أسرار العربية الباب الرابع والثلاثون: باب النِّداء
[علة بناء المنادى المفرد المعرفة]
إن قال قائل: لِمَ بُني المنادى المفرد المعرفة؟ قيل: لوجهين:
أحدهما: أنه أشبه كاف الخطاب، وذلك من ثلاثة أوجه؛ الخطاب، والتعريف،
والإفراد؛ لأَّن كل واحدٍ منهما يتصف بهذه الثلاثة، فلمَّا أشبه كاف
الخطاب من هذه الأوجه، بُني كما أن كاف الخطاب مبنية.
والوجه الثاني: أنه أشبه الأصوات؛ لأنه صار غاية، ينقطع عندها الصوت،
والأصوات مبنية؛ فكذلك ما أشبهها.
[علة بنائه على حركة]
فإن قيل: فَلِمَ بُني على حركة؟ قيل: لأنَّ له حالة تمكن قبل النداء،
فبني على حركةٍ، تفضيلاً على ما بُني، وليس له حالة تمكُّن.
[علة كون حركته ضمًّا]
فإن قيل: فَلِمَ كانت الحركة ضمة؟ قيل: لثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنه لو بُني على الفتح؛ لالتبس بما لا ينصرف، ولو بُني
على الكسرِ؛ لالتبس بالمضاف إلى النفس، وإذا بطل بناؤه على الكسر
والفتح؛ تعين بناؤه على الضم.
والوجه الثاني: أنه بُني على الضَّمِّ فرقًا بينه وبين المضاف؛ لأنه إن
كان /المضاف/1 مضافًا إلى النفس، كان مكسورًا، وإن كان مضافًا إلى
غيرك، كان مفتوحًا2، فبني على الضم لئلا يلتبس بالمضاف؛ لأن الضَّمَّ،
لا يدخل المضاف.
__________
1 سقطت من "س".
2 في "س" منصوبًا.
(1/171)
والوجه الثالث: أنه بُني على الضم؛ لأنه
لَمّا كان غاية يتمّ بها الكلام، وينقطع عندها، أشبه "قبلُ وبعدُ"
فبنوه على الضَّمِّ كما بنوهما على الضَّمِّ.
[علة مجيء صفته مرفوعة أو منصوبة]
فإن قيل: فَلِمَ جاز في وصفه الرفع والنصب؛ نحو: "يا يزيدُ الظريفُ
والظريفَ"؟ قيل: جاز الرفع حملاً على اللفظ، والنصب حملاً على الموضع،
والاختيار عندي، هو النصب؛ لأن الأصل في وصف المبنيّ هو الحمل على
الموضع، لا على اللفظ.
فإن قيل: فلِمَ جاز الحمل -ههنا- على اللفظ، وضمَّةُ زيد ضمة بناء،
وضمة الصفة ضمة إعراب؟ قيل: لأن الضَّمَّ لَمَّا اطَّرد في كل اسم
مُنادى /مفرد/1 أشبه الرفع للفاعل؛ لاطِّراده فيه، فلمّا أشبه الرفع؛
جاز أن يتبعه الرّفعُ، غير أن هذا الشبه لم يخرجها عن كونها ضمَّة
بناء، وأن الاسم مبنيّ؛ فلهذا، كان الأقيس هو النصب، ويجوز الرفع عندي
على تقدير: مبتدأ محذوف؛ والتقدير فيه: "أنت الظريف" ويجوز النصب على
تقدير فعل /محذوف/2؛ والتقدير فيه: "أعني الظريف"، ويؤيد الرفع فيه
بتقدير المبتدأ، والنصب له بتقدير الفعل أنَّ المنادى أشبه الأسماء
المضمرة، والأسماء المضمرة لا تُوصف.
[علة جواز العطف بالرفع والنصب على المنادى المفرد]
فإن قيل: فَلِمَ جاز في العطف -أيضًا- الرفع والنصب؛ نحو: "يا زيدُ
والحارثُ /والحارثَ/3"؟ قيل: إنما جاز الرفع والنصب على ما بينا في
الوصف من الحمل تارةً على اللفظ، وتارةً على الموضع؛ قال الله تعالى:
{يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} 4 و"الطير" بالرفع والنصب،
فمن قرأ بالرفع، حمله على اللفظ، ومن قرأ بالنصب، حمله على الموضع.
[علة كون المضاف والنكرة منصوبين]
فإن قيل: فلِمَ كان المضاف والنكرة منصوبين؟ قيل: لأنَّ الأصل في كل
منادى أن يكون منصوبًا؛ لأنه مفعول؛ إلا أنه عرض في المفرد المعرفة ما
يوُجب بناءه؛ فبقي ما سواه على الأصل.
__________
1 سقطت من "ط".
2 سقطت من "س".
3 سقطت من "س".
4 س: 34 "سبأ، ن: 10، مك".
(1/172)
[عامل النصب في المنادى وخلافهم فيه]
فإن قيل: فما العامل فيه النصب؟ قيل: اختلف النحويون في ذلك؛ فذهب
بعضهم1 إلى أن العامل فيه النصب فعل مُقدر؛ والتقدير فيه: "أدعو زيدًا،
أو أنادي زيدًا". وذهب آخرون إلى أنه منصوب بـ "يا" لأنها نابت عن:
"أدعو /أ/ و2 أنادي" والذي يدل على ذلك، أنه تجوز فيه الإمالة؛ نحو:
"يا زيد" والإمالة لا تجوز في الحروف، إلا أنَّه لَمَّا قام مُقام
الفعل، جازت الإمالة فيه3.
