الشرح المختصر لنخبة الفكر لابن حجر العسقلاني من حدث ونسي:
-[قال الحافظ: (وإن جحد مرويه جزما: رد، أو احتمالا: قبل في
الأصح. وفيه: من حدث ونسي).]-
وقال في "النزهة" (ص:246): (وإن روى عن شيخ حديثا فجحد الشيخ
مرويه:
فإن كان جزما: كأن يقول: كذب علي، أو: ما رويت هذا، أو نحو
ذلك، فإن وقع منه ذلك رُدَّ ذلك الخبر (2) لكذب واحد منهما، لا
بعينه، ولا يكون ذلك قادحا في واحد منهما؛ للتعارض (3).
أو كان جحده احتمالا، كأن يقول: ما أذكر هذا، أو لا أعرفه قبل
ذلك الحديث في الأصح؛ لأن ذلك يحمل على نسيان الشيخ، وقيل: لا
يقبل؛ لأن الفرع تبع للأصل في إثبات الحديث، بحيث إذا أثبت
الأصل الحديث ثبتت رواية الفرع، وكذلك ينبغي أن يكون فرعا
عليه، وتبعا له - في التحقيق- في النفي. وهذا متعقب فإن عدالة
الفرع تقتضي صدقه، وعدم علم الأصل لا ينافيه، فالمثبت مقدم على
النافي.
وفيه، أي: في هذا النوع، صنف الدارقطني كتاب: "من حدث ونسي"،
وفيه ما يدل على تقوية المذهب الصحيح؛ لكون كثير منهم حدثوا
بأحاديث فلما عرضت عليهم لم يتذكروها، لكنهم؛ لاعتمادهم على
الرواة عنهم، صاروا يروونها عن الذين رووها عنهم، عن أنفسهم،
كحديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا في قصة
__________
(1) أي اختصتصه بكثرة الأخذ عنه، أو اشتهار رحلته إليه، أو طول
صحبته إياه، وغير ذلك.
(2) أي أن الرد يكون لهذا الخبر خاصة من هذا الطريق، قال
السخاوي في "فتح المغيث" (2/ 82): "لو حدث به الشيخ نفسه أو
ثقة غير الأول عنه، ولم ينكره عليه، فهو مقبول"، وأيضا دون
باقي روايتهما لغير هذا الحديث.
(3) قال اللقاني (2/ 1416): (ولا يثبت بذلك تعمد كذب واحد
منهما بعينه حتى يكون قادحا في عدالته؛ إذ كل منهما عدل ثقة،
وقد كَذَّب كل منهما الآخر، والأخذ يقول أحدهما دون الآخر
يلزمه الترجيح بلا مرجح).
(1/84)
الشاهد واليمين، قال عبد العزيز بن محمد
الدراوردي: حدثني به ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سهيل، فلقيت
سهيلا فسألته عنه فلم يعرفه، فقلت: إن ربيعة حدثني عنك بكذا،
فكان سهيل بعد ذلك يقول: حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي به.
ونظائره كثيرة).
تنبيه:
سوى الحافظ بين مسألة الجحد والتكذيب ومَثَّل لأحدهما بالأخرى
- وتبعه السيوطي في التدريب وسيأتي كلامه -، وقد نقل ابن حجر
عن أهل الحديث التفريق بينهما فقال في "الفتح" (2/ 326): (لأهل
الحديث فيه تفصيل قالوا إما أن يجزم برده أو لا وإذا جزم فإما
أن يصرح بتكذيب الراوي عنه أو لا فإن لم يجزم بالرد كأن قال لا
أذكره فهو متفق عندهم على قبوله؛ لأن الفرع ثقة والأصل لم يطعن
فيه وإن جزم وصرح بالتكذيب فهو متفق عندهم على رده؛ لأن جزم
الفرع بكون الأصل حدثه يستلزم تكذيب الأصل في دعواه أنه كذب
عليه وليس قبول قول أحدهما بأولى من الآخر وإن جزم بالرد ولم
يصرح بالتكذيب فالراجح عندهم قبوله).
والراجح هو القبول مطلقا إذ أن المسألة مفترضة في الراوي
الثقة، وهو في جميع الحالات مثبت ومؤكد لصحة روايته، والمثبت
مقدم على النافي.
