التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح النوع الرابع والثلاثون- معرفة ناسخ الحديث
ومنسوخه.
هذا فن مهم مستصعب روينا عن الزهري رضي الله عنه أنه قال: أعيى
الفقهاء أعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم من منسوخه وكان للشافعي رضي الله عنه فيه يد طولى وسابقة
أولى. روينا عن محمد بن مسلم بن وارة أحد أئمة الحديث: أن أحمد
ابن حنبل قال له وقد قدم من مصر: كتبت كتب الشافعي؟ فقال: لا.
قال: فرطت ما علمنا المجمل من المفسر ولا ناسخ حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي.
وفيمن عاناه من أهل الحديث من أدخل فيه ما ليس منه لخفاء معنى
النسخ وشرطه.
وهو عبارة عن رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه متأخر وهذا
حد وقع لنا سالم من اعتراضات وردت على غيره. ثم إن ناسخ الحديث
ومنسوخه ينقسم أقساما:
__________
النوع الرابع والثلاثون- معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه.
"قوله" وهو عبارة عن رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه
متأخر فهذا حد وقع لنا سالم من اعتراضات وردت على غيره انتهى.
وهذا الذي حده به المصنف تبع فيه القاضي أبا بكر الباقلاني
فإنه حده برفع الحكم واختاره الآمدي وابن الحاجب قال الحازمي
وقد أطبق المتأخرون على ما حده به القاضي أنه الخطاب الدال على
ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا
مع تراخيه عنه قال الحازمي وهذا حد صحيح انتهى.
وقد اعترض عليه بأن التعبير برفع الحكم ليس بجيد لأن الحكم
قديم لا يرتفع والجواب عنه أنه إنما المراد برفع الحكم قطع
تعليقه بالمكلف واعترض صاحب المحصول أيضا على هذا الحد بأوجه
أخر في كثير منها نظر ليس هذا موضع إيرادها.
(1/278)
فمنها: ما يعرف بتصريح رسول الله صلى الله
عليه وسلم به كحديث بريدة الذي أخرجه مسلم في صحيحه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور
فزوروها" في أشباه لذلك.
ومنها ما يعرف بقول الصحابي كما رواه الترمذي وغيره عن أبي بن
كعب أنه قال: كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي
عنها وكما خرجه النسائي عن جابر بن عبد الله قال: كان آخر
الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست
النار. في أشباه لذلك.
ومنها: ما عرف بالتاريخ كحديث شداد بن أوس وغيره: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" وحديث ابن
عباس: أن النبي صلى
__________
"قوله" ومنها ما يعرف بقول الصح أبي كما رواه الترمذي وغيره عن
أبي بن كعب أنه قال كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم
نهى عنها وكما أخرجه النسائي عن جابر بن عبد الله قال كان آخر
الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست
النار في أشباه لذلك انتهى.
أطلق المصنف أن النسخ يعرف بقول الصح أبي لكن هل يكتفي بقوله
هذا ناسخ أو هذا منسوخ أو لابد من التصريح بأن هذا متأخر عن
هذا فالذي ذكره الأصوليون كصاحب المحصول والآمدي وابن الحاجب
أنه لابد من إخباره بأن أحدهما متأخر ولا يكتفي بقوله هذا ناسخ
لاحتمال أن يقوله عن اجتهاد ونحن لا نرى ما يراه وحكى صاحب
المحصول عن الكرخى أنه يكفي إخباره بالنسخ إذ لولا ظهور النسخ
فيه لم يطلقه وما ذهب إليه الكرخى هو الظاهر وفي عبارة الشافعي
ما يقتضى الاكتفاء بذلك فإنه قال ولا يستدل على الناسخ
والمنسوخ إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بوقت
يدل على أن أحدهما بعد الآخر أو بقول من سمع الحديث أو العامة
هكذا رواه البيهقي في المدخل بإسناده إلى الشافعي فقوله أو
بقول من سمع الحديث أراد به قول الصح أبي مطلقا لا قوله هذا
متأخر فقط لأن هذه الصورة قد دخلت في قوله أو بوقت يدل على أن
أحدهما بعد الآخر والله أعلم.
