أسرار العربية

الباب السادس والأربعون: باب البدل
[الغرض في البدل]
إن قال قائل: ما الغرض في البدل؟ قيل: الإيضاح ورفع الالتباس، وإزالة التوسع والمجاز.
[أضرب البدل]
فإن قيل: فعلى كم ضربًا البدل؟ قيل: على أربعة أضرب؛ بدل الكل من الكل، وبدل البعض من الكل، وبدل الاشتمال، وبدل الغلط. فأمَّا بدل الكل من الكل؛ فكقولك1: "جاءني أخوك زيدٌ، ورأيت أخاك زيدًا، ومررت بأخيك زيد" قال الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 2؛ وبدل البعض من الكُل؛ كقولك: "جاءني بنو فلان ناس منهم" ولابد أن يكون فيه ضمير يعلقه بالمبدل منه؛ قال الله تعالى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 3. وأما قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 4 فـ"من استطاع" بدل من الناس، وتقديره: "من استطاع سبيلاً منهم" فحذف الضمير للعلم به. وأمَّا بدل الاشتمال؛ فنحو قولك: "سُلب زيدٌ ثوبُه، ويعجبني عمرو عقلُه" ولابد فيه -أيضًا- من ضمير يعلقه بالمبدل منه؛ قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 5. فقوله: " قتال فيه" بدل من الشهر، والضمير فيه عائد إلى الشهر، فأمَّا قول الشاعر6: [الطويل]
لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثَوَيتُهُ ... تُقضى لُبَانَاتٌ وَيَسْأَمُ سَائِمُ7
__________
1 في "ط" فقولك.
2 س: 1 "الفاتحة، 4، 5 مك".
3 س: 2 "البقرة، ن: 126، مد".
4 س: 3 "آل عمران، ن: 97، مد".
5 س: 2 "البقرة، ن: 217، مد".
6 لم يُنسب إلى قائل مُعين.
7 المفردات الغريبة: الثَّواء: طول المُقام، أو الإقامة. اللُّبانات: جمع "لُبانة" وهي الحاجة النفسية. وللبيت رواية أُخرى: "تقضِّي لبانات ويسأمُ سائمُ".
موطن الشاهد: "حولٍ ثواءٍ".
وجه الاستشهاد: حذف الضَّمير العائد إلى المبدل منه "حول" كما أوضح المؤلف في المتن.

(1/217)


فالتقدير1 فيه: "/ثواء/2 ثويته فيه"، فحذف للعلم /به/3. فأمَّا4 بدل الغلط، فلا يكون في قرآن، ولا كلام فصيح، وهو أن يريد أن يلفظ بشيء، فيسبق لسانه إلى غيره؛ فيقول: "لقيت زيدًا عمرًا" فعمرو هو المقصود، وزيد وقع في لسانه، غلط به5، فأتى بالذي قصده، وأبدله من المغلوط به، والأجود في مثل هذا أن يستعمل /معه/6 بل فيقول: بل عمرًا.
[العامل في البدل]
فإن قيل: فما العامل في البدل؟ قيل: اختلف النحويون في ذلك؛ فذهب جماعة منهم إلى أن العامل في البدل غير العامل في المبدل؛ وهو جملتان، ويحكى عن أبي علي الفارسي7 أنه قيل له: كيف يكون البدل إيضاحًا للمبدل، وهو من غير جملته؟ فقال: لَمَّا لم يظهر العامل في البدل، وإنَّما دل عليه /العامل/8 في المبدل، واتصل البدل بالمبدل في اللفظ، جاز أن يوضحه، والذي يدل على أن العامل في البدل غير العامل في المبدل /منه/9 قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} 10 فظهور اللام في "بيوتهم" وهو بدل من "مَنْ". ويدلُ11 على أن البدل غير العامل في المبدل؛ قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} 12 فظهور اللام مع "مَنْ" /و/13 هو بدل من "الذين استضعفوا" يَدُلُّ 14 على أن العامل في البدل غير العامل في المبدل؛ وذهب قوم إلى أن العامل في البدل هو العامل في المبدل /منه/15؛ كما أنَّ العامل في الصفة هو العامل في الموصوف، والأكثرون على الأوّل؛ فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "ط" التَّقدير.
2 سقطت من "ط".
3 سقطت من "ط".
4 في "س" وأمَّا.
5 في "س" غلطًا به.
6 سقطت من "س".
7 أبو علي الفارسي: سبقت ترجمته.
8 سقطت من "س".
9 سقطت من "ط".
10 س: 43 "الزخرف، ن: 33، مك".
11 في "س" يدلُّ.
12 س: 7 "الأعراف، ن: 75، مد".
13 سقطت من "ط".
14 في "ط" فدلَّ.
15 سقطت من "ط".

