الخصائص

باب في أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب
...
باب في أن ما قيس على كلام العرب:
هذا موضع شريف. وأكثر الناس يضعف عن احتماله لغموضه ولطفه. والمنفعة به عامة, والتساند إليه مقو مجد. وقد نص1 أبو عثمان عليه فقال: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب؛ ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره. فإذا سمعت "قام زيد " أجزت ظرف بشر, وكرم خالد.
قال أبو علي: إذا قلت: "طاب الخشكنان "2 فهذا من كلام العرب لأنك بإعرابك إياه قد أدخلته كلام العرب.
ويؤكد هذا عندك أن ما أعرب من أجناس الأعجمية قد أجرته العرب مجرى أصول كلامها ألا تراهم يصرفون في العلم نحو آجر وإبريسيم وفِرِند وفيروزج وجميع ما تدخله لام التعريف. وذلك أنه لما دخلته اللام في نحو الديباج, والفرند والسهريز3، والآجر؛ أشبه أصول كلام العرب, أعني النكرات. فجرى في الصرف ومنعه مجراها.
__________
1 انظر الباب الثاني من تصريف المازني بشرح ابن جني 170 نسخة التيمورية.
2 فسره داود الأنطاكي في التذكرة 1/ 129 بأنه "خالص دقيق الحنطة إذا عجن بشيرج وبسط وملئ بالسكر واللوز والفستق وماء الورد، وجمع وخبز. وأهل الشام تسميه المكف". وانظر المعرب للجواليقي 134. ويقابله في هذا العصر البسكويت. وانظر محاضر جلسات المجمع اللغوي: دور الانعقاد الأول 433.
3 السهريز -بكسر السين وتضم- ضرب من التمر، يقال: تمر سهريز؛ بالوصف والإضافة. ويقال: شهريز؛ بالشين أيضا. وانظر معرب الجواليقي "طبعة الدار" 199.

(1/358)


قال أبو علي: ويؤكد ذلك أن العرب اشتقت من الأعجمي النكرة, كما تشتق من أصول كلامها، قال رؤبة:
هل ينجيني حلف سختيت ... أو فضة أو ذهب كبريت1
قال: فـ "سختيت " من السخت2؛ كـ " زحليل "3 من الزحل.
وحكى لنا أبو علي عن ابن الأعرابي أظنه قال: يقال درهمت الخبازى؛ أي صارت كالدراهم فاشتق من الدرهم وهو اسم أعجمي. وحكى أبو زيد: رجل مدرهم 4. قال ولم يقولوا منه: دُرهِم إلا أنه إذا5 جاء اسم المفعول فالفعل نفسه حاصل في الكف. ولهذا أشباه.
وقال أبو عثمان في الإلحاق المطرد: إن موضعه من جهة اللام نحو قُعدُد, ورِمدِد, وشَملَل, وصَعرَر. وجعل الإلحاق بغير اللام شاذًّا لا يقاس عليه. وذلك نحو جوهر, وبيطر, وجدول, وحذيم، ورهوك6، وأرطىً, ومعزىً وسلقىً وجعبى. قال أبو علي وقت القراءة عليه كتاب أبي عثمان: لو شاء شاعر أو ساجع, أو متسع, أن يبنى بإلحاق اللام اسمًا, وفعلا, وصفة لجاز له ولكان ذلك من كلام العرب. وذلك نحو قولك: خرججٌ أكرم من دخللٍ وضربب زيد عمرًا ومررت برجل ضرببٍ وكرممٍ
__________
1 حلف سختيت: موثق قوى. يقال كذب سختيت: جالس. والكبريت أراد به رؤية الذهب، وخطئ فيه، والعرب تخطئ في المعاني دون الألفاظ. وانظر شفاء الغليل واللسان. وانظر الديوان 25، والتقريب لأصول التعريب 11.
2 السخت: الشديد.
3 هو السريع.
4 أي كثير الدراهم.
5 كذا في ش، ب، وفي أ، ج4، "إلا أنه جاء".
6 يقال: رهوك في مشيه: مشى في ضعف كأنه يموج في سيره.

(1/359)


ونحو ذلك. قلت له: أفترتجل اللغة ارتجالا قال: ليس بارتجال لكنه مقيس على كلامهم, فهو إذًا من كلامهم. قال: ألا ترى أنك تقول: طاب الخشكنان, فتجعله من كلام العرب وإن لم تكن العرب تكلمت به. هكذا قال فبرفعك إياه كرفعها ما صار لذلك محولا على كلامها ومنسوبًا إلى لغتها.
ومما اشتقته العب من كلام العجم ما أنشدناه "من قول الراجز"1:
هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظلت اليوم كالمزرج
أي الذي شرب الزرجون2، وهي الخمر. فاشتق المزرج من الزرجون وكان قياسه: كالمزرجن من حيث كانت النون في زرجون قياسها أن تكون أصلا إذ كانت بمنزلة السين من قربوس. قال أبو علي: ولكن العرب إذا اشتقت من الأعجمي خلطت فيه. قال: والصحيح من نحو هذا الاشتقاق قول رؤبة 3:
في خدر مياس الدمى معرجن
وأنشدناه "المعرجن "4 باللام. فقوله "المعرجن " يشهد بكون النون من عرجون أصلا وإن كان من معنى الانعراج ألا تراهم فسروا قول الله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 5 فقالوا: هي الكباسة6 إذا قدمت فانحنت؛ فقد "كان على هذا القياس يجب "7 أن يكون نون "عرجون " زائدة كزيادتها في "زيتون " , غير أن بيت رؤبة الذي يقول فيه " المعرجن" منع هذا, وأعلمنا أنه أصل رباعي قريب من لفظ
__________
1 ثبت في أ: وسقط في ش، ب.
2 وهو لفظ فارسي مركب من "زر" بمعنى الذهب، و"كون" بالكاف الفارسية ومعناه لون. فمعنى التركيب: لون الذهب. وانظر التقريب 9.
3 من أرجوزة في ديوانه 56.
4 سقط في أ.
5 آية 39 سورة يس.
6 الكباسة: العذق بشماريخه. وهو ما عليه الرطب ويقال له السباطة.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "كان القياس على هذا أن يكون".

(1/360)


الثلاثي؛ كسبطر من سبط ودمثر من دمث؛ ألا ترى أنه ليس في الأفعال "فعلن " وإنما ذلك في الأسماء نحو علجن1، وخلبن.
ومما يدلك على أن ما قيس على2 كلام العرب فإنه من كلامها أنك لو مررت على قوم "يتلاقون بينهم مسائل "3 أبنية التصريف نحو قولهم في مثال "صمحمح " من الضرب: "ضربرب " ومن القتل "قتلتل " ومن الأكل "أكلكل " ومن الشرب "شربرب " ومن الخروج "خرجرج " ومن الدخول "دخلخل ". وفي مثل "سفرجل " من جعفر: "جعفرر " ومن صقعب4 "صقعبب " ومن زبرج "زبرجج " ومن ثرتم5 "ثرتمم" ونحو ذلك. فقال لك قائل: بأي لغة كان هؤلاء يتكلمون لم تجد بدًا من أن تقول: بالعربية وإن كانت العرب لم تنطق بواحد من هذه6 الحروف.
فإن قلت: فما تصنع بما حدثكم به أبو صالح السليل بن أحمد بن عيسى بن الشيخ عن أبي عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني7 قال: قرأت على الأصمعي هذه الأرجوزة للعجاج:
يا صاح هل تعرف رسمًا مكرسا
فلما بلغت:
تقاعس العز بنا فاقعنسسا
قال لي الأصمعي: قال لي الخليل: أنشدنا رجل:
رافع العز بنا8 فارفنعع
__________
1 العلجن: الناقة الكناز اللحم، والمرأة الماجنة. والخلبن: الخرفاء.
2 كذا في أ. ج. وفي غيرهما: "من".
3 أي يلقى بعضهم على بعض أسئلة.
4 الصقعب: الطويل، والمصوت من الأنياب الأبواب.
5 الثرتم: ما فضل من الطعام، أو الإدام في الإناء.
6 كذا في أ، ب: وفي ش: "هؤلاء".
7 نسبة للنوشجان "بضم النون" بلد في فارس.
8 كذا في ش، ب، وفي أ: "به".

