غريب الحديث للقاسم بن سلام بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
لقى وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ: من أحبّ لِقَاء اللَّه أحب
اللَّه لقاءه وَمن كره لِقَاء اللَّه كره اللَّه لقاءه. وَهَذَا
الحَدِيث يحملهُ أَكثر النَّاس على كَرَاهَة الْمَوْت وَلَو كَانَ
الْأَمر هَكَذَا لَكَانَ / الْأَمر ضيقا شَدِيدا لِأَنَّهُ بلغنَا عَن
غير وَاحِد من 72 / ب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَنه كرهه
حِين نزل بِهِ وَكَذَلِكَ كثير من الصَّالِحين وَلَيْسَ وَجهه عِنْدِي
أَن يكون يكره عَلَز الْمَوْت وشدته هَذَا لَا يكَاد يَخْلُو مِنْهُ
أحد وَلَكِن الْمَكْرُوه من ذَلِك الإيثار للدنيا والركون إِلَيْهَا
وَالْكَرَاهَة أَن يصير إِلَى اللَّه وَإِلَى الدَّار الْآخِرَة ويؤثر
الْمقَام فِي الدُّنْيَا.
(3/1)
وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن اللَّه جلّ
ثَنَاؤُهُ قد عَابَ قوما فِي كِتَابه بحب الْحَيَاة الدُّنْيَا
فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِيْنَ لَا يَرْجُوْنَ لِقَاءَنَا وَرَضُوْا} -
الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى
حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِيْنَ أَشْرَكُوْا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ
يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ
أَبَدَاً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ} فِي آي كثير فَهَذَا الدَّلِيل
على أَن الْكَرَاهَة للقاء اللَّه عز وَجل لَيْسَ بِكَرَاهَة الْمَوْت
إِنَّمَا هُوَ الْكَرَاهَة للنقلة عَن الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَة
ومخافة الْعقُوبَة لما قدمت أَيْديهم. وَقد جَاءَ بَيَان ذَلِك فِي
حَدِيث عَن رَسُول اللَّه صلي اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: من
أحبّ لِقَاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه وَمن كره لِقَاء اللَّه كره
اللَّه لقاءه وَالْمَوْت دون لِقَاء اللَّه. قَالَ أَبُو عبيد: أَفلا
ترى أَن الْمَوْت غير اللِّقَاء لله تَعَالَى وَإِنَّمَا وَقعت
الْكَرَاهَة على اللِّقَاء دون الْمَوْت وَقد رُوِيَ فِي حَدِيث آخر
أَنه قيل لَهُ:
(3/2)
كلنا نكره الْمَوْت فَقَالَ: إِنَّه إِذا
كَانَ ذَلِك كشف لَهُ. وهُوَ أشبه بذلك الْمَعْنى أَيْضا.
أرك وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه أُتِيَ بِلَبن إبل أوارك وَهُوَ
يعرفهُ فَشرب مِنْهُ أَتَاهُ بِهِ الْعَبَّاس [بْن عبد الْمطلب -]
رَحمَه الله تَعَالَى. قَالَ الْكسَائي وَغَيره [قَوْله -] : الأوارك
هِيَ الْإِبِل المقيمة فِي الْأَرَاك تَأْكُله يُقَال مِنْهُ: قد أركت
تأرِك وتأرُك اُروكا إِذا أَقَامَت فِيهِ تَأْكُله وَهِي إبل آرِكة على
مِثَال فاعلة وَجَمعهَا أوارك قَالَ الْكسَائي: فَإِن اشتكت بطونا
عَنهُ قيل: هِيَ إبل أراكي فَإِن كَانَ ذَلِك من الرمث قيل: رَماثيَ
وَإِن كَانَ من الطلح قيل: طلاحي. وَفِي هَذَا
(3/3)
الحَدِيث من الْفِقْه أَنهم إِنَّمَا
أَرَادوا أَن يعرفوا أصائم رَسُول اللَّه صلي اللَّه عَلَيْهِ وَسلم
بِعَرَفَة أم غير صَائِم لِأَن الصَّوْم هُنَاكَ يكره لأهل عَرَفَة
خَاصَّة مَخَافَة أَن يضعفهم عَن الدُّعَاء. وَمِمَّا يبين ذَلِك
حَدِيث ابْن عمر أَنه سُئِلَ عَن صَوْم يَوْم عَرَفَة فَقَالَ: حججْت
مَعَ رَسُول اللَّه صلي اللَّه عَلَيْهِ وَسلم فَلم يصمه وَمَعَ أبي
بكر فَلم يصمه وَمَعَ عمر فَلم يصمه وَمَعَ عُثْمَان فَلم يصمه وَلَا
أَنا أصومه وَلَا آمُر بصيامه وَلَا أنهِي عَنهُ.