(1/218)


الباب السابع والأربعون: باب العطف
[عدد حروف العطف]
إن قال قائل: كم حروف العطف؟ قيل: تسعة: الواو، والفاء، وثم، وأو، ولا، وبل، ولكن، وأم، وحتى.
[علة كون الواو أصل حروف العطف]
فإن قيل: فَلِمَ1 كان أصل حروف العطف الواو؟ قيل: لأنَّ الواو، لا تدل على أكثر من الاشتراك فقط، وأما غيرها من الحروف، فتدلُّ2 على الاشتراك، وعلى معنى زائدٍ على ما سَنُبَيِّن، وإذا كانت هذه الحروف، تدل على زيادة معنى ليس في الواو، صارت الواو بمنزلة الشيء المفرد (والباقي بمنزلة المركب) 3؛ والمفرد أصل للمركَّب.
[الواو تفيد الجمع دون الترتيب ودليل ذلك]
فإن قيل: فما الدليل على أن الواو تقتضي الجمع دون الترتيب؟ قيل: الدليل على ذلك قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} 4، وقال في موضع آخر: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} 5 ولو كانت الواو تقتضي الترتيب لما جاز أن يتقدَّم في إحدى الآيتين ما يتأخَّر في الأخرى.
(و) 6 قال لبيد7: [الكامل]
أُغلي السّباءَ بكلِّ أَدْكَنَ عَاتِقٍ ... أَو جَونَة قُدِحَت وَفُضَّ خِتَامُهَا8
__________
1 في "س" لِمَ.
2 في "س" فيدل.
3 سقطت من "س".
4 س: 2 "البقرة، ن: 58، مد".
5 س: 7 "الأعراف، ن: 161، مد".
6 سقطت من "ط".
7 لبيد: سبقت ترجمته.
8 المفردات الغريبة: أُغلي السّباء: أجعل ثمنها غاليًا. والسّباء: الشراء. الأَدكن: الأغبر.
عاتِق: شراب جيد معتق. الْجَون: الأسود المشرب حمرة؛ ومُؤَنَّثه: الْجَونة؛ والجونة في البيت: زق الخمرة، أو القدر، أو الخابية.
موطن الشاهد: "قُدحت وفُضَّ ختامُها".
وجه الاستشهاد: مجيء "الواو" عاطفةً مُفيدة للجمع دون الترتيب؛ لأنَّ القدح -الغرف- يكون بعد الفضّ -كشف الغطاء- ولو كانت الواو تفيد التَّرتيب؛ لقال: فُضَّ ختامها، وقُدِحت.

(1/219)


وتقديره: "فُضَّ ختامها وقدحت"؛ لأنه يريد بالجونة ههنا: القِدْر، وقُدِحَت: أي غُرِفَت، والْمِغْرَفة يقال لها: الْمِقْدَحة، وفُضَّ ختامها: أي كُشف غطاؤها؛ والغرف إنما يكون بعد الكشف؛ هكذا ذكره الثمانينيّ؛ والأظهر: أنه أراد بالجونة: الخابية، وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم بـ"المرتجل في شرح السبع الطوال"1. والذي يدلُ /أيضًا/2 على أنها للجمع دون الترتيب قولهم: "المال بين زيد وعمرو" كما يُقال: "بينهما" ويقال: "اختصم زيد وعمرو" ولو كانت الواو تفيد /فيه/3 الترتيب؛ لما جاز/ ... /4 أن تقع ههنا؛ لأنَّ هذا الفعل لا يقع إلا من اثنين، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما؛ فدلَّ على أنها تفيد الجمع دون الترتيب.
[معاني بقية الحروف العاطفة]
فأمَّا "الفاء" فإنها تفيد الترتيب والتعقيب، و"ثمّ" تفيد الترتيب والتراخي، و"أو" تفيد الشَّك والتخيير والإباحة، و"لا" تفيد النفي، و"بل" تفيد الانتقال من قصة إلى قصة أخرى، و"لكن" تفيد الاستدراك، وإنما تعطف في النفي دون الإثبات، بخلاف "بل" فإنها تعطف في النفي والإثبات معًا.
[علة استعمال بل بعد النفي]
فإن قيل: فَلِمَ جاز أن تستعمل /بل/5 بعد النفي كـ"لكن" ولم يجز أن تستعمل "لكن" بعد الإثبات كـ"بل"؟ قيل: لأنَّ "بل" إنما تستعمل في الإيجاب لأجل الغلط والنسيان لما قبلها، وهذا إنما يقع في الكلام نادرًا، فاقتصروا على حرف واحدٍ، وأمَّا استعمال "لكن" فإنما يكون بعد النفي؛ فجاز أن تشترك6
__________
1 اسم كتاب للمؤلِّف.
2 سقطت من "ط".
3 زيادة من "ط".
4 في "ط" زيادة أن يُقال ولا لزوم لها، فلم نثبتها في المتن.
5 سقطت من "س".
6 في "ط" يشترك.

(1/220)


معها فيه؛ لأن الكلامين صواب، ولا ينكر تكرار1 ما يقتضي الصَّواب، فلذلك، افترق الحكم فيهما.
[أم متصلة ومنقطعة]
وأمَّا "أم" فتكون على ضربين؛ متصلة، ومنقطعة؛ فأمَّا المتصلة، فتكون بمعنى أي نحو: "أزيد عندك أم عمرو" أي: "أيهما عندك". وأمَّا المنقطعة، فتكون بمنزلة "بل والهمزة"؛ كقولهم: "إنها لإبل أم شاء"؛ والتقدير فيه: "بل أهي شاء" كأنه رأى أشخاصًا، فغلب على ظنه أنها إبل، فأخبر بحسب ما غلب على ظنِّه، ثم أدركه الشَّك، فرجع إلى السؤال والاستثبات، فكأنه قال: "بل أهي شاء" ولا يجوز أن تقدر "بل" وحدها والذي يدل على ذلك قوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} 2 ولو كان بمعنى "بل" وحدها؛ لكان التقدير بل له البنات ولكم البنون وهذا كفر /محض/3؛ فدل على أنها بمنزلة "بل والهمزة".
[إمَّا ليست حرف عطف]
فأمَّا "إما" فليست حرف عطف؛ ومعناها كمعنى "أو" إلا أنها أقعد في باب الشك من "أو" لأنَّ "أو" يمضي صدر الكلام4 معها على اليقين، ثُم يطرأ الشك من آخر الكلام إلى أوله، وأمَّا "إما" فيُبنى الكلام معها من أوله على الشك؛ وإنما قلنا: إنها ليست حرف عطف؛ لأنَّ حرف العطف، لا يخلو إمَّا أن يعطف مفردًا على مفردٍ، أو جملةً على جملةٍ؛ فإذا قلت: "قام إمَّا زيدٌ وإمَّا عمرٌو" لم تعطف مفردًا على مفردٍ، ولا جملةً على جملةٍ، ثُمَّ لو كانت حرف عطف؛ لما جاز أن يتقدم على الاسم؛ لأنَّ حرف العطف لا يتقدم على المعطوف عليه، ثُمَّ لو كانت -أيضًا- حرف عطف لما جاز أن يجمع بينها5 وبين الواو، فلمَّا جمع بينهما، دلَّ على أنها ليست حرف عطف؛ لأن حرف العطف، لا يدخل على مثله؛ فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "س" تكرير.
2 س: 52 "الطُّور: 39، مك".
3 سقطت من "س".
4 في "س" كلامك.
5 في "ط" بينهما.

