أسرار العربية الباب الحادي والثلاثون: باب ما يُنْصَب به
في الاستثناء
[علة إعمال أفعال الاستثناء النصب]
إن قال قائل: لِمَ عملت1: "ما خلا، وما عدا، وليس، ولا يكون" النَّصبَ؟
قيل: لأنها أفعال، أما "ما خلا، وما عدا" فهما فعلان؛ لأن ما إذا دخلت
عليهما، كانا معها2 بمنزلة المصدر، وإذا كانا/ معها/3 بمنزلة المصدر،
انتفت عنهما الحرفية، ووجبت لهما الفعلية، وكان فيهما ضمير الفاعل،
فكان ما بعدهما منصوبًا، وحُكي عن بعض العرب، أنه كان يَجرُّ بهما إذا
لم يكن معهما "ما" فيجريهما مُجرى "خلا"؛ لأنَّ "خلا" تارةً تكون
فعلاً، فيكون ما بعدها منصوبًا، وتارةً تكون حرفًا، فيكون ما بعدها
مجرورًا؛ وأمَّا سيبويه، فلم يذكر بعد "عدا" إلا النصب لا غير. وأما
"ليس، ولا يكون" فإنما وجب أن يكون ما بعدهما منصوبًا؛ لأنه خبر لهما؛
لأن التقدير في قولك: "جاءني القوم ليس زيدًا، ولا يكون عمرًا" / أي/4:
"ليس بعضهم زيدًا، ولا يكون بعضهم عمرًا" فـ"بعضهم" الاسم، وما بعده
الخبر؛ وخبر "ليس ولا5 يكون" منصوب6 كما لو لم يكونا في/ باب/7
الاستثناء.
[علَّة لزوم ليس ولا يكون صيغة واحدة بعد الاستثناء]
فإن قيل: فَلِمَ لزما 8 لفظًا واحدًا في التثنية والجمع والتأنيث؟ قيل:
لأنهما لَمَّا استعملا في الاستثناء، قاما مُقام "إلا"، و"إلا" لا
يغيّر لفظه، فكذلك ما قام مُقامه؛ ليدلوا على أنه قائم مُقامه.
__________
1 في "س" عمل.
2 في "س" معهما وهو سهو من الناسخ.
3 سقطت من "ط".
4 سقطت من "س".
5 في "س" وما.
6 في "ط" منصوبًا.
7 سقطت من "س".
8 في "ط" لزم، والصواب ما أثبتناه من "س".
(1/163)
[عدم العطف على ليس ولا يكون بـ و"لا" وعلة
ذلك]
فإن قيل: فلِمَ لا يجوز أن يُعطف عليهما بالواو و"لا" فيقال: "ضربت
القوم ليس زيدًا ولا عمرًا، وأكرمت القوم لا يكون زيدًا ولا عمرًا"؟
قيل: لأن العطف "بالواو ولا" لا يكون إلا بعد النفي، فلما أُقيما
-ههنا- مقام "إلا" غُيِّرا عن أصلهما في النفي، فلم يجز العطف عليهما
"بالواو ولا"؛ فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
(1/164)
الباب الثاني
والثلاثون: باب كم
[بناء كم على السكون وعلة ذلك]
إن قال قائل: لم بُنيتت "كم" على السكون؟ قيل: إنما بُنيت؛ لأنها لا
تخلو إما أن تكون استفهامية، أو خبرية، فإن كانت استفهامية، فقد تضمنت
معنى حرف الاستفهام، وإن كانت خبرية، فهي نقيضة "رُبَّ" لأنَّ "رُبَّ"
للتقليل، و"كم" للتكثير، وهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على
نظيره، فبنيت/كم/1 حملاً على "رُبَّ". وإنما بُنيت على السُكون؛ لأنه
الأصل في البناء.
[وجوب مجيء كم في صدر الكلام وعلة ذلك]
فإن قيل: فَلِمَ2 وجب أن تقع "كم" في صدر الكلام؟ قيل: لأنَّها إن كانت
استفهامية، فالاستفهام له صدر الكلام، وإن كانت خبرية، فهي نقيضة
"رُبَّ"، و"رُبَّ" معناها التقليل، والتقليل مضارع3 للنفي؛ والنفي له
صدر الكلام كالاستفهام.
