مقدمة ابن الصلاح معرفة أنواع علوم الحديث ت فحل

النَّوْعُ الثَّانِي والثَّلاَثُونَ
مَعْرِفَةُ غَرِيْبِ الْحَدِيْثِ
وهوَ عِبارةٌ عَمَّا وَقَعَ في مُتُونِ الأحاديثِ مِنَ الألفاظِ الغامِضَةِ البَعيدةِ مِنَ الفَهْمِ لِقِلَّةِ اسْتِعْمالِها.
هذا فَنٌّ مُهِمٌّ يَقْبُحُ جَهْلُهُ بأهلِ الحديثِ خاصَّةً ثُمَّ بأهلِ العِلْمِ عامَّةً، والخوضُ فيهِ ليسَ بالْهَيِّنِ، والخائِضُ فيهِ حَقِيْقٌ بالتَّحَرِّي جديرٌ بالتَّوَقِّي. رُوِّيْنا عَنِ الميْمُونِيِّ، قالَ:
__________
(1) انظر: التقييد والإيضاح: 273.
(2) في (ب): ((انفرد)).
(3) انظر: محاسن الاصطلاح: 396.
(4) سَبَقَ تخريجه.
(5) في (أ): ((المشهرة))، وفي (م): ((المشهورة)).

(1/375)


سُئِلَ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ عَنْ حَرْفٍ مِنْ غريبِ الحديثِ، فقالَ: ((سَلُوا أصْحابَ الغريبِ، فإنِّي أكرَهُ أنْ أتَكَلَّمَ في قَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالظَّنِّ فأُخْطِئَ (1))) (2).
وبَلَغَنا عَنِ التَّارِيخِيِّ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الملكِ، قالَ: حَدَّثَني أبو قِلابةَ عبدُ الملكِ بنُ مُحَمَّدٍ، قالَ: قُلْتُ للأصْمَعِيِّ: ((يا أبا سَعِيْدٍ مَا مَعْنَى قَولِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((الجارُ أحَقُّ بِسَقَبِهِ)) (3)، فقالَ: أنا لا أُفَسِّرُ حديثَ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولَكِنَّ العَرَبَ تَزعُمُ أنَّ السَّقَبَ: اللَّزِيقُ)) (4). ثُمَّ إنَّ غيرَ واحدٍ مِنَ العلماءِ صَنَّفُوا في ذَلِكَ فأحْسَنوا.
ورُوِّيْنا (5) عَنِ الحاكِمِ أبي عبدِ اللهِ الحافِظِ قالَ: ((أوَّلُ مَنْ صَنَّفَ الغريبَ في الإسلامِ النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ)) (6). ومِنْهُم مَنْ خالَفَهُ فقالَ: ((أوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فيهِ أبو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بنُ المثَنَّى))، وكتابَاهُما صَغِيرانِ (7). وصَنَّفَ بعدَ ذَلِكَ أبو عُبَيْدٍ القاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ كِتابَهُ المشهورَ فَجَمَعَ وأجادَ واسْتَقْصَى فَوَقَعَ مِنْ أهلِ العِلْمِ بِمَوْقِعٍ جَلِيلٍ، وصَارَ قُدْوَةً في هذا الشَّأْنِ. ثُمَّ تَتَبَّعَ القُتَبِيُّ (8) ما فاتَ أبا عُبَيدٍ فوضَعَ فيهِ كِتابَهُ المشهورَ ثُمَّ تَتَبَّعَ أبو سُلَيْمانَ الخطَّابِيُّ ما فاتَهُما فوضَعَ في ذَلِكَ كِتابَهُ المشهورَ.
__________
(1) انظر: العلل للإمام أحمد برواية المروذي: 217 رقم (413).
(2) في (جـ) و (م): ((فسأخطئ)).
(3) أخرجه الحميدي (552)، وأحمد 6/ 10 و 390، والبخاري 3/ 115 و 9/ 35 و 36 و 37، وأبو داود (3516)، وابن ماجه (2495)، والنسائي 7/ 320 والبغوي 8/ 242 من حديث أبي رافع.
وأخرجه ابن أبي شيبة 7/ 168، وأحمد 4/ 389 و 390، وابن ماجه (2496)، والنسائي 7/ 320، والطحاوي 4/ 324، والدارقطني 4/ 224، وابن الجارود (645)، والبيهقي 6/ 105 من حديث الشريد بن سويد.
وجاء في بعض ألفاظ الحديث: ((بصقبه)) بالصاد وهما بمعنىً؛ قَالَ ابن الأثير في النهاية 2/ 377:
((السقب بالسين والصاد في الاصل: القرب، يقال: سقبت الدار وأسقبت، أي: قربت)).
(4) انظر: شرح السنة 8/ 242.
(5) في (م): ((روينا)) بلا واو.
(6) معرفة علوم الحديث: 88.
(7) انظر: شرح التبصرة والتذكرة 2/ 396 - 397.
(8) في (أ) و (ب) و (م) والشذا والتقييد: ((القتيبي)). وقُتَيْبَةُ: هِيَ تصغير قِتيبة - بكسر القاف - وَهِيَ واحدة الأقتاب، والأقتاب: الأمعاء، وبها سمّي الرجل، والنِّسبة إليه قُتَبِيّ - بضم القاف وفتح التاء المنقوطة من فوقها باثنتين وكسر الباء المنقوطة بواحدة - والمراد به أبو أحمد، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينوري. انظر: الأنساب 4/ 431، ووفيات الأعيان 3/ 44، وسير أعلام النبلاء 13/ 296.