(1/221)


الباب الثامن والأربعون: باب ما لا ينصرف
[العلل المانعة من الصرف]
إن قال قائل: كم العلل التي تمنع الصرف؟ قيل: تسع؛ وهي: وزن الفعل، والوصف، والتأنيث، والألف والنون الزائدتان، والتعريف، والعجمة، والعدل، والتركيب، والجمع، ويجمعها بيتان من الشعر هُما1: [الرجز]
جمعٌ ووصفٌ وتأنيثٌ ومعرفةٌ ... وعجمةٌ ثم عدلٌ ثمّ تركيبُ
والنون زائدة من قبلها ألفٌ ... ووزن فعلٍ وهذا القول تقريب
[العلل المانعة من الصرف فروع وأوجه ذلك]
فإن قيل: ومن أين كانت هذه العلل فروعًا؟ قيل: لأنَّ وزن الفعل فرع على وزن الاسم، والوصف فرع على /وزن/2 الموصوف، والتأنيث فرع على التذكير، والألف والنون الزائدتان فرع لأنهما تجريان مجرى علامة التأنيث في امتناع دخول علامة التأنيث عليهما، ألا ترى أنه لا يقال: "عطشانة، وكسرانة" كما لا يُقال "حمراة وصفراة"، والتعريف فرع على التنكير، والعجمة فرع على العربية، والجمع فرع على الواحد، والعدل فرع؛ لأنَّه متعلق بالمعدول عنه، والتركيب فرع على الإفراد؛ فهذا وجه كونها فروعًا.
[لِمَ تكون العلل مانعة من الصرف؟]
فإن قيل: فَلِمَ وجب أن تكون هذه العلل تمنع الصرف؟ قيل: لأنها لَمّا كانت فروعًا على ما بينا؛ والفعل فرع على الاسم، وهو أثقل من الاسم لكونه فرعًا؛ فقد3 أشبهت الفعل، فإذا اجتمع في الاسم علتان من هذه العلل، وجب أن يمتنع من الصرف؛ لشبهه بالفعل.
__________
1 في "ط" وهي، والصَّواب ما ذكرنا.
2 زيادة من "ط".
3 في "س" وقد.

(1/222)


[الممنوع من الصرف لا يكون إلا بتوفر علَّتين أو علَّة تقوم مقامهما]
فإن قيل: فَلِمَ لم يمتنع1 الصرف بعلة واحدة؟ قيل: لأنَّ الأصل في الأسماء2 الصرف، ولا تمتنع من الصرف بعلة واحدةٍ؛ لأنها لا تقوى على نقله عن أصله، إلا أن تكون العلَّة تقوم مقام علتين؛ فحينئذٍ تمنع3 من الصرف بعلة واحدة؛ لقيام علة مقام علتين.
[علة امتناع ما لا ينصرف من التنوين والجر]
فإن قيل: لِمَ مُنع ما لا ينصرف التنوين والجر؟ قيل لوجهين:
أحدهما: أنه إنما مُنع من التنوين؛ لأنَّه علامة التصرف فلمَّا وجد ما يوجب منع التصرف4 وجب أن يحذف، ومنع الجر تبعًا له.
والوجه الثاني: أنه إنَّما مُنع الجر أصلاً، لا تبعًا /له/5 لأنَّه إنَّما مُنع من الصرف؛ لأنَّه أشبه الفعل، والفعل ليس فيه6 جَرٌّ ولا تنوين؛ فكذلك -أيضًا- ما أشبهه.
[علة حمل الجر على النصب في الممنوع من الصرف]
فإن قيل: فَلِمَ حُمل الجر على النصب في ما لا ينصرف قيل: لأنَّ بين الجر والنصب مشابهة؛ ولهذا حمل الجر على النصب في التثنية، وجمع المذكر، والمؤنث السالم، فلمَّا حمل الجر على النصب في تلك المواضع؛ فكذلك يحمل الجر على النصب ههنا.
[ما لا ينصرف نكرة كان أم معرفة وعلة ذلك]
فإن قيل: فَلِمَ كان جميع ما لا ينصرف في المعرفة، ينصرف في النكرة إلا خمسة أنواع: "أَفْعَل" /إذا كان/8 نعتًا؛ نحو: "أزهر"، وما كان آخره ألف التأنيث؛ نحو: "حبلى، وحمراء" وما كان على "فَعَلان" مؤنثه "فَعْلَى"؛ نحو: "سكران وسكرى"، وما كان جمعًا بعد ألفه حرفان، أو ثلاثة أوسطها ساكن؛ نحو: "مساجد، وقناديل" وما كان معدولاً عن العدد؛ نحو: "مثنى، وثُلاث
__________
1 في "س" يمنع.
2 في "س" الاسم
3 في "س" يمنع.
4 في "س" الصَّرف.
5 سقطت من "س".
6 في "س" له.
7 في "س" حمل النصب على الجر.
8 سقطت من "س".

