أسرار العربية الباب الثامن
والعشرون: باب التمييز
[تعريف التمييز]
إن قال قائل: ما التمييز؟ قيل: تبيين النكرة المفسرة للمبهم.
[عامل النصب في التمييز]
فإن قيل: فما العامل فيه النَّصب؟ قيل: فعل، وغير فعل، فأما ما كان
العامل فيه فعلاً؛ فنحو: "تصبَّبَ زيد عرقًا، وتفقأ الكبش شحمًا"
فعرقًا وشحمًا، كل واحدٍ منهما انتصب1 بالفعل الذي قبله.
[خلافهم في تقديم هذا النوع على العامل فيه]
فإن قيل: فهل يجوز تقديم هذا النوع على العامل فيه؟ قيل: اختلف
النحويون في ذلك؛ فذهب سيبويه إلى أنه لا يجوز تقديم هذا النوع على
عامله وذلك؛ لأن المنصوب -ههنا- هو الفاعل في المعنى، ألا ترى أنك إذا
قلت: "تصبب زيد عرقًا" كان الفعل للعرق في المعنى لا لزيد؟ فلما كان هو
الفاعل في المعنى؛ لم يجز تقديمه، كما لو كان فاعلاً لفظًا؛ وذهب أبو
عثمان المازنيّ وأبو العباس المبرد ومن وافقهما2، إلى أنه يجوز تقديمه
على العامل فيه، واستدلوا على ذلك بقول الشاعر3: [الطويل]
أتهجرُ سَلمى بالفراقِ حبيبها ... وَمَا كَادَ نفسًا بالفراقِ تطيبُ
__________
1 في "س" منصوب.
2 في "س" تابعهما.
3 الشاعر هو: المخبل السَّعدي، ربيعة بن مالك التميمي، كان شاعرًا
فحلاً مُقلاً، وهو من مخضرمي الجاهلية والإسلام، ولم تعلم سنة وفاته.
موطن الشاهد: "نفسًا بالفراقِ تطيبُ".
وجه الاستشهاد: تقديم التمييز "نفسًا" على عامله المتصرِّف "تطيب"؛
وحكم هذا التقديم الجواز. وللبيت رواية أخرى هي: "ولم تك نفسي بالفراق
تطيب" ولا شاهد فيه على هذه الرِّواية.
(1/153)
ولأن هذا العامل فعل متصرِّف؛ فجاز تقديم
معموله عليه، كما جاز تقديم الحال على العامل فيها؛ نحو: "راكبًا جاء
زيد"؛ لأنه/من/1 فعل متصرّف، فكذلك ههنا. والصحيح: ما ذهب إليه سيبويه،
وأما ما استدل به المازني والمبرّد من البيت؛ فإن الرواية الصحيحة فيه:
وما كاد2 نفسي بالفراقِ تطيب
وذلك لا حُجة/ لهم/3 فيه، ولئن صحَّت تلك الرواية؛ فنقول: نصب "نفسًا"
بفعل مقدر، كأنه قال: "أعني نفسًا". وأما قولهم: إنه فعل متصرف، فجاز
تقديم معموله عليه، كالحال؛ قلنا: هذا العامل -وإن كان فعلاً متصرفًا-
إلا أن هذا المنصوب هو الفاعل في المعنى، فلا يجوز تقديمه على ما
بيّنَّا، وأما تقديم الحال على العامل فيها، فإنما جاز ذلك؛ لأنك إذا
قلت: "جاء زيد راكبًا" كان "زيد" هو الفاعل لفظًا ومعنى، وإذا استوفى
الفعل فاعله تنزل4 "راكبًا" منزلة المفعول المحض، فجاز تقديمه
كالمفعول؛ نحو: "عمرًا ضرب زيد" بخلاف التمييز، فإنك إذا قلت: "تصبب
زيد عرقًا" لم يكن "زيد" هو الفاعل في المعنى، وكان الفاعل في المعنى
هو "العرق" فلم يكن "عرقًا" في حكم المفعول من هذا الوجه؛ لأن الفعل قد
استوفى فاعله لفظًا لا معنى، فلم يجز تقديمه، كما لا يجوز تقديم
الفاعل.