(1/376)


فهذهِ الكُتُبُ الثلاثَةُ أُمَّهاتُ الكُتُبِ المؤَلَّفَةِ في ذَلِكَ (1). وورَاءها مَجامِعُ تَشتملُ من ذَلِكَ عَلَى زوائدَ وفوائدَ كثيرةٍ ولا يَنبغي أنْ يُقَلِّدَ منها إلاَّ ما كانَ مُصَنِّفُوها أئِمَّةً جِلَّةً.
وأَقْوَى ما يُعْتَمدُ عليهِ في تفسيرِ غريبِ الحديثِ: أنْ يُظْفَرَ بهِ مُفَسَّراً في بعضِ رِواياتِ الحديثِ، نحوُ ما رُوِيَ في حديثِ ابنِ صَيَّادٍ (2) أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لهُ: ((قَدْ خَبَأْتُ لكَ (3) خَبِيئاً، فما هوَ؟ قالَ: الدُّخُّ)) (4). فهذا خَفِيَ مَعْناهُ وأعضَلَ. وفَسَّرَهُ قومٌ بِمَا لا يَصِحُّ. وفي "معرفةِ علومِ الحديثِ" للحاكِمِ أنَّهُ الدُّخُّ بمعنى الزَّخِّ (5) الَّذِي هوَ الجِماعُ (6)، وهذا تَخْلِيطٌ فاحِشٌ يُغِيْظُ العَالِمَ والمؤمِنَ (7) وإنَّما مَعْنى الحديثِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لهُ: قدْ أضْمَرْتُ لكَ ضَمِيراً، فما هوَ؟ فقالَ الدُّخُّ -بضمِّ الدالِ (8) - يَعْنِي: الدُّخَانَ، والدُّخُّ: هوَ الدُّخَانُ في لُغَةٍ (9)، إذْ في بعضِ رواياتِ الحديثِ ما نَصُّهُ: ثُمَّ قالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:
((إنِّي قَدْ خَبَأْتُ لكَ خَبِيئاً، وخَبَأَ لهُ: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِيْنٍ} (10). فقالَ ابن صَيَّادٍ: هوَ الدُّخُّ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ)). وهذا ثابتٌ
__________
(1) وهذه الأمهات مطبوعة متداولة.
(2) ويقال له: ((ابن صائد)) أيضاً. انظر: الإصابة 3/ 133.
(3) في (م): ((خبيئاً لك)).
(4) صحيح البخاري 8/ 49 (1354) و (1355)، وصحيح مسلم 8/ 189 (2930) من حديث ابن عمر.
(5) في (م): ((الذخ)) بالذال المعجمة.
(6) هو في مخطوطة معرفة علوم الحديث للحاكم (الورقة: 82) من نسحتنا الخطية الخاصة، وقد سقط من موضعه في المطبوعة: 91. وكثرة هذه السقوطات في هذا الكتاب جعلتنا نأخذ عَلَى عاتقنا إعادة طبعه محقّقاً تحقيقاً علمياً رصيناً رضياً - يسّر الله إتمامه وطبعه -.
(7) انظر: تعقّب الحافظ العراقي عَلَى الحاكم في شرح التبصرة 2/ 404، وانظر: تاج العروس 7/ 249.
(8) وبفتحهما أيضاً. انظر: النهاية 2/ 107، واللسان 3/ 14، والتاج 7/ 248.
(9) انظر: الصحاح 1/ 420، والمقاييس 2/ 266.
(10) الدخان: 10.

