مقدمة ابن الصلاح معرفة أنواع علوم الحديث ت فحل

النَّوْعُ السَّادِسُ والأَرْبَعُونَ
مَعْرِفَةُ مَنِ اشْتَرَكَ في الرِّوَايَةِ عَنْهُ رَاوِيَانِ (1) مُتَقَدِّمٌ وَمُتَأَخِّرٌ
تَبَايَنَ (2) وَقْتُ وَفَاتَيْهِما تَبَايُناً شَدِيْداً فَحَصَلَ بَيْنَهُمَا أَمَدٌ بَعِيْدٌ وإنْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا غَيْرَ مَعْدُودٍ مِنْ مُعَاصِرِي الأَوَّلِ وَذَوِي طَبَقَتِهِ (3)
ومِنْ فَوائدِ ذَلِكَ تَقْرِيرُ حَلاوَةِ عُلُوِّ الإسْنادِ في القُلُوبِ. وقَدْ أفْرَدَهُ الخطيبُ الحافِظُ في كِتابٍ حَسَنٍ سَمَّاهُ كِتابَ: " السَّابِقِ واللاَّحِقِ ".
ومِنْ أمثَلتِهِ أنَّ مُحَمَّدَ بنَ إسْحَاقَ الثَّقَفِيَّ السَّرَّاجَ النَّيْسَابُوريَّ رَوَى عنهُ البُخَارِيُّ الإمامُ في " تاريخِهِ " ورَوَى عنهُ أبو الحسِيْنِ (4) أحمدُ بنُ مُحَمَّدٍ الخفَّافُ (5) النَّيْسَابُوريُّ وبَيْنَ وفَاتَيْهِما مئةٌ وسبعٌ وثلاثُونَ سَنَةً أو أكْثَرُ، وذَلِكَ أنَّ البُخَارِيَّ ماتَ سَنَةَ سِتٍّ وخَمْسِينَ ومِئَتَينِ، وماتَ الخفَّافُ سَنَةَ ثَلاثٍ وتِسْعِيْنَ وثلاثِ مئةٍ، وقيلَ: ماتَ في سنةِ أربعٍ أوْ خمسٍ وتِسعينَ وثلاثِ مئةٍ (6). وكذلكَ مالِكُ بنُ أنَسٍ الإمامُ: حَدَّثَ عنهُ الزُّهْرِيُّ وزَكَرِيّا بنُ دُوَيدٍ (7) الكِنْدِيُّ وبَيْنَ وفَاتَيْهِما مِئةٌ وسَبْعٌ وثلاثُونَ سَنَةً أوْ أكْثَرُ إذْ
__________
(1) سَمَّاه ابن كثير والعراقي وابن حجر والسخاوي وغيرهم: السابق واللاحق. انظر: اختصار علوم الحديث 2/ 559، وشرح التبصرة 3/ 102، ونزهة النظر: 162، وفتح المغيث 3/ 158.
(2) في (جـ): ((تباعد)).
(3) انظر في ذلك:
الإرشاد 2/ 640 - 642، والتقريب: 171، واختصار علوم الحديث: 205، والشذا الفياح 2/ 570 - 572، محاسن الاصطلاح: 491، والمقنع 2/ 547 - 548، وشرح التبصرة والتذكرة 3/ 102، ونزهة النظر: 162، وطبعة عتر: 62، وفتح المغيث 3/ 183 - 186، وتدريب الراوي 2/ 262 - 263، وشرح السيوطي على ألفية العراقي: 213، وفتح الباقي 3/ 101، وتوضيح الأفكار 2/ 480 - 481.
(4) كذا في النسخ و (م) والشذا والتقييد، وكثير من مصادر ترجمته، وفي (ع): ((الحسن))، ومثله في شذرات الذهب 3/ 145، ولعله تصحيف.
(5) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الفاء الأولى، هذه الحرفة لعمل الخفاف التي تلبس. الأنساب 2/ 442.
(6) انظر: السابق واللاحق: 325.
(7) بدالين مهملتين، الأولى مضمومة تليها واو مفتوحة، ثُمَّ مثناة تحت ساكنة. انظر: المؤتلف والمختلف للدراقطني 2/ 1008، والإكمال 3/ 387.

