مقدمة ابن الصلاح معرفة أنواع علوم الحديث ت فحل النَّوْعُ السَّادِسُ والثَّلاَثُونَ
مَعْرِفَةُ مُخْتَلِفِ الْحَدِيْثِ (2)
__________
(1) في (م): ((ناقلوها)).
(2) انظر فيه:
معرفة علوم الحديث: 122 - 128، وإرشاد طلاب الحقائق 2/ 571 -
575 والتقريب: 159 - 161، واختصار علوم الحديث: 174 - 175،
والشذا الفياح 2/ 471 - 476، والمقنع 2/ 480 - 482، وفتح
المغيث 3/ 75 - 78، وتدريب الراوي 2/ 196 - 202، وتوضيح
الأفكار 2/ 423 - 426. ولا بدَّ من الإشارة إلى أن المراد بـ
((مختلف الْحَدِيْث)) يختلف في الاصطلاح باختلاف ضبط كلمة:
((مختلف)) فَمِنَ المحدِّثين مَنْ ضبطها - بكسر اللام - عَلَى
وزن اسم الفاعل. ويكون المراد
بـ ((مختلف الْحَدِيْث)) عَلَى هَذَا: ((الْحَدِيْث الَّذِي
عارضه - ظاهراً - مثله)). =
(1/389)
وإنَّمَا يَكْمُلُ لِلْقِيامِ بهِ
الأئِمَّةُ الجامِعونَ بَيْنَ صِناعَتَي: الحديثِ والفِقْهِ،
الغَوَّاصُونَ عَلَى المعاني الدقيقةِ (1).
اعْلَمْ أنَّ ما يُذْكَرُ في هذا البابِ يَنْقَسِمُ إلى
قِسْمَينِ:
أحدُهُما أنْ يُمْكِنَ الجَمْعُ بَيْنَ الحديثينِ ولا يتعذَّرُ
إبداءُ وَجْهٍ يَنْفِي تَنافِيَهُما، فيتَعَيَّنُ حِيْنَئذٍ
المصيرُ إلى ذَلِكَ والقولُ بهما معاً.
ومِثَالُهُ حديثُ: ((لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ)) (2) معَ حديثِ:
((لا يُورِدُ مُمْرِضٌ (3) عَلَى مُصِحٍّ)) (4)، وحديثُ:
((فِرَّ مِنَ المجذومِ (5) فِرَارَكَ مِنَ الأسَدِ)) (6).
وَجْهُ الجمْعِ (7) بينَهُما أنَّ هذهِ الأمراضَ لا تُعْدِي
بِطَبْعِها ولكِنَّ اللهَ تباركَ وتَعَالَى جَعَلَ مُخَالَطَةَ
المريضِ بها للصَّحيحِ سَبَباً لإعدائِهِ مَرَضَهُ (8). ثُمَّ
قَدْ يتَخَلَّفُ ذَلِكَ عَنْ سَبَبِهِ كما في سائِرِ
الأسْبابِ.
__________
= ومنهم من ضبطها - بفتح اللام - عَلَى أنّه مصدر ميمي، بمعنى:
أنّه الْحَدِيْث الَّذِي وقع فِيْهِ الاختلاف، ويكون المراد
حينئذٍ بـ ((مختلف الحديث))، ((أن يأتي حديثان متضادان في
المعنى ظاهراً))، أي أن التعريف عَلَى الضبط الأول يُراد به
الحديث نفسه في حين يُراد بالتعريف على الضبط الثاني التضاد
والاختلاف نفسه، ويلاحظ تقييد التعارض -في التعريف- بكونه
ظاهراً؛ وذلك لأنّ التعارض: ((الحقيقي)) في الثابت من سنن
النبي - صلى الله عليه وسلم - محالٌ. انظر: مختلف الحديث بين
المحدِّثين والأصولين والفقهاء: 25 - 26.
(1) انظر: محاسن الاصطلاح 414، وشرح التبصرة والتذكرة 2/ 433.
(2) أخرجه البخاري 7/ 179 (5772)، ومسلم 7/ 31 (2220) (102).
