فقه اللغة وسر العربية

الفصل الثامن والثلاثون: في اللازم بالألف يجيء من لفظه متعد بغير ألف.
ألف التعدية وربما تكون للشيء نفسه ويكون الفاعل به ذلك بلا ألف كقولهم: أقشع
__________
1 سورة الأنبياء الآية: 30.
2 سورة الأعلى: 13.
3 سورة الحج الآية: 2.
4 سورة النور الآية: 35.

(1/235)


الغَيمُ وقشَعَتْهُ الريح وأنزفت البئر: ذهب ماؤها ونزفناها نحن. وأنسل ريش الطائر ونَسَلتُهُ أنا. وأكبَّ فلان على وجهه وكببته أنا. وفي القرآن: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى} 1؟. وقال عزَّ اسمه: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} 2.
الفصل التاسع والثلاثون: مجمل في الحذف والاختصار.
من سنن العرب: أن تحذف الألف من "ما" إذا استَفْهَمَتْ بها فتقول: بِمَ؟ ولِمَ؟ ومِمَّ؟ وعلامَ؟ وفيمَ؟ قال تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} 3؟ وكما قال عزّ وجلّ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} 4: أي عن ما؟ فأدغم النون في الميم. ومن الحذف للاختصار قول الله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 5 أي السر وأخفى منه فحذف وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} 6 أي أمرة واحدة أو مرَّة واحدة. ومن الحذف قوله: لم أُبَلْ. ولم أُبالِ. وقولهم: لم أكُ ولم أكُنْ. وفي كتاب الله عز وجل: {وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} 7. ومن ذلك ما تقدَّم ذكره من قوله جل جلاله: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} 8 وقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} 9 وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} 10 فحذف النَّفس والشمس والأرض إيجازا واقتصارا. ومن ذلك حذف حرف النداء كقولهم: زيدُ تعال. وعمرو اذهب أي يا زيد ويا عمرو. وفي القرآن: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} 11 أي يا يوسف. ومن ذلك حذف أواخر الأسماء المفردة المعرفة في النداء دون غيره كقولهم: يا حارُِ يا مالُِ ويا صاحُِ أي يا حارث ويا مالك ويا صاحبي ويقال لهذا الحذف: الترخيم وفي بعض القراآت الشاذّة: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77] 12 وقال امرؤ القيس: [من الطويل]
__________
1 سورة الملك الآية: 22.
2 سورة النمل الآية: 90.
3 سورة النازعات: الآية 43.
4 سورة النبأ: الآية 1، 2.
5 سورة طه الآية: 7.
6 سورة القمر الآية: 50.
7 سورة مريم الآية: 9.
8 سورة القيامة: الآية 26.
9 سورة صّ الآية: 32.
10 سورة الرحمن: الآية 26.
11 سورة يوسف الآية: 29.
12 وتمام الآية {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77]

(1/236)


