مقدمة ابن الصلاح معرفة أنواع علوم الحديث ت فحل

النَّوْعُ الثَّانِي والعِشْرُوْنَ
مَعْرِفَةُ الْمَقْلُوْبِ (1)
هُوَ نَحْوُ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ عَنْ سَالِمٍ، جُعِلَ عَنْ نَافِعٍ (2) ليَصِيْرَ بذلكَ غَرِيباً مَرْغُوباً فيهِ (3). وكذلكَ ما رُوِّيْنَا (4) أنَّ البخاريَّ - رضي الله عنه - قَدِمَ بَغْدَادَ، فاجْتَمَعَ قَبْلَ مَجْلِسِهِ قومٌ مِنْ أصْحَابِ الحديثِ، وعمدُوا إلى مئةِ حديثٍ، فَقَلَبُوا مُتُونَهَا وأسَانِيْدَهَا، وجَعَلُوا مَتْنَ هَذا الإسنادِ لإسنادٍ آخَرَ، وإسنادَ هذا المتْنِ لِمَتْنٍ آخَرَ، ثُمَّ حَضَرُوا مَجْلِسَهُ وألْقَوْهَا عليهِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ إلْقَاءِ تِلْكَ الأحادِيْثِ المقلوبَةِ التفَتَ إليْهِمْ فَرَدَّ كُلَّ مَتْنٍ إلى إسْنَادِهِ، وكُلَّ إسْنَادٍ إلى مَتْنِهِ، فأَذْعنُوا لَهُ بالفَضْلِ (5).
__________
(1) المقلوب لغة: هو مَنْ قَلَبَهُ إذا حَوَّلَه من حالٍ إلى حالٍ. ويقال أيضاً قَلَبَ فلانٌ الشيءَ إذا صرفَهُ عن وجهه. انظر: لسان العرب 1/ 479، والنكت الوفية: 190/ ب، وتاج العروس 4/ 68.
وانظر في المَقلوب:
الإرشاد 1/ 266 - 272، والتقريب: 86 - 87، والاقتراح: 236، والمنهل الروي: 53، والخلاصة: 76 والموقظة: 60، واختصار علوم الحديث: 87، وشرح التبصرة والتذكرة 1/ 434، ونزهة النظر: 125، والمختصر: 136، وفتح المغيث 1/ 253، وألفية السيوطي: 69 - 72، وشرح السيوطي على ألفية العراقي: 225،، وفتح الباقي 1/ 282، وتوضيح الأفكار 2/ 98، وظفر الأماني: 405، وقواعد التحديث: 130.
(2) قال ابن حجر 2/ 864: ((هذا تعريف بالمثال، وحقيقته: إبدال من يعرف برواية غيره)). وزاد السخاوي: ((عمداً أو سهواً)). ويدخل فيه إبدال راوٍ أو أكثر من راوٍ حتى الإسناد كله. وانظر: نكت الزركشي 2/ 299، وفتح المغيث 1/ 298، وتوضيح الأفكار 2/ 43 مع تعليق المحقق.
(3) قال ابن حجر 2/ 864: ((قد يقع ذلك عمداً إما بقصد الإغراب، أو لقصد الامتحان، وقد يقع وهماً، فأقسامه ثلاثة وهي كلها في الإسناد، وقد يقع نظيرها في المتن، وقد يقع فيهما جميعاً)).
(4) في (م): ((رويناه)).
(5) رواها ابن عدي في جزء أسامي من روى عنهم البخاري من مشايخه: 2/ أ. ومن طريقه رواه الخطيب في تاريخ بغداد 2/ 20. وانظر: وفيات الأعيان 4/ 189، وسير أعلام النبلاء 12/ 408، وطبقات الشافعية الكبرى 2/ 6، والبداية والنهاية 1/ 25.

(1/208)


ومِنْ أمْثِلَتِهِ -ويصلحُ مثالاً للمُعَلَّلِ (1) - ما رُوِّيْنَاهُ عَنْ إسْحَاقَ بنِ عِيْسَى الطَّبَّاعِ، قالَ: حَدَّثَنَا جَرِيْرُ بنُ حازِمٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أُقِيْمَتِ الصَّلاَةُ فلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرونِي)) (2)، قالَ إسْحَاقُ بنُ عِيْسَى: فَأَتَيْتُ حَمَّادَ بنَ زَيْدٍ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الحديثِ، فقالَ: وَهِمَ أبو النَّضْرِ إنَّمَا كُنَّا جَمِيْعاً في مَجْلِسِ ثابتٍ
البُنَانِيِّ (3)، وحَجَّاجُ بنُ أبي عُثْمَانَ مَعَنَا، فَحَدَّثَنا حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ، عَنْ يَحْيَى بنِ أبي كَثِيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أبي قَتَادَةَ، عَنْ أبيهِ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: ((إذا أُقِيْمَتِ الصَّلاَةُ فلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرونِي)) (4). فَظَنَّ أبو النَّضْرِ أنَّهُ فيما حَدَّثَنا ثابِتٌ، عَنْ أنسٍ (5).
أبو (6) النَّضْرِ: هُوَ جَرِيْرُ بنُ حازِمٍ (7)، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) قال ابن حجر في نكته 2/ 874: ((لا يختص بهذا المثال، بل كل مقلوب لا يخرج عن كونه معللاً أو شاذاً؛ لأنه إنما يظهر أمره بجمع الطرق واعتبار بعضها ببعض، ومعرفة من يوافق ممن يخالف فصار المقلوب أخص من المعلل والشاذ. والله أعلم)).
(2) رواية جرير عند: الطيالسي (2028)، وعبد بن حميد (1259)، والترمذي في علله (146).
(3) بضم الموحدة ونونين. تقريب التهذيب (810).
(4) الحديث من هذا الطريق، مرفوعاً: عبد الرزاق (1932)، والحميدي (427)، وابن أبي شيبة 1/ 405، أحمد 5/ 296 و303 و304 و305 و307 و308 و309 و310، وعبد بن حميد (189)، والدارمي (1264) و (1265)، والبخاري 1/ 164 (637) و (638) و2/ 9 (909)، ومسلم 2/ 101 (604)، وأبو داود (539) و (540)، والترمذي (592)، والنسائي 2/ 31 و81، وابن خزيمة (1644)، وابن حبان (2223)، والبيهقي 2/ 20، والبغوي (440).
(5) انظر: العلل ومعرفة الرجال (1172)، والمراسيل لأبي داود: 94، والترمذي عقب (517) وفي العلل الكبير (146)، والضعفاء الكبير 1/ 198.
(6) في (ب): ((وأبو)).
(7) قال السيوطي في شرحه لألفية العراقي: 228: ((قد يكون القلب في المتن كحديث مسلم 3/ 93 (1031) في السبعة الذين يظلهم الله: ((وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ أخْفَاهَا حَتَّى لاَ تعلَمَ يَمِيْنُهُ مَا تُنْفِقُ
شِمَالُهُ))، فإنه انقلب على بعض الرواة، وإنما هُوَ: ((حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِيْنُهُ)) ... )).
قال النووي في شرح صحيح مسلم 3/ 71: ((هكذا وقع في جميع نسخ مسلم في بلادنا وغيرها، وكذا نقله القاضي عن جميع روايات نسخ مُسْلِم: ((لاَ تعلَمَ يَمِيْنُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ))، والصحيح المعروف:
((حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِيْنُهُ)).
وانظر: نكت الزركشي 2/ 305، ونكت ابن حجر 2/ 874.

(1/209)


فَصْلٌ
قَدْ وَفَّيْنَا بِمَا سَبَقَ الوَعْدُ بشَرْحِهِ مِنَ الأنْوَاعِ الضَّعِيْفَةِ (1)، والحمدُ للهِ، فَلْنُنَبِّهَ الآنَ عَلَى أُمُورٍ مُهِمَّةٍ:
أحَدُهَا: إذا رأيْتَ حَدِيْثاً بإسْنَادٍ ضَعِيْفٍ، فَلَكَ أنْ تَقُولَ: هَذَا ضَعِيْفٌ، وتَعْنِي أنَّهُ بذَلِكَ الإسْنَادِ ضعِيْفٌ، ولَيْسَ لَكَ أنْ تَقُولَ: هَذَا ضَعيفٌ، وتَعْني بهِ ضَعْفَ مَتْنِ الحديثِ، بناءً عَلَى مُجَرَّدِ ضَعْفِ ذلكَ الإسنَادِ؛ فَقَدْ يَكُونُ مَرْوِيّاً بإسْنَادٍ آخَرَ صَحِيْحٍ يَثْبُتُ بمثْلِهِ الحديثُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ جَوَازُ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ إمَامٍ مِنَ أئِمَّةِ الحديثِ بأنَّهُ لَمْ يُرْوَ بإسْنَادٍ يثبْتُ بهِ (2)، أو بأنَّهُ حديثٌ ضَعِيْفٌ، أو نَحْوِ هَذَا، مُفَسِّراً وَجْهَ القَدْحِ فيهِ (3). فإنْ أطْلَقَ وَلَمْ يُفَسِّرْ، فَفِيْهِ كَلاَمٌ يأتِي - إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى (4) -، فَاعْلَمْ ذَلِكَ فَإنَّهُ مِمَّا يُغْلَطُ فيهِ، واللهُ أعلمُ.
الثَّاني: يَجوزُ عِندَ أهلِ الحديثِ وغَيرِهِمُ التَّسَاهُلُ في الأسَانِيْدِ ورِوَايَةُ مَا سِوَى الموضوعِ مِنْ أنواعِ الأحاديثِ الضَّعِيْفَةِ مِنْ غَيْرِ اهْتِمَامٍ بِبَيَانِ ضَعْفِهَا فِيْمَا سِوَى صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وأحْكَامِ الشَّرِيْعَةِ مِنَ الحلاَلِ والحرَامِ وغَيْرِهُما. وَذَلِكَ كَالْمَوَاعِظِ، والقَصَصِ، وفَضَائِلِ الأعْمَالِ، وسَائِرِ فُنُونِ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيْبِ، وسَائِرِ مَا لاَ تَعَلُّقَ لهُ بالأحْكَامِ
__________
(1) اعترض عليه بأنه شرح أنواعاً لا تستلزم الضعف كالمتصل والمسند والموقوف وغيرها.
وأجاب الحافظ ابن حجر عن هذا الاعتراض بأن المصنف قال: ((إنه يشرح أنواع الضعيف وهو قد فعل ((ولم يقل: إنه لا يشرح إلا الأنواع الضعيفة حتى يعترض عليه بمثل المسند والمتصل وما أشبه ذلك مما لا يستلزم الضعف)) ... )). نكت ابن حجر 2/ 887.
(2) في (ب): ((بمثله)).
(3) قال ابن حجر 2/ 887: ((إذا بلغ الحافظ المتأهل الجهد وبذل الوسع في التفتيش على ذلك المتن من مظانه، فلم يجده إلا من تلك الطريق الضعيفة، فما المانع له من الحكم بالضعف بناءً على غلبة ظنه؟ وكذلك إذا وجد كلام إمام من أئمة الحديث قد جزم بأن فلاناً تفرد به، وعرف المتأخر أن فلاناً المذكور قد ضعف بتضعيف قادح، فما الذي يمنعه من الحكم بالضعف؟ والظاهر أن المصنف مشى على أصله في تعذر استقلال المتأخرين بالحكم على الحديث بما يليق به، والحق خلافه كما قدمناه)).
(4) في النوع الثالث والعشرين: ... .

(1/210)


والعَقَائِدِ (1). ومِمَّنْ رُوِّيْنَا عَنْهُ التَّنْصِيْصُ عَلَى التَّسَاهُلِ في نَحْوِ ذَلِكَ: عَبْدُ الرَّحْمَانِ بنُ مَهْدِيٍّ (2)، وأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ (3) - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (4) -.
الثَّالِثُ: إذا أردْتَ رِوَايةَ الحديثِ الضعيفِ بغَيْرِ إسْنادٍ فَلاَ تَقُلْ فيهِ: ((قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَذا وكَذا))، وما أشْبَهَ هَذا مِنَ الألفَاظِ الجازِمةِ بأنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ (5)، وإنَّمَا تَقُولُ (6) فيهِ: ((رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَذَا وكَذَا، أوْ بَلَغَنا عَنْهُ كَذا وكَذا، أوْ وَرَدَ عَنهُ، أوْ جَاءَ عَنهُ، أوْ رَوَى بَعْضُهُمْ))، ومَا أشْبَهَ ذَلِكَ (7).
وهَكَذا الْحُكْمُ فيما تَشُكُّ في صِحَّتِهِ وضَعْفِهِ (8)، وإنَّمَا تَقُولُ: ((قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -))، فيما ظَهَرَ لَكَ صِحَّتُهُ بطريقِهِ الذي أوْضَحْنَاهُ أوَّلاً (9)، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) انظر: بحثاً موفقاً لمحقق شرح السيوطي: 53 - 63.
(2) رواه عنه الحاكم في المدخل إلى الإكليل: 25، والبيهقي في المدخل إلى دلائل النبوة 1/ 34، والخطيب في الجامع 2/ 91 (1265).
(3) رواه الخطيب في الكفاية: (213 ت، 134 هـ‍).
(4) قال البلقيني في المحاسن: 217: ((زاد الخطيب السفيانين ويحيى بن محمد)). وانظر: الكفاية (212 - 213 ت، 134 هـ‍).
(5) في (ب): ((كذا)).
(6) في (ب): ((يقول)).
(7) نبّه الزركشي هنا على أمور هي:
- أن هذا يشمل الضعيف الذي لا يعمل به وهو الوارد في الأحكام، والضعيف الذي يعمل به وهو الوارد في الفضائل، ومن الناس من يتساهل فيما ورد في الفضائل فيجزم به، والأحوط المنع.
- يشمل هذا الحكم الموضوع أيضاً عند عدم العلم بحاله، أما مع العلم فيجب التبيين.
- أن قوله: ((بغير إسناد)) يقتضي أنه إذا روي بالإسناد يقال فيه بالجزم، وهو كذلك إتباعاً لما روي.
- خُرِّجَ من هذا أنه لا يجوز رواية الضعيف إلا مع تبيينه، وقد حكاه العلاّمة أبو شامة عن جمع من المحدّثين والمحقّقين وأهل الفقه والأصول. انظر: نكت الزركشي 2/ 322 - 324.
(8) نقل النووي اتفاق محقّقي المحدّثين وغيرهم على هذا، وأنه لا ينبغي الجزم بشيء ضعيف؛ لأنها صيغة تقتضي صحته عن المضاف إليه، فلا ينبغي أن تطلق إلا فيما صحَّ، قال: ((وقد أهمل ذلك كثير من المصنفين من الفقهاء وغيرهم، واشتد إنكار البيهقي على من خالف ذلك، وهو تساهل قبيح جداً من فاعله، إذ يقول في الصحيح: يذكر ويروى، وفي الضعيف: قال وروى، وهذا قلب للمعاني وحَيْدٌ عن الصواب. نقله محقق الإرشاد 1/ 271.
(9) قال الزركشي 2/ 324: ((سكت المصنف عن عكس ذلك، وهو إذا أردت رواية الحديث الصحيح بغير إسناد فلا يأتي فيه بصيغة التمريض كـ ((رُوِيَ)) ونحوه، ووقع ذلك في عبارة الفقهاء، وليس يستحسن)).
قلنا: لم يسكت المصنف، وإنما أشار إليها إشارة واضحة مفهومة من آخر كلامه، مضمومة إلى السياق. والله أعلم.

(1/211)


النَّوْعُ الثَّالِثُ والعِشْرُونَ
مَعْرِفَةُ صِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، ومَنْ تُرَدُّ رِوَايَتُهُ
ومَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ قَدْحٍ وَجَرْحٍ وَتَوْثِيْقٍ وتَعْدِيْلٍ (1)
أجْمَعَ جمَاهِيرُ أئِمَّةِ الحديثِ والفِقْهِ علَى أنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيْمَنْ يُحْتَجُّ بِرِوَايتِهِ أنْ يَكُونَ عَدْلاً ضَابِطاً لِمَا يَرْوِيهِ.
وتَفْصِيْلُهُ:
- أنْ يَكُونَ مُسْلِماً.
- بَالِغاً.
- عَاقِلاً.
- سَالِماً مِنْ أسْبَابِ الفِسْقِ وَخَوَارِمِ المرُوْءةِ (2).
- مُتَيَقِّظاً غَيْرَ مُغَفَّلٍ.
- حَافِظاً إنْ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ.
- ضَابِطاً لِكِتَابِهِ إنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ.
- وإنْ كَانْ يُحَدِّثُ بالمعنَى اشْتُرِطَ فيهِ مَعَ ذَلِكَ أنْ يَكُوْنَ عَالِماً بِمَا يُحِيْلُ المعَاني واللهُ أعلَمُ. ونُوضِحُ (3) هذِهِ الجمْلَةَ بمسَائِلَ:
__________
(1) انظر في صفة مَن تقبل روايته ومَنْ تُرَدُّ:
الإرشاد 1/ 273 - 333، والتقريب: 90 - 100، والمنهل الروي: 63، والخلاصة: 88، واختصار علوم الحديث: 92، وشرح التبصرة والتذكرة 2/ 1، ونزهة النظر: 185 - 199، والمختصر: 155، وفتح المغيث 1/ 262، وألفية السيوطي: 96 - 112، وشرح السيوطي على ألفية العراقي: 231، وفتح الباقي 1/ 292، وتوضيح الأفكار 2/ 114، وظفر الأماني: 78.
(2) انظر: محاسن الاصطلاح: 318، ونكت الزركشي 3/ 325، والتقييد والإيضاح: 136.
(3) في (ب): ((توضح)).