قال السيوطي في "تدريب الراوي" (1/ 395): ((إذا روى) ثقة عن
ثقة (حديثا ثم نفاه المسمع) لما روجع فيه (فالمختار) عند
المتأخرين (أنه إن كان جازما بنفيه بأن قال ما رويته) أو كذب
علي (ونحوه وجب رده) لتعارض قولهما ... ومقابل المختار في
الأول عدم رد المروي، واختاره السمعاني وعزاه الشاشي للشافعي،
وحكى الهندي الإجماع عليه، وجزم الماوردي والروياني بأن ذلك لا
يقدح في صحة الحديث إلا أنه لا يجوز للفرع أن يرويه عن الأصل
... ومن شواهد القبول ما رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن
عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس قال: «كنت أعرف انقضاء
صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير».
قال عمرو بن دينار ثم ذكرته لأبي معبد فقال: لم أحدثكه، قال
عمرو: قد حدثتنيه.
قال الشافعي: كأنه نسيه بعد ما حدثه إياه، والحديث أخرجه
الشيخان من حديث ابن عيينة).
قال الشيخ أبو بكر كافي في "منهج الإمام البخاري" (ص:93) عقب
ذكره للحديث السابق: (وهذا يدل على أن البخاري ومسلماً يذهبان
إلى صحة الحديث ولو أنكره راويه إذا كان الناقل عنه عدلاً، وأن
ذلك لا يقدح في عدالة أصل الراوي ولا في عدالة الفرع
(1/85)
الراوي عنه).
المسلسل:
-[قال الحافظ: (وإن اتفق الرواة في صيغ الأداء أوغيرها من
الحالات، فهو: المسلسل).]-
المسلسل لغة: اتصال الشيء بعضه ببعض، ومنه سِلْسِلَةُ الحديد.
وعرفه اصطلاحا ابن جماعة بأنه: " ما تتابع رجال إسناده عند
روايته على صفة أو حالة إما في الراوي أو في الرواية ".
وشرح التعريف الشيخ أحمد الفياض في " مباحث في الحديث المسلسل"
(ص:138) فقال: (التتابع: اشتراك الراوي في صفة أو حال باقي
رجال الإسناد.
على صفة: وهي ما اتصف به الراوي مثل: القراء أو القضاة أو ما
اتصفت به الرواية مثل: صيغ الأداء كحدثنا وسمعت.
أو حالة: وهي إما قولية مثل: حديث معاذ (إني احبك فقل) أو
فعلية كحديث التشبيك.
الفرق بين الصفة والحال:
أما الصفة فهي ما تكون ملازمة للإنسان في جميع أوقاته وأحواله
فنقول عن فلان من الناس إنه حافظ أو قارئ أو إمام الى غير ذلك
من الصفات التي تلازم الإنسان ونقول أيضا الحديث المسلسل
بالحفاظ أو الثقات أو القضاة وهكذا.
وأما الحال فهو ما يحصل للإنسان بصورة وقتية وليس بالضرورة أن
تكون ملازمة له فالحب والبغض من الأحوال الإنسانية وكذلك تشبيك
الأصابع الى غير ذلك من الأحوال).
وقال ابن حجر في "النزهة" (ص/247): (وإن اتفق الرواة في إسناد
من الأسانيد في صيغ الأداء: كسمعت فلانا، قال: سمعت فلانا، أو:
حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، وغير ذلك من الصيغ، أو غيرها من
الحالات القولية، كسمعت فلانا يقول: "أشهد بالله لقد حدثني
فلان ... "، إلى آخره، أو الفعلية كقوله: دخلنا على فلان
فأطعمنا تمرا إلى آخره، أو القولية والفعلية معا كقوله: "حدثني
فلان وهو آخذ بلحيته قال: آمنت بالقدر ... "، إلى آخره فهو
المسلسل.
وهو من صفات الإسناد، وقد يقع التسلسل في معظم الإسناد، كحديث
المسلسل
(1/86)
بالأولية (1)، فإن السلسلة تنتهي فيه إلى
سفيان بن عيينة فقط، ومن رواه مسلسلا إلى منتهاه فقد وهم).
