مقدمة ابن الصلاح معرفة أنواع علوم الحديث ت فحل

النَّوْعُ الرَّابِعُ والثَّلاَثُونَ
مَعْرِفَةُ نَاسِخِ الْحَدِيْثِ وَمَنْسُوْخِهِ (2)
هذا فَنٌّ مُهِمٌّ مُسْتَصْعَبٌ. رُوِّيْنا عَنِ الزُّهْرِيِّ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((أعْيا الفُقَهاءَ وأعْجَزَهُمْ أنْ يَعْرِفُوا ناسِخَ حديثِ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَنْسُوخِهِ)) (3).
__________
(1) هو حديث عبد الله بن عمرو: ((الراحمون يرحمهم الرحمان ... الخ))، قال الحافظ العراقي في شرح التبصرة والتذكرة 2/ 413: وقد وقع لنا - بإسناد متصل - التسلسل إلى آخره، ولا يصح ذلك)).
وقد رواه مسلسلاً اللكنوي في ظفر الأماني 287 - 288 من طريق الحافظ العراقي.
وقد أخرجه بدون التسلسل الحميدي (591) و (592)، وابن أبي شيبة 8/ 388، وأحمد 2/ 160، والبخاري في تاريخه الكبير 9/ 64 (574)، وأبو داود (4941)، والحاكم 4/ 159، والبيهقي 9/ 41، والخطيب في تاريخه 3/ 260 و 438 جميعهم من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الراحمون يرحمهم ... الحديث)).
ولا بد من الإشارة إلى أن كثيراً من الحفاظ قد أفردوا هذا الحديث بجزء مفرد. انظر من ذلك المجلس الأول من مجالس ابن ناصر الدين الدمشقي.
(2) انظر فيه:
معرفة علوم الحديث: 85 - 88، وجامع الأصول 1/ 145 - 152، والإرشاد 2/ 559 - 565، والتقريب: 157 - 158، واختصار علوم الحديث: 169 - 170، والشذا الفياح 2/ 460 - 466، والمقنع 2/ 450 - 468، شرح التبصرة والتذكرة 2/ 414، نزهة النظر: 105 - 106، وطبعة عتر: 39، وفتح المغيث 3/ 59 - 66، وتدريب الراوي 2/ 189 - 192، وشرح السيوطي عَلَى ألفية العراقي: 161، وفتح الباقي 2/ 289 - 295، وتوضيح الأفكار 2/ 416 - 419.
قال الحافظ العراقي في شرح التبصرة والتذكرة 2/ 414: ((النسخ يطلق لغة عَلَى الإزالة، وعلى التحويل. وأما نسخ الأحكام الشرعية، وهو المحدود هنا فهو عبارة عن رفع الشارع حكماً من أحكامه سابقاً، بحكم من أحكامه لاحق)). ثُمَّ شرع في شرح هذا التعريف، فراجعه. وانظر عن معاني النسخ اللغوية: الصحاح 1/ 433، وتاج العروس 7/ 355.
(3) أخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (3)، والحازمي في الاعتبار: 18.

(1/380)