(1/212)


إحْدَاهَا (1): عَدَالَةُ الرَّاوي تَارةً تَثْبُتُ بتَنصِيْصِ مُعدِّلَيْنِ عَلَى عَدَالَتِهِ، وتَارَةً تَثْبُتُ بالاسْتِفَاضَةِ (2)، فَمَنِ اشْتَهَرتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أهلِ النَّقْلِ أو نَحْوِهِم مِنْ أهلِ العِلْمِ وشَاعَ الثَّنَاء عليهِ بالثِّقَةِ والأمانةِ اسْتُغْنِيَ فيهِ بذلكَ (3) عَنْ بَيِّنَةٍ شَاهِدَةٍ بعَدَالَتِهِ تَنْصِيْصاً.
وهَذَا هُوَ الصحيحُ في مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وعليهِ الاعتمادُ في فَنِّ أصُوْلِ الفِقْهِ. ومِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ أهلِ الحديثِ أبو بَكْرٍ الخطيبُ الحافظُ (4)، ومَثَّلَ ذَلِكَ بمالِكٍ،
وشُعبةَ، والسُّفْيانَيْنِ، والأوْزَاعِيِّ، واللَّيْثِ، وابنِ المبارَكِ، ووكِيعٍ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ، ويحيى بنِ مَعِينٍ، وعَلِيِّ بنِ المدِيْنِيِّ، ومَنْ جَرَى مَجْرَاهُم في نَبَاهَةِ الذِّكْرِ واستِقَامَةِ الأمرِ، فَلاَ يُسْألُ عَنْ عَدَالَةِ هَؤُلاَءِ وأمْثَالِهِمْ، وإنَّمَا يُسْألُ عَنْ عَدَالَةِ مَنْ خَفِيَ أمرُهُ عَلَى الطَّالِبِيْنَ.
وتَوَسَّعَ ابنُ عَبْدِ البرِّ الحافِظُ في هذا فقالَ (5): ((كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ مَعْرُوفِ العِنايةِ بهِ، فَهوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ في أمْرِهِ أبَداً عَلَى العَدَالَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ، لِقَولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((يَحْمِلُ هذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُوْلُهُ)) (6)، وفيما قَالَهُ اتِّسَاعٌ غَيْرُ
__________
(1) في (ب) و (جـ): ((أحدها)).
(2) انظر: نكت الزركشي 3/ 327.
(3) في (جـ): ((لذلك)).
(4) الكفاية: (147 ت، 86 - 87 هـ‍).
(5) ينظر: التمهيد 1/ 28، وجامع بيان العلم وفضله 2/ 199.
(6) هذا الحديث مروي عن عدة من الصحابة - رضي الله عنهم - مرفوعاً، ومع ذلك فهو حديث ضعيف، وإليك البيان:
الأول: وهو أشهرها، روي من حديث إبراهيم بن عبد الرحمان العذري، ورواه عنه:
1 - الوليد بن مسلم، عنه، عن الثقة من أشياخه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه البيهقي في الكبرى 10/ 209، وابن عدي 1/ 249، وابن عساكر 7/ 38، من طريقين صرّح الوليد في أحدهما بالتحديث، وكذا شيخه، وهذا الطريق معلٌّ بأمرين:
أولاً: جهالة العذري.
ثانياً: إبهام شيخه.
ولعل قائلاً يقول: شيخه يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلعله يكون صحابياً، فالجهالة لا تضرّ بحاله؟ =

(1/213)


______________________________________
= قلنا: الأمر محتمل لكلا القولين، وعادة المحدّثين فيما هذه صورته تقديم أضعف الاحتمالين من باب الاحتياط، كما إذا روى عن شخص يشترك في اسمه اثنان: ثقة وضعيف، ولا يعين واحداً منهما بصفة أو علامة أو دلالة تخصّه عن الآخر، قدّم الضعيف احتياطاً. ثم إن هذا الاحتمال ينتفي لو قال: عن رجل من أصحاب رسول الله أو نحو ذلك، لكن توثيقه في الرواية بقوله: الثقة من أشياخنا، يدل على أنه ليس صحابياً، فإن الصحابة لا يحتاجون إلى توثيق البتة.
2 - معان بن رفاعة السلامي، عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي عنه من ثلاثة وجوه:
- أخرجه ابن حبان في الثقات 4/ 10، وابن عدي 1/ 249، وأبو نعيم في معرفة الصحابة 1/ 53، وابن عبد البر في التمهيد 1/ 59، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (55)، وابن عساكر في تاريخ دمشق 7/ 37 - 38، من طريق أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد، عن بقية بن الوليد، عن معان، به.
- أخرجه العقيلي 4/ 256، وابن أبي حاتم 2/ 17، وابن عدي 1/ 249، وابن عبد البر 1/ 59، وابن عساكر في تاريخه 7/ 38، من طريق إسماعيل بن عياش، عن معان، به.
- أخرجه ابن أبي حاتم 2/ 17، وابن عدي 1/ 249، وابن عساكر 7/ 38، من طريق مبشر بن إسماعيل، عن معان، به.
وجميع طرق معان معلّة بضعفه، وجهالة إبراهيم العذري، وإرسال الحديث، وزاد عليها الوجه الأول عنعنة بقية - وهو مدلس -.
الثاني: من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -، أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (53)، وابن عساكر 7/ 39، من طريق محمد بن جرير الطبري، عن عثمان بن يحيى، عن عمرو بن هاشم البيروتي، عن ابن أبي كريمة، عن معان، عن أبي عثمان النهدي، عنه مرفوعاً.
وفي هذا الإسناد:
عمرو بن هاشم فيه كلام. ديوان الضعفاء 2/ 211، وتقريب التهذيب (5127).
وابن أبي كريمة: ضعّفه أبو حاتم، وقال العقيلي: روى عن هشام بواطيل. ميزان الاعتدال 3/ 570.
ومعان بن رفاعة: قال الذهبي: ((صاحب حديث ليس بمتقن)). ميزان الاعتدال 4/ 134.
الثالث: من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (54) من طريق عبد الله ابن صالح، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن ابن مسعود، به.
وعبد الله بن صالح، كاتب الليث: صدوق، ثبت في كتابه، كثير الغلط من حفظه، وكانت فيه غفلة. ديوان الضعفاء 2/ 43، وتقريب التهذيب (3388). =

(1/214)


_______________________________________
= الرابع: من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أخرجه ابن عدي في الكامل 1/ 247، من طريق موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر، عن أبيه، عن جده، عن علي، به.
وهذا إسناد معضل، فالباقر لم يدرك جديه الحسن والحسين، فضلاً عن جده الأعلى عليّ. انظر: جامع التحصيل: 266.
الخامس: من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -، أخرجه العقيلي 1/ 9، وابن عدي 1/ 249، من طريق محمد بن عبد العزيز الرملي، عن بقية، عن رزيق الألهاني، عن القاسم بن عبد الرحمان، عن أبي أمامة، به.
وفيه: محمد بن عبد العزيز: صدوق يهم. تقريب التهذيب (6093).
ورزيق: قال ابن حبان فيه: يتفرد بالأشياء التي لا تشبه حديث الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به. المجروحين 1/ 301. وقال ابن حجر: صدوق له أوهام. تقريب التهذيب (1938)، والقاسم بن عبد الرحمان تكلم فيه أحمد. انظر: ديوان الضعفاء 2/ 247، ومجمع الزوائد 1/ 14.
السادس: من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (14). من طريق عبد الله بن خراش بن حوشب، عن العوام بن حوشب، عن شهر بن حوشب، عن معاذ، به.
وفيه: عبد الله بن خراش: ضعّفه الدارقطني، وقال أبو زرعة: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حجر: ضعيف.
وأطلق عليه ابن عمار: الكذب. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 413، وتقريب التهذيب (3293).
وشهر بن حوشب: مختلف فيه. انظر: ميزان الاعتدال 2/ 284، ثم إنه لم يلق معاذاً، فروايته عنه منقطعة. انظر: جامع التحصيل: 197.
السابع: من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، أخرجه ابن عدي في الكامل 3/ 457، من طريق خالد بن عمرو القرشي، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سالم، عن ابن عمر، به. قال ابن عدي: ((لا أعلم يرويه عن الليث غير خالد بن عمرو)). ورواه في 3/ 457 - 458، وقال عقبه: ((وهذه الأحاديث التي رواها خالد عن الليث، عن يزيد ابن أبي حبيب كلها باطلة، وعندي أن خالد بن عمرو وضعها على الليث)).
قلنا: نعم ... خالد بن عمرو: متهم. قال أحمد: ليس بثقة، وكذّبه ابن معين، ونسبه صالح جزرة إلى الوضع. انظر: ميزان الاعتدال 1/ 635.
الثامن: من حديث ابن عمرو - رضي الله عنهما -، أخرجه العقيلي 1/ 9 - 10 من طريق خالد بن عمرو، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي قبيل، عن ابن عمرو، به. وفيه ما في الذي قبله.
التاسع: من حديث أبي هريرة، وقد روي عنه من وجوه: =

(1/215)


مَرْضِيٍّ (1)، واللهُ أعلمُ.
__________
=
- أخرجه ابن عدي 1/ 248 من طريق مروان الفزاري، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، به. قال ابن عدي: ((لم أرَ هذا الحديث لمروان الفزاري بهذا الإسناد إلا من هذا الطريق)).
ويزيد بن كيسان: فيه مقال. انظر: ميزان الاعتدال 4/ 438.
- أخرجه ابن عدي 1/ 248، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (52) من طريق مسلمة ابن علي، عن عبد الرحمان بن يزيد، عن علي بن مسلم، عن أبي صالح الأشعري، عن أبي هريرة، به.
ورواه مسلمة بن علي، عن أبي هريرة من غير وجه.
قال ابن عدي: ((وهذا الحديث لا يرويه غير مسلمة بن علي)).
قلنا: مسلمة بن علي: واهٍ. انظر: ميزان الاعتدال 4/ 109.
- أخرجه البزار (143 كشف الأستار)، والعقيلي 1/ 9، ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد 1/ 9 - 10، من طريق خالد بن عمرو، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي قبيل، عن أبي هريرة وعبد الله ابن عمرو مقرونين، به.
قال البزار: ((خالد بن عمرو: منكر الحديث، قد حدّث بأحاديث لم يتابع عليها، وهذا منها)). وانظر: مجمع الزوائد 1/ 140.
والحديث صحّحه الإمام أحمد فيما رواه الخلال عنه. نقله الخطيب في شرف أصحاب الحديث (56). وضعَّفه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام 2/ 346 (341). وقال العراقي في التقييد والإيضاح: 139: ((وقد روي هذا الحديث متصلاً من رواية جماعة من الصحابة ... ))، فذكرهم ثم قال:
((وكلها ضعيفة لا يثبت منها شيء، وليس فيها شيء يقوي المرسل المذكور)). وانظر: نكت الزركشي 3/ 331، وشرح السيوطي: 234 - 236.
(1) ووافقه عليه ابن الموّاق في كتابه " بغية النقاد ". وقال المزي: ((ما قاله ابن عبد البر هو في زماننا مرضي بل ربما يتعين)). وقال ابن سيد الناس: ((لست أرى ما قاله أبو عمر إلا مرضياً)). وقال ابن الجزري: ((إنه الصواب)). وقال الذهبي: ((إنه الحق)). ينظر: نكت الزركشي 2/ 330، والتقييد والإيضاح: 139، وفتح المغيث 1/ 278.
على أن ابن الوزير أفاض في تأييد ابن عبد البر في بحث طويل نفيس في كتابه " الروض الباسم ":
21 - 26، واقتبس الصنعاني جزءاً منه ضمنه كتابه توضيح الأفكار 2/ 126 - 133.

(1/216)


الثَّانِيَةُ: يُعْرَفُ كَوْنُ الرَّاوِي ضَابِطاً، بأنْ نَعْتَبرَ (1) رِوَاياتِهِ بروَاياتِ الثِّقَاتِ المعْرُوفِيْنَ بالضبْطِ والإتْقانِ، فَإنْ وَجَدْنا رِوَاياتِهِ موافقةً وَلَوْ مِنْ حَيْثُ المعْنَى لِرِوَاياتِهِم أو موافِقَةً لَهَا في الأغْلَبِ والمخالَفَةُ نَادِرَةٌ عَرَفْنا حِيْنَئِذٍ كَوْنَهُ ضَابِطاً ثَبْتاً، وإنْ وَجدْناهُ كثيرَ المخالَفةِ لهم عَرَفْنا اختِلاَلَ ضَبْطِهِ ولَمْ نَحْتَجَّ (2) بحديثِهِ (3)، واللهُ أعلمُ.
الثَّالِثَةُ: التعديلُ مقبولٌ مِنْ غيرِ ذِكْرِ سَبَبِهِ على المذهبِ الصحيحِ المشهورِ (4)؛ لأنَّ أسْبَابَهُ كَثيرةٌ يَصْعُبُ ذِكْرُها، فَإنَّ ذَلِكَ يُحْوِجُ المعدِّلَ إلى أنْ يقولَ: لَمْ يَفْعَلْ كذا، ولَمْ يَرتكِبْ كَذا، فَعَلَ كَذا وكَذا فيُعَدِّدُ جميعَ ما يفسقُ بفِعلِهِ أو بتَرْكِهِ وذَلِكَ شَاقٌّ جِدّاً (5).
وأمَّا (6) الْجَرْحُ فَإنَّهُ لاَ يُقْبَلُ إلاَّ مُفَسَّراً مبَيَّنَ السَّبَبِ (7)؛ لأنَّ الناسَ يَختَلِفُونَ فيما يَجْرَحُ وما لاَ يَجْرَحُ، فيَطلقُ أحدُهُمُ الْجَرْحَ بناءً على أمرٍ اعتَقَدَهُ جَرْحاً ولَيْسَ بجرْحٍ في نفسِ الأمرِ؛ فلاَ بُدَّ مِنْ بِيَانِ سَبِبِهِ لِيُنْظَرَ فيهِ: أهُوَ جَرْحٌ أمْ لاَ؟ وهذا ظاهرٌ مقرّرٌ في الفِقْهِ وأصُولِهِ (8).
__________
(1) في (أ) و (ب) و (م): ((تعتبر))، وفي (جـ): ((يعتبر)).
(2) في (أ) و (ب): ((يحتج)).
(3) انظر فيما يتعلق بالضبط: جامع الأصول 1/ 72 - 74، ونكت الزركشي 2/ 336.
(4) وهو الذي صَوَّبَه الخطيب البغدادي، واختاره أبو إسحاق الشيرازي، وصحّحه الزركشي، وقال:
((هو المنصوص للشافعي))، وقال القرطبي: هو الأكثر من قول مالك.
انظر: الكفاية: (165 ت، 99 هـ‍)، واللمع: 46، والبحر المحيط 4/ 293 - 294.
(5) و ((لأن المزكّي إن كان بصيراً قُبِلَ جرحه وتعديله وإلاّ فلا، وهو قول القاضي أبي بكر، وقال إمام الحرمين: ((إن كان المزكّي عالماً بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه وإلا فلا))، والمختار ما قاله الغزالي: إنه ينظر في مذاهب الجارحين والمزكّين، فإن كانت مختلفة توقفنا عن قبول الجرح حتى يتبين وجهه، وما كان مطلقاً أو غير مقيد فلا يجرح به، ومما ينبغي في الجارح والمعدِّل: أن يكون عالماً باختلاف المذاهب في ذلك)). قاله الزركشي 3/ 338.
(6) في (أ): ((أما))، الواو ساقطة.
(7) قال العراقي في التقييد140: ((وقد حكى القاضي أبو بكر عن الجمهور قبول جرح أهل العلم بهذا الشأن من غير بَيَان، واختاره إمام الحرمين، وأبو بكر الْخَطِيْب، والغزالي، وابن الخطيب)).
(8) قال البلقيني في المحاسن: 221: ((وذهب قوم إلى أنه لا يشترط ذلك، كما مرّ مثله في التعديل على المشهور. وأغْرَبَ مَنْ قَال: يكفي الإطلاق في الجرح دون التعديل. وقيل: إن كان عالماً بالأسباب كفى الإطلاق فيهما، وإلا لم يكف واحد منهما. وتقرير الأدلة في فن الأصول)).

(1/217)


وذَكَرَ الخطيبُ الحافِظُ (1): أنَّهُ مَذْهَبُ الأئِمَّةِ مِنْ حُفَّاظِ الحديْثِ ونُقَّادِهِ، مِثْلَ البخارِيِّ، ومُسْلِمٍ، وغَيْرِهِما؛ ولذلكَ احْتَجَّ البخاريُّ بجماعَةٍ سَبَقَ مِنْ غَيْرِهِ الجرحُ
لَهُمْ (2)، كَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وكَإسْمَاعِيْلَ بنِ أبي أُوَيْسٍ، وعَاصِمِ بنِ علِيٍّ، وعَمْرِو بنِ مَرْزُوقٍ، وغَيْرِهِمْ.
واحْتَجَّ مُسْلِمٌ بسُوَيْدِ بنِ سعيدٍ وجماعةٍ اشْتَهَرَ الطَّعْنُ فيهمْ، وهَكَذا فَعَلَ أبو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ؛ وذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أنَّهُمْ ذَهَبُوا إلى أنَّ الجرحَ لاَ يَثْبُتُ إلاَّ إذَا فُسِّرَ سَبَبُهُ. ومَذَاهِبُ النُّقَّادِ للرِّجَالِ غَامِضَةٌ مُخْتَلِفَةٌ (3).
وَعَقَدَ الخطيبُ (4) باباً في بَعْضِ أخْبَارِ مَنِ اسْتُفْسِرَ في جَرْحِهِ فَذَكَرَ ما لاَ يصلحُ جارِحاً، منها: عَنْ شُعْبَةَ أنَّهُ قِيْلَ لهُ: ((لِمَ تَركْتَ حَدِيْثَ فُلاَنٍ؟))، فقَالَ: ((رأيْتُهُ يَرْكُضُ عَلَى بِرْذَونٍ (5)، فَتَرَكْتُ حَدِيْثَهُ)) (6). ومِنْها عَنْ مُسْلِمِ بنِ إبراهيمَ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيْثٍ لِصَالِحِ الْمُرِّيِّ (7)، فَقَالَ: مَا يُصْنَعُ (8) بصَالِحٍ؟ ذَكروهُ يوماً عِنْدَ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ فامتَخَطَ حَمَّادٌ (9)، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) الكفاية: (178 - 179ت، 108هـ‍). وانظر: البرهان 1/ 560، والبحر المحيط 4/ 294.
(2) انظر: نكت الزركشي 3/ 338 وما بعدها.
(3) انظر: الكفاية: (179 - 180 ت، 108 - 109 هـ‍).
(4) الكفاية: (181 - 187 ت، 110 - 114 هـ‍).
(5) يطلق على غير العربي من الخيل والبغال، ويعرف باسم: ((الكديش)). انظر: معجم متن اللغة 1/ 269، والمعجم الوسيط 1/ 48.
(6) رواه الخطيب في الكفاية: (182 ت، 110 - 111 هـ‍).
(7) بضم الميم وتشديد الراء. تقريب التهذيب (2845).
(8) في (أ) وتدريب الراوي 1/ 306: ((تصنع))، وكذا في نشرتي الكفاية: (185 ت، 113 هـ‍)، وفي فتح المغيث 1/ 332: ((نصنع)).
ووردت في بعض النسخ الخطية حاشية للمصنف، وأوردها الزركشي في نكته 3/ 353 قائلاً: ((ضبطه المصنف بضم الياء المثناة من تحت وفتح النون، وقال: هكذا في أصل موثوق به، فيه سماع الخطيب)).
(9) الكفاية: (185 ت، 113 هـ‍).

