المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي
النَّوْع الثَّالِث فِي كِتَابَة الحَدِيث
وَضَبطه وَفِيه فُصُول
الأول اخْتلف السّلف فِي كِتَابَة الحَدِيث فكرهها طَائِفَة
مِنْهُم كعمر وَابْن مَسْعُود وَأبي سعيد وأباحها طَائِفَة
مِنْهُم كعلي وَابْنه الْحسن وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ
ثمَّ أجمع أَتبَاع التَّابِعين على جَوَازه فَقيل أول من صنف
فِيهِ ابْن جريج وَقيل مَالك وَقيل الرّبيع بن الصبيح ثمَّ
انْتَشَر تدوينه وَجمعه وَظَهَرت فَوَائِد ذَلِك ونفعه وعَلى
كَاتبه صرف الهمة إِلَى ضَبطه وتحقيقه شكلا ولفظا بِحَيْثُ
يُؤمن اللّبْس مَعَه ثمَّ قيل إِنَّمَا يشكل الْمُشكل وَلَا
يشْتَغل بتقييد الْوَاضِح حَتَّى قَالَ بَعضهم أهل الْعلم
يكْرهُونَ الإعجام وَالْإِعْرَاب إِلَّا فِي الملتبس وَقَالَ
قوم يشكل الْجَمِيع لأجل المبتدىء وَغير المتبحر
الثَّانِي يكون اعتناؤه بضبط الملتبس من الْأَسْمَاء أَكثر
لِأَنَّهُ نقلي مَحْض قَالَ ابْن الصّلاح وَيسْتَحب ضبط
الْمُشكل فِي نفس الْكتاب وَكتبه مضبوطا وَاضحا فِي
الْحَاشِيَة لِأَنَّهُ أبلغ ويحقق الْخط دون مشقه وتعليقه
وَلَا يدققه من غير عذر
(1/92)
كضيق الْوَرق وَتَخْفِيف حمله فِي السّفر
فَإِن الْخط عَلامَة فأحسنه أبينه قَالَ بَعضهم اكْتُبْ مَا
ينفعك وَقت حَاجَتك إِلَيْهِ أَي وَقت الْكبر وَضعف الْبَصَر
وَالْكِتَابَة بالحبر أولى من المداد لِأَنَّهُ أثبت قَالُوا
وَلَا يكون الْقَلَم صلبا جدا فَلَا يجْرِي بِسُرْعَة وَلَا
رخوا فيخفى سَرِيعا قَالَ بَعضهم إِذا أردْت جودة خطك فأطل
جلفتك وأسمنها وحرف قطعتك وأيمنها وَليكن مَا تضبط عَلَيْهِ
صلبا جدا ويحمد الْقصب الْفَارِسِي وخشب الأبنوس الناعم ويضبط
الْحُرُوف الْمُهْملَة فَقيل تنقط الْمُهْملَة تحتهَا بِمَا
فَوق نظائرها الْمُعْجَمَة وَقيل يَجْعَل كقلامة الظفر
فَوْقهَا مضجعة على قفاها وَقيل يَجْعَل تحتهَا صَغِير مثلهَا
وَفِي بعض الْكتب الْقَدِيمَة فَوْقهَا خطّ صَغِير وَفِي
بَعْضهَا تحتهَا همزَة وَلَا يصطلح مَعَ نَفسه برمز لَا يعرفهُ
النَّاس إِلَّا يبين مُرَاده ويعتني بضبط مُخْتَلف
الرِّوَايَات وتمييزها فَيجْعَل كِتَابه على رِوَايَة ثمَّ مَا
كَانَ فِي غَيرهَا من زِيَادَة ألحقها فِي الْحَاشِيَة أَو نقض
أعلم عَلَيْهِ أَو خلاف نبه عَلَيْهِ وَسمي رَاوِيه مُبينًا
وَلَا بَأْس بِكِتَابَة التراجم بالحمرة ورمز الْأَسْمَاء أَو
الْمذَاهب بهَا وَإِذا رمز شَيْئا بَين اصْطِلَاحه فِي أول
الْكتاب ليعرفه من يقف عَلَيْهِ وَاكْتفى كَثِيرُونَ بالتميز
بحمرة مُبينًا ذَلِك
الثَّالِث يَجْعَل بَين كل حديثين دارة فعل ذَلِك جمَاعَة من
الْمُتَقَدِّمين وَاسْتحبَّ الْخَطِيب أَن يكون غفلا فَإِذا
قَابل نقط فَوْقهَا وَلَا يكْتب الْمُضَاف فِي آخر سطر والمضاف
إِلَيْهِ فِي أول الآخر مثل عبد الله وَعبد الرَّحْمَن