[ما كان العامل فيه غير فعل]
وأما ما كان العامل فيه غير فعل؛ فنحو: "عندي عشرون رجلاً، وخمسة عشر
درهمًا" وما أشبه ذلك، فالعامل فيه هو العدد؛ لأنه مُشبه بالصفة
المشبّهة باسم الفاعل؛ نحو: "حسن وشديد" وما أشبه ذلك، ووجه المشابهة
بينهما أن العدد يُوصَف به، كما يوصف بالصفة المشبهة باسم الفاعل،
وإذا5 كان في العدد نون نحو: "عشرون" أو تنوين مُقدر؛ نحو: "خمسةَ
عشرَ" صار النون والتنوين مانعين من الإضافة؛ كالفاعل الذي يمنع
المفعول من الرفع، فصار التمييز فضلةً كالمفعول، وكذلك6 حكم ما كان
منصوبًا على التمييز في ما كان
__________
1 سقطت من "س".
2 في "س" كان.
3 سقطت من "ط".
4 في "ط" ينزل.
5 في "س" فإذا.
6 في "س" فكذلك.
(1/154)
قبله حائل؛ نحو: "لي مثله غلامًا، ولله دره
رجلاً" فإن الهاء منعت الاسم بعدها أن ينجر بإضافة ما قبلها إليه،
كالفاعل الذي يمنع المفعول من الرفع، فنصب على التمييز لما ذكرناه.
[علة كون التمييز نكرة]
فإن قيل: فَلِمَ وجب أن يكون التمييز نكرة؟ قيل: لأنه يبين ما قبله،
كما أن الحال يُبين ما قبله، ولَمّا1 أشبه الحال، وجب أن يكون نكرةً،
كما أن الحال نكرة؛ فأما قول الشاعر2: [الخفيف]
ولقد أَغْتَدِي وَمَا صَقَع الدِّيـ ... ـكُ على أَدْهَمَ أجشّ
الصَّهيلا3
وقال الآخر4: [الوافر]
[ونأخذ بعده بذناب عيش] ... أَجَبَّ الظَّهرَ لَيسَ لَه سِنَامُ 5
فبنصب "الصهيل، والظهر" والصحيح: أنه منصوب على التشبيه بالمفعول،
كالضارب الرجل؛ فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "س" تبين ما قبلها، فلمّا.
2 لم يُنسب إلى قائل مُعيَّن.
3 المفردات الغريبة: أغتدي: أُبكِّر. صقع الدِّيك: صاح. الأَدهم:
الأَسود من الخيل أو الإبل. أجش الصهيلا: خشن الصوت.
موطن الشاهد: "أجشّ الصَّهيلا".
وجه الاستشهاد: انتصاب "الصَّهيلا" بالصفة المشبهة باسم الفاعل "أجشّ"
ولَمّا كان معمول الصفة الصهيلا مُقترنًا بـ "أل" استدل الكوفيون على
جواز انتصاب كل من المعرفة والنكرة بعد أفعل على التمييز.
4 الشاعر هو: النابغة الذبياني، أبو ثُمامة، أو أُمامة، زياد بن معاوية
بن ضباب الذّبياني الغطفاني، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى. عاش في
الحجاز، وكان يحكم بين الشعراء في سوق عكاظ، وهو أحد أصحاب المعلقات؛
له ديوان شعر مطبوع. مات سنة 18 ق. هـ تقريبًا. طبقات فحول الشعراء
56/1، وتجريد الأغاني 1244/3.
5 المفردات الغريبة: ذناب كُل شيء: مُؤخره. البعير الأجبّ: المقطوع
السنام؛ والمراد -هنا- البعر الذي ذاب سنامه من شدة الهُزال.
موطن الشاهد: "أجبّ الظّهرَ".
وجه الاستشهاد: انتصاب "الظهر" على التمييز عند الكوفيين، وعلى التشبيه
بالمفعول به للصفة المشبهة -عند البصريين- كما في المثال السابق؛ وفي
البيت شواهد أخرى لا داعي لسردها في هذه العُجالة.