(1/218)


قُلْتُ: ولِقَائلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّمَا يَعتمِدُ النَّاسُ في جَرْحِ الرواةِ ورَدِّ حَدِيْثِهِمْ، عَلَى الكُتُبِ التي صَنَّفَها أئِمَّةُ الحديثِ في الجرْحِ، أو في الجرْحِ والتَّعْدِيْلِ، وقَلَّمَا يَتَعَرَّضُونَ فيها لِبَيَانِ السَّبَبِ، بَلْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى مُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ: فُلاَنٌ ضَعِيْفٌ، وفُلاَنٌ لَيْسَ بِشَيءٍ، ونَحْوُ ذلكَ، أو هذا حديثٌ ضَعيفٌ، وهذا حديثٌ غيرُ ثابتٍ، ونَحْوُ ذلكَ؛ فاشتِرَاطُ بَيَانِ السبَبِ يُفْضِي إلى تَعْطِيْلِ ذَلِكَ، وسَدِّ بابِ الجَرْحِ في الأغْلَبِ الأكْثَرِ.
وَجَوابُهُ: أنَّ ذلكَ وإنْ لَمْ نَعْتَمِدْهُ (1) في إثباتِ الجرحِ والحكمِ بهِ، فَقَدْ اعْتَمَدْنَاهُ في أنْ توقَّفْنا عَنْ قَبُولِ حديثِ مَنْ قَالُوا فيهِ مِثْلَ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أنَّ ذَلِكَ أوقَعَ عِندنا فيهِم رِيْبَةً قويَّةً يُوْجِبُ مِثْلُها التَّوقُّفَ.
ثُمَّ مَنِ انْزَاحَتْ عنهُ الرِّيْبَةُ منهُمْ، بِبَحْثٍ عَنْ حَالِهِ أوْجَبَ الثِّقَةَ بِعَدَالَتِهِ، قَبِلْنا حَدِيْثَهُ ولَمْ نَتَوَقَّفْ (2)، كالذينَ احْتَجَّ بِهِمْ صَاحِبَا " الصَّحِيْحَيْنِ " وغَيْرِهِما مِمَّنْ مَسَّهُمْ مثلُ هذا الجرحِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فافْهَمْ ذَلِكَ فإنَّهُ مَخْلَصٌ حَسَنٌ (3)، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) في (ب): ((يعتمد))، وفي (جـ): ((يعتمده)).
(2) في (ب): ((يتوقف)).
(3) قال البلقيني: 222: ((هذا الملخص فيه نظر)).
وقال الزركشي في نكته 3/ 354: ((ما ذكره في الجواب من الملخص تبعه عليه النووي في شرح مسلم، وقال: ((إن الجرح وإن لم يثبت بذلك، لكنه يوجب التوقف))، وفيه نظر؛ لأن الريبة لا توجب التوقف، ولهذا لَوْ ارتاب الْقَاضِي في الشهود فإنه يجوز لَهُ الحكم مَعَ قيام الريبة. ثُمَّ يرده مَا ذكره أولاً
من إعراض البخاري عن أقوال الجارحين حيث لم يفسروا، فيقال: إذا لم يفسروا فهلا توقف كما قلتم هاهنا، وإنما الجواب أن كلام الأئمة المنتصبين لهذا الشأن المدونين فيه، أهل الإنصاف والديانة والنصح إنما يطلقون هذه الألفاظ بعد ثبوت أسبابها)).
وقال العراقي في التقييد: 141 - 142: ((إن الجمهور إنما يوجبون البيان في جرح من ليس عالماً بأسباب الجرح والتعديل، وأما العالم بأسبابهما فيقبلون جرحه من غير تفسير)).
ثم قال: ((وقال أبو بكر الخطيب في الكفاية بعد حكاية الخلاف: على أنا نقول أيضاً: إن كان الذي يرجع إليه في الجرح عدلاً مرضياً في اعتقاده وأفعاله، عارفاً بصفة العدالة والجرح وأسبابهما، عالماً باختلاف الفقهاء في ذلك قُبِلَ قوله فيمن جرحه مجملاً ولا يسأل عن سببه)).
وهذا ما ذهب إليه جمع من الأصوليين منهم: إمام الحرمين في البرهان 1/ 400، فقال: ((والذي أختاره أن الأمر في ذلك يختلف بالمعدِّل والجارح، فإن كان المعدِّل إماماً موثوقاً به في الصناعة لا يليق بِهِ =

(1/219)


الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّهُ: هَلْ يَثْبُتُ الجرحُ والتَّعْدِيْلُ بقَوْلِ واحِدٍ، أو لاَ بُدَّ مِنِ اثنينِ؟.
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لاَ يَثبتُ ذَلِكَ إلاَّ باثْنَيْنِ كَما في الجرْحِ والتَّعْدِيْلِ في الشَّهَاداتِ، ومِنْهُمْ مَنْ قَالَ - وهوَ الصحيحُ الذي اخْتَارَهُ الحافِظُ أبو بَكْرٍ الخطيبُ (1) وغيرُهُ - أنَّهُ يَثْبُتُ بواحِدٍ؛ لأنَّ العدَدَ لَمْ يُشْتَرَطْ في قَبُولِ الخبَرِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ في جَرْحِ راويهِ وتعديْلِهِ بخِلاَفِ الشَّهاداتِ (2)، واللهُ أعلمُ.
__________
= إطلاق التعديل إلا عند علمه بالعدالة الظاهرة، فمطلق ذلك كافٍ منه، فإنا نعلم أنه لا يطلقه إلا عن بحث واستفراغ وسع في النظر. فأما مَن لم يكن من أهل هذا الشأن وإن كان عدلاً رضاً، إذا لم يُحِطْ عِلْماً بعلل الروايات فلا بد من البوح بالأسباب وإبداء المباحثة التامة. والجرح أيضاً يختلف باختلاف أحوال من يجرح، والعامي العري عن التحصيل إذا جرح ولم يفصل، فلا يكترث بقوله، فأما من يثير جرحه المطلق خرم الثقة، فمطلق جرحه كافٍ في اقتضاء التوقف)).
قال العراقي: 142: ((وما ذهب إليه الإمام في هذا اختاره أيضاً أبو حامد الغزالي وفخر الدين الرازي)).
وقال محقق شرح السيوطي: 239: ((والذي يبدو لي - والله أعلم - أن الأولى في توجيه قاعدة ((لا يقبل الجرح إلا مفسراً)) أنها تُعْمَل فيمن تعارضت فيه أقوال المجرحين والمعدلين، بأن جرحه بعضهم، وعدّله بعضهم، فحينئذ يشترط بيان سبب الجرح؛ حتى يحكم بكونه خارماً للثقة بالراوي أم لا. وفي هذا يقول الإمام تاج الدين السبكي: ((إن قولهم: ((لا يقبل الجرح إلا مفسراً))، إنما هو أيضاً في جرح من ثبتت عدالته واستقرّت، فإذا أراد رافع رفعها بالجرح، قيل له: ائتِ ببرهان على هذا.
أو فيمن لم يعرف حاله، ولكن ابتدره جارحان ومزكيان، فيقال إذ ذاك للجارحين: فسراً ما رميتماه به. أما من ثبت أنه مجروح فيقبل قول من أطلق جرحه؛ لجريانه على الأصل المقرر عندنا، ولا نطالبه بالتفسير، إذ لا حاجة إلى طلبه)). طبقات الشافعية الكبرى 1/ 90.
وقال الحافظ ابن حجر: ((والجرح مقدم على التعديل، وأطلق ذلك جماعة، ولكن محله إن صدر مبيناً من عارف بأسبابه؛ لأنه إن كان غير مفسر لم يقدح فيمن ثبتت عدالته)). نزهة النظر: 193، وانظر: لسان الميزان 1/ 15.
وقال البقاعي: ((فإن كان قد وثّقه أحد من أئمة هذا الشأن لم يقبل فيه الجرح من أحد كائناً من كان إلا مفسراً؛ لأنه قد ثبتت له رتبة الثقة، فلا يزحزح عنها إلا بأمر جلي)). النكت الوفية: 100 / أ.
(1) الكفاية: (160 - 161 ت، 96 هـ‍).
(2) قال الحافظ العراقي في التقييد: 142 - 143: ((فيه أمران:
أحدهما: أنه حُكِيَ عن الأكثرين خلاف ما صحّحه المصنف، واختلف كلام الناقلين لذلك عنهم، فحكى الخطيب في الكفاية أن القاضي أبا بكر بن الباقلاني حكى عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة =

(1/220)


الخامِسَةُ: إذا اجْتَمعَ في شَخْصٍ جَرْحٌ وتَعْديلٌ، فالجرْحُ مُقَدَّمٌ؛ لأنَّ المعَدِّلَ يُخْبِرُ عَمَّا ظَهَرَ مِنْ حالِهِ، والجارِحُ يُخْبِرُ عَنْ باطِنٍ خَفِيَ عَلَى المعَدِّلِ (1)، فإنْ كَانَ عَدَدُ المعدِّلِيْنَ أكْثَرَ فقَدْ قِيْلَ: التَّعْدِيْلُ أوْلَى (2). والصحيحُ والذي عليهِ الجمْهُورُ: أنَّ الجرْحَ أوْلَى، لِمَا ذَكَرْنَاهُ (3)، واللهُ أعلمُ.
السادِسَةُ: لاَ يُجْزِئُ التَّعْديلُ عَلَى الإبْهَامِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ المعَدَّلِ، فإذا قَالَ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أوْ نَحْوُ ذلكَ مُقْتَصِراً عليهِ لَمْ يُكْتَفَ بهِ فيما ذَكَرَهُ الخطيبُ الحافِظُ (4)، والصَّيْرَفِيُّ الفَقِيْهُ وغيرُهُما (5)، خِلافاً لِمَنِ اكْتَفَى بذلِكَ؛ وذَلِكَ لأنَّهُ قدْ يكونُ ثقةً عِنْدَهُ، وغيرُهُ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى جَرْحِهِ بما هُوَ جارِحٌ عِنْدَهُ، أو بالإجْمَاعِ، فيُحْتَاجُ إلى أنْ يُسَمِّيَهُ
__________
= وغيرهم، أنه لا يقبل في التزكية إلا اثنان، سواء كانت التزكية للشهادة أو للرواية. وحكى السيف والآمدي وأبو عمرو بن الحاجب عن الأكثرين التفرقة بين الشهادة والرواية، ورجّحه أيضاً الإمام فخر الدين والآمدي أيضاً، واختار القاضي أبو بكر - بعد حكايته عن الأكثرين اشتراط اثنين فيهما - أنه يُكتفى فيهما بواحد، وأن هذا هو الذي يوجبه القياس وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
الأمر الثاني: أنه يؤخذ من كلام المصنف من قوله: بواحد، أنه يكفي كون المزكي امرأة أو عبداً)).
وانظر: محاسن الاصطلاح: 223، ونكت الزركشي 3/ 355.
(1) هذا الذي اختاره وصحّحه، صحّحه الرازي والآمدي، وبه جزم الماوردي والروياني وابن القشيري، ونقل القاضي الإجماع عليه، وحكاه الخطيب والباجي عن الجمهور، ونسبه النووي إلى المحقّقين والجماهير.
انظر: الكفاية: (177ت، 107 هـ‍)، والمحصول 2/ 201، وشرح صحيح مسلم 1/ 231، وشرح التبصرة والتذكرة 2/ 28، وإحكام الأحكام 2/ 79، والبحر المحيط 4/ 297.
(2) وهذا المذهب خطّأه الخطيب في الكفاية: (177 ت، 107 هـ‍). وانظر: نكت الزركشي 3/ 361.
(3) ((وقيل: يرجح بالأحفظ. ثم تقديم الجارح مشروط عند الفقهاء بأن يطلق المعدِّل، فإن قال المعدّل:
((عرفت السبب الذي ذكره الجارح، لكنه تاب وحسنت حالته)) فإنه يقدم المعدّل. ومحل هذا في الرواية في غير الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا تقبل روايته وإن تاب)). هكذا قال البلقيني: 224.
(4) الكفاية: (531 ت، 373 - 374 هـ‍).
(5) كابن الصبّاغ والقفال الشاشي والروياني والماوردي وأبي الطيب الطبري وأبي إسحاق الشيرازي. نقله عنهم الزركشي في البحر المحيط 4/ 291.

(1/221)


حَتَّى يُعْرَفَ، بَلْ إضْرَابُهُ عَنْ تَسْمِيَتِهِ مُرِيْبٌ يُوقِعُ في القلوبِ فيهِ تَرَدُّداً؛ فإنْ كَانَ القائِلُ لذَلِكَ عَالِماً أجْزَأَ ذَلِكَ في حَقِّ مَنْ يُوَافقُهُ في مَذْهبِهِ، عَلَى ما اخْتارَهُ بَعضُ المحقِّقِينَ (1).
وذَكَرَ الخطيبُ الحافِظُ (2) أنَّ العَالِمَ إذا قالَ: ((كُلُّ مَنْ رَوَيْتُ عنهُ فهوَ ثِقَةٌ وإنْ لَمْ أُسَمِّهِ))، ثُمَّ رَوَى عَمَّنْ لَمْ يُسَمِّهِ (3)، فَإنَّهُ يَكُونُ مُزَكِّياً لهُ، غيرَ أنَّا لاَ نَعْملُ بتَزْكِيَتِهِ هذهِ، وهذا عَلَى مَا قَدَّمناهُ، واللهُ أعلمُ.
السابِعَةُ: إذا رَوَى العَدْلُ عَنْ رَجُلٍ وسَمَّاهُ، لَمْ تُجْعَلْ (4) رِوايتُهُ عَنهُ تَعْدِيلاً منهُ لهُ عِندَ أكثَرِ العلمَاءِ مِنْ أهلِ الحديثِ وغيرِهِمْ (5).
وقالَ بَعضُ أهلِ الحديثِ، وبعضُ أصحابِ الشَّافِعِيِّ: يُجْعَلُ (6) ذَلِكَ تَعْدِيْلاً منهُ
لهُ؛ لأنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّعديلَ (7).
والصحيحُ هوُ الأوَّلُ؛ لأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَرْوِيَ عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ، فَلَمْ يَتَضَمَّنْ روايتُهُ عنهُ تعديلَهُ. وهَكَذَا نقولُ: إنَّ عَمَلَ العَالِمِ أوْ فُتْيَاهُ عَلَى وَفْقِ حديثٍ، ليسَ حُكْماً منهُ بصِحَّةِ ذلكَ الحديثِ (8).
__________
(1) قال محقق شرح السيوطي: 243: ((هكذا أبهمه ابن الصلاح. قال السخاوي: ((ولعله إمام الحرمين)). (فتح المغيث 1/ 289)، قلت: بل أغلب الظن أنه ابن الصبّاغ لما سيأتي من النقل عنه، وهو أقدم وفاة من إمام الحرمين)).
(2) الكفاية: (155 ت، 92 هـ‍).
(3) في (جـ): ((يسمِّ)).
(4) في (ع) والتقييد: ((يجعل)).
(5) وبه جزم الماوردي والروياني وأبو الحسن بن القطان، ونقله القاضي في التقريب عن الجمهور، وقال:
((إنه الصحيح)). انظر: البحر المحيط 4/ 290، ونكت الزركشي 3/ 367.
(6) في (أ): ((نجعل)).
(7) وهذا مذهب الحنفية وإحدى الروايتين عن أحمد، وفي النقل عن الشافعي خلاف، ونسبه الشيرازي إلى بعض أصحاب الشافعي، وهو اختيار الآمدي، ونقله الأسنوي عن ابن الحاجب. انظر الكفاية:
(150 ت، 89 هـ‍)، واللمع: 47، والتبصرة في أصول الفقه: 339، وإحكام الأحكام 2/ 80، ونهاية السول 3/ 48، ودراسات في الجرح والتعديل: 209.
(8) تعقبه الحافظ ابن كثير، فقال: ((وفي هذا نظر، إذ لم يكن في الباب غير ذلك الحديث، أو تعرّض للاحتجاج به في فتياه أو حكمه، أو استشهد به عند العمل بمقتضاه)). اختصار علوم الحديث 1/ 291، مع شرح أحمد شاكر وحاشية الشيخ ناصر. =

(1/222)