فَيكْرَه كِتَابَة عبد آخر سطر وَاسم الله أَو الرَّحْمَن مَعَ
ابْن فلَان أول الآخر وَكَذَلِكَ رَسُول الله وَنَحْو ذَلِك
وَإِذا كتب اسْم الله تَعَالَى أتبعه بالتعظيم ك عز وَجل
وَنَحْوه ويحافظ على كِتَابَة الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم على
(1/93)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلما
كتبه وَلَا يسأم من تكراره وَإِن لم يكن فِي الأَصْل وَمن أغفل
ذَلِك حرم حظا عَظِيما وَيُصلي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كلما كتبه أَيْضا وَكَذَلِكَ الترضي والترحم على
الصَّحَابَة وَالْعُلَمَاء وَيكرهُ الِاقْتِصَار على الصَّلَاة
دون التَّسْلِيم وَيكرهُ الرَّمْز بِالصَّلَاةِ والترضي
بِالْكِتَابَةِ بل يكْتب ذَلِك بِكَمَالِهِ
الرَّابِع عَلَيْهِ مُقَابلَة كِتَابه بِأَصْل شَيْخه وَإِن
كَانَ إجَازَة وَأفضل الْمُقَابلَة أَن يمسك هُوَ وَشَيْخه
كِتَابَيْهِمَا حَال السماع وَينظر مَعَه من لَا نُسْخَة مَعَه
وَلَا سِيمَا إِن كَانَ يُرِيد النَّقْل من نسخته وَقَالَ يحيى
بن معِين لَا يجوز أَن يروي من غير أصل الشَّيْخ إِلَّا أَن
ينظر فِيهِ بِنَفسِهِ حَالَة السماع وَالصَّحِيح أَنه يكفى
مُقَابلَة ثِقَة أَي وَقت كَانَ وَيَكْفِي مُقَابلَته بفرع
قوبل بِأَصْل للشَّيْخ وبأصل أصل الشَّيْخ الْمُقَابل بِهِ أصل
الشَّيْخ فَإِن لم يُقَابل بِهِ وَكَانَ النَّاقِل صَحِيح
النَّقْل قَلِيل السقط وَنقل من الأَصْل فقد جوز الرِّوَايَة
مِنْهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق والإسماعيلي وَالْبرْقَانِي
والخطيب وَتبين حَال الرِّوَايَة أَنه لم يُقَابل وَكتاب
شَيْخه مَعَ من فَوْقه ككتابه فِي جَمِيع ذَلِك وَلَا يروي
كتابا سَمعه من أَي نُسْخَة اتّفقت وَسَيَأْتِي فِيهِ كَلَام
فرع لَو وجد فِي كِتَابه كلمة مُهْملَة عَلَيْهِ جَازَ أَن
يَنْفِيه فِي ضَبطهَا وروايتها على خبر أهل الْعلم فَإِن كَانَ
فِيهَا لُغَات أَو رِوَايَات بَين الْحَال وَاحْترز عِنْد
الرِّوَايَة
الْخَامِس إِذا خرج السَّاقِط وَهُوَ اللحق بِفَتْح اللَّام
والحاء فليخط من مَوضِع سُقُوطه فِي السطر خطا صاعدا قَلِيلا
مَعْطُوفًا بَين السطرين عطفه يسيرَة
(1/94)
إِلَى جِهَة اللحق وَقيل تمد العطفة إِلَى
أول اللحق ثمَّ يكْتب اللحق قبالة العطفة فِي الْحَاشِيَة وجهة
الْيَمين إِن اتسعت أولى إِلَّا أَن يسْقط فِي آخر السطر
وليكتبه صاعدا إِلَى أَعلَى الورقة لَا نازلا إِلَى أَسْفَلهَا
لاحْتِمَال تَخْرِيج آخر بعده ولتكن رُؤُوس حُرُوف اللحق إِلَى
جِهَة الْيَمين فَإِن زَاد اللحق على سطر ابْتَدَأَ سطوره من
جِهَة طرف الورقة إِن كَانَ فِي يَمِين الورقة بِحَيْثُ
تَنْتَهِي سطوره إِلَى أسطر الْكتاب وَإِن كَانَ فِي الشمَال
ابْتَدَأَ الأسطر من جِهَة أسطر الْكتاب ثمَّ يكْتب فِي
