الخصائص

باب في إصلاح 1 اللفظ:
اعلم أنه لما كانت الألفاظ للمعاني أزمة وعليها أدلة وإليها موصلة، وعلى2 المراد منها محصلة عنيت العرب بها فأولتها صدرًا3 صالحًا من تثقيفها وإصلاحها.
فمن ذلك قولهم: أما زيد فمنطلق ألا ترى أن تحرير هذا القول إذا صرحت بلفظ الشرط فيه صرت إلى أنك كأنك قلت: مهما يكن من شيء فزيد منطلق قتجد الفاء في جواب الشرط في صدر الجزأين مقدمة عليهما. وأنت في قولك: أما زيد فمنطلق إنما تجد الفاء واسطة بين الجزأين ولا تقول: أما فزيد منطلق كما تقول فيما هو "في معناه "4: مهما يكن من شيء فزيد منطلق. وإنما فعل ذلك لإصلاح اللفظ.
ووجه إصلاحه أن هذه الفاء وإن كانت جوابًا ولم تكن عاطفة فإنها على مذهب5 لفظ العاطفة وبصورتها فلو قالوا: أما فزيد منطلق كما يقولون: مهما يكن من شيء فزيد منطلق لوقعت الفاء الجارية مجرى فاء العطف بعدها اسم
__________
1 كذا في أ، ش، ج. وفي ب: "اصطلاح".
2 كأنه ضمن "محصلة" معنى موفقة، فعداه بـ"على".
3 كذا في ب، ش، ج. وقد سقط هذا اللفظ في أ.
4 كذا في ش، ب، د، هـ. وفي أ: "بمعناه".
5 ثبت هذا اللفظ في أ. وسقط في ش، ب، ج.

(1/313)


وليس قبلها اسم، إنما قبلها في اللفظ حرف, وهو أما. فتنكبوا ذلك لما ذكرنا, ووسطوها بين الحرفين ليكون قبلها اسم وبعدها آخر فتأتي على صورة العاطفة؛ فقالوا: أما زيد فمنطلق كما تأتي عاطفة بين الاسمين في نحو قام زيد فعمرو. وهذا تفسير أبي علي رحمه الله تعالى. وهو الصواب.
ومثله امتناعهم أن يقولوا: انتظرتك وطلوع الشمس أي مع طلوع الشمس, فينصبوه1 على أنه مفعول معه؛ كما ينصبون نحو قمت وزيدًا, أي مع زيد. قال أبو الحسن: وإنما ذلك لأن الواو التي بمعنى مع لا تستعمل إلا في الموضع الذي لو استعملت فيه عاطفة لجاز. ولو قلت: انتظرتك وطلوع الشمس أي و "انتظرك2 طلوع الشمس" لم يجز. أفلا ترى إلى إجرائهم الواو غير العاطفة في هذا مجرى العاطفة فكذلك أيضًا تجري الفاء غير العاطفة في نحو أما زيد فمنطلق مجرى العاطفة, فلا يؤتى بعدها بما لا شبيه له في جواز العطف عليه3 قبلها.
ومن ذلك قولهم في جمع تمرة وبسرة ونحو ذلك: تمرات وبسرات فكرهوا إقرار التاء تناكرًا لاجتماع علامتي تأنيث في لفظ اسم واحد فحذفت وهي في النية -مرادة البتة4- لا لشيء5 إلا لإصلاح اللفظ لأنها في المعنى مقدرة منوية6
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "فنصبوه".
2 كذا في أ. وفي ب: "انتظرتك وطلوع الشمس". يريد أنه لا يصح تسليط الانتظار على طلوع الشمس لأن الشمس لا يقع منها انتظار، فلا يصح عطفه على التاء، ومن ثم لا يصح نصبه على المفعول معه. وهذا رأي الأخفش. وجمهور النحاة لا يلتزمون هذا، ومن الجائز عندهم سرت والنيل، والنيل لا يسير وانظر سر الصناعة في حرف الباء. وشرح الرضي للكافية في المفعول معه 1/ 195.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "عليها".
4 ثبت ما بين القوسين. وفي ش، ب: وسقط في أ.
5 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "بشيء".
6 كذا في ش، ب. وفي أ: منونة". وهو تحريف.

(1/314)


لا غير ألا تراك إذا قلت "تمرات" لم يعترض شك في أن الواحدة منها تمرة, وهذا واضح. " والعناية" 1 إذًا في الحذف إنما هي بإصلاح2 اللفظ إذ المعنى ناطق بالتاء مقتض لها حاكم بموضعها 3.
ومن ذلك قولهم: إن زيدًا لقائم فهذه لام الابتداء وموضعها أول الجملة وصدرها لا آخرها وعجزها فتقديرها4 أول: لَئنّ زيدًا منطلق فلما كره تلاقي حرفين لمعنى واحد -وهو التوكيد- أخرت اللام إلى الخبر فصار إن زيدًا لمنطلق.
فإن قيل: هلا أخرت "إن " وقدمت اللام قيل: لفساد ذلك من أوجه: أحدها أن اللام لو تقدمت وتأخرت " إن " لم يجز أن تنصب "إن " اسمها الذي5 من عادتها نصبه من قبل أن لام الابتداء إذا لقيت الاسم المبتدأ قوت سببه وحمت من العوامل جانبه فكان يلزمك أن ترفعه فتقول: لَزيدٌ إنَّ قائم ولم يكن إلى نصب "زيد " -وفيه لام الابتداء- سبيل. ومنها أنك لو تكلفت نصب زيد -وقد أخرت عنه "إن " - لأعملت " إن " فيما قبلها وإن لا تعمل أبدًا إلا فيما بعدها. ومنها أن "إن " عاملة واللام غير عاملة والمبتدأ لا يكون إلا اسمًا وخبره قد يكون جملة وفعلا وظرفًا وحرفًا فجعلت اللام فيه لأنها غير عاملة ومنعت منه " إن" لأنها لا تعمل في الفعل ولا في الجملة كلها النصب إنما تعمله في أحد جزأيها ولا تعمل أيضًا في الظرف, ولا في حرف الجر. ويدل على أن موضع اللام في خبر "إن " أول الجملة قبل " إن " أن العرب لما جفا عليها اجتماع هذين الحرفين قبلوا الهمزة هاء ليزول لفظ " إن "
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "فالعناية".
2 كذا في أ. وفي ش: "لإصلاح".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "بموجبها".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "فتقدرها".
5 كذا في أ. وفي ش، ب، د، هـ: "التي".

(1/315)


فيزول أيضًا ما كان مستكرهًا من ذلك فقالوا "لهِنّك قائم " 1 أي لئنك قائم. وعليه قوله -فيما رويناه عن محمد بن سلمة عن أبي العباس2:
ألا ياسنا برق على قلل الحمى ... لهنك من برق على كريم3
فإن قلت: فما تصنع بقول الآخر 4:
ثمانين حولا لا أرى منك راحة ... لهنك في الدنيا لباقية العمر5
وما6 هاتان اللامان؟
قيل: أما الأولى فلام الابتداء, على ما تقدم. وأما الثانية في قوله: "لباقية العمر " فزائدة كزيادتها في قراءة سعيد بن جبير {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} . ونحوه ما رويناه عن قطرب من قول الشاعر:
ألم تكن حلفت بالله العلي ... أن مطاياك لمن خير المطي7
بفتح أن في الآية وفي البيت. وروينا عن أحمد بن يحيى -وأنشدناه أبو علي رحمه الله تعالى:
__________
1 كتب في أفوق لهنك "مثل لعنك" وسقط هذا في ش، ب. ويبدو أنها قصد بها توضيح ما في النص على أن تكون خارجة عنه، ومن ثم لم أثبتها. وهذا الرأي في "لهنك" وهو رأي سيبويه في الكتاب 1/ 474.
2 هو المبرد. وانظر سر الصناعة في حرف اللام.
3 من أربعة أبيات في الأمالي 1/ 220 والسمط 511 والخزانة 4/ 239 وديوان المعاني 2/ 192، وانظر نوادر أبي زيد 28.
4 هو عروة الرحال. وانظر الأمالي 2/ 36 والسمط 671 وشرح الحماسة 4/ 176 بولاق.
5 وبعده:
فإن أنقلب من عمر صعبة سالما ... تكن من نساء الناس لي بيضة العقر
وقد ثبت الشطر الأول من الشاهد في ش، ب، وسقط في أ، ج.
6 في ب، ش، ب، د، هـ قبل هذا زيادة: "مثل لعنك" وهو راجع لقوله في الشعر "لهنك".
7 "خير" كذا في ج وفي أ، ب: "شر". وما أثبته موافق لما نقله في الخزانة 4/ 328 عن سر الصناعة. وهو في سر الصناعة في حرف اللام.

(1/316)


مروا عجالا وقالوا كيف صاحبكم ... قال الذي سألوا أمسى لمجهودا1
فزاد اللام. وكذلك اللام عندنا في "لعل" زائدة ألا ترى أن العرب قد تحذفها قال:
عل صروف الدهر أو دولاتها ... يدلننا اللمة من لماتها2
فتستريح النفس من زفراتها
وكذلك3 ما أنشده4 ابن الأعرابي من قول الراجز:
ثمت يغدو لكأن لم يشعر ... رخو الإزار زمح التبختر5
أي كأن لم يشعر، فكذلك تكون اللام الثانية في قوله:
لهنك في الدنيا لباقية العمر
زائدة.
فإن قلت: فلم لا تكون الأولى هي الزائدة والأخرى غير زائدة قيل: يفسد ذلك من جهتين: إحداهما أنها قد ثبتت في قوله "لهنك من برق علي كريم " هي لام الابتداء لا زائدة فكذلك ينبغي أن تكون في هذا الموضع أيضًا هي لام الابتداء. والأخرى أنك لو جعلت الأولى هي الزائدة لكنت قد قدمت الحرف الزائد والحروف إنما تزاد لضرب من ضروب الاتساع فإذا كانت للاتساع كان آخر الكلام أولى بها من أوله ألا تراك لا تزيد "كان " مبتدأة وإنما تزيدها حشوًا أو آخرًا وقد تقدم ذكر ذلك.
__________
1 أنشده ثعلب غير معزو: المجالس 153 وما بعدها، مع بيت بعده:
يا ويح نفسي من غبراء مظلمة ... قيست على أطول الأقوام ممدودا
وانظر الخزانة 4/ 330.
2 "يدلننا" كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "تدني لنا" وفي اللسان في "لمم" "تديلنا"؛ وترى في هذا الموطن من اللسان أن الفراء أنشد هذا الرجز من غير عزو.
3 كذا في أ، ج. وفي ب، ش: "فكذلك".
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "أشدناه" وفي ج: "أنشدنا" ولم يلق أبو الفتح ابن الأعرابي؛ فإن صح ما في أ، ج، فالمراد: أنشدنا في كتبه وما روي عنه لا شفاها.
5 "زمح التبختر": ثقيله بغيضه. والزمح: السيئ الخلق وقد أصلحتها هكذا وفي أ، ب: "رمح". وفي ج: "زمج".

(1/317)


فأما قول1 من قال: إن قولهم "لهنك " إن أصله "لله إنك " فقد "تقدم ذكرنا"2 ذلك مع ما عليه فيه في موضع آخر وعلى أن أبا علي قد كان قواه بأَخَرةٍ وفيه تعسف 3.
ومن إصلاح اللفظ قولهم: كأن زيدًا عمرو. اعلم أن أصل هذا الكلام: زيد كعمرو ثم أرادوا توكيد الخبر فزادوا فيه "إن " فقالوا: إن زيدًا كعمرو ثم إنهم بالغوا في توكيد التشبيه فقدموا حرفه إلى أول الكلام عناية به وإعلامًا أن عقد الكلام عليه فلما تقدمت الكاف وهي جارّة لم يجز أن تباشر "إن " لأنها ينقطع عنها ما قبلها من العوامل فوجب لذلك فتحها فقالوا: كأن زيدا عمرو.
ومن ذلك أيضًا قولهم: لك مال وعليك دين فالمال والدين هنا مبتدآن, وما قبلهما خبر عنهما إلا أنك لو رمت تقديمهما إلى المكان المقدر لهما لم يجز, لقبح الابتداء بالنكرة في الواجب فلما جفا ذلك في اللفظ أخروا المبتدأ وقدموا الخبر وكان ذلك سهلا عليهم ومصلحًا لما فسد عندهم. وإنما كان تأخره مستحسنًا من قبل أنه لما تأخر وقع موقع الخبر ومن شرط الخبر أن يكون نكرة, فلذلك صلح به اللفظ وإن كنا قد أحطنا علمًا بأنه في المعنى مبتدأ. فأما4 من رفع الاسم في نحو هذا بالظرفية فقد كفي مئونة هذا الاعتذار لأنه ليس مبتدأ عنده.
__________
1 في شرح السيرافي 4/ 107 تيمورية أن هذا الرأي حكاه المفضل بن سلمة لغير الفراء ونسبه في الإنصاف 94 إلى المفضل بن سلمة.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "ذكرنا" ولا يريد أنه ذكره في هذا الكتاب.
3 انظر بسط الكلام في هذا البحث في الخزانة 4/ 334 وما بعدها، وانظر نوادر أبي زيد 28.
4 هم الأخفش والكوفيون. انظر شرح الرضي للكافية 1/ 87.