وكذَلِكَ مُخالَفَتُهُ للحديثِ ليسَتْ قَدْحاً منهُ في صِحَّتِهِ ولاَ في راويهِ، واللهُ أعلمُ.
الثَّامِنَةُ: في روايةِ المجهُولِ، وهوَ في غَرَضِنا هَاهنا أقسَامٌ:
أحدُها: المجهُولُ العدالةِ مِنْ حيثُ الظَّاهِرُ والباطِنُ جميعاً، وروايتُهُ غيرُ مَقْبُولةٍ عِندَ الجماهِيْرِ عَلَى مَا نَبَّهْنا عليهِ أوَّلاً (1).
الثَّاني: المجْهُولُ الذي جُهِلَتْ عَدَالَتُهُ البَاطِنَةُ، وهوَ عَدْلٌ في الظَّاهِرِ وهوَ المسْتُورُ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أئِمَّتِنا (2): المستُورُ مَنْ يَكونُ عَدْلاً في الظاهِرِ، ولاَ تُعْرَفُ عدَالَةُ باطِنِهِ. فهذا المجهُولُ يَحْتَجُّ بروايتِهِ بعضُ مَنْ رَدَّ روايةَ الأوَّلِ، وهوَ قَولُ بعضِ الشَّافِعِيَّيْنَ، وبهِ قَطَعَ منهُمُ الإمامُ سُلَيْمُ بنُ أيُّوبَ الرَّازيُّ، قالَ: ((لأنَّ أمرَ الأخبارِ مَبْنِيٌّ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بالرَّاوي؛ ولأنَّ روايةَ الأخبارِ تَكُونُ عندَ مَنْ يَتَعَذَّرُ عليهِ معرفَةُ العَدَالَةِ في الباطِنِ، فاقتُصِرَ
__________
= وردّه تلميذه الزركشي في نكته 3/ 373، ومن ثم العراقي في التقييد: 144، فقال: ((وفي هذا النظر نظر؛ لأنه لا يلزم من كون ذلك الباب ليس فيه غير هذا الحديث أن لا يكون ثمت دليل آخر من قياس أو إجماع، ولا يلزم المفتي أو الحاكم أن يذكر جميع أدلته بل ولا بعضها، ولعل له دليلاً آخر، واستأنس بالحديث الوارد في الباب، وربما كان المفتي، أو الحاكم يرى العمل بالحديث الضعيف وتقديمه على القياس، كما تقدم حكاية ذلك عن أبي داود)).
(1) ((لأن مجرد الرواية عنه لا تكون تعديلاً)). أفاده البقاعي. النكت الوفية: 215 / أ.
وقال البلقيني: 225: ((أبو حنيفة يقبل مثل هذا)). وقال الزركشي 3/ 374: ((وظاهره حكاية خلاف فيه، وبه صرّح الخبازي من الحنفية، وإنما قَبِلَ أبو حنيفة ذلك في عصر التابعين لغلبة العدالة عليهم)). ونسبه ابن الموّاق إلى أكثر أهل الحديث كالبزّار والدارقطني، وقال الدارقطني: من روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته وثبتت عدالته. انظر: فتح المغيث 1/ 351.
وزاد ابن الملقن في المقنع 1/ 256 أن قال: ((إن كان الراوي عنه لا يروي إلا عن عدلٍ قُبِلَ، وإلاّ فلا)). وانظر: شرح التبصرة والتذكرة 2/ 42 - 43.
(2) قال الزركشي في نكته 3/ 374: ((وهذا الذي أبهم الظاهر أنه إمام الحرمين، فإنه فسّر المستور بأنه الذي لم يظهر منه نقيض العدالة، ولم يتفق البحث في الباطن عن عدالته)). وانظر: البرهان 1/ 396.
لكن الحافظ العراقي جزم بأنه البغوي، فقال: ((هو أبو محمد اليغوي صاحب التهذيب، فهذا لفظه بحروفه)). التقييد والإيضاح: 145، وشرح التبصرة والتذكرة 2/ 44، وانظر قول البغوي في: التهذيب في فقه الشافعي له 5/ 263.

(1/223)


فيها (1) علَى مَعرِفَةِ ذلكَ في الظَّاهِرِ، وتُفَارِقُ الشَّهَادَةَ، فإنَّها تكُونُ عِنْدَ الحكَّامِ، ولاَ يَتَعَذَّرُ عليْهِمْ ذَلِكَ، فاعْتُبِرَ (2) فيها العدَالَةُ في الظَّاهِرِ والباطِنِ)).
قُلْتُ: ويُشْبِهُ أنْ يكونَ العمَلُ على هذا الرأيِ في كثيرٍ مِنْ كُتُبِ الحديثِ
المشهُورَةِ، في غيرِ واحِدٍ مِنَ الروَاةِ الذينَ تَقَادَمَ العهْدُ بهِمْ وتَعَذَّرَتْ الخِبْرَةُ الباطِنَةُ بهِمْ (3)، واللهُ أعلمُ.
الثَّالِثُ: المجهُولُ العَيْنِ، وقَدْ يَقْبَلُ روايةَ المجهُولِ العدالةِ مَنْ لاَ يَقْبَلُ روايَةَ المجهُولِ العيْنِ (4).
وَمَنْ رَوَى عنهُ عَدْلاَنِ وعَيَّناهُ، فقدِ ارتَفَعَتْ عنهُ هذهِ الجهَالَةُ (5).
__________
(1) في (م): ((منها)).
(2) في (ب): ((فاعتبروا)).
(3) انظر: نكت الزركشي 3/ 374، وشرح التبصرة والتذكرة 2/ 43 - 45. وقال البقاعي في النكت الوفية: 215 / ب: ((لم يبيّن وجه الشبه، وليس ببيّن، ولعلّه بناءً على مثل قوله: ((إن البخاري ومسلماً رويا عن مجهول العين مصيراً منهما إلى أن الجهالة ترتفع برواية واحد)). والبيّن في كلام أهل الفن أنهم لا يحتجون إلا بمصرَّح بتوثيقه، ولا فرق بين القديم والحديث، وما ذكره الشيخ بعده من كلام الشافعي بيّن في ذلك)).
(4) انظر نكت الزركشي 3/ 379.
(5) ومن ثم اختلف العلماء في الاحتجاج برواية مجهول العين، وهو من لم يروِ عنه إلا واحد، على خمسة مذاهب:
الأول: لا تقبل روايته، وهو الصحيح الذي عليه أكثر أهل الحديث وغيرهم.
الثاني: يقبل مطلقاً. وهو قول من لم يشترط في الراوي مزيداً على الإسلام، ونقله أبو إسحاق الشيرازي في اللمع: 46، والبلقيني في المحاسن: 225 عن أبي حنيفة وأصحابه. وقد أفاض النسفي في كشف الأسرار 2/ 30 في التعليل لهذا المذهب. ولكن من يدقق النظر في كتب أصول الحنفية يجد أن مذهبهم تقييد ذلك بالقرون الثلاثة الأولى الفاضلة، وعليه فإن نسبة إطلاق القبول إليهم خطأ محض.
الثالث: إن كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل، واكتفينا في التعديل بواحد قُبِلَ وإلاّ فلا.
الرابع: إن كان مشهوراً بغير العلم كالزهد والشجاعة قُبِل وإلا فلا.
الخامس: إن زكّاه أحد أئمة الجرح والتعديل مع رواية ذلك المنفرد عنه قُبِل وإلا فلا.
انظر في تفصيلات هذه المذاهب ونسبتها إلى القائلين بها: شرح التبصرة والتذكرة 2/ 38 - 39.

(1/224)


ذَكَرَ (1) أبو بكرٍ الخطيبُ البغداديُّ في أجوِبَةِ مسائِلَ سُئِلَ عَنها (2) أنَّ (3) المجهُولَ عندَ أصحابِ الحديثِ هوَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ (4) العلماءُ، ومَنْ لَمْ يُعْرَفْ حَدِيثُهُ إلاَّ مِنْ جِهَةِ رَاوٍ واحدٍ، مِثْلُ: عَمْرِو ذِي مُرٍّ (5)، وجَبَّارٍ الطَّائيِّ، وسعيدِ بنِ ذِي حُدَّانَ (6)، لَمْ يَروِ عنهُمْ غَيرُ أبي إسْحَاقَ السَّبِيْعِيِّ (7)، ومِثْلُ: الْهَزْهَازِ بنِ مَيْزَنٍ (8) لاَ رَاوِيَ عنهُ غيرُ الشَّعْبيِّ، ومِثْلُ: جُرَيِّ (9) بنِ كُلَيْبٍ، لَمْ يَرْوِ عنهُ إلاَّ قَتَادَةُ.
__________
(1) في (ب) ونكت الزركشي: ((وذكر)).
(2) قال العراقي في التقييد: 147: ((إن المصنف عزا ما ذكره عن الخطيب إلى أجوبة سُئِلَ عنها، والخطيب ذكر ذلك بجملته مع زيادة فيه في كتاب " الكفاية "، والمصنف كثير النقل منه فأبعد النجعة في عزوه ذلك إلى مسائل سئل عنها)). قلنا: انظر: الكفاية: (149 - 150 ت، 88 - 89 هـ‍).
(3) ليست في (أ).
(4) في (ع) والتقييد: ((تعرفه)).
(5) في (ب): ((عمرو بن مُرّ))، وفي التاريخ الكبير 6/ 329، والطبقات لمسلم (1371): ((عمرو بن ذي مُرّ))، وما أثبتناه موافق لما في مصادر ترجمته.
انظر: تهذيب الكمال 5/ 477، وفروعه. وكلا الاسمين وردا في الميزان 3/ 260 و 294. قال البقاعي في النكت الوفية: 209 / أ: ((ذو مر: كأنه لقب له، وهو ((ذو)) الذي بمعنى: صاحب، ومُرّ: بضم الميم وتشديد الراء)). وانظر: الوحدان لمسلم (13)، والكامل 6/ 244، وقال في التقريب (5142): ((مجهول)).
(6) بضم الحاء المهملة، وتشديد الدال المهملة. انظر: الإكمال 2/ 61، وتبصير المنتبه 1/ 416، وتاج العروس 8/ 13،. وقال في التقريب (2300): ((مجهول)).
(7) قال ابن المديني: ((لم يروِ عن هبيرة بن يريم، وهانئ بن هانئ إلا أبو إسحاق، وقد روى عن سبعين أو ثمانين لَمْ يروِ عنهم غيره)). تهذيب الكمال 5/ 433.
وقال الجوزجاني: ((أما أبو إسحاق فروى عن قوم لا يعرفون، ولم ينتشر عنهم عند أهل العلم إلا ما حكى أبو إسحاق عنهم)). أحوال الرجال (105).
وقال أبو داود: ((حدَّثَ أبو إسحاق عن مئة شيخ لا يحدّث عنهم غيره)). سؤالات الآجري له 3/ 175.
(8) قال العراقي في التقييد: 146: ((إن الخطيب سمَّى والد هزهاز: ميزن - بالياء المثناة - وتبعه المصنف، والذي ذكره ابن أبي حاتم في كتاب " الجرح والتعديل ": أنه مازن - بالألف - وفي بعض النسخ
- بالياء -، ولعل بعضهم أماله في اللفظ فكتب بالياء، والله أعلم)).
وانظر: الجرح والتعديل 9/ 122، ونكت الزركشي 3/ 390، وشرح التبصرة والتذكرة 2/ 39، والنكت الوفية 211 / أ.
(9) بضم أوله، تصغير جرو. انظر: تقريب التهذيب (920)، والخلاصة: 62.

(1/225)


قُلْتُ: قدْ رَوَى عَنِ الْهَزْهَازِ: الثَّوْرِيُّ أيضاً (1). قالَ الخطيبُ: ((وأقَلُّ ما ترتَفِعُ (2) بهِ الجهالةُ، أنْ يَروِيَ عَنِ الرجلِ اثْنانِ مِنَ المشهورِينَ بالعِلْمِ إلاَّ أنَّهُ لاَ يَثْبُتُ لَهُ حُكمُ العدالَةِ بروايَتِهِما عَنْهُ)) (3)، وهذا مِمَّا قَدَّمْنا بَيَانَهُ، واللهُ أعلمُ.
قُلْتُ (4): قَدْ خَرَّجَ البخاريُّ في " صَحِيْحِهِ " حديثَ جماعةٍ ليسَ لَهُمْ غيرُ راوٍ واحِدٍ، منهُمْ: مِرْدَاسٌ (5) الأسْلَمِيُّ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ قَيْسِ بنِ أبي
__________
(1) قال الزركشي في نكته 3/ 389: ((هذا سهو، فإن الثوري لم يروِ عن الشعبي، فكيف يروي عن شيخه؟! نبّه عليه الحافظ المزي. نعم ... روى عن الهزهاز: الجراح بن مليح، ذكره ابن أبي حاتم، وهو أصغر من الثوري وتأخر بعده مدة، فلعل الهزهاز تأخر بعد الشعبي)). وانظر: الجرح والتعديل 2/ 536، والمقنع 1/ 259، والتقييد والإيضاح: 146.
قلنا: رواية الثوري نصّ عليها البخاري في تاريخه الكبير 8/ 251 وذكر دليله على ذلك، وهو سنده الصحيح إلى سفيان.
وجري روى عنه أيضاً: أبو إسحاق السبيعي وعاصم بن بهدلة.
انظر: المؤتلف والمختلف 1/ 487، وتوضيح المشتبه 2/ 302.
والذي يظهر أنهما اثنان اتفقا في الاسم واسم الأب، واختلفا في النسبة، فقد نقل الحافظ المزي في تهذيب الكمال 1/ 450 عن أبي داود تفريقه بينهما، فقال: ((جري بن كليب صاحب قتادة سدوسي بصري لم يروِ عنه غير قتادة، وجري بن كليب كوفي روى عنه أبو إسحاق)).
وفرّق المزي بينهما فذكر في ترجمة السدوسي البصري من أشياخه: علي وبشير بن الخصاصية، وروى عنه قتادة، وذكر في ترجمة النهدي الكوفي أنه روى عن رجل من بني سليم، وروى عنه أبو إسحاق السبيعي وابنه يونس.
وسبقه إلى نحو ذلك الأمير ابن ماكولا في الإكمال 2/ 75 - 76 إلا أنه زاد عاصم بن بهدلة، ثم قال: ((لعله الأول أو غيره)). وتبع الذهبيُّ المزيَّ في ذلك. الكاشف 1/ 292 (775) و (776).
ويدل عليه أيضاً اختلاف بلدان الرواة فالبصري روى عنه قتادة، وهو أيضاً بصري، والكوفي روى عنه أبو إسحاق السبيعي وابنه يونس وعاصم بن أبي النجود، وكلهم كوفي، والله أعلم.
(2) في (م): ((يرتفع)).
(3) الكفاية: (150 ت، 88 - 89 هـ‍).
قال الزركشي 3/ 390: ((هذا منازع فيه بما سبق من كلامهم، لا سيما إذا كان الراوي عنه من عادته لا يروي إلا عن عدل، والظاهر أن رواية إمام ناقل للشريعة عن رجل في مقام الاحتجاج كافٍ في تعريفه وتعديله، وقد سبق أن البزار وابن القطان على أن رواية الجلة عن الشخص تثبت له العدالة)).
(4) هذا اعتراض من ابن الصلاح وإيراد على كلام الخطيب.
(5) بكسر أوله وسكون الراء. انظر: تقريب التهذيب (6553)، وتاج العروس 16/ 118.

