الخصائص باب في الامتناع من
تركيب ما يخرج عن السماع:
سألت أبا علي -رحمه الله- فقلت: من أجرى المضمر مجرى المظهر في قوله:
"أعطيتكمه"1 فأسكن الميم مستخِفًّا كما أسكنها في قوله: أعطيتكم
درهمًا, كيف قياس قوله "على قول الجماعة "2: أعطيته درهمًا إذا اضمر
الدرهم على قول الشاعر3:
له زجَل كأنه صوت حادٍ ... إذا طلب الوَسِيقة أو زَمير
إذا وقع ذلك قافية؟ فقال: "لا يجوز ذلك"5 في هذه المسألة, وإن جاز في
غيرها, لا لشيء يرجع إلى نفس حذف الواو من قوله: "كأنه صوت حادٍ" لأن
هذا أمر قد شاع عنهم, وتعولمت فيه لغتهم, بل لقرينة انضمّت إليه ليست4
مع ذلك, ألا ترى أنه كان يلزمك على ذلك أن تقول: أعطيتهه خلافًا على
قول الجماعة: أعطيتهوه. فإن جعل الهاء الأولى رويًّا والأخرى وصلًا5،
لم يجز ذلك؛ لأن الأولى ضمير والتاء متحركة قبلها, وهاء الضمير لا تكون
رويًّا إذا تحرك ما قبلها.
__________
1 انظر الكتاب 1/ 389.
2 هذه العبارة في الأصول، وهي قلقة في هذا المكان، ولو حذفت وضح
المراد، وقد يكون الأصل: "على خلاف قول الجماعة".
3 انظر ص372 من الجزء الأول.
4 كذا في أ، وفي ش، ب بدل هذا: "هذا لا يجوز".
5 كذا في أ، وفي ش، ب: "فصلًا".
(2/19)
فإن قلت: أجعل الثانية رويًّا, فكذلك
أيضًا؛ لأن الأولى قبلها متحركة. فإن قلت: أجعل التاء رويًّا والهاء
الأولى وصلًا1، قيل: فما تصنع بالهاء الثانية؟ أتجعلها خروجًا؟ هذا
محال؛ لأن الخروج لا يكون إلّا أحد الأحرف الثلاثة: الألف والياء
والواو. فإذا أدَّاك تركيب هذه المسألة في القافية إلى هذا الفساد وجب
ألا يجوز ذلك أصلًا. فأما في غير القافية فشائعة جائزة3. هذا محصول
معنى أبي عليّ, فأما نفس لفظه فلا يحضرني الآن حقيقة صورته.
وإذا كان كذلك وجب إذا وقع, نحو: هذا قافية أن تراجع فيه اللغة الكبرى,
فيقال: أعطيتهوه البتَّة فتكون الواو ردفًا، والهاء بعدها رويًّا "وجاز
أن يكون بعد الواو رويًّا"3 لسكون ما قبلها.
ومثل ذلك في الامتناع أن تضمر زيدًا من قولك: هذه عصا زيدٍ على قول من
قال:
وأشرب الماء ما بي نحوه عَطَشٌ ... إلّا لأن عيونه سيلُ واديها4
لأنه كان يلزمك على هذا أن تقول: هذه عصاه, فتجمع بين ساكنين في الوصل،
فحينئذ ما تضطر إلى مراجعة لغة من حرَّك الهاء في نحو هذا بالضمة وحدها
أو بالضمة والواو، بعدها فتقول: هذه عصاه فاعلم, أو عصا هو فاعلم، على
قراءة من قرأ {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} 5 و {فَأَلْقَى عَصَاهُ} 6 ونحوه.
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: فصلًا".
2 كذا في أ. وفي ش، ب "فسائغة، وفي ط "فتتابعه جائز".
3 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
4 انظر ص372 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
5 آية: 30 سورة الحاقة.
6 آية 107 سورة الأعراف، وآية 32 سورة الشعراء.
(2/20)
ونحو من ذلك أن يقال لك: كيف تضمر "زيدًا"
من قولك: مررت بزيد وعمرو, فلا يمكنك أن تضمره هنا, والكلام على هذا
النضد حتى تغيره فتقول: مررت به وبعمرو, فتزيد حرف الجر لما أعقب
الإضمار من العطف على المضمر المجرور, بغير إعادة الجار1.
وكذلك لو قيل لك: كيف تضمر اسم الله تعالى في قولك: والله لأقومنَّ
ونحوه, لم يجز لك حتى تأتي بالباء التي هي الأصل فتقول: به لأقومنَّ,
كما أنشده أبو زيد من قول الشاعر 2:
ألا نادت أُمامةُ باحتمال ... لتِحزنني فلا بك ما أبالي
وكإنشاده أيضًا:
رأى برقًا فأوضع فوق بكر ... فلا بك ما أسال ولا أغاما3
وكذلك لو قيل لك: أضمر ضاربًا وحده من قولك: هذا ضارب زيدًا, لم يجز؛
لأنه كان يلزمك عليه أن تقول: هذا هو زيدًا, فتعمل المضمر وهذا مستحيل.
فإن قلت فقد تقول: قيامك أمسِ حسن، وهو اليوم قبيح، فتعمل4 في اليوم
"هو"،
__________
1 كذا في أ. وفي ش: "حرف الجر" وفي ب: "الجر".
2 هو غوية بن سلمى بن ربيعة, من كلمة له في الحماسة، وبعده:
فسيرى ما بدالك أو أقيمي
فأيا ما أتيت فعن تقال
وانظر التبريزي طبعة بولاق 3/ 3.
3 نسبه: أبو زيد في النوادر 146 لعمرو بن يربوع بن حنظلة. وقد أورد فيه
قصة مع زوجه الجنيه" السعلاة". وأورد هذا البكري في اللآلي 703, وقد
أورد البيت معزوًا نقلًا عن أبي زيد بن دريد في الجمهرة 152، وترى
القصة في الحيوان بتحقيق الأستاذ عبد السلام هرون 1/ 186. وقوله: "ولا
أغاما" كذا في أصول الخصائص. وفي النوادر: "وما أغاما".
4 هذا على ما يراه المؤلف وشيخه الفارسي والرماني من البصريين, فأما
سائر البصريين فيمنعون هذه المسألة؛ والكوفيون يجيزونها. وانظر
الأشموني والتصريح في مبحث إعمال المصدر، والارتشاف الورقة 353أ.
(2/21)
قيل: في هذا أجوبة: أحدها أن الظرف يعمل
فيه الوهم مثلًا, كذا عهد إلي أبو علي -رحمه الله- في هذا. وهذا لفظه
لي فيه البتة. والآخر أنه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه.
ولا تقول1 على هذا: ضربك زيدًا حسن وهو عمرًا قبيح؛ لأن الظرف يجوز فيه
من الاتساع ما لا يجوز في غيره. وثالث: وهو أنه قد يجوز أن يكون
"اليوم" من قولك: قيامك أمس حسن وهو اليوم قبيح, ظرفًا لنفس "قبيح"
يتناوله فيعمل فيه. نعم وقد يجوز أن يكون أيضًا حالًا للضمير الذي في
قبيح, فيتعلق حينئذ بمحذوف. نعم وقد يجوز أن يكون أيضًا حالًا من هو,
وإن تعلق بما العامل فيه قبيح؛ لأنه قد يكون العامل في الحال غير
العامل في ذي الحال. نحو قول الله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا}
2 فالحال ههنا من الحق, والعامل فيه3 " هو " وحده أو "هو " والابتداء
الرافع له. وكلًّا ذينك لا ينصب الحال, وإنما جاز أن يعمل في الحال غير
العامل في صاحبها, من حيث كانت ضربًا من الخبر, والخبر العامل فيه غير
العامل في المخبر عنه. فقد عرفت بذلك فرق ما بين المسألتين4.