(1/318)


فإن قلت: فقد حكى1 عن العرب "أمتٌ في حجر لا فيك" وقولهم: "شر أهرَّ ذا ناب " وقولهم: " سَلَامٌ عَلَيْكَ", قال الله سبحانه وتعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} , وقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ونحو ذلك. والمبتدأ2 في جميع هذا نكرة مقدمة.
قيل: أما قوله سلام عليك وويل له وأمت في حجر لا فيك فإنه جاز لأنه ليس في المعنى خبرًا إنما هو دعاء ومسألة أي ليسلم الله عليك وليلزمه الويل وليكن الأمت في الحجارة لا فيك. والأمت: الانخفاض والارتفاع والاختلاف قال الله عز وجل: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} أي اختلافًا. ومعناه: أبقاك الله بعد فناء الحجارة وهي مما توصف بالخلود والبقاء ألا تراه كيف قال 3:
ما أطيب العيش لو أن التى حجر ... تنبو الحوادث عنه وهو ملموم4
وقال:
بقاء الوحي في الصم الصلاب
__________
1 ضبطتها بالبناء للمعلوم على ما في أفقد رسمت: "حكا", وهو يريد سيبويه. وانظر الكتاب 1/ 166 وضبط في ب: "حكى" بالبناء للمفعول.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "فالمبتدأ".
3 أن تميم بن أبي مقبل كما في شواهد المغني للبغدادي 2/ 256.
4 بعده:
لا تنفع المرء أحجاء البلاد ولا ... تبني له في السموات السلاليم
لا ينفع المرء أنصار ورابية ... يأبى الهوان إذا عد الجراثيم
أحجاء البلاد: نواحيها. والرابية: ما ارتفع من الأرض، وأراد به القلعة المرتفعة، والجراثيم جمع جرثومة وهي الأصل، بقوله إنه في جرثومة من قومه.

(1/319)


وأما قولهم "شر أهر ذا ناب " فإنما جاز الابتداء فيه بالنكرة من حيث كان الكلام عائدًا إلى معنى النفي أي ما أهر ذا ناب إلا شر وإنما كان المعنى هذا لأن الخبرية عليه أقوى ألا ترى أنك لو قلت: أهر ذا ناب شر لكنت على طرف من الإخبار غير مؤكد فإذا قلت: ما أهر ذا ناب إلا شر كان ذلك أوكد؛ ألا ترى أن قولك: ما قام إلا زيد أوكد من قولك: قام زيد. وإنما احتيج إلى التوكيد في هذا الموضع من حيث كان أمرًا عانيًا مهمًا. وذلك أن قائل هذا القول سمع هرير كلب فأضاف منه وأشفق1 لاستماعه أن يكون لطارق شر فقال: شر أهر ذا ناب؛ أي ما أهر ذا ناب إلا شر تعظيمًا عند نفسه أو عند مستمعه. وليس هذا في نفسه كأن يطرق بابه ضيف أو يلم به مسترشد. " فلما عناه وأهمه, وكد الإخبار عنه "2، وأخرج القول مخرج الإغلاظ به والتأهيب3 لما دعا إليه.
ومن ذلك امتناعهم من الإلحاق بالألف إلا أن تقع آخرًا نحو أرطىً, ومعزىً, وحبنطىً, وسرندىً, وزبعرىً, وصلخدىً, وذلك أنها إذا وقعت طرفًا وقعت موقع حرف متحرك فدل ذلك على قوتها عندهم وإذا وقعت حشوًا وقعت موقع الساكن فضعفت لذلك فلم تقو فيعلم بذلك إلحاقها بما هي على سمت متحركه4؛ ألا ترى أنك لو ألحقت بها ثانية فقلت: خاتم ملحق بجعفر لكانت مقابلة لعينه وهي ساكنة فاحتاطوا للفظ بأن قابلوا5 بالألف فيه الحرف المتحرك ليكون أقوى لها وأدل على شدة تمكنها وليعلم بتنوينها أيضًا وكون ما هي في على "وزن أصل من الأصول له"6 أنها للإلحاق به. وليست كذلك ألف قبعثرى, وضبغطرى؛
__________
1 "وأشقق" عطف تفسير.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "فإنما عناه وأهمه وكذا الإخبار عنه".
3 يقال أهب للأمر: استعد له.
4 كذا في ب. وفي أ، ش: "متحركة".
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "قابلوه".
6 كذا في أ. ولا يبدو عليها الحاجة إلى عبارة "له". وفي ش، ب: "وزن من الأصول له".

(1/320)


لأنها وإن كانت طرفًا ومنونة فإن المثال الذي فيه "لا"1 مصعد للأصول إليه فيلحق هذا به لأنه لا أصل لها2 سداسيًا، فإنما3 ألف قبعثرى قسم من الألفات الزوائد في أواخر الكلم ثالث لا للتأنيث ولا للإلحاق. فاعرف ذلك.
ومن ذلك أنهم لما "أجمعوا الزيادة"4 في آخر بنات الخمسة -كما زادوا في آخر بنات الأربعة- خصوا بالزيادة فيه الألف استخفافًا لها ورغبة فيها هناك دون أختيها: الياء والواو. وذلك أن بنات الخمسة لطولها لا ينتهي إلى آخرها إلا وقد ملت, فلما5 تحملوا الزيادة في آخرها طلبوا أخف الثلاث -وهي الألف- فخصوها بها, وجعلوا الواو والياء حشوًا في نحو عضرفوط وجعفليق لأنهم لو جاءوا بهما طرفًا6 وسداسيين مع ثقلهما لظهرت الكلفة في تجشمهما وكدت في احتمال النطق بهما كل ذلك لإصلاح اللفظ.
ومن ذلك باب الادّغام في المتقارب نحو ود في وتد, ومن الناس "ميقول " في "من يقول " ومنه جميع باب التقريب؛ نحو اصطبر، وازدان، وجمع باب المضارعة، نحو مصدر7 وبابه.
ومن ذلك تسكينهم لام الفعل إذا اتصل بها علم الضمير المرفوع نحو ضربت وضربن وضربنا. وذلك أنهم أجروا الفاعل هنا مجرى جزء من الفعل فكره
__________
1 زدت هذا الحرف ليستقيم الكلام, وقد خلت منه الأصول والزيادة "لا" في الأشباه للسيوطي 1/ 73.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "له" وكأن الضمير في "لها" يرجع إلى الأسماء. وفي الأشباه "لنا" وهو أجود.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "وإنما".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "أجمعوا على الزيادة". وكلاهما صحيح؛ يقال: أجمع الأمر وأجمع عليه: عزم عليه.
5 كذا في ش، ب. وفي أ "فإنما".
6 كذا في الأشباه. وفي الأصول: "أو". وقوله: "سداسيين كذا في الأصول، والأجود: سادسين".
7 في أكتب الحرف "ز" فوق "مصدر"، وهذا علامة على نطق الصاد قريبة من الزاي تحقيقًا للمضارعة.

(1/321)


اجتماع الحركات "الذي لا يوجد "1 في الواحد. فأسكنوا اللام2، إصلاحًا للفظ فقالوا: ضربت ودخلنا وخرجتم. نعم وقد كان يجتمع فيه أيضًا خمس متحركات نحو: خرجتما فالإسكان إذًا أشد وجوبًا. وطريق إصلاح اللفظ كثير واسع فتفطن له.
ومن ذلك أنهم لما أرادوا أن يصفوا المعرفة بالجملة كما وصفوا بها النكرة "ولم "3 يجز أن يجروها عليها لكونها نكرة أصلحوا اللفظ بإدخال "الذي " لتباشر بلفظ حرف التعريف المعرفة فقالوا: مررت بزيد الذي قام أخوه ونحوه.
__________
1 كذا في أ، وفي ش، ب: "التي لا توجد".
2 في الأصول: "ما قبل اللام" وهذا لا يستقيم به الكلام ولا يصح، فإن التسكين للام كما سبق له. وقد يكون الأصل: "الآخر". فحرفت إلى "اللام".
3 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "فلم".

(1/322)


باب في تلاقي اللغة:
هذا موضع لم أسمع فيه لأحد شيئًا إلا لأبي علي رحمه الله.
وذلك أنه كان يقول في باب أجمع وجمعاء وما يتبع ذلك من أكتع وكتعاء وبقيته: إن هذا اتفاق وتوارد وقع في اللغة على غير ما كان في وزنه منها. قال: لأن باب أفعل وفعلاء إنما هو للصفات وجميعها تجيء1 على "هذا الوضع"2 نكرات نحو أحمر وحمراء وأصفر وصفراء وأسود وسوداء وأبلق وبلقاء وأخرق وخرقاء. هذا كله صفات نكرات فأما أجمع وجمعاء فاسمان معرفتان وليسا بصفتين فإنما ذلك اتفاق وقع بين3 هذه الكلم المؤكد بها.
قال: ومثله ليلة طلقة وليال طوالق قال: فليس طوالق4 تكسير "طلقة", لأن فعلة لا تكسر على فواعل, وإنما طوالق جمع طالقة وقعت موقع جمع طلقة.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "يجيء". وقد راعى اكتساب المبتدأ التأنيث من المضاف إليه فأنث الخبر.
2 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "غير هذا الموضع".
3 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "من".
4 زيادة في أوج.

(1/322)


وهذا الذي قاله وجه صحيح. وأبين منه عندي وأوضح قولهم في العلم: سلمان, وسلمى فليس سلمان إذًا من سلمى كسكران من سكرى. ألا ترى أن فعلان الذي يقاوده1 فعلى إنما بابه الصفة كغضبان وغضبى وعطشان وعطشى وخزيان وخزيا وصديان وصديا وليس سلمان ولا سلمى بصفتين ولا نكرتين, وإنما سلمان من سلمى كقحطان من ليلى غير أنهما كانا من لفظ واحد فتلاقيا في عرض اللغة من غير قصد لجمعهما ولا إيثار لتقاودهما. ألا تراك لا تقول: هذا رجل سلمان ولا امرأة سلمى كما تقول: هذا سكران وهذه سكرى وهذا غضبان, وهذه غضبى. وكذلك لو جاء في العلم " ليلان " لكان ليلان من ليلى كسلمان من سلمى. وكذلك لو وجد في العلم "قحطى " لكان من قحطان كسلمى من سلمان.
وأقرب إلى ذلك من سلمان وسلمى قولهم في العلم: عدوان, والعدوى, مصدر أعداه الجرب ونحوه. ومن ذلك قولهم: "أسعد " لبطن من العرب؛ ليس2 هذا من سعدى كالأكبر من الكبرى والأصغر من الصغرى. وذلك أن هذا إنما هو تقاود الصفة وأنت لا تقول: مررت بالمرأة السعدى ولا بالرجل الأسعد. فينبغي -على هذا- أن يكون أسعد من سعدى كأسلم من بشرى. وذهب بعضهم إلى أن أسعد تذكير سعدى ولو كان كذلك لكان حرىً أن يجيء به سماع, ولم نسمعهم قط وصفوا بسعدى وإنما هذا تلاق وقع بين هذين الحرفين3 المتفقي اللفظ كما يقع هذان المثالان في المختلفية4؛ نحو أسلم وبشرى.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "قد تقاوده".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "فليس".
3 كذا في أ، ب. وسقط في ش.
4 كذا في اللسان والتاج "مادة سعد". وفي الأصول: "المختلفة" ولها وجه أي الألفاظ المختلفة وما أثبته أجود.