(1/226)


حازِمٍ (1). وكَذَلِكَ خَرَّجَ مُسْلِمٌ حَدِيْثَ قَوْمٍ لاَ راوِيَ لَهُمْ غَيْرُ واحِدٍ، منهُم: رَبِيْعَةُ (2) ... ابنُ كَعْبٍ الأسْلمِيُّ، لَمْ يَرْوِ عنهُ غَيْرُ أبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ (3)؛ وذَلِكَ منهُما مصيرٌ إلى أنَّ الراويَ قَدْ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَجْهُولاً مَرْدُوداً، بروَايةِ واحِدٍ عنهُ (4). والخِلاَفُ في
__________
(1) قال المزي في تهذيب الكمال 7/ 67 (6448): ((روى عنه زياد بن علاقة، وقيس بن أبي حازم)). وتبعه عليه الزركشي في نكته 3/ 391، والبلقيني في محاسنه: 228، وابن الملقن في المقنع 1/ 260.
وتعقبه الحافظ العراقي في التقييد والإيضاح: 352 بأن قال: ((الصواب ما قاله ابن الصلاح فإن الذي روى عنه زياد بن علاقة هو مرداس بن عروة صحابي آخر، لا أعلم بين من صنّف في الصحابة في ذلك اختلافاً)).
قلنا: انظر: التاريخ الكبير 7/ 434 (1902) و (1903)، والجرح والتعديل 8/ 350 (1607) و (1608)، والثقات 3/ 398، والاستيعاب 3/ 438، والإصابة 3/ 399 و 401.
وحديثه الوحيد عند البخاري 8/ 114 (6434) ولفظه: ((يذهب الصالحون الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالة))، قال أبو عبد الله البخاري: يقال: حفالة وحثالة، ورواه في 5/ 157 (4156) موقوفاً على مرداس.
وممن جزم بتفرد قيس بالرواية عن مرداس الأسلميِّ: الأزديُّ في المخزون: 266، والدارقطنيُّ في الإلزامات: 78، والحازمي في شروط الأئمة الخمسة: 38، وغيرهم.
(2) في (ع): ((ربيع))، خطأ.
(3) بل روى عنه أيضاً: حنظلة بن علي الأسلمي، وأبو عمران الجوني، ونعيم بن عبد الله الْمُجْمِر. انظر: تهذيب الكمال 2/ 473 (1871)، ونكت الزركشي 3/ 391 - 392، والشذا الفياح 1/ 252، وشرح التبصرة والتذكرة 2/ 41 - 42، والإصابة 3/ 401.
وحديثه من رواية أبي سلمة عند مسلم 2/ 52 (489)، وغيره. ورواية نعيم بن عبد الله المجمر عنه عند أحمد 4/ 59. ورواية أبي عمران الجوني عنه عند أحمد أيضاً 4/ 58.
(4) قال الزركشي 3/ 395: ((وما قاله من بناء ذلك على هذا قد يمتنع، بل الظاهر أنه منهما مصير إلى أن الراوي معروف من غير هذه الرواية، أو أنه احتفّت به قرائن اقتضت ذلك، وهذا هو الأَلْيَقُ بالاحتياط منهما، لا سيّما على طريق البخاري، فإنه سلك الأحوط والتشديد، وفيما قاله المصنف منافاة لطريقته)).
وقال أبو العباس القرطبي: ((التحقيق: أنه متى عرفت عدالة الرجل قُبِلَ خبره، سواء روى عنه واحد أم أكثر، وعلى هذا كان الحال في العصر الأول من الصحابة وتابعيهم، إلى أن تنطّع المحدّثون)). نقله ابن الملقن في المقنع 1/ 263. =

(1/227)


ذلكَ مُتَّجِهٌ نحوَ اتِّجَاهِ الخِلاَفِ المعرُوفِ في الاكتفاءِ بواحِدٍ في التَّعْدِيْلِ عَلَى مَا قَدَّمْناهُ (1)، واللهُ أعلمُ.
التاسِعَةُ: اخْتَلَفُوا في قَبُولِ روايةِ الْمُبْتدِعِ الذي لاَ يُكَفَّرُ في بدعَتِهِ (2)، فمنْهُمْ مَنْ رَدَّ روَايَتَهُ مُطْلَقاً؛ لأنَّهُ فاسِقٌ ببدْعَتِهِ وكما اسْتَوَى في الكُفْرِ الْمُتَأَوِّلُ
__________
= وقد اعترض الإمام النووي على ابن الصلاح في ردّه على الخطيب وتمثيله بمرداس وربيعة الأسلميين في كون الشيخين أخرجا لرواة لم يروِ عنهم إلا راوٍ واحد، فقال: ((الصواب ما ذكره الخطيب، فهو لم يقله عن اجتهاد، بل نقله عن أهل الحديث. وردّ الشيخ عليه بما ذكره عجب، فإن مرداساً وربيعة صحابيان معروفان)). الإرشاد 1/ 298.
وردّ الحافظ العراقي اعتراض النووي، فقال: ((كلام المصنف في أن الصحبة هل ثبتت برواية واحد عنه أم لا بدّ من اثنين؟ خلاف بين أهل العلم، والحق أنه إن كان معروفاً بذكره في الغزوات أو فيمن وفد من الصحابة أو نحو ذلك؛ فإنه تثبت صحبته وإن لم يروِ عنه إلا واحد، ولا شك أن مرداساً من أصحاب الشجرة، وربيعة من أهل الصّفَّةِ، فلا يضرّهما انفراد راوٍ واحد عن كل منهما)). التقييد: 148. وانظر: الشذا الفياح 1/ 251، وشرح التبصرة والتذكرة 2/ 41 - 42.
وهذا ينقض كلام البيهقي في رسالته إلى أبي محمد الجويني - والد إمام الحرمين - إذ أورد كلاماً مناقضاً للواقع الذي بيّناه في حق صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنهم يستثنون مِنْ مَنْ شرط تثنية الراوي حتى يخرجوا عن حد الجهالة، فقال: ((الذي عندنا من مذهب الإمامين البخاري ومسلم أنهما شرطا أن يكون للصحابي الذي يروي عنه الحديث راويان فأكثر ليخرج بذلك عن حد الجهالة، وهكذا مَن دونه، ثم إن انفرد أحد الراويين عنه بحديث وانفرد الآخر بحديث آخر قبلاه، وإنما يتوقفان في رواية صحابي أو تابعي لا يكون له إلا راوٍ واحد كصفوان بن عسال)). نقله الزركشي في نكته 3/ 384 - 385، وليس في مطبوعة الرسالة، وهذا الذي قاله البيهقي أخذه من شيخه الحاكم، إذ قال في المدخل إلى الإكليل: 29: ((القسم الأول من المتفق عليها: اختيار البخاري ومسلم وهو الدرجة الأولى من الصحيح، ومثاله الحديث الذي يرويه الصحابي المشهور بالرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة، وله راويان ثقتان ... الخ كلامه. وقد ردّه الحافظ ابن طاهر المقدسي في شروط الأئمة الستة: 18 و 22 - 23، وأجاد الحافظ الحازمي في الرد عليه ببحث نفيس. انظره في كتابة شروط الأئمة الخمسة: 43 - 50.
(1) تعقّبه الحافظ ابن كثير، فقال: ((توجيه جيد، لكن البخاري ومسلم إنما اكتفيا في ذَلِكَ برواية الواحد فقط؛ لأن هذين صحابيان، وجهالة الصَّحَابِيّ لا تضر بخلاف غيره)). اختصار علوم الْحَدِيْث 1/ 298.
(2) ذَكَرَ المؤلف هنا الخلاف في قبول رِوَايَة المبتدع غَيْر الكافر ببدعته، وَلَمْ يتطرق إلى المبتدع الكافر ببدعته، مَعَ وجود خلاف أيضاً في قبول روايته، فَقَدْ نقل غَيْر واحد كابن الملقن في المقنع 1/ 265، والسيوطي في شرح ألفية العراقي: 249 عن ابن الصَّلاَح أنَّهُ نقل الاتفاق عَلَى رد رِوَايَة الكافر ببدعته. وأشار إلى نحوه ابن كَثِيْر في مختصره 1/ 299، لَكِنْ دُوْنَ نسبته إلى ابن الصَّلاَح. =

(1/228)


وغَيْرُ الْمُتَأَوِّلِ، يسْتَوي في الفِسْقِ الْمُتَأَوِّلُ وغَيْرُ الْمُتَأَوِّلِ (1).
ومِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ روايَةَ المبتَدِعِ إذا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ الكَذِبَ في نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ، أوْ لأهْلِ مَذْهَبِهِ، سَواءٌ كانَ داعِيَةً إلى بدْعَتِهِ (2) أوْ لَمْ يَكُنْ (3).
__________
= قال محقق السيوطي: ((هذا وهم، فابن الصلاح لم ينقل الاتفاق، وإنما نقله النووي، ... ، ودعوى الاتفاق منقوضة بما نقله الخطيب عن جماعة من أهل النقل والمتكلمين من قبول روايتهم)).
قلنا: هذا كلام مُحَقَّقٌ، فانظر: إرشاد طلاب الحقائق 1/ 300 - 301، والتقريب: 94.
ثم إن الخلاف فيه نقله الأصوليون:
فذهب القاضي أبو بكر الباقلاني إلى الرد مطلقاً، ونقله الآمدي عن الأكثرين، منهم: الغزالي، والقاضي عبد الجبار من المعتزلة، وبه جزم ابن الحاجب.
وذهب الرازي إلى القبول، فقال: ((الحق أنه إن اعتقد حرمة الكذب قبلنا روايته، وإلا فلا؛ لأن اعتقاد حرمة الكذب يمنعه منه)).
انظر: المحصول 2/ 195، ومنتهى الوصول: 77، وإحكام الأحكام 2/ 514، وشرح التبصرة والتذكرة 2/ 50، والتقييد والإيضاح: 149.
قلنا: ويجاب عن هذا بأن الخلاف إنما حكاه الأصوليون، وهو بينهم فقط، أما المحدّثون فلا نعلم بينهم خلافاً في رد روايته، ولم نقف على نص صريح لأحدهم في قبولها.
ومن ثم إن هناك خلافاً في الاعتداد بقول الأصولي في انعقاد الإجماع، هل يقدح خلافه في انعقاد الإجماع أم لا؟ انظر: البحر المحيط 4/ 466. وعلى هذا يحمل نقل النووي للاتفاق، والله أعلم.
(1) حكاه الخطيب البغدادي عن الإمام مالك، والقاضي عياض عن الباقلاني وطائفة من الأصوليين والفقهاء والمحدّثين من السلف والخلف، وهو قول القاضي عبد الجبار الهمداني وأبي هاشم الجبائي من المعتزلة، والأستاذ أبي منصور الماتريدي وأبي إسحاق الشيرازي والغزالي والآمدي وابن الحاجب، ونقله غير واحد عن الأكثرين.
انظر: الكفاية: (194 ت، 120 هـ‍)، واللمع: 45، وإكمال المعلم 1/ 125، وإحكام الأحكام 2/ 66 و 75، والبحر المحيط 4/ 269، والإبهاج 2/ 314.
تنبيه: وقع في كلا نشرتي الكفاية قول الخطيب: ((وممن لا يروى عنه ذلك مالك بن أنس))، والظاهر من سياق الكلام وموازنته بما قبله وما بعده أن كلمة (لا) مقحمة، ويؤكد هذا نقل الزركشي في البحر 4/ 270 عن الخطيب. ثم نقل الحاكم في المدخل إلى الإكليل: 42، وغيره عن مالك القول بهذا.
(2) في (جـ): ((بدعة)).
(3) قال الزركشي 3/ 396: ((ما رجّحه من التفصيل نقله غيره عن نص الشافعي)). قلنا: هو الخطيب، وانظر ما يأتي.

(1/229)


وعَزَا بعضُهُمْ (1) هذا إلى الشَّافِعِيِّ لقولِهِ: ((أقْبَلُ شَهَادَةَ أهلِ الأهْوَاءِ، إلاَّ
الخطَّابِيَّةَ (2) مِنَ الرَّافِضَةِ؛ لأنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بالزُّوْرِ لِمُوافِقِيْهِم)) (3).
وقَالَ قومٌ: تُقْبَلُ روايَتُهُ إذا لَمْ يكُنْ داعِيَةً، ولاَ تُقْبَلُ إذا كَانَ داعيةً إلى بدعتِهِ. وهذا مَذهبُ الكثيرِ أوْ الأكثرِ مِنَ العُلَماءِ (4).
__________
(1) قال العراقي في التقييد: 149: ((أراد ببعضهم: الحافظ أبا بكر الخطيب، فإنه عزاه للشافعي في كتاب " الكافية ")). وانظر: الكفاية (194 ت، 120 هـ‍).
(2) الخطّابيّة - بتشديد الياء -: هم أصحاب أبي الخطّاب محمد بن أبي زينب الأسدي. انظر عنهم: الفرق بين الفرق: 18، والتعريفات: 59، وتاج العروس 2/ 375.
(3) انظر: الأم 6/ 206. ورواه عنه ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ومناقبه: 189، والبيهقي في مناقب الشافعي 1/ 468، وفي السنن الكبرى 10/ 208، والخطيب في الكفاية: (194 - 195ت، 120 هـ‍).
قال البلقيني في المحاسن: 229 معلّقاً: ((لا يقال: الخطابية لا يجوّزون الكذب، ومن كذب عندهم خرج من مذهبهم، فإذا سمع بعضهم بعضاً قال شيئاً عرف أنه ممّن لا يجوّز الكذب، فاعتمد قوله لذلك وشهد بشهادته، فلا يكون شهد بالزور، إنما شهد بما يعرف أنه حق.
لأنا نقول: ما بنى عليه شهادته أصل باطل، فوجب ردّ شهادته لاعتماده أصلاً باطلاً، وإن زعم هو أنه حق)).
وهذا المذهب حكاه الخطيب عن ابن أبي ليلى وسفيان الثوري وأبي يوسف القاضي، ونسب الحاكم في المدخل إلى الإكليل: 42 القول به إلى أكثر أهل الحديث، وقال الرازي: ((إنه الحق))، ونسبه إلى أبي الحسين البصري - صاحب " المعتمد في أصول الفقه " - من المعتزلة، وبه قال البيضاوي، ورجحه ابن دقيق العيد وأقره الذهبي. انظر: المحصول 2/ 195، والاقتراح: 333، والموقظة: 85، ونهاية السول 3/ 125، وظفر الأماني: 463.
(4) انظر في بيان معنى الداعية: البحر المحيط 4/ 272.
قال الخطيب: ((وقال كثير من العلماء يقبل أخبار غير الدعاة من أهل الأهواء، فأما الدعاة فلا يحتجّ بأخبارهم)).
وحكاه عن الإمام أحمد، ونقل القاضي عياض الاتفاق عليه، وبه جزم سليم الرازي، وحكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص عن مالك - وهو الصحيح من مذهبه -، والمختار عند الحنفية، وهو الذي نصّ عليه ابن حبان في مقدمة صحيحه.
انظر: الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 1/ 89، والكفاية: (195 ت، 121 هـ‍)، وإكمال المعلم 1/ 125، وكشف الأسرار 2/ 46، والبحر المحيط 4/ 271، 283. =

(1/230)


وحَكَى بعضُ أصحابِ الشَّافِعِيِّ - رضي الله عنه - خِلاَفاً بينَ أصحابِهِ في قَبُولِ روايةِ المبتدِعِ إذا لَمْ يَدْعُ إلى بدعَتِهِ، وقالَ: أمَّا إذا كانَ داعِيَةً فَلا خِلافَ بينَهُمْ في عَدَمِ قَبُولِ روايتِهِ.
وقالَ أبو حاتِمِ بنِ حِبَّانَ البُسْتِيُّ -أحَدِ المصَنِّفِيْنَ مِنْ أئمَّةِ الحديْثِ-: ((الدَّاعِيَةُ إلى البِدَعِ لاَ يَجُوزُ الاحْتِجَاجُ بهِ عِنْدَ أئِمَّتِنا قاطِبَةً لاَ أعْلَمُ بينَهُم فيهِ خِلاَفاً)) (1).
وهذَا المذْهَبُ الثالِثُ أعْدَلُهَا وأوْلاَهَا، والأوَّلُ بَعِيْدٌ مُبَاعِدٌ للشَّائعِ عَنْ أئمَّةِ الحديثِ، فإنَّ كُتُبَهُمْ طافِحَةٌ بالروايَةِ عَنِ الْمُبْتَدِعَةِ غَيْرِ الدُّعَاةِ (2). وفي
__________
= وقال الخطيب محتجّاً للمجوّزين: ((والذي يعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم: ما اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم، ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك لما رأوا من تحريهم الصدق وتعظيمهم الكذب، وحفظهم أنفسهم عن المحظورات من الأفعال، وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة، ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم، ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم)). الكفاية: (201 ت، 125 هـ‍).
(1) المجروحين 3/ 63 - 64.
قال الزركشي في نكته 3/ 396: ((أنه اقتصر في النقل عن ابن حبان في ردّ الداعية، وسكت عن الجانب الآخر، وقد نقل ابن حبان فيه الاتفاق على القبول)).
قلنا: ونص كلامه كما في ثقاته 6/ 140 - 141: ((ليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز، فإذا دعا إلى بدعته سقط الاحتجاج بأخباره)).
قال العراقي في التقييد: 150: ((وفيما حكاه ابن حبان من الاتفاق نظر، فإنه يُروَى عن مالك ردّ روايتهم مطلقاً)).
وقد تعقّب ابنَ حبانَ الحافظُ ابنُ حجر في النزهة: 137 - 138، فقال: ((أغرب ابن حبان فادّعى الاتّفاق على قبول غير الداعية من غير تفصيل. نعم ... الأكثر على قبول غير الداعية، إلاّ إن روى ما يقوي بدعته فيردّ على المذهب المختار، وبه صرّح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي في كتابه " معرفة الرجال " (ص32)، فقال في وصف الرواة: ((ومنهم زائغ عن الحق - أي: عن السنة - صادق اللهجة، فليس فيه حيلة، إلا أن يؤخذ من حديثه وألاّ يكون منكراً إذا لَم يقوِّ به بدعته)).
(2) ((بل والدعاة، منهم: عمران بن حطان الخارجي، مادح عبد الرحمان بن ملجم قاتل علي ابن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - وهذا من أكبر الدعوة إلى البدعة، خرّج عنه البخاري، وزعم جماعة أنه من دعاة الشراة. ومنهم عبد الحميد بن عبد الرحمان أخرج له الشيخان، وقال فيه أبو داود السجستاني: ((كان داعية إلى الإرجاء))، وغير ذلك. فالظاهر أنه لا فرق)). نكت الزركشي 3/ 401. =

(1/231)