(1/424)


ماتَ مالِكُ بنُ أنَسٍ سنةَ تِسْعٍ وتسعينَ ومئةٍ، وماتَ الزُّهْرِيُّ سنةَ أربعٍ وعِشرينَ ومئةٍ. ولَقَدْ حَظِيَ مالِكٌ بكَثيرٍ مِنْ هذا النوعِ، واللهُ أعلمُ.

النَّوْعُ السَّابِعُ والأَرْبَعُونَ
مَعْرِفَةُ مَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلاَّ رَاوٍ وَاحِدٌ (1) مِنَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْنَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ (2)
ولِمُسْلِمٍ فيهِ كِتابٌ لَمْ أرَهُ (3)، ومِثَالُهُ مِنَ الصَّحابةِ: وَهْبُ بنُ خَنْبَشٍ (4) وهوَ في كِتَابَي الحاكِمِ وأبي نُعَيْمٍ الأصْبهانِيِّ في " معرفَةِ عُلُومِ الحديثِ ": هَرِمُ بنُ خَنْبَشٍ، وهوَ روايةُ دَاودَ الأوْدِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وذلكَ خَطَأٌ صحابيٌّ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ الشَّعْبِيِّ. وكذلكَ عامِرُ بنُ شَهْرٍ، وعُرْوةُ بنُ مُضَرِّسٍ (5)، ومُحَمَّدُ بنُ صَفْوانَ الأنْصَارِيُّ، ومُحَمَّدُ بنُ صيْفِيِّ الأنصارِيُّ (6) - وليْسا بواحِدٍ وإنْ قالَهُ بعضُهُمْ - صَحابِيُّونَ لَمْ يَرْوِ عَنْهُم غيرُ الشَّعْبِيِّ (7). وانفرَدَ (8) قيسُ بنُ أبي حازِمٍ بالروايةِ عَنْ أبيهِ. وعَنْ دُكَيْنِ بنِ سعيدٍ الْمُزَنِيِّ،
__________
(1) ويطلق عليه أيضاً مصطلح: ((الوُحْدَان)) - بضم الواو - جمع واحد. انظر: تدريب الراوي 2/ 150، وشرح ألفية السيوطي لأحمد شاكر 251، وتوضيح الأفكار 481.
(2) انظر في ذلك: معرفة علوم الحديث 157 - 161، والإرشاد 2/ 643 - 650، والتقريب: 171 - 173، واختصار علوم الحديث: 206 - 208، والشذا الفياح 2/ 573 - 579، والمقنع 2/ 549 - 561، وشرح التبصرة والتذكرة 3/ 104، وفتح المغيث 3/ 187 - 189 وتدريب الراوي 2/ 264 - 268، وشرح السيوطي على ألفية العراقي: 213، وفتح الباقي 3/ 103 - 107، وتوضيح الأفكار 2/ 481 - 482.
(3) قال الحافظ العراقي في شرح التبصرة 3/ 105: ((وصَنَّف فيهِ مسلمٌ كتابه المسمَّى بكتاب " المنفردات والوُحْدان "، وعندي به نسخة بخطِّ محمد بن طاهر المقدسي، ولم يره ابنُ الصلاح كما ذكر)).
قلنا: وهذا الكتاب مطبوع، وقد حصل خلاف في اسمه. انظره في مقدمة محقق كتاب التمييز لمسلم: 109.
(4) بفتح الخاء المعجمة - وتكسر - بعدها نون ساكنة وياء مفتوحة معجمة بواحدة وآخره شين معجمة. انظر: الإكمال 2/ 341، وتاج العروس 17/ 195.
(5) بمعجمة ثُمَّ راء مشددة مكسورة ثُمَّ مهملة. التقريب (4568).
(6) انظر: التقييد 351.
(7) انظر: محاسن الاصطلاح 492.
(8) انظر: التقييد 352.

(1/425)