وكَانَ للشَّافِعِيِّ - رضي الله عنه - فيهِ يَدٌ طُولَى وسَابِقَةٌ أُوْلَى. رُوِّيْنا عَنْ مُحَمَّدِ بنِ مُسْلِمِ بنِ وارَةَ (1) - أحَدِ أئِمَّةِ الحديثِ - أنَّ أحمدَ بنَ حَنْبَلٍ قالَ لهُ وقدْ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ (2): ((كَتَبْتَ كُتُبَ الشَّافِعِيِّ؟ فقالَ: لا. قالَ فَرَّطْتَ، ما عَلِمْنا المجْمَلَ مِنَ المفَسَّرِ ولا ناسِخَ حديثِ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَنْسُوخِهِ حَتَّى جَالَسْنا الشَّافِعِيَّ)).
وفيمَنْ عَانَاهُ مِنْ أهلِ الحديثِ مَنْ أدخَلَ فيهِ ما ليسَ منهُ لِخَفاءِ مَعْنَى النَّسْخِ وشَرْطِهِ. وهوَ عبارةٌ عَنْ رَفْعِ الشَّارِعِ حُكْماً منهُ مُتَقَدِّماً بِحُكْمٍ منهُ مُتَأَخِّرٍ (3). وهذا حَدٌّ وَقَعَ لنا سالِمٌ مِنِ اعْتِراضاتٍ وَرَدَتْ عَلَى غيرِهِ (4).
ثُمَّ إنَّ ناسِخَ الحديثِ ومَنْسُوخِهِ يَنْقَسِمُ أقْسَاماً:
فمِنْها ما يُعْرَفُ بِتَصْرِيحِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بهِ. كَحَدِيثِ بُرَيْدَةَ (5) الذي أخرجَهُ مُسْلِمٌ في " صَحِيْحِهِ "؛ أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيارَةِ القُبُورِ، فَزُورُوها)) (6) في أشْباهٍ لِذَلِكَ.
__________
(1) ترجمته في تاريخ دمشق 55/ 388، والسير 13/ 28.
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية 9/ 97، والحازمي في الاعتبار: 3.
(3) قال العراقي في التقييد والإيضاح: 287: ((هذا الذي حده به المصنف، تبع فيه القاضي أبا بكر الباقلاني، فإنه حده برفع الحكم واختاره الآمدي وابن الحاجب قال الحازمي: وقد أطبق المتأخرون عَلَى ما حده به القاضي أنه الخطاب الدال عَلَى ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم عَلَى وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه، قال الحازمي: وهذا حدٌ صحيح ... انتهى. وقد اعترض عليه بأن التعبير برفع الحكم ليس بجيد؛ لأن الحكم قديم لا يرتفع، والجواب عنه أنَّهُ إنما المراد برفع الحكم قطع تعلقه بالمكلف، واعترض صاحب المحصول أيضاً عَلَى هذا الحد بأوجه أخر في كثير منها نظر ليس هذا موضع إيرادها)). وانظر: البحر المحيط 4/ 65، والاعتبار: 5.
(4) اعترض ابن الملقن عَلَى هذا التعريف بعدة اعتراضات، ينظر: المقنع 4/ 451 - 452.
(5) هو بريدة بن الحُصَيْب -بمهملتين- مصغراً، أبو سَهْل الأسلمي صَحابي أسلم قبل بدر. التقريب (660).
(6) صحيح مسلم 3/ 65 (977) و 6/ 82 (1977) (37) و 6/ 98 (977) (63)، وانظر تفصيل تخريجه في شرح التبصرة 2/ 417.

(1/381)


ومنها ما يُعْرَفُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، كما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ (1) وغيرُهُ عنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ أنَّهُ قالَ: ((كانَ الماءُ مِنَ الماءِ رُخْصَةً في أوَّلِ الإسلامِ ثُمَّ نُهِيَ عنها))، وكما خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ (2) عَنْ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ قالَ: ((كانَ آخِرَ الأمْرينِ مِنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرْكُ الوضوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ)) في أشْباهٍ لِذَلِكَ.
ومنها ما عُرِفَ بالتَّاريخِ، كحديثِ شَدَّادِ بنِ أوْسٍ وغيرِهِ، أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((أفْطَرَ الحاجِمُ والمحْجُومُ)) (3)، وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ: ((أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وهوَ صَائِمٌ)) (4)، بَيَّنَ (5) الشَّافِعِيُّ أنَّ الثَّانيَ ناسِخٌ للأوَّلِ مِنْ حيثُ إنَّهُ رُوِيَ في حديثِ شَدَّادٍ أنَّهُ كانَ مَعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - زَمانَ الفَتْحِ فَرَأَى رَجُلاً يَحْتَجِمُ في شَهْرِ رَمَضَانَ فقالَ: ((أفْطَرَ الحاجِمُ والمحْجُومُ)). ورُوِيَ في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وهوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ؛
فبانَ بذلكَ أنَّ الأوَّلَ كانَ زَمَنَ الفَتْحِ في سنةِ ثَمانٍ، والثَّاني في حِجَّةِ الوداعِ في
سَنَةِ عَشْرٍ.
__________
(1) جامع الترمذي (110)، وأخرجه الشافعي 1/ 35 و 36، وأحمد 5/ 115 و 116، والدارمي (765) و (766)، وابن ماجه (609)، وابن خزيمة (225) و (226)، وابن الجارود (91)، والطحاوي 1/ 7، وابن حبان (1173) و (1179)، والطبراني في الكبير (538)، والدارقطني
1/ 126، والبيهقي 1/ 165.
(2) سنن النسائي 1/ 108، وأخرجه أبو داود (192)، وابن خزيمة (43).
(3) أخرجه أحمد 4/ 123 و 124، والدارمي (1737)، وأبو داود (2368) و (2369)، وابن ماجه (1681)، والنسائي في الكبرى (3138) و (3155).
(4) أخرجه الشافعي 1/ 255، والطيالسي (2700)، وعبد الرزاق (7541)، والحميدي (501)، وعلي بن الجعد (104)، وابن أبي شيبة 3/ 51، وأحمد 1/ 215 و 222، وأبو داود (2373)، والترمذي (777)، وأبو يعلى (2471)، والطحاوي 2/ 101، والطبراني (12137)، والدارقطني 2/ 239، والبيهقي 4/ 263. وانظر: التعليق على جامع الترمذي 2/ 139.
(5) في (ب): ((ثم بيّن))، وفي (م): ((فبيّن)).

