الشرح المختصر لنخبة الفكر لابن حجر العسقلاني

الجهالة:
-[قال الحافظ: (ثم الجهالة: وسببها أن الراوي قد تكثر نعوته فَيُذكر بغير ما اشتهر به لغرض، وصنفوا فيه الموضح).]-
قال المناوي في "اليواقيت والدرر" (2/ 130): (ثم الجهالة بالراوي: وهي السبب الثامن في الطعن سببها أمران أحدهما: إن الراوي قد تكثر نعوته من اسم أو كنية، أو لقب، أو صفة، أو حرفه، أو نسب إلى أب، أو بلد، أو حرفة فيشتهر بشيء منها فيذكر في سند بغير ما اشتهر به لغرض من الأغراض، فيظن أنه آخر فتحصل الجهالة بحاله.
وأكثر من يفعل ذلك المدلسون، ويسمى عندهم تدليس الشيوخ، وهو فن غويص جدا تمس الحاجة إليه، فإن كان الغرض إخفاء ضعفه لكونه لو سمي عرف حاله كان ذلك قادحا في فاعله، وأقبح من ذلك أن يكنى الضعيف بكنية الثقة المسمى باسمه.
وصنفوا فيه - أي في هذا النوع - المُوَضِّح لأوهام الجمع والتفريق وأجاد فيه الخطيب، وسبقه إليه عبد الغني وهو ابن سعيد الأزدي ثم المصري، صنف كتابا نافعا سماه " إيضاح الإشكال " ثم الصوري وهو تلميذ عبد الغني وشيخ الخطيب.
ومن أمثلته محمد بن السائب بن بشر الكلبي المفسر العلامة في الأنساب، أحد الضعفاء، وراوي حديث ذكاة كل مسك دباغة نسبه بعضهم إلى جده فقال: محمد بن بشر، وسماه بعضهم: حماد بن السائب، وكناه بعضهم أبا النضر، وبعضهم أبا سعيد ولم يذكروا اسمه لتوهم الناس أنه إنما روى عن أبي سعيد الخدري الصحابي ... ومثله محمد بن قيس الشامي المصلوب الوضاع دلس اسمه على خمسين وجها، بل يقال: مائة).

الوحدان:
-[قال الحافظ: (وقد يكون مقلا فلا يكثر الآخذ (1) عنه، وصنفوا فيه الوحدان).]-
قال المناوي في "اليواقيت والدرر" (2/ 134): (والأمر الثاني الراوي قد يكون مقلا من الحديث فلا يكثر الآخذ عنه (2).
__________
(1) وقع في النخبة والنزهة: (الأخذ) على المصدرية، وذكرها اللقاني بصيغة اسم الفاعل (الآخذ)، وقال (2/ 1161): (و"الآخذ" بصيغة اسم الفاعل، لا بالمصدر، إذ لا يلزم من كثرة الأخذ كثرة الآخذين؛ لتحققها في الواحد، والظاهر أن المراد بكثرة الآخذين عنه: ما زاد على الواحد ... ).
(2) وقال أيضا (2/ 1162): (يجب أن يقيد هذا النوع بأن يكون المروي عنه مشهورا بالحديث
والعلم؛ لكنه لم يرو عنه إلا واحد، فغاير مجهول العين، إذ يُعتبر فيه أن لا يكون المجهول معروفا بالعلم).

(1/62)


وقد صنفوا فيه الوحدان وهو من لم يرو عنه إلا واحد ولو سُمى، فممن جمعه: مسلم، والحسن بن سفيان فألفا فيه وغيرهما.
ومن فوائده معرفة المجهول إذا لم يكن صحابيا فلا يقبل).