والصُّنَابِحِ (1) بنِ الأعْسَرِ، ومِرْدَاسِ (2) بنِ مالِكِ الأسَلمِيِّ، وكُلُّهُمْ صَحابةٌ.
وقُدَامةُ بنُ عبدِ اللهِ الكِلابيُّ مِنْهُم، لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ أيْمَنَ بنِ نابِلٍ. وفي الصَّحابةِ جَماعَةٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُم غيرُ أبنائِهِمْ، مِنْهُم: شَكَلُ (3) بنُ حُمَيْدٍ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ ابنِهِ شُتَيْرٍ (4)، ومِنْهُم الْمُسَيِّبِ بنُ حَزْنٍ (5) القُرَشِيُّ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ ابنِهِ سَعيدِ بنِ المسَيِّبِ، ومُعَاوِيةُ بنُ حَيْدَةَ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ ابنِهِ حَكيمٍ والِدُ بَهْزٍ، وقُرَّةُ بنُ إياسٍ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ ابنِهِ مُعاوِيةَ، وأبو ليْلَى الأنصَارِيُّ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ ابنِهِ عبدِ الرَّحمانِ بنِ أبي لَيْلَى.
ثُمَّ إنَّ الحاكِمَ (6) أبا عبدِ اللهِ حَكَمَ في " المدخلِ إلى كِتابِ الإكلِيلِ " (7) بأنَّ أحَداً مِنْ هذا القَبِيلِ لَمْ يُخَرِّجْ عنهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ في " صَحِيحهما "، وأُنْكِرَ ذَلِكَ عليهِ ونُقِضَ عليهِ بإخْراجِ (8) البُخَارِيِّ في " صحيحهِ " حديثَ قيسِ بنِ أبي حازِمٍ عَنْ مِرْداسٍ الأسْلَمِيِّ: ((يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأوَّلُ فالأوَّلُ)) (9)، ولا رَاوِيَ لهُ غيرُ قَيْسٍ. وبإخْرَاجِهِ بلْ بإخْرَاجِهِما حديثَ المسَيِّبِ بنِ حَزْنٍ في وَفَاةِ أبي طَالِبٍ (10) مَعَ أنَّهُ لا رَاوِيَ لهُ غيرُ ابنِهِ، وبإخْرَاجِهِ حديثَ الحسَنِ البَصْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بنِ تَغْلِبَ: ((إنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ والذي أدَعُ أحبُّ إليَّ)) (11)، ولَمْ يَرْوِ عَنْ عَمْرٍو غيرُ الحسَنِ. وكَذَلِكَ أخْرَجَ مُسْلِمٌ في
__________
(1) بضم أوله ثُمَّ نون وموحدة ومهملة. التقريب (2953).
(2) بكسر أوله وسكون الراء. التقريب (6553).
(3) شَكَل بفتحتين. التقريب (2820).
(4) بالتصغير. التقريب (2847).
(5) بفتح المهملة وسكون الزاي. التقريب (6774).
(6) وتابعه تلميذه البيهقي في ذلك. انظر: السنن الكبرى 4/ 105.
(7) المدخل: 33.
(8) انظر: التقييد 353.
(9) أخرجه البخاري 8/ 114 (6434)، والبيهقي 10/ 122.
(10) أخرجه البُخَارِيّ 2/ 119 (1360)، ومسلم 1/ 40 (24).
(11) صحيح البخاري 2/ 13 (923) و 4/ 114 (3145) و 9/ 191 (7535)، وهو عند أحمد في المسند 5/ 69 كلاهما من طريق جرير بن حازم، عن الحسن، قال: حدثنا عمرو بن تغلب ... .
وأخرج له البخاري 4/ 51 حديثاً آخر من طريق جرير عن الحسن، قال: حدثنا عمرو بن تغلب مرفوعاً: ((إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً ينتعلون نعال الشعر وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً عراض الوجوه، كأن وجوههم المجان المطرقة)).

(1/426)


