الخصائص باب في تلاقي
المعاني على اختلاف الأصول والمباني:
هذا فصل من العربيِّة حسن كثير المنفعة, قوي الدلالة على شرف هذه
اللغة. وذلك أن تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة, فتبحث عن أصل كل اسم
منها فتجده مفضي المعنى إلى معنى صاحبه.
وذلك كقولهم: "خُلق الإنسان"1 فهو "فُعُل" من خلقت الشيء, أي:2 ملّسته
ومنه صخرة خلقاء للملساء. ومعناه: أن خلق الإنسان هو ما قدر له ورتب
عليه،
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب "هو".
2 كذا في أ. وفي ش، ب "إذا".
(2/115)
فكأنه أمر قد استقرّ وزال عنه الشك, ومنه
قولهم في الخبر: "قد فرغ الله من الخَلْق والخُلقُ". والخليقة فَعِيلة
منه.
وقد كثرت فعيلة في هذا الموضع, وهو قولهم: "الطبيعة" وهي من طبعت الشيء
"أي: قررته"1 على أمر ثبت عليه, كما يطبع الشيء كالدرهم والدينار
فتلزمه أشكاله, فلا يمكنه انصرافه عنها ولا انتقاله.
ومنها "النحيية" وهي فَعِيلة من نحت الشيء "أي"2 ملسته وقررته3 على ما
أردته منه. فالنحيتة كالخليقة: هذا من نحت, وهذا من خلقت.
ومنها "الغريزة" وهي4 فعيلة من غرزت, كما قيل لها طبيعة؛ لأن طبع
الدرهم5 ونحوه ضرب من وسمه, وتغريزه بالآلة التي تثبت عليه الصورة.
وذلك استكراه له وغمز عليه كالطبع.
ومنها "النقيبة" وهي فَعِيلة من نقبت الشيء وهو نحو من الغريزة.
ومنها "الضريبة" وذلك أن الطبع لا بد معه6 من الضرب، لتثبيت "له"7
الصورة المرادة.
ومنها "النخيزة" هي فَعِيلة من نَخَزْت الشيء, أي: دققته, ومنه
المنحاز: الهاوون؛ لأنه موضوع للدفع به والاعتماد على المدقوق, قال8:
ينحزن من جانبيها وهي تنسلب9
__________
1 كذا في أ. وفي ج "إذا أقررته", وفي ش، ب: "إذا أفرزته".
2 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "فدّرته".
4 كذا في ش، ب وسقط حرف العطف في أ.
5 كذا في أوفي سائر الأصول: "الدراهم".
6 كذا في أ، ج وفي ش، ب "له".
7 زيادة في م.
8 أي: ذو الرمة.
9 هذا شطر بيت صدره:
والعبس من ماسج أو واسج خببا
وهو من قصيدته التي مطلعها:
ما بال عينك منها الماء ينسكب ... كأنه من كلي مفرية سرب
العاسج: المسرع. والعسج: ضرب من السير, وكذلك الواسج. والانسلاب:
المضاه في السير. وانظر الديوان.
(2/116)
أي: تضرب الإبل حول هذه الناقة للحاق بها
وهي تسبقهن وتنسلب أمامهن1.
ومنها "السجية" هي فعيلة من سجا يسجو إذا سكن, ومنه طرف ساجٍ وليل
ساجٍ, قال:
يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج2
وقال الراعي:
ألا اسلمي اليوم ذات الطوق والعاج ... والدل والنظر المستأنس الساجي
وذلك أن خُلُق الإنسان أمر قد سكن إليه واستقر عليه, ألا تراهم يقولون
في مدح الرجل: فلان يرجع إلى مروءة ويخلد إلى كرم ويأوي إلى سداد وثقة,
فيأوي إليه هو هذا؛ لأن المأوى خلاف "المعتمل" لأنه إنما يأوي إلى
"المنزل3 ونحوه" إذا أراد السكون.