(1/361)


فقلت: هذا لا يكون. فقال 1: كيف جاز للعجاج أن يقول:
تقاعس العز بنا فقعنسا2
فهذا يدل على امتناع القوم من أن يقيسوا على كلامهم ما كان من3 هذا النحو من الأبنية على أنه من كلامهم ألا ترى إلى قول الخليل وهو سيد قومه وكاشف قناع القياس في علمه كيف منع4 من هذا ولو كان ما قاله أبو عثمان صحيحًا ومذهبًا مرضيًّا لما أباه الخليل ولا منع منه!
فالجواب عن هذا من أوجه عدة: أحدها -أن الأصمعي لم يحك عن الخليل أنه انقطع هنا ولا أنه تكلم بشيء بعده فقد يجوز أن يكون الخليل لما احتج عليه منشده ذلك البيت ببيت العجاج عرف الخليل حجته فترك مراجعته وقطع الحكاية على هذا الموضع يكاد يقطع بانقطاع الخليل عنده ولا ينكر أن يسبق الخليل إلى القول بشيء فيكون فيه تعقب له فينبه عليه فينتبه.
وقد يجوز أيضًا أن يكون الأصمعي سمع من الخليل في هذا من قبوله أورده على المحتج به ما لم يحكه للخليل بن أسد لا سيما والأصمعي ليس ممن ينشط للمقاييس, ولا لحكاية التعليل.
نعم, وقد يجوز أن يكون الخليل أيضًا أمسك عن شرح الحال في ذلك وما قاله لمنشده البيت من تصحيح قوله أو إفساده للأصمعي5 لمعرفته بقلة انبعاثه6 في النظر وتوفره على ما يروى ويحفظ. وتؤكد7 هذا عندك الحكاية عنه وعن
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "فقلت" وانظر لهذه القصة شعراء ابن قتيبة 23.
2 بعد هذا في ابن قتيبة: "ولا يجوز لي".
3 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب.
4 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
5 متعلق بقوله: "شرح".
6 كذا في أ، ب. وفي ش: "ابتعاثه".
7 كذا في ش، ب. وفي أ: "يؤكد".

(1/362)


الأصمعي, وقد كان أراده الأصمعي على أن يعلمه العروض فتعذر ذلك على الأصمعي وبعد عنه؛ فيئس الخليل منه فقال له يومًا: يا أبا سعيد كيف تقطع قول الشاعر 1:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
قال: فعلم الأصمعي أن الخليل قد تأذى ببعده عن علم العروض فلم يعاوده فيه.
ووجه غير هذا وهو ألطف من جميع ما جرى2 وأصنعه وأغمضه؛ وذلك أن يكون الخليل إنما أنكر ذلك لأنه بناه " مما"3 لامه حرف حلقي والعرب لم تبن هذا المثال مما لامه أحد حروف الحلق إنما هو مما لامه حرف فموي وذلك نحو اقعنسس واسحنكك واكلندد4، واعفنجج 5. فلما قال الرجل للخليل "فارفنععا " أنكر ذلك من حيث أرينا.
فإن قيل: وليس6 ترك العرب أن تبني هذا المثال مما لامه حرف حلقي بمانع أحدًا من بنائه من ذلك؛ ألا ترى أنه ليس كل ما يجوز في القياس يخرج به سماع فإذا حذا إنسان على مثلهم, وأم مذهبهم لم يجب عليه أن يورد في ذلك سماعًا, ولا أن يرويه رواية.
قيل: إذا تركت العرب أمرًا من الأمور لعلة داعية إلى تركه وجب اتباعها عليه ولم يسع أحدًا بعد ذلك العدول عنه. وعلة امتناع ذلك عندي ما أذكره لتتأمله فتعجب منه، وتأنق لحسن الصنعة فيه.
__________
1 البيت لعمرو بن معد يكرب من قصيدته في ريحانة أخته، وكانت أسرت، ولم يستطع أن يستنقذها؛ أولها:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
وانظر الخزانة 3/ 460، والأصمعيات 43-45، والأغاني بولاق 14/ 33، وابن قتيبة 23، ومعاهد التنصيص 2/ 236.
2 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "مضى".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "فيما".
4 أي غلظ واشتد.
5 اعفنجج: أي أسرع.
6 ثبت هذا الحرف في أصول الكتاب ما عدا ج فقد سقط فيها، وهو أسوغ.

(1/363)


وذلك أن العرب زادت هذه النون الثالثة الساكنة في موضع حروف اللين أحق به وأكثر من النون فيه ألا ترى أنك إذا وجدت النون ثالثة ساكنة فيما عدته خمسة أحرف قطعت بزيادتها1؛ نحو نون جحنفل2، وعبنقس3، وجرنفس4، وفلنقس5، وعرندس6، عرفت الاشتقاق أو لم تعرفه حتى يأتيك ثبت بضده.
قال أصحابنا: وإنما كان ذلك لأن هذا الموضع إنما هو للحروف الثلاثة الزوائد نحو واو فدوكس7 وسرومط8، وياء سميدع9، وعميثل10، وألف جرافس11، وعذافر. والنون حرف من حروف الزيادة أغن ومضارع لحروف اللين وبينه وبينها من القرب والمشابهات ما قد شاع وذاع. فألحقوا النون في ذلك بالحروف اللينة الزائدة. وإذا كان كذلك فيجب أن تكون هذه النون -إذا وقعت ثالثة في هذه المواضع- قوية الشبه بحروف المد وإنما يقوى شبهها بها متى كانت ذات غنة لتضارع بها حروف المد للينها وإنما تكون فيها الغنة متى كانت من الأنف وإنما تكون من الأنف متى وقعت ساكنة وبعدها حرف فموي لا حلقي نحو جحنفل وبابه. وكذلك أيضًا طريقها وحديثها في الفعل ألا ترى أن النون في باب احرنجم وادلنظى12، إنما هي محمولة من حيث كانت ثالثة ساكنة على الألف نحو13 اشهاببت، وادهاممت وابياضضت واسواددت والواو في نحو اغدودن واعشوشب،
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "بأنها زائدة".
2 هو الغليظ الشفة.
3 من معانيه السيئ الخلق.
4 هو الضخم الشديد من الرجال.
5 هو الذي في إحدى جداته رق.
6 الأسد الشديد.
7 هو الشديد من الأسود والرجال.
8 هو الجمل الطويل.
9 هو السيد الشريف.
10 هو البطيء والنشيط.
11 هو الجرنفس.
12 كذا في ب. وفي أ، ش: "ادلنطى" بالمهملة. وادلنظى الرجل: مر فأسرع.
13 كذا في أ. وفي ش، ب: "في نحو".

