المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي النَّوْع الموفي الثَّلَاثِينَ غَرِيب
اللَّفْظ وفقهه
أما غَرِيبه وَهُوَ مَا جَاءَ فِي الْمَتْن من لفظ غامض بعيد
الْفَهم لقلَّة اسْتِعْمَاله وَهُوَ فن مُهِمّ يجب أَن يتثبت
فِيهِ أَشد تثبت وَقد أَكثر الْعلمَاء التصنيف فِيهِ قيل أول
من صنفه النَّضر بن شُمَيْل وَقيل أَبُو عُبَيْدَة معمر
وبعدهما أَبُو عبيد الْقَاسِم ثمَّ ابْن قُتَيْبَة مَا فَاتَهُ
ثمَّ الْخطابِيّ مَا فاتهما فَهَذِهِ أمهاته ثمَّ تَبِعَهُمْ
غَيرهم بزوائد وفوائد وَيَنْبَغِي أَن لَا يُقَلّد فِيهِ
إِلَّا مُصَنف إِمَام جليل وأجوده مَا جَاءَ مُفَسرًا فِي
رِوَايَة أُخْرَى وَأما فقهه الْكَلَام فَهُوَ مَا تضمنه من
الْأَحْكَام والآداب المستنبطة مِنْهُ وَهَذِه صفة الْفُقَهَاء
الْأَعْلَام كالشافعي وَمَالك وَفِي هَذَا الْفَنّ مصنفات
كَثِيرَة ك معالم السّنَن للخطابي والتمهيد لِابْنِ عبد الْبر
(1/62)
الطّرف الثَّانِي فِي الْإِسْنَاد وَمَا
يتَعَلَّق بِهِ وَالْكَلَام فِيهِ أحد عشر نوعا
النَّوْع الأول صفة من تقبل رِوَايَته وَمن لَا تقبل وَفِيه
فُصُول
الأول أجمع جَمَاهِير أَئِمَّة الْعلم بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْه
الْأُصُول على أَنه يشْتَرط فِيمَن يحْتَج بحَديثه الْعَدَالَة
والضبط فالعدالة أَن يكون مُسلما بَالغا عَاقِلا سليما من
أَسبَاب الْفسق وخوارم الْمُرُوءَة والضبط أَن يكون متيقظا
حَافِظًا أَن حدث من حفظه ضابطا لكتابه أَن حدث مِنْهُ
عَارِفًا بِمَا يحِيل الْمَعْنى إِن روى بِهِ وَلَا تشْتَرط
الذُّكُورَة وَلَا الْحُرِّيَّة وَلَا الْعلم بِفقه أَو عربيه
وَلَا الْبَصَر وَلَا الْعدَد أَو معنى الحَدِيث
الثَّانِي تعرف الْعَدَالَة بتنصيص عَدْلَيْنِ عَلَيْهَا أَو
بالاستفاضة فَمن اشتهرت عَدَالَته بَين أهل النَّقْل أَو
غَيرهم من الْعلمَاء وشاع الثَّنَاء عَلَيْهِ بهَا كفى فِيهَا
كمالك والسفيانين وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وأشباههم وَقَالَ ابْن عبد الْبر كل حَامِل علم مَعْرُوف
بالعناية بِهِ مَحْمُول على الْعَدَالَة أبدا حَتَّى يبين جرحه
وَهَذَا غير مرضِي وَيقبل تَعْدِيل العَبْد وَالْمَرْأَة إِذا
كَانَا عارفين بِهِ كَمَا يقبل خبرهما قَالَه الْخَطِيب وَيعرف
ضَبطه بموافقة رواياته رِوَايَات الثِّقَات المتقنين غَالِبا
وَلَو فِي الْمَعْنى وَلَا تضر مُخَالفَة نادرة
(1/63)
)
الثَّالِث يقبل التَّعْدِيل من غير ذكر سَببه لِأَن أَسبَابه
كَثِيرَة وَلَا سِيمَا مَا يتَعَلَّق بِالنَّفْيِ فَيشق
تعدادها وَلَا يقبل الْجرْح إِلَّا مُفَسرًا لاخْتِلَاف
النَّاس فِي مُوجبه هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار فيهمَا
وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَقد احْتج البُخَارِيّ بِعِكْرِمَةَ