(1/155)
الباب التاسع
والعشرون: باب الاستثناء
[معنى الاستثناء]
إن قال قائل: ما الاستثناء؟ قيل: إخراج بعضٍ من كل بمعنى إلا نحو:
جاءني القوم إلا زيدًا.
[العامل في المستثنى الموجب النصب]
فإن قيل: فما العامل في المستثنى من الموجب النصب؟ قيل: اختلف النحويون
في ذلك؛ فذهب البصريون إلى أن العامل هو الفعل بتوسط "إلا"، وذلك؛ لأن
هذا الفعل، وإن كان لازمًا في الأصل، إلا أنه قوي بـ "إلا" فتعدى إلى
المستثنى، كما تعدّى الفعل بالحروف المعدّية؛ ونظيره نصبهم الاسم في
باب المفعول معه؛ نحو: "استوى الماء والخشبة" فإن الاسم منصوب بالفعل
المتقدم بتقوية الواو؛ فكذلك ههنا. وذهب بعض النحويين إلى أن العامل هو
"إلا" بمعنى "استثني" وهو قول الزَّجَّاج من البصريين. وذهب الفراء من
الكوفيين إلى أن "إلا" مركبة من "إنَّ ولا" ثم خففت "إنَّ" وأدغمت في
"لا" فهي تنصب في الإيجاب اعتبارًا بـ "إنَّ" وترفع في النفي اعتبارًا
بـ "لا"؛ والصحيح: ما ذهب إليه البصريون1، وأما قول بعض النحويين
والزجاج: إن العامل هو "إلا" بمعنى "أستثني"، ففاسد من خمسة أوجه:
الوجه الأول: أنه لو كان الأمر كما زعموا؛ لوجب ألَّا يجوز في المستثنى
إلا النصب، ولا خلاف في جواز الرفع والجر في النفي على البدل في قولك2:
"ما جاءني أحدٌ إلا زيدٌ، وما مررت بأحدٍ إلا زيدٍ".
والوجه الثاني: أن هذا يؤدي إلى إعمال معاني الحروف، وإعمال معاني
__________
1 في "س" والصحيح قول البصريين.
2 في "س" نحو.
(1/156)
الحروف لا يجوز، ألا ترى أنك تقول: "ما زيد
قائمًا"، ولو قلت: "ما زيدٌ/ إلا/1 قائمًا" بمعنى2: "نفيت زيدًا
قائمًا" لم يجز ذلك؛ فكذلك ههنا.
والوجه الثالث: أنه يبطل بقولهم: "قام القوم غير زيد" فإن "غير" منصوب،
فلا يخلو إمَّا أن يكون منصوبًا بتقدير "إلا"، وإمَّا أن يكون منصوبًا
بنفسه، وإما أن يكون منصوبًا بالفعل الذي قبله؛ بطل أن يقال إنه منصوب
بتقدير "إلا" لأنَّا لو قدرنا "إلا" لفسد المعنى؛ لأنهُ يصير التقدير
فيه: "قام القوم إلا غير زيد" وهذا فاسد؛ وبطل/أيضًا/3 أن يقال: إنه
يعمل في نفسه؛ لأن الشيء لا يعمل في نفسه؛ فوجب أن يكون العامل/ فيه4
هو الفعل المتقدم، وإنما جاز أن يعمل فيه، وإن كان لازمًا؛ لأن "غير"
موضوعة على الإبهام /المفرط/5، ألا ترى أنك تقول: "مررت برجل غيرك"،
فيكون كلُ من عدا المخاطب داخلاً تحت "غير"؟ فلمَّا كان فيه هذا
الإبهام المفرط، أشبه الظروف المبهمة؛ نحو: "خلف، وأمام، ووراء،
وقُدَّام" وما أشبه ذلك؛ وكما أن الفعل يتعدّى إلى هذه الظُروف من غير
واسطة، فكذلك ههنا.