وكذلك لو قيل لك: أضمر رجلًا من قولك: رب رجلٍ مررت به لم يحز "لأنك
تصير"5 إلى أن تقول: ربه مررت به, فتعمل رب في المعرفة. فأما قولهم:
ربه رجلًا وربها امرأة, فإنما جاز ذلك لمضارعة هذا المضمر للنكرة؛ إذ
كان إضمارًا على غير تقدم ذكر, ومحتاجًا إلى التفسير, فجرى تفسيره مجرى
الوصف له.
__________
1 حق هذا أن يربط بالوجه الأول.
2 آية: 91 سورة البقرة.
3 أي: في الحق.
4 هما قولك: هذا هو زيدًا, تريد: هذا ضارب زيدًا، وهي ممنوعة، وقياسك
أمس حسن وهو اليوم قبيح، وهذه جائزة عند ابن جني. ومن النحويين من
يمنعها كالأول، وانظر ما ذكر آنفًا.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "لأنه يصير".
(2/22)
فلما كان المضمر لا يوصف, ولحق هذا المضمر
من التفسير ما يضارع الوصف, خرج بذلك عن حكم الضمير. وهذا واضح. نعم,
ولو قلت: ربه مررت به, لوصفت المضمر, والمضمر لا يوصف. وأيضًا فإنك كنت
تصفه بالجملة, وهي نكرة, والمعرفة لا توصف بالنكرة.
أفلا ترى إلى ما كان يحدث هناك من خبال الكلام وانتقاض الأوضاع. فالزم
هذه المحجَّة1. فمتى كان التصرف في الموضع ينقض عليك أصلًا, أو يخالف
بك مسموعًا مقيسًا, فألغه ولا تَطُر بجنابه3، فالأمثال واسعة، وإنما
أذكر من كل طرفًا يستدل به، وينقاد على وتيرته.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "الحجة".
2 "ولا تطر". يقال: طار بجنابه يطور: قرب ودنا.
3 كذا في ش، ب، وسقط في أ. وفي ج "سمي جبرًا".
(2/23)
باب في الشيء يسمع من العربّي الفصيح، لا
يسمع من غيره:
ذلك ما جاء به ابن أحمر في تلك الأحرف المحفوظة عنه. قال أحمد بن يحيى:
حدثني بعض أصحابي عن الأصمعي أنه ذكر حروفًا من الغريب فقال: لا أعلم
أحدًا أتى بها إلّا ابن أحمر الباهلي. منها: الجَبْر وهو الملك, وإنما
سُمِّيَ بذلك1 -أظن- لأنه يجبر بجوده, وهو قوله:
اسلم براووقٍ حُبيت به ... وانعم صباحًا أيها الجبر2
__________
1 كذا في ش، ب، وسقط في أ. وفي ج "سمي جبرًا".
2 "أسلم" كذا في أ، ج، وفي ش، ب: "انعم"، وفي التكملة للصاغاني:
"اشرب", وقوله: "حبيب" هو من الحباء. وهو كذلك في أ، ب، ج. وهو في ش
غير منقوطة, وفي اللسان في جبر: "حبيت على البناء للمفعول. والضبط غير
صحيح؛ وصوابه على ما في الج مهرة: حبيت بالبناء تفاعل.
(2/23)
ومنها قوله: "كأس رنوناة" أي: دائمة، وذلك
قوله:
بنّت عليه الملك أطنأبها ... كأس رنوناة وطِرْفٌ طِمِرّ1
ومنها "الديدبون"، وهو قوله:
خلّوا طريق الديدبون وقد ... فات الصبا وتنوزع الفخر2
ومنها "ماريّة" أي: لؤلؤية3، لونها لون اللؤلؤ.
ومنها قوله: "البابوس" وهو أعجمي، يعني: ولد ناقته, وذلك قوله:
حنَّت قلوصي إلى بابوسها جزعًا ... فما حنينك أم ما أنت والذكر4
__________
1 هو في الحديث عن امرئ القيس بن حجر، وقبله:
إن امرأ القيس على عهده ... في إرث ما كان أبوه حجر
وبعده:
يلهو بهند فوق أنماطها ... وفرتني تسبى إليه وهر
وفاعل "بنت" هو "كأس"، و"الملك" مفعول، و"أطنابها" بدل منه، ويرى
السيرافي أن "الملك" حال في تأويل مملكًا. وروى "الملك" بالرفع
فاعلًَا، وأنت على التأويل بانملكة", وانظر اللسان "رنا"، والسيرافي في
التيمورية 2/ 342, والحيوان طبعة السامي 5/ 105.
2 الديدبون، اللهو؛ ومنه قول المعري:
كم قطعنا من حندس ونهار ... وكأن الزمان في ديدبون
وانظر البلوى 2/ 72, وانظر في البيت اللسان "ددن".
2 كذا، وهذا التفسير أورده للؤلؤان اللون، فقد يكون الأصل: مارية
لؤلؤان اللون، كما في البتين الآتيين عن أبي زيد. وفي تفسير المارية
أنها البراقة اللون، فقد يجوز أن ينظر إلى هذا, ويفسرها بهذا التفسير
إن لم يكن الأصل حذف.
4 هو من قصيدته المدونة في جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي،
ومطلعها:
بان الشباب وأفنى ضعفه العمر ... لله درك أي العيش تنتظر
وانظر اللسان "بيس".
(2/24)
ومنها "الرُّبَّان" وهو العيش1، وذلك قوله:
وإنما العيش بربَّانِهِ ... وأنت من أفنانه مقتفر2
ومنها "المأنوسة"3 وهي النار, وذلك قوله:
كما تطاير عن مأنوسة الشرر4
قال أبو العباس أحمد بن يحيى أيضًا: وأخبرنا أبو نصر عن الأصمعي قال:
من قول ابن أحمر "الحيرم" وهو البقر, ما جاء به غيره5. انتهت الحكاية.
وقد6 أنشد أبو زيد:
كأنها بنقا العزَّاف طاوية ... لما انطوى بطنُها واخروّط السفر7
__________
1 عبارة اللغة: أول العيش.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "مفتقر", وما أثبته يوافق ما في الأمالي 1/ 245،
وقيل هذا البيت.
قد بكرت عاذلتي بكرة ... تزعم أني بالصبا مشتهر
ومقتفر: واجد ما طلبت, يقال: خرج في إبله فاقتفر آثارها, أي: وجد
أثارها فأتبعها، وانظر اللآلي 555، والإصلاح 450.
3 عبارة اللسان "أنس": "ومأنوسة والمأنوسة جميعًا النار" وبه يظهر ما
في البيت.
4 صدره.
تطايح الطل عن أردافها صعدًا
وهو من قصيدته المثبته في جمهرة أشعار العرب على ما أسلفت, وقد اقتصر
في اللسان "أنس" على الشطر المستشهد به.
5 أي: في قوله على ما في اللسان "حرم":
تبدل أدمًا من ظياء وحيرما
6 زيدت هذه الواو على ما في ج، وقد خلت منها سائر الأصول.
7 "بِنَقَا العزاف" في اللسان في بنس: "من نقا العزاف" والعزاف: رمل من
جبال الدهنا, والنقا: القطعة من الرمل تنقاد محدود به، يكتب بالألف
والياء، لأنه يقال في تثنيته نقيان ونقوان، وآخروّط السفر: امتدَّ.
(2/25)
مارية لؤلؤان اللون أوّدها ... طل وبنّس
عنها فَرْقَد خَصِر1
وقال: الماريّة: البقرة الوحشية. وقوله: بنّس2 عنها, هو من النوم, غير
أنه إنما يقال للبقرة. ولم يسند3 أبو زيد هذين البيتين إلى ابن أحمر,
ولا هما أيضًا في ديوانه, ولا أنشدهما الأصمعي فيما أنشده من الأبيات
التي أورد4 فيها كلماته. وينبغي أن يكون ذلك5 شيئًا جاء به غير ابن
أحمر تابعًا له فيه ومتقيلًا أثره. هذا أوفق لقول الأصمعي: إنه لم يأت
به غيره من أن يكون قد جاء به غير متّبع أثره. والظاهر أن يكون ما
أنشده أبو زيد لم يصل إلى الأصمعي "لا"6 من متبع فيه ابن أحمر, ولا غير
متبع. " وجاء في شعر أمية الثغرور, ولم يأت به غيره"7.