والطِّيَرة - بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن - هي التشاؤم
بالشيء، وكان ذلك يَصُدُّهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله
ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جَلْب نَفْع أو دَفْع
ضرّ. انظر: النهاية 3/ 152.
(3) الممرض - بضم الميم الأولى وسكون الثانية وكسر الراء بعدها
ضاد معجمة -: هو اسم فاعل. والمصح - بضم الميم وكسر الصاد
المهملة وتشديد الحاء -. انظر: عمدة القاري 21/ 288.
(4) أخرجه البخاري 7/ 179 (5771)، ومسلم 7/ 31 (2221) من حديث
أبي هريرة.
(5) الْجُذام: مرض وخيم ربما انتهى إلى تقطّع أطراف اليد
وسقوطها عن تقرح، ويفسد مزاج الأعضاء وهيأتها. متن اللغة 1/
496.
(6) أخرجه البخاري 7/ 164 (5707).
(7) للعلماء مسالك متعددة في الجمع بين هذه الأحاديث. انظر:
فتح الباري 10/ 160.
(8) في الشذا: ((مرضاً)).
(1/390)
فَفِي الحديثِ الأوَّلِ نَفَى - صلى الله
عليه وسلم - ما كانَ يَعْتَقِدُهُ الجاهِلِيُّ (1) مِنْ أنَّ
ذَلِكَ يُعْدِي بِطَبْعِهِ ولهذا قالَ: ((فَمَنْ أعْدَى
الأوَّلَ؟)). وفي الثاني أعلَمَ بأنَّ اللهَ سُبْحانَهُ جَعَلَ
ذَلِكَ سَبَباً لِذَلِكَ، وحَذَّرَ مِنَ الضَّرَرِ الَّذِي
يَغْلِبُ وجُودُهُ عِنْدَ وجُودِهِ بِفِعْلِ اللهِ سُبْحانَهُ
وتَعَالَى، ولهذا في الحديثِ أمثالٌ كثيرةٌ (2). وكتابُ "
مُختلِفِ الحديثِ " لابنِ قُتَيْبَةَ في هَذَا المعنى، إنْ
لَمْ يكنْ قدْ أحسَنَ فيهِ مِنْ وجْهٍ، فَقَدْ أسَاءَ في
أشْياءَ منهُ قَصُرَ باعُهُ فِيْهَا، وأتَى بِمَا غيرُهُ
أَوْلَى وأقْوَى. وقَدْ رُوِّيْنا عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إسْحاقَ
بنِ خُزَيمةَ الإمامِ أنَّهُ قالَ: ((لا أعرِفُ أنَّهُ رُوِيَ
عَنِ النبيِّ (3) - صلى الله عليه وسلم - حديثانِ -بإسْنادَينِ
صحيحينِ- مُتَضَادَّيْنِ، فَمَنْ كانَ عِنْدَهُ فليَأْتِنِي
بهِ لأُؤَلِّفَ بَيْنَهُما)) (4).
القِسْمُ الثَّانِي: أنْ يَتَضَادَّا بحيثُ لا يُمْكِنُ
الْجَمْعُ بَيْنَهُما، وذَلِكَ عَلَى ضَرْبَينِ:
أحَدُهُما: أنْ يَظْهَرَ كَونُ أحَدِهِما ناسِخاً والآخَرُ
مَنْسُوخاً، فَيُعْمَلُ بالنَّاسِخِ ويُتْرَكُ المنسُوخُ.
والثَّاني: أنْ لا تَقُومَ دلالةٌ عَلَى أنَّ الناسِخَ
أيُّهُما والمنسُوخَ أيُّهُما، فَيُفزَعَ حِيْنَئذٍ إلى
التَّرْجِيحِ ويُعْمَلَ بالأرْجَحِ منْهُما والأثْبَتِ،
كالتَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّواةِ، أوْ بِصِفاتِهِمْ في
خمسينَ وَجْهاً مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحاتِ وأكثرَ (5)،
ولِتَفصِيلها موضِعٌ غيرُ (6) ذا، واللهُ سُبْحانَهُ أعلمُ.
