأقوالهم ونحوها: إسناد حديث:
"اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك" المسلسل بقولهم: "إني
أحبك فقل". وحديث التشبيك باليد.
وحديث العد في اليد في أشباه لذلك نرويها وتروى كثيرة وخيرها
ما كان فيه دلالة على اتصال السماع وعدم التدليس ومن فضيلة
التسلسل اشتماله علي مزيد الضبط من الرواة وقلما تسلم
المسلسلات من ضعف أعني في وصف التسلسل لا في أصل المتن.
ومن المسلسل ما ينقطع تسلسله في وسط إسناده وذلك نقص فيه وهو
كالمسلسل ب أول حديث سمعته على ما هو الصحيح في ذلك والله
أعلم.
__________
المسلسل بسمعت والثاني المسلسل بقولهم قم فصب على حتى أريك
وضوء فلان والثالث المسلسل بمطلق ما يدل على الاتصال من سمعت
أو أنا أو ثنا وإن اختلفت ألفاظ الرواة في ألفاظ الأداء
والرابع المسلسل بقولهم فان قيل لفلان من أمرك بهذا قال يقول
أمرني فلان والخامس المسلسل بالأخذ باللحية وقولهم آمنت بالقدر
خيره وشره والسادس المسلسل بقولهم وعدهن في يدي والسابع
المسلسل بقولهم شهدت على فلان والثامن المسلسل بالتشبيك باليد
ثم قال الحاكم فهذه أنواع المسلسل من الأسانيد المتصلة التي لا
يشوبها تدليس وآثار السماع بين الراويين ظاهرة انتهى.
فلم يذكر الحاكم من المسلسلات إلا ما دل على الاتصال دون
استيعاب بقية المسلسلات نعم بقى على الحاكم عدة من المسلسلات
الدالة على الاتصال لم يذكرها كالمسلسل بقوله أطعمنا وسقانا
والمسلسل بقوله أضافنا على الأسودين التمر والماء والمسلسل
بقوله أخذ فلان بيدي والمسلسل بالمصافحة والمسلسل بقص الأظفار
يوم الخميس والله أعلم.
(1/277)
|