فقه اللغة وسر العربية

الفصل الخامس والتسعون: في التجنيس.
هو أن يجانس اللفظ في الكلام والمعنى مختلف كقول الله عزَّ وجلَّ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 وكقوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} 2 وكقوله: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} 3 وكقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} 4 وكقوله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} 5 وكقوله عزّ وجلّ: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} 6 وكقوله تعالى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} 7. وكما جاءَ في الخَبَر: "الظُّلم ظُلُمات يوم القِيامة"8. "آمِنٌ مَنْ آمَنَ بِاللهِ". "إنَّ ذا الوجهَينِ لا يَكونُ وجيهاً عندَ الله"9. ولم أجد التجنيس في شعر الجاهليَّة إلا قَليلاً كقول الشّنفرى: [من الطويل]
وبِتْنا كأَنَّ النَّبْتَ حُجِّرَ فَوقَنا ... بِريحابَةٍ ريحَتْ عِشاءً وطُلَّتِ.
وقول امرئ القيس: [من الطويل]
لقد طَمَحَ الطَّمَّاحُ من بُعْدِ أرْضِهِ ... لِيُلْبِسَني من دائِهِ ما تلبّسا.
وقوله: [من الطويل]
ولكنَّما أسْعى لِمَجدٍ مُؤَثَّلٍ ... وقد يُدْرِكُ المَجدَ المؤَثَّلَ أمْثالي.
وفي شعر الإسلاميين المتقدمين كقول ذي الرّمّة: [من الطويل]
كأنَّ البُرى10 والعاجَ عيجَتْ11 مُتونُهُ. ... على عشر نهى به السيل أبطح.
__________
1 سورة النمل الآية: 44.
2 سورة يوسف الآية: 84.
3 سورة يوسف الآية: 19.
4 سورة الروم الآية: 43.
5 سورة النور الآية: 37.
6 سورة الواقعة: الآية 89.
7 سورة الرحمن الآية: 54.
8 صحيح أخرجه الطيالسي 2272 وأحمد 2/195 والحاكم 1/11 والبيهقي 10/243 وابن حبان 5176 من حديث عبد الله بن عمرو.
9 هو أثر غير مرفوع انظر الشفاء 1/175.
10 البرى البرة: الخلخال والبرى: التراب القاموس 1630.
11 عيجت: عطفت.

(1/274)


كقول رجل من بني عبس: [من البسيط]
وذلكمْ أنَّ ذُلَّ الجارِ حالَفَكم ... وأنَّ أنْفَكُمُ لا يَعْرِفُ الأنَفا.
فأما في شعر المُحدثين فأكثر من أن يحصى.
الفصل السادس والتسعون: في الطِّباق.
هو الجمع بين ضدين كما قال تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} 1 وكما قال عزَّ وجلَّ: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} 2 وكما قال عزَّ وجلَّ: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} 3 وكما قال عزَّ من قائل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 4. ومما جاء في الخبر عن سيِّد البشر صلى الله عليه وسلم: "حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمكارِهِ والنَّارُ بِالشَّهوات" 5 "النَّاسُ نِيام فإذا ماتوا انتَبَهوا" 6 "كفى بالسَّلامَة داءً" 7 "إنَّ اللهَ يُبْغِضُ البَخيلَ في حَياتِهِ والسَّخيَّ بَعْدَ موته" 8 "جُبِلَتْ القُلوبُ على حُبِّ من أحْسَنَ إلَيها وبُغْضِ من أساءَ إلَيها" 9 "احذَروا من لا يُرْجى خَيْرُهُ ولا يؤْمَنُ شَرُّهُ". ومما جاء في الشعر قول الأعشى: [من الطويل]
تَبيتونَ في المَشتى مِلاءً بُطونُكُمْ ... وجاراتكم غَرْثى يَبِتْنَ خَمائِصا.
وقول عبد بني الحسحاس: [من البسيط]
إن كنتُ عبداً فَنَفسي حُرَّةٌ كَرَماً ... أو أسْوَدَ الخَلقِ إني أبيض الخلق.
وقول الفرزدق: [من الكامل]
والشَّيبُ يَنْهُضُ في الشَّبابِ كأنَّهُ ... ليل يصيح بجانبيه نهار.
__________
1 سورة التوبة الآية: 82.
2 سورة الحشر الآية: 14.
3 سورة الكهف الآية: 18.
4 سورة البقرة الآية: 179.
5 أخرجه أحمد 3/153 و3/253, و3/284 والترمذي 2559 والدارمي 2/339 وابن حبان 716
6 لم أجده مرفوعا وإنما يعزى إلى علي بن أبي طالب وانظر كشف الخفاء 2/312 المقاصد الحسنة 442.
7 ورد مرفوعا بسند ضعيف أخرجه القضاعي 1409 والديلمي 4871 من حديث أنس وفيه محمد بن زنبور غير قوي وعمران القطان فيه كلام والحديث ذكره السيوطي في الجامع ورمز لضعفه.
8 لم أره مسندا وانظر اتحاف السادة المتقين 8/196 وجمع الجوامع 5176 ورواه الخطيب في كتاب البخلاء 432 عن الإمام علي كرم الله وجهه.
9 أخرجه الخطيب 7/346 والقضاعي 49/2 وأبو نعيم 4/121 من حديث ابن مسعود وفي إسناده إسماعيل بن أبان وهو متهم بالكذب فالحديث ضعيف جدا شبه موضوع.