[علة عدم بناء المنادى المضاف والنكرة]
فإن قيل: أليس المضاف والنكرة مخاطبين، فهلا بُنيا لوقوعهما موقع أسماء
الخطاب كما بُني المفرد؟ قيل لوجهين:
أحدهما: أنَّ المفرد وقع بنفسه موقع أسماء الخطاب، وأمّا المضاف
فيتعرَّف4 بالمضاف إليه، فلم يقع موقع أسماء الخطاب كالمفرد، وأما
النكرة فبعيدة الشبه من أسماء الخطاب، ولم يجز بناؤها5.
(والوجه الثاني: أنا لو سلمنا أنَّ المضاف والنكرة وقعا موقع أسماء
الخطاب، إلا أنه لم يلزم بناؤهما) 6؛ لأنَّه عرض فيهما ما منع من
البناء7، أمّا المضاف: فوجود المضاف إليه؛ لأنَّه حل محل التنوين،
ووجود التنوين يمنع /من/8 البناء، فكذلك ما يقوم مقامه، وأما النكرة،
فنُصبت؛ ليفصل بينهما وبين النكرة التي يقصد قصدها، وكانت النكرة التي
يُقصد قصدها أولى بالتغيير؛ لأنها هي المخرجة عن بابها، فكانت أولى
بالتغيير.
[جواز حذف حرف النداء إلا مع النكرة والمبهم]
فإن قيل: فهل يجوز حذف حرف النداء؟ قيل: يجوز حذف /حرف/9 النِّداء إلا
مع النكرة والمبهم؛ لأنّ الأصل فيهما النداء بـ "أي"؛ نحو: "يا أيُها
الرجل، ويا أيُهذا الرجل" فلما اطرحوا "أيًّا" والألف واللام، لم
يطرحوا حرف النداء، لئلا يؤدي ذلك إلى الإجحاف بالاسم.
__________
1 في "س" بعض النحويين.
2 سقطت من "ط".
3 في "س" جاز فيه الإمالة.
4 في "س" فيعرف.
5 في "س" بناؤهما
6 سقطت من "س".
7 في "ط" النداء، وما أثبتناه من "س".
8 زيادة من "س".
9 سقطت من "س".
(1/173)
[خلافهم في وصف أي]
فإن قيل: فهل يجوز في وصف "أي" ههنا ما جاز في وصف زيد؛ نحو: "يا زيدُ
الظريفُ والظريف"؟ قيل: اختلف النحويون في ذلك؛ فذهب جماهير النحويين
إلى أنه لا يجوز فيه إلا الرفع؛ لأن الرجل -ههنا- هو المنادى في
الحقيقة، إلا أنهم أدخلوا "أيّا" ههنا1 توصلاً إلى نداء ما فيه الألف
واللام، فلمّا كان /هو/2 المنادى في الحقيقة، لم يجز فيه إلا الرفع مع
كونه صفة، إيذانًا بأنه المقصود في النداء3. وذهب أبو عثمان المازني
إلى أنه يجوز فيه النصب؛ نحو: "يا أيها الرجل" كما يجوز "يا زيد
الظريف" وهو -عندي- القياس، لو ساعده الاستعمال.
[علة عدم جمعهم بين يا وأل التعريف]
فإن قيل: فَلِمَ لم يجمعوا بين: "يا" و"الألف واللام"؟ قيل: لأنَّ "يا"
تفيد التعريف، والألف واللام تفيدد التعريف، فلم يجمعوا بين علامتي
تعريف، إذ لا4 يجتمع علامتا تعريف في كلمة واحدة.
فإن قيل: قولهم "يا زيدُ" هل تعرّف بالنداء، أو بالعلمية؟ قيل: في ذلك
وجهان:
أحدهما: أنّا نقول: إنَّ تعريف العلمية زال منه، وحدث فيه تعريف النداء
والقصد، فلم يجتمع فيه تعريفان.
والثاني: المسلَّم أنَّ تعريف العلمية والنداء اجتمعا فيه، ولكن جاز
ذلك؛ لأنَّا /إنما/5 منعنا عن الجمع بين التَّعريفين إذا كان بعلامة
لفظية كـ "يا" مع "الألف واللام" والعلمية ليست بعلامة لفظية؛ فبان
الفرق بينهما.
فإن قيل: أليس قد قال الشاعر:
فديتكِ يا التي تيَّمت قلبي
وقال الآخر:
فيا الغلامان اللذان فَرّا
__________
1 في "س" "يا" توصلا.
2 سقطت من "س".
3 في "س" بالنداء.
4 في "س" ولا.
5 زيادة من "س".
(1/174)
فكيف جاز الجمع بين "يا" و"الألف واللام"؟
قيل: إنما قوله1: [الوافر]
فديتُكِ يا التي تيمت قلبي ... وأنت بخيلةٌ بالود عني
فإنّما جمع بين "يا" و"الألف واللام"؛ لأنَّ الألف واللام في الاسم
الموصول ليستا للتعريف؛ لأنه إنما يتعرّف بصلته لا بالألف واللام، فلما
كان فيه زائدين لغير التعريف؛ جاز أن يجمع بين "يا" وبينهما؛ وأما قول
الآخر2: [الرجز]
فيا الغلامان اللذان فرَّا ... إياكُما أن تُكسباني شرًّا3
فالتقدير فيه: فيا أيها الغلامان، فحذف الموصوف، وأقام الصفة مقامه؛
لضرورة الشعر، وما جاء لضرورة الشعر4 لا يورد نقضًا.