والقول في هذه الكلم المقدَّم ذكرها وجوب قبولها. وذلك لما ثبتت به
الشهادة من فصاحة ابن أحمر. فإمَّا أن يكون شيئًا أخذه عمَّن ينطق بلغة
قديمة لم يشارك في سماع ذلك منه, على حد ما قلناه فيمن خالف الجماعة
وهو فصيح, كقوله في الذرحرح: الذرّحْرَح ونحو ذلك, وإما أن يكون شيئًا
ارتجله ابن أحمر؛
__________
1 لؤلؤان اللون: لونها لون اللؤلؤ، وأودَّها أي: عطفها ورجعها، وكأنه
يريد: عطفها نحو كناسها، وروي في اللسان "مرا": "أوردها", وروي في
"بنس" كما هنا، يريد أوردها كناسها. والفرقد: ولد البقرة.
2 الذي في الغة أن التبنيس التأخر. والمعنى الذي ذكره ابن جني لا يعرف
لغيره كما ذكره ابن سيده. راجع اللسان.
3 في اللسان "بنس" نسبتهما إلى ابن أحمر، وهما في رائيته في جمهرة
أشعار العرب, وقد ذكرت آنفًا مطلعها.
4 كذا في أ، وفي ش، ب: "أوردنا".
5 أي: ما ورد في البيتين السابقين.
6 زيادة في م.
7 ما بين القوسين في م، ج. والثغرور: الثغر. جاء في قوله: ... وأبدت
الثغرورا. وجاء هذا اللفظ في النسختين: الشينغور, وهو تحريف عمَّا
أثبت. وانظر شعراء ابن قتبية 431.
(2/26)
فإن الأعرابي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته
تصرَّف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به, فقد حكي1 عن رؤبة وأبيه أنهما
كانا يرتجلان ألفاظًا لم يسمعاها ولا سُبِقَا إليها. وعلى نحو من هذا
قال أبو عثمان: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب. وقد تقدَّم
نحو ذلك2, وفي هذا الضرب3 غار أبو علي في إجازته أن تبنى اسمًا وفعلًا
وصفة ونحو ذلك من ضرب, فتقول: ضربب زيد عمرًا, وهذا رجل ضربَب,
وضرنبي4، ومررت برجل خَرَجَج, وهذا رجل خرجج ودخلخل, وخرجج أفضل من
ضربب, ونحو ذلك. وقد سبق5 القول على مراجعتي إياه في هذا المعنى, وقولي
له: أفترتجل اللغة ارتجالًا؟ وما كان من جوابه في ذلك.
وكذلك إن جاء نحو هذا الذي رويناه عن ابن أحمر عن فصيح آخر غيره كانت
حاله فيه حاله. لكن لو جاء شيء من ذلك عن ظنين أو متَّهم أو من لم ترقَ
به فصاحته, ولا سبقت إلى الأنفس ثقته, كان مردودًا غير متقبَّل.
فإن ورد عن بعضهم شيء يدفعه كلام العرب ويأباه القياس على كلامها, فإنه
لا يقنع في قبوله أن تسمعه من الواحد ولا من العدَّة القليلة, إلّا أن
يكثر من ينطق به منهم. فإن كثر قائلوه إلّا أنه مع هذا ضعيف الوجه
__________
1 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "يُحْكَى".
2 انظر ص358 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
3 "هذا الضرب" أي: النوع من خصائص العربية, وهو القياس على كلام العرب،
ويخيل إليّ أن الأصل: الدرب، وهو الطريق. وقوله: غار هو, من قولهم:
غار: أتي الغور، وهو ما انخفض من الأرض، يريد به التعمق في البحث،
ويصلح أن يكون عار بالمهملة, أي: ذهب وجاء وتردد، وذهابه ومجيئه هنا
ببحثه ونظره.
4 هذا الضبط من ب. وفي أضبطه بضم الأوّل والثالث كقنفذ.
5 انظر ص361 وما بعدها، من الجزء الأول من هذا الكتاب.
(2/27)
في القياس, فإن ذلك مجازه وجهان: أحدهما أن
يكون من نطق به لم يُحْكِم قياسه على لغة آبائهم, وإما أن تكون أنت
قصَّرت عن استدراك وجة صحته. ولا أدفع أيضًا مع هذا أن يسمع الفصيح لغة
غيره مما ليس فصيحًا, وقد طالت عليه وكثر لها استماعه فسرت في كلامه1،
ثم تسمعها أنت منه وقد قويت عندك في كل شيء من كلامه غيرها فصاحته,
فيستهويك ذلك إلى أن تقبلها2 منه, على فساد أصلها2 الذي وصل إليه منه.
وهذا موضع متعب مؤذٍ يشوب النفس، ويشري3 اللبس؛ إلّا أن هذا كأنه متعذر
ولا يكاد يقع مثله. وذلك أن الأعرابي الفصيح إذا عدل به عن لغته
الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافها4 ولم يبهأ بها. سألت مرة الشجري أبا عبد
الله ومعه ابن عمٍّ له دونه في فصاحته, وكان اسمع غصنا فقلت لهما: كيف
تحقّران "حمراء"؟ فقالا: حميراء. قلت: فسوداء, قالا: سويداء. وواليت من
ذلك أحرفًا وهما يجيئان بالصواب, ثم دسست في ذلك "عِلْبَاء" فقال غصن:
"عليباء", وتبعه الشجري. فلما همَّ بفتح الباء تراجع كالمذعور ثم قال:
آه! عليبيّ ورام الضمة5 في الياء. فكانت تلك عادة له إلّا أنهم أشد
استنكارًا لزيغ الإعراب منهم6 لخلاف اللغة؛ لأن بعضهم قد ينطق بحضرته
بكثير من اللغات فلا ينكرها7.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "كلامهم".
2 كذا في أ, وسقط هذا الحرف في ش، ب، وقوله: "تقيلها" كذا في ش، ب. وفي
أ: "تقبله". وقوله: "على أصلها" كذا في ش. وفي أ، ب: "أصله".
3 أي: يجعله يشرى -بفتح الياء- أي: يلج ويكثر.
4 يقال: بهأ بالشئ: أنس به وأحب قربه.
5 روم الضمة: هو أن يأتي بها في الوقف على المضموم خفية، وهو من أنواع
الوقف.
6 كذا في أ، ش، ب. وفي أ: "منه".
7 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "لا ينكرها".
(2/28)
إلا أن أهل الجفاء وقوة الفصاحة يتناكرون
خلاف اللغة تناكرهم زيع الإعراب, ألا ترى أن أبا1 مهديّة سمع2 رجلًا من
العجم يقول لصاحبه: زوذ, فسأل أبو مهديّة عنها فقيل له: يقول له:
اعجَلْ, فقال أبو مهديّة: فهلَّا قال له: حيهلك. فقيل له: ما كان الله
ليجمع لهم إلى العجمية العربية. وحدَّثني المتنبي أنه حضرته جماعة من
العرب منصرفَهُ من مصر, وأحدهم يصف بلدة واسعة فقال في كلامه: تحير
فيها العيون3، قال: وآخر من الجماعة يحي4 إليه سرًّا ويقول له: تحار
تحار, والحكايات في هذا المعنى كثيرة منبسطة.