(1/279)
الله عليه وسلم: "احتجم وهو صائم"بين
الشافعي: أن الثاني ناسخ للأول من حيث إنه روي في حديث شداد:
أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الفتح فرأى رجلا
يحتجم في شهر رمضان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم".
وروي في حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم
صائم. فبان بذلك: أن إلاول كان زمن الفتح في سنة ثمان والثاني
في حجة الوداع في سنة عشر.
ومنها: ما يعرف بالإجماع كحديث قتل شارب الخمر في المرة
الرابعة فإنه منسوخ عرف نسخه بانعقاد الإجماع على ترك العمل
به.
والإجماع لا ينسخ ولا ينسخ ولكن يدل على وجود ناسخ غيره والله
أعلم.
__________
قوله ومنها ما يعرف بالإجماع كحديث قتل شارب الخمر في المرة
الرابعة فإنه منسوخ عرف نسخه بانعقاد الاجماع على ترك العمل به
انتهى.
وفيه أمور أحدها أنه ورد في الحديث نسخه فلا حاجة للاستدلال
عليه بالإجماع أما المنسوخ فهو ما رواه أصحاب السنن الأربعة من
حديث معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شرب
الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه" ورواه أحمد في
مسنده من حديث عبد الله بن عمرو وشرحبيل بن أوس وصح أبي لم يسم
ورواه الطبراني من حديث جرير بن عبد الله والشريد بن أوس.
وأما الناسخ فهو ما رواه البزار في مسنده من رواية محمد بن
اسحق عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة
فاقتلوه" قال فأتى بالنعيمان قد شرب الرابعة فجلده ولم يقتله
فكان ذلك ناسخا للقتل" قال البزار لا نعلم أحدا حدث به إلا ابن
اسحق وذكره الترمذي تعليقا من حديث ابن إسحق ثم قال وكذلك روى
عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو
هذا قال فرفع القتل وكانت رخصة انتهى.
وقبيصة ذكره بن عبد البر في الصحابة قال ولد في أول سنة من
الهجرة وقيل ولد عام الفتح قال ويقال إنه أتى به للنبى صلى
الله عليه وسلم ودعا له انتهى.
(1/280)
...............................................................................
__________
والصحيح أنه ولد عام الفتح الثاني أن دعوى الإجماع في هذا ليس
بجيد وان كان الترمذي قد سبق إلى ذلك فقال في العلل التي في
آخر الجامع جميع ما في هذا الكتاب معمول به وقد أخذ به بعض أهل
العلم ما خلا حديثين فذكر منهما حديث إذا شرب الخمر فاجلدوه
فإن عاد في الرابعة فاقتلوه.
قال النووى في شرح مسلم وهو كما قاله فهو حديث منسوخ دل
الإجماع على نسخه وفيما قالوه نظر فقد روى أحمد بن حنبل في
مسنده عن عبد الله بن عمرو أنه قال ائتوني برجل قد شرب الخمر
في الرابعة فلكم على أن أقتله وحكى أيضا عن الحسن البصرى وهو
قول ابن حزم فلا إجماع إذا وإن قلنا إن خلاف أهل الظاهر لا
يقدح في الإجماع على أحد القولين فقد قال به بعض الصحابة
والتابعين والله أعلم.
الثالث إذا ظهر أن الخلاف في قتل شارب الخمر في الرابعة موجود
فينبغى أن يمثل بمثال آخر أجمعوا على ترك العمل به فنقول روى
أبو عيسى الترمذي من حديث جابر قال كنا إذا حججنا مع النبي صلى
الله عليه وسلم نلبى عن النساء ونرمى عن الصبيان قال الترمذي
بعد تخريجه هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
قال وقد أجمع أهل العلم أن المرأة لا يلبى عنها غيرها هى تلبى
عن نفسها فهذا حديث قد أجمعوا على ترك العمل به وهو في كتاب
الترمذي فكان ينبغى له أن يستثنيه في العلل حين استثنى
الحديثين المتقدمين.
