الخصائص المجلد الثاني
باب في ترك الأخذ عن أهل المدر ك ما أخذ عن
أهل الوبر
...
بسم الله الرحمن الرحيم
باب في ترك الأخذ عن أهل المَدَرِ كما أُخِذَ عن أهل الوبر:
علّة امتناع ذلك ما عَرَضَ للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال
والفساد والخطل, ولو عُلِمَ أن أهل مدينةٍ باقون على فصاحتهم1، ولم
يعترض شيء من الفساد للغتهم, لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر.
وكذلك أيضًا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدَرِ من اضطراب
الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها2، لوجب رفض لغتها وترك
تلقي ما يَرِدُ عنها. وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا؛ لأنا لا نكاد نرى
بدويًّا فصيحًا. وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه لم نكد نعدم ما يفسد
ذلك ويقدح فيه وينال ويغُضّ منه.
وقد كان طرأ علينا أحد من يدَّعي الفصاحة البدوية ويتباعد عن الضعفة3
الحضرية فتلقينا أكثر كلامه بالقبول له, وميزناه تمييزًا حَسُنَ4 في
النفوس موقعه،
__________
1 ذكر صاحب القاموس في "عكد" أن باليمن قرب زبيد جبلًا يسمى: عكادا,
أهله باقون على اللغة الفصيحة. ويقول السيد مرتضى الزبيدي شارح
القاموس: إنهم لا يزالون على ذلك إلى زمنه، وإنهم لا يسمحون للغريب أن
يقيم عندهم أكثر من ثلاث ليالٍ خوفًا على لسانهم. والسيد مرتضى كانت
وفاته سنة 1205هـ، وله ترجمة واسعة في تاريخ الجبرتي، ويقول ياقوت في
معجم البلدان في ترجمة "عكوتان": وجبلًا عكاد فوق مدينة الزرائب,
وأهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم, لم تتغير لغتهم
بحكم أنهم لا يختلطوا بغيرهم من الحاضرة في مناكحتهم، وهم أهل قرار لا
يظعنون عنه ولا يخرجون منه.
2 كذا في ش، ب. وفي أ "انتقاص".
3 الضعفة هنا: قلة الفطنة.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "أحسن".
(2/7)
إلى أن أنشدني يومًا شعرًا لنفسه يقول في
بعض قوافيه: أشئؤها1، وادأؤها2 "بوزن أشععها وأدععها"3 فجمع بين
الهمزتين كما ترى, واستأنف من ذلك ما لا أصل له ولا قياس يسوغه. نعم
وأبدل إلى الهمز حرفًا لا حظَّ في الهمز له بضد ما يجب؛ لأنه لو التقت
همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما, فكيف أن يقلب إلى الهمز قلبًا
ساذجًا عن غير صنعة ما لا حظّ له في الهمز, ثم يحقق الهمزتين جميعًا!
هذا ما لا يتيحه قياس ولا ورد بمثله سماع.
فإن قلت: فقد جاء عنهم خطائئ ورزائئ, ودريئة4 ودرائئ، ولفيئة5 ولفائئ,
وأنشدوا قوله:
فإنك لا تدري متى الموت جائئ ... إليك ولا ما يحدث الله في غد6
قيل: أَجَلْ, قد جاء هذا, لكن الهمز الذي فيه عرض عن صحة صنعة, ألا ترى
أن عين "فاعل" مما هي فيه حرف علة لا تأتي إلّا مهموزة نحو: قائم
وبائع, فاجتمعت همزة "فاعل" "وهمزة لامه"7 فصححها بعضهم في بعض
الاستعمال, وكذلك8 خطائئ وبابها: عرضت همزة "فعائل" عن وجوب؛ كهمزة
سفائن ورسائل،
__________
1 هومضارع شأى القوم: سبقهم، وصوابه: أشآها.
2 بالذال المهملة في معظم الأصول، وفي م: "أذاؤها", والأول من دأرت
للصيد إذا ختلته، وكأنه حذف التيار، والثاني من ذأوت الإبل: طردتها
وسقتها سوفًا شديدًا وصوابه، أدآها، وأذآها.
3 كذا في ش، ب. وسقط هذا في أ.