والوجه الرابع: أنَّا نقول: لماذا قدَّرتم "أستثني زيدًا"، وهلا
قدَّرتم "امتنع زيد" كما حكي عن أبي على الفارسي أنه كان مع عضد الدولة
في الميدان، فسأله عضد الدولة عن المستثنى بماذا انتصب 6؟ فقال أبو علي
الفارسي7:/ينتصب/8 لأن التقدير: "أستثني زيدًا" فقال /له/9 عضد الدولة،
وهلا قدرت: امتنع/زيد/ 10 فرفعته؟ فقال له أبو علي: هذا الجواب الذي
ذكرته لك / جواب/ 11 ميداني، وإذا رجعنا، ذكرت لك الجواب الصحيح، إن
شاء الله تعالى.
والوجه الخامس: أنَّا إذا أعملنا معنى "إلا" كان الكلام جملتين، وإذا
__________
1 في "ط" ما زيدًا قائمًا.
2 في "س" على معنى.
3 سقطت من "س".
4 سقطت من "س".
5 سقطت من "س".
6 في "س" ينتصب.
7 أبو عليّ الفارسيّ: الحسن بن أحمد الفارسيّ الفسويّ، نسبة إلى مدينة
قرب شيراز، إمام عصره في النحو واللغة؛ له: الإيضاح، والتذكرة، والحجة
في القراءات، وغيرها. مات سنة 377هـ. البلغة 53، وإنباه الرّواة 273/1.
8 سقطت من "ط".
9 سقطت من "ط".
10 زيادة من "س".
11 سقطت من "ط".
(1/157)
أعملنا الفعل بتقوية "إلَّا" كان الكلام
جملة واحدةً، والكلام متى كان جملة واحدة، كان أولى من تقدير جملتين.
وأما قول الفراء /إنَّ/1 "إلا" مركبة من "إنَّ ولا" فدعوى تفتقر إلى
دليل، ولو قدرنا ذلك، فنقول: الحرف إذا رُكب مع حرف آخر تغيَّر عما كان
عليه في الأصل قبل التركيب، ألا ترى أن "لو" حرف يمتنع به 2 الشيءُ؛
لامتناع غيره، فإذا رُكّب3 مع "ما" تغير ذلك المعنى، وصارت بمعنى
"هلَّا"؛ وكذلك -أيضًا- إذا رُكبت مع "لا"؛ كقوله4: "لولا الكميَّ
المقنَّعا"5، وما أشبه ذلك؛ فكذلك ههنا.
[ارتفاع المستثنى في النفي]
فإن قيل: فبماذا يرتفع. المستثنى في النفي؟ قيل: يرتفع على البدل،
ويجوز النصب على أصل الباب.
فإن قيل: فَلِمَ كان البدل أولى؟ قيل: لوجهين:
أحدهما: الموافقة للفظ، فإنه إذا كان المعنى واحدًا /فَكَون/6 اللفظ
موافقًا أولى؛ لأن اختلاف اللفظ يشعر باختلاف المعنى، وإذا اتفقا، كان
موافقة اللفظ أولى.
والوجه الثاني: أن البدل يجري في تعلُق العامل به كمجراه لو ولِي
العامل، والنصب في الاستثناء على التشبيه بالمفعول، فلما كان البدل
أقوى في حكم العامل، كان الرفع أولى من النصب على ما بيّنَّا.
__________
1 سقطت من "ط".
2 في "س" له.
3 في "س" وإذا.
4 القائل: جرير بن عطية، وقد مرَّت ترجمته.
5 تتمة البيت: [الطويل]
تَعُدُّون عَقْرَ النِّيبِ أَفضلَ مَجْدِكُم ... بَنِي ضَوطرى لولا
الكميَّ المقنَّعا
المفردات الغريبة: النِّيب: جمع ناب وهي المسنة من الإبل، وقد كبر
نابها. الضَّوطرى: الحمقاء. الكميّ: الشجاع. المقنَّع: الذي عليه مغفر
وبيضة وهو مستعد للحرب. والمعنى: تفخرون بعقر النوق، وما الفخر إلا
بمنازلة الأبطال في ساحات القتال.
موطن الشاهد: "لولا الكميّ".