شهر وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه سُئِلَ: أَي الصَّوْم أفضل بعد شهر
رَمَضَان فَقَالَ: شهر اللَّه الْمحرم. قَوْله: شهر اللَّه الْمحرم
أرَاهُ [قد -] نسبه إِلَى اللَّه [تبَارك وَتَعَالَى -] وَقد علمنَا
أَن الشُّهُور كلهَا لله [تَعَالَى -] وَلكنه إِنَّمَا ينْسب إِلَيْهِ
عز وَجل كل شَيْء يعظم ويشرف وَكَانَ سُفيان بْن عُيَيْنَة يَقُول: إِن
قَول اللَّه تَعَالَى: {وَاعْلَمُوْا اَنَّمَا غَنِمْتُمْ مَّنْ شَيْءٍ
فَاَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ} وَقَوله:
(3/4)
{مَا أفاءَ اللهُ عَلى رَسُوْلِه مِنْ
أَهْلِ الْقٌرَى فَلِلّهِ وَلِلرَّسُوْلِ} فنسب الْمغنم والفيء إِلَى
نَفسه وَذَلِكَ أَنَّهُمَا أشرف الْكسْب إِنَّمَا هما بمجاهدة الْعَدو
قَالَ: وَلم يذكر ذَلِك عِنْد الصَّدَقَة فِي قَوْله: {إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنِ} وَلم يقل: لِلهِ
وَلِلْفُقَرَاءِ لِأَن الصَّدَقَة أوساخ النَّاس واكتسابها مَكْرُوه
إِلَّا للْمُضْطَر إِلَيْهَا.
صمم قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
وَكَذَلِكَ عِنْدِي قَوْله: شهر اللَّه الْمحرم إِنَّمَا هُوَ على
جِهَة التَّعْظِيم لَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جعله حَرَامًا لَا يحل
فِيهِ قتال وَلَا سفك دم. وَفِي بعض الحَدِيث: شهر اللَّه الأصمْ.
وَيُقَال: إِنَّمَا سَمَّاهُ الْأَصَم لِأَنَّهُ حرمه فَلَا يسمع فِيهِ
قعقعة سلَاح وَلَا حَرَكَة قتال وَقد حرّم غَيره من الشُّهُور وَهُوَ
ذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة
(3/5)
وَرَجَب وَلم يذكر فِي هَذَا الحَدِيث غير
المحرّم وَذَلِكَ فِيمَا نرى وَالله أعلم لِأَن فِيهِ يَوْم عَاشُورَاء
فَضله بذلك على ذِي الْقعدَة وَرَجَب 73 / الف وَأما ذُو الّحجة / فنرى
إِنَّمَا ترك ذكره عِنْد الصَّوْم لِأَن فِيهِ الْعِيد وَأَيَّام
التَّشْرِيق. وَأما حَدِيثه الآخر فِي ذكر الْأَشْهر الْحرم فَقَالَ:
وَرَجَب مُضر الَّذِي بَين جمادي وَشَعْبَان. فَإِنَّمَا سَمَّاهُ
رَجَب مُضر لِأَن مُضر كَانَت تعظمه وتحرمه وَلم يكن يستحله أحد من
الْعَرَب إِلَّا حَيَّان: خثعم وطيء فَإِنَّهُمَا كَانَا يستحلان
الشُّهُور وَكَانَ الَّذين يُنسِئون الشُّهُور أَيَّام الْمَوْسِم
يَقُولُونَ: حرمنا عَلَيْكُم الْقِتَال فِي هَذِه الْأَشْهر إِلَّا
دِمَاء المحلّين فَكَانَت الْعَرَب تستحل دِمَاءَهُمْ خَاصَّة فِي
هَذِه الشُّهُور لذَلِك.
(3/6)
جدد
حصد وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه
نهي عَن جدَاد (جَداد) اللَّيْل وَعَن حَصاد اللَّيْل. قَوْله: [نهى
عَن -] جدَاد (جَداد) اللَّيْل يَعْنِي أَن تُجدّ النّخل لَيْلًا
والجداد (الجداد) الصرام. يُقَال: إِنَّمَا نهى عَن ذَلِك لَيْلًا
لمَكَان الْمَسَاكِين أَنهم كَانُوا يحضرونه فَيتَصَدَّق عَلَيْهِم
مِنْهُ لقَوْله [تبَارك و -] تَعَالَى {وآتُوْا حَقَهُ يَوْمَ
حَصَادِه} فَإِذا فعل ذَلِك لَيْلًا فَإِنَّمَا هُوَ فارّ من
الصَّدَقَة فَنهى عَنهُ لهَذَا وَيُقَال: بل نهى عَنهُ لمَكَان
الْهَوَام أَن لَا تصيب النَّاس إِذا حصدوا أَو جدوا لَيْلًا
وَالْقَوْل الأول أعجب إلىّ وَالله أعلم.