(1/382)


ومنها ما يُعْرَفُ بالإجماعِ كَحديثِ: قَتْلِ شَارِبِ الخمْرِ في المرَّةِ الرَّابِعةِ (1) فإنَّهُ منسوخٌ عُرِفَ نَسْخُهُ بانْعِقادِ الإجماعِ عَلَى ترْكِ العَمَلِ (2) بهِ. والإجماعُ لا يَنْسَخُ ولا يُنْسَخُ (3) ولكنْ يَدلُّ عَلَى وجودِ ناسِخٍ غيرِهِ (4)، واللهُ أعلمُ بالصَّوابِ (5).

النَّوْعُ الْخَامِسُ والثَّلاَثُونَ
مَعْرِفَةُ الْمُصَحَّفِ (6) مِنْ أسَانِيْدِ الأَحَادِيْثِ ومُتُونِهَا
هذا فَنٌّ جليلٌ إنَّما يَنْهَضُ بأعْبائِهِ الْحُذَّاقُ مِنَ الحفَّاظِ، والدارقطنيُّ مِنْهُم، ولهُ فيهِ تَصْنِيْفٌ مُفِيْدٌ. ورُوِّيْنا عَنْ أبي عبدِ اللهِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((ومَنْ يَعْرَى مِنَ الخطأِ والتَّصْحيفِ!؟)).
__________
(1) مخرج بتوسع في كتاب شرح التبصرة 2/ 419.
(2) في (ب): ((العلم)).
(3) لَمْ ترد في (أ) و (ب).
(4) راجع: محاسن الاصطلاح 408.
(5) ((بالصواب)) لم ترد في (ب).
(6) انظر في هذا:
معرفة علوم الحديث: 146 - 152، والإرشاد 2/ 566 - 570 والتقريب: 158 - 159، واختصار علوم الحديث: 170 - 174، والشذا الفياح 2/ 467 - 470، والمقنع 2/ 469 - 479، وشرح التبصرة والتذكرة 2/ 422 - 431، ونزهة النظر: 127 - 128، وطبعة عتر: 49، وفتح المغيث 3/ 67 - 74، وتدريب الراوي 2/ 193 - 195، وشرح السيوطي عَلَى ألفية العراقي: 156، وفتح الباقي 2/ 295، 301، وتوضيح الأفكار 2/ 419 - 422، وظفر الأماني: 282 - 287.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أن المتقدمين - ومنهم ابن الصلاح، ومتابعوه - كانوا يطلقون المصحّف والمحرّف جميعاً عَلَى شيء واحد، ولكن الحافظ ابن حجر جعلهما شيئين وخالف بينهما، وقد جرى عَلَى اصطلاحه السيوطي. قال ابن حجر في النزهة: 127: ((إن كانت المخالفة بتغيير حرف أو حروف مع بقاء صورة الخط في السياق فإن كان ذَلِكَ بالنسبة إلى النَّقْط فالمصحف، وإن كان بالنسبة إلى الشَّكْل فالمحرّف)). انظر: تدريب الراوي 2/ 195، وألفية السيوطي: 203، وتوضيح الأفكار 2/ 419 مع حاشية محيي الدين عبد الحميد.