4 الدريئة: ما يستتر به عن الصيد ليختل: من بعير وغيره.
5 اللفيئة: البضعة من اللحم لا عظم فيها.
6 قوله: "إليك ولا ما يحدث" كذا في أ، ب. وفي ش: "إليك وماذا تحدث".
7 في الأصول: "ولامه همزة", وعلى هذا "همزة" حال من "لامه", وما أثبته
أنسب.
8 كذا في أ، ب. وفي ش: "فكذلك".
(2/8)
واللام مهموزة, فصحَّت في بعض الأحوال بعد
وجوب اجتماع الهمزتين. فأما أشئؤها وأدأؤها فليست الهمزتان فيهما
بأصلين1, وكيف تكونان أصلين2 وليس لنا أصل عينه ولامه همزتان ولا
كلاهما أيضًا عن وجوب. فالناطق بذلك بصورة من جرَّ الفاعل أو رفع
المضاف إليه, في أنه لا أصل يسوِّغه, ولا قياس يحتمله, ولا سماع ورد
به. وما كانت هذه سبيله وجب اطراحه والتوقف عن لغة من أورده. وأنشدني
أيضًا شعرًا لنفسه يقول فيه: كأن فاي. . . فقوي في نفسي بذلك بعده عن
الفصاحة وضعفه عن القياس الذي ركبه. وذلك أن ياء المتكلم تكسر3 أبدًا
ما قبلها, ونظير كسرة الصحيح كون هذه الأسماء الستة بالياء نحو: مررت
بأخيك وفيك. فكان قياسه أن يقول: "كأن فيَّ" بالياء كما يقول: "كأن
غلامي".
ومثله سواءً ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: كسرت فيّ، ولم يقل "فاي",
وقد قال الله سبحانه: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} 4 ولم يقل: إن5 أباي.
وكيف يجوز إن أباي بالألف وأنت لا تقول: إن غلامي قائم, وإنما تقول:
كأن غلامي بالكسر. فكذلك تقول: "كأن فيّ" بالياء, وهذا واضح. ولكن هذا
الإنسان حمل بضعف قياسه قوله: "كأن فاي" على قوله: كأن فاه, وكأن فاك,
وأَنْسى ما توجبه ياء المتكلم من كسر ما قبلها وجعله ياء.
فإن قلت: فكان يجب على هذا أن تقول: هذان غلاميّ, فتبدل ألف التثنية
ياء لأنك تقول: هذا غلامي فتكسر الميم, قيل: هذا قياس لعمري, غير أنه
عارضه قياس أقوى منه فتُرِكَ إليه. وذلك أن التثنية ضرب من الكلام
__________
1 في م: "بأصليتين".
2 في م: "أصليتين".
3 كذا في أ. وفي ش، ب "يكسر".
4 آية: 25 سورة القصص.
5 ثبت هذا الحرف في أ، ب. وسقط في سائر الأصول.
(2/9)
قائم برأسه, مخالف للواحد والجميع1؛ ألا
تراك تقول: هذا وهؤلاء, فتبني فيهما, فإذا صرت إلى التثنية جاء مجيء
المعرب فقلت: هذان وهذين. وكذلك الذي والذين، فإذا صرت إلى التثنية
قلت: اللذان، واللذين. وهذا واضح.
وعلى أن هذا الرجل الذي أومأت إليه من أمثل من رأيناه ممن جاءنا مجيئه,
وتحلَّى عندنا حليته. فأما ما تحت ذلك من مرذول أقوال هذه الطوائف
فأصغر حجمًا وأنزل قدرًا أن يُحْكَى في جملة ما يُثْنَّى2.
ومع هذا فإذا كانوا قد رووا3 أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلًا
يلحن في كلامه فقال: "أرشدوا أخاكم, فإنه قد ضل"، ورووا4 أيضًا أن أحد
ولاة عمر -رضي الله تعالى- عنه كتب إليه كتابًا لحن فيه, فكتب إليه
عمر: أن قنع كاتبك سوطًا, وروي من حديث علي5 -رضي الله عنه- مع
الأعرابي الذي أقرأه المقرئ: {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 6 حتى قال الأعرابي: برئت من رسول الله7،
فأنكر ذلك عليُّ -رضي الله عنه- ورسم لأبي الأسود من عمل النحو ما
رسمه: ما لا8 يجهل موضعه, فكان [ما] 9 يروى من أغلاط الناس منذ ذاك إلى
أن شاع
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "الجمع".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "ينثي" وما أثبت هو الصواب، ويثني من ثنا
الحديث: أشاعه وأظهره.