(1/364)


واخلولق واعروريت واذلوليت1، واقطوطيت2، واحلوليت. وإذا كانت النون في باب احرنجم واقعنسس إنما هي أيضًا محمولة على الواو والألف في هذه الألفاظ التي ذكرناها "وغيرها"3 وجب أن تضارعها وهي أقوى شبهًا بها. وإنما يقوى شبهها بها إذا كانت غناء وإنما تكون كذلك إذا وقعت قبل حروف الفم نحوها في اسحنكك4 واقعنسس واحرنجم واخرنطم 5. وإذا كان كذلك لم يجز أن يقع بعدها حرف حلقي لأنها إذا كانت كذلك كانت من الفم6 وإذا كانت من الفم سقطت غنتها وإذا سقطت غنتها زال شبهها بحرفي المد: الواو والألف. فلذلك أنكره الخليل وقال: هذا لا يكون. وذلك أنه رأى نون "ارفنعع " في موضع لا تستعملها العرب فيه إلا غناء غير مبينة7، فأنكره وليست كذلك في اقعنسس لأنها قبل السين وهذا موضع تكون فيه مغنة مشابهة لحرفي اللين ولهذا ما كانت النون في "عجنس "8 و "هجنع "9 كباء "عدبس "10 ولامي "شلعلع "11 ولم يقطع على أن الأولى منهما الزائدة كما قطع على نون "جحنفل " بذلك من حيث كانت مدعمة وادغامها يخرجها من الألف12؛ لأنها تصير إلى لفظ المتحركة بعدها وهي من الفم. وهذا أقوى ما يمكن أن يحتج به في هذا الموضع.
__________
1 اذلولى: انطلق في استخفاء وذل.
2 اقطوطى: قارب في مشيه.
3 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب.
4 يقال: اسحنكك الليل: أظلم.
5 أي رفع آنفه وغضب واستكبر.
6 أما إذا كان بعدها حرف فموي وكانت غناء فإن مخرجها الخيشوم، وهو أقصى الأنف. وفي مقدمة الجزرية:
وغنة مخرجها الخيشوم
7 كذا في ب، وفي ش: "مبتنية".
8 هو الجمل الضخم.
9 هو الطويل الضخم.
10 هو الجمل الضخم.
11 كذا في أ. وفي ش، ب: "شعلع". والشلعلع والشعلع: الطويل. وقد جاء الأول في مستدرك التاج، والثاني في اللسان والقاموس.
12 كذا في ش، وفي أ، ب: "الألف" وما أثبت هو الصواب. وفي ج: فيزول شبهها بالألف".

(1/365)


وعلى ما نحن عليه فلو قال لك قائل: كيف تبني من ضرب مثل "حبنطىً " لقلت فيه: "ضربنىً ". ولو قال: كيف تبني مثله من قرأ لقلت: هذا لا يجوز لأنه يلزمني أن أقول: "قرنأى " فأبين النون لوقوعها قبل الهمزة وإذا بانت ذهبت عنها غنتها وإذا ذهبت غنتها1 زال شبهها بحروف اللين في نحو عثوثل2 وخفيدد3، وسرومط وفدوكس وزرارق4، وسلالم وعذافر وقراقر5 -على ما تقدم- ولا يجوز أن تذهب عنها الغنة في هذا الموضع الذي هي محمولة فيه على حروف اللين بما فيها من الغنة التي ضارعتها بها وكذلك جميع حروف الحلق. فلا6 يجوز أيضًا أن تبنى من صرع ولا من جبه ولا من سنح ولا من سلخ ولا من فرغ لأنه كان يلزمك أن تقول: صرنعى وجبنهى وسننحى وسلنخى وفرنغى فتبين النون في هذا الموضع. وهذا "لا يجوز"7؛ لما قدمنا ذكره. ولكن من أخفى النون عند الخاء والغين في نحو منخل ومنغل8، يجوز على مذهبه أن يبني نحو حبنطى من سلخ وفرغ لأنه قد يكون هناك في لغته من الغنة ما يكون مع حروف الفم.
وقلت مرة لأبي علي -رحمه الله- قد حضرني شيء في علة الإتباع في " نقيذ "9 وإن عري أن تكون عينه حلقية وهو قرب القاف من الخاء والغين فكما10 جاء11 عنهم النخير والرغيف كذلك جاء عنهم "النقيذ " فجاز أن تشبه القاف لقربها من حروف الحلق بها كما شبه من أخفى النون عند الخاء والغين إياهما بحروف الفم، فالنقيذ في الإتباع
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "عنها".
2 هو الأحمق.
3 هو السريع، والظليم.
4 جمع زرق "كسكر" هو طائر صياد.
5 اسم موضع من نواحي المدينة.
6 كذا في أ. وفي ب، ش: "ولا يجوز".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "ما لا يجوز".
8 وصف من أنغل القوم حديثا سمعة: نم به إليهم.
9 كذا في ش، ب. وفي أ. ج: "نقيد". والصواب ما أثبت. والنقيد ما يستنفذ من العدو.
10 كذا في أ. وفي ش، ب، "وكما".
11 كذا ش، ب وفي أ: "جاز".

(1/366)


كالمنخل والمنغل فيمن أخفى النون فرضيه وتقبله. ثم رأيته وقد أثبته فيما بعد بخطه في تذكرته ولم أر أحدًا من أصحابنا ذكر " امتناع1 فعنلى " وبابه فيما لامه حرف حلقي لما يعقب ذلك من ظهور النون وزوال شبهها بحروف اللين والقياس يوجبه فلنكن عليه. ويؤكده عنك أنك لا تجد شيئًا من باب فعنلى ولا فعنلل2 ولا فعنعل بعد نونه حرف حلقي.
وقد يجوز أن يكون إنكار الخليل قوله "فارفنععا " إنما هو لتكرر الحرف الحلقي مع استنكارهم ذلك. ألا ترى إلى قلة التضعيف في باب المهه3، والرخخ4، والبعاع5، والبحح والضغيغة6، والرغيغة7؛ هذا مع ما قدمناه من ظهور النون في هذا الموضع.
ومن ذلك قول أصحابنا: إن اسم المكان والمصدر على وزن المفعول في الرباعي قليل إلا أن تقيسه. وذلك نحو المدحرج تقول: دحرجته مدحرجًا وهذا مدحرجنا وقلقلته مقلقلا8، وهذا مقلقلنا وكذلك أكرمته مكرمًا وهذا مكرمك أي موضع إكرامك وعليه قول الله تعالى: {مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} 9 أي تمزيق وهذا ممزق الثياب أي الموضع الذي تمزق فيه. قال أبو حاتم: قرأت على الأصمعي في جيمية العجاج:
جأبًا ترى بليته مسحجًا10
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "امتناع بناء فعنلى".
2 كذا في ش، ب. وسقط هذا الحرف في أ.
3 هو اليسير السهل.
4 هو السهولة واللبن.
5 هو المناع ونقل السحاب من الماء.
6 من معانيها الروضة.
7 طعام مثل الحساء يصنع بالتمر. ويقول فيها في تهذيب الألفاظ 637: "والرغيغة: حسو رقيق" وهو مصحفة فيه إلى "الرغيفة" ويستظهر الناشر أنها "الرقيقة" وهذا خطأ.
8 ثبت في أ، وسقط في ش، ب.
9 آية 19 سورة سبأ.
10 الجأب: حمار الوحش الغليظ، والليث: صفحة العنق، والنسحيج: الخدش. وهو من أرجوزته التي أولها:
ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا
وانظر الديوان.