فائدة - فضيلة التسلسل:
قال ابن الصلاح في " مقدمته" (ص:276): (وخيرها ما كان فيه
دلالة على اتصال السماع وعدم التدليس.
ومن فضيلة التسلسل اشتماله على مزيد الضبط من الرواة، وقلما
تسلم المسلسلات من ضعف، أعني في وصف التسلسل لا في أصل المتن.
ومن المسلسل ما ينقطع تسلسله في وسط إسناده، وذلك نقص فيه).
طرق التحمل وصيغ الأداء:
السماع من لفظ الشيخ:
-[قال الحافظ: (وصيغ الأداء: سمعت وحدثني. فالأولان: لمن سمع
وحده من لفظ الشيخ، فإن جمع فمع غيره. وأولها: أصرحها وأرفعها
في الإملاء).]-
فائدة:
قال اللقاني (2/ 1428): (اختصر المحدثون في الكتابة دون اللفظ
"حدثنا" على "ثنا" وهو المشهور، وبعضهم يختصرها على "نا"،
وبعضهم على "دثنا".
واختصروا - أيضا -: "أخبرنا" على "أنا"، وهو المشهور، وبعضهم
يختصرها على "أرنا" بحذف الخاء والباء، واختصرها البيهقي على
"أبنا".
قال شيخ الإسلام (2): "ويختصر حدثني على: "ثني"، أو "دثني"؛
دون أخبرني ودون أنبأنا، وأنبأني ". انتهي.
وذكر ابن حجر "أنبأنا" يختصر على "أنبا"، والأول هو المنقول).
قال ابن حجر في "النزهة" (ص/247): (فاللفظان الأولان من صيغ
الأداء، وهما: سمعت وحدثني صالحان لمن سمع وحده من لفظ الشيخ
(3). وتخصيص التحديث بما سمع من لفظ الشيخ هو الشائع بين أهل
الحديث اصطلاحا، ولا فرق بين التحديث والإخبار من
__________
(1) قال القاري في "شرح النخبة" (ص:659): (أي المنسوب بالأول،
وهو الحديث المسلسل بأول حديث سمعه كل واحد منهم من شيخه).
(2) انظر: فتح الباقي (2/ 60) لزكريا الأنصاري.
(3) سواء من حفظه، أو كتابه.
(1/87)
حيث اللغة (1)، وفي ادعاء الفرق بينهما
تكلف شديد، لكن، لما تقرر الاصطلاح صار ذلك حقيقة عرفية فتقدم
على الحقيقة اللغوية، مع أن هذا الاصطلاح إنما شاع عند
المشارقة ومن تبعهم، وأما غالب المغاربة فلم يستعملوا هذا
الاصطلاح، بل الإخبار والتحديث عندهم بمعنى واحد.
فإن جمع، الراوي أي: أتى بصيغة الجمع في الصيغة الأولى (2)،
كأن يقول: حدثنا فلان، أو: سمعنا فلانا يقول = فهو دليل على
أنه سمع منه مع غيره، وقد تكون النون للعظمة، لكن، بقلة.
وأولها، أي: المراتب أصرحها، أي: أصرح صيغ الأداء في سماع
قائلها؛ لأنها لا تحتمل الواسطة، لكن، "حدثني" قد تطلق في
الإجازة تدليسا (3). وأرفعها مقدارا ما يقع في الإملاء؛ لما
فيه من التثبت والتحفظ).
__________
(1) قال السيوطي في "تدريب الراوي" (1/ 484): (روى البيهقي في
" المدخل " عن أبي عصمة سعد بن معاذ قال: كنت في مجلس أبي
سليمان الجوزقاني فجرى ذكر حدثنا وأخبرنا، فقلت إن كليهما
سواء، فقال: بينهما فرق، ألا ترى محمد بن الحسين قال إذا قال
رجل لعبده: إن أخبرتني بكذا فأنت حر، فكتب إليه بذلك صار حرا،
وإن قال إن حدثتني بكذا فأنت حر فكتب إليه بذلك لا يعتق).
(2) قال اللقاني (2/ 1434): (الأَوْلَى: صيغتي المرتبة الأولى؛
ليشمل "سمعت"، و "حدثنا").