ومن بعد فأقوى القياسين أن يقبل ممن شُهِرَت فصاحته ما يورده5, ويحمل
أمره على ما عرف من حاله لا على ما عسى أن يكون من غيره. وذلك كقبول
القاضي شهادة من ظهرت عدالته, وإن كان يجوز أن يكون الأمر عند الله
بخلاف ما شهد به, ألا تراه يمضي الشهادة ويقطع بها وإن لم يقع العلم
بصحتها؛ لأنه لم يؤخذ بالعمل بما عند الله, إنما أمر بحمل الأمور على
ما تبدو6, وإن كان في المغيب غيره. فإن لم تأخذ بها دخل عليك الشك في
لغة من تستفصحه ولا تنكر شيئًا من لغته مخافة أن يكون فيها بعض
__________
1 انظر في هذه القصة وقصة المتنبي ص240 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
2 كذا في ش، ب وفي أ: "لما سمع". ويناسبه سقوط الفاء في "فسأل".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "منها".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "يجيء". والصواب ما أثبت. ويحي من الوحي وهو
الرمز والإيماء.
5 كذا في أ: وفي ش، ب: "يورد".
6 كذا في ب، وفي أ، ش: "يبدو".
(2/29)
ما يخفى عليك فيعترض الشك على يقينك, وتسقط
بكل اللغات ثقتك. ويكفي من هذا ما تعلمه من بعد لغة حمير من لغة ابني
نزار. روينا عن الأصمعي أن رجلًا1 من العرب دخل على ملك "ظفار" -وهي
مدينة لهم يجيء منها الجزع الظفاريّ- فقال له الملك: ثِبْ, وثب
بالحميرة: اجلس, فوثب الرجل فاندقَّت رجلاه, فضحك الملك وقال: لست
عندنا عَرَبيّت2، من دخل ظفار حمّر, أي: تكلّم بكلام حمير. فإذا كان
كذلك جاز جوازًا قريبًا كثيرًا أن يدخل من هذه اللغة في لغتنا, وإن لم
يكن لها فصاحتنا, غير أنها لغة عربية قديمة.
__________
1 هو زيد بن عبد الله بن دارم، كما في الصاحبي 22.
2 يريد العربية. فوقف على الهاء بالتاء, وكذلك لغتهم, ورواه بعضهم ليس
عندنا عربية كعربيتكم, وقد صوبها بها ابن سيده وقال: لأن الملك لم يكن
ليخرج نفسه من العرب، وقوله: "عربيت" كذا في أ، وفي ش، ب: "عربية".
(2/30)
باب في هذه اللغة: أفي وقت واحد وضعت أم
تلاحق تابع منهابفارط:
قد تقدَّم في أول1 الكتاب القول على2 اللغة: أتواضع هي أم إلهام.
وحكينا وجوَّزنا فيها الأمرين جميعًا. وكيف تصرفت الحال, وعلى أي
الأمرين كان ابتداؤها, فإنها لا بُدَّ أن يكون3 وقع في أول الأمر
بعضها, ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه لحضور الداعي إليه, فزيد
فيها شيئًا فشيئًا, إلّا أنه على قياس ما كان سبق منها في حروفه
وتأليفه وإعرابه المبين عن معانيه لا يخالف الثاني الأول،
__________
1 انظر ص41، من الجزء الأوّل من هذا الكتاب.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "في".
3 كذا في ش. وفي أ: "تكون"، وفي ب غير منقوطة.
(2/30)
ولا الثالث الثاني, كذلك متصلًا متتابعًا1.
وليس أحد من العرب الفصحاء إلّا يقول: إنه يحكي كلام أبيه وسلفه,
ويتوارثونه2 آخر عن أول, وتابع عن متَّبَع. وليس كذلك أهل الحضر؛ لأنهم
يتظاهرون3 بينهم بأنهم قد تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة
العربية الفصيحة. غير أن كلام أهل الحضر مضاهٍ4 لكلام فصحاء العرب في
حروفهم وتأليفهم, إلّا أنهم أخلّوا بأشياء من إعراب الكلام الفصيح.
وهذا رأي أبي الحسن وهو الصواب.
وذهب إلى أنَّ اختلاف لغات العرب إنما أتاها من قبل أنَّ أول ما وضع
منها وضع على خلاف, وإن كان كله مسوقًا على صحة وقياس, ثم أحدثوا من
بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها, غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل
مختلفًا, وإن كان كل واحد آخذًا5 من صحة القياس حظًّا. ويجوز أيضًا أن
يكون الموضوع الأول ضربًا واحدًا, ثم رأى مَنْ6 جاء مِنْ بعد أن خالف
قياس الأوّل إلى قياس ثانٍ جار في الصحة مجرى الأول.
ولا يبعد عندي ما قال من موضعين: أحدهما سعة القياس, وإذا كان كذلك
جازت فيه أوجه لا وجهان اثنان. والآخر أنه كان يجوز أن يبدأ الأول
بالقياس الذي عدل إليه الثاني, فلا عليك أيهما تقدَّم وأيهما تأخّر.
فهذا طريق القول على ابتداء بعضها ولحاق بعضها به.
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ب، ش: "تابعًا سائغًا".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "يتأرثونه".
3 كذا في أ، ج. وفي ب، ش: "لا يتظاهرون".
4 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "مضاف".
5 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "أخذ".
6 كذا في ش، ب. وسقط هذا الحرف في أ، ج.
(2/31)
فأما أي الأجناس الثلاثة تقدَّم -أعني:
الأسماء والأفعال والحروف- فليس مما نحن عليه في شيء, وإنما كلامنا
هنا: هل وقع جميعها1 في وقت واحد، أم تتالت وتلاحقت قطعة قطعة, وشيئًا
بعد شيء, وصدرًا بعد صدر.
وإذ قد وصلنا من القول في هذا إلى ههنا, فلنذكر ما عندنا في مراتب
الأسماء والأفعال والحروف, فإنه من أماكنه وأوقاته.
اعلم أن أبا عليّ -رحمه الله- كان يذهب إلى أن هذه اللغة -أعني: ما سبق
منها ثم لحق به ما بعده- إنما وقع كلّ صدر منها في زمان واحد, وإن كان
تقدَّم شيء منها على صاحبه, فليس بواجب أن يكون المتقدّم على الفعل
الاسم، ولا أن يكون المتقدم على الحرف الفعل؛ وإن كانت رتبة الاسم في
النفس من حصة القوة والضعف أن يكون قبل الفعل, والفعل قبل الحرف. وإنما
يعني القوم بقولهم: إن الاسم أسبق من الفعل أنه أقوى في النفس، وأسبق
في الاعتقاد من الفعل لا في الزمان. فأمّا الزمان: فيجوز أن يكونوا عند
التواضع قدّموا الاسم قبل الفعل. ويجوز أن يكونوا قدَّموا الفعل في
الوضع2 قبل الاسم، وكذلك الحرف. وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم وعرفوا
مصاير أمورهم, فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات عن المعاني, وأنها لا
بُدَّ لها من الأسماء والأفعال والحروف, فلا عليهم بأيّها بدءوا,
أبالاسم أم بالفعل أم بالحرف؛ لأنهم قد أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا
بهنّ جُمَع, إذ المعاني لا تستغني عن واحد منهن. هذا مذهب أبي علي, وبه
كان يأخذ ويفتي.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "جميعًا".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "الموضع".
(2/32)
وهذا يضيِّق الطريق على أبي إسحاق وأبي بكر
في اختلافهما1 في رتبة الحاضر والمستقبل.
وكان أبو الحسن يذهب إلى أنّ ما غيّر لكثرة استعماله إنما تصوَّرته
العرب قبل وضعه, وعلمت أنه لا بُدَّ من كثرة استعمالها2 إياه فابتدءوا
بتغييره، عِلْمًا بأن لا بُدَّ من كثرته الداعية إلى تغييره. وهذا في
المعنى كقوله:
رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصيَّر آخره أولًا3
وقد كان أيضًا أجاز أن يكون4 قد كانت قديمًا5 معربة, فلما كثرت
غُيِّرَت فيما بعد. والقول عندي هو الأول؛ لأنه أدلّ على حكمتها واشهد
لها6 بعلمها بمصاير
__________
1 فيرى أبو إسحق الزجاج أن المستقبل أول الأفعال، واحتج لذلك بأن
الأفعال المستقبلة تقع بها العدادات ثم توجد فتكون حالًا ثم يمضي عليها
الزمان فتكون في الماضي، وتبعه تلميذه الزجاجي، ويرى أبو بكر بن السراج
أن الحاضر هو أوّل الأفعال، وقد ساق السيرافي حجة هذا القول، وإن لم
ينسبه إلى أبي بكر، وقد نُسِبَ الأول إلى أبي إسحق. ويرى بعض النحاه أن
الأصل في الأفعال هو الماضي.
