تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب ط ابن حزم

الفصل الثالث: التخريج وأهميته
أولا: معنى التخريج
لم يضع الأقدمون لكلمة تخريج تعريفا اصطلاحيا كما هو مفهوم عندنا اليوم؛ وذلك لأنهم كانوا يعرفون الحديث بمجرد معرفة رجال سنده؛ لخبرتهم بها، ثم إنهم كانت لهم دراية ومعرفة بكتب الحديث1.
وكانت المستخرجات تعني عندهم: أن يعمد المحدث إلى كتاب من كتب السنن فيخرجه بإسناده، بحيث لا يخرجه من طريق صاحب الكتاب إلا لضرورة, فيجتمع معه في شيخه، أو من فوقه ولو في الصحابي؛ كمستخرج الحُمَيْدي على الصحيحين, وأبي نُعيم على مسلم2.
والتخريج في لغة المتقدمين, واستعمالاتهم: يطلق على ذكر الحديث بسنده. يقال: أخرجه البخاري، أي: ساقه مسندا3.
على أن كلمة الاستخراج تعني في اللغة: الاستنباط4.
وأما التخريج بالمعنى الاصطلاحي اليوم: فهو عزو الحديث إلى مصدره أو مصادره، من كتب السنة المشرفة، وتتبع طرقه وأسانيده، وحال رجاله، وبيان درجته عند الحاجة5.
وإن ما ذكر في معناه الاصطلاحي مع المعنى علاقة, فهو عبارة عن استخلاص حكم على الحديث واستنباطه، من خلال جمع طرقه، ومعرفة حال رجاله.
__________
1 انظر أصول التخريج ودراسة الأسانيد 15-18.
2 انظر فتح المغيث للسخاوي 1/ 39-42, وتدريب الراوي 1/ 111-116.
3 انظر أصول التخريج ص10.
4 انظر القاموس المحيط, مادة خرج 1/ 192.
5 انظر فتح المغيث للسخاوي 2/ 338, وأصول التخريج ص11, 12.

(1/47)


ثانيا: أهمية هذا الفن
مما لا شك فيه، أن هذا الفن من الفنون المهمة جدا، وتزداد أهميته يوما بعد آخر، وفي زماننا اليوم هو أكثر أهمية؛ وذلك لقصر باع المتعلمين، وخاصة في ميدان الحديث وعلومه، وذلك لتعدد مشاغل الإنسان، وانصراف الناس عن العلوم الشرعية إلى الدنيا وزينتها.
ومما يزيد من أهميته أيضا، كثرة المتكلمين، وتلويحهم بكلام ما أنزل الله به من سلطان، مسطرا في بعض الكتب، سيق فيها الغث والسمين، وضعها مؤلفوها اعتمادا منهم على ذكر أسانيدها. والقارئ كان إذ ذاك فطنا عارفا مميزا لا يخفى عليه حالها، ولو استشكل عليه شيء منها ما كان عنده من الصعوبة ما يحول بين معرفة ذلك لوفرة العلماء العارفين المحققين. فأخذ أعداء الله يشككون، ويتقولون على الإسلام بما ليس فيه، وهو مما يقولون براء، وهم به يموهون على البسطاء، ويستحوذون به على هوى الخبثاء ... فلما كانت الحالة هذه كان من الضروري، والضروري جدا، تبيين حال هذه الأحاديث، وسبر طرقها، وبيان ما صح وما لم يصح، وتوضيح ما خفي معناه وما استشكل مراده ... على أن هناك كتبا أخرى، تلقاها العلماء، وطلاب العلم بالقبول، فأقبلوا عليها دراسة، وفهما، واستظهارا، وفيها أحاديث كثيرة لم تبين صحتها من سقمها، ومن هذه الكتب: كتاب مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه. على أن هذه المهمة لم يغفلها أئمتنا الأعلام، وسلفنا الصالح؛ فقاموا بالمهمة خير قيام، فوضعوا فيها المؤلفات القيمة النافعة، التي لا يستغني عنها طالب علم، ومن هذه الكتب كتابنا "تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب" للإمام العلامة، الحافظ، الناقد, أبي الفداء عماد الدين بن كثير القرشي, عليه رحمة الله تعالى.
ولكن مما يحز في القلب: أن أغلب هذه الكتب لا تزال على رفوف المكتبات العتيقة، تنتظر أولي الهمم، ومن ينفض عنها غبار القرون الطوال، وإن ما طبع منها يعد قليلا جدا؛ لذا فإنه من الواجب على كل غيور على الإسلام، أن ينتبه لهذه المهمة، فيقوم بدوره في شأنها، وعلى المؤسسات