(1/383)


فَمِثالُ التَّصْحيفِ في الإسنادِ: حديثُ شُعْبَةَ عَنِ العَوَّامِ بنِ مُرَاجِمٍ (1)، عَنْ أبي عُثْمانَ النَّهْدِيِّ (2)، عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((لَتُؤَدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلِهَا ... الحديثَ)) (3). صَحَّفَ فيهِ يَحْيَى بنُ مَعينٍ، فقالَ: ((ابنُ مُزَاحِمٍ)) - بالزاي والحاءِ (4) - فَرُدَّ عليهِ، وإنَّما هُوَ: ((ابنُ مُرَاجِمٍ)) - بالراءِ المهملةِ والجيمِ -. ومنهُ ما رُوِّيْناهُ عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ، قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ مالكٍ بنِ عُرْفُطَةَ، عَنْ عبدِ خَيْرٍ، عَنْ عائِشَةَ: ((أنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الدُّبَّاءِ (5) والْمُزَفَّتِ)) (6). قالَ أحمدُ: ((صَحَّفَ شُعبةُ فيهِ، وإنَّما هُوَ خالدُ بنُ عَلْقمةَ)) (7). وقَدْ رواهُ زَائِدَةُ بنُ قُدَامةَ وغيرُهُ عَلَى ما قالَهُ أحمدُ.
وبَلَغَنا عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ أنَّ ابنَ جريرٍ الطَّبَريَّ قالَ فيمنْ رَوَى عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بني سُلَيْمٍ: ((ومِنْهُم عُتْبَةُ بنُ البُذَّرِ)) (8)، قالَهُ بالباءِ والذَّالِ المعجمةِ ورَوَى حديثاً (9)، وإنَّما هُوَ ((ابنُ النُّدَّرِ)) بالنُّونِ والدَّالِ غيرِ المعجمةِ (10).
__________
(1) انظر: الإكمال 7/ 186.
(2) بفتح النون وسكون الهاء. التقريب (4017).
(3) أخرجه الدارقطني في العلل 3/ 64 - 65 س287، وفي المؤتلف والمختلف 3/ 2078 - 2079.
(4) في (ب): ((والحاء المهملة)).
(5) الدباء: القرع، واحدها دُبَّاءة، كانوا ينتبذون فيها فتُسرع الشدة في الشراب، وتحريم الانتباذ في هذه الظروف كان في صدر الإسلام ثُمَّ نسخ، وهو المذهب، وذهب مالك وأحمد إلى بقاء التحريم.
والمزفت: هو الإناء الذي طلي بالزفت، وهو نوع من القار ثُمَّ انتُبِذَ فيه. انظر: النهاية 2/ 96 و 304.
(6) أخرجه أحمد في المسند 6/ 244، وفيه: ((قال أبو عبد الرحمان عبد الله بن أحمد: قال أبي: إنما هو خالد بن علقمة الهمداني، وهم شعبة)).
(7) انظر: ما سبق، وانظر: علله 1/ 182.
(8) في (ع): ((الندر)) خطأ.
(9) المؤتلف والمختلف 1/ 182.
(10) بالنون المضمومة، وفتح الدال المهملة المشددة. انظر: الإكمال 1/ 218، وتبصير المنتبه 1/ 70، وشرح التبصرة 2/ 426، والتقريب (4443).