مولى ابْن عَبَّاس وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَعَاصِم بن
عَليّ وَاحْتج مُسلم بِسُوَيْدِ بن سعيد وَغَيره مَعَ سبق
الطعْن فيهم وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُد فَدلَّ على اختيارهم مَا
قُلْنَاهُ فَإِن قيل إِنَّمَا يعْتَمد النَّاس على مصنفات
الْأَئِمَّة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل وقلما يذكر فِيهَا
السَّبَب فاشتراط ذكره يعطل ذَلِك فَالْجَوَاب أَن ذَلِك
مِنْهُم يُفِيد التَّوَقُّف فِيمَن جرحوه فَإِذا بحث عَن حَاله
وزالت الرِّيبَة فِيهِ قبل حَدِيثه كَالَّذِين احْتج بهم فِي
الصَّحِيحَيْنِ أَو رد
الرَّابِع يثبت الْجرْح وَالتَّعْدِيل فِي الرِّوَايَة بقول
وَاحِد على الصَّحِيح وَقيل لَا بُد من اثْنَيْنِ
كَالشَّهَادَةِ فَإِن اجْتمع فِي شخص جرح وتعديل فالجرح مقدم
لزِيَادَة الْعلم وَقيل إِن كَانَ عدد المعدلين أَكثر رجح
التَّعْدِيل وَلَو تعَارض فِي ثُبُوت جارح معِين ونفيه
فالترجيح لَا غير
الْخَامِس لابد من تعْيين الْمعدل فَلَو قَالَ حَدثنِي
الثِّقَة لم يكف على الصَّحِيح وَبِه قطع الْخَطِيب والصيرفي
وَقيل يَكْفِي فَإِن كَانَ عَالما كفى فِي حق من يُوَافقهُ فِي
مذْهبه على الْمُخْتَار عِنْد الْمُحَقِّقين وَلَو روى عَنهُ
وَسَماهُ لم يكن تعديلا عِنْد الْأَكْثَر وَهُوَ الصَّحِيح
وَقيل تَعْدِيل وَقيل إِن كَانَت عَادَته أَنه لَا يروي إِلَّا
عَن عدل فتعديل وَاخْتَارَهُ قوم قَالَ ابْن الصّلاح وَلَيْسَ
عمل
(1/64)
الْعَالم أَو فتياه على وفْق حَدِيث حكما
بِصِحَّتِهِ وَلَا مُخَالفَته لَهُ جرحا فِيهِ أَو فِي رَاوِيه
قلت إِن علم أَن عمله بخبرة من غير مُسْتَند آخر وَلَا كَانَ
من بَاب الِاحْتِيَاط وَهُوَ مِمَّن يشْتَرط الْعَدَالَة فقد
قطع أهل الْأُصُول بِأَنَّهُ تَعْدِيل لَهُ وَكَذَلِكَ إِذا
حكم بِشَهَادَتِهِ حَاكم يشْتَرط الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَة
فَهُوَ تَعْدِيل لَهُ
السَّادِس الْأَلْفَاظ المستعملة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل قد
رتبها عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم فأجاد فألفاظ التَّعْدِيل
مَرَاتِب الأولى أَعْلَاهَا ثِقَة أَو متقن أَو ثَبت أَو حجَّة
وَفِي الْعدْل حَافظ أَو ضَابِط فَهَذَا حجَّة الثَّانِيَة
صَدُوق أَو مَحَله الصدْق أَو لَا بَأْس بِهِ فَهَذَا يكْتب
حَدِيثه وَينظر فِيهِ لِأَن هَذِه الْعبارَات لَا تشعر بالضبط
فَينْظر ليعتبر ضَبطه وَقد تقدم الِاعْتِبَار وَعَن ابْن مهْدي
قَالَ حَدثنَا أَبُو خلدَة فَقيل كَانَ ثِقَة قَالَ كَانَ
صَدُوقًا وَكَانَ مَأْمُونا وَكَانَ خيرا الثِّقَة شُعْبَة
وسُفْيَان وَقَالَ ابْن معِين إِذا قلت لَا بَأْس بِهِ فَثِقَة
وَهَذَا خبر عَن نَفسه وَنقل ابْن أبي حَاتِم عَنْهُم أرجح