صفن وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي يحدثه عَنهُ الْبَراء بْن عَازِب
قَالَ: كُنَّا إِذا صلينَا مَعَه فَرفع رَأسه من الرُّكُوع قمنا
(3/7)
خَلفه صُفُونا فَإِذا سجد تَبِعْنَاهُ.
قَوْله: صُفُونا يُفَسر الصَّافِن تفسيرين فبعض النَّاس يَقُول: كل
صافّ قَدَمَيْهِ قَائِما فَهُوَ صَافِن وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك حَدِيث
عِكْرِمَة أَنه كَانَ يصلّي وَقد صفن بَين قَدَمَيْهِ وَاضِعا إِحْدَى
يَدَيْهِ على الْأُخْرَى. وَالْقَوْل الآخر: إِن الصَّافِن من الْخَيل
الَّذِي قد قلب أحد حَوَافِرِهِ وَقَامَ على ثَلَاث [قَوَائِم -]
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك قَوْله {فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا صواف}
هَكَذَا هِيَ فِي قِرَاءَة ابْن عَبَّاس وفسرها معقولة إِحْدَى يَديهَا
على ثَلَاث قَوَائِم وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: صَوَافِن قَالَ:
يَعْنِي قيَاما.
صفف قَالَ أَبُو عبيد:
(3/8)
وَقد اجْتمعت قِرَاءَة ابْن عَبَّاس وَابْن
مَسْعُود على صَوَافِن. قَالَ وعَن مُجَاهِد قَالَ: من قَرَأَهَا:
صَوَافِن أَرَادَ معقولة وَمن قَرَأَهَا: صوافّ أَرَادَ بهَا قد صفّت
يَديهَا فكلاهما لَهُ معنى. وَقد رُوِيَ عَن الْحسن غير هَاتين
الْقِرَاءَتَيْن قَرَأَهَا: صوافي وَقَالَ: خَالِصَة لله
صفا قَالَ أَبُو عبيد: كَأَنَّهُ
يذهب إِلَى جمع صَافِيَة.
عبس وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه مرّ هُوَ وَأَصْحَابه على إبل لحيّ
يُقَال لَهُم بَنو الملوح أَو بَنو المصطلق قد عبست فِي أبوالها من
السّمن فتقنّع بِثَوْبِهِ ثمَّ [مر -] لقَوْل اللَّه عز وَجل {وَلاَ
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِه أزْوَاجا مِّنْهُمْ}
إِلَى آخر الْآيَة.
(3/9)
قَوْله: عبست فِي أبوالها يَعْنِي أَن تَجف
أبوالها وأبعارها على أفخاذها وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون من كَثْرَة
الشَّحْم فَذَلِك العبس قَالَ جرير يذكر امْرَأَة أَنَّهَا كَانَت
راعية: [الطَّوِيل]
ترى العبَس الحولي جَونا بِكوعها ... لَهَا مَسَكا من غير عاج وَلَا
ذبْلِ
ويروى: مسك.
سلم وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: على كل سُلامى من أحدكُم صَدَقَة وَيُجزئ
من ذَلِك رَكْعَتَانِ يُصَلِّيهمَا من الضُّحَى. قَوْله: سُلامَى
فالسُلامَى فِي الأَصْل عظم يكون فِي فِرْسِن الْبَعِير وَيُقَال: إنّ
آخر مَا يبْقى فِيهِ المخ من الْبَعِير إِذا عجف فِي السلَامِي
وَالْعين فَإِذا ذهب مِنْهَا لم يكن لَهُ بَقِيَّة قَالَ الراجز:
[الرجز]
(3/10)
لَا يشتكين عَمَلاً مَا أَنْقَيْنْ ... مَا
دَامَ مخّ فِي سلامى أَو عينْ
قَوْله: مَا أنقين من النِقْي وَهُوَ المخّ. فَكَأَن معنى الحَدِيث
أَنه على كل عظم من عِظَام ابْن آدم صَدَقَة وأنّ الرَّكْعَتَيْنِ
تجزيان من تِلْكَ الصَّدَقَة.
غدف وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حِين قيل [لَهُ -] : هَذَا عليّ
وَفَاطِمَة قَائِمين بَالسُّدة فَأذن لَهما فدخلا فأغدف عَلَيْهِمَا
خميصة سَوْدَاء.
(3/11)
قَوْله: أغدف عَلَيْهَا يَعْنِي أرسل
عَلَيْهِمَا وَمِنْه قيل: أغدفت الْمَرْأَة قناعها إِذا أَرْسلتهُ على
وَجههَا [لتستره -] قَالَ عنترة: [الْكَامِل]
إِن تُغْدفْي دُوْنِي القِنَاعَ فانَّني ... طب بِأخذ الْفَارِس
المستلئم
73 - / ب / يَعْنِي كَأَنَّهَا ازدرته فَقَالَ مَا قَالَ. وَقد رُوِيَ
فِي حَدِيث آخر: إنّ قلب الْمُؤمن أَشد اضطرابًا من الذَنَب يُصِيبهُ
من العصفور حِين يغدف بِهِ. وَبَعض النَّاس يحملهُ على هَذَا الْمَعْنى
فَإِن كَانَ مِنْهُ فَهُوَ أَن تلقي عَلَيْهِ الشبكة أَو الحبالة فيصاد
كَمَا يُرْسل السّتْر وَغَيره وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء
(3/12)
أشبه مِنْهُ بِهَذَا.
