أسرار العربية الباب الخمسون: باب
الحروف التي تنصب الفعل المستقبل
[علة عمل الأحرف الناصبة للفعل المضارع]
إن قال قائل: لِمَ وجب أن تعمل "أن، ولن، وإذن، وكي" النصب؟ قيل: إنما
وجب أن تعمل لاختصاصها بالفعل، ووجب أن يكون عملها النصب؛ لأنَّ "أنْ"
الخفيفة تشبه "أنَّ" الثقيلة، و"أنَّ" الثقيلة تنصب الاسم، فكذلك "أنْ"
هذه يجب أن تنصب الفعل، وحُمِلَت "لن، وإذن، وكي" على "أن"، وإنما
حُملت عليها؛ لأنها تشبهها، ووجه الشبه بينهما أن "أنْ" الخفيفة تخلص
الفعل المضارع للاستقبال، وهذه الحروف تخلص الفعل المضارع للاستقبال،
فلما اشتركا في هذا المعنى، حُملت عليها. ويُحكى عن الخليل بن أحمد1
أنه قال: لا يُنصب /شيء/2 من الأفعال إلا بـ"أنْ" مظهرة أو مقدرة،
والأكثرون على خلافه. وتكون "أن" مع الفعل بعدها بمنزلة المصدر، ألا
ترى أنَّك إذا قلت: "أنْ تفعلَ كذا خيرٌ لك".. 3 كان التقدير: "فعلك
كذا خير لك" وما أشبه ذلك. وأما "لن" ففيها قولان؛ فذهب الخليل إلى
أنها مركبة من كلمتين؛ وأصلها "لا أن" فحذفوا الألف من "لا"، والهمزة
من "أن" لكثرة الاستعمال؛ (كقولهم: ويل أُمِّه) 4: "ويلمِّه" وركبوا
إحداهما مع الأخرى، فصار "لن". وذهب سيبويه إلى أنها ليست مركبة من
كلمتين؛ بل هي بمنزلة شيءٍ على حرفين، ليس فيها زيادة؛ قال سيبويه:
"ولو كانت على ما يقول الخليل، لما قلت: "أمَّا زيدًا فلن أضرب"؛ لأن
ما بعد "أن" لا يعمل في ما قبلها. ويمكن
__________
1 هو الخليل بن أحمد الفراهيدي: أحد أذكياء العرب المشهورين، إمام في
اللّغة، والنحو، والأدب، وهو واضع علم العروض، وصاحب معجم "العين"، وهو
شيخ سيبويه. مات سنة 170هـ. طبقات النحويين واللغويين 43- 47.
2 سقطت من "ط".
3 في "ط" زيادة فعل يعني، ولا لزوم له، فلم نثبته في المتن.
4 سقطت من "س".
(1/233)
أن يعتذر عن الخليل بأن يقال: إنَّ الحروف1
إذا رُكِّبت تغيَّر حكمها بعد التَّركيب، عَمّا كانت عليه قبل
التَّركيب، ألا ترى أنَّ "هل" لا يجوز أن يعمل ما بعدها في ما قبلها،
وإذا رُكِّبت مع "لا" ودخلها معنى التخصيص؛ جاز أن يعمل ما بعدها في ما
قبلها، فيقال: "زيدًا هلَّا ضربت" فكذلك ههنا؟ ويمكن أن يقال على هذا
-أيضًا- أن "هلَّا" ذهب منها معنى الاستفهام؛ فجاز أن يتغير حكمها،
وأما "لن" فمعنى النفي باقٍ فيها؛ فينبغي ألا يتغيَّر حكمها. وأما
"إذن" فتستعمل على ثلاثة أضرب:
الأوَّل: أن تكون عاملة، وهو أن يدخل على الفعل المضارع، فيراد به
الاستقبال، ويكون جوابًا، نحو أن يقول القائل: "أنا أزورك" فتقول: "إذن
أكرمَك"، فيجب إعمالها لا غير.
والثاني: أن يدخل عليها الواو والفاء للعطف، فيجوز إعمالها وإهمالها؛
نحو2 قولك: "إن تكرمني، أنا أكرمك وإذن أحسنُ إليك" فيجوز إعمالها،
فتنصب الفعل بعدها، كما لو ابتدأت بها، فترجع إلى القسم الأوَّل، ويجوز
إهمالها؛ فترفع الفعل بعدها؛ لأنه3 مع الضمير المستكن فيه خبر مبتدأ
محذوف؛ والتقدير فيه: "وأنا إذن أحسن إليك"4، فرجع إلى القسم الثالث.