(1/323)


وكذلك أيهم ويهماء ليسا1 كأدهم ودهماء لأمرين: أحدهما أن الأيهم الجمل الهائج "أو السيل "2 واليهماء الفلاة فهما مختلفان. والآخر أن أيهم لو كان مذكر يهماء لوجب أن يأتي فيهما "يهم " كدهم ولم نسمع ذلك فعلمت بذلك أن هذا تلاق بين3 اللغة وأن أيهم لا مؤنث له ويهماء لا مذكر لها.
ومن التلاقي قولهم في العلم: أسلم وسلمى. وليس هذا كالأكبر والكبرى لأنه ليس وصفًا. فتأمل أمثاله في اللغة. ومثله شتان وشتى إنما هما كسرعان وسكرى.
وإنما وضعت من هذا الحديث رسمًا4 لتتنبه على ما يجيء من مثله فتعلم به أنه توارد وتلاق وقع في أثناء هذه اللغة عن غير قصد له ولا مراسلة بين بعضه وبعض.
وليس من هذا الباب سعد وسعدة؛ من قبل أن هاتين صفتان مسوقتان على منهاج واستمرار. فسعد من سعدة كجلد من جلدة وندب5 من ندبة. ألا تراك تقول: هذا يوم سعد وهذه ليلة سعدة كما تقول: هذا شعر جعد وهذه جمة6 جعدة. فاعرف ذلك إلى ما يليه وقسه بما7 قررته عليه بإذن الله تعالى.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "وليستا".
2 كذا في ج واللسان "يهم" وسقط هذا في سائر الأصول وفي القاموس "يهم": "والأيهمان عند أهل البادية والسيل والجمل الهائج الصئول".
3 كذا في أ. وفي ش, ب: "من".
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "رسما".
5 هو الخفيف في الحاجة، والظريف النجيب، وأنثاه ندبه.
6 الجمة: مجتمع شعر الرأس.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "على ما".

(1/324)


باب في هل يجوز لنا في الشعر من الضرورة ما جاز للعرب أو 1 لا؟:
سألت أبا علي رحمه الله عن هذا فقال: كما جاز أن نقيس منثورنا على منثورهم فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم. فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا وما حظرته عليهم حظرته علينا.
وإذا كان كذلك فما كان من أحسن ضروراتهم, فليكن من أحسن ضروراتنا, وما كان من أقبحها عندهم فليكن من أقبحها عندنا. وما بين ذلك بين ذلك.
فإن قيل: هلا لم يجز لنا متابعتهم على الضرورة من حيث كان القوم لا يترسلون2 في عمل أشعارهم ترسل المولدين ولا يتأنون فيه ولا يتلومون3 على حوكه "وعمله"4، وإنما كان أكثره ارتجالا قصيدًا كان أو رجزًا أو رملا. فضرورتهم إذًا أقوى من ضرورة المحدثين. فعلى هذا ينبغي أن يكون عذرهم فيه أوسع وعذر المولدين أضيق.
قيل: يسقط هذا من أوجه: أحدها أنه ليس جميع الشعر القديم مرتجلا, بل قد كان يعرض لهم فيه من الصبر عليه, والملاطفة له, والتلوم على رياضته وإحكام صنعته نحو مما يعرض لكثير من المولدين. ألا ترى إلى ما يروى عن زهير: من أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين فكانت تسمى حوليات زهير, لأنه كان يحوك القصيدة في سنة. والحكاية في ذلك عن ابن5 أبي حفصة أنه قال: كنت أعمل القصيدة في أربعة أشهر، وأحككها6 في أربعة أشهر, وأعرضها في أربعة أشهر، ثم أخرج بها إلى الناس.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "أم".
2 الترسل في الأمر: التمهل فيه والرفق.
3 التلوم: الانتظار والتلبث.
4 كذا في أ، وفي ش، ب: "وعلى عمله".
5 هو مروان الأكبر مات سنة 182 وانظر معجم الشعراء للمرزباني 396.
6 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "أحكامها". وهو كذلك في ضرائر الألوسي 11. والتحكيك مبالغة في الحك, وحك الشيء: قشره ومعالجته. ويريد بتحكيك الشعر تنقيحه ونفي الرديء. عنه. وفي الأغاني 3/ 25: "وكان الأصمعي يعجب بشعر بشار لكثرة فنونه، وسعة تصرفه ويقول: كان مطبوعا لا يكلف طبيعته شيئًا متعذرا، لا كمن يقول البيت ويحككه أياما".

(1/325)


فقيل له 1: فهذا هو2 الحولي المنقح. وكذلك الحكاية عن ذي الرمة: أنه قال3: لما قال:
بيضاء في نعج صفراء في برج
أجبل4 حولا لا يدري ما يقول إلى أن مرت به صينية فضة "قد"5 أشربت ذهبًا فقال:
كأنها فضة قد مسها6 ذهب
وقد وردت أيضًا بذلك أشعارهم قال ذو الرمة:
أجنبه المساند والمحالا7
ألا تراه كيف اعترف بتأنيه8 فيه وصنعته إياه. وقال عدي بن الرقاع العاملي:
وقصيدة قد بت أجمع بينها ... حتى أقوم ميلها وسنادها9
نظر المثقف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافة منآدها
__________
1 كذا في أ، ج. وسقط هذا في ب، ش.
2 كذا في أ، ب، ش. وسقط هذا اللفظ في ج.
3 كذا في ب، ش. وكان ينبغي أن يكون يعد هذا: لما قلت ... أجبلت. ولكن المؤلف لم يحك قوله, يحدث عنه كالغائب، وهو طريق مسلوك. وقد سقط هذا اللفظ في ج، وهو أسوغ وأقرب متناولا.
4 أجبل: انقطع عن القول.
5 زيادة في أ.
6 كذا في أ، ب، ش وفي ج: "شابها" والبيت خامس أبيات القصيدة التي مطلعها:
ما بال عينك منها الدمع ينسكب ... كأنه من كلى مفرية سرب
وانظر الديوان ص. والبيان والتبيين 1/ 126؛ "نشر محب الدين الخطيب".
7 في ج أثبت صدره:
وشعر قد أرقت له طريف
وسقط هذا في أ، ب، ش. وقوله: "أجنبه" كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "أجانبه" وما أثبت يوافق ما في الموشح 12 وانظر الديوان 440. والمساند: ما فيه السناد، وهو من عيوب القافية، والمحال عند الخليل: الكلام لغير شيء، كما في اللسان. ويقول سيبويه في الكتاب 1/ 18: "وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس".
8 كذا في ش. وغيرها: "بتأنيه" ويقال: تأتى للأمر: ترفق فيه وكأنه استعمل "في" بدل اللام لتضمنه معنى الترفق.
9 انظر الموشح 13.

(1/326)


وقال سويد بن كراع 1:
أبيت بأبواب القوافي كإنما ... أذود بها سربا2 من الوحش نزعا
وإنما يبيت عليها لخلوه بها ومراجعته النظر فيها. وقال:
أعددت للحرب التي أعنى بها ... قوافيًا لم أعي3 باجتلابها
حتى إذا أذللت4 من صعابها ... واستوسقت لي صحت في أعقابها
فهذا -كما ترى- مزاولة ومطالبة واغتصاب5 لها ومعاناة كلفة بها.
ومن ذلك الحكاية عن الكميت وقد افتتح قصيدته التي أولها:
ألا حييت عنا يا مدينا
ثم أقام برهة لا يدري بماذا يعجز6 على هذا الصدر إلى أن دخل حمامًا وسمع إنسانًا دخله فسلم على آخر فيه فأنكر عليه، فانتصر بعض الحاضرين له فقال: وهل بأس يقول المسلمين؛ فأهتبلها كيت7 فقال:
وهل بأس بقول مسلّمينا
__________
1 انظر البيان والتبيين 2/ 12 بتحقيق الأستاذ هارون وشعراء ابن قتيبة 616.
2 كذا في أ. وفي ب، ش: "عن الوحش". وبعده:
أكالئها حتى أعرس بعدما ... يكون سحيرا أو بعيدا فأهجعا
وانظر شعراء ابن قتيبة 33، 616 من طبعة الأستاذ أحمد شاكر.
3 "لم أعي"، كذا في ب، أي لم تعجزني. وفي أ: "لم أعن" وهي رواية جيدة. وفي ش: "لم أعني".
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "ذللت".
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "اغتصاب".
6 أي يأتي بعجز البيت. والقصة في اللسان في "عجز".
7 من قبيل ما وقع للكميت ما وقع لموارد أحد أدباء شنقيط إذ أراد إنشاء قصيدة فنظم الشطر الأول، وهو:
أمربع الغصن ذا أمتلك أعلامه
ثم أرتج عليه سنة لا يستقيم له تكملته وورد يومًا منهلا ليسقي جملا له، فتخاصمت جاريتان في المنهل، فقالت إحداهما للأخرى: والله ما ذلك كذلك، ولا كانت أيامه كما تقولين، أو ما هو قريب من ذلك، فضرب جمله من غير أن يسقيه ودخل الحي وهو يجري، فظن الناس أنه رأى ما يذعره، فسألوه فأخبرهم أنه وجد شطرا يتم به مطلع قصيدته، فقال:
أمربع الغصن ذا أم ذاك أعلامه ... لا هو هو ولا الأيام أيامه
وانظر الوسيط 197.

(1/327)


ومثل هذا في أشعارهم الدالة على الاهتمام بها، والتعلب في إحكامها كثير معروف. فهذا وجه.
وثان: أن من المحدثين أيضًا من يسرع العمل ولا يعتاقه بطء ولا يستوقف فكره، ولا يتعتع1 خاطره. فمن ذلك ما حدثني به من شاهد المتنبي وقد حضر عند أبي علي الأوارجي2، وقد وصف له طردًا3 كان فيه وأراده على وصفه فأخذ الكاغد والدواة واستند إلى جانب المجلس -وأبو علي يكتب كتابا- فسبقه المتنبي في كتبه الكتاب فقطعه عليه ثم أنشده:
ومنزل ليس لنا بمنزل
وهي طويلة مشهورة "في شعره "4.
وحضرت أنا مجلسًا لبعض الرؤساء ليلة5 وقد جرى ذكر السرعة وتقدم البديهة وهنالك حدث من غير شعراء بغداد, فتكفل أن يعمل في ليلته تلك مائتي بيت في ثلاث قصائد على أوزان اخترناها6 عليه ومعان حددناها له فلما كان الغد في آخر النهار أنشدنا القصائد الثلاث على الشرط والاقتراح وقد صنعها وظاهر إحكامها وأكثر من البديع المستحسن فيها.
وثالث: كثرة ما ورد في أشعار المحدثين من الضرورات؛ كقصر الممدود, وصرف ما لا ينصرف, وتذكير المؤنث ونحوه. وقد حضر ذلك وشاهده جلة أصحابنا
__________
1 يقال: تعنعه: أقلقه وأزعجه.
2 كذا في أ، ج. والأوارجي منسوب إلى الأوارجة وهو من دفاتر أصحاب الخراج، وهو لفظ فارسي، وفي ب: "الأوراجي" وفي ش: "الأدراجي". وأبو علي الأوارجي هو هارون بن عبد العزيز الكاتب. وقد مدحه المتنبي بالقصيدة التي مطلعها:
أمن ازديارك في الدجى المرقباء ... إذ حيث أنت من الظلام ضياء
3 الطرد: مزاولة الصيد.
4 كذا في ش، ب وسقط هذا في أ. والأرجوزة في الديوان. انظر معاهد التنصيص 2/ 48.
5 كذا في ش، ب، وفي أ، ج: "ليلا".
6 كذا في أ، ب. وفي ش: "اخترعناها" وهذه ظاهر أنها محرفة عن: "اقترحناها".

(1/328)


من أبي عمرو إلى آخر وقت, والشعراء من بشار إلى فلان وفلان ولم نر أحدًا من هؤلاء العلماء أنكر على أحد من المولدين ما ورد في شعره من هذه الضرورات التي ذكرناها وما كان نحوها فدل ذلك على رضاهم به وترك تناكرهم إياه.
فإن قلت: فقد عيب بعضهم كأبي نواس وغيره في أحرف أخذت عليهم قيل: هذا كما عيب الفرزدق وغيره في أشياء استنكرها أصحابنا. فإذا جاز عيب أرباب اللغة وفصحاء شعرائنا كان مثل ذلك في أشعار المولدين أحرى بالجواز.
فإذا كانوا قد عابوا بعض ما جاء به القدماء في غير الشعر بل في حال السعة وموقف الدعة كان يرد من المولدين في الشعر -وهو موقف فسحة وعذر- أولى بجواز مثله.
فمن ذلك استنكارهم همز مصائب وقالوا: منارة ومنائر ومزادة ومزائد فهمزوا ذلك في الشعر وغيره وعليه قال الطرماح:
مزائد خرقاء اليدين مسيفة ... يخب بها مستخلف غير آئن1
__________
1 قبله:
كأن العيون المرسلات عشية ... شآيب دمع العبرة المتحائن
المتحائن: المتتابع. وشآبيب الدمع: دفعاته، واحدها شؤبوب، وقوله: "مزائد" خبر "كأن" واحدها المزادة، وهي ضرب من القرب يجعل فيه الماء. والمسيفة: وصف من أساف الخارز: أفسد الخرز. والمستخلف: من يستقي الماء. والآئن: البطيء من الأون وهو الراحة.
وفي شرح ديوان الطرماح: "من الأين وهو الأعياء" وقوله: "يخب" ضبط بضم الياء من الإخباب وفقا لما في الديوان، وهذا ليوافق قول الراعي:
مزائد خرقاء اليدين مسيفة ... أخب بهن المخلفان وأحفدا
وفي أ: "يخب" بفتح الياء وضم الحاء من الخبيب. انظر شعراء ابن قتيبة في ترجمة الراعي 378 طبعة الأستاذ أحمد شاكر، وديوان الطرماح 165.