الثَّالِثَة شيخ فَهَذَا يكْتب حَدِيثه وَينظر فِيهِ كَمَا
تقدم قلت وَمثله أَو قريب مِنْهُ روى عَنهُ النَّاس أَو لَا
أعلم بِهِ بَأْسا الرَّابِعَة صَالح الحَدِيث فَهَذَا يكْتب
حَدِيثه للاعتبار قلت وَمثله وسط
أما أَلْفَاظ الْجرْح فمراتب أَولهَا أدناها لين الحَدِيث
فَهَذَا يكْتب حَدِيثه وينتظر اعْتِبَارا قلت وَمثله مقارب
الحَدِيث مُضْطَرب أَو لَا يحْتَج بِهِ أَو مَجْهُول قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ إِذا قلت لين الحَدِيث لم يكن سَاقِطا
وَلَكِن مجروحا بِشَيْء لَا يسْقطهُ عَن الْعَدَالَة
الثَّانِيَة لَيْسَ بِقَوي كَالْأولِ لكنه دونه قلت وَمثله
لَيْسَ بِذَاكَ أَو لَيْسَ بذلك الْقوي الثَّالِثَة ضَعِيف
الحَدِيث هُوَ دون الثَّانِي لَا يطْرَح بل يعْتَبر قلت وَمثله
فِيهِ ضعف فِي حَدِيثه ضعف الرَّابِعَة مَتْرُوك الحَدِيث أَو
ذَاهِب الحَدِيث أَو
(1/65)
كَذَّاب فَهَذَا سَاقِط لَا يكْتب عَنهُ
شَيْء وَالله أعلم
السَّابِع لَا تقبل رِوَايَة من عرف بالتساهل فِي سَماع
الحَدِيث أَو إسماعه كمن ينَام حَالَة السماع أَو يشْتَغل
عَنهُ بِمَا يشغل عَنهُ أَو يحدث لَا من أصل مصحح أَو من عرف
بِقبُول التَّلْقِين فِي الحَدِيث أَو بِكَثْرَة السَّهْو فِي
رِوَايَته إِذا لم يحدث من أصل صَحِيح أَو من كثرت الشواذ
والمناكير فِي حَدِيثه قَالَ ابْن الْمُبَارك وَأحمد بن
حَنْبَل والْحميدِي وَغَيرهم من غلط فِي حَدِيثه فيبين لَهُ
غلطه فَلم يرجع وأصر على غلطه سَقَطت رواياته وَهَذَا الَّذِي
قَالُوهُ لَعَلَّه إِذا ظهر مِنْهُ ذَلِك على وَجه العناد
فَإِن لم يكن عنادا فَفِيهِ نظر وَالله أعلم وَلَا بَأْس
بِأَدْنَى نُعَاس لَا يخْتل مَعَه فهم كَلَام وَكَانَ بَعضهم
إِذا كتب طبقَة السماع كتب وَفُلَان وَهُوَ يَنْعس وَفُلَان
وَهُوَ يكْتب
الثَّامِن لَا يقبل مَجْهُول الْحَال والمجهول أَقسَام
ثَلَاثَة أَحدهَا مَجْهُول الْعَدَالَة ظَاهرا وَبَاطنا فَلَا
يقبل عِنْد الجماهير وَعَن أبي حنيفَة قبُوله الثَّانِي
مَجْهُول الْعَدَالَة بَاطِنا لَا ظَاهرا لَهُ وَهُوَ المستور
وَالْمُخْتَار قبُوله وَقطع بِهِ سليم الرَّازِيّ وَعَلِيهِ
الْعَمَل فِي أَكثر كتب الحَدِيث الْمَشْهُورَة فِيمَن تقادم
عَهدهم وتعذرت معرفتهم الثَّالِث مَجْهُول الْعين وَهُوَ كل من
لم يعرفهُ الْعلمَاء وَلم يعرف حَدِيثه إِلَّا من جِهَة راو
وَاحِد قَالَه الْخَطِيب وَقَالَ ابْن عبد الْبر كل من لم يرو
عَنهُ إِلَّا وَاحِد فَهُوَ مَجْهُول عِنْدهم إِلَّا أَن يكون
مَشْهُورا بِغَيْر حمل الْعلم
(1/66)
كمالك بن دِينَار فِي الزّهْد وَعَمْرو بن
معد يكرب فِي النجدة وَقَالَ الْخَطِيب أقل مَا يرفع
الْجَهَالَة أَن يروي عَنهُ اثْنَان من الْمَشْهُورين
بِالْعلمِ قَالَ ابْن الصّلاح مُعْتَرضًا على الْخَطِيب وَابْن