[علة جمعهم بين يا ولفظ الجلالة "الله"]
فإن قيل: قد5 قالوا "يا الله" فجمعوا بين "يا" و"الألف واللام"؟ قيل:
إنما جاز أن يجمعوا بينهما لوجهين:
أحدهما: أن الألف واللام عوض عن حرف سقط من نفس الاسم، فإن أصله: "إله"
فأسقطوا الهمزة من أوله، وجعلوا الألف واللام عوضًا منها6؛
__________
1 لم يُنسب إلى قائل معين.
موطن الشاهد: "يا التي".
وجه الاستشهاد: مناداة ما فيه "أل" بيا النِّدائية؛ وذلك لأنَّ "أل" في
الاسم الموصول لا تفيد التعريف، ولأنه يتعرف بصلته -كما ذكر المؤلف في
المتن- وللنحاة في هذه المسألة آراء متعددة منها:
عدم جواز "يا التي" ويُنسب هذا الرأي إلى المبرد الذي كان يطعن بصحة
الشاهد السابق الذي رواه سيبويه.
ومنهم من تأوَّل البيت على الحذف؛ والتقدير: يا أيتها التي تيمت قلبي؛
فأقام الصفة مقام الموصوف.
2 لم يُنسب إلى قائل مُعين.
موطن الشاهد: "يا الغلامان".
3 وجه الاستشهاد: جمع الشاعر بين حرف النداء والمنادى المعرَّف بـ "أل"
في غير لفظ الجلالة، وهذا غير جائز إلا في الضرورة الشعرية، ولما ذكر
المؤلف في المتن.
4 في "س" للضرورة.
5 في "س" فقد.
6 في "س" منهما.
(1/175)
والذي يدلُ على ذلك أنهم جوزوا قطع الهمزة؛
ليدلوا على أنها قد صارت عوضًا عن همزة /القطع/1، فلما كانت عوضًا عن
همزة القطع، وهي حرف من نفس الاسم، لم يمتنعوا2 من أن يجمعوا بينهما.
والوجه الثاني: أنه إنما جاز في هذا الاسم خاصةً؛ لأنه كثر في
استعمالهم؛ فخص على ألسنتهم، فجوزوا فيه ما لا يجوز في غيره.
[علة إلحاق الميم المشددة في لفظ الجلالة]
فإن قيل: فَلِمَ أُلحقت الميم المشددة في آخر هذا الاسم، نحو
"اللهمَّ"؟ قيل: اختلف النحويون في ذلك؛ فذهب البصريون إلى أنها عوض من
"يا" التي للتنبيه، والهاء مضمومة لأنه نداء؛ ولهذا، لا يجوز أن يجمعوا
بينهما /فلا/3 يقولون "يا اللهمَّ" لئلا يجمعوا بين العوض والمعوض.
وذهب الكوفيون إلى أنها ليست عوضًا من "يا" وإنما الأصل فيه "يا الله
أُمَّنا بخير" إلا أنه لَمّا كثر في كلامهم، وجرى على ألسنتهم، حذفوا
بعض الكلام تخفيفًا، كما قالوا: "ايش" والأصل فيه: "أي شيء"، وقالوا:
"ويْلُمِّه" والأصل فيه: "ويل أُمه"، وهذا كثير في كلامهم، فكذلك ههنا.
قالوا: والذي يدلُ على أنها ليست عوضًا /عنها/4 أنهم يجمعون بينهما،
قال الشاعر5: [الرجز]
إني إِذَا ما حَدَثٌ أَلَمَّا ... أقولُ يا اللهمَّ يا اللَّهمَّا
__________
1 سقطت من "س".
2 في "س" لم يجيزوا، وهو سهو من الناسخ.
3 سقطت من "س".
4 سقطت من "س".
5 الشاعر هو: أمية بن عبد الله بن أبي الصلت الثقفي، شاعر جاهلي من أهل
الطائف، كان ممن حرموا على أنفسهم الخمرة، ونبذوا عبادة الأوثان في
الجاهلية، أدرك الإسلام، ولم يُسلم؛ له ديوان شعر مطبوع. مات سنة 5 هـ.
الشعر والشعراء: 459/1، والأغاني: 179/3.
موطن الشاهد: "يا اللهمَّ، يا اللهمَّا".
وجه الاستشهاد: الجمع بين "يا" والميم المشددة في "اللهمَّ" وهذا يُعد
من باب الضرورة عند البصريين. أما الكوفيون، فتمسكوا بهذا الشاهد
وأمثاله؛ ليذهبوا إلى أن الميم المشددة في اللهمَّ ليست عوضًا من "يا"
التي للتنبيه في النداء؛ فلو كانت كذلك؛ لما جاز أن يجمع بينهما؛ لأن
العوض والمعوض لا يجتمعان؛ والصواب ما ذهب إليه البصريون؛ لما ذكره
المؤلف في المتن.