(1/377)


صحيحٌ خَرَّجَهُ التِّرمِذِيُّ (1) وغيرُهُ (2)، فَأَدْرَكَ ابنُ صَيَّادٍ مِنْ ذَلِكَ هذهِ الكَلِمَةَ فَحَسْبُ، عَلَى عادةِ الكُهَّانِ في اخْتِطافِ بعضِ الشيءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ مِنْ غيرِ وُقُوفٍ عَلَى تمامِ البيانِ. ولهذا قالَ لهُ: ((اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ))، أي: فلا مَزِيدَ لكَ عَلَى قَدْرِ إدْراكِ
الكُهَّانِ (3)، واللهُ أعلمُ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ والثَّلاَثُونَ
مَعْرِفَةُ الْمُسَلْسَلِ (4) مِنَ الْحَدِيْثِ
التَّسَلْسُلُ مِنْ نُعوتِ الأسانيدِ: وهو عبارةٌ عَنْ تتَابُعِ رجالِ الإسنادِ وتوارُدِهِمْ فيهِ، واحداً بعدَ واحدٍ، عَلَى صِفَةٍ أو حالَةٍ واحدةٍ.
__________
(1) جامع الترمذي (2249)، وقال في (2235): ((حسن صحيح)).
(2) أخرجه عبد الرزاق (20817)، وأحمد 2/ 148 و 149، والبخاري 2/ 117 (1354) و 4/ 85
(3055) و 8/ 49 (6173) و 157 (6618)، وفي الأدب المفرد (958) ومسلم 8/ 192
(2930) و 193 (2930) (96) (97)، وأبو داود (4329)، وابن حبان (6794)، والطبراني في الأوسط (9276)، وابن منده في الإيمان (1040)، والبغوي (4270).
(3) راجع: محاسن الاصطلاح 400.
(4) انظر في المسلسل:
معرفة علوم الحديث: 29 - 34، والإرشاد 2/ 554 - 558، والتقريب: 155 - 156، والاقتراح: 201 - 205، والموقظة: 43 - 44، واختصار علوم الحديث: 168 - 169 والشذا الفياح 2/ 456 - 459، والمقنع 2/ 447 - 449، وشرح التبصرة والتذكرة 2/ 405، ونزهة النظر (167) وطبعة عتر: 64 - 65، وفتح المغيث 3/ 53 - 58، وتدريب الراوي 2/ 187 - 189، وشرح السيوطي عَلَى ألفية العراقي: 158، وفتح الباقي 2: 284 - 289، وتوضيح الأفكار 2/ 414 - 416، وظفر الأماني: 287 - 323.
والمسلسل: اسم مفعول، يقال: سلسل الأشياء، وصل بعضها ببعض، كأنها سلسلة، والماء ونحوه: صَبَّهُ شيئاً فَشيئاً في حدور واتصال، وتسلسل: تتابع، يقال: تسلسل الماءُ: جرى في حدور واتصال، وشيء مسلسل متصل بعضه ببعض. انظر: المقاييس 3/ 60، واللسان 11/ 345، والمعجم الوسيط 1/ 442.