نفق كفر وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي
حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذكر الْمُنَافِقين وَمَا فِي
التَّنْزِيل من ذكرهم و [من -] ذكر الْكفَّار. فَيُقَال: إِنَّمَا سمي
الْمُنَافِق منافقًا لِأَنَّهُ نَافق كاليربوع وَإِنَّمَا هُوَ دُخُوله
نافقاءه يُقَال مِنْهُ: قد نفق فِيهِ ونافق وَهُوَ جُحْره وَله جُحر
آخر يُقَال لَهُ: القاصعاء فَإِذا طلب قصع فَخرج من القاصعاء وَهُوَ
يدْخل فِي النافقاء وَيخرج من القاصعاء أَو يدْخل فِي القاصعاء وَيخرج
من النافقاء فَيُقَال: هَكَذَا يفعل الْمُنَافِق يدْخل فِي الْإِسْلَام
ثمَّ يخرج مِنْهُ من غير الْوَجْه الَّذِي دخل فِيهِ. وَأما الْكَافِر
فَيُقَال وَالله أعلم: إِنَّمَا سمي كَافِرًا لِأَنَّهُ متكفر بِهِ
كالمتكفر بِالسِّلَاحِ وَهُوَ الَّذِي قد ألبسهُ السِّلَاح حَتَّى غطى
كل شَيْء مِنْهُ وَكَذَلِكَ غطى الْكفْر قلب الْكَافِر وَلِهَذَا قيل
لِليْل كَافِر لِأَنَّهُ ألبس كل شَيْء قَالَ لبيد يذكر الشَّمْس:
[الْكَامِل]
حَتَّى إِذا أَلْقَت يدا فِي كَافِر ... وأجنّ عورات الثغور ظلامُها
(3/13)
وَقَالَ [أَيْضا -] : [الْكَامِل]
فِي لَيْلَة كفر النجومَ غمامُها.
وَيُقَال: الْكَافِر سمي بذلك للجحود كَمَا يُقَال: كافرني فلَان حَقي
إِذا جَحده حَقه كفر يَقُول: غطاها السَّحَاب. وَقد يُقَال فِي
الْمُنَافِق: إِنَّمَا سمي منافقا للنفق وَهُوَ السرب فِي الأَرْض
وَالتَّفْسِير الأول أعجب إِلَيّ.
لبّى وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي
تَلْبِيَة الْحَج:
(3/14)
لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لبيْك لَا شريك لَك
لبيْك إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك لَا شريك لَك. تَفْسِير
التَّلْبِيَة الاستجابة وَكَانَ الْخَلِيل بْن أَحْمد رَحمَه اللَّه
يُفَسر أصل التَّلْبِيَة أَنَّهَا الْإِقَامَة بِالْمَكَانِ يُقَال:
ألببت بِالْمَكَانِ إِذا أَقمت بِهِ ولبّبت لُغَتَانِ قَالَ: ثمَّ
قلبوا الْبَاء الثَّانِيَة إِلَى الْيَاء استثقالا كَمَا قَالُوا:
تظنيت فَإِنَّمَا أَصْلهَا تظننت وكما قَالَ العجاج: [الرجز]
تَقَضِّي الْبَازِي إِذا الْبَازِي كسر
(3/15)
وَإِنَّمَا أَصْلهَا تقضّض قَالَ:
فَقَالُوا على هَذَا [لببت -] وَإِنَّمَا أَصْلهَا ألببت أَو لببت
فَكَأَن قَوْله: لبيْك [أَي -] أَنا عَبدك أَنا مُقيم عنْدك إِقَامَة
بعد إِقَامَة وَإجَابَة بعد إِجَابَة ثمَّ ثنوه للتوكيد هَكَذَا
يَحْكِي [هَذَا -] التَّفْسِير عَن الْخَلِيل وَلم يبلغنَا عَن أحد
أَنه فسره غَيره إِلَّا من اتبعهُ فَحكى عَنهُ.
شيخ شرخ حَيا وَقَالَ أَبُو عبيد:
فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: اقْتُلُوا شُيُوخ الْمُشْركين
واستحيوا شرخهم. يُقَال: فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا أَنه يُرِيد بالشيوخ
الرِّجَال المسانّ أهل الجَلَد مِنْهُم وَالْقُوَّة على الْقِتَال
وَلَا يُرِيد الهرمى ويبين ذَلِك حَدِيث
(3/16)
أبي بكر حِين أوصى يزِيد بن أبي سُفْيَان
فَقَالَ: لَا تقتل شَيخا كَبِيرا. وَقَوله: شرخهم يُرِيد الشَّبَاب.