(1/384)


ومِثَالُ التَّصْحِيفِ في المتنِ: ما رواهُ ابنُ لَهِيْعةَ عَنْ كِتابِ موسَى بنِ عُقْبةَ إليهِ بإسْنادِهِ عَنْ زَيْدِ بنِ ثابِتٍ: ((أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ في المسْجِدِ)) (1)، وإنَّما هوَ بالرَّاءِ: ((احْتَجَرَ في المسجدِ بِخُصٍّ أوْ حَصِيْرٍ، حُجْرَةً يُصَلِّي فيها)). فَصَحَّفَهُ ابنُ لَهِيْعةَ؛ لِكونِهِ أخَذَهُ مِنْ كِتابٍ بِغَيْرِ سَماعٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ في كِتابِ " التمييز " (2) لهُ. وبَلَغَنا عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ في حديثِ أبي سُفيانَ، عَنْ جابِرٍ قالَ: ((رُمِيَ أُبَيٌّ (3) يومَ الأحْزابِ عَلَى أكْحَلِهِ (4) فَكَواهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -)) (5): أنَّ غُنْدراً قالَ فيهِ: ((أبي))، وإنَّما هوَ ((أُبَيٌّ))، وهوَ (6) ابنُ كَعْبٍ. وفي حديثِ أنَسٍ: ((ثُمَّ يخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قالَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وكانَ في قَلْبِهِ مِنَ الخيرِ ما يَزِنُ ذَرَّةً))، قالَ فيهِ شُعبةُ: ((ذُرَةً)) - بالضمِّ والتخفيفِ (7) -، ونُسِبَ فيهِ إلى التَّصحيفِ. وفي حديثِ أبي ذَرٍّ: ((تُعِينُ الصَّانِعَ))،
__________
(1) أخرجه البخاري 8/ 34 (6113)، ومسلم 2/ 188 (781). وأخرجه البخاري أيضاً 1/ 186
(731)، و 9/ 117 (7290)، ومسلم 2/ 188 بلفظ: ((اتَّخذَ حُجْرةً)).
(2) التمييز: 187، وقال: ((هذه رواية فاسدة من كل جهة، فاحش خطؤها في المتن والإسناد جميعاً، وابن لهيعة المصحف في متنه المغفل في إسناده)). وانظر: الأباطيل للجورقاني 2/ 9.
(3) قال النووي: ((بضم الهمزة وفتح الباء وتشديد الياء، هكذا صوابه، وكذا هو في الروايات والنسخ، وهو أُبي بن كعب، وصحفه بعضهم، فقال: بفتح الهمزة وكسر الباء وتخفيف الياء، وهو غلط فاحش؛ لأن أبا جابر استشهد يوم أحد قَبْلَ الأحزاب بأكثر من سنة)). شرح صحيح مسلم 5/ 57.
(4) الأكحل: هو عِرْق في اليد في وسط الذراع. انظر: اللسان 11/ 586.
(5) أخرجه أحمد 3/ 303 و 304 و 315 و 371، وعبد بن حميد (1018)، ومسلم 7/ 22 (2207)، وأبو دواد (3864)، وابن ماجه (3493)، وأبو يعلى (2287) و (2288)، وأبو عوانة في الإتحاف 3/ 172، والطحاوي في شرح المعاني 4/ 321، والحاكم 4/ 214 و 417، والبيهقي 9/ 342.
(6) في (م) والشذا: ((وإنما هو أُبَيّ بن كعب))، وفي (ع) والتقييد: ((وإنما هو أُبَيّ وهو أُبَيّ بن كعب)).
(7) أخرجه أحمد 3/ 116 و 173 و 276، وعبد بن حميد (1173)، وأخرجه البخاري 1/ 17 (44) و 9/ 149 (7410)، ومسلم 1/ 125 (193) (325)، وابن ماجه (4312)، والترمذي (2593).