(1/329)


وإنما الصواب مزاود, ومصاوب, ومناور؛ قال:
يصاحب الشيطان من يصاحبه ... فهو أذيٌّ1 جمةٌ مصاوبه
ومن ذلك قولهم في غير الضرورة: ضبب البلد: كثرة ضبابه 2. وألل السقاء: تغيرت ريحه. ولححت عينه: التصقت, ومششت3 الدابة. وقالوا: إن الفكاهة مقودة إلى الأذى. وقرأ بعضهم4 {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} وقالوا: كثرة الشراب مبولة وكثرة الأكل منومة وهذا شيء مطيبة للنفس وهذا طريق مهيع إلى غير ذلك مما جاء في السعة ومع غير الضرورة. وإنما صوابه: لحت عينه وضب البلد وألَّ السقاء ومشَّت الدابة ومقادة إلى الأذى, ومثابة, ومبالة, ومنامة, ومطابة, ومهاع.
فإذا جاز هذا للعرب عن غير حصر5 ولا ضرورة قول كان استعمال الضرورة في الشعر للمولدين أسهل، وهم فيه أعذر.
فأما ما يأتي عن العرب لحنًا فلا نعذر في مثله مولدًا.
فمن ذلك بيت الكتاب 6:
وما مثله في الناس إلا مملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
__________
1 الأذي: الشديد التأذي، وقيل: هو المؤذي، وقوله: "جمة" جاء في اللسان في "أذي": حمة، بالحاء المهملة.
2 الضباب جمع الضب: الحيوان المعروف. وفي اللسان: "كثرت ضبابه".
3 من المشش، وهو ورم يكون في ساق الدابة.
4 تنسب هذه القراءة إلى أبي السمال وقتادة. وانظر شهاب البيضاوي 2/ 812 وهذا في الآية 103 من البقرة.
5 كذا في و. وفي أ، ب: "حفر" وفي د: "حقر". والحصر بالشيء: الضبق به.
6 كثر هذا البيت منسوبا للفرزدق في الكتب. ويذكر الكتاب أنه من قصيدة في مدح إبراهيم بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان. وليس في ديوان الفرزدق هذه القصيدة. ولم أر هذا البيت في الكتاب والبيت في اللسان في "ملك"، وفي الإيضاح للقزويني 1/ 5 طبعة مطبعة السنة المحمدية.

(1/330)


ومراده فيه معروف وهو فيه غير معذور. ومثله في الفصل قول الآخر -"فيما"1 أنشده ابن الأعرابي:
فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرًا رسومها قلما
أراد: فأصبحت بعد بهجتها قفرًا كأن قلمًا خط رسومها فأوقع من الفصل والتقديم والتأخير ما تراه.
وأنشدنا2 أيضًا:
فقد والشك بين لي عناءٌ ... بوشك فراقهم صرد يصيح3
أراد: فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم والشك عناء. فقد ترى إلى ما فيه من الفصول التي لا وجه "لها ولا لشيء منها "4.
وأغرب من ذلك وأفحش وأذهب في القبح قول الآخر:
لها مقلتا حوراء طل خميلة ... من الوحش ما تنفك ترعى عرارها
أراد: لها مقلتا حوراء من الوحش ما تنفك ترعى خميلة طل عرارها. فمثل هذا لا نجيزه للعربي أصلا فضلا عن أن نتخذه للمولدين رسمًا.
وأما قول الآخر:
معاوي لم ترع الأمانة فارعها ... وكن حافظًا لله والدين شاكر
فحسن جميل؛ وذلك أن "شاكر " هذه قبيلة5، وتقديره: معاوي لم ترع الأمانة شاكر، فارعها أنت وكن حافظًا لله والدين. فأكثر ما في هذا الاعتراض بين الفعل والفاعل،
__________
1 كذا في ش، ب. وسقط هذا في أ.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "أنشد". والظاهر أنه يريد أبا علي.
3 أورده في المغني في مبحث "قد" وتكلم عليه البغدادي في شرح شواهده "1/ 965" ولم يعزه.
4 كذا في أ. وفي ب، ش: "لشيء منها".
5 من همدان في اليمن؛ كما في اللسان في "شكر".

(1/331)


والاعتراض للتسديد1 قد جاء بين الفعل والفاعل وبين المبتدأ والخبر وبين الموصول والصلة وغير ذلك مجيئًا كثيرًا في القرآن وفصيح الكلام. ومثله من الاعتراض بين الفعل والفاعل قوله 2:
وقد أدركتني والحوادث جمة ... أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
والاعتراض في هذه اللغة كثير حسن. ونحن نفرد له بابًا يلي هذا الباب. بإذن الله سبحانه وتعالى.
ومن طريف الضرورات وغريبها ووحشيها وعجيبها ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
هل تعرف الدار ببيدا إنه ... دار لخود قد تعفت إنَّه
فانهلت العينان تسفحنه ... مثل الجمان جال في سلكنَّه
لا تعجبي منا سليمي إنه ... إنا لحلالون بالثغرنه
وهذه الأبيات قد شرحها أبو علي رحمه الله في البغداديات3، فلا وجه لإعادة ذلك هنا. فإذا آثرت معرفة ما فيها فالتمسه منها.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "للتشديد".
2 في شرحي شواهد المغني للسيوطي 273 والبغدادي 2/ 605 أن هذا الرجل من بني دارم يمدح بني عجل وقد أسروه، وقد أطلقوه جزاء لمدحه. وقبله:
وقائلة ما باله لا يزورنا ... وقد كنت عن تلك الزيارة في شغل
وبعده:
لعلهم أن يمطروني بنعمة ... كما صاب ماء المزن في البلد المحل
فقد ينعش الله الفتى بعد عثرة ... وتصطنع الحسنى سراة بني عجل
3 انظر شرح البيت الأول في اللسان في "بيد". وبيدا يريد البيداء، وهي أرض بين مكة والمدينة.

(1/332)


وكذلك ما أنشده أيضًا أبو زيد1 للزفيان السعدي:
يا إبلي ما ذامه فتأبَيَه ... ماء رواء ونصيٌّ حولَيَه
هدا بأفواهك حتى تأبَيَه ... حتى تروحي أصلا تباريه
تباري العانة فوق الزازيه
هكذا روينا عن أبي زيد وأما الكوفيون فرووه على خلاف هذا يقولون: فتأبَيْه, ونصي حولَيْه, وحتى تأبَيْه, وفوق الزازيْه. فينشدونه من السريع لا من الرجز كما أنشده أبو زيد. وقد ذكرت هذه الأبيات بما يجب فيها في كتابي " في النوادر الممتعة " ومقداره ألف ورقة. وفيه من كلتا الروايتين صنعة طريفة.
وأخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى -أحسبه عن ابن الأعرابي- يقول الشاعر:
وما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم ... من الناس ذنبًا جاءه وهو مسلما
وقال في تفسيره معناه: ما كنت أخشى الدهر إحلاس2 مسلم مسلمًا ذنبًا جاءه وهو, ولو وكد الضمير في جاء فقال: جاءه هو وهو لكان أحسن 3. وغير التوكيد أيضًا جائز.
__________
1 انظر النوادر ص97. وهذا الشعر في اللسان في "زبز" و"أبي"، وفي ديوان الزفيان 100 وقوله: هذّا فالهذ سرعة القطع. ويروى "هذا" اسم إشارة. والعانة: القطيع من حمر الوحش. والزازية: المكان المرتفع، والنصي نبت من أفضل المرعى.
2 في مجالس ثعلب: "إلزام" وهذا بعد أن فسر الإحلاس بالإلزام.
3 قال ثعلب: "يقول: ما كنت أظن أن إنسانًا ركب ذنبا هو وآخر ثم نسبه إليه دونه" وانظر اللسان في "حلس"، ومجالس ثعلب 96. وجاء البيت في الأمالي 1/ 206 وقال أبو علي: "أراد: وما كنت أخشى الدهر إلزام مسلم مسلما "ذنبا جاءه وهو" أي جاءاه معًا.

(1/333)


وأبيات الإعراب1 كثيرة وليس على ذكرها وضعنا هذا الباب. ولكن اعلم أن البيت إذا تجاذبه أمران: زيغ الإعراب وقبح الزحاف فإن الجفاة الفصحاء لا يحفلون بقبح الزحاف إذا أدى إلى صحة الإعراب. كذلك قال2 أبو عثمان وهو كما ذكر. وإذا كان الأمر كذلك فلو قال في قوله 3:
ألم يأتيك والأنباء تنمي
لكان أقوى قياسًا على ما رتبه أبو عثمان؛ ألا ترى أن الجزء كان يصير منقوصا لأنه يرجع إلى مفاعيل: ألم يأت مفاعيل. وكذلك بيت الأخطل:
كلمع أيدي مثاكيل مسلبة ... يندبن ضرس بنات الدهر والخطب4
أقوى القياسين على ما مضى أن ينشد "مثاكيل " غير مصروف لأنه يصير الجزء فيه من مستفعلن إلى مفتعلن وهو مطوي والذي روى " مثاكيل " بالصرف. وكذلك بقية هذا.
فإن كان ترك زيغ الإعراب يكسر البيت كسرًا لا يزاحفه زحافًا فإنه لا بد من ضعف زيغ الإعراب واحتمال ضرورته وذلك كقوله 5:
سماء الإله فوق سبع سمائيا
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش بخط غير الخط الدائم: "الاعتراض" وكأنه إصلاح. والوجه ما أثبت. وكأنه يريد بأبيات الإعراب الأبيات التي الإعرب فيها مشكل يحتاج إلى تأمل، وهي ما تعرف بأبيات الألغاز والأحاجي. وقد صنف فيها.
2 انظر تصريف المازني، الباب 10 "باب ما يكسر عليه الواحد".
3 أي قيس بن زهير العبسي في إبل للربيع بن زياد العبسي استاقها وباعها بمكة، وذلك أن الربيع كأن قد أخذ منه درعا ولم يردها عليه, وتتمة البيت:
بما لاقت لبون بني زياد
وبعده:
ومحبسها على القرشي تشرى ... بأدراع وأسياف حداد
وانظر شواهد المغني للسيوطي 113.
4 "مسلبة": لابسة السلاب -وهي الثياب السود- حدادا، وحزنا، والخطب: يريد الخطوب جمع الخطب فحذف تخفيفا، يشبه الإبل في رميها الحصى بهؤلاء النساء، وانظر ديوان الأخطل 188.
5 انظر ص212 من هذا الجزء.

(1/334)


فهذا لا بد من التزام ضرورته لأنه لو قال: سمايا لصار من الضرب الثاني إلى الثالث وإنما مبنى هذا الشعر على الضرب الثاني1 لا الثالث. وليس كذلك قوله 2:
أبيت على معاري فاخرات ... بهن ملوب كدم العباط
لأنه لو قال: معار3 لما كسر الوزن؛ لأنه يصير من مفاعلتن إلى مفاعيلن وهو العصب. لكن مما لا بد من التزام ضرورته مخافة كسر وزنه قول الآخر:
خريع4 دوادي في ملعب ... تأزر طورًا وترخي الإزارا
فهذا لا بد من تصحيح معتله؛ ألا ترى أنه لو أعل اللام وحذفها5 فقال دواد, لكسر البيت البتة.
فاعرف إذًا حال ضعف الإعراب الذي لا بد من التزامه مخافة كسر البيت من الزحاف الذي يرتكبه الجفاة الفصحاء إذا أمنوا كسر البيت, ويدعه من حافظ على صحة الوزن من غير زحاف وهو كثير. فإن أمنت كسر البيت اجتنبت ضعف الإعراب وإن أشفقت من كسره ألبتة دخلت تحت كسر الإعراب.
__________
1 الشعر من الطويل. والضرب الثاني فيه ما كان عروضه وضربه مقبوضين. والضرب الثالث ما كان الضرب فيه محذوفا.
2 هو المتنخل الهذلي. والبيت في الكتاب 2/ 58، وديوان الهذليين 2/ 20 في قصيدة طويلة.
3 قال ابن قتيبة: "ولو قال:
أبيت على معار فاخرات
كان الشعر موزونا، والإعراب صحيحا ... وهكذا قرأته على أصحاب الأصمعي، انظر الشعراء له 46.
4 الخريع: الناعمة مع فجور. والدوادي: الأراجيح. والبيت للكميت. ويظهر لي أنه من القصيدة الرائية التي منها أبيات في الخزانة 1/ 82. ويذكر صاحب الخزانة أنها في مدح أبان بن الوليد بن عبد الملك بن مروان. والذي في الأغاني 15/ 129 أن الكميت كان مداحا لأبان بن الوليد البجلي. وانظر الكتاب 2/ 60، وتصريف المازني، في الموطن السابق.
5 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "صرفها".