(3) قال السيوطي في "التدريب" (1/ 419): (لا يكاد أحد يقول
سمعت في الإجازة والمكاتبة، ولا في تدليس ما لم يسمعه، بخلاف
حدثنا فإن بعض أهل العلم كان يستعملها في الإجازة).
وقال زكريا الأنصاري في "فتح الباقي" (1/ 361): (روي أن الحسن
البصري كان يقول: حدثنا أبو هريرة، ويتأول: ((حدث أهل المدينة
وأنا بها))، كما كان يقول: خطبنا ابن عباس بالبصرة، ويريد خطب
أهلها. والمشهور أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، بل قال يونس
بن عبيد: إنه ما رآه قط). وقال السيوطي في "التدريب" (1/ 420):
(وقال ابن القطان: ليست حدثنا بنص في أن قائلها سمع. ففي "
صحيح مسلم " في حديث الذي يقتله الدجال فيقول: «أنت الدجال
الذي حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم». قال: ومعلوم أن
ذلك الرجل متأخر الميقات، أي فيكون المراد حديث أمته، وهو
منهم).
(1/88)
العرض (1):
-[قال الحافظ: (ثم أخبرني، وقرأت عليه، ثم قرئ عليه وأنا
أسمع).]-
وقال في "النزهة" (ص/248): (والثالث: وهو أخبرني، والرابع: وهو
قرأت لمن قرأ بنفسه على الشيخ، فإن جمع كأن يقول: أخبرنا، أو:
قرأنا عليه، فهو كالخامس، وهو: قرئ عليه وأنا أسمع. وعرف من
هذا أن التعبير "بقرأت" لمن قرأ خير من التعبير بالإخبار؛ لأنه
أفصح بصورة الحال.
تنبيه:
القراءة على الشيخ أحد وجوه التحمل عند الجمهور، وأبعد من أبى
ذلك من أهل العراق، وقد اشتد إنكار الإمام مالك، وغيره من
المدنيين، عليهم في ذلك (2)، حتى بالغ بعضهم فرجحها على السماع
من لفظ الشيخ، وذهب جمع جم، منهم البخاري -وحكاه في أوائل
صحيحه عن جماعة من الأئمة- إلى أن السماع من لفظ الشيخ
والقراءة عليه -يعني في الصحة والقوة- سواء (3)، والله أعلم).
__________
(1) قال اللقاني (2/ 1441): (أعلم أن القراءة على الشيخ تسمى:
العرض؛ لعرض القارئ الحديث على الشيخ كما يعرض القرآن على
المقرئ، وهي - مع كونها من وجوه التحمل - أدنى من السماع من
لفظ الشيخ. والأجود عندهم في أداء ما تحمله بها أن يقول:
"قرأته على فلان"، إذا كان العرض
بنفسه، أو "قرئ عليه وأنا اسمع" إن كان بقراءة غيره).
وقال الحافظ في "الفتح" (1/ 149): (إنما غاير بينهما - أي
القراءة والعرض على المحدث - بالعطف لما بينهما من العموم
والخصوص لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض وغيره ولا يقع
العرض إلا بالقراءة لأن العرض عبارة عما يعارض به الطالب أصل
شيخه معه أو مع غيره بحضرته فهو أخص من القراءة وتوسع فيه
بعضهم فأطلقه على ما إذا أحضر الأصل لشيخه فنظر فيه وعرف صحته
وأذن له أن يرويه عنه من غير أن يحدثه به أو يقرأه الطالب عليه
والحق أن هذا يسمى عرض المناولة بالتقييد لا الإطلاق وقد كان
بعض السلف لا يعتدون إلا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ دون ما
يقرأ عليهم ولهذا بوب البخاري على جوازه وأورد فيه قول الحسن
وهو البصري لا بأس بالقراءة على العالم ثم أسنده إليه بعد أن
علقه).
(2) قال السماحي في " فتح المغيث" (2/ 174): (وكان مالك يأبى
أشد الإباء على المخالف ويقول: كيف لا يجزيك هذا في الحديث
ويجزيك في القرآن، والقرآن العظيم أعظم؟! ولذا قال بعض أصحابه:
صحبته سبع عشرة سنة، فما رأيته قرأ (الموطأ) على أحد، بل
يقرءون عليه).