والجواب عن الترمذي من ثلاثة أوجه أحدها أن هذا الحديث قد قال
ببعضه بعض أهل العلم وهو الرمى عن الصبيان فلم يجمع على ترك
العمل بجميع الحديث.
والوجه الثاني أن هذا الحديث قد اختلف في لفظه على ابن نمير
فرواه الترمذي عن محمد بن إسماعيل الواسطى عنه هكذا ورواه أبو
بكر بن أبي شيبة عن ابن نمير بلفظ حججنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان وروينا
عنهم هكذا رواه ابن أبي شيبة في المصنف ومن طريقه رواه ابن
ماجه في سننه قال أبو الحسن بن القطان وهذا أولى بالصواب وأشبه
به انتهى.
وإذا ترجح أن لفظ رواية الترمذي غلط فلك أن تقول نحن لا نحكم
على الحديث.
(1/281)
............................................................................
__________
بالنسخ عند ترك العمل به إجماعا إلا إذا علمنا صحته وقد أشار
إلى ذلك الفقيه أبو بكر الصيرفي في كتاب الدلائل عند الكلام
على تعارض حديثين فقال فان أجمع على إبطال حكم أحدهما فأحدهما
منسوخ أو غلط والآخر ثابت فيمكن حمل كلام الصيرفي على ما إذا
لم يثبت الحديث الذي أجمع عن ترك العمل به فإن الحكم عليه
بالنسخ فرع عن ثبوته ويمكن حمل كلامه على ما إذا كان صحيحا
أيضا وهو خبر آحاد وأجمعوا على ترك العمل به ولا يتعين المصير
إلى النسخ لاحتمال وجود الغلط من راويه فهو كما قال منسوخ أو
غلط والله أعلم.
الوجه الثالث أن الحافظ محب الدين الطبرى في كتاب القرى حمل
لفظ رواية الترمذي في هذا الحديث على أن المراد رفع الصوت
بالتلبية لا مطلق التلبية وأن فيه استعمال المجاز بجعله عن
النساء للاجتزاء بجهر الرجال بالتلبية عن استحبابه في حق
النساء فكأن الرجال قاموا بذلك عن النساء وفيه تكلف وبعد والله
أعلم.
(1/282)
النوع الخامس والثلاثون- معرفة المصحف من
أسانيد الأحاديث ومتونها.
هذا فن جليل إنما ينهض بأعبائه الحذاق من الحفاظ والدارقطني
منهم وله فيه تصنيف مفيد
وروينا عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال:
ومن يعرى من الخطأ والتصحيف؟
فمثال التصحيف في الإسناد حديث شعبة عن العوام بن مراجم عن أبي
عثمان النهدي عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها" الحديث. صحف فيه يحيى بن
معين فقال: ابن مزاحم بالزاي والحاء فرد عليه وإنما هو ابن
مراجم بالراء المهملة والجيم.
ومنه: ما رويناه عن أحمد بن حنبل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال:
حدثنا شعبة عن مالك بن عرفطة عن عبد خير عن عائشة: رضي الله
عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت.
قال أحمد: صحف شعبة فيه فإنما هو خالد بن علقمة وقد رواه زائدة
بن قدامة وغيره على ما قاله أحمد.
وبلغنا عن الدارقطني: أن ابن جرير الطبري قال: فيمن روى عن
رسول الله
(1/282)
صلى الله عليه وسلم من بني سليم: ومنهم
عتبة بن البذر قاله بالباء والذال المعجمة وروى له حديثا وإنما
هو ابن الندر بالنون والدال غير المعجمة.
ومثال التصحيف في المتن: ما رواه ابن لهيعة عن كتاب موسى بن
عقبة إليه بإسناده عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم احتجم في المسجد وإنما هو بالراء احتجر في المسجد بخص أو
حصير حجرة يصلي فيها. فصحفه ابن لهيعة لكونه أخذه من كتاب بغير
سماع. ذكر ذلك مسلم في كتاب التمييز له.