المبهم:
-[قال الحافظ: (أو لا يسمى اختصارا، وفيه المبهمات، ولا يقبل المبهم ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح).]-
وقال في "النزهة" (ص:231): (أو لا يسمى الراوي، اختصارا من الراوي عنه.
كقوله: أخبرني فلان، أو شيخ، أو رجل، أو بعضهم، أو ابن فلان. ويستدل على معرفة اسم المبهم بوروده من طريق أخرى مسمى، وصنفوا فيه المبهمات. ولا يقبل حديث المبهم، ما لم يسم؛ لأن شرط قبول الخبر عدالة رواته، ومن أبهم اسمه لا يعرف عينه؛ فكيف عدالته. وكذا لا يقبل خبره ولو أبهم بلفظ التعديل، كأن يقول الراوي عنه: أخبرني الثقة؛ لأنه قد يكون ثقة عنده مجروحا عند غيره. وهذا على الأصح في المسألة، ولهذه النكتة لم يقبل المرسل ولو أرسله العدل جازما به؛ لهذا الاحتمال بعينه ... ).

المجهول:
-[قال الحافظ: (فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول العين، أو اثنان فصاعدا، ولم يوثق: فمجهول الحال، وهو المستور).]-
وقال في "النزهة" (ص/232): (فإن سمي الراوي، وانفرد راو واحد بالرواية عنه (1)، فهو مجهول العين، كالمبهم، إلا أن يوثقه غير من ينفرد عنه على الأصح، وكذا من ينفرد عنه إذا كان متأهلا لذلك (2).
__________
(1) قال المناوي في "اليواقيت والدرر" (2/ 143): (ولم يشتهر بنفسه بطلب العلم، ولا بحرفة العلماء) فتحص الفرق بين الوحدان والمبهم ومجهول العين، بأن الأول يكون مشهورا بالحديث والعلم، والثانى لم يسم، والثالث لم يشتهر بالحديث والعلم.
(2) أي للتوثيق بأن يكون من الحفاظ المطلعين على أحوال الرواة، وظاهر عبارة الحافظ مشكلة فظاهرها أنه يشترط الأهلية في الثاني دون الأول، قال ابن قطلوبغا: (وقيد الموثق بكونه من أئمة الجرح والتعديل، وقد أهمله المصنف) أي في الأول، وقال أيضا: (وقد يقال ما الفرق بين من ينفرد عنه، وبين غيره حتى يشترط تأهل غير المنفرد للتوثيق دون المنفرد؟!)، وأجاب اللقاني عن هذا الإعتراض فقال (2/ 1188): (وأما قوله: "وقد أهمله المصنف"، إن سلم الإهمال؛ فهو لا يضر للعلم به؛ لأن التوثيق والتعديل والتجريح لا يعتد بها إلا إذا صدرت من المتأهلين لها، لكنا لا نسلمه لجواز أن يكون قول الشارح: "إذا كان متأهلا لذلك" راجعا للصورتين جميعا، بل يكون هذا هو الصواب).

(1/63)


أو إن روى عنه اثنان فصاعدا، ولم يوثق فهو مجهول الحال، وهو المستور. وقد قبل روايته جماعة بغير قيد، وردها الجمهور. والتحقيق أن رواية المستور، ونحوه، مما فيه الاحتمال؛ لا يطلق القول بردها، ولا بقبولها، بل يقال: هي موقوفة إلى استبانة حاله، كما جزم به إمام الحرمين).

رواية المبتدع:
-[قال الحافظ: (ثم البدعة: إما بمكفر، أو بمفسق، فالأول: لا يقبل صاحبها الجمهور. والثاني: يُقْبَل من لم يكن داعية في الأصح، إلا إن روى ما يقوي بدعته فيرد على المختار، وبه صرح الجُوزَجَاني شيخ النسائي).]-
وقال في "النزهة" (ص/232): (ثم البدعة: وهي السبب التاسع من أسباب الطعن في الراوي: وهي إما أن تكون بمكفر: كأن يعتقد ما يستلزم الكفر، أو بمفسق. فالأول: لا يقبل صاحبها الجمهور. وقيل: يقبل مطلقا. وقيل: إن كان لا يعتقد حل الكذب لنصرة مقالته قبل. والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعة؛ لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفها، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف. فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمرا متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه (1)، فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه، مع ورعه وتقواه، فلا مانع من قبوله.
__________
(1) قال الصنعاني في "ثمرات النظر" (ص/25): (أي إثباتا لأمر معلوم بالضرورة أنه ليس منه وإنما فسرنا العكس بهذا لأن ذكر الاعتقاد لا دخل له في كون الفعل بدعة فلا بد من حمله على إثبات أمر ليقابل إنكار أمر فيكون إلماما بالأمرين اللذين هما مرجع البدعة ومنشؤها وهما النقص في الدين والزيادة فيه ... وكان حق العبارة أن يقول أو إثبات غيره أي إثباتا لأمر في الدين معلوم بالضرورة أنه ليس منه قلت إلا أنه لا يخفى أنه من كان بهذه الصفة فهو كافر لرده ما علم من الدين ضرورة وإثباته ما ليس منه ضرورة وكلا الأمرين كفر وإنه تكذيب للشارع وتكذيبه في أي أمر علم من الدين ضرورة إثباته أو نفيه كفر فهذا ليس من محل النزاع إذ النزاع في مجرد الابتداع لا في الكافر الكفر الصريح فلا نزاع فيه وإذا كان من هو بهذه الصفة فقد جاوز رتبة الابتداع إلى أشر منه).