(3) قال السيوطي في "التدريب" (1/ 426): (واستدل الحميدي ثم
البخاري على ذلك «بحديث
ضمام بن ثعلبة: لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "
إني سائلك فمشدد عليك، ثم قال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله
أرسلك». الحديث في سؤاله عن شرائع الدين، فلما فرغ قال: «آمنت
بما جئت به وأنا رسول من ورائي، فلما رجع إلى قومه اجتمعوا
إليه فأبلغهم فأجازوه» أي: قبلوه منه وأسلموا. وأسند البيهقي
في " المدخل " عن البخاري قال: قال أبو سعيد الحداد: وعندي خبر
عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة على العالم، فقيل له:
قال قصة ضمام، «آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم») وهذا يدل على
اعتبارها لا أنها أرجح من السماع من لفظ الشيخ.
(1/89)
الإنباء:
-[قال الحافظ: (ثم أنبأني، ثم ناولني، ثم شافهني. ثم كتب إلي،
ثم عن، ونحوها (1) ...
والإنباء: بمعنى الإخبار إلا في عرف المتأخرين فهو للإجازة
كعن، وعنعنة المعاصر محمولة على السماع إلا من مدلس وقيل:
يشترط ثبوت لقائهما - ولو مرة-، وهو المختار.
وأطلقوا المشافهة في الإجازة المتلفظ بها، والمكاتبة في
الإجازة المكتوب بها، واشترطوا في صحة المناولة اقترانها
بالإذن بالرواية، وهي أرفع أنواع الإجازة، وكذا اشترطوا الإذن
في الوجادة، والوصية بالكتاب وفي الإعلام، وإلا فلا عبرة بذلك
كالإجازة العامة، وللمجهول وللمعدوم على الأصح في جميع ذلك).]-
وقال في "النزهة" (ص/248): (والإنباء من حيث اللغة واصطلاح
المتقدمين بمعنى الإخبار، إلا في عرف المتأخرين فهو للإجازة
كـ"عن"، لأنها في عرف المتأخرين للإجازة.
وعنعنة المعاصر محمولة على السماع، بخلاف غير المعاصر فإنها
تكون مرسلة أو منقطعة (2)، فشرط حملها على السماع ثبوت
المعاصرة، إلا من المدلس فإنها ليست محمولة على السماع.
وقيل: يشترط في حمل عنعنة المعاصر على السماع ثبوت لقائهما،
أي: الشيخ والراوي عنه، ولو مرة واحدة؛ ليحصل الأمن من باقي
معنعنه عن كونه من المرسل
__________
(1) قال اللقاني (2/ 1430): (مثل: قال، وذكر، وروى: يريد مجردة
عن الجار والمجرور الدال على الاتصال، نحو: قال لي، ولنا. أما
إذا لم تتجرد عما ذكرنا فهي في مرتبة حدثني، وغن غلب في عرفهم
استعمالها - والحالة هذه - فيما سمعوه من الشيوخ في المذاكرات؛
إذ هي به أشبه من حدثنا كما قاله ابن الصلاح).
(2) أو هنا للتنويع فتكون مرسلة إذا وقعت من تابعي، ومنقطعة
إذا وقعت ممن هو دونه.
(1/90)
الخفي، وهو المختار، تبعا لعلي بن المديني،
والبخاري، وغيرهما من النقاد.
وأطلقوا المشافهة في الإجازة المتلفظ بها تجوزا، وكذا المكاتبة
في الإجازة المكتوب بها: وهو موجود في عبارة كثير من
المتأخرين، بخلاف المتقدمين؛ فإنهم إنما يطلقونها فيما كتب به
الشيخ من الحديث إلى الطالب، سواء أذن له في روايته أم لا، لا
فيما إذا كتب إليه بالإجازة فقط.
واشترطوا في صحة الرواية بالمناولة اقترانها بالإذن بالرواية،
وهي إذا حصل هذا الشرط أرفع أنواع الإجازة؛ لما فيها من
التعيين والتشخيص.