(1/176)
وقال الآخر1: [الرجز]
وَمَا عَليكِ أَنْ تَقُولي كُلَّمَا
صلَّيتِ أو سبَّحتِ يا اللَّهمَّا
اردد علينا شيخنا مُسَلَّمَا
فجمع بين "الميم" و"يا"، ولو كانت عِوضًا عنها، لم يجمع بينهما؛ لأنَّ
العوض والمعوض لا يجتمعان. والصحيح: ما ذهب إليه البصريون، وأما قول
الكوفيين: إن أصله "يا الله أُمَّنا بخير" فهو فاسد؛ لأنه لو كان الأمر
على ما /ذكروا/2 وذهبوا إليه، لما جاز أن يستعمل هذا اللفظ إلا في ما
يؤدي إلى3 هذا المعنى، ولا شكَّ أنه يجوز أن يقال: "اللهم العنه، اللهم
أخزه" وما أشبه ذلك؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ
كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 4، ولو
كان الأمر على ما ذهبوا إليه؛ لكان التقدير فيه: "أُمَّنا بخير إن كان
هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارةً من السماء، أو ائتنا بعذاب
أليم" ولا شك أن هذا التقدير ظاهر الفساد، إذ لا يكون أمّهم بالخير أن
يمطر عليهم حجارة من السماء؛ أو يُؤتَوا بعذاب أليم؛ وقولهم: إنه يجوز
أن يجمع بين "الميم" و"يا" بدليل ما أنشدوه، فلا حُجَّة فيه؛ لأنه إنما
جُمع بينهما لضرورة الشعر، ولم يقع الكلام في حال الضرورة، وإنما سهَّل
الجمع بينهما للضرورة، أن العِوضَ في آخر الكلمة، والجمع بين العِوض
والمعوَّض جائز في ضرورة الشعر؛ /كما/5 قال الشاعر6: [الطويل]
هُمَا نَفَثَا في فِيَّ مِنْ فَمَوَيهِمَا ... [على النابح العاوي أشد
رجام] 7
فجمع بين "الميم" و"الواو" وهي عِوَض منها، فكذلك ههنا؛ فاعرفه تصب، إن
شاء الله تعالى.
__________
1 لم يُنسب إلى قائل مُعين؛ والشاهد فيه كسابقة تمامًا.
2 سقطت من "س".
3 في "س" عن.
4 س: 8 "الأنفال: 32، مد".
5 زيادة من "س".
6 الشاعر هو: الفرزدق، وقد سبقت ترجمته.
7 موطن الشاهد: "فمويهما".
وجه الاستشهاد: الجمع بين الواو والميم -وهي عِوض منها- لضرورة الشعر،
كما بيَّن المؤلف في المتن.
(1/177)
الباب الخامس
والثلاثون: باب الترخيم
[تعريف الترخيم]
إن قال قائل: ما الترخيم؟ قيل: حذف آخر الاسم في النِّداء.
[عِلَّة اختصاص الترخيم بالنِّداء]
فإن قيل: فَلِمَ خُصَّ الترخيم في النداء1؟ قيل: لكثرة دوره في الكلام؛
فحُذف طلبًا للتخفيف، وهو باب تغيير، ألا تَرى أنه عرض فيه حذف الإعراب
والتنوين، وهما من باب تغيير، والتغيير يؤنس بالتغيير.
[خلافهم في ترخيم الثلاثي]
فإن قيل: فهل يجوز ترخيم ما كان على ثلاثة أحرف؟ قيل: اختلف النحويون
في ذلك؛ فذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ترخيمه، وذلك؛ لأنه الترخيم
إنما دخل في الكلام لأجل التخفيف2، وما كان على ثلاثة أحرف، فهو على3
غاية الخفة، فلا يحتمل الحذف؛ لأنَّ الحذف منه يُؤَّدِّي إلى الإجحاف
به. وذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترخيمه إذا كان أوسطه متحرِّكًا، وذلك؛
نحو قولك في "عنقُ": "يا عنُ" وفي "كتف": "يا كَتِ" وما أشبه ذلك؛
/وذلك/4 لأنَّ في الأسماء ما /يماثله/5 ويضاهيه؛ نحو: "يد، وغد، ودم"
والأصل فيه: "يدي، وغدو، ودمو" بدليل قولهم: "دموان" وقيل: "دميان"
أيضًا، فنقصوها للتَّخفيف، فبقيت "يد، وغد، ودم" فكذلك ههنا؛ وهذا فاسد
من وجهين:
أحدهما6: أنَّ الحذف في هذه الأسماء قليل في الاستعمال، بعيد عن
القياس، أمَّا قِلَّته في الاستعمال فظاهر؛ لأنَّها كلمات يسيرة
معدودة، وأمَّا بعده
__________
1 في "س" بالنِّداء.
2 في "س" للتخفيف.
3 في "س" في.
4 زيادة من "س".
5 في "س" ما يضاهيه.
6 سقطت من "س".
(1/178)
عن القياس؛ فلأَ القياس يقتضي أنَّ حرف
العلة إذا تحرَّك، وانفتح ما قبله، يقلب ألِفًا ولا يحذف، فلمّا
/حُذف/1 ههنا من "دمو" دل على أنه على خلاف القياس.
والوجه الثاني: أنهم إنما حذفوا "الياء والواو" من "يد، وغد، ودم"
لاستثقال الحركات عليها؛ لأن الأصل فيها "يَدَيٌ، وغَدَوٌ، ودَمَوٌ"؛
/و/2 أما في باب الترخيم، فإنما وقع الحذف فيه على خلاف القياس؛ لتخفيف
الاسم الذي كثرت حروفه، ولم يوجد -ههنا- لأنه في غاية الخفة، فلا حاجة
بنا إلى تخفيفه بالحذف.
[علة ترخيم ما فيه علامة التأنيث]
فإن قيل: فَلِمَ جاز ترخيص ما فيه علامة التأنيث3؛ نحو قولك في سنة "يا
سن"4،وما أشبه ذلك؟ قيل: لأنَّ هاء التأنيث بمنزلة اسم ضُمَّ إلى اسم،
وليست من بناء الاسم، فجاز حذفها كما يحذف الاسم الثاني من الاسم
المركب؛ تقول في ترخيم حضرموت: "يا حَضْرَ" وفي بعلبك: "يا بَعْلَ"،
وما أشبه ذلك.