(1/223)


/ورباع/1" وأشباهه؟ قيل: أمَّا "أَفْعَل" فإنَّما لم ينصرف معرفةً ولا نكرةً؛ لأنَّه إذا كان معرفةً، فقد اجتمع فيه التعريف ووزن الفعل، وإذا كان نكرةً، فقد اجتمع فيه الوصف، ووزن الفعل؛ وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أنه إذا سُمِّي به، ثم نُكِّر؛ انصرف؛ لأنَّه لَمّا سُمِّي به، زال عنه الوصف، وإذا2 نُكِّر، بقي وزن الفعل وحده؛ فوجب أن ينصرف؛ والصحيح: أنَّه لا ينصرف؛ لأنَّه إذا نُكِّر، رجع إلى الأصل، وهو الوصف؛ فيجتمع فيه /علتان وَهُما/3 وزن الفعل والوصف، كما أنَّهم صرفوا قولهم: "مررت بنسوةٍ أربع" وإن كان على وزن الفعل وهو صفة؛ لأن4 الأصل أن يكون اسمًا، لا صفة مراعاةً للأصل، فكذلك -ههنا- نُراعي أصله في الوصف، وإن كان قد سُمِّي به. وأما ما كان آخره ألف التأنيث، فإنما لم ينصرف /البتة/5؛ لأنه مؤنث، وتأنيثه لازم، فكأنَّه أُنِّثَ مرتين؛ فلهذا، لا ينصرف؛ لأنَّ العلة فيه، قامت مُقام علتين. وأما ما كان على "فَعْلَان" مؤنثه "فعلى"؛ نحو: "سكران وسكرى"؛ فلأن6 الألف والنون فيه أشبهتا ألفي التأنيث؛ نحو: "حمراء" وذلك من وجهين:
أحدهما: امتناع دخول تاء التأنيث.
والثاني: أن بناء مذكّره مُخالفٌ لبناء مُؤنثه، فإن7 لم يكن له /مؤنث/8 على "فَعْلَى"؛ نحو: "عثمان" فإنه لا ينصرف معرفةً، وينصرف نكرةً، وليس من هذه الأنواع. وأما ما كان جمعًا بعد ألفه حرفان أو ثلاثة، أوسطها ساكن؛ فإنَّما مُنِعَ من الصرف البتة، وذلك لأربعة أوجه ذكرها الثمانيني9:
الوجه الأول: أنَّه لَمَّا كان جمعًا، لا يمكن جمعه مرَّة ثانية، فكأنه قد جُمِعَ مرَّتين.
والوجه الثاني: أنَّه جمعٌ لا نظير له في الآحاد، فعدم النَّظير يقوم مُقام عِلَّة ثانية.
__________
1 سقطت من "س".
2 في "س" فإذا.
3 سقطت من "س" وفي "ط" وهو، والصواب ما أثبتنا.
4 في "ط" إلا أن.
5 زيادة من "ط".
6 في "س" لأنَّ.
7 في "ط" إن.
8 سقطت من "س".
9 الثمانيني: عمر بن ثابت، نحويّ أخذ النحو عن ابن جني، وكان ضريرًا؛ والثمانيني نسبةً إلى بليدة قرب الموصل. مات سنة 442هـ.

(1/224)


والوجه الثالث: أنه جمع، ولا يمكن أن يُكَسَّر مرةً ثانيةً، فأشبه الفعل؛ لأنَّ الفعل لا يدخله التكسير1.
والوجه الرابع: أنه جمع لا نظير له في الأسماء العربية، فجرى مجرى الاسم الأعجمي؛ لأنَّ الأعجمي يكون على غير وزن العربي؛ والوجهان الآخران يرجعان إلى الأولين. وأما ما كان معدولاً عن العدد؛ نحو: "مثنى، وثلاث" فإنما مُنِعَ الصرف في النكرة، وذلك للعدل، والوصف؛ وقيل: لأنه عُدل عن اللفظ والمعنى؛ فأمّا عدله في اللفظ فظاهر، وأمّا عدله في المعنى؛ فلأن العدد يُرادُ به قبل العدد الدلالة على قدر المعدود، ألا ترى أنك إذا قلت: "جاءني اثنان أو ثلاثة" أردت قدر ما جاءك، وإذا قلت: "جاءني مثنى وثلاث"، لم يجز حتى يتقدَّم قبله جمع لتدل2 بذكر المعدود على الترتيب، فتقول: "جاءني القوم مثنى مثنى، وثُلاث ثُلاث"؛ أي: "اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة"، فدل على أنه معدول من جهة اللفظ والمعنى؛ فلذلك، لم ينصرف في النكرة.
[علة جر ما لا ينصرف في التعريف والإضافة]
فإن قيل: فَلِمَ دخل/ ... /3 ما لا ينصرف الجر مع الألف واللام، أو الإضافة؟ قيل: لثلاثة أوجه:
الوجه الأوَّل: أنه4 أُمِنَ فيه التَّنوين؛ لأنَّ الألف واللام والإضافة لا تكون مع التنوين؛ فلمَّا وُجِدَت أُمِن فيه التَّنوين5؛ فدخله الجرّ في موضع الجرّ.
والوجه الثاني: أنَّ الألف واللام والإضافة قامت مقام التَّنوين، ولو كان التنوين فيه؛ لجاز فيه الجرّ، فكذلك /مع/6 ما قام مقامه.
والوجه الثالث: أنه بالألف واللام والإضافة بعُد عن شبه الفعل، فلمَّا بعُد عن شبه الفعل، دخله الجرُّ في موضع الجرّ؛ لأنه قد صار بمنزلة ما فيه علة واحدة؛ فلهذا المعنى، دخله الجر مع الألف واللام والإضافة؛ فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "ط" التنكير، والصواب ما أثبتناه من "س".
2 في "س" ليدل.
3 في "ط" زيادة جمع ولا مبرر لها، فلم نثبتها في المتن.
4 في "س" لأنه.
5 في "ط" فلمَّا لا وجدت مع التنوين أُمن فيه التنوين؛ والأفضل ما أثبتناه من "س".
6 سقطت من "س".