فإن قيل: فَلِمَ كان ما بعدها في الاستفهام منصوبًا، وفي الخبر
مجرورًا؟ قيل: للفرق بينهما، فجعلت في الاستفهام بمنزلة عدد ينصب ما
بعده، وفي الخبر بمنزلة عدد يجرُ ما بعده، وإنما جُعلت في الاستفهام
بمنزلة عدد (ينصب ما بعده، لأنَّها في الاستفهام بمنزلة عدد) 4 يصلح
للعدد القليل والكثير؛ لأنَّ المستفهم يسأل عن عددٍ قليل5 وكثير، ولا
يعلم مقدار ما يستفهم عنه، فجعلت في الاستفهام بمنزلة العدد المتوسط
بين القليل والكثير، وهو من أحد
__________
1 سقطت من "س".
2 في "س" لِمَ.
3 في "س" يضارع.
4 سقطت من "س".
5 في "ط" كثير وقليل.
(1/165)
عشر إلى تسعة وتسعين، وهو ينصب ما بعده؛
فلهذا، كان ما بعدها1 في الاستفهام منصوبًا؛ وأما في الخبر فلا تكون
إلا للتكثير، فجُعلت بمنزلة العدد الكثير، وهو يجرُّ ما بعده؛ ولهذا2،
كان ما بعدها مجرروًا في الخبر، لأنها نقيضة "رُبَّ" و"رُبَّ" تجر ما
بعدها، وكذلك3 ما حُمل عليها.
[جواز النصب مع الفصل في الخبر وعِلَّة ذلك]
فإن قيل: فَلِمَ جاز النصب مع الفصل في الخبر؟ قيل: إنما جاز النصب
عدولاً عن الفصل بين الجار والمجرور؛ لأنَّ الجار والمجرور بمنزلة
الشيء الواحد، وليس الناصب مع المنصوب بمنزلة الشيء الواحد، على أن بعض
العرب ينصب بها في الخبر من غير فصل، ويجرُّ بها في الاستفهام حملاً
لإحداهما 4 على الأخرى.
فإن قيل: فَلِمَ إذا كانت استفهامية، لم تبين إلا بالمفرد النكرة، وإذا
كانت خبرية جاز أن تبين بالمفرد والجمع؟ قيل: لأنها إذا كانت
استفهامية، حُمِلَت على عددٍ ينصب ما بعده؛ وذلك لا يُبين إلا بالمفرد
النكرة؛ نحو: أحدَ عشرَ رجلاً، وتسع وتسعون جارية؛ فلذلك، لم يجز أن
تُبين إلا بالمفرد النكرة، وإذا كانت خبرية، حُملت على عددٍ يَجُرُّ ما
بعده، والعدد الذي يَجُرُّ ما بعده، يجوز أن يُبين بالمفردم والنكرة/5
كـ "مائة درهم" وبالجمع كـ "ثلاثة أثواب" فلهذا، جاز أن يُتَبَيَّنَ
بالمفرد والجمع، وأما اختصاصهما بالتنكير فيهما جميعًا؛ فلأن "كم"
لَمَّا كانت للتكثير، والتكثير والتقليل لا يصح إلا في النكرة لا في
المعرفة؛ لأن المعرفة تدل على شيءٍ مختص، فلا يصح فيه التقليل، ولا
التكثير؛ ولهذا، كانت "رُبَّ" تختص بالنكرة؛ لأنها لَمَّا كانت
للتقليل، والتقليل إنَّما يصح في النكرة لا في المعرفة، كما بيّنَّا في
"كم" فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "س" بعده.
2 في "س" فلهذا.
3 في "س" فكذلك.
4 في "ط" لإحديهما، وما أثبتناه هو الصّواب.
5 سقطت من "ط".
(1/166)
الباب الثالث
والثلاثون: باب العدد
[علَّة دخول الهاء على العدد المذكّر]
إن قال قائل: لِمَ أدخلت الهاء من الثلاثة إلى العشرة في المذكر؛ نحو:
"خمسة رجال" ولم تدخل في المؤنث؛ نحو: "خمس نسوة"؟ قيل: إنما فعلوا ذلك
للفرق بينهما فإن قيل: فهلَّا عكسوا، وكان الفرق حاصلاً؟ قيل: لأربعة
أوجه:
الوجه الأوَّل: أن الأصل في العدد أن يكون مؤنثًا، والأصل في المؤنث أن
يكون بالهاء، والمذكر هو الأصل، فأخذ الأصل الهاء؛ فبقي المؤنث بغير
هاء.
والوجه الثاني: أن المذكر أخف من المؤنث، فلما كان المذكر أخف من
المؤنث، احتمل الزيادة، والمؤنث لَمّا كان أثقل، لم يحتمل الزيادة.
والوجه الثالث: أن "الهاء" زيدت للمبالغة، كما زيدت في: علامة، ونسابة،
والمذكر أفضل من المؤنث، فكان أولى بزيادتها.