3 انظر في هذا الحديث كنزل العمال 1/ 151.
4 انظر المزهر في النوع الرابع والأربعين 2/ 246. ويعني بأحد الولاة
أبا موسى الأشعري.
5 في تفسير القرطبي 1/ 24، وفي البحر 5/ 6 أن هذه القصة كانت مع عمر
-رضي الله عنه، وفي ابن خلكان في ترجمة أبي الأسود. وفي فهرست ابن
النديم في صدر المقالة الثانية أن القصة مع أبي الأسود نفسه.
6 الآية: 3 سورة التوبة.
7 يجب أن يكون تتمة الكلام المتروكة، إن برئ الله منه، وفي القرطبي أن
الأعرابي قال: أو قد برئ الله من رسوله! فإن يكن الله برئ من رسوله
فأنا أبرأ منه.
8 "ما لا يجهل موضعه" بدل من قوله: "ما رسمه".
9 زيادة يقتضيها السياق خلت منها الأصول.
(2/10)
واستمرَّ فساد هذا الشأن مشهورًا1 ظاهرًا,
فينبغي2 أن يستوحش من الأخذ عن كل أحد إلّا أن تقوى لغته وتشيع فصاحته.
وقد قال الفرَّاء في بعض كلامه: إلّا أن تسمع شيئًا من بدوي فصيح
فتقوله. وسمعت الشجري أبا عبد الله غير دفعة يفتح الحرف الحلقي في نحو:
"يعدو"3 و"هو محموم" ولم أسمعها4 من غيره من عُقَيل, فقد كان يرد علينا
منهم من يؤنس به ولا يبعد عن الأخذ بلغته. وما أظن الشجري إلّا استهواه
كثرة5 ما جاء عنهم من تحريك الحرف6 الحلقي بالفتح إذا انفتح ما قبله في
الاسم على مذهب البغداديين؛ نحو قول كُثَيِّر:
له نَعَل لا تطبّي الكلب ريحها ... وإن جُعِلَت وسط المجالس شُمَّتِ7
وقول أبي النجم:
وجبلًا طال معدًا فاشمخرَّ ... أشمّ لا يسطِيعه الناس الدّهر8
__________
1 خبر كان في قوله: "فكان ما يروى".
2 جواب الشرط في قوله: "فإن كانوا قد رووا أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- سمع رجلًا إلخ".
3 كذا في أ. وفي ب، ش، ج: "يغدر" وهو يوافق ما في اللسان في "نعل". وقد
أورد القصة المؤلف في المحتسب عند الكلام على قوله تعالى في سورة آل
عمران: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} قال: "وسمعت الشجري يقول في بعض
كلامه: أنا محموم -بفتح الحاء. وقال مرة وقد رسم له الطبيب أن يمص
التفاح ويرمي بثغله فقال: إني لأبغي مصَّه وعليته تغذو" فإن كان ما هنا
"يغدو، أو يعدو" صحيحًا فقد يجوز أن يكون سمع منه ابن جني كل هذا.
4 في م: "اسمعهما".
5 في م: "أكثر".
6 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "حرف".
7 "جعلت" كذا في أصول الخصائص. وفي اللسان "نعل": "وضعت" وأطباه: دعاه
واستماله، يريد أنها من جلد مدبوغ، فلا يطمع فيها الكلب، وذلك أن الكلب
إذا ظفربجلد غير مدبوغ أكله لما فيه من فضلة اللحم. والبيت من قصيدة في
مرئية عبد العزيز بن مروان، يصفه برقة نعله وطيب ريحها. وانظر الديوان
2/ 112.
8 قبله: إن لبكر عدد إلّا يحتفر. وانظر المنصف نسخة التيمورية 59.