(1/275)


وكقول البحتري: [من البسيط]
وأمَّةٌ كان قُبْحُ الجَوْرِ يُسْخِطها ... دَهراً فأصْبَحَ حُسْنُ العَدْلِ يُرْضيها.
الفصل السابع والتسعون: في الكناية عما يُستقبح ذكره بما يستحسن لفظه.
هي من سنن العرب. وفي القرآن: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ} 1 أي فُرُوجَهم. وقال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} 2 فكنى عن الحدث. وقال تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 3 وقال عزّ وجلّ: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} 4 فكنى عن الجِماع والله كريم يكني. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لِقائد الإبل التي عليها نِساؤه: "رِفْقاً بالقَوارير" 5 فكنى عن الحُرَم. وقال عليه الصلاة والسَّلام: "اتقوا المَلاعِنَ" 6 أي لا تُحْدِثوا في الشَّوارع فَتُلْعَنوا. ومن كنايات البُلَغاء: بِهِ حاجَةٌ لا يَقْضيها غَيرُه كناية عن الحدث. وذكر ابن العميد مُحْتَشِما حلَفَ بالطَّلاق فقال: آلى يميناً ذكرَ فيها حرائره. وذكر ابن مُكرَّم سائلاً فقال: هو من قرَّاء سورة يوسف يعني أنَّ السُّؤال يستكثرون من قراءة هذه السورة في الأسواق والمجامع والجوامع وكنى ابن عائشة عمَّن به الأبْنَة بقوله: هو غراب يعني أنَّه يواري سَوءَةَ أخيه. وكنّى غيره عن اللقيط: بتربية القاضي. وعن الرَّقيب: بثاني الحبيب. وكان قابوس بن وشْمِكير إذا وصف رجلاً بالبلَه قال: هو من أهل الجنَّة يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أكثر أهل الجنَّة البُله "7. ومن كناياتهم عن موت الرُّؤساء والأجِلَة والملوك: انتَقَلَ إلى جِوارِ رَبِّه استأثَرَ الله به.
الفصل الثامن والتسعون: في الإلتفات.
هو أن تذكر الشيء وتتمَّ معنى الكلام به ثم تَعودَ لذكْره كأنَّك تلتَفِتُ إليه كما قال أبو
__________
1 سورة فصلت الآية: 21.
2 سورة النساء الآية: 43.
3 سورة البقرة الآية: 223.
4 سورة الأعراف الآية: 189.
5 أخرجه أحمد 3/117 ومسلم 2323 72 والبغوي 13/157, 158.
6 تقدم تخريجه.
7 باطل أخرجه ابن عدي في الضعفاء 3/313 والبيهقي في الشعب 1368, و 1368 والبزار كما في المجمع 8/79 من حديث أنس وأسناده ضعيف لضعف سلامة بن رواح أعله ابن عدي به قال إنه منكر وقال الهيثمي وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أحمد بن صالح وغيره.
انظر الجامع لأحكام القرآن 4741 ط دار الكتاب العربي.

(1/276)