" الصحيحينِ " كثيرٌ مِنْ أحَادِيْثِهِمْ في الشَّوَاهِدِ والأُصُولِ (1)، واللهُ أعلمُ.
العَاشِرَةُ: التَّائِبُ مِنَ الكَذِبِ في حديثِ النَّاسِ وغيرِهِ مِنْ أسْبَابِ الفِسْقِ، تُقْبَلُ روايتُهُ، إلاَّ التَّائبَ مِنَ الكَذِبِ مُتَعَمِّداً في حديْثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّهُ لاَ تُقْبَلُ روايَتُهُ
أبَداً، وإنْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْ غَيرِ واحِدٍ مِنْ أهلِ العِلْمِ، منْهُمْ: أحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ (2)، وأبو بكرٍ الْحُمَيْدِيُّ - شَيْخُ البخارِيِّ (3) -.
وأطلَقَ الإمامُ أبو بكرٍ الصَّيْرَفِيُّ الشَّافِعِيُّ فيما وجدْتُ لهُ في " شرحِهِ لرسَالَةِ الشافِعِيِّ "، فقالَ: ((كلُّ مَنْ أسْقَطْنا خَبَرَهُ مِنْ أهلِ النَّقْلِ بكَذِبٍ (4) وَجَدْنا عليهِ، لَمْ نَعُدْ لقَبُولِهِ بتوبَةٍ تَظهَرُ، ومَنْ ضَعَّفْنا نَقْلَهُ لَمْ نَجْعَلْهُ قَوِيّاً بَعدَ ذَلِكَ، وذَكَرَ أنَّ ذَلِكَ مِمَّا افترَقَتْ فيهِ الروايةُ والشَّهادَةُ (5). وذَكَرَ الإمَامُ أبو المظَفَّرِ السَّمْعَانيُّ المروزيُّ: ((أنَّ (6) مَنْ كَذَبَ في خَبَرٍ واحِدٍ، وجَبَ إسْقَاطُ ما تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ)) (7)، وهذا يُضَاهِي مِنْ حَيْثُ المعْنَى ما ذَكَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ (8)، واللهُ أعلمُ.
__________
= وأجاب العراقي عن هذا فقال: ((قال أبو داود: ليس في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج))، ثم ذكر عمران بن حطان وأبا حسان الأعرج. ولم يحتج مسلم بعبد الحميد الحماني، إنما أخرج له في المقدمة، وقد وثّقه ابن معين)). التقييد: 150.
(1) سرد أسماءهم السيوطي في تدريب الراوي 1/ 328 - 329 فبلغوا ثلاثة وثمانين راوياً.
(2) رواه عنه الخطيب في الكفاية: (190 ت، 117 هـ‍).
(3) رواه الخطيب أيضاً في الكفاية: (191 ت، 118 هـ‍).
(4) قال العراقي في التقييد: 151: ((ذكر المصنف أن أبا بكر الصيرفي أطلق الكذب، أي: فلم يخصه بالكذب في الحديث. والظاهر: أن الصيرفي إنما أراد الكذب في الحديث، بدليل قوله: ((من أهل النقل))، وقد قيده بـ ((المحدِّث)) فيما رأيته في كتابه المسمّى بـ " الدلائل والاعلام "، فقال: وليس يطعن على المحدّث إلا أن يقول: تعمدت الكذب، فهو كاذب في الأول، ولا يقبل خبره بعد ذلك)).
(5) انظرها في: إكمال المعلم 1/ 107، والفروق 1/ 5، ومحاسن الاصطلاح: 231، والنكت الوفية: 225 / أ، وتدريب الراوي 1/ 331 - 334.
(6) بعد هذا في (ع) زيادة: ((كل))، ولم ترد في شيء من النسخ التي اعتمدناها في التحقيق.
(7) انظر: قواطع الأدلة 1/ 324، وبه قال الماوردي والروياني من الشافعية. انظر: البحر المحيط 4/ 284.
قال البلقيني في محاسنه: 232: ((ما نقل عن الصيرفي يقرب منه ما قاله ابن حزم: من أسقطنا حديثه لم نعد لقبوله أبداً، ومن احتججنا به لم نسقط روايته أبداً. وكذا قاله ابن حبان في آخرين)).
(8) قلنا: وهذا الذي اختاره ابن الصلاح ونقله عن الصيرفي وأبي المظفر السمعاني، نقله أيضاً الحازمي
عن سفيان الثوري وابن المبارك ورافع بن الأشرس وأبي نعيم الفضل بن دكين. انظر: شروط الأئمة الخمسة: 54. =

(1/232)


الحادِيَةَ عَشْرَةَ: إذا رَوَى ثقةٌ عَنْ ثِقَةٍ حدِيثاً ورُوْجِعَ (1) المروِيُّ عنهُ فَنَفَاهُ، فالمختارُ: أنَّهُ إنْ كَانَ جازِماً بنفْيهِ بأنْ قالَ: ما رَويتُهُ، أو كَذَبَ عَلَيَّ، أو نَحْو ذَلِكَ فَقَدْ تَعَارَضَ الجزْمَانِ، والجاحِدُ هُوَ الأصْلُ، فَوَجَبَ رَدُّ حدِيْثِ فَرْعِهِ ذَلِكَ (2)، ثُمَّ لاَ يَكُونُ
__________
= وقد ردَّ الإمام النووي هذا القول، فقال في الإرشاد 1/ 307: ((وكل هذا مخالف لقاعدة مذهبنا ومذهب غيرنا، ولا يقوى الفرق بينه وبين الشهادة)). ومثله قال في التقريب: 95.
وقال في شرح صحيح مسلم 1/ 57: ((وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية، والمختار القطع بصحة توبته في هذا، وقبول رواياته بعدها)).
وأجاب الزركشي عن ردّ النووي، فقال: ((هذا الذي ادّعاهُ الشيخ من أنه مخالف لمذهبنا ممنوع، فإن جمهور الأصحاب عليه، منهم: الطبري، وابن السمعاني - كما نقله ابن الصلاح -، وقد حكاه عن الصيرفي: القاضي أبو الطيب ولم يخالفه، ومنهم: القفال المروزي فيما حكاه صاحب " البحر " في باب الرجوع عن الشهادة، فقال: ((قال القفال: إذا أقرّ المحدّث بالكذب لم يقبل حديثه أبداً)). وحكى ابن الرفعة في المطلب عند الكلام فيما إذا بان فسق الشاهد عن الماوردي: ((إن الراوي إذا كذب في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ردت جميع أحاديثه السالفة، ووجب نقض ما حكم به منها، وإن لم ينقض الحكم بشهادة مَنْ حدث فسقه، بأن الحديث حجة لازمة لجميع المسلمين، وفي جميع الأمصار، فكان حكمه أغلظ))، ولم يتعقبه ابن الرفعة بنكير. وحكاه الخطيب في الكفاية عن الحميدي، وقال: ((إنه الحق)). وهو كما قال فإن الدليل يعضده، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ كَذِباً عَلَيَّ ليسَ ككَذِبٍ عَلى أحدٍ))؛ ولهذا حكى إمام الحرمين عن والده أن مَن تعمّد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - يكفر. وقد فرّق أصحابنا بين الرواية والشهادة في مواضع كثيرة، فلا بدع أن هذا منها.
نعم ... قال القاضي أبو بكر الشامي من أصحابنا - وهو في طبقة القاضي أبي الطيب - ((لا يقبل فيما رد، ويقبل في غيره اعتباراً بالشهادة)). حكاه القاضي من الحنابلة عنه أنه أجابه بذاك لما سأله عن هذه المسألة.
فحصل فيها وجهان لأصحابنا، وأصحهما: لا تقبل.
وأما قوله: إنه مخالف لمذهب غيرنا فممنوع، فقد حكى الخطيب عند عبد الله بن أحمد الحلبي، قال:
((سألت أحمد بن حنبل عن محدّث كذب في حديث واحد ثُم تاب ورجع؟ قال: توبته فيما بينه وبين الله عزوجل، ولا يكتب عنه حديث أبداً)). نكت الزركشي 3/ 405 - 408.
(1) في (ب): ((ورجع)).
(2) نبّه الزركشي هنا على أمرين:
الأول: ما ذكره من أنه المذهب: ((المختار))، ليس من تصرفه كما تعقبه به بعضهم، فقد نقل الخطيب في الكفاية: (221 ت، 139 هـ‍)، وإمام الحرمين في البرهان 1/ 417، عن القاضي أبي بكر الباقلاني، ونقل الأخير عن القاضي أيضاً عزوه إلى الشافعي، ونسبه ابن السمعاني في القواطع إلى أصحاب الشافعي، بل نقل الهندي الإجماع عليه، وهذا من الهندي غلط، فإن في المسألة قولين: =

(1/233)


ذَلِكَ جَرْحاً لهُ (1) يُوجِبُ ردَّ باقِي حديثِهِ؛ لأنَّهُ مُكَذِّبٌ لشَيْخِهِ أيضاً في ذلكَ، وليسَ قَبُولُ جَرْحِ شَيْخِهِ لهُ بأوْلَى مِنْ قَبُولِ جَرْحِهِ لشَيْخِهِ، فتَسَاقَطا.
أمَّا إذا قالَ المروِيُّ عنهُ: لاَ أعرِفُهُ، أو لاَ أذْكُرُهُ، أوْ نحوَ ذلكَ، فذلكَ لاَ يُوجِبُ رَدَّ روايَةِ الراوي عنهُ (2).
ومَنْ رَوَى حَدِيثاً ثُمَّ نَسِيَهُ لَمْ يَكُنْ ذلكَ مُسْقِطاً للعَمَلِ بهِ عندَ جُمْهُورِ أهلِ الحديثِ وجمهورِ الفقهاءِ والمتكلِّمينَ، خلافاً لقَومٍ مِنْ أصحَابِ أبي حَنيْفَةَ صَارُوا إلى إسْقَاطِهِ بذلِكَ (3)، وبَنَوَا عليهِ رَدَّهُمْ حديثَ سُليمانَ بنِ موسَى، عَنِ الزُّهريِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا نُكِحَتِ المرْأَةُ بغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّها فَنِكَاحُها باطِلٌ
__________
= أحدهما: التوقف، وهو ظاهر كلام ابن الصبّاغ في العدة، ونقله ابن القشيري عن اختيار القاضي أبي بكر، واختاره إمام الحرمين، والإمام الفخر الرازي.
ثانيهما: أن تكذيب الأصل للفرع لا يسقط المروي، وهذا ما اختاره أبو الحسن بن القطان، وابن السمعاني، وبه جزم الماوردي والروياني.
الثاني: ما استدل به للرد بالتعارض، قد يعارض بأن المثبت مقدم على النافي، لكن لَمَّا كان النافي هنا نفي ما يتعلق به في أمر يقرب من المحصور بمقتضى الغالب، اقتضى أن يرجح النافي.
انظر: نكت الزركشي 3/ 411 - 412، والبحر المحيط 4/ 321 - 322.
(1) ((أي: بخلاف الشهادة على ما قاله الماوردي، فإن تكذيب الأصل جرح للفرع، والفرق غلظ باب الشهادة وضيقه)). قاله الزركشي 3/ 412.
(2) حكى ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول 1/ 89 - 90 ثلاثة مذاهب:
الأول: يعمل به.
الثاني: لا يعمل به.
الثالث: التفصيل بين أن يكون ميل الشيخ إلى تغليب النسيان فيقبل، أو يميل إلى تغليب جهله أصلاً فلا يقبل.
(3) وحكاه ابن الصباغ عن أصحاب أبي حنيفة. انظر: شرح التبصرة والتذكرة 2/ 54.
قلنا: بل هو مذهب أكثرهم، منهم: الكرخي والدبوسي والبزدوي، وصوّبه النسفي منهم، وهو رواية عن الإمام أحمد، ونقل الرافعي عن القاضي ابن كج حكايته وجهاً لبعض الشافعية، وعينه شارح اللمع بأنه القاضي أبو حامد المروذي.
انظر: اللمع: 48، وإحكام الأحكام 2/ 92، وكشف الأسرار للبخاري 3/ 60، وفواتح الرحموت 2/ 170، ونهاية السول 3/ 156، والبحر المحيط 4/ 325، وشرح السيوطي: 252.

(1/234)


الحديثَ)) (1)، مِنْ أجْلِ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ، قالَ: ((لقِيْتُ الزهريَّ فسَألْتُهُ عَنْ هذا الحديثِ فَلَمْ يَعرِفْهُ)) (2). وكذا حديثُ ربيعَةَ الرأي، عَنْ سُهَيْلِ بنِ
__________
(1) هذا حديث رواه: الشافعي في الأم 5/ 13، والطيالسي (1463)، وعبد الرزاق (10472)، والحميدي (228)، وابن أبي شيبة 4/ 128، وأحمد 6/ 47 و165 و260، والدارمي (2190)، وأبو داود (2083) و (2084)، وابن ماجه (1879)، والترمذي (1102)، وابن الجارود (700)، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 7، وابن حبان (7074)، والدارقطني 3/ 221، والحاكم 2/ 168، والبيهقي 7/ 105، وابن حزم في المحلى 9/ 451، والبغوي (2262)، كلهم من طريق ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، به.
(2) روى هذا اللفظ عن ابن جريج: أحمد 6/ 47، والبخاري في التاريخ الكبير 4/ 38، وفي الضعفاء الصغير (146)، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 8، والعقيلي في ضعفائه الكبير 2/ 140 (632).
وأورده الترمذي في جامعه 2/ 395 عقب (1102 م) بلفظ آخر، فقال: ((وقد تكلم بعض أصحاب الحديث في حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن جريج: ثم لقيت الزهري فسألته فأنكره، فضعّفوا هذا الحديث من أجل هذا)).
فبهذا أصبح عندنا لفظان للزهري في إجابة السائلين له عن هذا الحديث:
الأول: عدم التذكر، وهو قوله: ((فلم يعرفه)).
الثاني: إنكاره أصلاً، وهو قوله: ((فأنكره)).
أما اللفظ الثاني فقد اعترض بعض الناس على ابن الصلاح في تمثيله به؛ لأن مقتضى هذا اللفظ الإنكار، وهو خلاف ما نبحث فيه من عدم تذكر الشيخ للحديث لا إنكاره له؟
وقد أجاب الحافظ العراقي: بـ ((أن الترمذي لم يروه، وإنما ذكره بغير إسنادٍ، والمعروف في الكتب المصنفة في العلل: ((فلم يعرفه))، كما ذكره المصنف)). التقييد والإيضاح: 152.
وأما الثاني: فقد تفرد بذكر هذا اللفظ عن ابن جريج: إسماعيل بن إبراهيم المعروف بابن عُليّة، قال ابن معين في تاريخه 3/ 86 (رواية الدوري): ((ليس يقول هذا إلا ابن عُلية، وابن عُلية عرض كتب ابن جريج على عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد فأصلحها له)).
ونقل الترمذي 2/ 395 عن ابن معين قوله: ((وسماع إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن جريج ليس بذاك، إنما صحّح كتبه على كتب عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد ما سمع من ابن جريج. وضعّف يحيى رواية إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن جريج)).
وروى الأثرم عن الإمام أحمد: ((قلت لأبي عبد الله: حديث الولي، الكلام الذي يزيد فيه إسماعيل؟ فَقَالَ: نعم ... لم أسمعه من أحد غيره، وَقَالَ أبو عَبْد الله: إسماعيل إنما سَمِعَ هَذَا بالبصرة، فكيف هَذَا؟ كالمنكر له إن شاء الله، قلت له: فذاك حديث ثبت عندك؟ فقال: ما أدري أخبرك. قال أبو بكر -يعني: الأثرم-: معنى هذا الكلام أن ابن جريج روى عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل))، فرواه إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن جريج، فزاد فيه: ((قال ابن جريج: فسألت الزهري عنه فلم يعرفه، فكأنه أنكر هذه الزيادة. =

(1/235)


أبي صالِحٍ، عَنْ أبيهِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ: ((أنَّ النبيَّ (1) - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بشَاهِدٍ ويَمِيْنٍ)) (2)، فإنَّ عَبْدَ العزيزِ بنَ محمدٍ الدَّرَاوَرْدِيَّ قالَ: ((لقِيْتُ سُهَيْلاً فسَألْتُهُ عَنْهُ فَلَمْ يَعرِفْهُ)) (3).
__________
= قيل لأبي عبد الله: كان إسماعيل حمل على ابن جريج، فنفض يده وأنكر ذلك، وقال: مَن قال هذا؟ كيف وهو قد سمع من ابن جريج، فقدم مكة فأراد أن يصحح سماعه، فقال: من أعلم مَن هاهنا بابن جريج؟ فقيل له: عبد المجيد بن أبي روّاد، فعرضها عليه)). تاريخ دمشق 22/ 373.
وروى ابن أبي حاتم في علله 1/ 408، عن أبيه، عن أحمد إنكاره لوجود هذه الزيادة في حديث ابن جريج.
وروى البيهقي في سننه الكبرى 7/ 106 بسند صحيح، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 22/ 374 عن جعفر الطيالسي أنه قال: ((سمعت يحيى بن معين يوهن رواية ابن علية عن ابن جريج، أنه أنكر معرفة حديث سليمان بن موسى، وقال: لم يذكره عن ابن جريج غير ابن علية، وإنما سمع ابن علية من ابن جريج سماعاً ليس بذاك)).
وقد تابع ابن جريج في روايته لهذا الحديث، عن الزهري: حجاج بن أرطاة، ويزيد بن أبي حبيب، وقرة ابن حيوئيل، وأيوب بن موسى، وابن عيينة، وإبراهيم بن سعد، كما ذكر ابن عدي في الكامل 4/ 256.
ورواه عن ابن جريج يحيى بن سعيد الأنصاري، وابن وهب، ويحيى بن أيوب، وسفيان الثوري، وعيسى ابن يونس، ومؤمل بن إسماعيل، وحجاج بن محمد، وابن أبي روّاد، وكلهم لم يذكروا ما ذكر ابن علية في حديث ابن جريج، وقد ساق مروياتهم الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق 22/ 369 - 371.
ومن هذا ندرك أن عدم معرفة الزهري لهذا الحديث لم تثبت عنه، ولهذا نبّه الحافظ العراقي على سبب تركه التمثيل بهذا المثال في ألفيته وشرحها 2/ 55، وانظر: التقييد والإيضاح: 153.
(1) في (ب) و (جـ): ((رسول الله)).
(2) رواه الشافعي في الأم 2/ 179، وأبو داود (3610) و (3611)، وابن ماجه (2368)، وابن الجارود (1007)، وأبو يعلى (6683)، والطحاوي في شرح المعاني 4/ 144، وابن حبان (5073)، والدارقطني 4/ 213، والبيهقي 10/ 168، والبغوي (2503). كلهم من طريق ربيعة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، به مرفوعاً.
(3) الذي في سنن أبي داود عقب (3610) عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي: ((قال: فذكرت ذلك لسهيل فقال: أخبرني ربيعة، وهو عندي ثقة أني حدّثته إياه، ولا أحفظه، قال عبد العزيز: وقد كان أصابت سهيلاً علة أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه، فكان سهيل بعدُ يحدّثه عن ربيعة عنه، عن أبيه)).
لكن اللفظ الذي ذكره ابن الصلاح هنا قريب جداً من لفظ سليمان بن بلال، فروى أبو داود (3611) الحديث من طريق سليمان بن بلال، عن ربيعة ((قال سليمان: فلقيت سهيلاً فسألته عن هذا الحديث، فقال: ما أعرفه، فقلت له: إن ربيعة أخبرني به عنك، قال: فإن كان ربيعة أخبرك عني، فحدّث به عن ربيعة عني)).
ولعل ابن الصلاح ذكر معنى مشترك بين لفظي سليمان والدراوردي، واقتصر على نسبته إلى الدراوردي.