(1/64)


والثاني: وهو من لا تقتضي بدعته التكفير أصلا، وقد اختلف، أيضا، في قبوله ورده:
فقيل: يرد مطلقا. وهو بعيد، وأكثر ما علل به أن في الرواية عنه ترويجا لأمره وتنويها بذكره، وعلى هذا فينبغي أن لا يروى عن مبتدع شيء يشاركه فيه غير مبتدع.
وقيل: يقبل مطلقا، إلا إن اعتقد حل الكذب، كما تقدم.
وقيل: يقبل من لم يكن داعية إلى بدعته؛ لأن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه، وهذا في الأصح (1).
وأغرب ابن حبان؛ فادعى الاتفاق على قبول غير الداعية، من غير تفصيل. نعم، الأكثر على قبول غير الداعية، إلا أن يروي ما يقوي بدعته فيرد، على المذهب المختار، وبه صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، شيخ أبي داود والنسائي، في كتابه "معرفة الرجال").

سوء الحفظ:
-[قال الحافظ: (ثم سوء الحفظ: إن كان لازما فهو الشاذ على رأي، أو طارئا فالمختلِط).]-
وقال في "النزهة" (ص/233): (ثم سوء الحفظ: وهو السبب العاشر من أسباب الطعن، والمراد به: من لم يَرْجُح جانب إصابته على جانب خطئه (2)، وهو على قسمين:
__________
(1) وقد سبق في شرح الموقظة الكلام على العدالة وبيان أن مدارها على مظنة الصدق، وأن رواية المبتدع مقبولة وإن كان داعية إلى بدعته ومما يؤيد ذلك إخراج الأئمة في دواوين السنة لبعض المبتدعة فيما يتعلق ببدعتهم، فقد روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه: عن عدي بن ثابت عن زِرِّ بن حُبَيْش قال: قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأمّي (صلى الله عليه وسلم) إليّ أنّ لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. وعدي بن ثابت: قال عنه الذهبي في الكاشف: ثقة، لكنه قاص الشيعة وإمام مسجدهم بالكوفة. فالأقوى أنه لا يرد من حديث المبتدعة إلا من أجاز الكذب لنصرة مذهبه كالخطابية، أو من كانت بدعته مكفرة كما سبق.
(2) وفسره في (ص/223) بأنه عبارة عمن يكون غلطه أقل من إصابته. وقد سقطت (لا) من بعض النسخ فأوهمت تعارضا، وظهر من كلامه أن بقصد بسوء الحفظ من كان غلطه أكثر من صوابه. =
= فائدة - التفريق بين سيئ الحفظ وفاحش الغلط:
مقصود ابن حجر بفاحش الغلط أنه من كثر غلطه، وبسيئ الحفظ من يكون غلطه أكثر من إصابته، يعني ما لم يكثر منه الغلط ويفحش.
قال الصنعاني في توضيح الأفكار (1/ 12): (ويدل لذلك أن المحدثين جعلوا من القوادح في الراوي فحش غلطه، أي كثرته، وسوء حفظه، وهو عبارة عمن يكون غلطة أكثر من إصابته، هكذا ذكره الحافظ في النخبة وشرحها فالذي ذكر المحدثون أربع صور: تام الضبط، خفيفه، كثير الغلط، من غلطة أكثر من حفظه، فالأوليان مقبول من اتصف بهما، والأخريان مردود من اتصف بهما).
قال الحافظ في "هدي الساري": ((وأما الغلط فتارة يكثر من الراوي ـ وتارة يقل، وحيث يوصف بقلة الغلط كما يقال: سيء الحفظ، أو له أوهام، أو له مناكير ... )).
وفرق أيضا بينهما في هدي الساري بأن نفى وجود حديث كثير الغلط في البخاري، وجوز وجود حديث قليل الغلط في المتابعات، فقال: ((وأما الغلط فتارة يكثر من الراوي وتارة يقل فحيث يوصف بكونه كثير الغلط ينظر فيما أخرج له إن وجد مرويا عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط علم أن المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطريق وأن لم يوجد إلا من طريقه فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله وليس في الصحيح بحمد الله من ذلك شيء وحيث يوصف بقلة الغلط كما يقال سيء الحفظ أوله أو أوهام أوله مناكير وغير ذلك من العبارات فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنف من الرواية عن أولئك)).
كما أنه جعل هنا فحش الغلط منزلة أشد من سوء الحفظ، وجعل حديث من كثر غلطه منكر على رأي، وحديث من ساء حفظه شاذ - على رأي - إن لازمه سوء الحفظ، فإن كان طارئا فالمختلط.