(1/335)


باب في الاعتراض:
اعلم أن هذا القبيل من هذا العلم كثير قد جاء في القرآن وفصيح الشعر ومنثور الكلام. وهو جار عند العرب مجرى التأكيد، فلذلك لا يشنع1 عليهم ولا يستنكر عندهم أن يعترض به بين الفعل وفاعله والمبتدأ وخبره وغير ذلك مما لا يجوز الفصل "فيه"2 بغيره3، إلا شاذًّا أو متأولا. قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ} 4, فهذا فيه اعتراضان: أحدهما قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} لأنه اعترض به بين القسم الذي هو قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وبين جوابه الذي هو قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ} وفي نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر بين الموصوف الذي هو "قسم " وبين صفته التي هي "عظيم " وهو قوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} . فذانك5 اعتراضان كما ترى. ولو جاء6 الكلام غير معترض فيه لوجب أن يكون: فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم وإنه لقسم عظيم لو تعلمون7.
ومن ذلك "قول8 امرئ القيس ":
ألا هل أتاها والحوادث جمةٌ ... بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا9
__________
1 كذا في ش. وفي ب: "ينشع"، وفي أ: "يتبشع".
2 ثبت هذا في ش، ب. وسقط في أ.
3 أي بغير الاعتراض.
4 الآيات 75-77 من سورة الواقعة.
5 كذا في أ، ب، د، هـ. وفي ش: "فذان" وكأنها مصلحة عن: "فذانك".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "جاز".
7 ثبت هذا في أ، ب. وسقط في ش.
8 كذا في ش، ب. وفي أ: "قوله".
9 "تملك": هي أمه؛ والمشهور في اسمها فاطمة. وانظر شرح الوزير أبي بكر بن عاصم ص2. و"بيقر": وترك البادية ونزل العراق، أو نزل الضر أو أعبا. وانظر معاني ابن قتيبة 875. انظر أيضا الخزانة 4/ 162.

(1/336)


فقوله: "والحوادث جمة" اعتراض بين الفعل وفاعله. ومثله قوله:
ألا هل أتاها والحوادث كالحصى
وأنشدنا أبو علي:
وقد أدركتني والحوادث جمة ... أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل1
فهذا كله اعتراض بين الفعل وفاعله. وأنشدنا2 أيضًا:
ذاك الذي وأبيك تعرف مالك3 ... والحق يدفع ترهات الباطل
فقوله: "وأبيك " اعتراض بين الموصول والصلة. وروينا لعبيد الله بن الحر:
تعلم ولو كاتمته الناس أنني ... عليك ولم أظلم بذلك عاتب
فقوله: "ولو كاتمته الناس " اعتراض بين الفعل ومفعوله وقوله: "ولم أظلم بذلك" اعتراض بين اسم أن وخبرها.
ومن ذلك قول أبي النجم -أنشدناه4:
وبدلت والدهر ذو تبدل ... هيفًا دبورًا بالصبا والشمأل5
فقوله: "والدهر ذو تبدل " اعتراض بين المفعول6 الأول والثاني.
ومن الاعتراض قوله:
ألم يأتك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد7
__________
1 انظر ص332 من هذا الجزء.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "أنشد".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "يعرف". والبيت من مقطوعة لجرير يهجو يحيى بن عقبة الطهوي، ويريد بمالك قبيلة مالك بن حنظلة من تميم. والنظر شرح شواهد المغني للسيوطي 276 وديوان جرير طبعة الصاوي 430.
4 الظاهر أنه يريد أبا علي. وهذا إن قرئ بالبناء للفاعل.
5 الهيف: ري حارة تأتي من قبل اليمن. وقوله: "بدلت" أي الإبل. وفي شرح شواهد المغني للبغدادي أن هذا في الريح. وليس الأمر كما ظن. وانظر الأرجوزة في الطرائف الأدبية 58.
6 وهو هنا نائب الفاعل.
7 انظر ص334 من هذا الجزء.

(1/337)


فقوله: "والأنباء تنمي " اعتراض بين الفعل وفاعله. وهذا أحسن مأخذًا في الشعر من أن يكون في "يأتيك " ضمير "من متقدم مذكور "1.
فأما ما أنشده2 أبو علي من قول الشاعر 3:
أتنسى لا هداك الله ليلى ... وعهد شبابها الحسن الجميل
كأن وقد أتى حول جديد ... أثا فيها حمامات مثول
فإنه لا اعتراض فيه. وذلك أن الاعتراض لا موضع له من الإعراب ولا يعمل فيه شيء من الكلام المعترض به بين بعضه وبعض على ما تقدم. فأما قوله: "وقد أتى حول جديد " فذو موضع من الإعراب وموضعه النصب بما في "كأن " من معنى التشبيه؛ ألا ترى أن معناه: أشبهت وقد أتى حول جديد حمامات مثولا أو أشبهها وقد مضى حول جديد بحمامات مثول أي أشبهها في هذا الوقت وعلى هذه الحال بكذا.
وأنشدنا:
أراني ولا كفران لله أية ... لنفسي لقد طالبت غير منيل4
__________
1 كذا في الأصول. وهذا البيت أول القصيدة؛ كما في الخزانة وغيرها. وفي أمالي ابن الشجري 1/ 87: "قيل إنه مضمر مقدر، كما حكى سيبويه إذا كان غدا فأتني؛ أي إذا كان ما نحن فيه من الرخاء أو البلاء غدا فأتني. وتقديره: ألم يأتك النبأ. ودل على ذلك قوله: "والأنباء تنمي".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "أنشدناه".
3 هو أبو الغول الطهوي، وانظر شواهد المغني للسيوطي 277 والنوادر لأبي زيد 51. وقوله: "وعهد شبابها الحسن الجميل" جملة حالية؛ كما في شواهد المغني للبغدادي 2/ 621 وضبط في النوادر:
وعهد شبابها الحسن الجميل
بنصب "عهد" وجر "الجميل" وفيه إقواء.
4 أورده ابن الأنباري في شرح المفضليات 805 ولم ينسبه، ونقل كلامه البغدادي في شرح شواهد المغني. وقوله: "أية" بفتح الهمزة؛ كما في اللسان "أوي" وأ من الخصائص. وفي ابن الأنباري: "إية" بكسر الهمزة؛ وكأنه يريد الهيئة.

(1/338)


ففي هذا اعتراضان 1: أحدهما - "ولا كفران لله ". والآخر- قوله: "أية " أي أوَيت لنفسي أيَّة؛ معناه رحمتها ورققت2 لها. فقوله: أويت لها لا موضع له من الإعراب. وسألنا الشجري أبا عبد الله يومًا عن فرس كانت له فقال: هي بالبادية. قلنا لم قال: إنها وجية3 فأنا آوي لها أي أرحمها وأرق لها. وكذلك قول الآخر 4:
أراني ولا كفران لله إنما ... أواخي من الأقوام كل بخيل
ومن الاعتراض قولهم: زيد -ولا أقول إلا حقًّا- كريم. وعلى ذلك مسألة5 الكتاب: إنه -المسكين- أحمق6؛ ألا ترى أن تقديره: إنه أحمق وقوله " المسكين" أي هو المسكين وذلك اعتراض بين اسم إن وخبرها. ومن ذلك مسألته 7: "لا أخا -فاعلم- لك ". فقوله: "فاعلم " اعتراض بين المضاف والمضاف إليه كذا الظاهر. وأجاز أبو علي رحمه الله أن يكون " لك" خبرًا ويكون " أخا " اسمًا مقصورًا تامًّا غير مضاف كقولك: لا عصا لك. ويدل على صحة هذا القول أنهم قد كسروه على أفعال وفاؤه مفتوحة فهو إذًا فعل وذلك قولهم: أخ وآخاء فيما حكاه يونس. وقال بعض آل المهلب:
وجدتم بنيكم دوننا إذ نسبتم ... وأي بني الآخاء تنبو مناسبه 8
__________
1 ذكر ابن هشام في المغني في مبحث الجملة المعترضة أن أبا علي لا يجيز الاعتراض بأكثر من جملة، وأول هذا البيت، وترى ابن جني هنا على خلافه، ولم ينبه عليه.
2 كذا في أ، وفي ش: "أرفقت بها". وفي ب: "رفقت لها".
3 من الوجى. وهو الحفا؛ أي رقة قدم الدابة من كثرة المشي.
4 هو كثير عزة وانظر الكتاب 1/ 466. ولم أرني قصيدته اللامية في الأمالي 2/ 62 وفي الديوان 2/ 248.
5 الكتاب 1/ 256.
6 في ج: "لأحمق".
7 أي مسألة الكتاب أيضًا. وانظر سيبويه 1/ 347.
8 انظر ص202 من هذا الجزء. وضبط "نسبتم" هنا بالبناء للفاعل على ما في أ. وضبط فيما سلف بالبناء للمفعول.

(1/339)


فغير منكر أن يخرج1 واحدها أصله, كما خرج واحد الآباء على أصله، وذلك قولهم: هذا أبًا ورأيت أبًا ومررت بأبًا. وروينا عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال 2: يقال هذا أبوك وهذا أباك وهذا أبُك؛ فمن قال: هذا أبوك أو أباك فتثنيته أبوان ومن قال هذا أبك فتثنيته أبان وأبوان. وأنشد:
سوى أبك الأدنى وإن محمدا ... على كل عال يابن عم محمد
وأنشد أبو علي عن أبي الحسن:
تقول ابنتي لما رأتني شاحبا ... كأنك فينا يا أبات غريب3
قال: فهذا تأنيث أبا وإذا كان كذلك جاز جوازًا حسنًا أن يكون قولهم: لا أبا لك "أبا " منه اسم مقصور كما كان ذلك في "أخالك " ويحسنه أنك إذا حملت الكلام عليه جعلت له خبرًا ولم يكن في الكلام فصل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجر؛ غير أنه يؤنس بمعنى إرادة الإضافة قول الفرزدق:
ظلمت ولكن لا يدي لك بالظلم4
فلهذا جوزناهما جميعًا.
وروينا لمعن بن أوس:
وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... نوادب لا يمللنه ونوائح5
__________
1 كذا في ش، ب، د، هـ. وفي أ: "خرج".
2 انظر مجالس ثعلب 468، وينتهي ما في المجالس بعد البيت الآتي. وهو في اللسان "أبو".
3 "يا أبات" كذا بالتاء المفتوحة في ش، ب، وفي أ: "أباة"، وفي ج: "أباء". وفي اللسان في "أبو" كما أثبت. والبيت نسبه أبو زيد في النوادر 239 إلى أبي أُبي الحدرجان.
4 قبله في بيتين يخاطب بهما عمر بن لجأ:
ما أنت إن قرما تميم تسامها ... أخا التيم إلا كالشظية في العظم
ولو كانت مولى العز أو في ظلاله ... .........................................
يريد بقرمي تميم: نفسه وجريرا، وكان عمر دخل لهما في الهجاء وانظر ديوان الفرزدق طبعة الصاوي 825.
5 قبله:
رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهن لا تكذب نساء صوالح
والبيتان في الأمالي 2/ 190، واللآلي، 804, والخزانة 3/ 258، والأغاني "بولاق" 10/ 165.