وانظر السيرافي 1/ 13 "تيمورية". وانظر في مذهب الزجاجي الأشباه
والنظائر النحوية للسيوطي 1/ 54 طبعة الهند الأولى، وفي المسألة بوجه
عام الارتشاف، الورقة 314.
2 كذا في ش، ب. وفي ج: "استعمالهم". وفي أ: "استعماله". وهو خطأ.
3 "أخره"، كذا في أ، ب، ش. وفي ج "غايته".
4 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "تكون", والحديث عمَّا غير لكثرة الاستعمال،
وعني به المبنيات وهي ضرب منه.
5 أي: لأن الإعراب وهو الأصل في الأسماء فبناؤها عارض في الرتبة
والتقدير، وقد جعل علة بنائها كثرة استعمالها، وذلك أنها صارت لكثرة
استعمالها قوالب الكلام, فاقتضى ذلك أن تبقى على صورة واحدة، فكانت
مبنية. ولم يرض هذا الكلام ابن الطيب في شرح الاقتراح, فاعترض بأن هذا
يقضي بأن يكون كثرة الاستعمال من أسباب البناء ولا قائل به، وابن جني
لا يلتزم اصطلاح النحاة ويتكلم على أصل الوضع.
6 كذا في أ، ج. وسقط في ش، ب.
(2/33)
أمرها فتركوا بعض الكلام مبنيًّا غير معرب؛
نحو: أمس وهؤلاء وأين وكيف وكم وإذ, واحتملوا ما لا يؤمن معه من اللبس؛
لأنهم إذا خافوا ذلك زادوا كلمة أو كلمتين, فكان ذلك أخف عليهم من
تجشمهم اختلاف الإعراب واتقائهم الزيغ والزلل فيه, ألا ترى أن من لا
يعرب فيقول: ضرب أخوك لأبوك, قد يصل باللام إلى معرفة الفاعل من
المفعول، ولا يتجشّم1 خلاف الإعراب ليفاد منه المعنى، فإن تخلل2
الإعراب من ضرب إلى ضرب يجري مجرى مناقلة3 الفرس، ولا يقوى على ذلك من
الخيل إلّا الناهض الرجيل4، دون الكودن5 الثقيل, قال جرير:
من كل مشترفٍ وإن بعد المدَى ... ضَرِمِ الرقاق مناقل الأجرال6
ويشهد للمعنى الأول أنهم قالوا: اُقْتُل, فضموا الأوَّل توقعًا للضمة
تأتي من بعد7. وكذلك قالوا: عظاءة وصلاءة وعباءة, فهمزوا مع الهاء
توقعًا لما سيصيرون إليه من طرح الهاء, ووجوب الهمز عند العظاء والصلاء
والعباء. وعلى ذلك قالوا:
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "لم".
2 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "تحلل". يريد يتخلل الإعراب تتابعه. من
قولهم: تخلله بالريح: طعنه به طعنة إثر أخرى.
3 هي سرعة نقل قوائمه, ويفسرها بعضهم بأن يضع الفرس يده ورجله على غير
حجر لحسن نقله في الحجارة.
4 وهو القوي على المشي.
5 هو الهجين غير الأصيل.
6 المشترف: يريد به الفرس العالي الخلق. والرقاق: الأرض الليثة لا رمل
فيها. وضرم: متوقد ملتهب، يريد أنه يتوقد نشاطًا وسرعة في الرقاق،
ويناقل في الأجرال: يسرع السير فيها, فلا تقع قوائمه على الحجارة،
والأجرال جمع الجرل -بالتحريك, وهو المكان الصلب الغليظ. وقوله: "ضرم
الرقاق" كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "صرم الرقاق" وهو تحريف. وقبل البيت:
إن الجياد بيتن حول خبائنا ... من آل أعوج أو لذي العقال
وانظر الديوان نشر الصاوي 468, والنقائض طبع أوروبا 303، واللسان "جرل،
نقل".
7 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
(2/34)
الشيء منتن, فكسروا أوله لآخره, وهو
مُنْحَدر من الجبل, فضموا الدال لضمة1 الراء. وعليه قالوا: هو يجوءك2،
وينبؤك, فأثر3 المتوقع لأنه كأنه حاضر. وعلى ذلك قالوا: امرأة شمباء4،
وقالوا: العمبر, ونساء شمب, فأبدلوا النون ميمًا مما يتوقّع من مجيء
الباء بعدها. وعليه أيضًا أبدلوا الأول للآخر في الإدغام نحو: مرأيت5؟
واذهفّى ذلك5، واصحمطرا5. فهذا كله وما يجري مجراه -مما يطول ذكره-
يشهد لأن كل ما يتوقع إذا ثبت في النفس كونه كان كأنه حاضر مشاهد. فعلى
ذلك يكونون قدموا بناء نحوكم وكيف وحيث وقبل وبعد, علمًا بأنهم
سيستكثرون فيما بعد منها فيجب لذلك تغييرها.
فإن قلت: هلَّا ذهبت إلى أن الأسماء أسبق رتبة من الأفعال في الزمان,
كما أنها أسبق رتبة منها في الاعتقاد, واستدللت على ذلك بأن الحكمة
قادت إليه، إذ كان الواجب أن يبدءوا بالأسماء؛ لأنها عبارات عن
الأشياء, ثم يأتوا بعدها بالأفعال التي بها تدخل الأسماء في المعاني
والأحوال6، ثم جاءوا فيما بعد بالحروف؛ لأنك تراها لواحق بالجمل بعد
تركبها7، واستقلالها بأنفسها نحو: إن زيدًا أخوك, وليت عمرًا عندك,
وبحسبك أن تكون كذا؟ 8 قيل: يمنع9 من هذا أشياء: منها
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "بضمة".
2 انظر في هذا وما بعده الكتاب 2/ 255.
3 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "فآثروا".
4 وصف من الشنب, وهو رقة الأسنان وعذوبتها.
5 "مرأيت" يريد: من رأيت. "واذهفى ذلك" يريد: اذهب في ذلك. "واصحمطرا"
يريد: اصحب مطرًا. وانظر في هذا الكتاب 2/ 412.
6 كذا في أ، وفي ش، ب "الأفعال".
7 كذا في أ، وفي ش، ب: "تراكبها".
8 كذا في ش، ب. وفي أ: "يكون".
9 كذا في أ. وفي ش، ب: "تمنع".
(2/35)
وجودك أسماء مشتقة من الأفعال؛ نحو: قائم
من قام, ومنطلق من انطلق, ألا تراه يصح لصحته، ويعتل لاعتلاله, نحو:
ضرب فهو ضارب, وقام فهو قائم؛ "وناوم فهو مناوم"1. فإذا رأيت بعض
الأسماء مشتقًا من الفعل, فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل في
الزمان, وقد رأيت الاسم مشتقًا منه, ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من
المشتق نفسه. وأيضًا فإن المصدر مشتق من الجوهر؛ كالنبات من النبت,
وكالاستحجار من الحجر, وكلاهما اسم. وأيضًا فإن المضارع يعتل لاعتلال
الماضي, وإن كان أكثر الناس على أن المضارع أسبق من الماضي2، وأيضًا
فإن كثيرًا من الأفعال مشتق من الحروف نحو قولهم: سألتك حاجة فلوليت
لي, أي: قلت لي: لولا، وسألتك حاجة فلا ليت لي, أي: قلت لي: لا.