أفاطِمُ مَهلاً بَعْضَ هذا التَّدللِ. ... وإن كنت قد أرفعت صرمي فأجملي
وقال عمرو بن العاص: [من الطويل]
مُعاويَ لا أعطيكَ ديني ولمْ أنلْ ... بهِ مِنكَ دُنيا فانظُرَنْ كيفَ تَصنَعُ.
ومن ذلك قولهم: باللهِ أي أحلِفُ باللهِ فحذَفوا "أحلف" للعلم به والاستغناء عن ذِكره وقولهم: باسم الله أي أبتَدِئُ باسم الله. ومن ذلك حذف الألف منه لكثرة الاستعمال ومن ذلك ما تقدم ذكره في حفظ التوازن كقوله عزّ ذِكره: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 1 و: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 2 و: {يَوْمَ التَّلاقِ} 3. ومن ذلك حذف التنوين من قولك: محمدُ بنُ جَعفر وزيد بنُ عمرو. وحذف نون التثنية عند النفي كقولك: لا غلامَىْ لك ولا يدىْ لزيد وقميص لا كمَّىْ له. ومن ذلك حذف نون الجمع عند الإضافة في قولك: هؤلاء ساكنوا مسكة ومسلمو القوم. ومن الحذف قولهم والله أفعل ذلك يريدون والله لا أفعل ذلك ومن الحذف قوله عز وجل {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} 4 فنصب خيرا بالإضمار أي يكن الانتهاء خيرا لكم فنصب خيرا وحذف واختصر. ومن الحذف قوله عزَّ ذكره: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} 5 وتقديره: ولنعلّمه فعلنا ذلك. وكذلك قوله: {وَحِفْظاً مِنْ} 6 أي: وحفظا فَعَلْنا ذلك، ومن الحذف قولهم: صلّيت الظُهرَ أي صلاة الظهر وكذلك سلئر الصلوات الأربع.
الفصل الأربعون: مجمل في الإضمار يناسب ما تقدم من الحذف.
من سنن العرب الإضمار إيثارا للتخفيف وثقة بفهم المُخاطب فمن ذلك إضمار "أنَّ" وحذفها من مكانها كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} 7: أي أن يريكم البرق وقال طرفة: [من الطويل]
ألا أيُّهذا الزجري أحضُرَ الوَغى ... وأن أشْهَدَ اللذاتِ هل أنتَ مخلدي.
__________
1 سورة الفجر: الآية 4.
2 سورة الرعد الآية: 9.
3 سورة غافر الآية: 15.
4 سورة النساء الآية: 171.
5 سورة يوسف الآية: 21.
6 سورة الصافات الآية: 7.
7 سورة الروم الآية: 24.

(1/237)


فأضمرَ "أنَّ" أولا ثمَّ أظهرها ثانيا في بيت واحد وتقديره: ألا أيهذا الزاجري أن أحضُرَ الوغى. وفي ذلك يقول بعض أدباء الشعراء: [من المتقارب]
تَفَكَّرت في النَّحوِ حتى مَلِلْتْ ... وأَتْعَبْتُ نَفْسي لَهُ والبَدَنْ.
فَكنت بِظاهِرِهِ عالماً ... وكنت بباطنه ذا فِطَنْ.
خلا أنَّ باباً عليهِ العفاء ... في النَّحوِ يا ليتهُ لمْ يَكُنْ.
إذا قُلتُ لِمْ قيلَ لي هكذا ... على النَّصبِ؟ قيلَ بإضمارِ أنْ.
ومن ذلك إضمار "مَنْ" كقوله عزَّ وجَلَّ: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} 1 أي إلا من له. ومن ذلك إضمار "مِنْ" كما قال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} 2 أي من قومه. ومن ذلك إضمار "إلى" كما قال جلَّ جلاله: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} 3 أي إلى سيرتها الأولى. ومن ذلك إضمار الفعل كما قال الله عزَّ وجلَّ: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} 4 وتقديره: فضُرِبَ فيُحيي كذلك يُحيي الله الموتى. ومثله: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} 5 وتقديره: فضرب فانفَجَرَت. ومثله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 6 وتقديره: فَحَلَقَ ففديَة. ومن ذلك إضمار "القول" كما قال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} 7؟ في ضمنه "قيقال لهم: أكفرتم" لأن "أمَّا" لا بدَّ لها في الخبر من فاء فلمّا أضمر القول أضمر الفاء ومثله: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ} 8 أي يقولون: هذا يومكم. وقال الشنفرى: [من الطويل]
فلا تدفنوني إنَّ دَفني مُحَرَّمٌ ... عليكُمْ ولكنْ خامري أمَّ عامِرِ.
أي التي يقال لها: خامري أم عامر وهي الضبع.
__________
1 سورة الصافات: الآية 164.
2 سورة الأعراف الآية: 155.
3 سورة طه الآية: 21.
4 سورة البقرة الآية: 73.
5 سورة البقرة الآية: 60.
6 سورة البقرة الآية: 196.
7 سورة آل عمران الآية: 106.
8 سورة الانبياء الآية: 103.

(1/238)