(1/367)


فقال: تليله1 فقلت: بليته فقال: هذا لا يكون فقلت: أخبرني به من سمعه من فِلق2 في رؤبة أعني أبا زيد الأنصاري3 فقال: هذا لا يكون فقلت: جعله مصدرًا أي تسحيجًا فقال: هذا لا يكون فقلت: فقد قال جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عيا بهن ولا اجتلابا4
أي تسريحي. فكأنه أراد أن يدفعه فقلت له: فقد قال الله عز وجل: {مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فأمسك.
وتقول على ما مضى: تألفته متألفًا وهذا متألفنا وتدهورت متدهورًا وهذا متدهورك وتقاضيتك متقاضىً وهذا متقاضانا. وتقول: اخروَّط5 مخروَّطًا وهذا مخروَّطنا واغدودن6 مغدودنا وهذا مغدودننا وتقول: اذلوليت مذلولىً وهذا مذلولانا ومذلولاكن يا نسوة وتقول: اكوهدَّ7 مكوهدًا وهذا مكوهدكما. فهذا كله من كلام العرب ولم يسمع منهم ولكنك سمعت ما هو مثله وقياسه قياسه8؛ ألا ترى إلى قوله 9:
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا ... وأنجو إذا غم الجبان من الكرب
وقوله 10:
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا ... وأنجو إذا لم ينج إلا المكيس
__________
1 التليل: العنق.
2 فلق الفم: شقه ومنفرجه.
3 ثبت في أ، وسقط في ش، ب.
4 انظر الكتاب 1/ 119، والبيت من قصيدة يجهو بها العباس بن يزيد الكندي، وانظر الديوان 62 والكامل 2/ 259. ولفظ الشطر الأول في الديوان:
ألم تخبر بمسرحي القوافي
5 يقال اخروط بهم السير: امتد.
6 اعدودن الشجر: انثنى وكان ناعمًا. ويقال كذلك في الشاب.
7 اكوهد الشيخ والفرخ: ارتعد.
8 كذا في أ، ب. وسقط في ش.
9 هو مالك بن أبي كعب أبو كعب بن مالك. وانظر الكتاب 2/ 250 وحماسة البحتري 53، وحماسة الخالد بين الورقة 6أمن نسخة الدار 587 أدب.
10 هو زيد الخيل. وهو من أربعة أبيات في النوادر 79، وانظر سيبويه 2/ 250 واللسان "قتل"، واللآلي.

(1/368)


وقوله:
كأن صوت الصنج في مصلصله
فقوله "مصلصله " يجوز أن يكون مصدرًا أي في صلصلته, ويجوز أن يكون موضعًا للصلصلة. وأما قوله:
... حتى لا أرى لي مقاتلا
فمصدر ويبعد أن يكون موضعًا أي حتى لا أرى لي موضعًا للقتال: المصدر هنا أقوى وأعلى. وقال1:
تراد على دمن الحياض فإن تعف ... فإن المندَّى رحلة فركوب2
أي مكان تنديتنا3 إياها أن نرحلها فنركبها. وهذا كقوله 4:
تحية بينهم ضرب وجيع
أي ليست هناك تحية بل مكان التحية ضرب. فهذا كقول الله سبحانه {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . وقال رؤبة 5:
جدب المندى شئِز المُعَوَّهِ6
فهذا اسم لموضع التندية أي جدب هذا المكان. وكذلك " المعوه " مكان أيضًا والقول فيهما واحد.
__________
1 هو علقمة بن عبدة. والقصيدة في المفضليات.
2 الحديث عن ناقته المذكورة في البيت:
إليك أبيت اللعن أعملت ناقتي ... لكلكلها والقصريين وجيب
والدمن دمنة وهي بقية الماء في الحوض وقوله: "تراد" كذا في المفضليات وأصول الخصائص وفي اللسان في "دمن وندى": ترادى. وانظر ابن الأنباري 778.
3 التندية إن تورد الإبل لتشرب قليلا، ثم تترك ترعى، ثم ترد إلى الماء.
4 نسب في الكتاب 1/ 365 إلى عمرو بن معد يكرب، وكذا نسبه ابن رشيق في العمدة في باب السرقات. انظر الخزانة 4/ 53 والشطر الذي أورد عجز صدره:
وخيل قد دلفت لها بخيل
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "قول".
6 "شئز": غليظ، "والمعوه": من التعويه، وهو نزول آخر الليل. يصف مهمها قطعه في سفره. وانظر الأرجوزة في ديوانه.

(1/369)


وهذا باب مطرد متقاود. وقد كنت ذكرت طرفًا منه في كتابي "شرح تصريف أبي عثمان "؛ غير أن الطريق ما ذكرت لك. فكل ما قيس على كلامهم فهو من كلامهم. ولهذا قال من قال في العجاج ورؤبة: إنهما قاسا اللغة وتصرفا فيها وأقدما على ما لم يأت به من قبلهما. وقد كان الفرزدق يلغز بالأبيات، ويأمر بإلقائها على ابن أبي إسحاق 1.
وحكى الكسائي2 أنه سأل بعض العرب عن أحد مطايب الجزور, فقال: مطيب3؛ وضحك الأعرابي من نفسه كيف تكلف لهم ذلك من كلامه. فهذا ضرب من القياس ركبه الأعرابي، حتى دعاه إلى الضحك من نفسه، في تعاطيه إياه.
وذكر أبو بكر أن منفعة الاشتقاق لصاحبه أن يسمع الرجل اللفظة فيشك فيها, فإذا رأى الاشتقاق قابلًا لها أنس بها وزال استيحاشه منها. فهل هذا إلا اعتماد في تثبيت اللغة على القياس. ومع هذا أنك لو سمعت ظرف؛ ولم تسمع يظرف؛ هل كنت تتوقف عن4 أن تقول يظرف راكبًا له غير مستحيٍ منه. وكذلك لو سمعت سلم ولم تسمع مضارعه أكنت ترع5 أو ترتدع أن تقول يسلم, قياسًا أقوى من كثير من سماع غيره. ونظائر ذلك فاشية6 كثيرة.
__________
1 هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، من أوائل من وضع النحو. مات سنة 117هـ. وانظر طبقات القراء 100.
2 في اللسان في "طيب" نسبة هذه القصة للسيرافي.
3 هذا الضبط عن أ. وضبط في اللسان والقاموس: "مطيب" بسكون الطاء وفتح الياء. وفي ش، ب بعد "مطيب": "واحد" وسقط هذا اللفظ في أ. ومطايب الجزور: خيار لحمه وأطيبه.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "على".
5 أي تكف، وهو من باب ورث.
6 ثبت في أ. وسقط في ش، ب.

(1/370)


باب في الفصيح يجتمع في كلامه لغتان فصاعدا:
من ذلك قول لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرًا والقبائل من هلال1
وقال 2:
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته
... كما وفى بقلاص النجم حاديها3
وقال 4:
فظلت لدى البيت العتيق أُخيلُهو ... ومطواي مشتاقان له أرقان5
فهاتان6 لغتان: أعني إثبات الواو في "أخيلهو " وتسكين الهاء في قوله "له "، لأن أبا الحسن زعم أنها لغة لأزد السراة وإذا كان كذلك فهما لغتان. وليس إسكان الهاء في "له " عن حذف لحق بالصنعة الكلمة لكن ذاك لغة.
__________
1 قبله:
أقول وصوبه مني بعيد ... يحط السيب من فلل الجبال
وهو في وصف سحاب من قصيدة أولها:
ألم تلمم على الدمن الخوالي ... لسلمى بالمذانب فالقفال
وانظر الديوان طبعة قيينا 127، و"مجد": أم كلب وكلاب ابني ربيعة بن عامر بن صعصعة.
2 هو طفيل الغنوي، كما في اللسان في "وفى". وقد ذكر في ديوانه 65 فيما نسب إليه. وفي الكامل 5/ 156: "ابن بيض" بدل "بن طوق".
3 قلاص النجم في زعم العرب عشرون نجما ساقها الديران في خطبة الثريا.
4 هو يعلى الأزدي، وكان لصًّا. وانظر اللسان في "مطا"، وفي "ها" في الألف اللينة، وانظر ص129 من هذا الجزء.
5 يتحدث عن برق شافه وهاجه إلى وطنه، و"أخيله": أنظر إلى مخيلته ودنو مطره. و"مطواي": تثنية مطو. وهو الصاحب والنظير.
6 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "فهذان".