(1/340)


ففصل بقوله: "والأيام يعثرن بالفتى" بين المبتدأ وخبره. وأنشدنا:
لعلك والموعود صدق لقاؤه ... بدا لك في تلك القلوص بداء1
وسألته عن بيت كثير:
وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت مما بيننا وتخلت2
فأجاز أن يكون قوله: "وتهيامي بعزة " جملة من مبتدأ وخبر اعترض بها بين اسم إن وخبرها الذي هو قوله:
لكالمرتجي ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت
فقلت له: أيجوز أن يكون "وتهيامي "3 بعزة قسمًا؟ فأجاز ذلك ولم يدفعه. وقال الله عز وجل: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} 4. فقوله تعالى: {فَلْيَذُوقُوهُ} اعتراض بين المبتدأ وخبره. وقال رؤبة 5:
إني وأسطار سطرن سطرا ... لقائل يا نصر نصرٌ نصرا6
فاعترض بالقسم بين اسم إن وخبرها.
والاعتراض في شعر العرب ومنثورها كثير وحسن ودال على فصاحة المتكلم وقوة نفسه وامتداد نفسه وقد رأيته في أشعار المحدثين وهو في شعر إبراهيم بن المهدي أكثر منه في شعر غيره من المولدين 7.
__________
1 كان رجل وعد محمد بن بشير الخارجي قلوصا -وهي الناقة الفتية- فمطله؛ فقال ذلك يذمه. وانظر الأغاني 4/ 157 والأمالي 2/ 71 وشرح شواهد المغني للسيوطي 274، وللبغدادي 2/ 612.
2 من قصيدته الطويلة التي أولها:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
انظر الأمالي 2/ 107، والخزانة 2/ 379، وشواهد المغني للبغدادي 2/ 621.
3 كذا في ج. وفي سائر الأصول: "تهيامي".
4 آية 57 سورة ص.
5 تبع في هذا ما في سيبويه 1/ 304، ورده الصاغاني وأنكر نسبته إلى رؤبة ويقول البغدادي في الخزانة: "والعجب من الصاغاني حيث رد على سيبويه في أن هذا الشاهد ليس لرؤبة. ولم يبين قائله". ويقول البغدادي في شواهد المغني 2/ 619: "وهذا الرجز لرؤبة، ولم أره في ديوانه". وقد أورده طابع ديوان رؤبة فيما نسب إليه ص174.
6 بعده:
بلغك الله فبلغ نصرا ... نصر بن سيارة يثبني وفرا
ونصر في البيت الأول حاجب نصر بن سيار أحد ولاة الأمويين، وهو المراد بنصر في البيت الثاني ويرى صاحب القاموس أن الصواب في اسم الحاجب نضر "بالمعجمة". وقد أبان في الخزانة أن المجد تبع في هذا الصاغاني في العباب. وانظر الخزانة 1/ 325 وشواهد المغني لصاحب الخزانة 2/ 619، والقاموس "نصر"، وسيبويه في الموطن السابق.
7 كذا في ش، ب. وفي أ: "المحدثين".

(1/341)


باب في التقديرات المختلفين لمعنيين مختلفين
...
باب في التقديرين المختلفين لمعنيين مختلفين:
هذا في كلام العرب كثير فاش والقياس له قابل مسوغ.
فمن ذلك قولهم: مررت بزيد وما كان نحوه مما يلحق من حروف الجر معونة لتعدي الفعل. فمن وجه يعتقد في الباء أنها بعض الفعل من حيث كانت معدية وموصلة له. كما أن همزة النقل في " أفعلت " وتكرير العين في "فعلت " يأتيان لنقل الفعل وتعديته نحو قام وأقمته وقومته وسار وأسرته وسيرته. فلما كان حرف الجر الموصل للفعل معاقبًا لأحد شيئين1 كل واحد منهما مصوغ2 في نفس المثال جرى مجراهما في كونه جزءًا من الفعل أو3 كالجزء منه. فهذا وجه اعتداده كبعض الفعل.
وأما وجه اعتداده كجزء من الاسم فمن حيث كان مع ما جره في موضع نصب، وهذا يقضي4 له بكونه جزءًا مما بعده أو كالجزء منه ألا تراك تعطف على مجموعهما5 بالنصب كما تعطف على الجزء الواحد في نحو قولك: ضربت6 زيدًا وعمرًا؛ وذلك
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب، "الشيئين".
2 كذا في أوفي ش، ب: "موضوع".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "و".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "يقتضي".
5 كذا في ب، ش، ج. وفي أ: "مجموعها".
6 انظر ص108 من هذا الجزء.

(1/342)


قولك: مررت بزيد وعمرًا ورغبت فيك وجعفرًا ونظرت إليك وسعيدًا أفلا ترى إلى حرف الجر الموصل للفعل كيف ووجه جوازه من قبل القياس أنك إنما تستنكر اجتماع تقديرين مختلفين "لمعنيين مختلفين"1.
ووجه جوازه من قبل2 القياس أنك إنما تستنكر اجتماع تقديرين مختلفين لمعنيين متفقين؛ وذلك كأن تروم أن تدل على قوة اتصال حرف الجر بالفعل فتعتده تارة كالبعض له والأخرى كالبعض للاسم. فهذا ما لا يجوز مثله لأنه لا يكون كونه كبعض الاسم دليلا على شدة امتزاجه بالفعل لكن لما اختلف المعنيان جاز أن يختلف التقديران فاعرف ذلك فإنه مما يقبله القياس ولا يدفعه.
ومثل ذلك قولهم: "لا أبا لك " فههنا تقديران مختلفان لمعنيين مختلفين. وذلك أن ثبات3 الألف في "أبا " من "لا أبا لك " دليل الإضافة فهذا وجه. ووجه آخر أن ثبات اللام وعمل "لا " في هذا الاسم يوجب التنكير والفصل. فثبات الألف دليل الإضافة والتعريف ووجود اللام دليل الفصل والتنكير. وليس هذا في الفساد والاستحالة بمنزلة فساد تحقير مثال الكثرة الذي جاء فساده من قبل تدافع حاليه. وذلك أن وجود ياء التحقير يقتضي4 كونه دليلا على القلة وكونه مثالا موضوعًا للكثرة دليل على الكثرة وهذا يجب منه أن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلا كثيرًا. وهذا ما لا يجوز لأحد اعتقاده.
وليس كذلك تقديرك الباء في نحو: مررت بزيد تارة كبعض الاسم وأخرى كبعض الفعل من قبل أن هذه إنما هي صناعة لفظية يسوغ معها تنقل
__________
1 كذا في أ، وسقط هذا في ش، ب.
2 ثبت هذا اللفظ في ش، ب. وسقط في أ.
3 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "إثبات".
4 في ش، ب: "تقتضي". وفي أمن غير نقط الحرف الأول.

(1/343)


الحال وتغيرها فأما المعاني فأمر ضيق ومذهب مستصعب ألا تراك إذا سئلت عن زيد من قولنا: قام زيد سميته فاعلا وإن سئلت عن زيد من قولنا: زيد قام سميته مبتدأ لا فاعلا وإن كان فاعلا في المعنى. وذلك أنك سلكت1 طريق صنعة اللفظ فاختلفت السمة فأما المعنى فواحد. فقد ترى إلى سعة طريق2 اللفظ وضيق طريق المعنى.
فإن قلت: فأنت إذا قلت في " لا أبا لك" إن الألف تؤذن بالإضافة والتعريف واللام تؤذن بالفصل والتنكير فقد جمعت على الشيء الواحد في الوقت الواحد معنيين ضدين وهما التعريف والتنكير وهذان -كما ترى- متدافعان.
قيل: الفرق بين الموضعين واضح وذلك أن قولهم: "لا أبا لك " كلام جرى مجرى المثل وذلك أنك إذا قلت هذا فإنك لا تنفي في الحقيقة أباه وإنما تخرجه مخرج الدعاء أي أنت عندي ممن يستحق أن يدعى عليه بفقد أبيه. كذا فسره أبو علي وكذلك هو لمتأمله؛ ألا ترى أنه قد أنشد توكيدًا لما رآه من هذا المعنى فيه قوله:
وتترك أخرى فردة لا أخا لها
ولم يقل: لا أخت لها، ولكن لما جرى هذا الكلام على أفواههم " لا أبا لك " , "ولا أخا لك " قيل مع المؤنث على حد ما يكون عليه مع المذكر فجرى هذا نحوًا من قولهم لكل أحد من ذكر وأنثى واثنين وجماعة "الصيف ضيعت اللبن " على التأنيث لأنه كذا جرى أوله وإذا كان الأمر كذلك علم أن قولهم "لا أبا لك " إنما فيه تعادي ظاهره "واجتماع"3 صورتي الفصل والوصل والتعريف والتنكير لفظًا لا معنى. وإذا آل الأمر إلى ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه؛
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "إذا سلكت ... اختلفت".
2 كذا في أ، ج. وفي ب، ش: "تقدير".
3 كذا في أب، ش. وفي ج "من اجتماع".

(1/344)


من تنافر قضيتي اللفظ في نحو: مررت بزيد وإذا أردت بذلك أن تدل على شدة اتصال حرف الجر بالفعل وحده دون الاسم ونحن إنما عقدنا فساد الأمر وصلاحه على المعنى كأن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلا كثيرًا. " وهذا"1 ما لا يدعيه مدع ولا يرضاه -مذهبًا لنفسه- راض.
ويؤكد عندك خروج هذا الكلام مخرج المثل كثرته في الشعر وأنه يقال لمن له أب ولمن ليس له أب. فهذا2 الكلام دعاء في المعنى لا محالة وإن كان في اللفظ خبرًا. ولو كان دعاء مصرحًا وأمرًا معنيًّا3 لما جاز أن يقال لمن لا أب له لأنه إذا كان لا أب له لم يجز أن يدعى عليه بما هو فيه لا محالة؛ ألا ترى أنك لا تقول للأعمى: أعماه الله. ولا للفقير: أفقره الله وهذا ظاهر باد. وقد "مر به"4 الطائي الكبير فقال:
نعمة الله فيك لا أسال اللـ ... ـه إليها نُعْمَى سوى أن تدوما
ولو أني فعلت كنت كمن يسـ ... ـأله وهو قائم أن يقوما
فكما5 لا تقول لمن لا أب له: أفقدك الله أباك كذلك يعلم أن قولهم لمن لا أب له: "لا أبا لك " لا حقيقة لمعناه مطابقة للفظه وإنما هي خارجة مخرج المثل على ما فسره أبو علي. قال عنترة:
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل6
__________
1 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
2 كذا في أ. وفي ش، ب "وهذا".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "معينا".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "فريه".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "وكما".
6 من قصيدته التي أولها:
طال الثراء على رسوم المنزل ... بين اللكيك وبين ذات الحرمل
وانظر الديوان 10.

(1/345)


وقال1:
ألق الصحيفة لا أبا لك إنه ... يخشى عليك من الحباء النقرس
وقال2:
أبالموت الذي لا بد أني ... ملاق لا أباك تخوفيني
أراد: لا أبا لك فحذف اللام من جاري عرف الكلام. وقال جرير:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم ... لا يلقينكم في سوأة عمر3
وهذا أقوى دليل على كون هذا القول مثلا لا حقيقة؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون للتيم كلها أب واحد ولكن معناه: كلكم أهل للدعاء عليه والإغلاظ له. وقال الحطيئة:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا4
فإن قلت: فقد أثبت الحطيئة في هذا البيت ما نفيته أنت في البيت الذي قبله وذلك أنه قال " لأبيكم" فجعل للجماعة أبًا واحدًا وأنت قلت هناك: إنه لا يكون لجماعة تيم أب واحد فالجواب5 عن هذا من موضعين: أحدهما ما قدمناه من أنه لا يريد حقيقة الأب وإنما غرضه الدعاء مرسلا ففحش بذكر الأب على ما مضى. والآخر أنه قد يجوز أن يكون أراد بقوله "لأبيكم " الجمع أي لا أبا لآبائكم. يريد
__________
1 أي المتلمس يخاطب طرفة بن العبد. وانظر اللسان في "نقرس". والنقرس هنا: الهلاك. وقوله: "إنه يخشى" في أ، ب، ش: "إنني أخشى". والوجه ما أثبت، وهو من أبيات أولها كما في الشعر والشعراء لابن قتيبة:
من مبلغ الشعراء عن أخويهم ... خبرا فتصدقهم بذاك الأنفس
2 هو أبو حية النميري. وانظر الخزانة في شواهد لا الناقة للجنس، وكامل المبرد 5/ 85، واللسان في "أبي".
3 عمر هو ابن لجأ التيمي، كانت بينه وبين جرير مهاجاة. وانظر الخزانة 1/ 360 والنقائض 488.
4 انظر الديوان والكامل 5/ 154.
5 كذا في أ، وفي ش، ب: "قيل فالجواب".