(1/385)


قالَ فيهِ هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ - بالضَّادِ المعجمةِ - وَهُوَ تصحيفٌ، والصوابُ ما رواهُ الزُّهْرِيُّ
((الصَّانِعَ)) - بالصادِ المهملة (1) -: ضدُّ الأَخْرَقِ (2). وبَلَغَنا عَنْ أبي زُرْعةَ الرَّازِيِّ أنَّ يَحْيَى ابنَ سَلاَّمٍ (3) - هوَ المفَسِّرُ - حدَّثَ عَنْ سَعِيدِ بنِ أبي عَرُوبةَ عَنْ قَتادَةَ في قَولِهِ تَعَالَى: {سَأُرِيْكُمْ دَارَ الفَاسِقِيْنَ} (4)، قالَ: ((مِصْرُ)) واسْتَعْظَمَ أبو زُرْعةَ هذا واسْتَقْبَحهُ وذَكَرَ أنَّهُ في تفسيرِ سَعيدٍ عَنْ قَتَادةَ ((مَصِيْرُهُمْ)) (5).
وبَلَغَنا عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ أنَّ مُحَمَّدَ بنَ المثَنَّى أبا مُوسَى العَنَزِيَّ (6) حَدَّثَ بحديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يأتِي أحدُكُمْ يَومَ القِيامةِ بِبَقَرَةٍ لها خُوارٌ)) (7)، فقالَ فيهِ: ((أو شَاةٍ
__________
(1) قال الحافظ العراقي في شرح التبصرة والتذكرة 2/ 423: ((وكقول هشام بن عروة في حديث أبي ذر: ((تعين ضايعاً)) بالضاد المعجمة، والياء آخر الحروف، والصواب بالمهملة والنون))، ومثله في تدريب الراوي 2/ 114.
وهذا جزء من حديث أخرجه البخاري 3/ 188 (2518)، ومسلم 1/ 62 (84) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي مُرَاوح، عن أبي ذرٍّ، قال: قلتُ: يا رسول الله ... وفيهما: ((تعين صانعاً))، وعند مسلم أيضاً بلفظ: ((فتعين الصانع))، هكذا في الأصول المطبوعة لـ" الصحيحين ": ((صانعاً)) - بالصاد المهملة والنون - ومثل ذَلِكَ في مسند الحميدي (131)، ومسند الإمام أَحْمَد 5/ 150
و5/ 171، وفي فتح الباري 5/ 148: ((ضائعاً))، وفي عمدة القاري 13/ 79: ((ضايعاً)). وانظر تفصيل ذَلِكَ في: شرح مسلم للنووي 1/ 271، وفتح الباري 5/ 149، وعمدة القاري 13/ 80.
(2) الأخرق: هو الذي ليس بصانع ولا يحسن العمل، يقال: رجل أخرق: لا صنعة له، والجمع: خُرْق
- بضم ثُمَّ سكون - وامرأةٌ خرقاء كذلك. انظر: فتح الباري 5/ 149.
(3) هو أبو زكريا، يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة البصري، نزيل المغرب بإفريقية، توفي سنة (200 هـ‍).
انظر: الجرح والتعديل 9/ 155، والكامل 9/ 123، وميزان الاعتدال 4/ 380، والسير 9/ 396.
(4) الأعراف: 145.
(5) في (ب): ((مصر))، وهذا القول ذكرته كتب التفسير عن مجاهد، والذي ذكروه عن قتادة أنه قال: ((منازلهم))، وقال أيضاً: ((الشام))، وقال أيضاً: ((مصر)). انظر: تفسير الطبري 9/ 41، وتفسير البغوي 2/ 234، والبحر المحيط 4/ 389، والدر المنثور 3/ 562، والقصة في الضعفاء لأبي زرعة 2/ 340.
(6) بفتح النون والزاي. التقريب (6264)، والأنساب 4/ 221.
(7) خار يَخُورُ خُوَاراً - بالضم - صاح، والخُوَار: هو صياح البقر في الأصل، ثُمَّ توسعوا فيه فأطلقوه عَلَى صياح جميع البهائم. انظر: التاج 11/ 231.