(1/371)


ومثله ما رويناه عن قطرب:
وأشرب الماء ما بي نحوهو عطش ... إلا لأن عيونهْ سيل واديها
فقال: "نحو هو" بالواو، وقال "عيونه" ساكن الهاء.
وأما قول الشماخ:
له زجل كأنه صوت حا ... إذا طلب الوسيقة أو زمير1
فليس هذا لغتين لأنا لا نعلم رواية2 حذف هذه الواو وإبقاء الضمة قبلها لغة3، فينبغي أن يكون ذلك ضرورة "وصنعة"3، لا مذهبًا ولغة. وكذلك يجب عندي وينبغي ألا يكون لغة لضعفه في القياس. ووجه ضعفه أنه ليس على مذهب الوصل ولا مذهب الوقف. أما الوصل فيوجب إثبات واوه كلقيتهو أمس. وأما الوقف فيوجب الإسكان كلقيته وكلمته فيجب أن يكون ذلك ضرورة للوزن لا لغة.
وأنشدني الشجري لنفسه:
وإنا ليرعى في المخوف سوامنا ... كأنه لم يشعر به من يحاربه4
فاختلس ما بعد هاء "كأنه "، ومطل ما بعد هاء "بِهىِ "، واختلاس ذلك ضرورة "وصنعة"5 على ما تقدم به القول.
__________
1 الزجل: صوت فيه حنين وترنم. والوسيقة هنا القطيع من الأتن. والزمير: الزمر. يصف حمار وحش هائجا. انظر كتابة الأعلم علم شواهد الكتاب 1/ 11 وانظر له الديوان. وانظر أيضًا ص128 من هذا الجزء.
2 كذا في ش، ب. وهو يوافق ما في اللسان في "ها" في حرف الألف اللينة. وفي أ: "رواية".
3 ثبت هذا في أوسقط في ش، ب.
4 "كأنه" كتب في أفوقه: "خلس".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "ضعيفة".

(1/372)


ومن ذلك قولهم: بغداد, وبغدان. وقالوا أيضًا: مغدان, وطبرزل1، وطبرزن. وقالوا للحية: أيم, وأين. وأعصر, ويعصر: أبو باهلة. والطِنفِسة, والطُنفُسة. "وما اجتمعت"2 فيه لغتان أو ثلاث أكثر من أن يحاط به. فإذا ورد شيء من ذلك -كأن يجتمع في لغة رجل واحد لغتان فصيحتان3- فينبغي أن تتأمل حال كلامه فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال, كثرتهما واحدة فإن أخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على "ذينك اللفظين"4؛ لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها وسعة تصرف أقوالها. وقد يجوز أن تكون لغته في الأصل إحداهما ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى وطال بها5 عهده وكثر "استعماله لها"6، فلحقت -لطول7 المدة واتصال استعمالها- بلغته الأولى 8.
وإن كانت إحدى اللفظتين9 أكثر في كلامه من صاحبتها فأخلق الحالين به في ذلك أن تكون القليلة في الاستعمال هي المفادة والكثيرته10 هي الأولى الأصلية. نعم وقد يمكن في هذا أيضًا أن تكون القلي منهما إنما قلت في استعماله لضعفها في نفسه وشذوذها عن قياسه وإن كانتا جميعًا لغتين له ولقبيلته. وذلك
__________
1 يقال: سكر طبرزل. وهو السكر الأبيض الصلب. واللفظ معرب عن الفارسية. وانظر معرب الجواليقي 288.
2 كذا في أوفي ش "أما ما اجتمعت".
3 كذا في أوفي ش، ب: "فصاعدا".
4 كذا في أ، ج والمزهر 1/ 155، وفي ش، ب: "ذينك اللفظتين".
5 كذا في أ، ب والمزهر 1/ 155، وفي ش: "به".
6 كذا في المزهر 1/ 155، وفي أصول الخصائص: "لها استعماله".
7 كذا في أ، ب. وفي ش: "أطول".
8 كذا في أوالمزهر. وفي سائر الأصول: "الأخرى".
9 كذا في أوفي ش، ب: "اللغتين".
10 كذا في أ. وفي ش، ب والمزهر 1/ 156: "الكثرة".

(1/373)


أن من مذهبهم أن يستعملوا من اللغة ما غيره أقوى في القياس منه؛ ألا ترى إلى حكاية أبي العباس عن عمارة قراءته {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} 1 بنصب النهار وأن أبا العباس قال له 2: ما أردت؟ فقال: أردت "سابقٌ النهار " قال أبو العباس فقلت له: فهلا قلته فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى. فهذا يدلك3 على أنهم قد يتكلمون بما غيره عندهم4 أقوى منه، "وذلك"5 لاستخفافهم الأضعف إذ لولا ذلك لكان الأقوى أحق وأحرى كما أنهم لا يستعملون المجاز إلا لضرب من المبالغة إذ لولا ذلك لكانت الحقيقة أولى من المسامحة.
"6وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسمعت في لغة إنسان واحد فإن أخرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفًا منها من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ في المعنى الواحد على ذلك كله. هذا غالب الأمر وإن كان الآخر في وجه من القياس جائزًا.
وذلك كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك وكما تنحرف الصيغة7 واللفظ واحد نحو قولهم: هي رَغوة اللبن, ورُغوته, ورِغوته, ورُغاوته ورِغاوته ورُغايته. وكقولهم: الذَرُوح8، والذُرُّوح، والذِّرِّيح، والذُرَّاح، والذُرَّح، والذُرنوح، والذُرحرح، والذُرَّحرح، روينا ذلك كله. وكقولهم: جئته من علُ،
__________
1 آية 40 سورة يس.
2 ثبت في ش، ب وسقط في أ.
3 كذا في أ. وفي ش, ب: "يدل".
4 ثبت في ش، ب. وسقط في أ.
5 ثبت في ش، ب وسقط في أ.
6 ما بين التنصيص في أ، وسقط في ش، ب، ج. وهو من هذا الموضع إلى قوله في الصفحة التالية: "كلما كثرت الألفاظ".
7 في أ: "الصنعة"، وقد تبعت هنا ما في المزهر 1/ 156 وما يؤخذ من ج.
8 هو دويبة أعظم من الذباب شيئًا.

(1/374)


ومن عِل, ومن علا, ومن عَلوُ, ومن عَلوَ, ومن عَلو, ومن عُلُوّ, ومن عال, ومن معال. فإذا أرادوا النكرة قالوا: من علٍ. وههنا من هذا ونحوه أشباه له كثيرة "1.
وكلما2 كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد من هَنَّا ومن هَنَّا. ورويت عن الأصمعي قال: اختلف رجلان في الصقر فقال أحدهما: الصقر " بالصاد"، وقال الآخر: السقر "بالسين "؛ فتراضيا بأول وارد عليهما فحكيا له ما هما فيه. فقال: لا أقول كما قلتما؛ إنما هو الزقر. أفلا ترى إلى كل واحد من الثلاثة كيف أفاد في هذه الحال إلى لغته لغتين أخريين معها. وهكذا تتداخل اللغات. وسنفرد لذلك بابًا بإذن الله عز وجل.
فقد وضح ما أوردنا بيانه من حال اجتماع اللغتين أو اللغات في كلام الواحد من العرب.
__________
1 انظر هامش "6" من الصفحة السابقة.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "إذا كثر ذلك على".