(1/65)


إن كان لازما للراوي في جميع حالاته فهو الشاذ، على رأي بعض أهل الحديث (1).
أو إن كان سوء الحفظ طارئا على الراوي؛ إما لكبره، أو لذهاب بصره، أو لاحتراق كتبه أو عدمها بأن كان يعتمدها فرجع إلى حفظه فساء فهذا هو المختلِط (2). والحكم فيه أن
__________
(1) قال اللقاني (2/ 1225): (وعلى رأي الجمهور هو من مطلق الضعيف).
(2) قال القاري في "شرح النخبة" (ص:536): (وحقيقته: فساد العقل، وعدم انتظام الفعل والقول، إما بخرف أو ضرر أو مرض، أو عرض من موت ابن، أو سرقة مال كالمسعودي، أو ذهاب كتب كابن لهيعة، أو احتراقها كابن الملقن).

(1/66)


ما حدث به قبل الاختلاط إذا تميز قبل، وإذا لم يتميز توقف فيه، وكذا من اشتبه الأمر فيه، وإنما يعرف ذلك باعتبار الآخذين عنه).

الحسن لغيره:
-[قال الحافظ: (متى توبع السيئ الحفظ بمعتبر، وكذا المستور، والمرسَل، والمدلس: صار حديثهم حسنا لا لذاته، بل بالمجموع).]-
وقال في "النزهة" (ص/234): (ومتى توبع السيء الحفظ بمعتبر: كأن يكون فوقه، أو مثله، لا دونه (1)، وكذا المختلط الذي لم يتميز، والمستور، والإسناد المرسل، وكذا المدلس إذا لم يعرف المحذوف منه صار حديثهم حسنا، لا لذاته، بل وصفه بذلك باعتبار المجموع، من المتابع والمتابع؛ لأن كل واحد منهم احتمال أن تكون روايته صوابا، أو غير صواب، على حد سواء، فإذا جاءت من المعتبرين رواية موافقة لأحدهم رجح أحد الجانبين من الاحتمالين المذكورين، ودل ذلك على أن الحديث محفوظ؛ فارتقى من درجة التوقف إلى درجة القبول (2). ومع ارتقائه إلى درجة القبول فهو منحط عن رتبة الحسن لذاته، وربما توقف بعضهم عن إطلاق اسم الحسن عليه. وقد انقضى ما يتعلق بالمتن من حيث القبول والرد).