ومنها "الطريقة" من4 طرقت الشيء أي: وطأتة وذللته، وهذا هو معنى ضربته
ونقبته5، وغرزته ونحته؛ لأن هذه كلها رياضات وتدريب6 واعتمادات وتهذيب.
__________
1 كذا في ش، ب. وهو يوافق ما في اللسان في نحز. وفي أ: "بنا منهن"، أي:
تمضي بنا مبتعدة منهن.
2 نسبه في اللسان في سجا إلى الحارثي, وورد هذا في الكامل 3/ 148 غير
معزوّ. والقمراء: الليلة المنيرة بنور القمر، والملاء جمع الملاءة. وفي
شرح الكامل للمرصفي: "شبه خيوط الطرق, وقد سطع نور القمر عليها بخيوط
ملاءة بيضاء قد نسجت".
3 كذا في أ. وفي ش، ب "المحل والمنزل ونحوهما".
4 كذا في ج. وفي أ، م: "لأن". وفي ش، ب: "لأ" وهو خطأ في النسخ.
5 كذا في ش، ب. وفي أ "دفقد".
6 كذا في الأصول. ويريد بالاعتماد القصد والتحري, ولو كانت "اعتمالات"
كانت أدنى إلى السباق.
(2/117)
ومنها "السجيحة" وهي فَعِيلة من سجح خلقه.
وذلك أن الطبييعة قد فرَّت1 واطمأنت فسجحت وتذللت2. وليس على الإنسان
من طبعه كُلْفَة, وإنما الكلفة فيما يتعاطاه ويتجشمه, قال حسان:
ذروا التخاجؤ وامشوا مشية سجحًا ... إن الرجحال ذوو عصب وتذكير3
وقال الأصمعي: إذا استوت أخلاق القوم قيل: هم على سرجوجة واحدة, ومرن
واحد, "ومنهم من يقول: سرجيجة وهي فعليلة من هذا"4، فسرجوجة: فعلولة،
من لفظ السرج ومعناه. والتقاؤهما أن السرج إنما أريد للراكب ليعدله
ويزل اعتلاله وميله. فهو من تقويم5 الأمر. وكذلك إذا استتبوا على وتيرة
واحدة, فقد تشابهت أحوالهم وزاح خلافهم، وهذا6 أيضًا ضرب من التقرير
والتقدير؛ فهو بالمعنى عائد إلى النحيتة والسجية والخليقة؛ لأن هذه
كلها صفات تؤذن بالمشابهة والمقاربة. والمرن مصدر كالحلف والكذب.
والفعل منه مَرَن على الشيء إذا ألفه فلان له. وهو عندي من مارن الأنف
لما لان منه. فهو أيضًا عائد إلى أصل الباب, ألا ترى أن الخليقة
والنحيتة والطبيعة والسجية, وجميع هذه المعاني التي تقدمت تؤذن بالإلف
والملاينة والإصحاب والمتابعة.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "قررت".
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "ذللت".
3 التخاجؤ فسرها بعضهم بأنها مشية فيها تبختر. مشية سجحا: سهلة لينة.
عصب: شدة وقوة. وهو من قصيدته التي يهجو بها بني الحارث بن كعب،
وأولها:
حار بن كعب ألا أحلام تزجركم ... هنا وأنتم من الجوف الجماخير
والجماخير واحدها جمخور -بزنة عصفور- وهو الواسع الجوف الجسيم. وانظر
لديوان طبعة البرقوقي 314.
4 سقط ما بينالقوسين في أ. وثبت في ش، ب.
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "تقديم".
6 كذا في أ، ب. وفي ش: "هي".