(1/386)


تَنْعَرُ)) (1) - بالنُّونِ - وإنَّما هوَ: ((تَيْعَرُ)) (2) - بالياءِ المثناةِ مِنْ تحتُ -. وأنَّهُ قالَ لهمْ يوماً: ((نَحْنُ قَوْمٌ لنا شرَفٌ، نحنُ مِنْ عَنَزَةَ (3)، قَدْ صَلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلينا))، يُرِيدُ ما رُوِيَ ((أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى إلى عَنَزَةَ)) (4)، تَوَهَّمَ أنَّهُ صَلَّى إلى قَبِيلَتِهِمْ، وإنَّما العَنَزَةُ هاهنا حَرْبَةٌ نُصِبَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَصَلَّى إليها (5).
وأظْرَفُ (6) مِنْ هذا ما رُوِّيْناهُ عَنِ الحاكِمِ أبي عبدِ اللهِ عَنْ أعرابيٍّ زَعَمَ أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا صَلَّى نُصِبَتْ بَيْنَ يَديهِ شاةٌ، أي: صَحَّفَها عَنْزَةً - بإسْكانِ النُّونِ (7) -. وعَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ أيضاً: أنَّ أبا بكرٍ الصُّولِيَّ (8) أمْلَى في الجامِعِ حديثَ أبي أيُّوبَ: ((مَنْ صَامَ
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي 1/ 295 (631).
وهذا الجزء أخرجه الحميدي (840)، وأحمد 5/ 423، والدارمي (1676) و (2496)، والبخاري 8/ 162 (6637)، ومسلم 6/ 12 (1832) (27)، ونَعَر يَنْعَِرُ، كـ: ((منع وضرب)): صاحَ وصَوَّتَ بخَيْشُومِهِ. تاج العروس 14/ 257.
(2) تَعَرَ، كـ: ((منع))، أي: صاحَ يَتْعَرُ تَعْراً. انظر: التاج 10/ 286.
(3) بفتح العين المهملة والنون. انظر: الأنساب 4/ 221، وتاج العروس 15/ 248.
(4) هذه إشارة إلى حديث ورد عن جماعة من الصحابة. انظر مثلاً: مسند أحمد 4/ 308، وصحيح البخاري 2/ 25 (973)، وصحيح مسلم 2/ 55 (501) (246)، وابن ماجه (1304).
(5) انظر: الصحاح 3/ 887، والتاج 15/ 247.
(6) في ب (وأطرف) بالطاء المهملة.
(7) أخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث: 148 - 149.
(8) هو محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس بن محمد بن صول، أبو بكر المعروف بالصوليِّ، كان أحد العلماء بفنون الآداب، حسن المعرفة بأخبار الملوك وأيام الخلفاء، ومآثر الأشراف، وطبقات الشعراء، توفي سنة خمس وثلاثين وثلاث مئة. انظر: تاريخ بغداد 3/ 427، ومعجم الأدباء 19/ 109، والسير 15/ 301.
والصولي: بضم الصاد المهملة، وفي آخرها اللام، هذه النسبة إلى صول، وهو اسم لبعض أجداده. الأنساب 3/ 572.

(1/387)