__________
(1) في (م): ((الجاهل)).
(2) راجع: محاسن الاصطلاح 415.
(3) في (م) و (جـ): ((عن رسول الله)).
(4) انظر: شرح التبصرة والتذكرة 2/ 433.
(5) ذكرها الحازمي في كتابه الاعتبار: 7 - 15، وسردها العراقي
في شرح التبصرة 2/ 435 - 438، وانظر: الكفاية (609 - 610 ت،
434 - 436 هـ).
(6) وقد ذكر الحافظ العراقي ما يزيد على المئة، فلتراجع في
التقييد: 286، وانظر: شرح التبصرة
2/ 435.
(1/391)
النَّوْعُ السَّابِعُ والثَّلاَثُونَ
مَعْرِفَةُ الْمَزِيْدِ في مُتَّصِلِ الأَسَانِيْدِ (1)
مِثَالُهُ: ما رُوِيَ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ المباركِ، قالَ:
حَدَّثَنا (2) سُفْيانُ، عَنْ
عبدِ الرَّحمانِ بنِ يَزيدَ بنِ جابِرٍ، قالَ: حَدَّثَني
بُسْرُ (3) بنُ عُبَيْدِ اللهِ، قالَ سَمِعْتُ أبا إدْرِيْسَ،
يَقُولُ: سَمِعْتُ واثِلَةَ بنَ الأسْقَعِ، يقولُ: سَمِعْتُ
أبا مَرْثِدٍ (4) الغَنَوِيَّ (5)، يقولُ سَمِعْتُ رسولَ اللهِ
- صلى الله عليه وسلم -، يقولُ: ((لاَ تَجْلِسُوا عَلَى
القُبُورِ ولا تُصَلُّوا إليها)) فَذِكْرُ سُفيانَ في هذا
الإسنادِ زيادةٌ وَوَهَمٌ (6)، وهكذا ذِكْرُ أبي إدْرِيسَ:
أمَّا الوَهَمُ في ذِكْرِ سُفْيانَ فَمِمَّنْ دُونَ ابنِ
المبارَكِ (7)؛ لأنَّ جماعةً ثِقَاتٍ (8) رَوَوْهُ عَنِ ابنِ
المباركِ عَنِ ابنِ جابرٍ نفسِهِ،
__________
(1) انظر في هذا النوع:
الإرشاد 2/ 576 - 580، والتقريب: 161 - 162، واختصار علوم
الحديث: 176 - 177، والشذا الفياح 2/ 477 - 478، والمقنع 2/
483 - 486، وشرح التبصرة والتذكرة 2/ 440، وفتح المغيث 3/ 79 -
82، وتدريب الراوي 2/ 203 - 204، وشرح السيوطي على ألفية
العراقي: 170، وفتح الباقي 2/ 306 - 310، وتوضيح الأفكار 2/ 64
- 67.
قال ابن كثير: هو أن يزيد راوٍ في الإسناد رجلاً لَمْ يذكُرْهُ
غيرُهُ. وقال ابن حجر: هو ما كانت المخالفة فيه بزيادة راوٍ في
أثناء الإسناد، ومن لَمْ يزدها أتقن ممن زادها. قال: وشرطه أن
يقع التصريح بالسماع في موضع الزيادة، وإلاَّ فمتى كان معنعناً
- مثلاً - ترجحت الزيادة. انظر: اختصار علوم الحديث 2/ 485،
ونزهة النظر: 126.
(2) في (م): ((أخبرنا)).
(3) في (جـ): ((بشر)) بالشين المعجمة، وهو خطأ، صوابه ما أثبت،
وهو الموافق لمصادر ترجمته، فهو بضم الباء وبالسين المهملة.
انظر: الإكمال 1/ 268، وتهذيب الكمال 1/ 341.
(4) بفتح الميم وسكون الراء بعدها مثلثة. التقريب (5666).
(5) بفتح الغين المعجمة والنون، وكسر الواو. الأنساب 4/ 288.
(6) يُقال: وَهِمَ يَوْهَمُ وَهَماً - بالتحريك - إذا غلِطَ.