(2/118)
ومنها "السليقة", وهي من قولهم: فلان يقرأ
بالسليقية1, أي: بالطبيعة. وتلخيص ذلك أنها كالنحيتة. وذلك أن السليق
ما تحاتّ من صغار الشجر, قال:
تسمع منها في السليق الأشهب ... معمعة مثل الأباء الملهب2
وذلك أنه إذا تحاتّ لان وزالت شدته. والحتّ كالنحت, وهما في غاية
القرب. ومنه قول الله سبحانه: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} 3
أي: نالوا منكم. وسذا4 هو نفس المعنى في الشيء المنحوت5 المحتوت؛ ألا
تراهم يقولون: فلان كريم النجار والنجر, أي: الأصل. والنجر والنحت
والحت والضرب والدق والنحز والطبع والخلق والغرز والسلق, وكله التمرين
على الشيء، وتلييين القوي6 ليصحب وينجذب. فأعجب للطف صنع الباري سبحانه
في أن طبع الناس على هذا وأمكنهم7 من ترتيبه وتنزيله وهداهم للتواضع
عليه وتقريره.
ومن ذلك قولهم للقطعة من المسك: "الصوار"8 قال الأعشى:
إذا تقوم يضوع المسك أصورة ... والعنبر الورد من أردانها شمل9
فقيل له: "صوار"10 لأنه "فعال" من صاره يصوره إذا عطفه وثناه, قال الله
سبحانه: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} 11
وإنما قيل له ذلك لأنه يجذب حاسة من
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "بالسليقة". وكلاهما وارد في اللغة.
2 "الأباء" كذا في أ. وفي سائر الأصول: "الضرام" وانظر الجمهرة 3/ 41.
3 آية 19، سورة الأحزاب.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "فهذا".
5 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
6 كذا في ج. وفي أ: "فوي"، وفي ش، ب: "الأقوى".
7 كذا في أ. وف ش، ب: "مكنهم".
8 بكسر الصاد وضمها.
9 هو البيت الثالث عشر من معلقته المشهورة. والورد الذي لونه لون الورد
أي: الأحمر، ويروي "الزنبق" في مكان "العنبر"، والأردان: الأكمام
للثوب, وشمل أي عام من شملهم الأمر. وانظر المصباح المنير 43.
10 انظر ص 36، مقدمة هذا الكتاب.
11 آية: 26 سورة البقرة.
(2/119)
يشمّه إليه، وليس من خبائث الأرواح فيعرض
عنه، وينحرف1 إلى شق غيره، ألا ترى إلى قوله2:
ولو أن ركبًا يمموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدل بك الركب3
وكذا تجد4 أيضًا معنى المسك, وذلك أنه "فعل" من أمسكت الشيء كأنه لطيب
رائحته يمسك الحاسة عليه ولا يعدل بها صاحبها عنه. ومنه عندي قولهم
للجلد: "المسك" هو فعل من هذا الموضع, ألا ترى أنه يمسك5 ما تحته من
جسم الإنسان وغيره من الحيوان. ولولا الجلد لم يتماسك ما في الجسم من
اللحم والشحم والدم وبقية الأمشاج وغيرها.
فقولهم إذا: مسك يلاقي معناه معنى الصوار, وإن كانا من أصلين مختلفين،
وبناءين متباينين: أحدهما "م س ك " والآخر "ص ور " , كما أن الخليقة من
"خ ل ق " والسجية من "س ج و " والطبيعة من "ط ب ع " والنحيتة من "ن ح ت
" والغريزة من "غ ر ز " والسليقة من "س ل ق " والضريبة من "ض ر ب "
والسجيحة من "س ج ح " والسرجوجة والسرجيجة من "س ر ج " والنجار من "ن ج
ر " والمرن من "م ر ن ". فالأصول مختلفة, والأمثلة متعادية6، والمعاني
مع7 ذينك متلاقية.
ومن ذلك قولهم: صبيّ وصبية, وطفل وطفلة, وغلام وجارية, وكله للين
والانجذاب وترك الشدة والاعتياص. وذلك أن صبيًّا من صبوت إلى الشيء إذا
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "ينحرف".
2 البيت لأبي العتاهية. وانظر الوساطة طبع الحلبي 316.
3 "يمموك" كذا في أوفي ش، ب، ج: "أمموك", وقوله: "بك" كذا في الأصول.