والوجه الرَّابع: أنهم لَمَّا كانوا يجمعون ما كان على مثال "فُعَال"
في المذكر بالهاء؛ نحو: "غُراب وأغربة" ويجمعون ما كان على هذا المثال
في المؤنث بغير هاء؛ نحو: "عُقاب وأعقُب" حملوا العدد على الجمع؛
فأدخلوا الهاء في المذكر، وأسقطوها في2 المؤنث، وكذلك حكمها بعد
التركيب/ إلى العشرة/3، إلا العشرة فإنها تتغير؛ لأنها تكون في حال
التركيب في المذكر بغير هاء، والمؤنث بالهاء، لأنَّهم لَمَّا ركبوا
الآحاد مع العشرة، صارت4 معها بمنزلة اسم واحد؛ كرهوا أن يثبتوا الهاء
في العشرة، لئلا يصير بمنزلة الجمع بين تأنيثين في اسم واحدٍ على لفظ
واحد.
__________
1 في "س" واقعًا.
2 في "س" من.
3 سقطت من "س".
4 في "س" وصيّرت.
(1/167)
[علة بناء الأعداد المركبة على الفتح]
فإن قيل: فَلِمَ بُني ما زاد على العشرة، من أحدَ عشرَ إلى تسعة عشر؟
قيل: لأن الأصل في "أحدَ عشرَ: أحد وعشر" فلما حذف حرف العطف وهو
الواو1، ضُمنا معنى حرف العطف، فلما تضمنا معنى الحرف؛ وجب أن يُبنيا،
وبُنيا على حركة؛ لأن لهما حالة تمكن قبل البناء، وكان الفتح أولى؛
لأنه أخف الحركات؛ وكذلك سائرها.
[علة عدم بناء اثنين في اثني عَشَر]
فإن قيل: فَلِمَ لم يبنوا اثنين في اثني عشر؟ قيل: لوجهين:
أحدهما: أن علم التثنية فيه، هو علم الإعراب، فلو نزعوا منه الإعراب؛
لسقط معنى التثنية.
والثاني: أن إعرابه في وسطه، وفي حال التركيب، لم يخرج عن ذلك؛ فوجب أن
يبقى على ما كان عليه. وبُني "عشر" لوجهين:
أحدهما: أن يكون بُني على قياس أخواته؛ لتضمنه معنى حرف العطف.
والثاني: أن يكون بُني؛ لأنه قام مُقام النُون من "اثنين" فلما قام
مُقام الحرف، وجب أن يُبنى، وليس هو كالمضاف، والمضاف إليه؛ لأن كل
واحدٍ من المضاف والمضاف إليه، له حكم في نفسه، بخلاف "اثني عشر" ألا
ترى أنك إذا قلت: "ضربت اثني عشر رجلاً" كان الضرب واقعًا بالعشر
والاثنين، كما لو قلت: "ضربت اثنين" ولو قلت: "ضربت غلام زيد" لكان
الضرب واقعًا بالغلام دون زيد؟ فلهذا، قلنا: إن العشر قام مُقام النون،
وخالف المضاف إليه.
[علة حذف الواو من الأعداد المركبة]
فإن قيل: فَلِمَ حُذفت الواو من أحَدَ عَشَرَ إلى تسعةَ عشَرَ وجُعل
الاسمان اسمًا واحدًا؟ قيل: إنما فعلوا ذلك حملاً على العشرة وما قبلها
من الآحاد؛ لقربها منها؛ لتكون على لفظ الأعداد المفردة، وإن كان الأصل
هو العطف، والذي يدل على ذلك أنهم إذا بلغوا /إلى/2 العشرين ردُّوها
إلى العطف؛ لأنه الأصل، وإنما ردوها إذا بلغوا إلى العشرين؛ لبعدها عن
الآحاد.
__________
1 في "س" حذفت واو العطف وفي "ط" وهي.
2 سقطت من "س".
(1/168)
[علة عدم اشتقاقهم من لفظ الاثنين]
فإن قيل: فهلَّا اشتقوا من لفظ الاثنين كما اشتقوا من لفظ الثلاثة
والأربعة؛ نحو: "الثلاثين والأربعين"؟ قيل: لأنهم لو اشتقوا من لفظ
الاثنين لما كان يتم معناه إلا بزيادة واوٍ ونون، أو ياء ونون، وكان
يُؤدي إلى أن يكون له إعرابان، وذلك لا يجوز، فلم يبقَ من الآحاد شيءٌ
يُشتقُ منه إلا العشرة، فاشتقوا من لفظها عددًا/ عوضًا/1 عن اشتقاقهم
من لفظ الاثنين؛ فقالوا: "عشرون".