واشتقوا أيضًا المصدر -وهو اسم- من الحرف, فقالوا: اللالاة واللولاة,
وإن كان الحرف متأخرًا في الرتبة عن الأصلين قبله: الاسم والفعل. وكذلك
قالوا: سوَّفت الرجل, أي: قلت له: سوف, وهذا فعل -كما ترى- مأخوذ من
الحرف. ومن أبيات الكتاب 3:
لو ساوفتنا بسوفٍ من تحيّتها ... سوف العيوف لراح الركب قد قنع4
انتصب "سوف العيوف" على المصدر المحذوف الزيادة، أي: مساوفة العيوف.
__________
1 كذا في الأصول. والأقرب: "قاوم فهو مقاوم".
2 كذا في أ، ج. وفي ش، ب، د، هـ: "اشتق" وهو تحريف.
3 انظر الكتاب 2/ 301.
4 "ساوفتنا" في ج: "سوفتنا". "لراح" كذا في أ، ج. وفي ش، ب، "لكان".
"قنع" كذا في أ. وكتب فوق العين: "هو"، وفي ب، ج، ش: "قنعوا". وما أثبت
موافق لما في الكتاب، فقد جاء به في أبيات أخر شاهدًا لطريقة لهم في
إشاد القوافي، يحذفون الواو والياء اللتين هما علامة المضمر، قال
سيبويه بعد البيت: "يريد قنعوا" ولهذا الغرض أثبت في أفوق هذا "عوًا"،
ومعنى "ساوفتنا": واعدتنا بسوف أفعل، والعيوف: الكاره والكارهة، يقول:
لو وعدتنا بتحية في المستقبل لقنعنا، وإن كانت عازمة على المطل إذ كانت
كارهة لذلك. والبيت في اللسان "سوف"، وفيه عزوه لابن مقبل.
(2/36)
وأنا أرى أن جميع تصرف "ن ع م " إنما هو من
قولنا في الجواب: نعم. من ذلك النِّعْمة والنَّعْمة والنَّعيم
والتَّنْعيم ونَعِمتُ به بالًا, وتنعم القوم والنعمى والنعماء وأنعمت1
به له، وكذلك البقية. وذلك أن "نعم" أشرف الجوابين, وأسرهما للنفس,
وأجلبهما للحمد, و"لا" بضدها, ألا ترى إلى قوله:
وإذا قلت نَعَم فاصبر لها ... بنجاح الوعد إنَّ الخلف ذمّ2
وقال الآخر: أنشدناه أبو علي:
أبي جوده لا البخل واستعجلت به ... نَعَمْ مِن فتى لا يمنع الجوع
قاتله3
يُرْوَى بنصب "البخل" وجره, فمن نصبه فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون
بدلًا من "لا"؛ لأن "لا" موضوعة للبخل, فكأنه قال: أبي جوده البخل.
والآخر: أن تكون "لا" زائدة، حتى كأنه قال: أبي جوده البخل، لا على
البدل لكن على زيادة "لا". والوجه هو الأول؛ لأنه قد ذكر بعدها نعم,
ونعم لا تزاد, فكذلك4 ينبغي أن تكون "لا" ههنا غير زائدة. والوجه الآخر
على الزيادة صحيح أيضًا؛
__________
1 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
2 "قلت" كذا في أ، ب، ج. وفي ش "قالت", وما أثبت موافق لما في اللسان
في نَعَم. والبيت للمثقَّب العبدي من قصيدة مفضلية. وانظر ابن الأنباري
589.
3 هذا البيت من شواهد المغني في مبحث "لا" وفيه: "الجود" بدل الجوع,
وقد نقل السيوطي في شرح شواهد المغني خلافًا في تفسيره, فانظره في ص217
من كتابه، وانظر اللسان في الألف اللينة, ففيه تفسير جيد لابن بري,
حاصله أن هذا الرجل يمنح الجوع عند المحتاجين الطعام الذي يقتله، ولا
يبخل على الجوع بهذا الذي يقتله. وظهر أن تفسر ابن بري لابن السكيت،
نقله عنه البغدادي في شرح شواهد المغني. والبيت لا يعرف قائله. وانظر
شواهد المغني المذكور 2/ 190.
4 كذا في ش، ب، وفي أ: "وكذلك".
(2/37)
لجرى ذكر "لا" في مقابلة نعم. وإذا جاز
ل"لا" أن تعمل وهي زائدة فيما أنشده أبو الحسن من قوله 1:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ... إليّ لا مت ذوو أحسابها عُمَرَا2
كان الاكتفاء بلغظها من غير عمل له أولى بالجواز.
ومن جره فقال: "لا البخل" فبإضافة "لا" إليه؛ لأن "لا" كما تكون للبخل3
قد تكون للجود أيضًا, ألا ترى أنه لو قال لك إنسان: لا تطعم الناس ولا
تقر الضيف ولا تتحمل المكارم, فقلت أنت: "لا" لكانت هذه اللفظة هنا
للجود لا للبخل, فلما كانت "لا" قد تصلح للأمرين جميعًا أضيفت إلى
البخل لما في ذلك من التخصيص الفاصل بين المعنيين الضدين.
فإن قلت: فكيف تضيفها وهي مبنية؟ ألا تراها على حرفين الثاني حرف لين,
وهذا أدل شيء على البناء، قيل: الإضافة لا تنافي البناء، بل لو جعلها
جاعل سببًا له لكان "أعذر من"4 أن يجعلها نافية له, ألا ترى أن المضاف5
بعض الاسم، وبعض الاسم صوت, والصوت واجب بناؤه. فهذا من طريق القياس,
وأما من طريق السماع: فلأنهم قد قالوا: كم رجل "قد"6 رأيت, فكم مبنية
وهي مضافة.
__________
1 أي: الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة الفزاري, وانظر شرح شواهد العيني في
مبحث لا النافية للجنس, والخزانة 2/ 87, والديوان طبع أوربا 180.
2 "إلي لا مت" كذا في أ، ب، ج، وش. وفي الخزانة: "إذا للام" ويريد بعمر
ابن هبيرة الفزاري، وهو من عمال سليمان بن عبد الملك، وفزارة ترجع في
النسب إلى غطفان. وانظر الخزانة 2/ 87، وديوان الفرزدق طبع أوربا ص180.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "فلقد", وكذا في نقل البغدادي في شواهد المغني.
4 "أعذر" في ج: "أجدر". "من" كذا، في ش، ب، ونقل البغدادي في شواهد
المغني. وفي أ "ممن".
5 كذا في أ، ب، ج. وفي ش "المضافة".
6 كذا في أ، ج. وسقط هذا في ش، ب, وما أثبت موافق لما في شواهد المغني
للبغدادي، و"قد" في هذا المقام تبعدكم عن أن تكون استفهامية، بل خبرية.
(2/38)
وقالوا أيضًا: لأضربنَّ أيهم أفضل, وهي
مبنية عند سيبويه. فهذا شيء عرض قلنا فيه.
ثم لنعد إلى ما كنّا عليه من أن جميع باب "ن ع م " إنما هو مأخوذ من
"نعم", لما فيها من المحبة للشيء والسرور به1. فنعمت الرجل, أي: قلت له
"نعم", فنعم بذلك بالًا، كما قالوا: بجَّلته, أي: قلت له: "بجل" أي:
حسبك حيث انتهيت فلا غاية من بعدك، ثم اشتقوا منه الشيخ البجال، والرجل
البجيل. فنعم وبجل كما ترى حرفان, وقد اشتق منهما أحرف كثيرة.
فإن قلت: فهلَّا كان نَعَمْ وبَجَلْ مشتقين من النعمة والنعيم, والبجال
والبجيل, ونحو ذلك دون أن يكون كل ذلك مشتقًا منهما؟ قيل: الحروف يشتق
منها ولا تشتق هي أبدًا. وذلك أنها لما جمدت فلم تتصرف شابهت بذلك أصول
الكلام الأُوَل2 التي لا تكون مشتقة "من شيء"3؛ "لأنه ليس قبلها ما
تكون فرعًا له ومشتقة منه"4، يؤكد ذلك عندك قولهم: سألتك حاجة فلوليت
لي، أي: قلت لي "لولا", فاشتقوا الفعل من الحرف المركب من "لو" و"لا",
فلا يخلو هذا أن يكون "لو" هو الأصل، أو "لولا"5 لا يجوز أن يكون
"لولا"، لأنه لو كان "لو" محذوفًا منه, والأفعال لا تحذف, إنما تحذف
الأسماء نحو: يدٍ ودمٍ وأخٍ وأب, وما جرى مجراه, وليس الفعل كذلك.