(1/375)


باب في تركيب اللغات
...
باب في تركب 1 اللغات 2:
اعلم أن هذا موضع قد دعا أقوامًا ضعف نظرهم وخفت إلى تلقي ظاهر3 هذه اللغة أفهامهم أن جمعوا أشياء على وجه الشذوذ عندهم وادعوا أنها موضوعة في أصل اللغة على ما سمعوه بأخرة من أصحابها وأنسوا ما كان ينبغي أن يذكروه وأضاعوا ما كان واجبًا أن يحفظوه. ألا تراهم كيف ذكروا في الشذوذ ما جاء على فعل يفعل؛ نعم ينعم ودمت تدوم ومت تموت. وقالوا أيضًا فيما جاء من فعل يفعل وليس عينه ولا لامه حرفًا حلقيًّا نحو قلى يقلى وسلا يسلى وجبى يجبى وركن يركن وقنط يقنط.
ومما عدوه شاذًّا ما ذكروه من فعل فهو فاعل؛ نحو طهر فهو طاهر, وشعر, فهو شاعر وحمض فهو حامض وعقرت المرأة فهي عاقر ولذلك نظائر كثيرة.
واعلم3 أن أكثر ذلك وعامته إنما هو لغات تداخلت فتركبت4، على ما قدمناه في الباب الذي هذا الباب يليه. هكذا ينبغي أن يعتقد وهو أشبه بحكمة العرب.
وذلك أنه قد دلت الدلالة على وجوب مخالفة صيغة الماضي لصيغة المضارع, إذ الغرض في صيغ هذه المثل إنما هو لإفادة الأزمنة فجعل لكل زمان مثال مخالف لصاحبه وكلما ازداد الخلاف كانت في ذلك قوة الدلالة على الزمان.
فمن ذلك أن جعلوا بإزاء حركة فاء الماضي سكون فاء المضارع وخالفوا بين عينيهما فقالوا: ضرب يضرب وقتل يقتل وعلم يعلم.
فإن قلت: فقد قالوا: دحرج يدحرج فحركوا فاء المضارع والماضي جميعًا وسكنوا عينيهما أيضًا قيل: لما فعلوا ذلك في الثلاثي الذي هو أكثر استعمالا وأعم تصرفًا وهو كالأصل للرباعي لم يبالوا ما فوق ذلك مما جاوز الثلاثة. وكذلك أيضًا قالوا: تقطع يتقطع وتقاعس يتقاعس وتدهور يتدهور ونحو ذلك لأنهم أحكموا الأصل الأول الذي هو الثلاثي. فقل حفلهم بما وراءه؛ كما أنهم لما أحكموا أمر المذكر في التثنية، فصاغوها على ألفها, لم يحفلوا بما عرض
__________
1 كذا في أ. وفي شن ب: "تركيب".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "اللغة".
3 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب.
4 كذا في أ. وفي، ب: "فاعلم".
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "تركت".

(1/376)


في المؤنث من اعتراض علم التأنيث بين الاسم وبين ما هو مصوغ عليه من علمها نحو قائمتان وقاعدتان.
فإن قلت: فقد نجد في الثلاثي ما تكون حركة عينيه في الماضي والمضارع, سواء وهو باب فعل؛ نحو كرم يكرم, وظرف يظرف.
قيل: على كل حال فاؤه في المضارع ساكنة وأما موافقة حركة عينيه1 فلأنه ضرب قائم في الثلاثي؛ برأسه ألا تراه غير متعد البتة وأكثر باب فعَل وفعِل متعد. فلما جاء هذا مخالفًا لهما -وهما أقوى وأكثر منه- خولف بينهما وبينه, فووفق بين حركتي عينيه وخولف بين حركتي عينيهما.
وإذا ثبت وجوب خلاف صيغة الماضي صيغة المضارع وجب أن يكون ما جاء من نحو سلا يسلى وقلى يقلى "ونحو ذلك"2، مما التقت فيه حركتا عينيه منظورًا في أمره ومحكومًا عليه بواجبه. فنقول: إنهم قد قالوا: قليت الرجل وقليته. فمن قال: قلَيته فإنه يقول أقليه ومن قال قلِيته قال: أقلاه. وكذلك من قال: سلوته قال: أسلوه ومن قال سليته قال: أسلاه ثم تلاقى أصحاب اللغتين فسمع هذا لغة هذا وهذا لغة هذا فأخذ كل واحد منهما من صاحبه ما ضمه إلى لغته فتركبت هناك لغة ثالثة كأن من يقول سلا أخذ مضارع من يقول سلى, فصار في لغته سلا يسلى.
فإن قلت: فكان3 يجب على هذا أن يأخذ من يقول سلِى مضارع من يقول سلا فيجيء من هذا أن يقال: سلى يسلو.
__________
1 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "عينه".
2 ثبت هذا في أ، وسقط في ش، ب.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "وكان".

(1/377)


قيل: منع من ذلك أن الفعل إذا أزيل ماضيه عن أصله سرى ذلك في مضارعه وإذا اعتل مضارعه سرى ذلك في ماضيه إذ كانت هذه المثل تجري عندهم مجرى المثال الواحد ألا تراهم1 لما أعلوا "شقي " أعلوا أيضًا مضارعه فقالوا يشقيان: ولما أعلوا "يغزي " أعلوا أيضًا أغزيت ولما أعلوا "قام " أعلوا أيضًا يقوم. فلذلك لم يقولوا: سليت تسلو فيعلوا الماضي ويصححوا المضارع.
فإن قيل: فقد قالوا: محوت تمحى وبأوت تبأى وسعيت تسعى ونأيت تنأى فصححوا الماضي وأعلوا المستقبل.
قيل: إعلال الحرفين إلى الألف لا يخرجهما كل الإخراج عن أصلهما؛ ألا ترى أن الألف حرف ينصرف إليه عن الياء والواو جميعًا فليس للألف خصوص بأحد حرفي العلة فإذا قلب واحد منهما إليه فكأنه مقر على بابه2؛ ألا ترى أن الألف لا تكون أصلا في الأسماء ولا الأفعال وإنما هي مؤذنة بما هي بدل منه وكأنها هي هو وليست كذلك الواو والياء لأن كل واحدة منهما قد تكون2 أصلا كما تكون3 بدلا. فإذا أخرجت الواو إلى الياء اعتد ذلك؛ لأنك أخرجتها إلى صورة تكون الأصول عليها والألف لا تكون أصلا أبدًا فيهما4، فكأنها هي ما قلبت عنه البتة فاعرف ذلك فإن أحدًا من أصحابنا لم يذكره.
ومما يدلك5 على صحة الحال في ذلك أنهم قالوا: غزا يغزو ورمى يرمي، فأعلوا الماضي بالقلب ولم يقلبوا المضارع لما كان اعتلال لام الماضي إنما هو بقلبها ألفًا والألف لدلالتها على ما قلبت عنه كأنها6 هي هو، فكأن لا قلب هناك: فاعرف ذلك.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "ترى".
2 كذا في أوفي غيرها: "بابه الأول".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "يكون".
4 أي في الأسماء والأفعال.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "يدل".
6 الضمير للقصة.