وصورتها: أن يدفع الشيخ أصله، أو ما قام مقامه للطالب، أو:
يحضر الطالب الأصل للشيخ، ويقول له في الصورتين: هذا روايتي عن
فلان فاروه عني، وشرطه، أيضا، أن يمكنه منه: إما بالتمليك،
وإما بالعارية؛ لينقل منه ويقابل عليه، وإلا إن ناوله واسترد
في الحال فلا يتبين لها زيادة مزية على الإجازة المعينة، وهي:
أن يجيزه الشيخ برواية كتاب معين ويعين له كيفية روايته له.
وإذا خلت المناولة عن الإذن لم يعتبر بها عند الجمهور، وجنح من
اعتبرها إلى أن مناولته إياه تقوم مقام إرساله إليه بالكتاب من
بلد إلى بلد.
وقد ذهب إلى صحة الرواية بالكتابة المجردة جماعة من الأئمة،
ولو لم يقرن
ذلك بالإذن بالرواية، كأنهم اكتفوا في ذلك بالقرينة، ولم يظهر
لي فرق قوي بين مناولة الشيخ من يده للطالب، وبين إرساله إليه
بالكتاب من موضع إلى آخر، إذا خلا كل منهما عن الإذن.
وكذا اشترطوا الإذن في الوجادة:
وهي: أن يجد بخط يعرف كاتبه فيقول: وجدت بخط فلان، ولا يسوغ
فيه إطلاق أخبرني بمجرد ذلك، إلا إن كان له منه إذن بالرواية
عنه، وأطلق قوم ذلك فغلطوا.
وكذا الوصية بالكتاب:
وهو: أن يوصي عند موته، أو سفره، لشخص معين، بأصله، أو بأصوله،
فقد قال قوم من الأئمة المتقدمين: يجوز له أن يروي تلك الأصول
عنه بمجرد هذه الوصية، وأبى ذلك الجمهور، إلا إن كان له منه
إجازة.
وكذا اشترطوا الإذن بالرواية في الإعلام:
وهو: أن يعلم الشيخ أحد الطلبة بأنني أروي الكتاب الفلاني عن
فلان، فإن كان له منه إجازة اعتبر، وإلا فلا عبرة بذلك.
(1/91)
كالإجازة العامة في المجاز له، لا في
المجاز به، كأن يقول: أجزت لجميع المسلمين، أو لمن أدرك حياتي،
أو لأهل الإقليم الفلاني، أو لأهل البلد الفلانية، وهو أقرب
إلى الصحة؛ لقرب الانحصار.
وكذا الإجازة للمجهول، كأن يكون مبهما أو مهملا.
وكذا الإجازة للمعدوم كأن يقول: أجزت لمن سيولد لفلان، وقد
قيل: إن عطفه على موجود صح، وكأن يقول: أجزت لك ولمن سيولد لك،
وقد قيل: الأقرب عدم الصحة، أيضا، وكذلك الإجازة لموجود، أو
معدوم، علقت بشرط مشيئة الغير، كأن يقول: أجزت لك إن شاء فلان،
أو أجزت لمن شاء فلان، لا أن يقول: أجزت لك إن شئت. وهذا في
الأصح في جميع ذلك.
وقد جوز الرواية بجميع ذلك -سوى المجهول، ما لم يتبين المراد
منه- الخطيب، وحكاه عن جماعة من مشايخه، واستعمل الإجازة
للمعدوم من القدماء أبو بكر بن أبي داود، وأبو عبد الله بن
منده، واستعمل المعلقة منهم، أيضا، أبو بكر بن أبي خيثمة، وروى
بالإجازة العامة جمع كثير جمعهم بعض الحفاظ في كتاب، ورتبهم
على حروف المعجم لكثرتهم.
وكل ذلك، كما قال ابن الصلاح، توسع غير مرضي؛ لأن الإجازة
الخاصة المعينة مختلف في صحتها اختلافا قويا عند القدماء، وإن
كان العمل استقر على اعتبارها عند المتأخرين، فهي دون السماع
بالاتفاق، فكيف إذا حصل فيها الاسترسال المذكور! فإنها تزداد
ضعفا، لكنها، في الجملة، خير من إيراد الحديث معضلا. والله
تعالى أعلم.
(1/92)
وإلى هنا انتهى الكلام في أقسام صيغ
الأداء).