(2/11)
وهذا قد قاسه الكوفيون, وإن كنا نحن لا
نراه قياسًا, لكن مثل "يعدو وهو محموم"1 لم يرو عنهم فيما علمت. فإياك
أن تَخْلُد إلى كل ما تسمعه, بل تأمل حال مورده, وكيف موقعه من
الفصاحة, فاحكم عليه وله2.
__________
1 ثبت حرف الواو في ش، ب. وسقط في أ.
2 في م: "وله باب" ويبدو أن كلمة "باب" انتقلت في قلم الناسخ من
الترجمة الآتية.
(2/12)
باب اختلاف اللغات
وكلها حجة:
اعلم أن سعة القياس تبيح1 لهم ذلك ولا تحظره عليهم, ألا ترى أن لغة
التميميين في ترك إعمال "ما" يقبلها2 القياس, ولغة الحجازيين في
إعمالها كذلك؛ لأن لكل واحد من القومين ضربًا من القياس يؤخذ به ويخلد
إلى مثله. وليس لك أن تردَّ إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحق
بذلك من وسيلتها. لكن غاية مالك في ذلك أن تتخيّر إحداهما فتقويها على
أختها, وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسابها. فأما ردّ
إحداهما بالأخرى فلا. أوَلا ترى إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم:
"نزل القرآن بسبع لغات كلها كافٍ شافٍ" 3.
هذا حكم اللغتين إذا كانتا في الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين
أو كالمتراسلتين.
فأمَّا أن تَقِلَّ إحداهما جدًّا وتكثر4 الأخرى جدًّا, فإنك تأخذ
بأوسعهما رواية وأقواهما قياسًا, ألا تراك لا تقول: مررت بك ولا المال
لك, قياسًا على قول قضاعة: المال له ومررت به, ولا تقول أكرمتُكِش ولا
"أكرمتكس"7 قياسًا على لغة من قال: مررت بكش, وعجبت منكِس.
__________
1 في م: "تنيح".
2 في م: "يمليها".
3 ورد أصل هذا الحديث في حديث طويل في البخاري في كتاب فضائل القرآن.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "أو".
5 كذا في ب، ج. وسقط هذا في أ.
(2/12)
حدَّثنا أبو بكر محمد بن الحسن, عن أبي
العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال 1: ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة
تميم, وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن, وتضجع قيس، وعجرفية ضبة, وتلتلة
بهراء.
فأما عنعنة تميم فإنَّ تميمًا تقول في موضع أن: عن, تقول 2: عنَّ عبد
الله قائم.
وأنشد3 ذو الرمة عبد الملك:
أعَنْ ترسّمت من خرقاء منزلة4
قال الأصمعي: سمعت5 ابن هرمة6 ينشد هارون الرشيد 7:
أعَنْ تغنَّت على ساقٍ مطوَّقةٌ ... وَرْقَاءُ تدعو هديلًا فوق أعوادِ
وأما تلتلة بهراء فإنهم يقولون: تِعلمون وتِفعلون وتِصنعون -بكسر أوائل
الحروف8.
وأما9 كشكشة ربيعة فإنما يريد قولها مع كاف ضمير المؤنث: إنكش ورأيتكش
وأعطيتكش؛ تفعل هذا في الوقف، فإذا وصلت أسقطت الشين.
__________
1 هذا الخبر في مجالس ثعلب 100. وانظر الخزانة 4/ 495.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "وتقول".
3 ثبت ما بين القوسين في ش، ب، ج. وسقط في أ.
4 عجزه: "ماء الصبابة من عينيك مسجوم" وهو مطلع قصيدة له في ديوانه
567، وانظر الخزانة 4/ 495.
5 كذا في أ. وفي ش, ب: "قال وسمعت" وما أثبت هو الصواب، فإ، ثعلبًا لم
يدرك هارون، وما في ش، ب يوافق ما في المجالس. وقد تعقب هذا محققها
الأستاذ عبد السلام هارون, وأورده المؤلف في سرّ الصناعة "حرف العين",
وقال في نهاية السند عند "أحمد بن يحيى": "أحسبه عن الأصمعي".
6 في المجالس: "وكان ابن هرمة رُبِّيَ في ديار تميم".
7 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
8 ينتهي هنا ما في المجالس.