(1/225)


الباب التاسع والأربعون: باب إعراب الأفعال وبنائها
[علة كون الأفعال ثلاثة]
إن قال قائل: لِمَ كانت الأفعال ثلاثة: "ماضٍ، وحاضر ومستقبل"؟ قيل: لأنَّ الأزمنة ثلاثة، ولَمّا كانت ثلاثةً، وجب أن تكون1 الأفعال ثلاثة: ماضٍ، وحاضر، ومستقبل.
[عِلَّة بناء الفعل الماضي على الفتح]
فإن قيل: فَلِمَ بُني الفعل الماضي على حركة، ولِمَ كانت الحركة فتحة؟ قيل: إنّما بُني الفعل أوَّلاً؛ لأنَّ الأصل في الأفعال البناء، وبُني على حركة، تفضيلاً له على فعل الأمر؛ لأنَّ الفعل الماضي أشبه الأسماء في الصِّيغة2؛ نحو قولك: مررت برجل ضرب، كما تقول: مررت برجل ضارب؛ وأشبه3 -أيضًا- ما أشبه الأسماء في الشرط والجزاء؛ فإنك تقول: إن فعلتَ فعلتُ؛ والمعنى فيه: إنْ تَفْعَل أفعل؛ فلمّا قام الماضي مُقام المستقبل؛ والمستقبل قد أشبه الأسماء؛ وجب أن يُبنى على حركةٍ، تفضيلاً له على فعل الأمر الذي ما أشبه الأسماء، ولا أشبه ما أشبهها. وإنما كانت الحركة فتحةً لوجهين:
أحدهما: أن الفتحة أخف الحركات، فلمّا وجب بناؤه على حركة؛ وجب أن يُبنى على أخفِّ الحركات.
والوجه الثاني: أنَّه لا يخلو إما أن يُبنى على الكسر، أو على الضم، أو على الفتح؛ فبطل4 أن يُبنى على الكسر؛ لأنَّ الكسر ثقيل، والفعل ثقيل، والثقيل لا ينبغي أن يُبنى على ثقيل، وإذا كان الجرُ لا يدخله، وهو غير لازم لثقله، فأَلَّا يدخله الكسر الذي هو لازم، كان ذلك من طريق الأولى؛ وإذا بطل
__________
1 في "ط" يكون.
2 في "س" الصفة.
3 في "ط" فأشبه، وما أثبتناه من "س".
4 في "س" بطل.

(1/226)


أن يُبنى على الكسر؛ بطل أن يُبنَى على الضم -أيضًا- لثلاثة أوجه:
الوجه الأوّل: أنَّ الضَّمَّ أثقل، وإذا بَطَل أن يُبنَى على الثقيل، فَلِئَلا1 يُبنى على الأثقل أولى.
والوجه الثاني: أنَّ الضَّمَّ أخو الكسر؛ لأنَّ الواو أخت الياء، ألا ترى أنَّهما يجتمعان في الردف /في/2 نحو قوله3: [الوافر]
ولا تكثر على ذي الضغن عتبا ... ولا ذِكرَ التَّجَرُّم للذُّنوبِ
ولا تسأله عمّا سوف يُبدِي ... ولا عن عيبه لك بالمغيب
متى تكُ في صديقٍ أو عدو ... تُخَبِّرْكَ العُيُونُ عَنِ القُلُوبِ4
والوجه الثالث: إنَّما لم يُبْنَ على الضم؛ لأنَّ من العرب من يجتزئ بالضمة عن الواو، فيقول في قاموا: "قامُ" وفي كانوا: "كانُ" قال الشاعر5: [الوافر]
فَلو أنَّ الأطبا كانُ حولي ... وكان مع الأطبِّاء الشِّفاءُ6
وإذا بطل أن يبنى على الكسر والضم؛ وجب أن يُبنى على الفتح.
[علة بناء الأمر على السكون]
فإن قيل: فَلِمَ بُني فعل الأمر على الوقف؟ قيل: لأنَّ الأصل في الأفعال البناء، والأصل في البناء أن يكون على الوقف؛ (فبني على الوقف) 7 لأنَّه الأصل. و /قد/8 ذهب الكوفيون إلى أنّه معرب، وإعرابه الجزم، واستدلّوا على ذلك من ثلاثة أوجه:
__________
1 في "ط" فلألّا، والصواب ما أثبتنا.
2 زيادة من "س".
3 القائل: زهير بن أبي سلمى، وقد سبقت ترجمته.
4 موطن الشاهد: "الذنوب، المغيب، القلوب".
وجه الاستشهاد: اجتماع الواو في "الذنوب" مع الياء في "المغيب" وكذا الواو في "القلوب" في ردف الأبيات؛ لأنهما أختان، كما ذكر المؤلف في المتن.
5 لم يُنسب إلى قائل مُعين.
6 المفردات الغريبة: الأَطبّا: الأطبّاء؛ والطبيب: الحاذق، من الطب؛ وهو الحِذق. كانُ: كانوا. وفي البيت شاهد آخر على قصر الأطباء، فجاءت الأطبا.
موطن الشاهد: "كانُ".
وجه الاستشهاد: الاجتزاء بالضمة عن الواو؛ لأنَّ الأصل فيها كانوا.
7 سقطت من "س".
8 سقطت من "س".