المرفوع
قال الحافظ: (ثم الإسناد: إما أن ينتهي إلى النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم-، تصريحا، أو حكما: من قوله، أو فعله، أو تقريره ... فالأول: المرفوع.
قال في "النزهة" (ص:234): (ثم الإسناد: وهو الطريق الموصلة إلى المتن، والمتن: هو غاية ما ينتهي إليه الإسناد من الكلام وهو إما أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقتضي لفظه -: إما تصريحا، أو حكما- أن المنقول بذلك الإسناد من قوله صلى الله عليه وسلم، أو من فعله، أو من تقريره (3).
__________
(1) المقصود بالدونية ألا يكون شديد الضعف فيخرج عن حد الإعتبار كحديث الكذاب والمتروك ونحو ذلك.
(2) وقد نقلت في شرح الموقظة جملا كثيرة تؤيد إرتقاء الضعيف بمجموع طرقه لمنزلة الحسن لغيره وذكرت شروط ذلك ورردت على من قال بعدم حجيته.
(3) قال اللقاني (2/ 1253): (أي سواء كان الذي أنهاه وأضافه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابيا، أو غيره، ولو منا الآن، فيدخل فيه: المتصل، والمرقوع، والمرسل المرفوع، والمنقطع المرفوع، والمعضل المرفوع، والمعلق المرفوع، دون الموقوف، ويُعلم هذا من قوله الآتي: (سواء كان ذلك الانتهاء بإسناد متصل أم لا).

(1/67)


المرفوع
-[قال الحافظ: (ثم الإسناد: إما أن ينتهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تصريحاً أو حكماً: من قوله, أو فعله, أو تقريره ... فالأول: المرفوع.]-
قال في "النزهة" (ص:234): (ثم الإسناد: وهو الطريق الموصلة إلى المتن,
والمتن: هو غاية ما ينتهي إليه الإسناد من الكلام وهو إما أن ينتهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقتضي لفظه-: إما تصريحاً, أو حكماً - أن المنقول بذلك الإسناد من قوله - صلى الله عليه وسلم - , أو من فعله, أو من تقريره (1).
مثال المرفوع من القول تصريحا: أن يقول الصحابي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، أو: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أو يقول، هو أو غيره: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا، ونحو ذلك.
ومثال المرفوع من الفعل تصريحا: أن يقول الصحابي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كذا، أو يقول، هو أو غيره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا.
ومثال المرفوع من التقرير تصريحا: أن يقول الصحابي: فعلت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كذا، أو يقول، هو أو غيره: فعل فلان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كذا، ولا يذكر إنكاره لذلك.
ومثال المرفوع من القول، حكما لا تصريحا: أن يقول الصحابي -الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات- ما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا له تعلق ببيان لغة أو شرح غريب، كالإخبار عن الأمور الماضية: من بدء الخلق، وأخبار الأنبياء، أو الآتية: كالملاحم، والفتن، وأحوال يوم القيامة، وكذا الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص، أو عقاب مخصوص.
وإنما كان له حكم المرفوع؛ لأن إخباره بذلك يقتضي مخبرا له، وما لا مجال
للاجتهاد فيه يقتضي موقفا للقائل به، ولا موقف للصحابة إلا النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعض من يخبر عن الكتب القديمة؛ فلهذا وقع الاحتراز عن القسم الثاني.
فإذا كان كذلك، فله حكم ما لو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مرفوع سواء كان مما سمعه منه، أو عنه بواسطة.
ومثال المرفوع من الفعل حكما: أن يفعل ما لا مجال للاجتهاد فيه، فينزل على أن ذلك عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الشافعي في صلاة علي في الكسوف (1) في كل ركعة أكثر من ركوعين.
__________
(1) رواه الشافعي بلاغا بنحوه عن علي رضي الله عنه ولكنه قال: (صلى في الزلزلة) وإسناده ضعيف، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف في كل ركعة أكثر من ركوعين، وحكم عليها الشيخ الألباني بالشذوذ.

(1/68)


ومثال المرفوع من التقرير حكما: أن يخبر الصحابي أنهم كانوا يفعلون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فإنه يكون له حكم الرفع من جهة أن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لتوفر دواعيهم على سؤاله عن أمور دينهم، ولأن ذلك الزمان زمان نزول الوحي؛ فلا يقع من الصحابة فعل شيء ويستمرون عليه إلا وهو غير ممنوع الفعل، وقد استدل جابر وأبو سعيد رضي الله عنهما على جواز العزل بأنهم كانوا يفعلونه والقرآن ينزل، ولو كان مما ينهى عنه لنهى عنه القرآن ... ).