فقه اللغة وسر العربية

الفصل السابع والخمسون: في المجاز.
قال الجاحظ:. للعرب إقدام على الكلام ثقة بفهم المخاطب من أصحابهم عنهم كما جوَّزوا قوله: أكله الأسود وإنَّما يذهبون إلى النَّهْشِ واللذع والعضِّ وأكل المال وإنَّما يذهبون إلى الإفناء كما قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 2. ولعلَّهم شربوا بتلك الأموال الأنبذة ولبسوا الحلل وركبوا الهماليج ولم ينفقوا منها درهما في سبيل الله إنما أُكِلَ. وجَوَّزوا: أكَلَتْهُ النَّار وإنَّما أُبطلت عينه. وجوَّزوا أيضاً أن يقولوا: ذُقت لما ليس يُطعم وهو قول الرجل إذا بالغ في عقوبة عبده: ذُق وكيف ذقته؟ أي وجدت طعمه. قال الله عزّ وجلّ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 3 وقال عزَّ من قائل: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 4 وقال تعالى: {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} 5 ثم قالوا: طَعِمتَ لغير الطعام كما قال المرجيّ: [من الطويل]
فإن شئتُ حَرَّمْتُ النساء سِواكُمُ ... وإن شِئتُ لم أطْعَم نُقاخاً ولا بَرْدا.
قال الله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} 6 يريد: ومن لم يذق طعمه. ولما قال خالد بن عبد الله في هزيمة له: أطْعِموني ماء قال الشاعر: [من البسيط]
بَلَّ السَّراويلَ مِنْ خَوفٍ ومِنْ دَهَشٍ ... واستَطْعَمَ الماء لما جَدَّ في الهَرَبِ.
فبلغ ذلك الحجاج فقال: ما أيسر ما تَعَلَّق فيه يا ابن أخي أليس الله تعالى يقول:
__________
1 سورة الكهف الآية: 77.
2 سورة النساء: الآية 10.
3 سورة الدخان: الآية 49.
4 سورة النحل الآية: 112.
5 سورة التغابن الآية: 5.
6 سورة البقرة الآية: 249.

(1/255)


{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} 1. قال الجاحظ: في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} 2 يريد فما دونها وهو كقول القائل: فلان أسفل الناس فتقول: وفوق ذلك تضع قولك "فوق" مكان قولهم: هو شرٌ من ذلك. وقال الفَرَّاء: فما فوقها في الصِّغَر والله أعلم. قال المُبرد: من الآيات التي ربما يَغْلَط في مجازها النحويون قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 3 والشهر لا يغيب عن أحد. ومجاز الآية: فمن كان منكم شاهد بلدة في الشهرَ فليصمه والتقدير: فمن كان شاهدا في شهر رمضان فليصمه ونصب "الشهرَ" للظرف لا نصب المفعول.
الفصل الثامن والخمسون: في إقامة وصف الشيء مقام اسمه.
كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} 4 يعني السفينة فوضع صفتها موضع تسميتها. وقال تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} 5 يعني الخيل. وقال بعض المتقدّمين: [من الكامل]
سألَتْ قُتَيْلةُ عن أبيها صَحْبَهُ ... في الرَّوْع: هل رَكِبَ الأَغَرَّ الأَشْقَرا؟.
يعني هل قُتِل والأغرُّ الأشقرُ: وصف الدَّم فأقامه مقام اسمه. وقال بعض المحدّثين: [من الخفيف]
شِمْتُ بَرْقَ الوزير فانهلَّ حتّى ... لم أجِدْ مَهْرَباً إلى الإعْدامِ.
فكأنِّي وقد تقاصَرَ باعي ... خابِطٌ في عُبابِ أخضَرَ طامي.
يعني: البحر. وقال الحجاج لإبن القَبَعْثَرَى: لأحْمِلَنَّك على الأدهم يعني القيدَ فتجاهل عليه وقال: مِثْلُ الأمير يحمل على الأدهم والأشهب.
الفصل التاسع والخمسون: في إضافة الشيء إلى الله جل وعلا.
العرب تُضيف بعض الأشياء إلى الله عزَّ ذكره وإن كانت كلها له. فتقول: بيت الله وظِلُّ الله وناقَةُ الله. قال الجاحظ: كل شيء أضافه الله إلى نفسه فقد عظَّم شأنه وفخَّم أمره وقد
__________
1 سورة البقرة الآية: 249.
2 سورة البقرة الآية: 26.
3 سورة البقرة الآية: 185.
4 سورة القمر: الآية 13.
5 سورة صّ: الآية 31.

(1/256)


فعل ذلك بالنار فقال: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} 1. ويُروى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعتيبة بن أبي لهب: أكَلَكَ كَلْبُ الله 2 ففي هذا الخبر فائدتان إحداهما أنه ثَبَتَ بذلك أن الأسد كلب والثانية أن الله تعالى لا يضافُ إليه إلا العظيم من الأشياء في الخير والشر أما الخير فكقولهم: أرضُ الله وخليل الله وزوَّار الله وأما الشرّ فكقولهم: دَعْهُ في لَعنةِ الله وسَخَطِهِ وأليم عذابهِ وإلى نارِ الله وحرِّ سقره.
الفصل الستون: في تسمية العرب أبناءها بالشَّنيع من الأسماء.
هي من سنن العرب إذ تُسَمَّى أبناءها بِحَجَر وكلب ونَمِر وذئب وأسد وما أشبهها وكان بعضهم إذا وُلدَ لأحدهم ولد سمَّاه بما يراه ويسمعه مما يتفاءل به فإن رأى حجرا أو سمعه تأوَّل فيه الشدَّة والصَّلابة والصَّبر والبقاء وإن رأى كلبا تأوَّل فيه الحراسة والألفة وبُعْدَ الصوت وإن رأى نَمِرا تأوَّل فيه المَنَعة والقِّيَه والشكاسة وإن رأى ذئباً تأوَّل فيه المهابة والقُدْرَةَ والحِشْمةَ. وقال بعضُ الشُّعوبيَّة لإبن الكلبي: لِمَ سَمَّت العرب أبناءها بكلب وأوس وأسد وما شاكلها: وسمَّت عبيدها بيُسر وسَعد ويُمن؟ فقال وأحسن: لأنها سَمت أبناءها لأعدائها وسمت عبيدها لأنفسها. ثم نبتدئ بأبنية الأفعال فنقول:.