انْتِهَاء اللحق صَحَّ وَقيل يكْتب مَعهَا رَجَعَ وَقيل
الْكَلِمَة الْمُتَّصِلَة بِهِ دَاخل الْكتاب وَلَيْسَ بمرضي
لِأَنَّهُ تَطْوِيل موهم أما الْحَوَاشِي غير الأَصْل من شرح
أَو بَيَان غلط أَو اخْتِلَاف رِوَايَة أَو نُسْخَة فَلَا
يكْتب فِي آخِره وَقَالَ القَاضِي عِيَاض لَا يخرج لَهُ خطّ
وَقيل يخرج من وسط الْكَلِمَة للْفرق بَينهمَا وَلَا يُوصل
الْكِتَابَة بحاشية الورقة بل يدع مَا يحْتَمل الحك مَرَّات
فرع لَا بَأْس بِكِتَابَة الْحَوَاشِي والفوائد المهمة على
حَوَاشِي كتاب يملكهُ وَيكْتب عَلَيْهِ حَاشِيَة أَو فَائِدَة
وَلَا يكْتب الْحَوَاشِي بَين الأسطر وَلَا فِي كتاب لَا
يملكهُ إِلَّا بِإِذن مَالِكه
السَّادِس التَّصْحِيح والتمريض والتضبيب من شَأْن المتقنين
فالتصحيح كِتَابَة صَحَّ على كَلَام صَحَّ رِوَايَة وَمعنى
لكنه عرضة للشَّكّ أَو الْخلاف
والتضبيب وَقد يُسمى التمريض أَن يمد خطّ أَوله كرأس الصَّاد
وَلَا يلصق بالمدود عَلَيْهِ على ثَابت نقلا فَاسِدا لفظا أَو
معنى أَو ضَعِيف أَو نَاقص وَمن النَّاقِص مَوضِع الْإِرْسَال
أَو الِانْقِطَاع وَرُبمَا اقْتصر بَعضهم عَلامَة التَّصْحِيح
فَأَشْبَهت الضبة وَفِي بعض الْأُصُول الْقَدِيمَة فِي
إِسْنَاد فِيهِ جمَاعَة عطف بَعضهم على بعض عَلامَة تشبه الضبة
بَين أسمائهم وَلَيْسَت ضبة بل كَأَنَّهَا عَلامَة الِاتِّصَال
السَّابِع إِذا وَقع فِي الْكتاب خطأ وحققه كتب عَلَيْهِ كَذَا
صَغِيرَة وَكتب فِي الْحَاشِيَة صَوَابه كَذَا إِن تحَققه
وَإِن وَقع فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ نفى
(1/95)
بِالضَّرْبِ أَو الحك أَو المحو وأولاها
الضَّرْب فَقيل يخط فَوْقه خطا بَينا مختلطا بِهِ ويتركه مُمكن
الْقِرَاءَة وَيُسمى الشق وَقيل لَا يخلطه بِالْكِتَابَةِ بل
يكون فَوْقه مَعْطُوفًا على أَوله وَآخره وَقيل يحوق على أَوله
نصف دَائِرَة وعَلى آخِره نصف دَائِرَة وَقيل إِن كثر
الْمَضْرُوب عَلَيْهِ فقد يَكْفِي التحويق على أَوله وَآخره
وَقد يحوق على أول كل سطر وَآخره وَقيل يكْتب لَا فِي أَوله
وَإِلَى فِي آخِره فَإِن كَانَ الضَّرْب على مُكَرر فَقيل على
الثَّانِي وَقيل يبْقى أحسنهما وأبينهما صُورَة وَقيل إِن
كَانَ فِي أول سطر ضرب على الثَّانِي أَو فِي آخِره فعلى الأول
صِيَانة للأسطر أَو فِي آخر سطر وَأول آخر ضرب على آخر السطر
صِيَانة لأوله فَإِن تكَرر الْمُضَاف أَو الْمُضَاف إِلَيْهِ
أَو الْمَوْصُوف أَو الصّفة روعي اتصالهما وَأما الحك والكشط
والمحو فكرهها أهل الْعلم لِأَن الحك والكشط يحْتَمل
التَّغْيِير وَرُبمَا أفسد الورقة وَمَا ينفذ إِلَيْهِ والمحو
مسود للقرطاس وَإِذا أصلح شَيْئا فقد قَالَ الْخَطِيب يبشره
بنحاتة الساج وَيَتَّقِي التَّهْذِيب
الثَّامِن غلب على كتبة الحَدِيث الِاقْتِصَار على الرَّمْز
فِي حَدثنَا وَأخْبرنَا وشاع بِحَيْثُ لَا يخفى فيكتبون من