[خلافهم في جواز ترخيم المضاف إليه]
فإن قيل: فهل يجوز ترخيم المضاف إليه؟ قيل: اختلف النحويون في ذلك؛
فذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ترخيمه، [لأن الترخيم إنما يكون في ما
يؤثر النداء فيه بـ "يا" والمضاف إليه، لم يؤثر في النداء بـ "ياء"
فكذلك لا يجوز ترخيمه] 5. وذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترخيمه، واحتجوا
بقول زهير بن أبي سلمى6 /وهو/7: [الطويل]
خذوا حَظَّكم يا آل عِكْرِمَ واحفظوا ... أَوَاصِرَنا والرَّحم بالغيب
تُذْكَرُ8
__________
1 سقطت من "س".
2 سقطت من "س".
3 في "ط" فلم جاز الترخيم ما في علامة التأنيث، وما أثبتناه هو
الصّواب.
4 في "س" ثبة: ياثب.
5 سقطت من "س".
6 سبقت ترجمته.
7 سقطت من "س".
8 المفردات الغريبة: الأواصر: العواصف والأرحام؛ والمعنى: خذوا نصيبكم
من مودَّتنا ومسالمتنا.
موطن الشاهد: "عِكْرِمَ".
وجه الاستشهاد: ترخيم "عكرمة" وهو واقع في محل جر بالإضافة، فاحتج
الكوفيون به وبأمثاله على جواز ترخيم الاسم الواقع مضافًا إليه، بينما
يرى البصريون أن ترخيمه من قبيل ترخيم الاسم للضرورة الشعرية.
(1/179)
أراد يا آل عكرمة؛ فحذف التاء للترخيم، وهو
عكرمة بن خصفة بن قيس غيلان1، واحتجّوا -أيضًا- بقول الشاعر2: [الطويل]
أبا عُرْو لا تبعد فكل ابنِ حُرَّةٍ ... سَيَدعوهُ دَاعِي مِيتَةً
فيجيبُ3
أراد: أبا عروة إلا أنه حذف التاء للترخيم، واحتجوا -أيضًا- بقول
الآخر4: [الرجز]
أما ترين اليوم أم حَمْزَ
قاربت بين عَنَقِي وجَمْزِي5
أراد أم حمزة، فحذف التاء للترخيم؛ فيدل6 على جوازه. وما أنشدوه لا
حُجَّة /لهم/7 فيه؛ لأنه رخَّمه للضرورة، وترخيم المضاف إليه يجوز في
ضرورة الشعر، كما يجوز الترخيم في غير النداء لضرورة الشعر؛ قال
الشاعر8: [الوافر]
أَلا أَضْحَت حَبَائِلُكُم رِمَامَا ... وأضحتْ منك شاسعة أُمَامَا9
__________
1 في "س" قيس عيلان؛ ولعلّه الصواب.
2 لم يُنسب إلى قائل معين.
3 عُرو: عروة. لا تَبْعَدْ: لا تهلك. سيدعوه: السين -هنا- تفيد التأكيد
لا التسويف.
موطن الشاهد: "أبا عرو".
وجه الاستشهاد ترخيم "عروة" الواقع مضافًا إليه من قبيل الضرورة
الشعرية عند البصريين، والجواز بشكل عام عند الكوفيين.
4 القائل هو: العجّاج، وقد سبقت ترجمته.
5 المفرادات الغريبة: العَنَق: السّير الخفيف لضعفٍ أو لأمر ما.
والجمز: نوع من السير شبيه بالهرولة، أو الوثوب؛ قال في القاموس: هو
عَدوٌ دون الْحُضْر وفوق العنق. وأما العنق، فقال فيه: سير مسبطِرّ
للإبل والدابة. القاموس: مادة "عنق" ص821، ومادة "جمز". ص455. والشاهد
فيه كما في الشاهدين السابقين تمامًا.
6 في "س" فدلّ.
7 سقطت من "ط".
8 الشَّاعر: جرير، وقد سبقت ترجمته.
9 المفردات الغريبة: الرّمام: جمع رميم؛ وهو الخلق البالي. الشاسعة:
الواسعة -وهنا- بمعنى البعيدة؛ والمراد: إِنَّ حبال الوصل بينه وبين
أمامة قد تقطَّعت للفراق الحاصل بينهما.
موطن الشاهد: "أُماما".
وجه الاستشهاد: ترخيم "أمامة" في غير النداء للضرورة الشِّعرية.
(1/180)
يريد: أُمامة.
وقال الآخر1: [البسيط]
إنَّ ابنَ حارثَ إن أَشتقْ لرؤيتِهِ ... أو أمتدحهُ فإن الناس قد
عَلِمُوا2
يريد: ابن حارثة، وهذا كثير في كلامهم.
[خلافهم في ترخيم الاسم المفرد الذي قبل آخره حرف ساكن]
فإن قيل: فهل يجوز ترخيم الاسم المفرد الذي قبل آخره حرف ساكن بحذف
آخره مع حذف السَّاكن؛ نحو أن تقول في "سِبْطَر: يا سِبَ" أو لا؟ قيل:
اختلف النحويون في ذلك؛ فذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك؛ لأنه كما
بقيت حركة الاسم المرخم بعد دخول الترخيم، كما كانت قبل /دخول/3
الترخيم، فكذلك السكون؛ لأنه موجود في الساكن حسب وجود الحركة في
المتحرّك، (فكما بقيت الحركة في المتحرّك) 4، فكذلك السكون في الساكن.