الشّغب: [من البسيط]
فارَقْتُ شَغْبا وقد قُوِّسْتُ من كِبَرٍ ... لَبئْسَتِ الخَلَّتانِ الثُّكلُ والكِبَرُ.
فذكر مصيبته بابنه مع تقوُّسه من الكبر ثم التفتَ إلى معنى كلامه فقال: لبئست الخلَّتان. وكما قال جرير: [من الوافر] :
أتَذْكُرُ يَومَ تَصْقُلُ عارِضَيها ... بِعودِ بَشَامَةٍ سُقِيَ البَشامُ.
وكما قال الله عزَّ وجلَّ: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} 1 فنهى عن الإفتراء ثم وعد عليه فقال: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} .
الفصل التاسع والتسعون: في الحشْو.
العرب تقيم حشْو الكلام مقام الصلة والزِّيادة وتُجريه في نظام الكلمة وهو على ثلاثة أضْرُب: ضَرب منها رديء مذموم كقول الشاعر: [من المجزوء الوافر]
ذَكَرْتُ أخي فَعاوَدَني ... صُداعُ الرَّأسِ والوَصَبُ.
فَذَكَر الرَّأس وهو حشو مُسْتَغنى عنه لأن الصُّداع مُخْتَصٌ بالرَّأس فلا معنى لذكره معه. وكقول الآخر: [من المنسرح]
صُدودُكُمْ والدِّيارُ دانيَةٌ ... أهْدى لِرأسي ومِفْرَقي شَيبا.
فقوله: مفرقي مع ذكر الرأس حشو بَغيض. وكقول الآخر: [من الطويل]
إذا لَمْ يَكُنْ للمَرْءِ في دولة امرئٍ ... نَصيبٌ ولا حظٌّ تَمَنَّى زَوالَها.
والنَّصيب والحظ بمعنى واحد. وأما الضرب الأوسط فكقول امرئ القيس: [من الطويل]
ألا هل أتاها والحوادِثُ جَمَّة ... بِأنَّ امرأ القيسِ بن تمْلكَ بَيْقَرا2.
فقوله: والحوادثُ جَمَّة حشو مُستغنى عنه ولكن لا بأس به في موضعه. وكقول النَّابغة: [من الطويل]
لَعَمْري وما عَمري عليَّ بِهَيِّنً ... لَقَد نَطَقَتْ بُطْلاً على الأقارِعُ.
فقوله: وما عمري عليَّ بِهَيِّنٍ حشو يتم الكلام بدونه ولكنه محمود لما فيه من تفخيم اللفظ وتأكيد المراد. وأما الضَّرب الثالث فهو الحشو الحسن اللطيف كقول
__________
1 سورة طه الآية: 61.
2 بيقرا: نزل إلى الحضر وأقام وترك قومه بالبادية القاموس 450.

(1/277)


عوف بن محلم: [من السريع]
إنَّ الثَّمانينَ وبُلِّغْتَها ... قد أحْوَجَتْ سَمعي إلى تَرْجُمانْ.
فقوله: وبُلِّغْتُها حشو مُسْتَغنى عنه في نظم الكلام ولكنه حسن في مكانه وأوقع في المعنى المقصود. وكان بن عبّاد يسمِّي هذا الحشو: حشو اللوزينج لأن حشو اللوزينج خير من خُبْزَتِهِ. ومن هذا الضَّرب قول طَرَفَة:
فَسَقى دِيارَكَ غَيرَ مُفْسِدِها ... صوبُ الرَّبيعِ وديمَةٌ تَهْمي.
فقوله: غير مفسدها حشو ولكن ما لحسنه نهاية. ومن ذلك قول عديّ: [من الوافر]
فَلَو كنتَ الأسيرَ ولا تَكُنْهُ ... إذن عَلِمَتْ مَعَدٌّ ما أقولُ.
فقوله: ولاتكُنهُ حشو لا يخفى حسنه وبراعته. ومن ذلك قول البحتري: [من الكامل]
إنَّ السَّحابَ أخاكَ جادَ بِمِثلِ ما ... جادَتْ يَداكَ لو أنَّهُ لَمْ يَضْرُرِ.
فقوله: أخاكَ حشو ولكن ما لِحُسنه غاية. ومن ذلك قول ابن المعتز: [من الخفيف]
إنْ يحيي لا زال يحيا صديقي ... وخَليلي من دونِ هذي الأنامِ.
فقوله: لا زال يحيا حشو يُربى على حشو اللوزينج ومن ذلك قول أبي الطِّيب المتنبي: [من الطويل]
ويَحْتَقِرُ الدُّنيا احْتِقارَ مُجَرِّبٍ ... يَرى كلَّ ما فيها وحاشاه فانِيا
فقوله: وحاشاه حشوٌ يجمع الحُسن والطّيب.
دومن ذلك قول ابن عبّاد: [من السريع]
قُلْ لأبي القاسم إن جِئْتَهُ ... هُنِّيت ما أُعْطِيتَ هُنِّيتَهُ.
كلُّ جَمالٍ فائق رَائقٍ ... أنتَ بِرَغْمِ البَدْرِ أوتيتَهُ.
فقوله: برغم البدْرِ حشو يقطر منه ماء الظَّرفِ. ومن ذلك قول أبي محمد الخازن الأصبهانيّ رحمه الله للصّاحب: [من الوافر]
فَإيهِ طَرْبَةً للعفوِ إنَّ ... الكريم وأنتَ مَعْناهُ طَروبُ.
فقوله: وأنت مَعناه حشو يَعجِزُ الوصفُ عن حُسنه وحلاوته. وكان ابن عباد يقول: إذا سمع قول يحيى بن أكثم للمأمون وقد سأله عن شيء: "لا وأيَّدَ الله أميرَ المؤمنين" هذه الواو أحسن من واوات الأصداغ في خدود المرد الملاح.

(1/278)