(1/236)


والصحيحُ ما عليهِ الجمهُورُ؛ لأنَّ المروِيَّ عنهُ بصَدَدِ السَّهْوِ والنِّسْيَانِ (1) والرَّاوي عنهُ ثقةٌ جازِمٌ فلاَ يُرَدُّ (2) بالاحتمالِ روايتُهُ، ولهذا كانَ سُهَيْلٌ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي رَبيْعَةُ عَنِّي عَنْ أبي، ويسُوقُ الحديثَ.
وَقَدْ رَوَى كَثيرٌ مِنَ الأكَابِرِ أحادِيْثَ نَسَوْها بعدَ ما حُدِّثُوا بها عَمَّنْ سَمِعَها منهُمْ، فكَانَ أحَدُهُمْ يقُولُ: حدَّثَنِي فلاَنٌ عَنِّي عَنْ فلانٍ بكذا وكذا. وجَمَعَ الحافِظُ الخطيبُ ذلكَ في كِتَابِ "أخْبَارِ مَنْ حَدَّثَ ونَسِيَ" (3). ولأجْلِ أنَّ الإنْسانَ مُعَرَّضٌ للنِسْيانِ؛ كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنَ العُلَماءِ الروَايةَ عَنِ الأحْيَاءِ، منْهُمُ الشَّافِعِيُّ - رضي الله عنه - قالَ لابنِ عَبدِ الحكمِ (4):
((إيَّاكَ والروايةَ عَنِ الأحياءِ)) (5)، واللهُ أعلمُ.
الثَّانيةَ عَشْرَةَ: مَنْ أخَذَ عَلَى التَّحدِيثِ (6) أجْراً، منعَ ذلِكَ مِنْ قَبُولِ رِوايتِهِ عِنْدَ قومٍ مِنْ أئمَّةِ الحديثِ، رُوِّيْنا عَنْ إسْحاقَ بنِ إبْرَاهِيمَ - هُوَ ابنُ رَاهَوَيْهِ (7) - أنَّهُ سُئِلَ عَنِ المحدِّثِ يُحَدِّثُ بالأجْرِ؟ فقالَ: ((لاَ يُكْتَبُ عنهُ)) (8).
__________
(1) اعترض على ابن الصلاح بأن الراوي معرّض أيضاً لذلك، فينبغي أن يتساقطا، ويبقى النظر في أحدهما بمرجح خارجي.
فأجاب العراقي: بـ ((أن الراوي مثبت جازم، والمروي عنه ليس بنافٍ وقوعه، بل غير ذاكر، فقدم المثبت عليه)). التقييد: 154.
قلنا: وهذا الجواب هو فحوى كلام ابن الصلاح الآتي.
(2) في (أ): ((ترد)).
(3) وذكره الذهبي في السير 18/ 290 باسم: " مَنْ حَدَّثَ ونَسِيَ "، وقد لَخَّصه السيوطي وسمّاه: " تذكرة المؤتسي فيمن حدَّث ونسي ". قال الزركشي في نكته 3/ 415: ((وقبله الدارقطني وضع فيه جزءاً)). وسمّى ابن حجر كتاب الدارقطني " مَنْ حدَّث ونسي ". نزهة النظر: 166.
(4) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الحكم بن أعين المصري الفقيه، توفي سنة (268 هـ‍). انظر: وفيات الأعيان 4/ 193، والسير 12/ 497، وميزان الاعتدال 3/ 611.
(5) هو في المدخل للبيهقي كما ذكر غير واحد، ولم نعثر عليه في المطبوع فلعله مما نقص منه. وانظر: مناقب الشافعي له 2/ 38، والكفاية: (222 ت، 139 هـ‍)، ونكت الزركشي 3/ 416، والتقييد والإيضاح: 154 - 155.
(6) في (جـ): ((الحديث)).
(7) في (أ) و (ب): ((إسحاق بن إبراهيم)) فقط، وكذا في (ع) والتقييد، والمثبت من (جـ) ومحاسن الاصطلاح والشذا الفياح.
(8) رواه الخطيب في الكفاية: (240 ت، 153 - 154 هـ‍).

(1/237)


وعَنْ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ (1)، وأبي حاتِمٍ الرازِيِّ (2)، نحوُ ذلكَ. وتَرَخَّصَ أبو نُعَيْمٍ الفضلُ بنُ دُكَينٍ (3) وعليُّ بنُ عبدِ العزيزِ المكِّيُّ (4) وآخرونَ (5) في أخْذِ العِوَضِ عَلَى التَّحْديثِ، وذَلِكَ شَبِيهٌ بأخْذِ الأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيْمِ القرآنِ ونَحْوِهِ، غَيْرَ أنَّ في هَذَا مِنْ حَيْثُ العُرْفُ خَرْماً للمرُوءةِ، والظَّنُّ يُسَاءُ بفاعِلهِ إلاَّ أنْ يَقْتَرِنَ ذَلِكَ بعُذْرٍ يَنْفِي ذَلِكَ عنهُ، كمثلِ ما حَدَّثَنِيهُ الشيخُ أبو المظَفَّرِ عَنْ أبيهِ الحافِظِ أبي سَعْدٍ السَّمْعانيِّ أنَّ أبا الفَضْلِ محمدَ ابنَ ناصِرٍ السَّلاَمِيَّ ذَكَرَ أنَّ أبا الحسَيْنِ بنِ النَّقُّورِ (6) فَعَلَ ذَلِكَ؛ لأنَّ الشيْخَ أبا إسْحاقَ الشِّيرازيَّ أفتاهُ بجوَازِ أخْذِ الأُجْرَةِ عَلَى التَّحْدِيْثِ؛ لأنَّ أصحابَ الحديثِ كَانُوا يَمْنَعُونَهُ عَنِ الكَسْبِ لِعِيَالِهِ (7)، واللهُ أعلمُ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لاَ تُقْبَلُ روَايَةُ مَنْ عُرِفَ بالتَّسَاهُلِ في سَمَاعِ الحديثِ أوْ إسْماعِهِ كَمَنْ لاَ يُبَالِي بالنَّوْمِ في مجْلِسِ السَّماعِ (8)، وكَمَنْ يُحَدِّثُ لاَ مِنْ أصلٍ مُقَابَلٍ صحيحٍ.
__________
(1) انظر: الكفاية: (240 ت، 153 - 154 هـ‍).
(2) انظر: المصدر السابق، مع نكت الزركشي 3/ 417.
(3) رواه عنه الخطيب في الكفاية: (243 ت، 155 هـ‍).
(4) انظر: المصدر السابق.
(5) منهم: مجاهد، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي. انظر: الكفاية: (243 - 244 ت، 155 - 156 هـ‍)، وانظر: بحثاً نفيساً في استدلال بعضهم على جواز هذا بفعل أبي بكر، وردّ ابن الجوزي عليهم كما في نكت الزركشي 3/ 418.
(6) هو أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي البزار، مولده سنة (381 هـ‍)، ووفاته سنة (470 هـ‍). انظر: تاريخ بغداد 4/ 381، والمنتظم 8/ 314، وسير أعلام النبلاء 18/ 373.
(7) انظر: تاريخ بغداد 4/ 381، والمنتظم 8/ 314، وسير أعلام النبلاء 18/ 374.
(8) قيّد الزركشي بالنوم الذي يطغى على العقل، أما النعاس الذي لا يختل معه فهم الكلام، فلا بأس به لا سِيّما إذا صدر من فطن عالم بهذا الشأن. انظر: نكت الزركشي 3/ 423.
واستدل بما حكاه الحافظ ابن كثير عن شيخه الحافظ أبي الحجاج المزي، أنه كان: يكتب في مجلس السماع، وينعس في بعض الأحيان، ويردّ على القارئ ردّاً جيّداً بيّناً واضحاً، بحيث يتعجب القارئ من نفسه، أنه يغلط فيما في يده وهو مستيقظ والشيخ ناعس، وهو أنبه منه!! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. انظر: اختصار علوم الحديث 1/ 340 - 341.

(1/238)


ومِنْ هَذَا القَبيلِ مَنْ عُرِفَ بقَبُولِ التَّلْقِيْنِ (1) في الحديثِ (2)، ولاَ تُقْبَلُ روايةُ مَنْ كَثُرَتِ الشَّواذُّ والمناكِيْرُ في حديثِهِ.
جَاءَ عَنْ شُعْبَةَ: أنَّهُ قالَ: ((لاَ يَجِيْئُكَ الحديثُ الشَّاذُّ إلاَّ مِنَ الرَّجُلِ الشَّاذِّ)) (3). ولاَ تُقْبَلُ روايةُ مَنْ عُرِفَ بكَثْرَةِ السَّهْوِ في رواياتِهِ إذا لَمْ يُحَدِّثْ مِنْ أصْلٍ صحيحٍ (4)، وكُلُّ هذا يَخْرِمُ الثقةَ بالراوي وبضبْطِهِ.
__________
(1) التلقين - كما عرّفه الحافظ العراقي -: هو أن يُلَقَّنَ الشيء فيحدث به من غير أن يعلم أنه من حديثه. شرح التبصرة والتذكرة 2/ 59.
وانظر عن التلقين وأسبابه وحكمه: النفح الشذي 1/ 323، وسير أعلام النبلاء 10/ 210، والنكت الوفية: 232 / ب، وفتح المغيث 1/ 385، وتدريب الراوي 1/ 339، وتوضيح الأفكار 2/ 257، وتوجيه النظر 2/ 573، وأثر علل الحديث: 120.
(2) وسبقه إلى نحو هذا الحكم أبو محمد بن حزم في الإحكام 1/ 142، فقال: ((ومن صح أنه قبل التلقين -ولو مرة- سقط حديثه كله؛ لأنه لم يتفقه في دين الله عزوجل ولا حفظ ما سمع)).
وكذا الحافظ ابن القطان الفاسي، فقد نقل الزركشي عنه 3/ 424 أنه قال: ((التلقين عيب يسقط الثقة لمن اتصف به، وقد كانوا يفعلون ذلك بالمحدّث تجربة لحفظه وضبطه وحذقه)).
وأسند الخطيب البغدادي في الكفاية: (234 - 235 ت، 149 هـ‍) عن أبي الأسود أنه قال: إذا سرّك أن تكذب صاحبك فلقنه)).
وعن سلمة بن علقمة أنه قال: ((إذا سرّك أن تكذب أخاك فلقنه)).
وقد نازعهم في إطلاق القول بردّ حديث المتلقن الحافظ العلاّمة ابن دقيق العيد في شرح الإلمام، فيما نقله الزركشي في نكته 3/ 424، فقال: ((مطلق التلقين والإجابة ليس دليلاً على اختلاف حال الراوي، فقد يلقنه الناقل ما لا علم له به، فيجيبه بالصواب عنده، وربما يتحققه. وليس تقدم تلقينه بالدليل على مجازفته في جوابه. نعم ... التلقين الباطل إذا عرف بطلانه، فأجاب الملقّن بما عرف بطلانه كان دليلاً على مجازفته لا على تعمده الكذب، فالكذب منه يقيناً يتوقف على أن يثبت أنه لُقِّن الباطل الذي عرف بطلانه فأجاب به، وأما الإجابة بما يلقن به من غير تحقيق إفادة، فإنما يجعله قدحاً بطريق التهمة أو بقرينة شهرت بالمجازفة وعدم التثبت)).
(3) أسنده ابن عدي في الكامل 1/ 151، والخطيب في الكفاية: (224 ت، 141 هـ‍).
(4) وضّح الزركشي في نكته 3/ 425 - 426 هنا أمرين: =

(1/239)


ووَرَدَ عَنِ ابنِ المبَارَكِ (1)، وأحمدَ بنِ حَنبَلٍ (2)، والْحُمَيْديِّ (3)، وغَيْرِهِمْ أنَّ مَنْ غَلِطَ في حديثٍ وبُيِّنَ لَهُ غَلَطُهُ فَلَمْ يَرْجِعْ عنهُ وأصَرَّ على روايةِ ذلكَ الحديثِ سَقَطَتْ رواياتُهُ، ولَمْ يُكْتَبْ عنهُ (4).
وفي هذا نَظَرٌ (5)، وهو غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ إذا ظَهَرَ أنَّ ذلكَ منهُ عَلَى جِهَةِ (6) العِنادِ أو نحوِ ذلكَ (7)، واللهُ أعلمُ.
__________
= الأول: أنه لَم يرتضِ إطلاق ابن الصلاح الحكم بالردّ، فقال: ((ينبغي تقييده بما إذا لم تكن قرينة تزيل الريبة عن روايته وإلا فتقبل)).
الثاني: أشار إلى أن ظاهر كلام ابن الصلاح أن المحدّث إذا حدّث من أصل صحيح فلا مبالاة بكثرة سهوه، حيث الاعتماد عندها على أصله لا على حفظه، وبنحوه ثاني الأمرين، قال الشافعي في الرسالة: 382 (1044)، وأسنده الخطيب عنه في الكفاية: (228 ت، 144 هـ‍)، وبه جزم العراقي في شرح التبصرة والتذكرة 2/ 60.
(1) رواه عنه الخطيب في الكفاية: (227 ت، 143 هـ‍).
(2) رواه عنه الخطيب: (228 ت، 144 هـ‍).
(3) أسنده الخطيب عنه في الكفاية: (228 ت، 144 هـ‍).
(4) كما روى الخطيب في الكفاية: (237 ت، 151 هـ‍) عن أبي حاتم الرازي، قال: ((دخلت الكوفة فحضرني أصحاب الحديث، وقد تعلقوا بورّاق سفيان بن وكيع، فقالوا: أفسدت علينا شيخنا وابن شيخنا، قال فبعثت إلى سفيان بتلك الأحاديث التي أدخلها عليه ورّاقه يرجع عنها، فلم يرجع عنها فتركته)).
(5) قال محقق المقنع 1/ 281: ((يشير ابن الصلاح بهذا إلى أنه قد يوجد هذا الوصف في الثقات، يُبَيَّن خطؤهم فلا يرجعون لتيقنهم من صحة حفظهم، كما وقع لمالك - رحمه الله - في روايته عن عُمَرَ بن عثمان، وغيره يقول: عَمْرو بن عثمان، فَبُيِّنَ له فلم يرجع، كما تقدم في نوع المنكر)).
(6) في (جـ): ((على وجه)).
(7) قال العراقي: 156 - 157: ((ما ذكره المصنف بحثاً قد نص عليه أبو حاتم بن حبان، فقال: ((إن من بيّن له خطؤه وعَلِمَ، فلم يرجع وتمادى في ذلك كان كذاباً بعلم صحيح)). فقيّد ابن حبان ذلك بكونه عَلِمَ خطأه، وإنما يكون عناداً إذا علم الحق وخالفه.
وقيَّد أيضاً بعض المتأخرين ذلك: بأن يكون الذي بيّن له غلطه عالماً عند المبين له، أما إذا كان ليس بهذا المثابة عنده، فلا حرج إذن)).

(1/240)


الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أعْرَضَ النَّاسُ في هذهِ الأعْصَارِ المتأَخِّرَةِ عَنْ اعتِبارِ مجمُوعِ (1) مَا بَيَّنَّا مِنَ الشروطِ في رواةِ الحديثِ ومشايخِهِ، فَلَمْ يَتَقَيَّدُوا بها في رواياتِهِمْ؛ لِتَعَذُّرِ الوفاءِ بذلكَ عَلَى نحوِ ما تَقَدَّمَ، وكَانَ عليهِ مَنْ تَقَدَّمَ (2). ووجْهُ ذلكَ ما قَدَّمْناهُ في أوَّلِ كِتَابِنا هذا مِنْ كَونِ المقْصودِ آلَ آخِراً إلى المحافَظَةِ على خَصِيْصَةِ هذهِ الأمةِ في الأسانيدِ والمحاذرةِ مِنِ انْقِطاعِ سِلْسِلَتِها، فَلْيُعْتَبَرْ مِنَ الشروطِ المذكورَةِ ما يَلِيْقُ بهذا الغرضِ علَى تَجَرُّدِهِ، ولْيُكْتَفَ في أهْلِيَّةِ الشَّيْخِ بكَونِهِ مُسْلِماً، بَالِغاً، عَاقِلاً، غَيْرَ مُتَظَاهِرٍ بالفِسْقِ والسُّخْفِ (3)، وفي ضَبْطِهِ: بوجودِ سمَاعِهِ مُثْبَتاً بِخَطِّ غَيْرِ مُتَّهَمٍ وبروايَتِهِ مِن أصْلٍ موافِقٍ لأصْلِ شيْخِهِ. وقدْ سَبَقَ إلى نحوِ ما ذَكَرْناهُ الحافِظُ الفقِيْهُ أبو بَكْرٍ البيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فإنَّهُ ذَكَرَ فيْمَا رُوِّيْنا (4) عنهُ تَوَسُّعَ مَنْ تَوَسَّعَ في السَّماعِ مِنْ بعضِ مُحَدِّثي زَمَانِهِ الذينَ لاَ يَحْفَظُونَ حديْثَهُم، ولاَ يُحْسِنُونَ قِرَاءَتَهُ مِنْ كُتُبِهِمْ، ولاَ يَعْرِفُونَ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أنْ تَكُونَ القِرَاءَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ أصْلِ سَمَاعِهِمْ.
وَوَجْهُ ذلكَ: بأنَّ الأحاديْثَ التي قَدْ صَحَّتْ أو وقفَتْ بينَ الصِّحَّةِ والسَقَمِ قَدْ دُوِّنَتْ وكُتِبَتْ في الجوامِعِ التي جَمَعَها أئِمَّةُ الحديثِ، ولاَ يَجُوزُ أنْ يَذْهَبَ شيءٌ منها عَلَى جميْعِهِمْ، وإنْ جَازَ أنْ يَذْهَبَ عَلَى بعضِهِمْ لضَمانِ صَاحِبِ الشَّرِيْعَةِ حِفْظَها.
قَالَ (5): ((فَمَنْ جَاءَ اليَوْمَ بحَدِيْثٍ لاَ يُوجَدُ عندَ جميعِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ منهُ، ومَنْ جَاءَ بحدِيْثٍ معرُوفٍ عندَهُمْ، فالذي يَرْوِيهِ لاَ يَنْفَرِدُ بروايَتِهِ، والحجَّةُ قائِمَةٌ بحديثِهِ بروايةِ غيرِهِ، والقَصْدُ مِنْ روَايَتِهِ والسَّمَاعِ منهُ، أنْ يَصِيْرَ الحديثُ مُسَلْسَلاً بـ ((حَدَّثَنا وأخْبَرَنا))،
__________
(1) في (جـ): ((مجموع جملة)).
(2) انظر في هذا: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك: 17، وجامع الأصول 1/ 35 - 36، ونكت الزركشي 1/ 45 و 3/ 427.
(3) السَّخْفُ والسُّخْفُ والسُّخْفَةُ والسَّخَافَةُ: ضعف العقل ورقّته ونقصانه، والسَّخِيْف: الناقص العقل. انظر: لسان العرب 9/ 146، وتاج العروس 23/ 421، ومتن اللغة 3/ 123.
(4) كذا في جميع النسخ الخطية والتقييد، وفي (ع) و (م) والشذا: ((رويناه)).
(5) في (ع) والتقييد: ((قال البيهقي)).