(1/227)


الوجه الأول: أنهم قالوا إنما قلنا: إنه معرب مجزوم؛ لأن الأصل في: "قُم، واذهب: لتقم، ولتذهب" قال الله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1 وذُكر أنَّها قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في بعض مغازيه: "لتأخذوا مصافَّكم"2؛ فدل على أن الأصل في "قم: لتقم، واذهب: لتذهب" إلا أنَّه لَمّا كثر /في/3 كلامهم، وجرى على ألسنتهم؛ استثقلوا مجيء اللام فيه مع كثرة الاستعمال /فيه/4؛ فحذفوها5 مع حرف المضارعة تخفيفًا؛ كما قالوا: "إِيش" والأصل فيه: "أي شيء" وكقولهم: "وَيْلُمِّه" والأصل فيه: "ويلُ أُمِّه"؛ فحذفوا لكثرة الاستعمال؛ فكذلك ههنا.
والوجه الثَّاني: أنهم قالوا: أجمعنا على أنَّ فعل النهي معرب مجزوم؛ نحو: "لا تقُم، ولا تذهب" فكذلك فعل الأمر؛ نحو: "قُم، واقعد"؛ لأنَّ النهيَ ضد الأمر، وهم يحملون الشيء على ضده، كما يحملونه على نظيره.
والوجه الثالث6: أنهم قالوا: الدَّليل على أنه مجزوم، أنك تقول في المعتلّ: "اغزُ، ارمِ، اخشَ" فتحذف الواو، والياء، والألف، كما تقول: "لم يغزُ، لم يرمِ، لم يخش" فدل على أنه مجزوم بلامٍ مقدَّرة، وقد يجوز إعمال حرف الجزم مع الحذف؛ قال الشاعر7: [الوافر]
محمدُ تفدِ نفسك كلُ نفسٍ ... إذا ما خفت من أمرٍ تبالا8
و/أمَّا/9 ما ذهب إليه الكوفيون ففاسد؛ وقولهم: إنَّ الأصل في: "قم: لتقم، واذهب: لتذهب" إلا أنهم حذفوه10؛ لكثرة الاستعمال؛ قلنا: ليس
__________
1 س: 10 "يونس، ن: 58، مك".
2 لا وجود لهذا اللفظ في كتب السنة، وفي البخاري قريب منه؛ وهو "فلتسووا صفوفكم".
3 سقطت من "ط".
4 سقطت من "س".
5 في "ط" فحذفوه.
6 في "س" الثاني، وهو سهو واضح.
7 يُنسب هذا الشاهد إلى عدد من الشعراء؛ منهم حسّان بن ثابت، وأبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- والأعشى.
8 المفردات الغريبة: التبال: كالوبال، سوء العاقبة.
موطن الشاهد: "تَفدِ".
وجه الاستشهاد: إضمار لام الأمر المقترنة بفعل الأمر "تفدِ" مع بقاء عملها؛ لأنَّ الأصل فيه: لِتَفدِ؛ وإعمال لام الأمر بعد إضمارها من أقبح الضرورات.
9 سقطت في "س".
10 في "س" أنه حذف.

(1/228)