انظر: النهاية 5/ 234.
(7) بعد هذا في (ع): ((لا من ابن المبارك))، ولم ترد في شيء من
النسخ الخطية ولا (م).
(8) الطرق والروايات مفصلة في شرح التبصرة 2/ 444 - 446.
(1/392)
ومِنْهُم مَنْ صَرَّحَ فيهِ بلفظِ
الإخْبارِ بَيْنَهُما. وأمَّا ذِكْرُ أبي إدْريسَ فيهِ فابنُ
المباركَ مَنْسُوبٌ فيهِ إلى الوَهَمِ؛ وذلكَ لأنَّ جماعةً
مِنَ الثقاتِ رَوَوْهُ عَنِ ابنِ جابرٍ فلمْ يَذكروا أبا
إدْرِيسَ بَيْنَ بُسْرٍ وواثِلَةَ. وفيهم مَنْ صَرَّحَ فيهِ
بسماعِ بُسْرٍ مِنْ واثلةَ. قالَ أبو حاتِمٍ الرازيُّ:
((يُرَوْنَ أنَّ ابنَ المباركِ وَهِمَ في هذا (1)، قالَ:
وكثيراً ما يُحَدِّثُ بُسْرٌ عَنْ أبي إديسَ فَغَلِطَ ابنُ
المباركِ وظَنَّ أنَّ هذا مِمَّا رُوِيَ عَنْ أبي إدرِيسَ عَنْ
واثِلَةَ، وقَدْ سَمِعَ هذا بُسْرٌ مِنْ واثِلَةَ نفسِهِ))
(2).
قلتُ: قدْ ألَّفَ الخطيبُ الحافظُ في هذا النوعِ كِتاباً
سَمَّاهُ كتابَ " تَمْييزِ المزيدِ في مُتَّصِلِ الأسَانِيدِ
". وفي كثيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ نَظَرٌ؛ لأنَّ الإسْنادَ
الخالِيَ عَنِ الرَّاوِي الزائِدِ، إنْ كانَ بلفظَةِ ((عَنْ))
في ذَلِكَ فينْبَغِي أنْ يُحْكَمَ بإرْسالِهِ، ويُجْعَلَ
مُعَلَّلاً بالإسْنادِ الَّذِي ذُكِرَ فيهِ الزائِدُ؛ لما (3)
عُرِفَ في نوعِ المعلَّلِ، وكما يأتِي ذِكْرُهُ إنْ شاءَ اللهَ
تَعَالَى في النوعِ الذي يليهِ. وإنْ كانَ فيهِ تَصريحٌ
بالسماعِ أو بالإخْبارِ كما في المثالِ الذي أوْردناهُ،
فجائِزٌ أنْ يَكونَ قد سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رجلٍ عنهُ، ثُمَّ
سَمِعَهُ منهُ نَفسُهُ، فيكونُ بُسْرٌ في هذا الحديثِ قدْ
سَمِعَهُ مِنْ أبي إدْريسَ عَنْ واثِلةَ، ثُمَّ لَقِيَ واثلةَ
فسَمِعَهُ منهُ كما جاءَ مِثْلُهُ مُصَرَّحاً بهِ في غيرِ هذا،
اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ تُوجدَ قرينةٌ تدلُّ عَلَى كونِهِ
وَهَماً، كَنَحْوِ ما ذكرَهُ أبو حاتِمٍ في المثالِ المذكورِ.
وأيضاً فالظَّاهِرُ مِمَّنْ وقَعَ لهُ مِثْلُ ذَلِكَ أنْ
يَذْكُرَ السَّماعَيْنِ، فإذا لَمْ يَجِئْ عنهُ ذِكْرُ ذَلِكَ
حَمَلْناهُ عَلَى الزيادةِ المذكورةِ (4)، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) العلل لابنه 1/ 80 (213).
(2) نقله ابن أبي حاتم في علله 1/ 80 عن أبيه. وانظر: العلل
أيضاً 1/ 349.
(3) في (م): ((كما)).
(4) راجع: محاسن الاصطلاح: 418.
(1/393)
|