"صَحيحِهِ" حديثَ رافِعِ بنِ عَمْرٍو الغِفَارِيِّ، ولَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ عبدِ اللهِ بنِ الصَّامِتِ (1)، وحديثَ أبي رِفَاعةَ العَدَوِيِّ ولَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ حُمَيْدِ بنِ هِلاَلٍ العَدَوِيِّ (2)، وحديثَ الأغَرِّ الْمُزَنِيِّ: ((إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي)) (3)، ولَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ أبي بُرْدَةَ في أشْياءَ كَثِيْرَةٍ عِنْدَهُما في كِتابَيْهِما عَلَى هذا النَّحْوِ، وذَلِكَ دَالٌّ عَلَى مَصِيرِهِما إلى أنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَجْهُولاً مَرْدُوداً بِرِوايةِ واحِدٍ عنهُ، وقَدْ قَدَّمْتُ هذا في النَّوعِ الثَّالِثِ والعِشْرِينَ.
ثُمَّ بَلَغَنِي عَنْ أبي عُمَرَ بنِ عبدِ البرِّ الأندلسِيِّ وِجَادَةً، قالَ: ((كُلُّ مَنْ لَمْ يرْوِ عنهُ إلاَّ رَجُلٌ واحِدٌ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مَجْهُولٌ إلاَّ أنْ يَكُونَ رَجُلاً مَشْهُوراً في غيرِ حَمْلِ العِلْمِ كاشْتِهارِ مالِكِ بنِ دِينارٍ بالزُّهْدِ، وعَمْرِو بنِ مَعْدِيْ كَرِبٍ بالنَّجْدَةِ)) (4).
واعْلَمْ أنَّهُ قَدْ يُوجدُ في بعضِ مَنْ ذَكَرْنا تَفَرُّدُ راوٍ واحِدٍ عنهُ خِلافٌ في تَفَرُّدِهِ، ومِنْ ذَلِكَ قُدَامَةُ بنُ عبدِ اللهِ، ذَكَرَ ابنُ عبدِ البرِّ أنَّهُ رَوَى عنهُ أيضاً حُمَيْدُ بنُ كِلاَبٍ (5)، واللهُ أعلمُ.
ومِثَالُ هذا النَّوعِ في التَّابعينَ: أبو العُشَراءِ الدَّارِمِيُّ لَمْ يَرْوِ عنهُ - فيما نَعْلَمُ (6) - غيرُ حَمَّادِ بنِ سَلَمةَ. ومَثَّلَ الحاكِمُ لهذا النَّوعِ في التَّابعينَ بـ: مُحَمَّدِ بنِ أبي سُفْيانَ الثَّقَفِيِّ وذَكَرَ أنَّهُ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ الزُّهْرِيِّ فِيْمَا يُعْلَمُ (7)، قالَ: وكَذَلِكَ تَفَرَّدَ الزُّهْرِيُّ عَنْ نَيِّفٍ وعِشْرِينَ رَجُلاً مِنَ التَّابعينَ لَمْ يَرْوِ عَنْهُم غيرُهُ، وكَذَلِكَ عَمْرُو بنُ دِيْنارٍ تَفَرَّدَ عَنْ جَماعةٍ مِنَ التَّابعينَ، وكَذَلِكَ يَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ الأنْصَارِيِّ، وأبو إسْحاقَ السَّبِيْعِيُّ، وهِشَامُ بنُ عُرْوَةَ وغيرُهُمْ (8)، وسَمَّى الحاكِمُ مِنْهُم في بعضِ المواضِعِ فيمَنْ تَفَرَّدَ عَنْهُم عَمْرُو بنُ
__________
(1) صحيح مسلم 3/ 116 (1067) (158).
(2) صحيح مسلم 3/ 15 (876).
(3) أخرجه مسلم 2/ 72 (2702).
(4) انظر: محاسن الاصطلاح 496.
(5) الاستيعاب 3/ 262.
(6) في (أ) و (جـ): ((يعلم)).
(7) في (أ): ((نعلم)).
(8) معرفة علوم الحديث: 160.

(1/427)


دينارٍ: عبدَ الرَّحمانِ بنَ مَعْبَدٍ، وعبدَ الرَّحمانِ بنَ فَرُّوخٍ (1)، وفِيْمَنْ تَفَرَّدَ عَنْهُم الزُّهْرِيُّ عَمْرَو بنَ أبانَ بنِ عُثْمانَ، وسِنانَ بنَ أبي سِنانٍ الدُّؤَلِيَّ. وفيْمَنْ تَفرَّدَ عنهُمْ يَحْيَى (2): عبدَ اللهِ بنَ أنيسٍ الأنصاريَّ. ومثَّلَ في أتْباعِ التَّابِعينَ بالمِسْوَرِ بنِ رِفَاعةَ القُرَظِيِّ وذَكَرَ أنَّهُ لَمْ يَرْوِ عنهُ غيرُ مالِكٍ. وكذلكَ تَفَرَّدَ مالِكٌ عَنْ زُهَاءِ عَشَرةٍ مِنَ شُّيُوخِ المدينةِ (3).
قُلْتُ: وأخْشَى أنْ يَكُونَ الحاكِمُ في تَنْزِيلِهِ بَعضِ مَنْ ذَكَرَهُ بالْمَنْزِلَةِ التي جَعَلَهُ فيها، مُعْتَمِداً عَلَى الحِسْبانِ والتَّوَهُّمِ، واللهُ أعلمُ.