كذلك، فإنه1 لو كان الأمر كما زعمتم؛ لوجب أن يختصَّ الحذف بما يكثر استعماله، دون ما لا يكثر استعماله؛ فلمّا قيل: "اقعنسس2، واحرنجم3، واعلوَطَّ"4 وما أشبه ذلك بالحذف، ولا يكثر استعماله؛ دلَّ على فساد ما ذهبوا إليه. فقولهم: إنَّ فعل النهي مُعرب مجزوم، فكذلك فعل الأمر؛ قلنا: هذا /قياس/5 فاسد؛ لأنَّ فعل النهي في أوّله حرف المضارعة الذي أوجب المشابهة بالاسم، فاستحق الإعراب، فكان معربًا، وأما فعل الأمر، فليس في أوله حرف المضارعة الذي يوجب للفعل المشابهة بالاسم، فيستحق الإعراب؛ فكان باقيًّا على أصله. وقولهم: إنه بحذف الواو والياء والألف؛ نحو: "اغزُ، ارمِ، اخشَ" كما تقول: "لم يغزُ، لم يرمِ، لم يخشَ"، فنقول: إنما حُذفت هذه الأحرف للبناء، لا للإعراب، حملاً للفعل المعتل على الفعل الصحيح؛ حملاً للفرع على الأصل، والذي يدلُّ على..... 6 صحة ما ذكرناه أن حروف الجرِّ لا تعمل /مع الحذف/7؛ فحروف الجزم أولى، وأمَّا البيت الذي أنشدوه؛ وهو قوله8:
محمدُ تفدِ نفسك كلُ نفسٍ
فقد أنكره أبو العباس المبرد، ولو سلمنا صحته؛ فنقول: قوله: "تفدِ نفسك /كل نفس/9" لم تُحذف الياء للجزم بلام مُقَدَّرة، وإنما حُذفت الياء للضرورة، واجتزاء بالكسرة عن الياء، وهو في كلامهم أكثر من أن يُحصَى، وإن سلَّمنا أن الأصل: "لِتفد" وأنه مجزوم بلام مُقدَّرة، إلا10 أنَّا نقول: إنَّما حُذفت اللام لضرورة الشعر، وما حُذِف للضَّرورة، لا يجوز أن يُجْعَل11 أصلاً
__________
1 في "ط" وإنَّه.
2 اقْعَنْسَسَ: تأخَّر، ورجع إلى الخلف. القاموس المحيط: "مادة قعس" ص 510.
3 احرنجم: في القاموس: حرجم الإبل: إذا ردَّ بعضها على بعض، واحرنجم: أراد الأمر، ثُمَّ رجع عنه. القاموس المحيط: "مادة حرجم"، ص 986.
4 اعلوَطَّ: في القاموس: اعلوَطَّ البعيرَ: تعلق بعنقه، وعلاه، أو ركبه بلا خِطام أو عُريًا. واعلوَطَّ فلانًا: أخذه، وحبسه، ولزمه. واعلوَطَّ الأمر: ركبَ رأسه، وتقحَّم من دون رويَّة. القاموس المحيط: "مادة علط" ص 610، 611.
5 سقطت من "ط".
6 في "ط" زيادة ذلك، ولا مبرر لها، فلم نثبتها في المتن.
7 سقطت من "س".
8 سبق ذكره، والتعليق عليه.
9 سقطت من "س".
10 في "ط" غير.
11 في "ط" تجعل؛ والصَّواب ما أثبتنا من "س".

(1/229)


يقاس عليه؛ وقد بينا هذه المسألة مُستقصاةً في المسائل الخلافية.
[علة إعراب الفعل المضارع]
فإن قيل: فَلِمَ أُعرب الفعل المضارع؟ قيل: لأنَّه أشبه الأسماء من الخمسة الأوجه التي ذكرناها قبلُ في صدر الكتاب؛ وإعرابه: الرفع، والنصب، والجزم، فأمَّا الرفع، فلقيامه مُقام الاسم، وقد ذُكر1 -أيضًا- في صدر الكتاب، وأما النصب والجزم فسنذكرهما -أيضًا- فيما بعد هذا الباب، إن شاء الله تعالى.
[علة إثبات حروف العلة في الرفع وحذفها في الجزم]
فإن قيل: فَلِمَ قالوا: "هو يغزو، ويرمي، ويخشى" فأثبتوا الواو والياء والألف ساكنة في حالة الرفع، وحذفوها في حالة الجزم، وفتحوا الواو والياء في حالة النصب، فسوّوا2 في يخشى بين النصب والرفع؛ قيل: إنَّما أثبتوها ساكنة في الرفع؛ لأن الأصل أن يُقال: "هو يغزو، ويرمي، ويخشى" بضَّمِّ الواو في "يغزو" والياء في "يرمي، ويخشى" لإلا أنهم استثقلوا الضمة على الواو من "يغزو" وعلى الياء من "يرمي" فحذفوها؛ فبقيت3 الواو من "يغزو" ساكنة، وكذلك الياء من "يخشى" فانقلبت ألفًا؛ لتحرُّكها، وانفتاح ما قبلها، وإنما حذفوا هذه الحروف في الجزم؛ لأنها أشبهت الحركات، ووجه الشبه من وجهين:
أحدهما: أنَّ هذه الحروف مركبة من الحركات على قول بعض النحويين، والحركات مأخوذة منها على قول آخرين، وعلى كلا القولين، فقد حصلت المشابهة بينهما.
والوجه الثاني: أن هذه الحروف /-ههنا-/4 لا تقوم بها الحركات، كما أنَّ الحركات كذلك، وكما أنها تحذفُ للجزم، فكذلك هذه الحروف، وقد حُكي عن أبي بكر ابن السراج أنه شبه الجازم بالدواء، والحركة في الفعل بالفضلة التي يُخرجها الدواء، وكما أن الدواء إذا5 صادف فضلة حذفها، وإن لم يصادف /فضله/6 أخذ من نفس الجسم، فكذلك الجازم إذا دخل على الفعل؛ إن وجد حركة أخذها، وإلا أخذ من نفس الفعل. وسهل حذفها، وإن
__________
1 في "س" ذكرناه.
2 في "س" وسوّوا.
3 في "س" فثبتت.
4 سقطت من "ط".
5 في "س" إن.
6 سقطت من "س".