(1/48)


والجامعات الإسلامية أن تساهم في طبع هذه المؤلفات ونشرها وتيسيرها لطلاب العلم وعشاق المعرفة, وبذلك تكون قد أدت واجبا من أهم الواجبات عليها، وقامت بخدمة جليلة من أهم الخدمات، وأنجزت عملا مشكورا في الدنيا ومحمود العاقبة في الأخرى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1.
ولأهمية هذا الفن ودقته، لا يستطيع أن يتصدى له إلا من أُوتي حظا من العلم وفيرا، ومن الصبر على البحث شيئا كثيرا، وإن العمل في هذا الميدان هو عمل خطير؛ إذ التعامل فيه مع نصوص منسوبة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 2. فكلامه ليس ككلام أي أحد من الناس؛ فمن كذب عليه تبوأ مقعده من النار3, ومن نفى عنه كلاما هو قائله، وهو يعلم صحة نسبته إليه فويل له من عذاب الملك الجبار، فليتق الله من كانت مهمته هذه، فلا يقول إلا بعد تثبت, ولا يحكم إلا بعد تحرٍّ، فلا يقول بالهوى فيضل عن السبيل المستقيم ... {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .
__________
1 سورة القصص: الآية 60.
2 سورة النجم: الآية 4.
3 جاء في الحديث المتواتر الذي رواه الشيخان وغيرهما عن عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- منهم أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار".
صحيح البخاري 1/ 53 كتاب العلم, باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم.

(1/49)


ثالثا: جهود الحافظ ابن كثير في هذا الفن
لا بد لنا أن نقدم لهذا بشيء يسير عن جهود الإمام الحافظ ابن كثير -عليه رحمة الله- في السنة النبوية المشرفة1, فأقول وبالله التوفيق:
لا يخفى على طالب العلم, ما بذله الإمام ابن كثير في خدمة العلم عامة، والسنة النبوية بشكل خاص، وإن آثاره العظيمة في ذلك لهي شاهدة بذلك. ففي تفسيره للقرآن العظيم، جعل تفسير القرآن بالسنة بعد تفسير القرآن بالقرآن2، وهو في ذلك يورد الروايات في تفسير الآية، ويصحح ما صح، ويبين المعلول. فانظر مثلا في تفسيره 2/ 332-335 عند تفسير قوله تعالى:
{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 3.
فقد صدر الباب بحديث البخاري، ثم جاء بأحاديث أخرى وعزاها إلى مخرجيها، وذكر روايات، وحكم على بعضها بالصحة وأخرى بالضعف, وهكذا في كل تفسيره.
وفي كتاب البداية والنهاية, وهو كتاب في التاريخ، انظره كيف يسوق الروايات في حادثة معينة، ثم يبين ما بها. فانظر مثلا في 6/ 123-125 في معجزاته -صلى الله عليه وسلم- باب انقياد الشجر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، صدّر الباب برواية الإمام مسلم، ثم ساق في الباب روايات أخرى بأسانيدها وحكم عليها, حتى إن الحافظ ابن حجر جمع ما في هذا الكتاب من الأحاديث والآثار، وجعلها في مصنف مستقل، أسماه: "ما ورد من الرواية في البداية والنهاية"4.
وإذا نظرنا إلى جهوده في تآليفه المستقلة, في الحديث خاصة، وجدناها جهودا جبارة، وأعمالا عظيمة، تنوء بها الجماعات والمؤسسات فما بالنا بالأفراد, فانظر كتابه الضخم "جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سَنَن"5، جمع فيه ما يربو على المائة ألف حديث، من عشر كتب هي
__________
1 كتب في هذا الموضوع فضيلة الشيخ الدكتور العجمي الدمنهوري خليفة رسالة دكتوراه بعنوان "جهود الحافظ ابن كثير القرشي في علم الحديث رواية ودراية" ونال بها درجة الدكتوراه من جامعة الأزهر.
2 انظر مقدمة التفسير 1/ 3-6, وانظر الإمام ابن كثير المفسر ص225-247.
3 سورة التوبة: الآية 3.
4 انظر جهود الحافظ ابن كثير ص173-189.
5 توجد منه نسخة بدار الكتب المصرية بخط الحافظ في 78 ورقة تحت رقم 522-444 تاريخ. ومصورة في جامعة الدول العربية تحت رقم 771.
انظر الحافظ ابن كثير وجهوده ص65.