(1/241)


وتَبْقَى هذهِ الكَرامَةُ التي خُصَّتْ بها هذهِ الأمَّةُ، شَرَفاً لنبيِّنا المصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ، واللهُ أعْلَمُ (1).
الخامِسَةَ عَشْرَةَ: في بَيَانِ الألفَاظِ المسْتَعْمَلَةِ بَيْنَ (2) أهْلِ هَذَا الشَّأْنِ في الجرْحِ والتَّعْدِيْلِ.
وقدْ رَتَّبَها أبو محمَّدٍ عَبدُ الرَّحْمانِ بنُ أبي حاتِمٍ الرَّازيُّ في كِتَابهِ في " الجرْحِ والتَّعْدِيْلِ " (3)، فأجَادَ وأحْسَنَ.
ونَحْنُ نُرَتِّبُها كذلِكَ، ونُوْرِدُ ما ذَكَرَهُ ونضيفُ إليهِ ما بَلَغَنا في ذلكَ عَنْ غيرِهِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى (4).
أمَّا ألْفَاظُ التَّعْدِيلِ (5) فَعَلَى مَرَاتِبَ:
الأُوْلَى: قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: ((إذا قِيْلَ للوَاحِدِ: إنَّهُ ثِقَةٌ (6) أو مُتْقِنٌ، فَهُوَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بحدِيْثِهِ)) (7).
__________
(1) عبارة: ((والله أعلم)) لم ترد في (أ) و (ب) و (جـ) والشذا، ولم ينقلها الحافظ العراقي ضمن نص ابن الصلاح الذي نقله في شرح التبصرة والتذكرة 2/ 62، وهي من (ع) و (م) والتقييد وإنما أثبتناها؛ لأن عادته أن يختم كل موضوع بقوله هذا.
(2) في (ع) و (م) والتقييد: ((من)).
(3) الجرح والتعديل 2/ 37.
(4) ومن جاء بعده قد زاد مراتب أخرى، انظر تفصيل ذلك في مقدمة ميزان الاعتدال 1/ 4، وشرح التبصرة 2/ 64، والتقييد: 157، ومقدمة تقريب التهذيب: 74، ونزهة النظر: 187، وفتح المغيث 1/ 390، وتدريب الراوي 1/ 341، وتوضيح الأفكار 2/ 261.
(5) انظر: نكت الزركشي 3/ 430 - 431.
(6) هناك رتبة أعلى ينبغي تقديمها وهي تكرار التوثيق، إما مع تباين الألفاظ كقولهم: ((ثبت حجة، أو ثبت حافظ، أو ثقة ثبت، أو ثقة متقن، ونحوه. وإما مع إعادة اللفظ الأول، كقولهم: ثقة ثقة، ونحوها، فهذه أعلى المراتب في التوثيق كما قاله الذهبي في مقدمة الميزان 1/ 4. ويرى بعض العلماء أن أعلى المراتب ما أتي بصيغة: ((أفعل))، كأن يقال: ((أوثق الخلق)) و ((أثبت الناس)). نكت الزركشي 3/ 431، وفتح المغيث 1/ 363.
(7) الجرح والتعديل 2/ 37.

(1/242)


قُلْتُ: وكَذَا إذا قِيْلَ ثَبْتٌ أوْ حُجَّةٌ (1)، وكَذَا إذا قِيْلَ في العَدْلِ: إنَّهُ حَافِظٌ أوْ ضَابِطٌ، واللهُ أعْلَمُ.
الثَّانيةُ: قَالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: ((إذا قِيْلَ: إنَّهُ صَدُوْقٌ، أوْ مَحَلُّهُ الصِّدْقُ (2)، أوْ لاَ بأسَ بهِ، فَهوَ مِمَّنْ يُكْتَبُ حَدِيْثُهُ ويُنْظَرُ فيهِ، وهِيَ المنْزِلَةُ الثَّانِيَةُ)) (3).
قُلْتُ: هذا كَما قالَ؛ لأنَّ هذهِ العِبَاراتِ لاَ تُشْعِرُ بشَرِيْطَةِ الضَّبْطِ، فَيُنْظَرُ في حَدِيْثِهِ ويُخْتَبَرُ حَتَّى يُعْرَفَ ضَبْطُهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ طرِيْقِهِ في أوَّلِ هذا النَّوْعِ. وإنْ لَمْ يَسْتَوْفِ النَّظَرَ المعرِّفَ لكوْنِ ذَلِكَ المحدِّثِ في نفسِهِ ضابطاً مُطْلَقاً، واحْتَجْنا إلى حديثٍ مِنْ حديثِهِ، اعتبَرْنا ذلكَ الحديثَ ونَظَرْنا: هَلْ لَهُ أصْلٌ مِنْ رِوَايةِ غَيْرِهِ؟ كما تَقَدَّمَ بيانُ طَرِيْقِ الاعتِبَارِ في النَّوْعِ الخامِسَ عَشَرَ.
ومشْهُورٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بنِ مَهْدِيٍّ (4) - القُدْوَةِ في هذا الشَّأْنِ - أنَّهُ حدَّثَ، فقالَ: ((حَدَّثَنا أبو خَلْدَةَ)) (5)، فقِيْلَ لهُ: ((أكَانَ ثِقَةً؟))، فقالَ: ((كَانَ صَدُوْقاً، وكَانَ مَأْمُوْناً، وكَانَ خَيِّراً - وفي روايةٍ: وكَانَ خِيَاراً - الثِّقَةُ شُعْبَةُ وسُفْيَانُ)) (6). ثُمَّ إنَّ ذلكَ مُخَالِفٌ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابنِ أبي خَيْثَمَةَ، قالَ: ((قُلْتُ ليَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ (7): إنَّكَ
__________
(1) انظر: نكت الزركشي 3/ 432، ومحاسن الاصطلاح: 237، والتقييد والإيضاح: 157.
(2) راجع التقييد والإيضاح: 158، وتدريب الراوي 1/ 345، والنكت والوفية: 236/ ب، ومباحث في علم الجرح والتعديل: 39.
(3) الجرح والتعديل 2/ 37.
(4) انظر: محاسن الاصطلاح: 238، والتقييد: 158.
(5) هو خالد بن دينار التميمي السعدي، وأبو خلدة البصري الخياط، مشهور بكنيته، تابعي صغير، توفي سنة (152 هـ‍).
وخَلْدَة - بفتح المعجمة وسكون اللام -. انظر: الكاشف 1/ 363، والتقريب (1627).
(6) الكنى والأسماء للدولابي 1/ 165، والجرح والتعديل 3/ 328، والكفاية: (59 - 60 ت، 22 هـ‍).
(7) راجع نكت الزركشي 3/ 433 - 434.

(1/243)


تَقُولُ: فُلانٌ ليسَ بهِ بأسٌ، وفلانٌ ضَعِيْفٌ؟ قَالَ: إذا قُلْتُ لكَ: ليسَ بهِ بأسٌ، فهوَ ثِقَةٌ، وإذا قُلْتُ لَكَ: هُوَ ضَعِيْفٌ، فَلَيْسَ هُوَ بثِقَةٍ، لاَ يُكْتَبُ (1) حَدِيْثُهُ)) (2).
قُلْتُ: لَيْسَ في هذا (3) حكَايَةُ ذلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أهْلِ الحديثِ، فإنَّهُ نَسَبَهُ إلى نَفْسِهِ خاصَّةً بخِلاَفِ ما ذَكَرَهُ ابنُ أبي حاتِمٍ، واللهُ أعلمُ.
الثَّالِثَةُ: قَالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: ((إذا قيلَ: شَيْخٌ (4)، فهوَ بالمنْزِلَةِ الثَّالِثَةِ، يُكْتَبُ حدِيْثُهُ، ويُنْظَرُ فيهِ، إلاَّ أنَّهُ دُوْنَ الثَّانِيَةِ)) (5).
الرَّابِعَةُ: قالَ: ((إذا قِيْلَ: صَالِحُ الحديثِ، فإنَّهُ يُكْتَبُ حدِيْثُهُ للاعْتِبَارِ)) (6).
قٌلْتُ: وقدْ جَاءَ عَنْ أبي جَعْفَرِ بنِ سِنَانٍ، قالَ: ((كَانَ عَبْدُ (7) الرحمانِ بنُ مَهْدِيٍّ رُبَّما جَرَى ذِكْرُ حديثِ الرجلِ فيهِ ضَعْفٌ، وهو رجلٌ صَدوقٌ، فيقولُ: رجلٌ صالِحُ الحديثِ)) (8). واللهُ أعلمُ.
وأمَّا ألفاظُهُمْ في الجرْحِ فهيَ أيضاً علَى مَرَاتِبَ:
__________
(1) في (ع): ((لا تكتب)).
(2) الكفاية: (60 ت، 22 هـ‍).
(3) لم ترد في (ب).
(4) قال ابن القطان 4/ 627 عقب (2184): ((فأما قول أبي حاتم فيه: ((شيخ)) فليس بتعريف بشيء من حاله إلا أنه مقل ليس من أهل العلم، وإنما وقعت له رواية أخذت عنه.
وقال الزركشي 3/ 434: ((قال الحافظ جمال الدين المزي: المراد بقولهم: ((شيخ)) أنه لا يترك ولا يحتج بحديثه مستقلاً)). وقال ابن القطان في الوهم والإيهام: ((يعنون بذلك أنه ليس من طلبة العلم، وإنما هو رجل اتفقت له رواية في الحديث أو أحاديث أخذت عنه)). وراجع مباحث في علم الجرح والتعديل: 39 إذ ذكر هذا القول الأخير عن ابن القطان.
(5) الجرح والتعديل 2/ 37.
(6) المصدر السابق.
(7) في (ع): ((عبداً))، خطأ قبيح.
(8) الكفاية: (60 ت، 23 هـ‍).

(1/244)


أُوْلاَها: قَوْلُهُمْ: لَيِّنُ الحديثِ. قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: إذا أجابُوا في الرجلِ بـ: لَيِّنِ الحدِيثِ، فهوَ مِمَّنْ يُكْتَبُ حديثُهُ ويُنْظَرُ فيهِ اعتباراً)) (1).
قُلْتُ: وسَأَلَ حَمْزَةُ بنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ (2) أبا الحسَنِ الدَّارقطنيَّ الإمامَ، فقالَ لهُ: ((إذا قُلْتَ: فلانٌ لَيِّنُ أيْشٍ (3) تُرِيْدُ بهِ؟ قالَ: لاَ يَكونُ سَاقِطاً مترُوكَ الحديثِ ولكنْ مجرُوحاً (4) بشيءٍ لاَ يُسْقِطُ عَنِ العدالَةِ)) (5).
الثَّانيةُ: قالَ ابنُ أبي حاتِمٍ: ((إذا قَالُوا: ليسَ بقَوِيٍّ (6)، فَهوَ بمَنْزِلَةِ الأوَّلِ في كَتْبِ حَدِيْثِهِ، إلاَّ أنَّهُ دُوْنَهُ)) (7).
الثَّالِثَةُ: قالَ: ((إذا قَالُوا: ضَعِيْفٌ، فهوَ دُوْنَ الثَّاني، لاَ يُطْرَحُ حديثُهُ بَلْ يُعْتَبَرُ
بهِ)) (8).
الرَّابِعَةُ: قَالَ: ((إذا قَالُوا: مَتْرُوكُ الحديثِ، أوْ ذَاهِبُ الحديثِ، أو كَذَّابٌ فهوَ سَاقِطُ الحديثِ لاَ يُكْتَبُ حديثُهُ وهيَ المنْزِلَةُ الرَّابِعَةُ)) (9).
قالَ الخطيبُ أبو بكرٍ: ((أرفعُ العباراتِ في أحوالِ الرواةِ أنْ يُقَالَ: حُجَّةٌ أو ثِقَةٌ، وأدْوَنُها أنْ يُقَالَ: كَذَّابٌ، سَاقِطٌ)) (10).
__________
(1) الكفاية: (60 ت، 23 هـ‍).
(2) سؤلات السهمي: 72.
(3) المعنى: أي شيء.
(4) في المطبوع من سؤلات السهمي: ((ولكن يكون مجروحاً)).
(5) الكفاية: (60 ت، 23 هـ‍).
(6) قال الذهبي في الموقظة: 82: ((وقد قيل في جماعات: ((ليس بقوي)) واحتجّ به، وهذا النسائي قد قال في عدة: ((ليس بالقوي))، ويخرج لهم في كتابه قال: قولنا: ليس بالقوي ليس بجرح مفسد)).
(7) الجرح والتعديل 2/ 37.
(8) المصدر السابق.
(9) المصدر نفسه.
(10) الكفاية: (59 ت، 22 هـ‍).
تنبيه: بعد هذا في (ع): ((الحديث))، ولم ترد في شيء من النسخ ولا (م)، بل ولا حتى في الكفاية.

(1/245)


أخْبَرَنَا أبو بَكرِ بنُ عَبْدِ المنعِمِ الصَّاعِدِيُّ الفُرَاوِيُّ قِرَاءَةً عليهِ بنَيْسَابورَ، قَالَ: أخْبَرَنَا محمدُ بنُ إسْمَاعيلَ الفارِسِيُّ، قَالَ: أخْبَرَنَا أبو بكرٍ أحمدُ بنُ الحسينِ البيهقيُّ الحافِظُ، قالَ: أخْبَرَنَا أبو (1) الحسين بنُ الفَضْلِ، قَالَ: أخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنا (2) يَعقوبُ بنُ سُفيانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أحمدَ بنَ صَالِحٍ، قَالَ: ((لاَ يُتْرَكُ حديثُ رَجُلٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ الجميعُ عَلَى تَركِ حديثِهِ. قدْ يُقَالُ: فُلانٌ ضَعِيْفٌ، فأمَّا أنْ يُقَالَ: فُلاَنٌ مَتْرُوكٌ فلاَ، إلاَّ أنْ يُجْمِعَ الجميعُ عَلَى تَرْكِ حَدِيْثِهِ (3).
ومِمَّا لَمْ يَشْرَحْهُ ابنُ أبي حاتِمٍ وغَيْرُهُ مِنَ الألفاظِ (4) المستعملةِ في هذا البابِ
قَوْلُهُمْ: فُلانٌ قَدْ رَوَى الناسُ عنهُ، فُلاَنٌ وَسَطٌ، فُلاَنٌ مُقَارَبُ الحديثِ (5)، فلاَنٌ مُضْطَرِبُ الحديثِ، فُلاَنٌ لاَ يُحْتَجُّ بهِ (6)، فُلاَنٌ مَجْهُولٌ، فُلاَنٌ لاَ شيءَ، فلاَنٌ ليسَ بذَاكَ - ورُبَّمَا قِيْلَ: لَيْسَ بذَاكَ (7) القَوِيِّ - فُلاَنٌ فيهِ أو في حديثِهِ ضَعْفٌ - وهوَ في الجرْحِ أقَلُّ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلاَنٌ ضَعِيْفُ الحديثِ - فلاَنٌ مَا أعْلَمُ بهِ بَأْساً - وهوَ في التَّعْديلِ دُونَ قَوْلِهِمْ: لاَ بأسَ بهِ، وما مِنْ لَفْظَةٍ منها ومِنْ أشْبَاهِها إلاَّ وَلَها نَظِيْرٌ شَرَحْناهُ أو أصْلٍ أصَّلْنَاهُ، يُتَنَبَّهُ (8) إنْ شَاءَ اللهُ بهِ عليها، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) سقطت من (ع).
(2) في (م): ((أنبأنا)).
(3) الكفاية: (181 ت، 110 هـ‍).
(4) انظر: التقييد والإيضاح: 160 - 161.
(5) قال ابن العربي في عارضة الأحوذي 1/ 17 - 18: ((يُروى - بفتح الراء وكسرها - وبفتحها قرأته، فمن فتح أراد: أن غيره يقاربه في الحفظ، ومن كسر أراد: أنه يقارب غيره، فهو في الأول مفعول، وفي الثاني فاعل، والمعنى واحد))، وقيل غير ذلك. انظر تفصيل ذلك في نكت الزركشي 3/ 435، والتقييد: 162، والنكت الوفية: 236/ ب، ومحاسن الاصطلاح: 240، وفتح المغيث 1/ 394.
(6) انظر: التقييد: 161.
(7) في (أ) و (ب): ((بذلك)).
(8) في (م): ((ينبه)).

(1/246)