وَمَعْنَاهُ فِي هَذَا القَوْل الصغار الَّذين لم يدركوا فَصَارَ
تَأْوِيل الحَدِيث: اقْتُلُوا الرِّجَال واستحيوا النِّسَاء. وَأما
التَّفْسِير الآخر فَإِنَّهُ يُرِيد بالشيوخ الهرمَى الَّذين إِن
سُبُوا لم ينْتَفع بهم للْخدمَة واستحيوا الشَّبَاب يَعْنِي أهل الْجلد
من الرِّجَال الَّذين يصلحون للْملك والخدمة وَقَالَ حسان فِي الشرخ:
[الْخَفِيف]
إِن شرخ الشَّبَاب وَالشعر الأس ... ود مَا لم يُعاصَ كَانَ جنونا
وَقَوله: اسْتَحْيوا إِنَّمَا هُوَ استفعلوا من الْحَيَاة أَي دعوهم
أَحيَاء لَا تَقْتُلُوهُمْ وَمِنْه قَول اللَّه عز وَجل فِيمَا يرْوى
فِي التَّفْسِير {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ} .
هرف وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَن رفْقَة جَاءَت
(3/17)
وهم يَهرِفون بِصَاحِب لَهُم وَيَقُولُونَ:
يَا رَسُول الله مَا رَأينَا مثل فلَان 74 / الف مَا سرنا إِلَّا كَانَ
فِي قِرَاءَة / وَلَا نزلنَا إِلَّا كَانَ فِي صَلَاة. قَوْله: يهرفون
[بِهِ] يمدحونه ويطنبون فِي ذكره يُقَال مِنْهُ: هرفت بِالرجلِ أهرِف
هَرَفا وَيُقَال فِي مثل من الْأَمْثَال: لَا تَهرِف قبل أَن تَعرِفَ.
شكل وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه كره الشِّكال فِي الْخَيل. [قَوْله:
الشكال -] يَعْنِي أَن تكون ثَلَاث قَوَائِم مِنْهُ محجّلة وَوَاحِدَة
مُطلقَة. وَإِنَّمَا أَخذ هَذَا من الشكال الَّذِي تشكل بِهِ الْخَيل
شبه بِهِ لِأَن الشكال إِنَّمَا يكون فِي ثَلَاث قَوَائِم أَو أَن تكون
الثَّلَاث مُطلقَة ورِجل
(3/18)
محجّلة وَلَيْسَ يكون الشكال إِلَّا فِي
الرجل وَلَا يكون فِي الْيَد.
فرص وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ: إِنِّي لأكْره أَن أرى الرجل
ثائرًا فريص رقبته قَائِما على مُرَيّته يضْربهَا. قَالَ الْأَصْمَعِي:
الفريصة هِيَ اللحمة الَّتِي تكون بَين الْكَتف وَالْجنب الَّتِي لَا
تزَال ترْعد من الدَّابَّة وَجَمعهَا: فرائص وفريص. قَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: وَهَذَا الَّذِي قَالَه الْأَصْمَعِي هُوَ الْمَعْرُوف فِي
كَلَام الْعَرَب وَلَا أَحسب
(3/19)
الَّذِي فِي الحَدِيث إِلَّا غير هَذَا
كَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ عَصَبَ الرَّقَبَة وعروقها لِأَنَّهَا هِيَ
الَّتِي تثور فِي الْغَضَب وَالله أعلم.
أنف وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ: الْمُسلمُونَ هَيِّنون
لَيِّنون كَالْجمَلِ الآنف إِن قيد انْقَادَ وَإِن أُنِيخ على صَخْرَة
استناخ. قَوْله: الآنف يَعْنِي الَّذِي قد عقره الخِطام إِن كَانَ
بخشاش أَو برة أَو خزامة فِي أَنفه فَهُوَ لَيْسَ يمْتَنع على قائده
فِي شَيْء للوجع الَّذِي بِهِ وَكَانَ الأَصْل فِي هَذَا أَن يُقَال:
مأنوف لِأَنَّهُ مفعول بِهِ كَمَا يُقَال: مصدور
(3/20)
للَّذي يشتكي صَدره ومبطون للَّذي بِهِ
الْبَطن وَكَذَلِكَ مرؤس ومفخوذ ومفؤود وَجَمِيع مَا فِي الْجَسَد على
هَذَا وَلَكِن هَذَا الْحَرْف جَاءَ شاذا عَنْهُم. وَقَالَ بَعضهم:
الْجمل الآنف هُوَ الذلول وَلَا أرى أَصله إِلَّا من هَذَا.