وجه الاستشهاد: دخول "لولا" التحضيضية على الاسم، وهي مختصَّة بالفعل،
فَجُعِلَ "الكميّ" مفعولاً به لفعل محذوف؛ لأن التقدير: لولا عددتم
الكمي المقنعا.
6 سقطت من "س" وفي "ط" فيكون، وما أثبتناه من نسخة أخرى.
(1/158)
[علة جواز البدل في المستثنى المنفي]
فإن قيل: فَلِمَ جاز البدل في النفي، ولم يجز في الإيجاب؟ قيل: لأنَّ
البدل في الإيجاب يؤدي إلى محال، وذلك لأن المبدل منه يجوز أن يقدر
كأنَّه ليس في الكلام، فإذا قدرنا هذا في الإيجاب، صار محالاً؛ لأنه
يصير التقدير: "جاءني إلا زيد" وصار1 المعنى: إن جميع الناس جاؤوني غير
زيد، وهذا لا يستحيل في النفي، كما يستحيل في الإيجاب؛ لأنه يجوز ألا
يجيئه أحد سوى زيد، فبان الفرق بينهما؛ فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "س" ويصير.
(1/159)
الباب الثلاثون: باب ما يُجرُّ به في
الاستثناء
[علة إعراب "غير" إعراب الاسم بعد إلا]
إن قال قائل: لم أُعربت "غير" إعراب الاسم الواقع بعد "إلا" دون "سوى
وسواء"؟
قيل: لأن "غير" لَمّا أُقيمت -ههنا- مُقام "إلا" وكان مابعدها مجرورًا
بالإضافة، ولا بدَّ لها في نفسها من إعراب، أُعرِبت إعرابَ الاسم
الواقع بعد "إلا" ليدل بذلك على ما كان يستحق الاسم الذي بعد "إلا" من
الإعراب، ويبقى حكم الاستثناء، وأما "سوى، وسواء" فلزمهما النصب؛
لأنهما لا يكونان (إلا ظرفين، فلم يجز نقل الإعراب إليهما، كما جاز في
"غير" لأن ذلك يؤدي إلى تمكنهما، وهما لا يكونان متمكنين) 1 فلذلك، لم
يجز أن يُعربا إعراب الاسم الواقع بعد "إلا" وأما "حاشا" فاختلف
النحويون فيها2؛ فذهب سيبويه ومن تابعه من البصريين إلى أنه حرف جر،
وليس بفعل، والدليل على ذلك: أنه لو كان فعلاً؛ لجاز أن تدخل3 عليه
"ما" كما /يجوز أن/4 تدخل على الأفعال؛ فيقال: "ما حاشا زيدًا" كما
يقال: "ما خلا زيدًا" فلما لم يقل، دل على أنه ليس بفعل، فوجب أن يكون
حرفًا. وذهب الكوفيون: إلى أنه فعل، ووافقهم أبو العباس المبرد من
البصريين، واستدلوا على ذلك من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنَّه يتصرف، والتَّصرف من خصائص الأفعال؛ قال
النَّابغة5: [البسيط]
ولا أرى فاعلاً في الناس يُشبِهُهُ ... وما أُحاشي مِنَ الأقوام مِنْ
أَحدِ6
__________
1 سقطت من "س".
2 في "ط" في ذلك.
3 في "ط" يدخل.
4 زيادة من "س".
5 النَّابغة: سبقت ترجمته.
6 المفردات الغريبة: ما أُحاشي: ما أستثني.
مواطن الشاهد: "وما أحاشي".
وجه الاستشهاد: مجيء فعل أُحاشي في صيغة المضارع من فعل "حاشا" وفي هذا
دليل على تصرف "حاشا" وفعليتها، كما قال الْمُبِّرد والكوفيون، خلافًا
للبصريين القائلين بحرفيتها.
(1/160)
فإذا ثبت أن يكون متصرفًا؛ وجب أن يكون
فعلاً.