(1/50)


الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، ومسند الإمام أبي بكر البزار، ومسند الحافظ أبي يعلى الموصلي، والمعجم الكبير للطبراني -رحمهم الله تعالى- وربما زاد عليها كما ذكر في المقدمة، ورتب كتابه هذا على مسانيد الصحابة، ورتبهم على حروف المعجم، وترجم للصحابي الذي له رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه يبين الأحاديث التي فيها ضعف شديد. ويقع في بضع عشرة مجلدات، كما قال الحافظ في مقدمة الكتاب1. وإن عمل الحافظ ابن كثير هذا -والأعمال المماثلة من غيره من العلماء, عليهم رحمة الله تعالى جميعا- فيه دلالة واضحة على حفظ الله تعالى لهذا الدين العظيم، إذ أعيدت كتب السنة في مصنفات عديدة بتراتيب مختلفة؛ فإذا لم نقف على كتاب معين وقفنا على ما فيه في كتاب آخر، وهكذا. فلم يضيع حرف من دين الله، بفضل ما هيأ الله تعالى من وسائل حفظه, فله الحمد والمنة.
__________
1 انظر مقدمة الكتاب ل 13, وانظر الحافظ ابن كثير وجهوده ص120-129.

(1/51)


جهود الحافظ ابن كثير في التخريج، فهي على ضربين:
أما الضرب الأول: فيتمثل في كلامه على الأحاديث والروايات التي يأتي بها في كتبه، مستدلا بها على موضوع معين، فهو يجمع طرقها، ويتكلم على رجالها، ويحكم عليها. وقد أشرنا إلى موضعين منها في التفسير، وفي البداية والنهاية.
أما الضرب الثاني: فهو ما قام به من تصنيف مستقل في هذا الباب؛ ككتاب إرشاد الفقيه، وتحفة الطالب.
ففي إرشاد الفقيه إلى أدلة التنبيه, باب ما يكره لبسه وما لا يكره، قال: عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: "نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه" أخرجاه. وعن علي -رضي الله عنه- قال: "أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذهبا بيمينه، وحريرا بشماله، فقال: "هذان حرام على ذكور أمتي" ".

(1/51)


رواه أبو داود, والنسائي، وابن ماجه، وفي إسناده اختلاف.
وعن أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها".
رواه أحمد, والنسائي، والترمذي وصححه، وإسناده على شرط البخاري ومسلم.
عن ابن عباس، قال: "إنما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الثوب المصمّت من الحرير، فأما العلم من الحرير، وسدا الثوب فلا بأس به" رواه أبو داود, وفي إسناده: خصيف بن عبد الرحمن الجزري، وقد اختلف فيه.
عن عبد الرحمن بن طرفة "أن جده عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكُلاب، فاتخذ أنفا من وَرِق فأنتن عليه، فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتخذ أنفا من ذهب".
رواه أحمد, وأبو داود, والنسائي، والترمذي، وقال: حسن غريب. وروي عن عبد الله بن أحمد "أن عثمان كان يشبك أسنانه بالذهب".
عن أنس "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخّص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام في قميص الحرير في سفر, من حكة كانت بهما" أخرجاه1, انتهى.
وكتابه تحفة الطالب بين يديك.
__________
1 إرشاد الفقيه ل 85.

(1/52)