(1/378)


ويدلك على استنكارهم أن يقولوا: سليت تسلو لئلا يقلبوا في الماضي ولا يقلبوا في المضارع أنهم قد جاءوا في الصحيح بذلك لما لم يكن فيه من قلب الحرف في الماضي وترك قلبه في المضارع ما جفا عليهم وهو قولهم: نعِم ينعُم, وفضِل يفضُل. وقالوا في المعتل: مِت تموت ودِمت تدوم وحكي في الصحيح أيضًا حضِر القاضي يحضُره. فنعِم في الأصل ينعَم وينعم في الأصل مضارع نعُم ثم تداخلت اللغتان فاستضاف من يقول نعِم لغة من يقول ينعُم فحدثت هناك لغة ثالثة.
فإن قلت: فكان يجب على هذا أن يستضيف من يقول: نعُم مضارع من يقول نعِم فتركب من هذا أيضًا لغة ثالثة وهي نعُم ينعَم.
قيل: منع من هذا أن فعُل لا يختلف مضارعه أبدًا وليس كذلك نعِم؛ لأن نعِم قد يأتي فيه ينعِم وينعَم جميعًا فاحتمل خلاف مضارعه, وفعُل لا يحتمل مضارعه الخلاف ألا تراك كيف تحذف فاء وعد في يعد لوقوعها بين ياء وكسرة وأنت مع ذلك تصحح نحو وضؤ ووطؤ إذا قلت: يوضؤ ويوطؤ, وإن وقعت الواو بين ياء وضمة ومعلوم أن الضمة أثقل من الكسرة لكنه لما كان مضارع فعُل لا يجيء مختلفًا لم يحذفوا فاء وضؤ ولا وطؤ ولا وَضُع لئلا يختلف بابٌ ليس من عادته أن يجيء مختلفًا.
فإن قلت: فما بالهم كسروا عين ينعِم, وليس في ماضيه إلا نعِم, ونعُم, وكل واحد من فعِل وفعُل ليس له حظ من باب يفعِل.
قيل: هذا طريقه غير طريق ما قبله. فإما أن يكون ينعم -بكسر العين- جاء على ماض وزنه فعَل غير أنهم لم ينطقوا به استغناء عنه بنعِم ونعُم كما استغنوا بتَرك عن وَذر وودع وكما استغنوا بملامح عن تكسير لمحة وغير ذلك. أو يكون

(1/379)


فعِل في هذا داخلا على فعُل؛ فكما1 أن فعُل بابه يفعل كذلك شبهوا بعض فعِل به فكسروا عين مضارعه كما ضموا في ظرف عين ماضيه ومضارعه. فنعِم ينعِم في هذا محمول على كرم يكرم كما دخل يفعل فيما ماضيه فعَل نحو قتل يقتل على باب يشرف ويظرف. وكأن باب يفعل إنما هو لما ماضيه فعُل ثم دخلت يفعُل في فعَل على يفعِل لأن ضرب يضرب أقيس من قتل يقتل. ألا ترى أن ما ماضيه فعِل إنما بابه فتح عين مضارعه نحو ركب يركب وشرب يشرب. فكما2 فتح المضارع لكسر الماضي فكذلك أيضًا ينبغي أن يكسر المضارع لفتح الماضي. وإنما دخلت يفعُل في باب فعَل على يفعِل من حيث كانت كل واحدة من الضمة والكسرة مخالفة للفتحة ولما آثروا خلاف حركة عين المضارع لحركة عين الماضي ووجدوا الضمة مخالفة للفتحة خلاف الكسرة لها عدلوا في بعض ذاك إليها فقالوا: قتل يقتل ودخل يدخل وخرج يخرج.
وأنا أرى أن يفعل فيما ماضيه3 فَعَل في غير المتعدي أقيس من يفعِل4، فضرب يضرب إذًا أقيس من قتل يقتل وقعد يقعد أقيس من جلس يجلس. وذلك أن يفعل إنما هي في الأصل لما لا يتعدى؛ نحو كرم يكرم, على ما شرحنا من حالها. فإذا5 كان كذلك كان أن يكون في غير المتعدي فيما ماضيه فعَل أولى وأقيس.
فإن قيل: فكيف6 ذلك ونحن نعلم أن يفعُل في المضاعف المتعدي أكثر من يفعِل نحو شده يُشدُّه, ومده يمده, وقده يقده, وجزه يجزه, وعزه يعزه،
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "وكما".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "وكما".
3 ثبت هذا اللفظ في ش، ب وسقط في أ.
4 في ش، ب: "يفعل المتعدي".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "وإذا".
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "وكيف".

(1/380)


وأزه يؤزه, وعمه يعمه, وأمه يؤمه, وضمه يضمه, وحله يحله, وسله يسله، وتله يتله. ويفعِل في المضاعف قليل محفوظ، نحو هره1 يهِره، وعله يعِله، وأحرف قليلة. وجميعها يجوز فيه "أفعُله " نحو عله يعله, وهره1 يهره؛ إلا حبه يحبه فإنه مكسور المضارع لا غير.
قيل: إنما جاز2 هذا في المضاعف لاعتلاله، والمعتل كثيرًا ما يأتي مخالفًا للصحيح؛ نحو سيد، وميت, وقضاة, وغزاة, ودام ديمومة, وسار سيرورة. فهذا شيء عرض قلنا فيه, ولنعد.
وكذلك حالُ قولهم قنط يقنط, إنما هو لغتان تداخلتا. وذلك أن قنَط يقنِط لغة وقنِط يقنَط أخرى, ثم تداخلتا فتركبت لغة ثالثة. فقال من قال قنَط: يقنَط, ولم يقولوا: قنِط يقنِط؛ لأن آخذًا إلى لغته لغة غيره قد يجوز أن يقتصر على بعض اللغة التي أضافها إلى لغته دون بعض. وأما حسب يحسب ويئس ييئس، ويبس ييبس فمشبه3 بباب كرم يكرم على ما قلنا في نعِم ينعِم. وكذلك مِت تموت ودِمت تدوم وإنما تدوم وتموت على من قال مُت ودُمت وأما مِت ودِمت فمضارعهما تمات وتدام قال:
يا ميّ4 لا غرو ولا ملاما ... في الحب إن الحب لن يداما
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "هزه يهزه" وما أثبت هو الصواب.
2 كذا في أ، ب، ش، وفي ج: "جاء".
3 كذا في أوفي ش، ب: "فشبه".
4 كذا في أ. وفي ش, ب: "من" وفي الجمهرة 3/ 485 بدل الشطر الأول:
ياليل لا عذل ولا ملاما

(1/381)


وقال:
بنيَّ1 يا سيدة البنات ... عيشي ولا يؤمن أن تماتي
ثم تلاقى صاحبا اللغتين فاستضاف هذا بعض لغة هذا، وهذا بعض لغة هذا، فتركبت لغة ثالثة. قال الكسائي: سمعت من أخوين من بني سليم 2 نما ينمو, ثم سألت بني سليم عنه فلم يعرفوه. وأنشد أبو زيد لرجل من بني عقيل:
ألم تعلمي ما ظلت بالقوم واقفا ... على طلل أضحت معارفه قفرا3
فكسروا الظاء في إنشادهم وليس من لغتهم.
وكذلك القول فيمن قال: شعر فهو شاعر, وحمض فهو حامض, وخثر فهو خاثر: إنما هي على نحو من هذا. وذلك أنه يقال: خَثُر وخَثَر, وحمُض وحمَض, وشعُر وشعَر وطهُر وطهَر فجاء شاعر وحامض وخاثر وطاهر على حمَض, وشعَر وخثَر وطهَر ثم استغني بفاعل عن "فعيل " وهو في أنفسهم وعلى بال من تصورهم. يدل على ذلك تكسيرهم لشاعر: شعراء لما كان فاعل هنا واقعًا موقع " فعيل " كسر تكسيره ليكون ذلك أمارة ودليلا على إرادته وأنه مغن عنه, وبدل منه كما صحح العواور4 ليكون دليلا على إرادة الياء في العواوير، ونحو ذلك.
__________
1 كذا في أ، ب. وهو ما في اللسان "موت"، وما في الجمهرة 3/ 485، وقال ابن دريد يعد إنشاده: "أراد بنبتي". وفي ش:
ينبتي سيدة البنات
ويبدو كأنها مصلحة وهو يوافق ما في الصحاح.
2 كذا في أ. وفي ب، ش: "من بني سليم يقولان".
3 هذه رواية البيت كما في أ. وقد ورد في ب، ش:
ألم تعلما ما ظلت بالقوم واقفا ... على طلل أضحت معالمه قفرا
4 أي في قوله:
وكحل العينين بالعواور
وانظر ص196 من هذا الجزء.