والمناسب: "به" كما في الوساطة.
4 كذا في أ. وفي ب: "نجد".
5 انظر ص36، من مقدمة هذا الكتاب.
6 أي: متباينة من قولهم: تعادى مابين القوم: تباعد، أو من قولهم: تعادى
المكان: تفاوت ولم يستو.
7 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "من".
(2/120)
ملت إليه ولم تستعصم دونه. وكذلك الطفل: هو
من لفظ طفلِت الشمس للغرب, أي: مالت إليه وانجذبت نحوه, ألا ترى إلى
قول العجاج:
والشمس قد كادت تكون دنفًا1
يصف ضعفها وإكبابها2. وقد جاء به بعض3 المولدين فقال:
وقد وضعت خدًّا إلى الأرض أضرعا4
ومنه قيل: فلان5 طفيلي؛ وذلك أنه يميل إلى الطعام, وعلى هذا قالوا له:
غلام لأنه من الغلمة وهي اللين وضعفة العصمة. وكذلك قالوا: جارية. فهي6
فاعلة من جرى الماء وغيره؛ ألا ترى أنهم يقولون: إنها غضة "بضة"7 رطبة,
ولذلك قالوا: قد علاها ماء الشباب؛ قال عمر:
وهي مكنونة تحيّر منها ... في أديم الخدين ماء الشباب
وذلك أن الطفل والصبي والغلام والجارية ليست لهم عصمة الشيوخ ولا جسأة9
الكهول. وسألت بعض بني عقيل عن قول الحمصي 10:
__________
1 بعده:
أدفعها بالراح كي تزحلقا
أي: حين اصفرَّت أراد مداناتها للغروب, فكأنها مريضة دنف حينئذ. وانظر
اللسان في دنت, وملحق الديوان 82.
2 أي: سقوطها من علوّها، من قولهم: كببته على وجهه فأكبّ هو.
3 هو ابن الرومي, وانظر مختارات البارودي 4/ 75.
4 صدره: ولاحظت النوار وهي مريضة
وقبله في وصف الشمس:
إذا رنَّقت شمس الأصيل ونفضت ... على الأفق الغربي ورسا مزعزعًا
وودّعت الدنيا لتقضي نحبها ... وشوّل باقي عمرها فتشعشا
انظر ديوان ابن الرومي 4/ 1475 تحقيق دكتور حسين نصار "المصحح".
5 انظر ص36 من مقدمة هذا الكتاب.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "هي".
7 زيادة في م.
8 يريد عمر بن أبي ربيعة. وانظر الأغاني طبع الدار 1/ 139.
9 هي الصلابة والخشونة.
10 هو ديك الجن. وانظر ص49 من هذا الجزء.
(2/121)
لم تبل جدَّة سمرهم سمر ولم ... تسم السموم
لأدمهنّ أديما
فقال: هن بمائهن1 كما خلقنه. فإذا اشتد الغلام شيئًا قيل له حرور. وهو
"فعول" من اللبن الحازر إذا اشتد للحموضة, قال العجلي 2:
وأرضوا بإحلابة وطب قد حزر
وقال3:
نزع الحزور بالرشاء المحصد
وكأنهم زادوا الواو وشدَّدوها لتشديد4 معنى القوة؛ كما قالوا للسيء
الخلق: عذور, فضاعفوا الواو الزائدة لذلك قال 5:
إذا نزل الأضياف كان عذوّرا ... على الحي حتى تستقلّ مراجله
ومنه رجل كروّس للصلب الرأس، وسفر عطود؛ للشديد6؛ قال:
إذا جشمن قذفا عطوّدا ... رمين بالطرف مداه الأبعدا7
ومثل الأول قولهم: غلام8 رطل, وجارية رطلة للينها, وهو من قولهم: رطل
شعره إذا أطاله فاسترخى. ومنه عندي: الرطل9 الذي يوزن به. وذلك أن
الغرض في الأوزان أن تميل أبدًا إلى أن يعادلها الموزون بها. ولهذا قيل
لها: مثاقيل, فهي مفاعيل من الثقل, والشيء إذا ثقل استرسل10 وارجحنّ,
فكان ضد الطائش الخفيف.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ "عاهن" بدون نقط الحرفين الأولين.