عبد الْبر قد خرج البُخَارِيّ عَن مرداس بن مَالك
الْأَسْلَمِيّ وَلم يرو عَنهُ غير قيس بن أبي حَازِم وَمُسلم
عَن ربيعَة بن كَعْب الْأَسْلَمِيّ وَلم يرو عَنهُ غير أبي
سَلمَة فَدلَّ على خُرُوجه من الْجَهَالَة بِرِوَايَة وَاحِد
وَأجِيب عَن اعتراضه بِأَن مرداسا وَرَبِيعَة صحابيان
وَالصَّحَابَة كلهم عدُول فَلَا تضر الْجَهَالَة بأعيانهم
وَبِأَن الْخَطِيب شَرط فِي الْجَهَالَة عدم معرفَة الْعلمَاء
وَهَذَانِ مشهوران عِنْد أهل الْعلم فَظهر أَن البُخَارِيّ
وَمُسلمًا لم يخالفا نقل الْخَطِيب رَحِمهم الله تَعَالَى
فرع يقبل من عرفت عينه وعدالته وَإِن جهل اسْمه وَنسبه
التَّاسِع لَا يقبل مُبْتَدع ببدعة مكفرة بِاتِّفَاق والمبتدع
بغَيْرهَا فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال قيل لَا يقبل مُطلقًا لفسقه
وَإِن تَأَول كالكفر وَقيل إِن لم يسْتَحل الْكَذِب لنصرة
مذْهبه وَأَهله قبل وَإِن استحله كالخطابية لم يقبل ويعزى
هَذَا إِلَى الشَّافِعِي وَقيل إِن كَانَ دَاعِيَة لمذهبه لم
يقبل وَإِلَّا قبل وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر وَنقل
ابْن حبَان اتِّفَاقهم عَلَيْهِ
الْعَاشِر يقبل التائب من أَسبَاب الْفسق وَمن الْكَذِب فِي
حَدِيث النَّاس وَغَيره إِلَّا الْكَذِب فِي حَدِيث رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَعَمدا فَلَا يقبل أبدا وَإِن
حسنت تَوْبَته قَالَه أَحْمد بن حَنْبَل والْحميدِي شيخ
البُخَارِيّ وَقَالَ الصَّيْرَفِي فِي شرح الرسَالَة من أسقطنا
خَبره من أهل النَّقْل لكذب وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لم نعد
لقبوله
(1/67)
بتوبة تظهر وَمن ضعفناه لم نجعله قَوِيا
بعد ذَلِك وَقَالَ السَّمْعَانِيّ من كذب فِي خبر وَاحِد وَجب
إِسْقَاط مَا تقدم من حَدِيثه
الْحَادِي عشر إِذا كذب أصل فَرعه فِي رِوَايَة خبر عَنهُ أَو
جزم بنفيه سقط ذَلِك الْخَبَر وَلَا يقْدَح ذَلِك فِي عدالتهما
وَبَاقِي رواياتهما وَإِن قَالَ لَا أَدْرِي أَو نَحوه مِمَّا
يدل على شكّ أَو نِسْيَان لم يسْقط وَيجب الْعَمَل بِهِ عِنْد
جَمَاهِير أَئِمَّة الحَدِيث وَالْفِقْه وَالْأُصُول لِأَن
الرَّاوِي عِنْده عدل جازم ونسيانه جَائِز فَلَا يسْقط
الحَدِيث بِالِاحْتِمَالِ وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة يسْقط
فَردُّوا حَدِيث النَّص بِشَاهِد وَيَمِين لما نَسيَه سُهَيْل
بن أبي صَالح وَكَانَ يَقُول حَدثنِي ربيعَة عني عَن أبي عَن
أبي هُرَيْرَة وردوا حَدِيث سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن
الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة فِي النِّكَاح بِغَيْر
إِذن الْوَلِيّ لما نَسيَه الزُّهْرِيّ حِين سَأَلَهُ أَيْن
جريج عَنهُ وَقَول الجماهير أصح لِأَن كثيرا من الأكابر نسوا