والثالث: أن تدخل بين كلامين؛ أحدهما متعلِّق5 بالآخر؛ نحو: أن تدخل
بين الشرط وجوابه؛ نحو: "إن تكرمني إذن أكرمك" وبين المبتدأ وخبره؛
نحو: "زيد إذن يقوم" وما أشبه ذلك، فلا يجوز إعمالها بحال، وكذلك6 إذا
دخلت على فعل الحال؛ نحو قولك: "إذن أظنك كاذبًا" إذا أردت أنك في حال
ظن؛ وذلك لأن "إذن" إنما عملت؛ لأنها أشبهت "أن" و"أن" لا تدخل على فعل
الحال، ولا يكون بعدها إلا المستقبل، فإذا7 زال الشبه، بطل العمل. وأما
"كي" فتستعمل على ضربين؛ أحدهما: (أن تعمل بنفسها، فتكون مع الفعل
بمنزلة الاسم الواحد؛ نحو: "جئتك لكي تعطيني حقي".
والثاني) 8: أن تعمل بتقدير "أَنْ" لأنهم يجعلونهم بمنزلة حرف جرٍّ،
__________
1 في "ط" الحرف.
2 في "س" وذلك نحو.
3 في "ط" لأنها، والصواب ما أثبتناه من "س".
4 في "ط" وأنا إذن أكرمك، وأحسن إليك.
5 في "س" يتعلَّق.
6 في "س" فكذلك.
7 في "س" وإذا.
8 سقطت من "س".
(1/234)
ولأنهم1 يقولون "كيما" كما يقولون "كما"،
وإنما وجب أن يُقَدَّر بعدها "أن" لأنَّ حروف الجر، لا تعمل في الفعل.
فإن قيل: فَلِمَ وجب تقدير "أن" بعدها، وبعد الفاء، والواو، وأو،
واللام، وحتى، دون أخواتها؟ قيل: لثلاثة أوجه:
/الوجه/2 الأول: أنَّ "أَنْ" هي الأصل في العمل.
والوجه الثاني: أنَّ "أن" ليس لها معنى في نفسها بخلاف3: "لن، وإذن،
وكي" فلنقصان معناها، كان تقديرها أولى من سائر أخواتها.
والوجه الثالث: أنَّ "أَنْ" لَمَّا كانت تدخل على الفعل الماضي
والمستقبل، ولا يوجد هذا في سائر أخواتها، فقد وجد فيها مزيّة على سائر
أخواتها (في حالة إظهارها) 4، فإذا وجد فيها مزيَّة على سائر أخواتها
في حالة الإظهار، كانت أولى بالإضمار؛ فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "س" لأنَّهم.
2 سقطت من "ط".
3 في "س" كـ"لن".
4 سقطت من "س".
(1/235)
الباب الحادي
والخمسون: باب حروف الجزم
[عِلَّة إعمال الأدوات الجازمة الجزم في الأفعال]
إن قال قائل: لِمَ وجب أن تعمل "لَمْ، ولَمّا، ولام الأمر، ولا في
النَّهي" في الفعل المضارع الجزم؟ قيل: إنَّما وجب أن تعمل /الجزم/1
لاختصاصها بالفعل؛ وذلك لأن "لَمْ" لَمَّا2 كانت تدخل على الفعل
المضارع، فتنقله إلى معنى الماضي، كما أنَّ "إِنْ" التي للشرط والجزاء
تدخل على الفعل الماضي، فتنقله إلى معنى المستقبل، فقد أشبهت حرف
الشرط، وحرف الشرط يعمل الجزم، فكذلك3 ما أشبهه؛ وإنَّما وجب لحرف
الشرط أن يعمل الجزم؛ لأنَّه يقتضي جملتين، فلطول ما يقتضيه حرف الشرط
اختير له الجزم؛ لأنَّه حذف وتخفيف، فبمنزلته "لَمْ" في النقل، وكان
محمولاً عليه. وأما "لام الأمر" فإنما وجب أن تعمل الجزم؛ لاشتراك
الأمر باللام، وبغير اللام في المعنى، فيجب أن تعمل لام4 الجزم؛ ليكون
الأمر باللام؛ مثل الأمر بغير اللام في اللفظ، وإن كان أحدهما /كان/5
جزمًا، والآخر وفقًا. فأمَّا6 "لا" في النهي، فإنما وجب أن تجزم حملاً
على الأمر؛ لأن الأمر ضد النهي، وهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه
على نظيره، ولَمَّا كان الأمر مبنيًّا على الوقف، وقد حُمِل النهي
عليه، جُعل النهي نظيرًا له في اللفظ، وإن كان أحدهما جزمًا، والآخر
وقفًا على ما بينا؛ فلهذا، وجب أن تعمل الجزم.