وذهب الكوفيون إلى أن ترخيمه بحذف /الحرف/5 الأخير منه، وحذف الحرف
الساكن الذي قبله، وذلك؛ لأن الحرف إذا سقط من هذا النحو، بقي آخره
ساكنًا، فلو قلنا: إنه لا يحذف؛ لأدَّى ذلك إلى أن يشابه الأدوات، وما
أشبهها من الأسماء، وذلك لا يجوز. وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لو كان هذا
مُعتبرًا؛ لكان ينبغي أن يُحذف الحرف المكسور، لئلا يؤدي ذلك إلى أن
يُشَابه المضاف إلى المتكلِّم، ولا قائل به؛ فدل على فساد ما ذهبوا
إليه.
__________
1 يُنسب إلى أوس بن حبناء التميميّ، ولم أصطد له ترجمة وافية.
2 المفردات الغريبة: ابن حارثَ: هو حارثة بن بدر الغُداني، سيّد غُدانة
بن يربوع بن حنظلة بن تميم؛ له أخبار في الفتوح. مات سنة 64هـ. "أسرار
العربية 241/حا1"، نقلاً عن الإصابة 371/1.
موطن الشاهد: "ابن حارث".
وجه الاستشهاد: ترخيم "حارثة" في غير النداء للضرورة الشّعرية، وبقاؤه
مفتوحًا كما كان قبل الترخيم.
3 سقطت من "س".
4 سقطت من "س".
5 زيادة من "س".
(1/181)
[علة بناء المرخم على الضم]
فإن قيل: فَلِمَ جاز أن يُبْنَى المرخَّمُ على الضَّمِّ في أحد
القولين، كما جاز أن يبقى1 على حركته وسكونه؟ قيل: لأنهم لو قدّروا
بقيّة الاسم المرخم بمنزلة اسم، لم يحذف منه شيء، فبنوه على الضَّمِّ؛
نحو: "يا حارُ ويا مال" كما لو لم يحذف منه شيء؛ فاعرفه تُصب، إن شاء
الله تعالى.
__________
1 في "س" يُبْنَى.
(1/182)
الباب السادس
والثلاثون: باب الندبة
[تعريف النُّدبة]
إن قال قائل: ما النُّدبة؟ قيل: تفجُّع يلحق النَّادبَ عند فقد
المندوب، وأكثر ما يلحق ذلك النساء لضعفهن عن تحمل المصائب.
[علامة الندبة]
فإن قيل: فما علامة النُّدبة؟ قيل: "وا" 1 أو "يا" في أوّله، و"ألف
وهاء" في آخره، وإنما زيدت "وا" أو "يا" في أوله، و"ألف وهاء" في آخره؛
ليمدَّ بها الصوت، ليكون المندوب بين صوتين مديدين، وزيدت الهاء بعد
الألف؛ لأن الألف خفيَّة2، والوقف عليها يزيدها خفاء3، فزيدت الهاء
عليها في الوقف؛ لتظهر الألف بزيادتها بعدها في الوقف.
[عِلَّة نداء المندوب بأعراف أسمائه]
فإن قيل: فَلِمَ وجب ألا يندب إلا بأعرف أسمائه وأشهرها؟ قيل: ليكون
ذلك، عذرًا للنادب عند السامعين؛ لأنهم إذا عذروه؛ شاركوه في التفجع
/والرَّزية/4، فإذا شاركوه في التَّفجُّع؛ هانت عليه المصيبة.
[عِلَّة لحاق ألف الندبة آخر المضاف إليه]
فإن قيل: فَلِمَ لحقت ألف الندبة آخر المضاف إليه؛ نحو: "يا عبد
الملكاه" ولم تلحق آخر الصفة؛ نحو: "يا زيد الظريفاه"؟ قيل: لأن ألف
الندبة إنما تلحق ما يلحقه تنبيه النداء، والمضاف والمضاف إليه بمنزلة
شيء واحدٍ، والدليل على ذلك: أنه لا يتم المضاف إلا بذكر المضاف إليه،
ولا بُدَّ
__________
1 في "س" واو.
2 في "س" خفيفة.
3 في "س" خِفَّة.
4 سقطت من "س".
(1/183)
مع ذكر المضاف من ذكر المضاف إليه، ألا ترى
أنك لو قلت في "غلام زيد وثوب خز: غلام وثوب" لم يَتم إلا بذكر المضاف
إليه؟ فلمَّا كان المضاف والمضاف إليه بمنزلة الشيء الواحد؛ جاز أن
تلحق ألف الندبة آخر المضاف إليه؛ وأمَّا الصفة فليست مع الموصوف
بمنزلة شيءٍ واحد؛ فلهذا، لا يلزم ذكر الصفة مع الموصوف، بل أنت
مُخيَّر في ذكر الصفة؛ إن شئت ذكرتها، وإن شئت لم تذكرها، ألا ترى أنك
إذا قلت: "هذا زيد الظريف" كنت مُخيَّرًا في ذكر الصفة، إن شئت ذكرتها،
وإن شئت لم تذكرها؟ وإذا كنت مُخيَّرًا في ذكر الصفة، دل على أنهما
ليسا بمنزلة شيءٍ واحدٍ، وجب ألا تلحق ألف الندبة الصفة بخلاف المضاف
إليه. وقد ذهب بعض الكوفيين1، ويونس بن حبيب البصري2 إلى جواز إلحاقها
الصفة3 حملاً على المضاف إليه، وقد بينا الفرق بينهما. ويحكون على بعض
العرب أنه قال: /واعديماه/4، واجُمْجُمَتَي الشَّامِيَّتَيْماه" وهو
شاذ، لا يُقاس عليه.