أَحَادِيث رووها فَحَدثُوا بهَا عَن فروعهم كَمَا قدمنَا عَن
سُهَيْل وصنف الْخَطِيب فِيهِ كتابا وَالْإِنْسَان معرض
للنسيان وَكَذَلِكَ كره الشَّافِعِي وَغَيره الحَدِيث عَن
الْأَحْيَاء وَنهى مُحَمَّد بن عبد الحكم عَنهُ لما نقل عَنهُ
شَيْئا كَانَ قد نَسيَه فَذكره بِهِ
(1/68)
الثَّانِي عشر اخْتلفُوا فِي قبُول من أَخذ
عَن التحديث أجرا فَرده أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو حَاتِم
الرَّازِيّ لِأَنَّهُ يخرم الْمُرُوءَة ويطوق تهمه وَرخّص
فِيهِ أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن والأعدل أَنه إِن تعطل
لذَلِك تكسبه قبل وَإِلَّا فَلَا فَإِن الشَّيْخ أَبَا
إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ أفتى أَبَا الْحُسَيْن بن النقور بذلك
لما كَانَ أَصْحَاب الحَدِيث يمنعونه التكسب لِعِيَالِهِ
الثَّالِث عشر أعرض النَّاس فِي هَذِه الْأَعْصَار عَن
مَجْمُوع الشُّرُوط الْمَذْكُورَة واكتفوا من عَدَالَة
الرَّاوِي بِكَوْنِهِ مَسْتُورا وَمن ضَبطه بِوُجُود سَمَاعه
مثبتا بِخَط موثوق بِهِ وَرِوَايَته من أصل مُوَافق لأصل
شَيْخه وَاحْتج الْبَيْهَقِيّ لذَلِك بِأَن الحَدِيث الصَّحِيح
وَغَيره قد جمع فِي كتب أئمته فَلَا يذهب شَيْء مِنْهُ على
جَمِيعهم وَإِن جَازَ ذَلِك فِي بعض وَالْقَصْد بِالسَّمَاعِ
بَقَاء سلسة الْإِسْنَاد الْمَخْصُوص بِهَذِهِ الْأمة حرسها
الله تَعَالَى
النَّوْع الثَّانِي الْإِسْنَاد العالي والنازل
الْإِسْنَاد خصيصة لهَذِهِ الْأمة وَسنة من السّنَن وَطلب علوه
سنة وَلذَلِك استحبت الرحلة فِيهِ قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل
رَحْمَة الله عَلَيْهِ طلب الْإِسْنَاد العالي سنة عَمَّن سلف
وَلِأَن علوه يبعد عَن الْخلَل والعلو خمس مَرَاتِب
الأولى أجلهَا الْقرب من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِعَدَد أقل من إِسْنَاد صَحِيح فَإِن قرب الْإِسْنَاد قربَة
إِلَى الله عز وَجل
(1/69)
الثَّانِيَة الْعُلُوّ والقرب من إِمَام من
أَئِمَّة الحَدِيث وَأَن كثر الْعدَد مِنْهُ إِلَى النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الثَّالِث الْعُلُوّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رِوَايَة مُصَنف كتاب
من الْكتب الْمُعْتَمدَة وَهُوَ مَا أَكثر اعتناء
الْمُتَأَخِّرين بِهِ فِي الموافقات والأبدال والمساواة
والمصافحة فالموافقة أَن يَقع لَك حَدِيث عَن شيخ المُصَنّف من
طَرِيق هِيَ أقل عددا من طريقك من جِهَته مثل أَن يجْتَمع سندك
وَسَنَد مُسلم فِي قُتَيْبَة عَن مَالك وَالْبدل أَن يَقع
ذَلِك فِي شيخ شَيْخه بِأَن يجْتَمع سندك وَسَنَد مُسلم فِي
مَالك مثلا وَقد يُسمى مُوَافقَة أَيْضا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
شيخ شَيْخه والمساواة أَن يكون بَيْنك وَبَين الصَّحَابِيّ فِي