فإن قيل: فإذا7 كان الأصل في "لَمْ" تدخل على الماضي، فَلِمَ نقل
__________
1 سقطت من "س".
2 في "ط" ولَمَّا، والصواب ما أثبتنا من "س".
3 في "ط" وكذلك.
4 في "س" اللام.
5 سقطت من "س".
6 في "س" وأمَّا.
7 في "س" إذا.
(1/236)
إلى لفظ المضارع؟ قيل: لأن "لَمْ" يجب أن
تكون عاملة، فلو لزم ما بعدها الماضي، لما تبين عملها، فنقل الماضي إلى
المضارع؛ ليتبين عملها.
فإن قيل: فهلَّا جَوَّزتم دخولها على الماضي والمستقبل، كما جاز في حرف
الشَّرط والجزاء؟ (قيل: الفرق بينهما ظاهر، وذلك لأنَّ الأصل في حروف
الشرط والجزاء) 1 أن تدخل على فعل2 المستقبل، والمستقبل أثقل من
الماضي، فعدل عن الأثقل إلى الأخف، فأمَّا "لَمْ" فالأصل فيها أن تدخل
على الماضي، وقد وجب سقوط الأصل، فلو جَوَّزنا دخولها على الماضي الذي
هو الأصل؛ لما جاز دخولها على /الفعل/3 المضارع الذي هو الفرع؛ لأنَّه
إذا استُعمل الذي هو الأخفُ، لم يُستعمل الفرع الذي هو الأثقل؛ فاعرفه
تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 سقطت من "س".
2 في "س" الفعل.
3 سقطت من "س".
(1/237)
الباب الثاني
والخمسون: باب الشرط والجزاء
[علة إعمال "إنْ" الجزم في المضارع]
إن قال قائل: لِمَ عملت "إِنْ" الجزم في الفعل المضارع؟ قيل: إنَّما
عملت لاختصاصها، وعملت الجزم لِمَا بيّنا /من/1 أنَّها تقتضي جملتين:
الشرط والجزاء، فلطول ما تقتضيه اختير لها الجزم؛ لأنَّه حذف وتخفيف.
فأمَّا ما عدا "إِنْ" من الألفاظ التي يُجازى بها؛ نحو: "مَنْ، ومَا،
وأي، ومهما، ومتى، وأين/وأيان/2، وأنى، وأي حين، وحيثما، وإذ ما" فإنما
عملت؛ لأنَّها قامت مقام (إنْ فعملت عملها، وكلها مبنية لقيامها
مُقامها) 3 ما عدا "أيًّا"4 وسنذكر معانيها، ولِمَ أُقيمت مُقام الحرف،
مُستوفى في باب الاستفهام.
[العامل في جواب الشرط وخلافهم في ذلك]
فإن قيل: فما العاملُ في جواب الشرط؟ قيل: اختلف النحويون في ذلك؛ فذهب
بعض النحاة5 إلى أنَّ العامل فيه حرف الشرط، كما يعمل في فعل الشرط؛
وذهب بعضهم إلى أن حرف الشرط، وفعل الشَّرط يعملان فيه؛ وذهب آخرون إلى
أنَّ حرف الشرط يعمل في فعل الشرط، وفعل الشرط يعمل في جواب الشرط؛
وذهب أبو عثمان المازني، إلى أنه مبني على الوقف. فمن قال: إنّ حرف
الشرط يعمل فيهما جميعًا؛ قال: لأنّ حرف الشرط يقتضي جواب الشرط، كما
يقتضي فعل الشرط؛ ولهذا المعنى، يُسمَّى حرف الجزاء، فكما عمل في فعل
الشرط، فكذلك يجب أن يعمل في جواب الشرط. وأمَّا من قال: إنهما جميعًا
يعملان فيه؛ فلأن فعل الشرط يقتضي الجواب، كما أن حرف الشرط يقتضي
الجواب، فلما اقتضياه6 معًا؛ عَمِلَا فيه معًا. وأمَّا من
__________
1 سقطت من "س".
2 سقطت من "س".
3 سقطت من "س".
4 في "ط" أيَّان، والصواب ما أثبتناه من "س".
5 في "س" النّحويِّين.
6 في "س" اقتضياه.
(1/238)
قال: إن حرف الشرط يعمل في فعل الشرط، وفعل
الشرط يعمل في الجواب، فقال: لأنَّ فعل الشرط يقتضي الجواب، وهو أقرب
إليه من الحرف، فكان عمله فيه أولى من الحرف. وأمّا من قال: إنه مبني
على الوقف؛ فقال: لأنَّ الفعل المضارع، إنَّما أُعرب لوقوعه موقع
الأسماء، والجواب -ههنا- لم يقع موقع الأسماء؛ فوجب أن يكون مبنيًّا.