9 من قوله: "وأما كشكشة ربيعة" إلى قوله: "وهذا في الوقف دون الوصل".
ثبت في أ، وسقط في سائر الأصول.
(2/13)
وأما كسكسة هوازن فقولهم أيضًا: أعطيتكس
ومنكس وعنكس, وهذا في الوقف دون الوصل1.
فإذا كان الأمر في اللغة المعوّل عليها هكذا, وعلى هذا فيجب أن يقل
استعمالها, وأن يتخير ما هو أقوى "وأشيع"2 منها, إلّا أن إنسانًا لو
استعملها لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه كان يكون مخطئًا لأجود
اللغتين. فأمَّا إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه، غير
منعيّ عليه. وكذلك إن قال: يقول على قياس من لغته كذا كذا, ويقول على
مذهب من قال كذا كذا.
وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغةٍ من "لغات العرب"3 مصيب غير
مخطئ, وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه.
__________
1 هذا من كلام ابن جني، وانظر الخزانة.
2 كذا في أ، وسقط في ش، ب.
3 في م: "اللغات العربية".
(2/14)
باب في العربي
الفصيح ينتقل لسانه:
اعلم أن المعمول عليه1 في نحو هذا أن تنظر حال ما انتقل إليه لسانه,
فإن كان إنما انتقل من لغته2 إلى لغة أخرى مثلها فصيحة وجب أن يؤخذ
بلغته التي انتقل إليها كما يؤخذ بها قبل انتقال لسانه إليها, حتى كأنه
إنما3 حضر غائب من أهل اللغة التي صار إليها, أو نطق ساكت من أهلها.
فإن4 كانت اللغة التي انتقل لسانه إليها فاسدة لم يؤخذ بها "ويؤخذ
بالأولى"5، حتى كأنه لم يزل من أهلها. وهذا واضح.
__________
1 في م: "المعول".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "لغة".
3 الضمير للحال والشأن.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "وإن".
5 زيادة من المزهر 1/ 154, ومن الاقتراح 23 طبع الهند.
(2/14)
فإن قلت: فما يؤمنك أن تكون كما وجدت في
لغته فسادًا بعد أن لم يكن فيها فيما علمت1، أن يكون فيها فساد آخر
فيما لم تعلمه. فإن أخذت به كنت آخذًا بفاسد2 عَرُوض3 ما حدث فيها من
الفساد فيما علمت, قيل: هذا يوحشك من كل لغة صحيحة؛ لأنه يتوجه4 منه أن
تتوقف عن الأخذ بها؛ مخافة أن يكون فيها زيغ حادث لا تعلمه الآن، ويجوز
أن تعلمه بعد زمان، كما علمت من حال غيرها فسادًا حادثًا لم يكن فيما
قبل فيها. وإن اتجه هذا انخرط عليك منه ألّا تطيب نفسًا بلغة وإن كانت
فصيحة مستحكمة. فإذا كان أخذك5 بهذا مؤدّيًا إلى هذا رفضته ولم تأخذ
به، وعملت على تلقي كل لغة قوية معربة بقبولها واعتقاد صحتها. وألّا
توجه ظِنَّة إليها, ولا تسوء رأيًا في المشهود تظاهره من اعتدال أمرها.
ذلك كما يُحْكَى6 من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خَيْرة لما سأله
فقال: كيف تقول: استأصل الله عِرْقَاتهم, ففتح أبو خيرة التاء, فقال له
أبو عمرو: هيهات أبا خيرة؛ لان جلدك! فليس لأحد أن يقول: كما فسدت لغته
في هذا ينبغي أن أتوقف عنها في غيره "لما حذرناه"7 قبل ووصفنا.
فهذا هو القياس, وعليه يجب أن يكون العمل.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب، م زيادة "فكذلك يمكن" بعد "علمت".
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "بفساد".
3 العروض الطريقة؛ تقول: خذ في عروض آخرين الكلام. وللعروض النظير،
تقول: هذه المسألة عروض هذه, وكلا المعنيين سائغ هنا، وعلى الأول
المعنى: شأن ما حدث، وعلى الثاني غير ما حدث.
4 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "يلزم".