(1/346)


الدعاء على آبائهم من حيث ذكرها فجاء به جمعًا مصححًا على قولك: أب وأبون وأبين قال:
فلما تبين أصواتنا ... بكين وفدَّيننا بالأبينا1
وعليه قول الآخر -أنشدناه:
فمن يك سائلا عني فإني ... بمكة مولدي وبها ربيت2
وقد شنئت بها الآباء قبلي ... فما شنئت أبي ولا شنيت
أي ما شنئت3 آبائي. فهذا شيء عرض, ولنعد.
ومن ذلك قولهم: مختار ومعتاد ونحو ذلك فهذا يحمل تقديرين مختلفين لمعنيين مختلفين. وذلك أنه إن كان اسم الفاعل فأصله مختير ومعتوِد كمقتطع "بكسر العين ".
وإن كان مفعولا فأصله مختيَر ومعتوَد كمقتطَع. فـ "مختار " من قولك: أنت مختار للثياب أي مستجيد لها أصله مختير. ومختار من قولك: هذا ثوب مختار أصله مختير. فهذان تقديران مختلفان لمعنيين. وإنما كان يكون هذا منكرًا لو كان تقدير فتح العين وكسرها لمعنى واحد فأما وهما لمعنيين فسائغ حسن. وكذلك ما كان من المضعف في هذا الشرج4 من الكلام5 نحو قولك: هذا رجل معتد للمجد ونحوه فهذا هو اسم الفاعل وأصله معتدد "بكسر العين"، وهذا رجل معتد أي منظور إليه فهذا مفتعل "بفتح العين" وأصله معتدد كقولك: هذا معنىً معنىٌ معتبر أي ليس؛
__________
1 أورده سيبويه في الكتاب 2/ 101، وقال: "أنشدناه من نثق به وزعم أنه جاهلي" وهو زياد بن واصل السلمي. وانظر الخزانة 2/ 275.
2 البيتان نسبهما ابن دريد في الجمهرة 3/ 488 إلى قصي بن كلاب. وفيها: "شئيت" في الموضعين في مكان "شئت" و"شنيت"، وفسر ذلك ابن دريد: "شئيت: سبقت، من قولهم: شأوت الرجل إذا سبقته، وهذا أيضا في ج، أ. و"ربيت": نشأت، يقال: ربي في حجر فلان يربى ربا، نشأ عنده. وانظر اللسان "ربا" ففيها البيت الأول غير معزو.
3 في ج، أ: "سبقت".
4 الشرج "بالجيم": الضرب والنوع.
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "في".

(1/347)


بصغير متحقر. وكذلك هذا جوز1 معتد فهذا أيضًا اسم المفعول وأصله معتدد كمقتسم ومقتطع. ونظائر هذا وما قبله كثيرة فاشية.
ومن ذلك قولهم: كساء وقضاء ونحوه أعللت2 اللام لأنك لم تعتد بالألف حاجزًا لسكونها وقلبتها3 أيضًا لسكونها وسكون الألف قبلها فاعتددتها من وجه ولم تعتددها من آخر.
ومن ذلك أيضًا قولهم: أيهم تضرب يقم زيد. فـ "أيهم " من حيث كانت جازمة لـ"تضرب " يجب أن تكون مقدمة عليها ومن حيث كانت منصوبة بـ" تضرب" يجب أن تكون في الرتبة مؤخرة عنها فلم يمتنع أن يقع هذان التقديران على اختلافهما من حيث كان هذا إنما هو عمل صناعي لفظي. لو كان التعادي والتخالف في المعنى لفسد " ولم "4 يجز. وأيضًا فإن حقيقة الجزم إنما هو لحرف الجزاء المقدر المراد لا ل " أي" "فإذا "5 كان كذلك كان الأمر أقرب مأخذًا وألين ملمسًا.
__________
1 كذا في أ، ب، وفي غيرهما: "جون". والجوز هو الذي يؤكل كالبندق، واحده جوزة.
2 أي بقلبها ألفا لكونها واوا أو ياء تحركت وانفتح ما قبلها، على اعتداد الألف غير حاجز.
3 أي قلبت همزة فرارا من اجتماع ساكنين، وقد قلبت لأقرب الحروف إليها، وهي الهمزة.
4 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "فلم".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "وإذا".

(1/348)


باب في تدريج اللغة:
وذلك أن يشبه شيء شيئًا من موضع فيمضى حكمه على حكم الأول ثم يرقى منه إلى غيره.
فمن ذلك قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين "ولو "1 جالسهما جميعًا لكان مصيبًا مطيعًا لا مخالفًا وإن كانت "أو " إنما هي في أصل وضعها لأحد الشيئين.
وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس "أو " بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى "أو ". وذلك لإنه قد عرف أنه إنما رغب في مجالسة الحسن لما لمجالسه في ذلك من الحظ وهذه الحال موجودة في مجالسة ابن سيرين أيضًا وكأنه قال: جالس2 هذا الضرب من الناس. وعلى ذلك جرى النهي في هذا الطرز من القول في قول الله سبحانه: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} 3 وكأنه -والله أعلم- قال: لا تطع هذا الضرب من الناس. ثم إنه لما رأى "أو " في هذا الموضع قد جرت مجرى الواو تدرج من ذلك إلى غيره فأجراها مجرى الواو في موضع عار من هذه القرينة التي سوغته استعمال "أو " في معنى الواو ألا تراه كيف قال 4:
وكان سيان ألا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبرت السوح5
وسواء وسيان لا يستعمل6 إلا بالواو. وعليه قول الآخر:
فسيَّان حرب أو تبوءوا بمثله ... وقد يقبل الضيم الذليل المسير
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "فلو".
2 انظر الكتاب 1/ 489.
3 آية 24 سورة الإنسان.
4 هو أبو ذؤيب الهذلي. وانظر اللسان في "سوا"، وشرح شواهد المغني للسيوطي 72، وديوان الهذليين طبعة دار الكتب 1/ 158.
5 هذا بيت مركب من بيتين. وهما مع بيتين قبلهما في الرثاء:
المانح الأدم كالمرو الصلاب إذا ... ما حارد الحر واجتث المحاليج
وزفت الشول من برد العشي كما ... زف النعام إلى حفائه الروح
وقال ما شيهم سيان سيركم ... وأن تقيموا به واغبرت المسوح
وكان مثلين ألا يسرحوا غنما ... حيث استرادت مواشيهم وتسريح
فترى أن لا شاهد في البيت في روايته، وأن ما أورده النحويون بيتا أصله بيتان. وقوله: "وكان سيان ... " كان هنا على هذا الوجه شأنية، وسيان خبر المصدر المؤول بعده. قال ابن هشام في المغني في مبحث أو: "أي وكان الشأن ألا يرعوا الإبل وأن يرعوها سيان لوجود القحط. وإنما قدرنا كان شأنية لئلا يلزم الإخبار عن النكرة بالمعرفة، وفي أمالي ابن الشجري 1/ 61: "هكذا أنشده الرواة "سيان" مرفوعا على إضمار الشأن في كان".
6 كذا في أصول الخصائص. وفي عبارة اللسان: "يستعملان". وما هنا تأويله "لا يستعمل كلاهما".

(1/349)


أي فسيَّان حرب وبواؤكم بمثله1، كما أن معنى الأول: فكان سيان ألا يسرحوا نعما وأن يسرحوه بها. وهذا واضح.
ومن ذلك قولهم: صبية وصبيان قلبت الواو من صبوان وصبوة في التقدير -لأنه من صبوت- لانكسار الصاد قبلها وضعف الباء أن تعتد حاجزًا لسكونه. وقد ذكرنا ذلك. فلما ألف هذا واستمر تدرجوا منه إلى أن أقروا قلب الواو ياء بحاله وإن زالت الكسرة وذلك قولهم أيضًا: صبيان وصبية "وقد "2 كان يجب -لما زالت الكسرة- أن تعود الياء واوًا إلى أصلها لكنهم أقروا الياء بحالها لاعتيادهم إياها حتى3 صارت كأنها كانت أصلًا. وحسن ذلك لهم شيء آخر وهو أن القلب في صبية وصبيان إنما كان استحسانًا وإيثارًا لا عن وجوب علة ولا قوة قياس؛ فلما لم تتمكن علة القلب ورأوا اللفظ بياء قوي عندهم إقرار الياء بحالها لأن السبب الأول إلى قلبها لم يكن قويًا ولا مما يعتاد في مثله أن يكون مؤثرًا.
ومن ذلك قولهم في الاستثبات عمن قال ضربت رجلًا: منا؟ ومررت برجل مني؟ وعندي رجل: منو؟ فلما شاع هذا ونحوه عنهم تدرجوا منه إلى أن قالوا: ضرب منٌ منا كقولك: ضرب رجل رجلا.
ومن ذلك قولهم: أبيض لياح وهو من الواو لأنه ببياضه ما يلوح للناظر. فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وليس ذلك عن قوة علة إنما هو للجنوح إلى خفة الياء مع أدنى سبب وهو التطرق إليها بالكسرة طلبًا للاستخفاف لا عن وجوب قياس ألا ترى أن هذا الضرب من "الأسماء التي ليست"4 جمعًا كرباض وحياض ولا مصدرًا جاريًا على فعل معتل كقيام وصيام إنما يأتي مصححًا
__________
1 ثبت في ش، ب. وسقط في أ. وقد ثبت أيضا في عبارة اللسان.
2 كذا في ش. وفي أ، ب: "فقه".
3 كذا في أ، ب، د، هـ. وفي ش: "حيث".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "الأسماء ليست".

(1/350)


نحو: خوان وصوان غير أنهم لميلهم عن الواو إلى الياء ما أقنعوا أنفسهم في لياح في قلبهم إياه إلى الياء بتلك الكسرة قبلها وإن كانت ليس مما يؤثر حقيقة التأثير مثلها ولأنهم شبهوه لفظًا إما بالمصدر كحيال وصيال وإما بالجمع كسوط وسياط ونوط ونياط. نعم وقد فعلوا مثل هذا سواء في موضع آخر. وذلك قول بعضهم في صوان: صيان وفي صوار: صيار فلما ساغ ذلك من حيث أرينا أو كاد تدرجوا منه إلى أن فتحوا فاء لياح ثم أقروا الياء بحالها وإن كانت الكسرة قبلها قد زايلتها, وذلك قولهم فيه: لياح. وشجعه1 على ذلك شيئًا أن قلب الواو ياء في لياح لم يكن عن قوة ولا استحكام علة وإنما هو لإيثار الأخف على الأثقل فاستمر على2 ذلك وتدرج منه إلى أن أقر الياء بحالها مع الفتح إذ كان قلبها مع الكسر أيضًا ليس بحقيقة موجب. قال 3: وكما أن القلب مع الكسر لم يكن عن صحة عمل وإنما هو لتخفيف مؤثر فكذلك أقلب4 أيضًا مع الفتح وإن لم يكن موجبًا غير أن الكسر هنا على ضعفه أدعى إلى القلب من الفتح فلذلك جعلنا ذاك تدرجًا عنه إليه5 ولم نسو6 بينهما فيه. فاعرف ذلك.
وقريب من ذلك قول الشاعر 7:
ولقد رأيتك بالقوادم مرة ... وعلي من سدف العشي رياح8
__________
1 كذا في أ، ب، ش. وهو المناسب لقوله بعد: "فاستمر على ذلك وتدرج منه" يريد واضع العربية. وفي ج: "وشجعهم" وهو المناسب للكلام السابق.
2 كذا في أ، وسقط في ش، ب.
3 كأنه يريد واضع العربية.
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "قلب".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "إلى غيره".
6 كذا في أ. وفي ش, ب: "يسو".
7 ورد البيت في مقطوعة لرفيع الوالبي في أمالي المرتضى تحقيق الأستاذ أبي الفضل إبراهيم 1/ 370 وما بعدها وهو خطاب امرأة.
8 القوادم موضع في بلاد غطفان. وجاء البيت في اللسان في "روح" وفيه "نظرة" بدل "مرة" وضبط فيه رياح بكسر الراء، وجاء في "سدف" وفيه "لياح" بدل "رواح" وكأن الرياح وقت الرواح وأصله الكسر. وفي اللسان: "خرجوا برياح من العشي -بكسر الراء- ورواح وأرواح أي بأول" يريد: بأول العشي ويريد أنه رآه وقد آن له أن يروح إذ حل سدف العشي وظلمته وقد يكون في الكلام قلب؛ أي وعلى سدف العشي من الرياح.

(1/351)


قياسه رواح؛ لأنه فعال من راح يروح لكنه لما كثر قلب هذه الواو في تصريف هذه الكلمة ياء -نحو ريح ورياح ومريح ومستريح- وكانت الياء أيضًا عليهم أخف وإليهم أحب تدرجوا من ذلك إلى أن قلبوها في رياح وإن زالت الكسرة التي كانت قلبتها في تلك الأماكن.
ومن ذلك قلبهم الذال دالا في "ادكر " وما تصرف منه نحو يدكر ومدكر وادكار وغير ذلك: تدرجوا من هذا إلى غيره بأن قلبوها دالًا في غير بناء افتعل فقال ابن مقبل:
من بعض ما يعتري قلبي من الدكر1
ومن ذلك قولهم: الطنة2 -بالطاء- في الظنة وذلك في اعتيادهم اطن ومطن واطنان, كما جاءت الدكر على الأكثر.
ومن ذلك حذفهم الفاء -على القياس- من ضغة وقحة؛ كما حذفت من عدة وزنة ثم إنهم عدلوا بها3 عن فِعلة إلى فَعلة فأقروا الحذف بحاله وإن زالت الكسرة التي كانت موجبة له فقالوا: الضعة والقحة فتدرجوا بالضعة والقحة إلى الضعة والقحة وهي عندنا فعلة كقصعة وجفنة " لا أن "4 فتحت لأجل الحرف الحلقي فيما ذهب5 إليه محمد بن يزيد.
__________
1 صدره:
يا ليت لي سلوة يشقى الفؤاد بها
وهو من قصيدته التي مطلعها:
يا حر أمسيت شيخا قد وهى بصري ... والتاث ما دون يوم الوعد من عمري
انظر ديوانه 72 تحقيق الدكتور عزة حسن. دمشق، 1962. وابن قتيبة الشعر والشعراء: 426. وانظر المصنف "نسخة التميورية" 761.
2 أي التهمة.
3 كذا في أوفي ش، ب: "من".
4 في ش، ب: "إلا أن". وفي أ: "لأن"، وقد رأيت أن الأنسب بالسياق ما أثبت.
5 انظر الكامل 5/ 189، 196 بشرح المرصفي.