(1/230)


كانت أصليَّة؛ لسكونها؛ لأنَّها بالسكون تَضْعُف، فتصير في حكم الحركة، فكما1 أن الحركة تحذف، فكذلك هذه الحروف. وإنما فتحوا الواو والياء في "يغزو، ويرمي" في النصب لخفة الفتحة؛ فانقلبت2 الياء في /نحو/3 "يخشى" ألفًا؛ لتحركها في النصب، وانفتاح ما قبلها، كما قلبناها في حالة الرفع؛ لتحركها بالضم في الأصل، وانفتاح ما قبلها.
[علة ثبوت النون رفعًا وحذفها نصبًا وجزمًا في الأفعال الخمسة]
فإن قيل: فَلِمَ كانت الخمسة الأمثلة؛ نحو: "يفعلان، وتفعلان، ويفعلون، وتفعلون، وتفعلين" في حالة الرفع بثبوت النون، وفي حالة النصب والجزم بحذفها؟ قيل: لأنَّ هذه الأمثلة، لَمَّا وجب أن تكون معربة، لم يمكن أن تجعل اللام حرف الإعراب، وذلك؛ لأنَّه من الإعراب الجزم، فلو أنها حرف إعراب؛ لوجب أن يسقط4 في حالة الجزم، فكان5 يؤدي إلى أن يحذف ضمير الفاعل، وذلك لا يجوز، ولم يمكن -أيضًا- أن يجعل الضمير حرف الإعراب؛ لأنَّه في الحقيقة ليس مجزوم6 الفعل، وإنَّما هو قائم بنفسه في موضع رفع؛ لأنَّه فاعل، فلا يجوز أن يجعل حرف إعراب لكلمة أخرى؛ فوجب أن يكون الإعراب بعدها؛ فزادوا النون؛ لأنها تشبه حروف المد واللين، وجعلو ثبوتها علامة للرفع، والحذف7 علامة للنصب والجزم، وإنَّما جعلوا الثبوت علامة للرفع، والحذف علامة للجزم والنصب، ولم يكن بعكس ذلك؛ لأنَّ الثبوت أوَّل، والحذف طار عليه، كما أن الرفع أول، والجزم والنصب طاريان8 عليه، فأعطوا الأوَّل الأوَّلَ، والطارئ الطارئ، والنصب فيهما محمول على الجزم؛ لأنَّ الجزم في الأفعال، نظير الجر في الأسماء، وكما أنَّ النصب في التثنية والجمع محمول على الجر، فكذلك النصب -ههنا- محمول على الجزم.
[علة استواء الأفعال الخمسة في النصب والجزم] .
فإن قيل: فَلِمَ استوى النصب والجزم في قولهم: "أنت تفعلين" للواحدة، وليس في الأسماء الآحاد ما حُمِل نصبه على جره؟ قيل: لأنَّ قولهم: "أنت تفعلين"
__________
1 في "س" وكما.
2 في "س" وانقلبت.
3 سقطت من "س".
4 في "س" تسكن.
5 في "س" وكان.
6 في "ط" بجزم. وما أثبتناه من "س" هو الصَّواب.
7 أي: حذف النون من الأفعال الخمسة.
8 في "س" طاري، وهو سهو من الناسخ.

(1/231)


يشابه لفظ الجمع، ألا ترى أن الجمع في حالة النصب والجر يكون في آخره ياء قبلها كسرة، وبعدها نون؛ كقولهم1: "تفعلين" فلمَّا أشبه لفظ الجمع، حُمِلَ عليه؛ ولهذا، فتحت النون منه حملاً على الجمع -أيضًا- وكذلك كسروا النون في "يفعلان" وفتحوها من "يفعلونَ" حملاً على تثنية الأسماء وجمعها. وهذه الأمثلة معربة، لا حرف إعراب لها، وذلك لِما بينّا من استحالة جعل اللام أو الضمير أو النون حرف الإعراب، وليس لها نظير في كلامهم.
[علة عدم كون يفعلان ويفعلون مثنى وجمعًا]
فإن قيل: فهلَّا كان "يفعلان، ويفعلون" تثنية وجمعًا لـ"يفعل" كما كان "زيدان، وزيدون" تثنية وجمعًا لـ"زيد"؟ قيل: لأن الفعل لا يجوز تثنيته، ولا جمعه، وإنما لم يجز ذلك لأربعة أوجه:
الوجه الأوَّل: أن الفعل يدل على المصدر، والمصدر لا يُثنَّى ولا يُجمع؛ لأنَّه يدلُّ على الجنس، إلا أن تختلف أنواعه، فيجوز تثنيته وجمعه، فلما كان الفعل يدلُّ على المصدر /المبهم/2 الدَّال على الجنس، لم يجز تثنيته ولا جمعه.
والوجه الثاني: أنَّ الفعل لو جازت تثنيته مع الاثنين، وجمعه مع الجماعة؛ لجازت تثنيته وجمعه مع الواحد، فكان يجوز أن يُقال: "زيد قاما، وقاموا" إذا فعل ذلك مرتين أو مرارًا، فلما لم يجز ذلك، دل على أنه لا يُثنى، ولا يُجمع.
والوجه الثالث: أن الفعل ليس بذات يقصد إليها بأن يضم إليها غيرها، كما يكون ذلك في الأسماء؛ فلذلك لم يُثنَ، ولم يُجمع.
والوجه الرابع: أنَّ الفعل يدل على مصدر، وزمانٍ، فصار في المعنى كأنه اثنان، فكما لا يجوز تثنية الاسم المثنى كذلك3 لا يجوز تثنية الفعل.
[الألف والواو في الأفعال الخمسة تدلان على تثنية وجمع الضمير لا الفعل]
فإن قيل: أَليس الألف في "يفعلان" تدل على التثنية، والواو في "يفعلون" تدلُ على الجمع؟ قيل: الألف والواو تدلان على التثنية والجمع، لكن4 على تثنية الضَّمير وجمعه، لا على تثنية الفعل وجمعه لما5 بينا؛ فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "س" كقولك.
2 سقطت من "س".
3 في "س" فكذلك.
4 في "س" ولكن.
5 في "س" على ما.

(1/232)