الْمُتَّفِق وَالْمُفْتَرِق:
-[قال الحافظ: (ثم الرواة إن اتفقت أسماؤهم، وأسماء آبائهم
فصاعدا، واختلفت أشخاصهم: فهو المتفق والمفترق).]-
قال اللقاني (2/ 1494): (قوله: "فصاعدا" ليس حالا من آبائهم،
بل من أسمائهم وأسماء آبائهم، أي: فذهب الاتفاق من الأسماء
صاعدا إلى النسبة، والكنية، واللقب، والأب، والجد، والقبيلة،
وهلم جرّا).
قال السخاوي في "فتح المغيث" (4/ 267) ما ملخصه: (وينقسم إلى
ثمانية أقسام:
الأول: أن تتفق أسماؤهم وأسماء آبائهم خاصة نحو: أيوب بن
سليمان ستة عشر، وإبراهيم بن يزيد ثلاثة عشر، وإبراهيم بن موسى
اثنا عشر، وعلي بن أبي طالب تسعة، وإبراهيم بن مسلم ثمانية،
وعمر بن خطاب سبعة، وأنس بن مالك ستة، وأبان بن عثمان خمسة،
ويحيى بن يحيى أربعة، وإبراهيم بن بشار ثلاثة، وعثمان بن عفان
اثنان.
والثاني أن تتفق أسماؤهم وأسماء آبائهم وأجدادهم، فمنه أحمد بن
جعفر وجده حمدان هم أربعة متعاصرون من طبقة واحدة.
والثالث: أن تتفق الكنية والنسبة معا ومن أمثلته أبو سليمان
الداراني الدمشقي الْعَنْسِيّ اثنان، أقدمهما عبد الرحمن بن
سليمان بن أبي الْجَوْنِ، والآخر وهو الزاهد الشهير، اسمه أيضا
عبد الرحمن بن أحمد بن عطية، تعاصر مع الأول.
والرابع: مما هو متفق معه في الاسم في الجملة وفي النسبة، ومن
أمثلته: محمد بن عبد الله، هما من الأنصار، أحدهما بالنسب،
والآخر بالولاء.
والخامس: أن تتفق كناهم وأسماء آبائهم ; كأبي بكر بن عبد الله:
جماعة.
والسادس ضد ما قبله: وهو أن تتفق أسماؤهم وكنى آبائهم، ومنه:
صالح أربعة كلهم ابن أبي صالح.
والسابع: ما الاتفاق فيه في اسم، أو في كنية أو في نسبة فقط
ويقع في السند منهم واحد باسمه أو بكنيته أو بنسبته خاصة مهملا
من ذكر أبيه أو غيره مما يتميز به عن المشاركة له فيما ورد به
فيلتبس كنحو حماد إذا ما يهمل من نسبة أو غيرها.
والثامن: ما يحصل الاتفاق فيه في لفظ نسب فقط، والافتراق في أن
ما نسب إليه
(1/93)
أحدهما غير ما نسب إليه الآخر، كالحنفي حيث
يكون المنسوب إليه قبيلا أي: قبيلة، وهم بنو حنيفة، أو مذهبا).
الفرق بين: الْمُتَّفِق وَالْمُفْتَرِق، والمهمل:
-[قال الحافظ في "النزهة" (ص:251): (وفائدة معرفته: خشية أن
يُظن الشخصان شخصا واحدا، وهذا عكس ما تقدم من النوع المسمى
بالمهمل؛ لأنه يخشى منه أن يظن الواحد اثنين، وهذا يخشى منه أن
يظن الاثنان واحدا).]-
قال اللقاني (2/ 1495): (قوله: " وهذا عكس ما تقدم من النوع
المسمى بالمهمل ... " إلخ: قال البقاعي: "ليس كذلك، بل هما على
حدٍّ سواء، يخشى من كل منهما تارة أو يُظن الاثنان واحدا،
وأخرى أن يُظن الواحد اثنين، فإن المهمل كما تقدم - هو أن يروي
الراوي عن اثنين متفقي الاسم، أو مع اسم الأب، أو الجد، أو مع
النسب، وهذا - كما ترى - من المتفق والمفترق". انتهى.