5 كذا في أ، وفي ش، ب: "بها".
6 انظر في هذه القصة ص 385 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "كما حددنا".
(2/15)
باب في العربي يسمع لغة غيره, أيراعيها
ويعتمدها أم يلغيها ويطرح حكمها؟:
أخبرنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان1 عن أبي زيد
قال: سألت خليلًا2 عن الذين قالوا: مررت بأخواك, وضربت أخواك, فقال:
هؤلاء قولهم على قياس الذين قالوا في ييأس: ياءس, أبدلوا الياء لانفتاح
ما قبلها. قال -يعني الخليل-3: ومثله قول العرب من أهل الحجاز: "ياتزن4
وهم ياتعدون, فروا من يوتزن ويوتعدون". فقوله: أبدلوا الياء لانفتاح ما
قبلها يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون يريد: أبدلوا الياء في ييأس,
والآخر: أبدلوا الياء في أخويك ألفًا, وكلاهما يحتمله القياس ههنا, ألا
ترى أنه يجوز أن يريد أنهم أبدلوا ياء أخويك في لغة غيرهم ممن يقولها
بالياء وهم أكثر العرب, فجعلوا مكانها ألفًا في لغتهم استخفافًا للألف,
فأمَّا في لغتهم هم فلا. وذلك أنهم هم لم ينطقوا قط بالياء في لغتهم
فيبدلوها ألفًا ولا غيرها, ويؤكد ذلك عندك أن أكثر العرب يجعلونها في
النصب والجرِّ ياء. فلما كان الأكثر5 هذا شاع على أسماع بلحرث6،
فراعوه, وصنعوا لغتهم فيه, ولم تكن الياء في التثنية شاذّة ولا دخيلة7
في كلام العرب فيقل الحفل بها, ولا ينسب بَلْحرِثِ إلى أنهم راعوها, أو
تخيروا8 للغتهم9 عليها.
__________
1 انظر تصريف المازني، الباب4 "باب الباء والواو اللتين هما فاءان".
2 كذا في أ، ب، ج. وفي ش "الخليل" ويبدو أنها مصلحة من خليلًا. وهو
يعني الخليل بن أحمد.
3 كذا في ب، ش، وسقط في أ، ج.
4 في م: "ياتزرون وياتعدون، فزرا من بوتزرون، "ويوتعدون".
5 في م: "الآمر".
6 يريد بني الحارث.
وهذا كما يقال في بني العنبر: بلعنبر، وحذف نون "بني " إذا التقى بألف
قمرية في أسماء القبائل، قال سيبويه 2/ 430: "وكذا يفعلون بكل قبيلة
تظهر فيها لام المعرفة، فأمَّا إذا لم تظهر اللام فيها فلا يكون ذلك",
وبنو الحارث بن كعب قوم من اليمن.
7 في م: "دخيلا".
8 كذا في أ، وفي ش، ب: "ر".
9 كذا في أ. وفي ش، ب: "لغتهم".
(2/16)
فإن قلت: فلعلَّ الخليل يريد أن من قال:
مررت بأخواك, قد كان مرة يقول: مررت بأخويك "كالجماعة"1 ثم رأى "فيما"2
بعد أن قلب هذه2 الياء ألفًا للخفة أسهل عليه وأخف، كما قد2 تجد العربي
ينتقل لسانه من لغته إلى لغة أخرى, قيل: إن الخليل إنما أخرج3 كلامه
على ذلك مخرج التعليل للغة من نطق بالألف في موضع جرّ التثنية ونصبها,
لا على الانتقال من لغة إلى أخرى. وإذا كان قولهم: مررت بأخواك, معللًا
عندهم بالقياس, فكان ينبغي أن يكونوا قد سبقوا إلى ذلك منذ أول أمرهم؛
لأنهم لم يكونوا قبلها على ضعف قياس ثم تداركوا أمرهم فيما بعد فقوي
قياسهم. وكيف كانوا يكونون في ذلك على ضعف من القياس والجماعة عليه!