رَمَضانَ وأتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ)) (1)، فقالَ فيهِ: ((شَيْئاً)) بالشِّيْنِ والياءِ (2). وأنَّ أبا بكرٍ الإسْماعِيليَّ (3) الإمامَ كانَ فيما بَلَغَهُمْ عنهُ يَقُولُ في حديثِ عائِشَةَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الكُهَّانِ: ((قَرَّ الزُّجاجَةِ)) بالزاي، وإنَّما هُوَ (4) ((قَرَّ الدَّجاجةِ)) (5) بالدالِ. وفي حديثٍ يُروَى عنْ مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ قالَ: ((لَعَنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الذينَ يُشَقِّقُونَ الخُطَبَ تَشْقِيْقَ الشِّعْرِ)) (6). ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ وَكيعٍ أنَّهُ قالهُ مَرَّةً بالحاءِ المهملَةِ (7)، وأبو نُعَيمٍ شاهِدٌ، فَرَدَّهُ عليهِ بالخاءِ المعجمةِ المضمومةِ. وقرأْتُ بِخَطِّ مُصَنِّفٍ أنَّ ابنَ شاهِينَ قالَ في جامعِ المنصورِ في الحديثِ: ((إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ تَشْقِيقِ الْحَطَبِ)) فقالَ بعضُ الملاَّحينَ: يا قومُ، فكيفَ نعملُ والحاجَةُ ماسَّةٌ؟
__________
(1) حديث أبي أيوب: أخرجه الطيالسي (594)، وعبد الرزاق (7918)، والحميدي (381) و (382)، وابن أبي شيبة 3/ 97، وأحمد 5/ 417 و 419، وعبد بن حميد (228)، والدارمي (1761). ومسلم 3/ 169 (1164)، وأبو داود (2433). وابن ماجه (1716)، والترمذي (759)، والطحاوي في شرح المشكل (2337) و (2338)، وابن حبان (3634)، والبيهقي 4/ 392، والبغوي (1780).
(2) تاريخ بغداد 3/ 431.
(3) إنَّ حمل ذلك التصحيف على الإسماعيلي وحده فيه نظر، فقد اختلف فيه رواة الصحيح. انظر: تفصيل ذلك في شرح النووي 5/ 84، وفتح الباري 10/ 220.
(4) لَمْ ترد في (ب) و (م).
(5) قرَّ الدجاجة، أي: صوتها إذا قطعته، يقال: قرَّتِ الدجاجةُ تقُرُّ قَرّاً وقَريراً إذا قطعت صوتها. انظر: جامع الأصول 5/ 64، وتاج العروس 13/ 391.
(6) الجامع 1/ 292 رقم (619)، يعني: ((الخُطب))، والحديث في مسند الإمام أحمد 4/ 98 قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن عمرو بن يحيى، عن معاوية، قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يُشَقِّقُونَ الكلام تشقيق الشِّعْرِ)) وهو كذلك في مجمع الزوائد 8/ 116.
وأخرجه الطبراني في الكبير 19/ 311 حديث (848) من طريق أبي نعيم، عن سفيان، ولفظه: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يشَقِّقُون الْخُطَب تَشْقِيقَ الشِّعْر))، وهو كذلك في المجمع 2/ 191، والحديث ضعيف لتفرد جابر الجعفي به.
(7) أي: الحطب - بالحاء المهملة المفتوحة بدل الخاء المعجمة المضمومة -.

(1/388)


قُلْتُ: فَقَدِ انْقَسَمَ التَّصْحِيفُ إلى قِسْمَيْنِ: أحَدُهُما في المتْنِ، والثاني في الإسنادِ.
ويَنْقَسِمُ قِسْمَةً أُخْرَى إلى قِسْمَينِ:
أحدُهُما: تَصْحِيفُ البَصَرِ، كما سَبَقَ عَنِ ابنِ لَهِيْعَةَ وذلكَ هوَ الأكثرُ.
والثاني: تَصْحِيفُ السَّمْعِ، نحوُ حديثٍ لـ ((عاصِمٍ الأحْوَلِ)) رواهُ بعضُهُمْ فقالَ: ((عَنْ واصِلٍ الأحْدَبِ)) فَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أنَّهُ مِنْ تَصْحِيفِ السَّمْعِ لا مِنْ تَصْحِيفِ
البَصَرِ، كأَنَّهُ ذَهَبَ - واللهُ أعلمُ - إلى أنَّ ذَلِكَ مِمَّا لا يشتبهُ مِنْ حيثُ الكِتابَةُ وإنَّما أخْطَأَ فيهِ سَمْعُ مَنْ رواهُ.
ويَنْقَسِمُ قِسْمةً ثالِثَةً:
- إلى تصحيفِ اللَّفظِ وهو الأكثرُ.
- وإلى تصحيفِ يتعلَّقُ بالمعنى دُونَ اللفْظِ، كمثلِ ما سَبَقَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ المثنَّى في الصلاةِ إلى عَنَزَةَ. وتسميةُ بعضِ ما ذَكَرْناهُ تَصْحِيفاً مَجازٌ، واللهُ أعلم.
وكثيرٌ مِنَ التَّصْحيفِ المنقولِ عَنِ الأكَابِرِ الجِلَّةِ لهم فيهِ أعْذارٌ لَمْ يَنْقُلها ناقِلُوهُ (1)، ونسألُ اللهَ التَّوفيقَ والعِصْمةَ، واللهُ أعلمُ.