(1/382)


وعلى ذلك قالوا: عالم وعلماء -قال سيبويه 1: يقولها من لا يقول عليم- لكنه2 لما كان العلم إنما يكون الوصف به بعد المزاولة له وطول الملابسة صار كأنه غريزة, ولم يكن على أول دخوله فيه ولو كان كذلك لكان متعلمًا لا عالمًا فلما خرج بالغريزة إلى باب فعُل صار عالم في المعنى كعليم فكسر تكسيره ثم حملوا عليه ضده فقالوا: جهلاء كعلماء وصار علماء كحلماء لأنه العلم محلمة لصاحبه, وعلى ذلك جاء عنهم فاحش وفحشاء لما كان الفحش ضربًا من ضروب الجهل, ونقيضًا للحلم أنشد الأصمعي -فيما روينا عنه:
وهل علمت فحشاء جهله3
وأما4 غسا5 يفسى, وجبى يجبى, فإنه كأبى يأبى. وذلك أنهم شبهوا الألف في آخره بالهمزة في قرأ يقرأ وهدأ يهدأ. وقد قالوا غسى يغسى فقد يجوز أن يكون غسا يغسى من التركب6 الذي تقدم ذكره. وقالوا أيضًا جبى يجبى وقد أنشد أبو زيد:
يا إبلي ماذا مه فتأبِيَهْ
فجاء به على وجه القياس, كأتى يأتي. كذا رويناه عنه وقد تقدم7 ذكره، وأنني قد شرحت حال هذا الرجز في كتابي "في النوادر الممتعة".
__________
1 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "من يقولها لا يقول عليم". والذي في سيبويه 2/ 206: " ... وعلماء يقولها من لا يقول إلا عالم".
2 هذا من كلام ابن جني.
3 من رجز لصخير بن عمير في الأصمعيات 58 وبعده:
ممغوثة أعراضهم ممرطلة
وأورد اللسان هذا الشطر مع آخر في "مغث".
4 كذا في ش، ب، وفي أ: "فأما".
5 يقال: غسا الليل: أظلم.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "التركيب".
7 انظر ص333 من هذا الجزء.

(1/383)


واعلم أن العرب تختلف أحوالها في تلقي الواحد منها لغة غيره, فمنهم من يخف ويسرع1 قبول ما يسمعه، ومنهم من يستعصم فيقيم على لغته البتة, ومنهم من إذا طال تكرر لغة غيره عليه لصقت به, ووجدت في كلامه, ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قيل: يا نبيء الله! فقال: "لست بنبيء الله ولكنني نبيّ الله" , وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أنكر الهمز في اسمه فرده على قائله، لأنه2 لم يدر بم سماه, فأشفق أن يمسك على ذلك, وفيه شيء يتعلق بالشرع فيكون بالإمساك عنه مبيح محظور, أو حاظر مباح.
وحدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحي قال: اجتمع أبو عبد الله ابن الأعرابي وأبو زياد الكلابي على الجسر ببغداد فسأل أبو زياد أبا عبد الله عن قول النابغة الذبياني:
على ظهر مبناةٍ3 ...
فقال أبو عبد الله 4: النَّطع5, فقال أبو زياد: لا أعرفه, فقال: النطع فقال أبو زياد: نعم أفلا ترى كيف أنكر غير لغته على قرب بينهما.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "يسوغ".
2 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
3 هو من قوله:
كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه حصير نمقنه الصوانع
على ظهر مبناة جديد سيورها ... يطوف بها وسط اللطيمة بائع
والميناة -بفتح الميم وكسرها- تتخذ من الجلد بضم بعضه إلى بعض ويضع عليه التاجر أمنعته، وكانوا يضعون الحصير عليها يطوفون بها لبيعها.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "ابن الأعرابي".
5 يريد أنه سأله عن المبناة ما هي فقال: النطع بفتح النون، فأنكر ذلك إذ كان من لغته النطع بكسر النون، وأورد اللسان القصة في "نطع".
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "تراه".

(1/384)


وحدثني1 أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد عن أبي بكر محمد بن هارون الروياني عن أبي حاتم قال: قرأ علي أعرابي بالحرم: "طيبى لهم وحسن مآب", فقلت: طوبى, فقال: طيبى, قلت: طوبى, قال: طيبى. فلما طال علي الوقت قلت: طوطو, فقال: طي طي. أفلا ترى إلى استعصام هذا الأعرابي بلغته وتركه متابعة أبي حاتم.
والخبر المرفوع في ذلك وهو سؤال أبي عمرو أبا خيرة2 عن قولهم: استأصل الله عرقاتهم3, فنصب أبو خيرة التاء من "عِرقاتهم ", فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لان جلدك 4. وذلك أن أبا عمرو استضعف النصب بعد ما كان سمعها منه بالجر قال: ثم رواها فيما بعد أبو عمرو بالنصب والجر فإما أن يكون سمع النصب من غير أبي خيرة ممن يرضى عربيته وإما أن يكون قوي في نفسه ما سمعه من أبي خيرة من نصبها. ويجوز أيضًا أن يكون قد أقام الضعف في نفسه فحكى النصب على اعتقاده ضعفه, وذلك أن الأعرابي قد ينطق بالكلمة يعتقد أن غيرها أقوى في نفسه منها ألا ترى أن أبا العباس حكى عن عمارة أنه كان يقرأ: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} بالنصب, قال أبو العباس: فقلت له ما أردت؟ فقال: سابقٌ النهارَ, فقلت له فهلا قلته فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى. وقد ذكرنا هذه الحكاية للحاجة إليها في موضع آخر5، ولا تستنكر إعادة الحكاية, فربما كان في الواحدة عدة أماكن مختلفة يحتاج فيها إليها.
فأما قولهم: عقرت فهي عاقر فليس "عاقر " عندنا بجار على الفعل جريان قائم وقاعد عليه، وإنما هو اسم بمعنى النسب بمنزلة امرأة طاهر، وحائض، وطالق.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "حدثنا". وسبقت هذه القصة في ص76 وما بعدها.
2 أبو عمرو: هو ابن العلاء. وأبو خيرة: نهشل بن زيد، "انظر فهرست ابن النديم".
3 جمع عرقة وهي الأصل.
4 يريد أنه طال عهده بالبادية حيث الخشونة والقشف, وأثر فيه الحضر فنال ذلك من فصاحته. وانظر هذه القصة في مجالس ابن حنزاية "المجلس الثاني".
5 انظر ص126، 250 من هذا الجزء.

(1/385)