فأمَّا خذ وكل ومر, فلا يعتدّ إن شئت لقلته, وإن شئت لأنه حذف تخفيفًا
في موضع وهو ثابت في تصريف الفعل, نحو: أخذ يأخذ وأخذ وآخذ.
__________
1 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
2 ضبطت هكذا وصفًا لأصول. وفي أ: "الأوّل" بزنة الأفعال وصفًا للكلام.
3 كذا في أ، وفي ش، ب: "منه".
4 ثبت ما بين القوسين في أ، وسقط في ش، ب.
5 يريد الفعل لولي، والواجب على رسم البصريين كنايته بالياء. وفي ج:
"ولا يجوز أن يكون لو ليت هو الأصل".
(2/39)
فإن قلت: فكذلك أيضًا يدٌ ودمٌ وأخٌ وأبٌ
وغدٌ وفمٌ, ونحو ذلك, ألا ترى أن الجميع تجده متصرفًا1, وفيه ما حذف
منه, وذلك نحو أيدٍ وأيادٍ ويدي2، ودماءٍ ودمي، وأدماءٍ3 والدما في
قوله: "فإذا هي بعظام ودمًا"4 وإخوة وأخوة وآخاء وأخوان, وآباء وأبوة
وأبوان, وغدوًا5 بلاقع وأفواه وفويه وأفوه وفوهاء وفوه, قيل: هذا كله
إن كان قد عاد في كل تصرف منه ما حذف من الكلمة التي هي من أصله, فدل
ذلك على محذوفه, فليست الحال فيه كحال خُذْ من أخذ ويأخذ. وذلك أن
أمثلة الفعل وإن اختلفت في أزمنتها وصيغها6 فإنها تجري مجرى المثال
الواحد، حتى إنه إذا حذف من بعضها شيء عوض منه في مثال آخر من أمثلته،
ألا ترى أنهم لما حذفوا همزة يكرم ونحوه عوّضوه منها أن أوجدوها في
مصدره, فقالوا: إكرامًا. وكذلك بقية الباب. وليس كذلك الجمع
"والواحد"7، ولا التكبير والتصغير "من الواحد"؛ لأنه ليس كل واحد من
هذه المُثُل جاريًا مجرى
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "منصرفًا".
2 هذا الضبط بفتح الياء عن ب. واليدى جمع اليد كالعبيد جمع العبد.
3 سقط هذا في ج، ولم أقف عليه في اللسان والقاموس.
4 قبله:
كأطوم فقدت برغزها ... أعقبتها الغبس منه عدمًا
غفلت ثم أتت ترقبه ... ..............
الأطوم: البقرة الوحشية، والبرغز: ولدها، والغبس لذئاب. يشبه جزعه بجزع
بقرة عدا الذئاب على ولدها في حين غفلتها. وانظر اللسان "برغز، وأطم",
والجمهرة 3/ 484، والمنصف في التيمورية 451.
5 بعض بيت من قصيدة البيد، والبيت بتمامه:
وما الناس إلّا كالديار وأهلها ... بها يوم حلوها وغدوها بلاقع
وانظر اللسان في بلقع، وفي هذه القصيدة البيت المشهور:
وما المرء إلّا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع
6 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "صيغتها".
7 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "من الواحد".
8 كذا في أ، ب، ش. وسقط هذا في ج.
(2/40)
صاحبه، فيكون إذا حذف من بعضها شيء ثم وجد
ذلك المحذوف في صاحبه كان كأنه فيه, وأمثلة الفعل إذا حذف من أحدها شيء
ثم وجد ذلك المحذوف في صاحبه صار كأنه في المحذوف منه نفسه، فكأن لم
يحذف منه شيء.
فإن قلت: فقد نجد بعض ما حذف في الأسماء موجودًا في الأفعال من معناها
ولفظها, وذلك نحو قولهم في الخبر: أخوت عشرة, وأبوت عشرة, وأنشدنا أبو
علي عن الرياشيّ:
وبِشرةُ يأبونا كأنّ خباءنا ... جَنَاحُ سُمَاني في السماء تطير1
وقالوا أيضًا: يديت2 إليه يدًا وأيديت, ودميت تدمى دميّ, وغدوت عليه,
وفهت بالشيء وتفوهت به. فقد استعملت الأفعال3 من هذه الكلم كما استعملت
فيما أوردته.
قيل: وهذا أيضًا ساقط عنَّا وذلك أنا إنما قلنا: إن هذه المثل من
الأفعال تجري مجرى المثال الواحد؛ لقيام بعضها قيام4 بعض, واشتراكها في
اللفظ. وليس كذلك أب وأخ ونحوهما, ألا ترى أن أب ليس بمثال من أمثلة
الفعل, ولا باسم فاعل, ولا مصدر, ولا مفعول, فيكون رجوع المحذوف منه في
أبوت كأنه موجود في أب, وإنما أب من أبوت كَمُدُقّ5 ومكحلة من دقَقَت
وكَحَلت. وكذلك القول في أخٍ ويدٍ ودمٍ, وبقية تلك الأسماء. فهذا فرق.
__________
1 "يأبونا" كذا في ج، وهو يوافق ما جاء في اللسان "بشر". وفي أ:
"تأتونا" وهو تحريف, وفي ب: "تأبونا" وهذا صحيح إذا كان "بشرة" من
أعلام النساء، وفي القاموس "بشر": "وبشرة -بالكسر: جارية عون بن عبد
الله، وفرس ماوية بن قيس".
2 أي: أسديت إليه نعمة.
3 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "الأمثال".
4 كذا في أ، ب، ش، وفي ج: "مقام".
5 يريد أنها أسماء صبغت لمعانيها ابتداءً ولم تؤخذ كما تؤخذ أسماء
الآلة. وانظر الكتاب 2/ 248.
(2/41)
فقد علمت -بما قدَّمناه وهضبنا1 فيه- قوة
تداخل الأصول الثلاثة: الاسم والفعل والحرف وتمازجها, وتقدم بعضها على
بعض تارة, وتأخرها عنه أخرى. فلهذا ذهب أبو علي -رحمه الله- إلى أن هذه
اللغة وقعت طبقة واحدة؛ كالرقم تضعه على المرقوم, والميسم يباشر به
صفحة الموسوم, لا يحكم لشيء منه بتقدم في الزمان, وإن اختلفت بما فيه2
من الصنعة3 القوة والضعف في الأحوال. وقد كثر اشتقاق الأفعال من
الأصوات الجارية مجرى الحروف نحو: هاهيت4، وحاحيت5، وعاعيت6، وجأجأت7،
وحأحأت8، وسأسأت9، وشأشأت10. وهذا كثير في الزجر. وقد كانت حضرتني
وقتًا فيه نشطة فكتبت تفسير كثير من هذه الحروف في كتاب ثابت في الزجر,
فاطلبها في جملة ما أثبته عن نفسي في هذا وغيره.
__________
1 أي: أفضنا فيه وأكثرنا، يقال: هضب في الحديث وأهضب.
2 كذا في ش، ب، وفي أ: "مما".
3 كذا في أ. وفي أ. وفي ش، ب: "الصيغة".
4 أي: زجرت الإبل قائلًا: ها، ها.
5 وهو أيضًا زجر.
6 يقال: ما هي بالغنم زجرها.
7 أي: زجرت الإبل قائلًا: جؤجؤ.
8 حأحأ بالكبش: زجره.
9 يقال في زجر الحمار.
10 هو أيضًا زجر للحمار.