وأقول: فيه تأمل - أيضا - فإن المهمل الذي قدمه: أن يروي
الراوي فيه عن اثنين متفقي الاسم، أو مع اسم الأب، أو مع اسم
الجد، أو مع النسب، وهذا إنما يظن فيه المتعدد واحدا، لا
الواحد متعددا؛ فليتأمل!).
وقال الدكتور حسن فتحي: (وأما عن الفرق بينه وبين المهمل
فالمعروف في تعريف المهمل أنه من لم يتميز عن غيره، سواء ذكر
باسمه أو كنيته أو لقبه، وذلك لوجود من يشاركه في هذا الاسم أو
الكنية أو اللقب، ومن خلال هذا التعريف يتضح أن المهمل صورة من
صور المتفق والمفترق فهما يشتركان في عدم تمييز الراوي، ولهذا
ذكره العراقي والسخاوي والسيوطي ضمن أقسام المتفق والمفترق وهو
القسم السادس من أقسام المتفق والمفترق والفارق الدقيق بينه
وبين أقسام المتفق والمفترق الأخرى أن دائرته أوسع من بقية
الأقسام) (1).
الظاهر من تعقباتهم أنه لا يوافقون الحافظ على التفريق بأن
المهمل يخشى منه أن يظن الواحد اثنين، والمتفق والمفترق يخشى
منه أن يظن الاثنان واحدا، إذ أنهما يتفقان في ظن المتعدد
واحدا وهذا واضح من كلام ابن حجر على المهمل حيث قال في
"النخبة" (وإن روى عن اثنين متفقي الاسم ولم تيميزا) فالمهمل
مفترض فيمن يروى عن متعدد ولا يميزه، حتى أنني وقفت على كلام
للبعض نسب فيه الغلط لعبارة ابن حجر، وأن مقصوده المبهم (2) لا
المهمل.
وأقرب الأقوال في توجيه كلام الحافظ عليه أنه افترض الكلام
بداية على المتفق والمفترق فيمن اختلفت شخصياتهم، وجعل المهمل
قسما آخر غيره، فالظاهر أنه غيره، وإنما يظهر الفرق بجعل
المهمل يظن فيه الواحد اثنان حملا على الغالب من اختصاص راو
بشيخ دون غيره قال: (وإن روى عن اثنين متفقي الاسم ولم تيميزا
فباختصاصه بأحدهما يتبين المهمل) وهو ظاهر من قوله: (فباختصاصه
بأحدهما)، ومما يوضح ذلك عبارته في مقدمة الفتح حيث قال (1/
222): (الفصل السابع في تبيين الأسماء المهملة
__________
(1) انظر بحث: (المتفق والمفترق: طرق تمييزه، وخطورة إغفاله).
(2) قال في "النزهة": (أو لا يسمى الراوي، اختصارا من الراوي
عنه. كقوله: أخبرني فلان، أو شيخ، أو رجل، أو بعضهم، أو ابن
فلان. ويستدل على معرفة اسم المبهم بوروده من طريق أخرى مسمى).
(1/94)
التي يكثر اشتراكها - قال الشيخ قطب الدين الحلبي: وقع من بعض
الناس اعتراض على البخاري بسبب إيراده أحاديث عن شيوخ لا يزيد
على تسميتهم لما يحصل في ذلك من اللبس ولا سيما أن شاركهم ضعيف
في تلك الترجمة وقد تكلم في بيان بعض ذلك الحاكم والكلاباذي
وبن السكن والجياني وغيرهم قلت وقد نقل البياشي أحد الحفاظ من
المغاربة في الأحكام الكبرى التي جمعها عن الفَرَبْرِيّ ما نصه
كل ما في البخاري محمد عن عبدالله فهو بن المبارك وكل ما فيه
عبد الله غير منسوب أو غير مسمى الأب فهو بن محمد الأسدي وما
فيه عن إسحاق كذلك فهو بن راهويه وما كان فيه محمد عن أهل
العراق مثل أبي معاوية وعبدة بن سليمان ومروان الفزاري فهو بن
سلام البيكندي وما فيه عن يحيى فهو بن موسى البلخي قلت وقد يرد
على بعض ما قال ما يخالفه) وقد هنا للتقليل. |