قصع جرر وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي
حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه خطبهم على رَاحِلَته
وَإِنَّهَا لتقصع بجِرّتها. قَوْله: تَقْصَعُ بجِرّتها القصْع: ضمك
الشَّيْء على الشَّيْء حَتَّى تقتله أَو تهشمه وَمِنْه قصع القملة
وَمِنْه قيل للغلام إِذا كَانَ بطيء الشَّبَاب: قصيع يَقُول: إِنَّه
مردَّد الْخلق بعضه إِلَى بعض فَلَيْسَ يطول. وَإِنَّمَا قصع الجِرة
شدَّة المضغ وَضم بعض الْأَسْنَان على بعض. والجِرّة مَا تجتّره
الْإِبِل فتخرجه من أجوافها لتمضغه ثمَّ ترده فِي أكراشها بعد الجرة
أَي بعد أَن تجتره.
(3/21)
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه خطبَته
عَلَيْهِ السَّلَام على ظهر النَّاقة وهَذَا رخصَة فِي الْوُقُوف على
الدَّوَابّ إِذا كَانَ ذَلِك لحَاجَة إِلَيْهِ. وعَن مَالك بْن أنس
قَالَ: الْوُقُوف على ظهر الدَّوَابّ بِعَرَفَة سنة وَالْقِيَام على
الْأَقْدَام رخصَة.
معى شبح سرب وَقَالَ أَبُو عبيد:
فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: الْمُؤمن يَأْكُل فِي مِعي
وَاحِد وَالْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء. قَوْله: الْمُؤمن
يَأْكُل فِي مِعي وَاحِد وَالْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء نرى
ذَلِك وَالله أعلم لتسمية الْمُؤمن عِنْد طَعَامه فَتكون فِيهِ
الْبركَة وَأَن الْكَافِر لَا يفعل ذَلِك ويرون أَن وَجه الحَدِيث
وَالله أعلم أَنه كَانَ هَذَا [الحَدِيث] خَاصّا
(3/22)
لرجل بِعَيْنِه كَانَ يكثر الْأكل قبل
إِسْلَامه ثمَّ أسلم فنقص ذَلِك [مِنْهُ -] فَذكر ذَلِك للنَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ فِيهِ هَذِه الْمقَالة
مهق شكل شهل مره هدب [أَبُو
عُبَيْدٍ -] : وَأهل مصر يرَوْنَ أَن صَاحب هَذَا الحَدِيث هُوَ أَبُو
بصرة الْغِفَارِيّ وَلَا نعلم للْحَدِيث وَجها غير هَذَا لِأَنَّك قد
ترى من الْمُسلمين من يكثر أكله وَمن الْكفَّار من يقل ذَلِك مِنْهُ
وَحَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: لَا خُلْفَ لَهُ فَلهَذَا وجَّه
على هَذَا الْوَجْه. وَقد روى عَن عمر رَضِي اللَّه عَنهُ أَنه كَانَ
يَأْكُل الصَّاع من التَّمْر فَأَي الْمُؤمنِينَ كَانَ إيمَانه
كَإِيمَانِ عمر.
شثن صبب قطط سبط زهر أَبُو عبيد:
فِي حَدِيث النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام أَن عليا رَضِي اللَّه عَنهُ
كَانَ إِذا نعت النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: لم يكن بالطويل
الممغط
(3/23)
74 - / ب وَلَا بالقصير المتردِّد لم يكن /
بالمطّهم وَلَا بالمكلثم كَانَ أَبيض مُشْرب أدعج الْعَينَيْنِ أهدب
الأشفار جليل المُشاش والكتد شثْن الْكَفَّيْنِ والقدمين دَقِيق
المسربة إِذا مَشى تقلع كأما يمشي فِي صبب وَإِذا الْتفت الْتفت مَعًا
لَيْسَ بالسبط وَلَا الْجَعْد القطط (القِطط) . [وَفِي حَدِيث آخر
حدّثنَاهُ إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر قَالَ: كَانَ أَزْهَر لَيْسَ
بالأبيض الأمهق -] وَفِي حَدِيث آخر: كَانَت فِي عَيْنَيْهِ شُكلة.
وَفِي حَدِيث آخر: كَانَ شبح الذراعين.
مغط شرب دعجٌ مشش كتد أَبُو عبيد:
قَالَ الْكسَائي والأصمعي وَأَبُو عَمْرو وَغير وَاحِد
(3/24)
فِي هَذَا الحَدِيث قَوْله: لَيْسَ بالطويل
الممغّط يَقُول: لَيْسَ بالبائن الطِوَل. وَلَا الْقصير المتردد
[يَعْنِي -] الَّذِي تردد خلقه بعضه على بعض وَهُوَ مُجْتَمع لَيْسَ
بسيط الْخلق. يَقُول: فَلَيْسَ هُوَ كَذَلِك وَلَكِن ربعَة بَين
الرجلَيْن وَهَذَا صفته [صلي اللَّه عَلَيْهِ وَسلم] فِي حَدِيث آخر
أَنه ضرب اللَّحْم بَين الرجلَيْن. وَقَوله: لَيْسَ بالمطَهَّم قَالَ
الْأَصْمَعِي: المُطَهَّم التَّام كل شَيْء مِنْهُ على حِدته فَهُوَ
بارع الْجمال.