الْعدَد مَا بَين مُسلم مثلا وَبَينه وَهُوَ نَادِر فِي
زَمَاننَا والمصافحة أَن يَقع ذَلِك لشيخك فَتكون كمن صَافح
مُسلما بِهِ وَأَخذه عَنهُ وَهُوَ قَلِيل أَيْضا وَوَقع لنا
طَائِفَة مِنْهَا فَإِن وَقعت الْمُسَاوَاة لشيخ شيخك كَانَ
مصافحة لشيخك ثمَّ كَذَلِك لشيخ شيخ شيخك وَهُوَ كثير فِي
شُيُوخنَا وَمثل هَذَا الْعُلُوّ إِنَّمَا يكون لنزول رِوَايَة
ذَلِك الإِمَام فلولا نُزُوله لما علا لَك
الرَّابِعَة الْعُلُوّ بتقدم وَفَاة الرَّاوِي ذكره أَبُو يعلي
الخليلي فَمن روى عَن ثَلَاثَة عَن الشَّافِعِي عَن مَالك
أَعلَى مِمَّن روى عَن ثَلَاثَة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك لتقدم
وَفَاة الشَّافِعِي على وَفَاة قُتَيْبَة بست وَثَلَاثِينَ سنة
أما الْعُلُوّ الْمُسْتَفَاد من تقدم وَفَاة الشَّيْخ من غير
نظر إِلَى قِيَاسه براو آخر فقد حَده الْحَافِظ أَبُو
الْحُسَيْن بن جوصاء بِخَمْسِينَ سنة وَقَالَ إِسْنَاد خمسين
سنة من موت الشَّيْخ إِسْنَاد علو وَحده أَبُو عبد الله بن
مَنْدَه بِثَلَاثِينَ سنة قَالَ إِذا مر على الْإِسْنَاد
ثَلَاثُونَ سنة فَهُوَ عَال
الْخَامِسَة الْعُلُوّ بتقدم السماع إِمَّا من شيخين أَو من
شيخ وَاحِد فَالْأول أَعلَى وَإِن تساوى الْعدَد واتحد
الشَّيْخ فَمن سمع من سِتِّينَ سنة أَعلَى مِمَّن سمع من
أَرْبَعِينَ سنة
(1/70)
وَأما النُّزُول فَهُوَ ضد الْعُلُوّ
وَهُوَ خمس مَرَاتِب تعرف من تَفْصِيل ضدها فِي الْعُلُوّ
وَالنُّزُول مفضول مَرْغُوب عَنهُ على الصَّحِيح الَّذِي
قَالَه الجماهير إِذا لم يكن فِيهِ فَائِدَة راجحة على
الْعُلُوّ قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَغَيره النُّزُول
شُؤْم وَقَالَ قوم النُّزُول أفضل من الْعُلُوّ لِأَن التَّعَب
فِيهِ أَكثر بِالنّظرِ إِلَى كل راو وجرحه وتعديله فَيكون
الْأجر أَكثر وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء يرجح فَإِن كَانَ فِي
النُّزُول فَائِدَة راجحة على الْعُلُوّ فَضله كَمَا قَالَ
الْحَافِظ أَبُو الْحسن عَليّ بن الْمفضل الْمَقْدِسِي رَحمَه
الله فِيمَا روينَاهُ عَنهُ لنَفسِهِ
إِن الرِّوَايَة بالنزول عَن الثِّقَات الأعدلينا ... خير من
العالي عَن الْجُهَّال والمستضعفينا
النَّوْع الثَّالِث الْمَزِيد فِي الْأَسَانِيد
وَهُوَ أَن يزِيد الرَّاوِي فِي إِسْنَاد حَدِيث رجلا أَو
أَكثر وهما مِنْهُ وغلطا مِثَاله مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن
الْمُبَارك قَالَ حَدثنَا سُفْيَان بن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد
بن جَابر قَالَ حَدثنِي بسر بن عبيد الله قَالَ سَمِعت أَبَا
إِدْرِيس يَقُول سَمِعت وَاثِلَة بن الْأَسْقَع يَقُول سَمِعت
أَبَا مرْثَد الغنوي يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَا تجلسوا على الْقُبُور وَلَا تصلوا