وذهب الكوفيون إلى أنه مجزوم1 على الجوار؛ لأنَّ جواب الشرط مجاور لفعل
الشرط، فكان محمولاً عليه في الجزم، والحمل على الجوار كثيرٌ في
كلامهم، قال الشاعر2: [البسيط]
كأنما ضَرَبَت قُدَّام أعينها ... قطنًا بمستحصد الأوتار محلوج3
وكان يقتضي أن يُقال: "محلوجًا" فخفضه على الجوار4، وكقول الآخر5:
[الرجز]
كأن نسج العنكبوت المرمل6
وكقولهم: "جُحرُ ضب خربٍ" وما أشبه ذلك؛ وهذا ليس بصحيح؛ لأن الحمل على
الجوارِ قليل، يُقتصر فيه على السماع، ولا يُقاس عليه لقلَّته. وقد
اعتُرض على هذه المذاهب كلها باعتراضات: فأمَّا من قال إنَّ حرف الشرط
__________
1 في "س" مبنى.
2 لم يُنسب إلى قائل معين.
3 المفردات الغريبة: مستحصد الأَوتار: أوتار القوس المشدود المحكمة.
القطن المحلوج: المندوف المنفوش.
موطن الشاهد: "قطنًا ... محلوج".
وجه الاستشهاد: مجيء "محلوج" مجرورًا؛ لمجاورته "الأوتارِ" المجرورة؛
والأصل فيه أن يكون منصوبًا، لأنه صفة لـ"قطنًا" المنصوب؛ والجر على
المجاورة جائز في الشعر والنثر.
4 والخفض على الجوار كثير شائع في اللغة.
5 القائل: العجاج، وقد سبقت ترجمته.
6 المفردات الغريبة: المرمل: يُقال أرمل سريره: إذا نسج شريطًا، أو
غيره، فجعله ظهرًا له.
موطن الشاهد: "المرمل".
وجه الاستشهاد: جرّ "المرمل" لمجاورته "العنكبوت" المجرور؛ والأصل
والقياس فيه النصب؛ لكونه صفة لـ"غزل".
فائدة: كان الخليل بن أحمد الفراهيدي، لا يجيز الجر على المجاورة إلا
إذا استوى المتجاوران في التعريف، والتنكير، والتذكير، والتأنيث،
والإفراد، والتثنية، الجمع.
(1/239)
يعمل فيهما وحده، فاعتُرض عليه بأن حرف
الشرط حرف جزم، والحروف الجازمة لا تعمل في شيئين لضعفها، وأمَّا قول
من قال: إنَّ حرف الشرط، وفعل الشرط يعملان في الجواب، فلا يخلو عن
ضعف، وذلك لأنَّ1 الأصل في الفعل ألا يكون عاملاً في الفعل، فإذا لم
يكن له تأثير في العمل في الفعل، وحرف الشرط له تأثير، فإضافة ما لا
تأثير له، إلى ما له تأثير، لا تأثير له. وأمَّا قول من قال: إنَّه
مبني على الوقف؛ لأنَّه لم يقع موقع الاسم ففاسد -أيضًا- وذلك؛ لأنَّ
الفعل إذا ثبتت2 له المشابهة بالاسم في موضع، /و/3 استحق الإعراب بتلك
المشابهة، لم يشترط ذلك في كل موضع؛ ألا ترى أن الفعل المضارع يكون
مُعربًا بعد حروف النصب؛ نحو: لن تقومَ، وبعد حروف الجزم؛ نحو: لم
يقمْ. وإن لم يجز4 أن يقعَ موقع الأسماء، (فكذلك ههنا) 5 على أن وقوعه
موقع الأسماء إنما هو موجب لنوع من الإعراب وهو الرفع، وقد زال حملاً
لجنس الإعراب، وليس من ضرورة (زوال نوع منه زوال جملة الجنس) 6.
والصحيح عندي: أن يكون العامل /هو/7 حرف الشرط، بتوسط فعل الشرط؛ لا
أنَّه8 عامل معه لما بيّنّا؛ فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "ط" أنَّ.
2 في "ط" ثبت.
3 سقطت من "ط".
4 في "ط" يحسن.
5 سقطت من "س".
6 في "ط" زوال نوع من الإعراب زوال ...
7 سقطت من "ط".
8 في "ط" لأنَّه، والصواب ما أثبتنا من "س".
(1/240)
|