[علة جواز ندبة المضاف إلى المخاطب]
فإن قيل: فَلِمَ جاز ندبة المضاف إلى المخاطب؛ نحو: "واغلامكاه" ولم
يجز نداؤه؟ قيل: لأن المندوب، لا يُنَادَى ليجيب5، بل يُنادَى، ليشهر
النادب مصيبته، وأنه قد وقع في أمرٍ عظيم، وخطب جسيم، ويظهر تفجّعه كيف
لا يكون في حالة من إذا دُعي أجاب، وأما المنادى، فهو مخاطب، فلو جاز
نداؤه؛ لكان يؤدِّي إلى أن يجمع فيه بين علامتي خطاب؛ وذلك لا يجوز؛
فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "س" ذهب الكوفيون.
2 يونس: هو أبو عبد الرحمن، يونس بن حبيب الضبي البصري، إمام أهل
البصرة في عصره في اللغة والنحو والأدب من أصحاب أبي عمرو بن العلاء،
وشيخ سيبويه، والكسائي، والفَرَّاء. مات سنة 182هـ. بغية الوعاء 365/2.
3 في "س" بالصِّفة.
4 سقطت من "س".
5 في "س" فيجيب.
(1/184)
الباب السابع
والثلاثون: باب "لا"
...
الفصل السابع والثلاثون: باب "لا"
[علة بناء النكرة مع لا على الفتح]
إن قال قائل: لِمَ بنيت النكرة مع "لا" على الفتح، نحو "لا رجل في
الدار"؟ قيل: إنما بُنيت مع "لا" لأن التقدير في قولك: "لا رجل في
الدار: لا من رجل في الدَّار"؛ لأنه جوابُ قائل قال: "هل من رجل في
الدار؟ فلما حُذفت من اللفظ، وركبت مع "لا" تضمَّنت معنى الحرف؛ فوجب
أن تُبنى، وإنما بُنيت على حركة؛ لأن لها حالة تمكن قبل البناء، وإنما
كانت الحركة فتحة؛ لأنها أخف الحركات. وذهب بعض النحويين إلى أن هذه
الحركة حركة إعراب، لا حركة بناء؛ لأن "لا" تعمل النصب إجماعًا1؛ لأنها
نقيضة "إن" لأن "لا" للنفي، و"إنَّ" للإثبات، وهم يحملون الشيء على ضده
كما يحملونه على نظيره، ألا ترى أن "لا" لَمَّا كانت فرعًا على "إنَّ"
في العمل، و"إن" تنصب مع التنوين، نصبت "لا" بغير تنوين؛ لينحطَّ الفرع
عن درجة الأصل؟ إذ الفروع تنحطُّ عن درجات الأصول أبدًا؛ وهذا -عندي-
فاسد؛ لأنه لو كان مُعربًا؛ لوجب ألا يحذف منه التنوين؛ لأنه التنوين
ليس من عمل "إنَّ" وإنما هو شيء يستحقه الاسم في أصله، وإذا لم يكن من
عمل "إنَّ" فلا معنى لحذفه مع "لا" لينحط الفرع عن درجة الأصل؛ لأن
الفرع إنما ينحط عن درجة الأصل في ما كان من عمل الأصل، وإذا لم يكن
التنوين من عمل الأصل؛ وجب أن يكون ثابتًا مع الفرع، ثُمَّ انحطاطها عن
درجة "إِنَّ" قد ظهر في أربعة مواضع2.
الأول: أنَّ "إنَّ" تعمل في المعرفة والنكرة و"لا" لا تعمل إلا في
النكرة خاصة.
والثاني: أن "إنَّ" لا تركَّب مع اسمها لقوتها، و"لا" تركب مع اسمها
لضعفها.
__________
1 في "س" بالإجماع.
2 في "س" أشياء.
(1/185)
والثالث: أن "إنَّ" تعمل في اسمها مع الفصل
بينها وبينه بالظَّرف وحرف الجر1، و"لا" لا تعمل مع الفصل.
والرّبع: أن "إنَّ" تعمل في الاسم والخبر عند البصريين، و"لا" تعمل في
الاسم دون الخبر عند كثير من المحققين، فانحطت "لا" التي هي الفرع، عن
درجة "إنَّ" التي هي الأصل.
[جواز العطف على النكرة بالنصب على اللفظ] .
فإن قيل: فَلِمَ إذا عطف على النكرة، جاز فيه النصب على اللفظ، كما جاز
فيه الرَّفع على الموضع، والعطف على لفظ المبنيّ لا يجوز؟ قيل: لأنّه
لما اطَّرد البناءُ على الفتحة في كُلّ نكرةٍ رُكِّبت مع "لا" /لأنها/2
أشبهت النَّصب للمفعول لاطِّراده فيه، فأشبهت حركة المعرب، فجاز أن
يُعطف عليها بالنصب.
[علة جواز بناء صفة النكرة معها على الفتح]
فإن قيل: فَلِمَ جاز أن تُبنى صفة النكرة معها على الفتح، كما جاز أن
تُنصب حملاً على اللفظ، وترفع حملاً على الموضع؟ قيل: لأنَّ بناء الاسم
مع الاسم أكثر من بناء الاسم مع الحرف، فلمّا جاز أن يُبنى الاسم مع
الحرف، جاز -أيضًا- أن يُبنى مع الصفة؛ لأنَّ الصفة قد تكون مع الموصوف
كالشيء الواحد بدليل أنَّه لا يجوز السكوت على الموصوف دون الصفة في
نحو قولك: "أيها الرجلُ" ثم هما في المعنى كشيءٍ واحد؛ فجاز أن تبني كل
واحدٍ منهما مع صاحبه، ولا يجوز -ههنا- أن تركِّب "لا" مع النكرة إذا
رُكِّبت مع صفتها؛ لأنه يؤدي إلى أن تجعل ثلاث كلمات بمنزلة كلمةٍ
واحدة؛ وهذا لا نظير له في كلامهم.