(1/352)


ومن ذلك قولهم: بأيهم تمرر أمرر1؛ فقدموا حرف الجر على الشرط فأعملوه فيه وإن كان الشرط لا يعمل فيه ما قبله لكنهم لما لم يجدوا طريقًا إلى تعليق2 حرف الجر استجازوا إعماله في الشرط. فلما ساغ لهم ذلك تدرجوا منه إلى أن أضافوا إليه الاسم فقالوا: غلام من تضرب أضربه وجارية من تلق ألقها. فالاسم في هذا إنما جاز عمله في الشرط من حيث كان محمولًا في ذلك على حرف الجر. وجميع هذا حكمه في الاستفهام حكمه في الشرط من حيث كان الاستفهام له صدر الكلام كما أن الشرط كذلك. فعلى هذه جاز بأيهم تمر؟ وغلام من تضرب فأما قولهم:
أتذكر إذ من يأتنا نأته3
فلا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما يجوز على تقدير حذف المبتدأ أي أتذكر إذ الناس من يأتنا نأته فلما باشر المضاف غير المضاف إليه في اللفظ أشبه الفصل بين4 المضاف والمضاف إليه فلذلك أجازوه في الضرورة.
فإن قيل: فما الذي يمنع من إضافته إلى الشرط وهو ضرب من الخبر؟ قيل: لأن الشرط له صدر الكلام فلو أضفت إليه لعلقته بما قبله وتانك5 حالتان6 متدافعتان. فأما بأيهم تمرر أمرر ونحوه فإن حرف الجر متعلق بالفعل بعد الاسم, والظرف في قولك: أتذكر إذ من يأتنا نأته متعلق بقولك أتذكر وإذا خرج ما يتعلق به حرف الجر من حيز الاستفهام لم يعمل في الاسم المستفهم به ولا المشروط به.
__________
1 كذا في أ، ج. وسقط في ش، ب.
2 أي عدم عمله لفظا.
3 هذا صورة شطر بيت من الشعر، ولم يأت في شعر والصواب أنه نثر لا شعر ولكنه أجيز إذا فرض أن أدخله شاعر في شعره. وانظر الكتاب 1/ 440، والهمع 2/ 62.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "من".
5 في الأصول: "تلك" ويبدو أنه تحريف عما أثبت.
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "حالان".

(1/353)


ومن التدريج في اللغة أن يكتسي المضاف من المضاف إليه كثيرًا من أحكامه: من التعريف والتنكير والاستفهام والشياع وغيره ألا ترى أن ما لا يستعمل من الأسماء في الواجب إذا أضيف إليه شيء منها1 صار2 في ذلك إلى حكمه 3. وذلك قولك: ما قرعت حلقة باب دار أحد قط فسرى ما في "أحد " من العموم والشياع إلى " الحلقة ". ولو قلت: قرعت حلقة باب دار أحد أو نحو ذلك لم يجز.
ومن التدريج في اللغة: إجراؤهم الهمزة المنقلبة عن حرفي4 العلة عينا مجرى الهمزة الأصلية. وذلك نحو قولهم في تحقير قائم وبائع: قويئم وبويئع فألحقوا الهمزة المنقلبة بالهمزة الأصلية في سائل وثائر من سأل وثأر إذا قلت: سويئل وثويئر. وليست كذلك اللام5 إذا انقلبت همزة عن أحد6 الحرفين نحو كساء وقضاء ألا تراك تقول في التحقير: كسيٌ وقضيّ فترد حرف العلة وتحذفه لاجتماع الياءات. وليست كذلك الهمزة الأصلية ألا تراك تقول في تحقير سلاء7 وخلاء7 بإقرار الهمزة لكونها أصلية وذلك سُليِّء وخُليِّء. وتقول أيضًا في تكسير كساء وقضاء بترك الهمزة البتة وذلك قولك: أكسية وأقضية. وتقول في سلاء وخلاء: أسلئة وأخلئة؛ فاعرف ذلك.
لكنك لو بنيت من قائم وبائع شيئًا مرتجلا أعدت الحرفين البتة. وذلك كأن تبني منهما مثل جعفر فتقول: قومم وبيعع. ولم تقل: قأمم ولا بأعع؛ لأنك إنما تبني من أصل المثال لا من حروفه المغيرة ألا تراك لو بنيت من قيل وديمة مثال " فعل" لقلت: دوم وقول لا غير.
__________
1 أي من الأسماء.
2 أي الشيء من الأسماء الذي يضاف إلى ملازم النفي.
3 وهو ملازمة النفي.
4 يريد الواو والياء.
5 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "على".
7 السلاء: السمن. والخلاء في الناقة أن تحرن أو تبرك فلا تنهض لغير علة، وقد خلأت الناقة، تخلأ خلأ وخلاء، وخلوءا.

(1/354)


فإن قلت: ولم لم تقرر الهمزة في قائم وبائع فيما تبنيه منهما, كما أقررتها في تحقيرهما؟
قيل: البناء من الشيء أن تعمد لأصوله فتصوغ منها زوائده فلا تحفل بها. وليس كذلك التحقير. وذلك أن صورة المحقر معك ومعنى التكبير1 والتحقير في أن كل واحد منهما واحد واحد وإنما بينهما أن أحدهما كبير والآخر صغير فأما الإفراد والتوحيد فيهما كليهما فلا نظر فيه 2. قال أبو علي -رحمه الله- في ضحة الواو في نحو أسيود وجديول: مما أعان على ذلك وسوغه أنه في معنى جدول صغير فكما تصح الواو في جدول صغير فكذلك أنس بصحة الواو في جديول. وليس كذلك الجمع؛ لأنه رتبة غير رتبة الآحاد فهو شيء آخر فلذلك سقطت في الجمع حرمة الواحد, ألا تراك تقول في تكسير قائم: قوام وقوم فتطرح الهمزة وتراجع لفظ الأصل، ولا تقول: قؤام، ولا قؤم، كما قلت في التحقير: قوئم، بالهمز.
وسألت مرة أبا علي -رحمه الله- عن رد سيبويه كثيرًا من أحكام التحقير إلى أحكام التكسير وحمله إياها عليها ألا تراه "قال تقول "3: سريحين لقولك: سراحين, ولا تقول 4: عثيمين لأنك لا تقول: عثامين ونحو ذلك. فقال: إنما حمل التحقير في هذا على التكسير من حيث كان التكسير بعيدًا عن رتبة الآحاد. فاعتد ما يعرض فيه لاعتداده بمعناه والمحقر هو المكبر والتحقير فيه جار مجرى الصفة, فكأن لم يحدث بالتحقير5 أمر يحمل عليه غيره كما حدث بالتكسير حكم يحمل عليه الإفراد: هذا معقد معناه وما أحسنه وأعلاه!
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "التكثير".
2 أي هو باق على حاله لا يتغير بالتحقير.
3 كذا في ج. وفي ش، ب: "قال يقول". وفي أ: "ألا تراه يقول.
4 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "تقل" وانظر سيبويه 2/ 108.
5 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "بالتصغير".

(1/355)


ومن التدريج قولهم: هذا حضرُموت بالإضافة على منهاج اقتران الاسمين أحدهما بصاحبه. ثم تدرجوا من هذا إلى التركيب فقالوا: هذا حضرَموت. ثم تدرجوا من هذا إلى أن صاغوهما جميعًا صياغة المفرد فقالوا: هذا حضرَمُوت فجرى لذلك مجرى عضرفوط ويستعور.
ومن التدريج في اللغة قولهم: ديمة1 وديم؛ واستمرار القلب في العين للكسرة قبلها, ثم تجاوزوا ذلك لما كثر وشاع إلى أن قالوا: ديمت السماء ودومت؛ فأما دومت فعلى القياس وأما ديمت فلاستمرار القلب في ديمة وديم. أنشد أبو زيد:
هو الجواد ابن الجواد ابن سبل ... إن دوموا جاد وإن جادوا وبل2
ورواه أيضًا "ديموا " بالياء. نعم ثم قالوا: دامت السماء تديم؛ فظاهر هذا أنه أجري مجرى باع يبيع, وإن كان من الواو.
فإن قلت: فلعله فعل يفعل من الواو؛ كما ذهب الخليل في طاح يطيح, وتاه يتيه؛ قيل: حمله على الإبدال أقوى؛ ألا ترى أنه قد حكي في مصدره ديمًا, فهذا مجتذب إلى التاء مدرج3 إليها مأخوذ به نحوها.
فإن قلت: فلعل4 الياء لغة5 في هذا الأصل كالواو, بمنزلة ضاره يضيره ضيرًا وضاره يضوره ضورًا. قيل: يبعد ذلك هنا ألا ترى إلى اجتماع6
__________
1 هي المطر الدائم في سكون.
2 قيل إن هذا في وصف فرس. وسبل فرس نجيبة في العرب. ولهذه الفرس ذكر في أنساب الخيل لابن الكلبي 16، 27، وهي أم أعوج. ويقول الجعدي:
وعناجيج جياد نجب ... نجل فياض ومن آل سبل
ويقول ابن بري: إن سيلا والد الراجز جهم بن سبل، وإن الرواية:
أنا الجواد ابن الجواد ابن سبل
وانظر اللسان في "سبل" وانظر أيضًا التاج في المادة هذه.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "ومدرج".
4 كذا في أ، ب. وفي ش "فعل".
5 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "لعلة".
6 في أ: "إجماع".

(1/356)


الكافة على قولهم: الدوام, وليس أحد1 يقول: الديام فعلمت بذلك أن العارض في هذا الموضع إنما هو من جهة الصنعة لا من جهة اللغة.
ومثل ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم: "ما هت الركية تميه ميهًا "2, مع إجماعهم على أمواه, وأنه لا أحد يقول: أمياه.
ونحو من ذلك ما يحكى عن عمارة بن عقيل من أنه قال في جمع ريح: أرياح؛ حتى نبه عليه فعاد إلى أرواح. وكأن أرياحًا أسهل قليلا؛ لأنه قد جاء عنهم قوله:
وعلي من سدف العشي رياح3
فهو بالياء لهذا آنس.
وجماع هذا الباب غلبة الياء على الواو لخفتها؛ فهم لا يزالون4 تسببًا إليها, ونجشًا عنها, واستثارة لها, وتقربًا ما استطاعوا منها.
ونحو هذه الطريق في التدريج , حملهم علباوان على حمراوان, ثم حملهم رداوان على علباوان, ثم حملهم قراوان على رداوان, وقد تقدم ذكره 5. وفي هذا كاف مما يرد في معناه بإذن الله تعالى.
ومن ذلك أنه لما اطردت إضافة أسماء الزمان إلى الفعل نحو , قمت يوم قمت, وأجلس حين تجلس, شبهوا ظرف المكان في "حيث " فتدرجوا من "حين " إلى "حيث " فقالوا: قمت حيث قمت. ونظائره كثيرة.
__________
1 في أ: "لأحد".
2 أي ظهر ماؤها وكثر. والركية: البئر.
3 انظر ص351 من هذا الجزء.
4 كذا في أ. وفي ب: "تشبيا" بإعجام الشين. وفي ش: "تشبثا بها وبحثا عنها واستثارة لها". وفي ج: "لا يألون" في موضع "لا يزالون" وتوافق بعدما في أ، وهي جيدة، وقوله "لا يزالون تسيبا إليها"، أي يتسيبون إليها تسيبا، وكذا قوله: "نجشا" أي ينجشون. وقوله: "استثارة" أي يستثيرون، فهي مفاعيل على المصدر" ويجوز أن تكون على الحذف، أي ذوي تسبب إلخ، أو أنه حمل هذه المعاق عليهم على قصد المبالغة. والنجش: البحث عن الشيء واستخراجه.
5 انظر ص214 وما بعدها من هذا الجزء.

(1/357)