أفتُجمع كافَّة اللغات على ضعف ونقص حتى ينبغ نابغ منهم فيردَّ لسانه
إلى قوة القياس دونهم! نعم ونحن أيضًا نعلم أن القياس مقتضٍ لصحة لغة
الكافة, وهي الياء في موضع الجر والنصب, ألا ترى أن في ذلك فرقًا بين
المرفوع وبينهما, وهذا هو القياس في التثنية, كما كان موجودًا في
الواحد. ويؤكده لك أنَّا نعتذر لهم4 من مجيئهم بلفظ المنصوب في التثنية
على لفظ المجرور. وكيف يكون القياس أن تجتمع أوجه الإعراب الثلاثة على
صورة واحدة! وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي "سر الصناعة"5 بما هو لاحق
بهذا الموضع ومقوله.
فقد علمت بهذا أن صاحب لغة قد راعى6 لغة غيره, وذلك لأن العرب وإن
كانوا كثيرًا منتشرين, وخلقًا عظيمًا في أرض الله غير متحجرين7
__________
1 كذا في ش، ب، وسقط في أ، وثبت في م بعد قوله: "ثم رأى".
2 كذا في أ. وسقط في ب، ش.
3 في م: "خرج".
4 ثبت في أ، وسقط في سائر الأصول.
5 انظر أواخر الكتاب في حرف الألف اللينة.
6 في م "يراعي".
7 كذا في ش. وفي أ: "متحجزين"، وفي ب غير واضحة.
(2/17)
ولا متضاغطين, فإنهم بتجاورهم1 وتلاقيهم
وتزاورهم يجرون مجرى الجماعة في دار واحدة. فبعضهم يلاحظ "صاحبه"2
ويراعي أمر لغته, كما يراعي ذلك من مُهمّ أمره. فهذا هذا.
وإن كان الخليل أراد بقوله: تقلب3 الياء ألفًا: أي في ييأس, فالأمر
أيضًا عائد إلى ما قدمنا, ألا ترى أنه إذا شبَّه مررت بأخواك, بقولهم:
ييأس وياءس, فقد راعى أيضًا في مررت بأخواك لغة من قال: مررت بأخويك.
فالأمران4 إذًا صائران إلى موضع واحد. ولهذا نظائر في كلامهم, وإنما
أضع منه رسمًا ليرى به غيره بإذن الله.
وأجاز أبو الحسن أن يكون كانت العرب قِدْمًا تقول: مررت بأخويك وأخواك
جميعًا, إلّا أن الياء كانت أقيس للفرق فكثر استعمالها, وأقام الآخرون
على الألف, أو أن يكون الأصل قبله الياء في الجر والنصب, ثم قلبت
للفتحة فيها ألفًا في لغة بلحرث بن كعب. وهذا تصريح بظاهر قول الخليل
الذي قدمناه.
ولغتهم عند أبي الحسن أضعف من "هذا جحر ضب خرب" قال: لأنه قد كثر عنهم
الاتباع، نحو: شدّ5 وضرّ6 وبابه, فشبه هذا به.
ومن هذا حذف بني تميم ألف "ها" من قولهم "هَلُمَّ" لسكون اللام في لغة
أهل الحجاز إذا قالوا "المم", وإن لم يقل ذلك بنو تميم, أو أن يكونوا
حذفوا الألف لأن أهل الحجاز حذفوها. " و"7أيًّا ما كان فقد نظر فيه بنو
تميم إلى أهل الحجاز.
__________
1 كذا في أ، ج، وفي ش، ب: "بتحاورهم".
2 هذه الزيادة على وفق ما في ح. وقد خلت منها أ، ب، ش.
3 كذا في أ. وفي ب، ش، ج، "فقلب".
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "فالأخوان".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "سد".
6 كذا في ج, وفي ش, ب: "ضن" وفي أغير واضحة.
7 زيادة اقتضاها السياق، وقد خلت منها الأصول.
(2/18)
ومن ذلك قول بعضهم في الوقف "رأيت رجلأ"
بالهمزة. فهذه الهمزة بدل من الألف في الوقف في لغة من وقف بالألف لا
في لغته هو؛ لأن من لغته هو أن يقف بالهمزة1. أفلا تراه كيف راعى لغة
غيره فأبدل من الألف همزة.
__________
1 في م: "بالهمز" وانظر في هذه اللغة الكتاب 2/ 285.
(2/19)
|