(2/42)
باب في اللغة المأخوذة قياسًا:
هذا موضع كأنَّ في ظاهره تعجرفًا, وهو مع ذلك تحت أرجل الأحداث ممن
تعلق بهذه الصناعة, فضلًا عن صدور الأشياخ. وهو أكثر من أن أحصيه في
هذا الموضع لك, لكني أنبِّهك على كثير من ذلك لتكثر التعجب ممن تعجب
منه, أو يستبعد1الأخذ به. وذلك أنك لا تجد مختصرًا من العربية إلّا
وهذا المعنى منه في عدة مواضع, ألا ترى أنهم يقولون في وصايا الجمع: إن
ما كان من الكلام
__________
1 كذا في أ، وفي ش، ب: "تستبعد".
(2/42)
على فعلٍ فتكسيره على أفعل, ككلب وأكلب,
وكعب وأكعب, وفرخ وأفرخ. وما كان على غير ذلك من أبنية الثلاثي فتكسيره
في القلة على أفعال نحو: جبل وأجبال, وعنق وأعناق, وإبل وآبال, وعجز
وأعجاز، وربع وأرباع1، وضلع وأضلاع, وكبد وأكباد, وقفل وأقفال, وحمل
وأحمال. فليت شعري هل قالوا هذا ليعرف وحده, أو ليعرف هو ويقاس عليه
غيره, ألا تراك لو لم تسمع تكسير واحد من هذه الأمثلة بل سمعته
منفردًا, أكنت تحتشم من تكسيره على ما كسر عليه نظيره. لا, بل كنت
تحمله عليه للوصية التي تقدمت لك في بابه, وذلك كأن يحتاج إلى تكسير
الرجز الذي هو العذاب, فكنت قائلًا لا محالة: أرجاز قياسًا على أحمال,
وإن لم تسمع أرجازًا في هذا المعنى. وكذلك لو احتجت إلى تكسير عجر من
قولهم: وظيف عجر2 لقلت: أعجار قياسًا على يقظ وأيقاظ, وإن لم تسمع
أعجارًا. وكذلك لو احتجت إلى تكسير شبع بأن توقعه على النوع لقلت:
أشباع, وإن لم تسمع ذلك, لكنك سمعت نطع وأنطاع, وضلع وأضلاع. وكذلك لو
احتجت إلى تكسير دمثر لقلت: دماثر, قياسًا على سبطر وسباطر. وكذلك
قولهم: إن كان الماضي على فَعَلَ فالمضارع منه على يَفْعُل, فلو أنك
على هذا سمعت ماضيًا على فعل لقلت في مضارعه: يفعل, وإن لم تسمع ذلك؛
كأن يسمع3 سامع ضؤل ولا يسمع مضارعه فإنه يقول فيه: يضؤل, وإن لم يسمع
ذلك, ولا يحتاج أن يتوقف إلى أن يسمعه؛ لأنه لو كان محتاجًا إلى ذلك
لما كان لهذه الحدود
__________
1 هو ولد الناقة ينتج في أول الربيع.
2 أي: صلب شديد؛ ويقال فيه عجز -ككف- أيضًا.
3 كذا في أ، وفي ش، ب: "سمع".
(2/43)
والقوانين التي وضعها المتقدمون
"وتقبلوها"1, وعمل بها المتأخرون معنى يفاد, ولا غرض2 ينتحيه الاعتماد,
ولكان القوم قد جاءوا بجميع المواضي والمضارعات, وأسماء الفاعلين
والمفعولين, والمصادر وأسماء الأزمنة والأمكنة, والآحاد والتثاني3
والجموع, والتكابير والتصاغير, ولما أقنعهم أن يقولوا: إذا كان الماضي
كذا وجب أن يكون مضارعه كذا, واسم فاعله كذا, واسم مفعوله كذا, واسم
مكانه كذا, واسم زمانه كذا, ولا قالوا: إذا كان المكبَّر كذا فتصغيره
كذا, وإذا كان الواحد كذا فتكسيره كذا, دون أن يستوفوا كل شيء "من
ذلك"4, فيوردوه لفظًا منصوصًا معينًا لا مقيسًا ولا مستنبطًا كغيره من
اللغة التي لا5 تؤخذ قياسًا، ولا تنبيهًا, نحو: دار وباب وبستان وحجر
وضبع وثعلب وخزز6؛ لكن القوم بحكمتهم وزنوا كلام العرب فوجدوه على7
ضربين: أحدهما ما لا بُدَّ من تقبله كهيئته لا بوصية فيه ولا تنبيه
عليه, نحو: حجر ودار, وما تقدَّم, ومنه ما وجدوه يتدارك بالقياس وتخف
الكلفة في علمه على الناس, فقننوه وفصلوه؛ إذ قدروا على تداركه من هذا
الوجه القريب المغني عن المذهب الحزن8 البعيد. وعلى ذلك قدم الناس في
أول المقصور والممدود ما يتدارك بالقياس والأمارات, ثم أتلوه ما لا
بدله من السماع والروايات،
__________
1 كذا في ش، ب. وقد سقط هذا في أ.
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
3 كذا أثبتها. وفي الأصول: "الثنائي", ولم يظهر لها وجه عندي، والتثاني
جمع التثنية.
4 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
5 كذا في أ، وسقط في ش، ب.
6 هو ذكر الأرانب.
7 كذا في ش، ب. وسقط هذا الحرف في أ.
8 كذا في أ، ب. وفي ش: "الحرف" وهو تحريف.
(2/44)
فقالوا: المقصور من حاله كذا؛ "ومن صفته
كذا, والممدود من أمره كذا, ومن سببه كذا, وقالوا في المذكر والمؤنث:
علامات التأنيث كذا, وأوصافها كذا"1، ثم لما أنجزوا ذلك قالوا: ومن
المؤنث الذي روي2 رواية كذا وكذا. فهذا من الوضوح على ما لا خفاء به.
فلما رأى القوم كثيرًا من اللغة مقيسًا منقادًا, وسموه بمواسمه, وغنوا
بذلك عن الإطالة والإسهاب فيما ينوب عنه الاختصار والإيجاز. ثم لما
تجاوزوا ذلك إلى ما لا بُدَّ من إيراده, ونصَّ ألفاظه التزموا
"وألزموا"3 كلفته؛ إذ لم يجدوا منها بدًّا ولا عنها منصرفًا. ومعاذ
الله أن ندَّعي أن جميع اللغة تستدرك بالأدلة قياسًا4، لكن ما أمكن ذلك
فيه قلنا به ونبهنا عليه, كما فعله من قبلنا ممن نحن له متبعون, وعلى
مثله5 وأوضاعه حاذون6، فأما هجنة الطبع وكدورة الفكر وخمود النفس7،
وخيس8 الخاطر وضيق المضطرب فنحمد الله على أن حماناه, ونسأله سبحانه أن
يبارك لنا فيما آتاناه, ويستعملنا به فيما يدني منه, ويوجب الزلفة لديه
بمنِّه.
فهذا مذهب العلماء بلغة العرب وما ينبغي أن يعمل عليه ويؤخذ به, فأمضه
على ما أريناه وحددناه غير هائب له ولا مرتاب به. وهو كثير وفيما جئنا
به منه كافٍ.
__________
1 هذا النص يوافق ما في ب، وفي أبدل ما بين القوسين "وعلامات التأنيث
كذا, وأوصافها كذا" وتتفق نسختا ب، ش إلى قوله بين القوسين: "وقالوا",
وفي ش بعد هذا: "ومن المؤنث الذي فيه علامات التأنيث كذا، أو أوصافه
كذا".
2 كذا في أ، وفي ش، ب "يروى".
3 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
4 كذا في ش، ب وفي أ: "وقياسًا".
5 هذا الضبط عن ب. وفي أ "مثله" بكسر فسكون، وكل صحيح.
6 كذا في ش، ب، وفي أ "حادون".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "جمود".
8 أي: كساده ووقوفه.
(2/45)
|