إِلَيْهَا فَذكر سُفْيَان وَأبي إِدْرِيس زِيَادَة وَوهم أما
أَبَا دريس فينسب الْوَهم فِيهِ إِلَى ابْن الْمُبَارك لِأَن
جمَاعَة من الثِّقَات رَوَوْهُ عَن ابْن جَابر عَن بسر عَن
وَاثِلَة وَصرح بَعضهم بِسَمَاع بسر لَهُ من وَاثِلَة قَالَ
أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ كثيرا مَا يحدث بسر عَن
(1/71)
أبي إِدْرِيس فَوَهم ابْن الْمُبَارك وَظن
أَن هَذَا مِمَّا رَوَاهُ عَنهُ عَن وَاثِلَة وَأما سُفْيَان
فَوَهم فِيهِ من دون ابْن الْمُبَارك لِأَن جمَاعَة ثِقَات
رَوَوْهُ عَن ابْن الْمُبَارك عَن ابْن جَابر وَصرح بَعضهم
بِلَفْظ الْأَخْبَار بَينهمَا وَقد صنف الْخَطِيب فِيهِ
كِتَابه الْمَعْرُوف بذلك فَإِن قيل إِن كَانَ السَّنَد
الْخَالِي عَن الزَّائِد بِلَفْظ عَن احْتمل أَن يكون مُرْسلا
وَإِن كَانَ بِلَفْظ السماع وَنَحْوه احْتمل أَن يكون سَمعه
مرّة عَن رجل عَنهُ ثمَّ سَمعه مِنْهُ فَلم يتَحَقَّق الْوَهم
فَالْجَوَاب أَن الظَّاهِر من مثل هَذَا أَن يذكر السماعين
فَلَمَّا لم يذكرهما حمل على الزِّيَادَة وَأَيْضًا فقد توجه
قرينَة تدل على أَنه وهم كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن ابي حَاتِم
النَّوْع الرَّابِع التَّدْلِيس وَهُوَ قِسْمَانِ تَدْلِيس
الْإِسْنَاد وتدليس الشُّيُوخ الأول تَدْلِيس الْإِسْنَاد
وَهُوَ أَن يروي عَمَّن لقِيه أَو عاصره مَا لم يسمعهُ مِنْهُ
موهما أَنه سَمعه مِنْهُ وَلَا يَقُول أخبرنَا وَمَا فِي
مَعْنَاهُ وَنَحْوه بل يَقُول قَالَ فلَان أَو عَن فلَان أَو
أَن فلَانا قَالَ وَشبه ذَلِك ثمَّ قد يكون بَينهمَا وَاحِد
وَقد يكون أَكثر وَهَذَا الْقسم من التَّدْلِيس مَكْرُوه جدا
وفاعله مَذْمُوم عِنْد أَكثر الْعلمَاء وَمن عرف بِهِ مَجْرُوح
عِنْد قوم لَا تقبل رِوَايَته بَين السماع أَو لم يُبينهُ
وَالصَّحِيح التَّفْصِيل فِيمَا بَين فِيهِ الِاتِّصَال ب
سَمِعت وَحدثنَا وَنَحْو ذَلِك مَقْبُول فَفِي الصَّحِيحَيْنِ
وَغَيرهمَا مِنْهُ كثير وَذَلِكَ لِأَن هَذَا التَّدْلِيس
لَيْسَ كذبا مَا لم يبين فِيهِ الِاتِّصَال بل لَفظه مُحْتَمل
فَحكمه حكم الْمُرْسل وأنواعه وأجرى الشَّافِعِي هَذَا الحكم
فِيمَن دلّس مرّة
(1/72)
الْقسم الثَّانِي تَدْلِيس الشُّيُوخ وَهُوَ أَن يُسَمِّي
شَيخا سمع مِنْهُ بِغَيْر اسْمه الْمَعْرُوف أَو يكنبه أَو
ينْسبهُ أَو يصفه بِمَا لم يشْتَهر بِهِ كَيْلا يعرف وَهَذَا
أخف من الأول وتختلف الْحَال فِي كراهيته بِحَسب اخْتِلَاف
الْقَصْد الْحَامِل عَلَيْهِ وَهُوَ أما لكَونه ضَعِيفا أَو
صَغِيرا أَو مُتَأَخّر الْوَفَاة أَو لكَونه مكثرا عَنهُ
فَيكْرَه تكراره على صُورَة وَاحِدَة وَهُوَ أخفها وَقد جرى
عَلَيْهِ المصنفون وتسمحوا بِهِ وَأكْثر الْخَطِيب مِنْهُ |