(3/25)
وَقَالَ غير الْأَصْمَعِي: المكلثم المدور
الْوَجْه يَقُول: فَلَيْسَ كَذَلِك وَلكنه مسنون. وَقَوله: مُشرب
يَعْنِي الَّذِي قد أشْرب حمرَة. والأدعج الْعين شَدِيد سَواد الْعين
قَالَ الْأَصْمَعِي: الدعجة هِيَ السوَاد. [قَالَ -] : والجليل المشاش
الْعَظِيم رُؤُوس الْعِظَام مثل الرُّكْبَتَيْنِ والمرفقين والمنكبين.
وَقَوله: الكَتِد (الكَتِد) هُوَ الْكَاهِل وَمَا يَلِيهِ من جسده.
وَقَوله: شثن الْكَفَّيْنِ والقدمين يَعْنِي أَنَّهُمَا تميلان إِلَى
الغلظ.
(3/26)
وَقَوله: إِذا مَشى تقلّع كَأَنَّمَا يمشي
فِي صبب الصبب: الانحدار وَجمعه: أصباب قَالَ رؤبة: [الرجز]
بل بَلَدٍ ذِي صُعُدٍ وأصبابْ
بل فِي معنى رب. وَقَوله: لَيْسَ بالسبط وَلَا الْجَعْد القَطط
(القَطِط) فالقطط: الشَّديد الجعودة مثل أشعار الْحَبَش والسبط الَّذِي
لَيْسَ فِيهِ تكسر يَقُول: فَهُوَ جعد رَجِل. وَقَوله: كَانَ أَزْهَر
الْأَزْهَر: الْأَبْيَض النيرِّ الْبيَاض الَّذِي لَا يخالط بياضه
حمرَة. وَقَوله: لَيْسَ بالأمهق فالأمهق الشَّديد الْبيَاض الَّذِي لَا
يخالط بياضه شَيْء من الْحمرَة وَلَيْسَ بنير وَلَكِن كلون الجّص أَو
نَحوه يَقُول: فَلَيْسَ هُوَ كَذَلِك. وَقَوله: فِي عَيْنَيْهِ شُكلة
فالشُكلة [كَهَيئَةِ -] الْحمرَة تكون فِي بَيَاض الْعين: قَالَ
الشَّاعِر: [الطَّوِيل]
(3/27)
وَلَا عيبَ فِيهَا غير شُكلة عينهَا ...
كَذَاك عِتاق الطير شُكلا عيونها
والشّْهلة غير الشّْكلة وَهِي حمرَة فِي سَواد الْعين والمُرْهة:
الْبيَاض لَا يخالطه غَيره وَإِنَّمَا قيل للعين الَّتِي لَيْسَ فِيهَا
كحل: مرهاء لهَذَا الْمَعْنى. وَقَوله: أهدب الأشفار يَعْنِي طَوِيل
الأشفار. وَقَوله: شبح الذراعين يَعْنِي عبل الذراعين عريضهما.
والمسربة الشّعْر المستدِقّ مَا بَين اللبة إِلَى السُّرَّة قَالَ
الذهلي: [الْكَامِل]
الْآن لما ابيض مسربتي ... وعَضَضْتُ من نابي على جِذْمِ
ترجوا الأعادي أَن ألينَ لَهَا ... هَذَا توهّم صَاحب الحلمِ
وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حِين
أَتَاهُ عمر فَقَالَ: إِنَّا نسْمع أَحَادِيث من يهود تعجبنا أفترى أَن
نكتب بَعْضهَا فَقَالَ: أمتهوكون أَنْتُم كَمَا تهوّكت الْيَهُود
وَالنَّصَارَى لقد جِئتُكُمْ بهَا بَيْضَاء نقية
(3/28)
لَو كَانَ مُوسَى حَيا مَا وَسعه إِلَّا
اتباعي. وَتَفْسِير هَذَا الْحَرْف فِي حَدِيث آخر مَرْفُوع قَالَ ابْن
عون: قلت لِلْحسنِ: مَا متهوكون قَالَ: متحيرون.
هوك قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَقُول:
أمتحيرون أَنْتُم فِي الْإِسْلَام لَا تعرفُون دينكُمْ حَتَّى تأخذوه
من الْيَهُود وَالنَّصَارَى [قَالَ أَبُو عبيد -] : فَمَعْنَاه أَنه
كره أَخذ الْعلم من أهل الْكتاب. وَأما قَوْله: لقد جِئتُكُمْ بهَا
بَيْضَاء نقية فَإِنَّهُ أَرَادَ الْملَّة الحنيفية فَلذَلِك جَاءَ
التَّأْنِيث كَقَوْل اللَّه عز وَجل {وَذلِكَ دِيْنُ الْقَيِّمَةِ}
إِنَّمَا هِيَ فِيمَا يُفَسر الْملَّة الحنيفية.