[علة كسر العين من عشرين]
فإن قيل: فَلِمَ كسروا العين من "عِشرين"؟ قيل: لأنه لَمَّا كان الأصل
أن يشتق من لفظ الاثنين، وأول الاثنين مكسور، كسروا أول العشرين ليدلوا
بالكسر على الأصل.
[علة كون تمييز الأعداد من أحد عشر إلى تسعة وتسعين مفردًا نكرة
منصوبة]
فإن قيل: فَلِمَ وجب أن يكون ما بعد أحد عشر إلى تسعة وتسعين واحدًا
نكرةً منصوبة؟ قيل: إنما كان واحدًا نكرة؛ لأن المقصود من ذكر النوع
تبيين المعدود من أي نوع هو، وهذا يحصل بالواحد النكرة، (وكان الواحد
النكرة) 2 أولى من الواحد المعرفة؛ لأن الواحد النكرة أخف من الواحدة
المعرفة، ولا يلزم فيه ما يلزم في العدد الذي يُضاف إلى ما بعده، /و/3
لأنه ليس بمضاف، فيتوهم أنه جزءٌ مما بينته، كما يلزم بالمضاف4؛ فلذلك
وجب أن يكون واحدًا نكرةً. وإنما وجب أن يكون منصوبًا؛ لأنه من أحد
عشرَ إلى تسعة عشرَ؛ أصله التنوين، وإنما حُذف للبناء، وكأنه5 موجود في
اللفظ؛ لأنه لم يقم مُقامة شيءٌ يبطل حكمه، فكان باقيًا في الحكم، فمنع
من الإضافة. وأما العشرون إلى التسعين، ففيه النون موجودة، فمنعت من
الإضافة، وانتصب على التمييز على ما بيناه في بابه.
__________
1 سقطت من "س".
2 سقطت من "س".
3 سقطت الواو من "س".
4 في "س" في المضاف.
5 في "س" فكأنَّه.
(1/169)
[علة إضافة تمييز المائة]
فإن قيل: فَلِمَ إذا بلغت إلى الماء، أُضيفت إلى الواحد؟ قيل: لأنَّ
المائة حُملت على العشرة من وجهٍ؛ لأنَّها عقد مثلها، وحملت على
التسعين؛ لأنَّها تليها؛ فأُلزمت الإضافة، تشبيهًا بالعشرة، وَبُيِّنت1
بالواحد تشبيهًا بالتسعين.
[عِلَّة قولهم ثلاثمائة]
فإن قيل: فَلِمَ قالوا "ثلاثمائة" ولم يقولوا "ثلاث مئين"؟ قيل: كان
القياس أن يُقال: /ثلاث/2 مئين إلا أنهم اكتفوا بلفظ المائة؛ لأنهم تدل
على الجمع، وهم يكتفون بلفظ الواحد عن الجمع؛ قال الله تعالى: {ثُمَّ
نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} 3؛ أي: أطفالاً /و/4 قال الشاعر5: [الوافر]
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... فإن زمانكم زَمَنٌ خَميصُ6
أي في /بعض/7 بطونكم؛ والشَّواهد على هذا النحو كثيرة.
[علة إجراء الألف مجرى المائة في الإضافة إلى الواحد]
فإن قيل: فَلِمَ أُجري الألف مُجرى المائة في الإضافة إلى الواحد؟ قيل:
لأنَّ الألف عقد، كما أنَّ المائة عقد.
[علة جمع الألف إذا دخل على الآحاد]
فإن قيل: فَلِمَ يجمع الألف إذا دخل على الآحاد، ولم يفرد مع الآحاد
كالمائة؟ قيل: لأن الألف طرف كما أن الواحد طرف؛ لأن الواحد أوّل،
والألف آخر، ثم تتكرر الأعداد؛ فلذلك، أُجري مُجرى ما يضاف إلى الآحاد؛
فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "ط" وبنيت.
2 سقطت من "س".
3 س: 22 "الحج، ن: 5، مد".
4 زيادة من "س".
5 لم يُنسب إلى قائل معين.
6 معنى الشاهد: قلِّلولا من الأكل الكثير تعفُّوا، فإن زمانكم زمن قحط
ومجاعة.
موطن الشاهد: "بعض بطنكم".
وجه الاستشهاد: استعمال "بطن" بمعنى الجمع؛ لأن المراد: بعض بطونكم.
7 سقطت من "ط".
(1/170)
|