وبلغنا عن الدارقطني في حديث أبي سفيان عن جابر قال: رمي أبي
يوم إلاحزاب على أكحله فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
غندرا قال فيه أبي وإنما هو أبي وهو أبي بن كعب.
وفي حديث أنس: "ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان
في قلبه من الخير ما يزن ذرة". قال فيه شعبة ذرة بالضم
والتخفيف ونسب فيه إلى التصحيف.
وفي حديث أبي ذر: تعين الصانع. قال فيه هشام بن عروة: بالضاد
المعجمة وهو تصحيف والصواب ما رواه الزهري الصانع بالصاد
المهملة ضد الأخرق.
وبلغنا عن أبي زرعة الرازي: أن يحيى بن سلام هو المفسر حدث عن
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ
الْفَاسِقِينَ} قال مصر. واستعظم أبو زرعة هذا واستقبحه وذكر
أنه في تفسير سعيد عن قتادة مصيرهم.
وبلغنا عن الدارقطني: أن محمد بن المثنى أبا موسى العنزي حدث
بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يأتي أحدكم يوم القيامة
ببقرة لها خوار" فقال فيه: أو شاة تنعر بالنون وإنما هو: تيعر
بالياء المثناة من تحت.
وأنه قال لهم يوما: نحن قوم لنا شرف نحن من عنزة قد صلى النبي
صلى الله عليه وسلم إلينا. يريد ما روي: أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى إلى عنزة توهم أنه صلى إلى قبيلتهم وإنما العنزة
ههنا حربة نصبت بين يديه فصلى إليها وأظرف من هذا
(1/283)
ما رويناه عن الحاكم أبي عبد الله عن
أعرابي زعم: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى نصبت بين يديه
شاة أي صحفها عنزة بإسكان النون.
وعن الدارقطني أيضا: أن أبا بكر الصولي أملى في الجامع حديث
أبي أيوب: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال". فقال فيه شيئا
بالشين والياء وأن أبا بكر الإسماعيلي الإمام كان فيما بلغهم
عنه يقول في حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكهان
قر الزجاجة بالزاي وإنما هو: قر الدجاجة بالدال وفي حديث يروى
عن معاوية بن أبي سفيان قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذين يشققون الخطب تشقيق الشعر. ذكر الدارقطني عن وكيع أنه
قاله مرة بالحاء المهملة وأبو نعيم شاهد فرده عليه بالحاء
المعجمة المضمومة.
وقرأت بخط مصنف: أن ابن شاهين قال في جامع المنصور في الحديث:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تشقيق الحطب. فقال بعض
الملاحين: يا قوم فكيف نعمل والحاجة ماسة.
قلت: فقد انقسم التصحيف إلى قسمين: أحدهما في المتن والثاني في
الإسناد وينقسم قسمة أخرى إلى قسمين:
أحدهما: تصحيف البصر كما سبق عن ابن لهيعة وذلك هو ألأكثر.
والثاني: تصحيف السمع نحو حديث لعاصم إلاحول رواه بعضهم فقال
عن واصل إلاحدب فذكر الدارقطني: أنه من تصحيف السمع لا من
تصحيف البصر كأنه ذهب والله أعلم إلى أن ذلك مما لا يشتبه من
حيث الكتابة وإنما أخطأ فيه سمع من رواه.
وينقسم قسمة ثالثة: إلى تصحيف اللفظ وهو ألأكثر. وإلى تصحيف
يتعلق بالمعنى دون اللفظ كمثل ما سبق عن محمد بن المثنى في
الصلاة إلى عنزة وتسمية بعض ما ذكرناه تصحيفا مجازا والله
أعلم.
(1/284)
وكثير من التصحيف المنقول عن الأكابر الجلة
لهم فيه أعذار لم ينقلها ناقلوه ونسأل الله التوفيق والعصمة
والله أعلم.
(1/285)
|