لبب وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لما خرج إِلَى مَكَّة
(3/29)
عرض لَهُ رجل فَقَالَ: إِن كنت تُرِيدُ
النِّسَاء الْبيض والنوق الْأدم فَعَلَيْك ببني مُدْلِج فَقَالَ: [إِن
-] اللَّه منع من بني مُدلج لصلتهم الرَّحِم وطعنهم فِي ألباب
الْإِبِل. وَبَعْضهمْ يرويهِ: فِي لَبّات [الْإِبِل -] . قَوْله:
وطعنهم فِي ألباب الْإِبِل فقد يكون ألباب فِي مَعْنيين: أَحدهمَا أَن
يكون أَرَادَ جمع اللب ولب كل شَيْء خالصه كَقَوْلِك: 75 / الف لب
الطَّعَام / ولب النَّخْلَة وَغير ذَلِك يَقُول: فَإِنَّمَا ينحرون
خَالص إبلهم وكرائمها. وَالْوَجْه الآخر أَن يكون أَرَادَ جمع اللبب
وَهُوَ مَوضِع المنحر من كل شَيْء. ونرى أَن لبب الْفرس إِنَّمَا سمي
بِهِ لهَذَا وَلِهَذَا قيل: لبّبت فلَانا إِذا جمعت ثِيَابه عِنْد
صَدره ونحره ثمَّ جررته وَإِنَّمَا وَصفهم أَنهم أهل جود
بِأَمْوَالِهِمْ وصلَة لأرحامهم. وَالَّذِي يُرَاد من هَذَا الحَدِيث
أَن الْإِحْسَان والصلة يدفعان السوء وَالْمَكْرُوه. قَالَ أَبُو عبيد:
(3/30)
وَإِن كَانَ الْمَحْفُوظ هُوَ لبات فان
اللبة مَوضِع النَّحْر ثمَّ جمعهَا لبات.
حَيا وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: إِن
مِمَّا أدْرك النَّاس من كَلَام النُّبُوَّة [الأولى -] إِذا لم
تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت. قَالَ جرير: مَعْنَاهُ أَن يُرِيد الرجل
أَن يعْمل الْخَيْر فيدعه حَيَاء من النَّاس كَأَنَّهُ يخَاف مَذْهَب
الرِّيَاء يَقُول: فَلَا يمنعك الْحيَاء من الْمُضِيّ لما أردْت قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ جرير معنى صَحِيح فِي مذْهبه
وَهُوَ شَبيه بِالْحَدِيثِ الآخر: إِذا جَاءَك الشَّيْطَان وأنتَ
تُصلّي فَقَالَ: إِنَّك تُرائي فزدها طولا. وَكَذَلِكَ قَول الْحسن:
مَا أحد أَرَادَ شَيْئا من الْخَيْر إِلَّا سَار فِي قلبه سورتان
فَإِذا كَانَت الأولى مِنْهُمَا لله فَلَا تهيدنه الْآخِرَة وَفِي
هَذَا أَحَادِيث وَالْمعْنَى فِيهِ قَائِم وَلَكِن الحَدِيث الأول
لَيْسَ يَجِيء سِيَاقه وَلَا لَفظه على هَذَا التَّفْسِير وَلَا على
هَذَا يحملهُ النَّاس [و -] إِنَّمَا وَجهه عِنْدِي أَنه أَرَادَ
بقوله: إِذا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت
(3/31)
إِنَّمَا هُوَ من لم يستحي صنع مَا شَاءَ على جِهَة الذَّم لترك
الْحيَاء وَلم يرد بقوله: فَاصْنَعْ مَا شِئْت أَن يَأْمُرهُ بذلك أمرا
وَهَذَا جَائِز فِي كَلَام الْعَرَب أَن يقولك افْعَل كَذَا وَكَذَا
وَلَيْسَ يَأْمُرهُ وَلكنه أَمر بِمَعْنى الْخَبَر ألم تسمع حَدِيث
النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام: من كذب عليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ
مَقْعَده من النَّار لَيْسَ وَجهه أَنه أمره بذلك هَذَا مَا لَا يكون
إِنَّمَا مَعْنَاهُ: من كذب عليّ مُتَعَمدا تبوأ مَقْعَده من النَّار
[أَي -] كَانَ لَهُ مقْعد من النَّار إِنَّمَا هِيَ لَفْظَة أَمر على
معنى الْخَبَر وَتَأْويل الْجَزَاء وَإِنَّمَا يُرَاد من الحَدِيث أَنه
يحث على الْحيَاء وَيَأْمُر بِهِ ويعيب تَركه. |