حَدثنَا ثَنَا أَو نَا أَو دنا وَمن أخبرنَا أَنا أَو أرنا أَو
رنا وَإِذا كَانَ للْحَدِيث إسنادان أَو أَكثر كتبُوا عِنْد
الِانْتِقَال من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد ح وَلم يبين أمرهَا
عَمَّن تقدم لَكِن كتب بعض الْحفاظ موضعهَا صَحَّ فأشعر
بِأَنَّهَا رمزه وَقيل هِيَ من التَّحْوِيل من إِسْنَاد إِلَى
إِسْنَاد وَقيل هِيَ من الْحَيْلُولَة لِأَنَّهَا تحول بَين
الإسنادين وَلَيْسَت من الحَدِيث فَلَا يتَلَفَّظ بِشَيْء فِي
مَكَانهَا وَقيل هِيَ إِشَارَة إِلَى قَوْلنَا الحَدِيث
والمغاربة يَقُولُونَ مَكَانهَا فِي الْقِرَاءَة الحَدِيث وَمن
الْعلمَاء من يَقُول حا ويمر وَهُوَ الْمُخْتَار
(1/96)
التَّاسِع قَالَ الْخَطِيب يَنْبَغِي أَن
يكْتب بعد الْبَسْمَلَة اسْم شَيْخه المسمع للْكتاب وكنيته
وَنسبه ثمَّ يَسُوق مَا سَمعه مِنْهُ وَيكْتب فَوق
التَّسْمِيَة أَو فِي حَاشِيَة أول الورقة تَارِيخ السماع وَمن
سمع مَعَه وكلا فعله الشُّيُوخ وَلَا بَأْس مكتب طبقَة السماع
فِي آخر الْكتاب أَو حَيْثُ لَا يخفى مِنْهُ ولتكن الطَّبَقَة
بِخَط ثِقَة مَعْرُوف الْخط وَعند ذَلِك فَلَا بَأْس بِأَن
يصحح عَلَيْهِ الشَّيْخ وَلَا بَأْس أَن يكْتب سَمَاعه بِخَط
نَفسه إِذا كَانَ ثِقَة فقد فعله الثِّقَات وعَلى كَاتب السماع
التَّحَرِّي وَبَيَان السَّامع والمسمع والمسموع بِلَفْظ بَين
وَاضح وَعَلِيهِ تجنب التساهل فِيمَن يُثبتهُ والحذر من
إِسْقَاط بعض السامعين لغَرَض فَاسد وَإِذا لم يحضر مَجْلِسا
فَلهُ أَن يعْتَمد فِي حضورهم خبر ثِقَة حَضَره أَو خبر
الشَّيْخ وَمن ثَبت سَماع غَيره فِي كِتَابه قبح بِهِ
كِتْمَانه أَو مَنعه أَو نسخه أَو نقل سَمَاعه فَإِن كَانَ
سَمَاعه مثبتا برضى صَاحب الْكتاب لزمَه إعارته وَلَا يبطىء
عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا يلْزمه كَذَلِك قَالَه أَئِمَّة
الْمذَاهب فِي أزمانهم وهم القَاضِي حَفْص بن غياث الْحَنَفِيّ
وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيل الْمَالِكِي وَأَبُو عبد الله
الزبيرِي الشَّافِعِي وَغَيرهم وَخَالف فِي ذَلِك قوم وَالْأول
هُوَ الصَّحِيح لِأَن ذَلِك كَشَهَادَة تعيّنت لَهُ عِنْده
فَعَلَيهِ أَدَاؤُهَا كَمَا يلْزم مُحْتَمل الشَّهَادَة
أَدَاؤُهَا وَإِن بذل نَفسه بِالْمَشْيِ إِلَى مجْلِس الحكم
الْعَاشِر إِذا نسخ الْكتاب فَلَا ينْقل سَمَاعه إِلَّا بعد
الْمُقَابلَة المرضية وَكَذَا لَا يَنْبَغِي لأحد أَن ينْقل
سَمَاعا إِلَى نُسْخَة أَو يُثبتهُ فِيهَا عِنْد السماع إِلَّا
بعد الْمُقَابلَة المرضية بالمسموع إِلَّا أَن يبين عِنْد
النَّقْل كَون النُّسْخَة غير مُقَابلَة أَو يُنَبه على
كَيْفيَّة الْحَال وَإِذا قَابل كِتَابه علم على مَوَاضِع
وُقُوفه وَإِن جَاءَ فِي السماع كتب بلغ فِي الْمجْلس الأول
أَو الثَّانِي إِلَى آخرهَا
(1/97)
|