(1/378)


ويَنْقَسِمُ ذَلِكَ إلى ما يكونُ صِفَةً للروايةِ والتَّحَمُّلِ، وإلى ما يكونُ صِفَةً للرواةِ أو حالةً لهم. ثُمَّ إنَّ صِفَاتِهِمْ في ذَلِكَ وأحْوالَهُمْ أقْوالاً وأفْعَالاً ونَحْوَ ذَلِكَ تَنْقِسِمُ إلى ما لا نُحْصِيهِ. ونَوَّعَهُ الحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ الحافِظُ إلى ثَمَانِيَةِ أنواعٍ (1) والذي ذَكَرَهُ فيها إنَّما هوَ صُورٌ وأمْثِلَةٌ ثَمانِيَةٌ. ولا انْحِصارَ لِذَلِكَ في ثَمانيةٍ كما ذَكَرْناهُ (2).
ومِثَالُ ما يَكونُ صِفَةً للرِّوايةِ والتَّحَمُّلِ ما يَتَسَلْسَلُ بـ: سَمِعْتُ فلاناً قالَ: سَمِعْتُ فلاناً إلى آخِرِ الإسنادِ. أو يَتَسَلْسَلُ (3) بـ: حَدَّثَنا أو أخْبَرَنا إلى آخِرِهِ، ومِنْ ذَلِكَ أخْبَرَنا واللهِ فُلانٌ، قالَ: أخْبَرَنا واللهِ فُلانٌ إلى آخِرِهِ.
ومِثَالُ ما يَرْجِعُ إلى صِفاتِ الرواةِ وأقْوالِهِمْ ونحْوِها إسْنادُ حديثِ: ((اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَى شُكْرِكَ وذِكْرِكَ وحُسْنِ عِبَادَتِكَ)) (4)، الْمُتَسَلْسِلُ بِقَوْلِهِمْ: إنِّي أُحِبُّكَ فَقُلْ، وحديثُ التَّشْبِيْكِ باليَدِ (5)، وحديثُ العَدِّ في اليَدِ (6)، في أشْباهٍ لِذَلِكَ نَرْوِيْها وتُرْوَى كَثِيرةً، وخيرُها ما كانَ فيهِ دلالةٌ عَلَى اتِّصَالِ السَّماعِ وعدمِ التَّدْلِيسِ.
ومِنْ فَضيلةِ التسَلْسُلِ اشْتِمالُهُ عَلَى مَزيدِ الضَّبْطِ مِنَ الرواةِ، وقَلَّما تَسْلَمُ المسَلْسَلاتُ مِنْ ضَعْفٍ، أعْنِي: في وَصْفِ التَّسَلْسُلِ لا في أصلِ المتنِ. ومِنْ المسَلْسَلِ ما
__________
(1) معرفة علوم الحديث: 29.
(2) جملة: ((ولا انحصار لذلك في ثمانية كما ذكرناه)) سقطت من (م).
(3) في (م): ((ليسلسل)).
(4) أخرجه أحمد 5/ 244 و 247، وأبو داود (1522)، والنسائي 3/ 53، وفي الكبرى ... (1226) (9937) وفي عمل اليوم والليلة (109) من طريق حيوة بن شريح، قال: سمعت عقبة بن مسلم، قال: حدثني أبو عبد الرحمان الحُبُلي، عن الصنابحي، عن معاذ بن جبل، به وفي آخره:
((وأوصى بذلك معاذٌ الصنابحيَّ، وأوصى الصنابحيُّ أبا عبد الرحمان، وأوصى أبو عبد الرحمان عقبةَ بن مسلم)).
(5) مخرج في شرح التبصرة والتذكرة 2/ 406 هـ (5).
(6) أخرجه الحَاكِم في معرفة علوم الحديث: 32 - 33.

(1/379)


يَنْقَطِعُ تَسَلْسُلُهُ في وسَطِ إسْنادِهِ وذَلِكَ نَقْصٌ فيهِ وهوَ كالمسَلْسَلِ بأوَّلِ حديثٍ سَمِعْتُهُ (1) عَلَى ما هوَ الصَّحيحُ في ذَلِكَ، واللهُ أعلمُ.