[جواز الرفع عند التكرار]
فإن قيل: فَلِمَ جاز الرفع إذا كررت؛ نحو: "لا رجل في الدَّار ولا
امرأةٌ"؟ قيل: لأنك إذا كررت، كان جوابًا لمن قال: "أرجل في الدار أم
امرأة" فتقول: "لا رجل في الدار ولا امرأة"؛ ليكون الجواب على حسب
السؤال.
[بناء لا مع النكرة دون المعرفة وعِلَّة ذلك]
فإن قيل: لِمَ بُنيت "لا" مع النكرة دون المعرفة؟ قيل: لأن النكرة تقع
بعد "من" في الاستفهام، ألا ترى أنك تقول: "هل من رجلٍ في الدار"؟ فإذا
وقعت
__________
1 في "س" وحروف.
2 سقطت من "س".
(1/186)
بعد "مِن" في السؤال، جاز تقدير "مِن" في
الجواب، وإذا حذفت "مِنْ" في السؤال؛ تضمَّنت النكرة معنى الحرف؛ فوجب
أن تُبنى؛ وأما المعرفة، فلا تقع بعد "مِنْ" في الاستفهام، ألا ترى أنك
لا تقول: "هل من زيد في الدار" فإذا لم تقع بعد "مِنْ" في السؤال، لم
يجز تقدير "مِنْ" في الجواب، وإذا لم يجز تقدير "مِنْ" في الجواب؛ لم
يتضمَّن المعرفة معنى الحرف؛ فوجب أن يبقى على أصله في الإعراب؛ فأمَّا
قول الشاعر1: [الرجز]
لا هيثمَ الليلة في المطيّ ... [ولا فتى مثل ابن خيبري] 2
فإنما جاز؛ لأن التقدير/فيه/3: "لا مثل هيثم" فصار في حكم النَّكرة،
فجاز أن يُبنى مع "لا"، وعلى هذا قولهم: "قضية ولا أبا حسن لها"؛ أي:
ولا مثل أبي حسن، ولولا هذا التقدير؛ لوجب الرفع مع التكرير4؛ نحو: "لا
زيد عندي ولا عمرو".
[وجوب التكرير في المعرفة]
فإن قيل: فَلِمَ وجب التكرير في المعرفة؟ قيل: لأنه جاء مبنيًّا على
السؤال؛ كأنه قال: "أزيد عندك أم عمرو"؟ فقال: "لا زيد عندي ولا عمرو"؛
والدليل على أن السؤال في تقدير التكرير: أنَّ المفرد لا يفتقر إلى
ذكره في الجواب، ألا ترى أنه إذا قيل: "أزيد عندك"؟ كان الجواب أن
تقول: "لا" من غير أن تذكره، كأنَّك قلت: "لا أصل لذلك". فأمَّا قولهم:
"لا بدَّ لك5 أن
__________
1 يُنسب إلى بعض بني دُبير -كما في الدرر اللوامع- من دون تحديد.
2 المفردات الغريبة: هيثم: اسم رجل كان حسب الحُداء للإبل. ابن خيبريّ:
نقل محقق أسرار العربية نقلاً عن ابن الكلبي: "أنه من بني ضُبيس، جميل
بن عبد الله بن معمر بن الحارث بن خيبري بن ظبيان وهو صاحب بثينة، ونسب
إلى أحد أجداده؛ وقد مدحه الراجز بالفتوة؛ لأنه كان شجاعًا يحمي أدبار
المطيّ من الأعداء. "أسرار العربية 250/حا1؛ نقلاً عن الخزانة، الشاهد
261".
موطن الشاهد: "لا هيثمَ".
وجه الاستشهاد: مجيء اسم "لا" النافية للجنس معرفةً؛ لكونه أراد: لا
أمثال هيثم ممن يقوم مقامه في حداء المطي، فصار العلم شائعًا، إذا
أدخله في جملة المنفيين.
3 سقطت من "س".
4 في "س" مع النكرة، وهو سهو من الناسخ.
5 في "س" لا نولك، وهو سهو من الناسخ.
(1/187)
تفعل كذا" فإنما لم تُكرِّر؛ لأنه صار
بمنزلة "لا ينبغي لك" فأجروها مُجراها، حيث كانت في معناها1، كما أجروا
"يذر" /في/2 مجرى "يدع" لاتفاقهما في3 المعنى.
[عدم جواز بناء لا مع المضاف وعِلَّة ذلك]
فإن قيل: لِمَ لا تُبنى مع المضاف؟ قيل: لم يجز أن تُبنى مع المضاف؛
لأنَّ المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيءٍ واحد، فلو بُنيا مع "لا" لكان
يؤدي إلى أن تجعل ثلاث كلمات بمنزلة واحدة؛ وهذا لا نظيرَ له في
كلامهم، والمشبَّه للمضاف4 في امتناعه في التركيب؛ حكمه حكم المضاف
/إليه/5؛ فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "س" فأجروها مجرى حيث في معناها
2 سقطت من "س".
3 في "س" على.
4 بالمضاف
5 سقطت من "س".
(1/188)
|