والوجه الثاني: أنه يدخله الحذف، والحذف إنما يكون في الفعل لا في
الحرف، ألا ترى أنهم قالوا في حاشا لله: حاشَ لله؛ ولهذا، قرأ أكثر
القرَّاء بإسقاط الألف: {حَاشَ لِلَّهِ} 1.
والوجه الثالث: أنَّ لام الجر يتعلق به في قولهم: "حاشا الله" وحرف
الجر إنما يتعلق بالفعل لا بالحرف؛ لأن الحرف لا يتعلق بالحرف.
والصحيح: ما ذهب إليه البصريون؛ وأما قول الكوفيين: إنه يتصرف بدليل
قوله: "وما أحاشي" فليس فيه حُجة؛ لأن قوله "أحاشي" مأخوذ من لفظ
"حاشى" وليس مُتصرفًا/منه/2، كما يقال: بسمل، وهلل، وحمدل، وسبحل،
وحَوقَل، إذا قال: بسم الله، ولا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد
لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا3 كانت هذه الأشياءُ لا تتصرف،
فكذلك ههنا. وقولهم: إنه يدخله الحذف، والحذف لا يدخل الحرف؛ قلنا: لا
نُسلِّم، بل الحذف قد يدخل الحرف، ألا ترى/ أنهم/4 قالوا في رُبَّ:
رُبَ؟ وقد قُرئ بهما؛ قال الله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} 5 /قرئ/6 بالتشديد والتخفيف؛ وفي
"رُبَّ" أربع لغات: بضم الراء وتشديد الباء وتخفيفها، وبفتح الراء
وتشديد الباء وتخفيفها، وكذلك حكيتم عن العرب أنهم قالوا في: "سوف
أفعل: سو أفعل" وهو حرف، وزعمتم أن الأصل في سأفعل: سوف أفعل؛ فحذفت
الفاء والواو معًا، فدل على أن الحذف يدخل الحرف، وأما قولهم: إن لام
الجر تتعلق به؛ قلنا: لا نُسلِّم، فإن اللام في قولهم: "حاشَ لله"
زائدة، فلا تتعلق بشيءٍ؛ كقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ
__________
1 س: 12 "يوسف، ن: 31، مك". حاشا لله ما هذا بشرًا. وكذلك في الآية
"51": حاشا لله ما علمنا عليه من سوء.
2 سقطت من "س".
3 في "س" وإن.
4 سقطت من "س".
5 س: 15 "الحجر: 2، مك".
6 سقطت من "ط".
(1/161)
لَكُمْ} 1 أي: "ردِفَكم"؛ /و/2 كقوله
تعالى: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} 3 وما أشبه ذلك،
وإنَّما زيدت اللام مع هذا الحرف تقوية له، لِما كان يدخله من الحذف؛
فدل على أنه ليس فعلاً4، وأنَّه حرف.
[جواز مجيء خلا فعلاً وحرفًا]
وأما "خلا" فإنها تكون فعلاً وحرفًا، فإذا كانت فعلاً؛ كان ما بعدها
منصوبًا، وتتضمن ضمير الفاعل، وإذا كانت حرفًا؛ كان ما بعدها مجرورًا؛
لأنها حرف جر، فإن دخل عليها: "ما" كانت فعلاً، ولم يجز أن تكون حرفًا؛
لأنها مع "ما" بمنزلة المصدر، وإذا كانت فعلاً؛ كان ما بعدها منصوبًا
لا غير؛ قال الشاعر5: [الطويل]
ألا كل شيءٍ ما خَلا اللهَ باطلُ ... وكلُ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
وسنذكر هذا 6 في باب ما ينصب به في الاستثناء.
__________
1 س: 27 "النمل، ن: 72، مك".
2 سقطت من "ط".
3 س: 7 "الأعراف، ن: 154، مك".
4 في "س" ليس بفعل.
5 الشاعر: لبيد، وقد سبقت ترجمته.
موطن الشاهد: "ما خلا الله".
6 وجه الاستشهاد: انتصاب لفظ الجلالة بعد "ما خلا" وجوبًا؛ لاقتران
"خلا" بـ "ما" فاقترانها بها، يثبت فعليتها.
(1/162)
|