2 انظر الجمهرة 3/ 451.
3 أي: النابغة الذبياني في قصيدته التي مطلعها:
من آل مية رائح أو مغتد ... عجلان ذا زاد وغير مزود
4 كذا في أ، وفي ش، ب "للتشديد ومعنى قوة".
5 البيت لزينب بنت الطثرية ترثي أخاها زيد، من كلمة لها في الأمالي 2/
85 وفيها أبيات تنسب للعجير السلوليّ. فقوله: "قال" يريد الشخص الشاعر.
وانظر السمط 718.
6 كذا في أ، ج. وسقط في ش، ب.
7 يصف إبلًا. ويريد بالقذف العلاة البعيدة.
8 أي: لم يشتد عظامه أو قارب الاحتلام.
9 انظر ص 36 من مقدمة هذا الكتاب.
10 أي: مال واهتزَّ.
(2/122)
فهذا ونحوه من خصائص هذه اللغة الشريفة
اللطيفة. وإنما يسمع الناس هذه الألفاظ فتكون الفائدة عندهم منها إنما
هي علم1 معنياتها. فأما كيف, ومن أين, فهو ما نحن عليه. وأحج به أن
يكون عند كثير منهم نيفًا2 لا يحتاج إليه, وفضلًا غيره أولى منه.
ومن ذلك أيضًا قالوا: ناقة كما قالوا3: جمل. وقالوا "ما بها"4 دبيج كما
قالوا: تناسل عليه الوشاء5. والتقاء معانيهما6 أن الناقة كانت عندهم
مما يتحسنون به ويتباهون بملكه فهي فعلة من من قولهم: تنوقت في ىالشيء
إذا أحكمته وتخيرته, قال ذو الرمة:
. . . . . . . . . . . . تنوقت ... به حضرميات الأكف الحوائك7
وعلى هذا قالوا: "جمل" لأن هذا "فَعَل" من الجمال؛ كما أن تلك "فَعَلة"
من تنوقت -وأجود اللغتين تأنّقت, قال الله سبحانه: {لَكُمْ فِيهَا
جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} 8. وقولهم: "ما بها
دبيج" هو "فِعْيل" من لفظ الديباج ومعناه. وذلك أن الناس بهم العمارة
وحسن الآثار, وعلى أيديهم يتم الأنس وطيب الديار. ولذلك قيل لهم: ناس
لأنه في الأصل أناس, فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. فهو فعال من الأنس
قال 9:
أناس لا يملُّون المنايا ... إذا دارت رحى الحرب الزبُون
__________
1 ثبت لهذا اللفظ في أوسقط في سائر الأصول. وقوله: "معنياتها" في م:
"معانيها".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "نفيًا" والوجه ما أثبت. والنيف: الفضل
والزيادة.
3 كذا في ش، ب. وفي أ "قيل".
4 كذا في ش، ب، وسقط في أ.
5 هو في الأصل كثرة المال, أي: الإبل والنعم. ويراد به هما المال نفسه.
6 كذا في أ. أي: معنى النافة ومعنى الجمل. وفي ب: "معانيها".
7 انظر 123 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
8 آية: 6 سورة النحل.
9 أي: أبو الغول الطهوي، وانظر الحماسة بشرح التبريزي طبعة بن 13.
(2/123)
وقال:
أناس عدًا علقت فيهم وليتني ... طلبت الهوى في رأس ذي زلق أشم1
وكما اشتقوا ديبجًا من الديباج؛ كذلك اشتقوا2 الوشاء من الوشي, فهو
"فعال" منه. وذلك أن المال يشي الأرض ويحسنها. " وعلى ذلك قالوا:
الغنم؛ لأنه من الغنيمة, كما قالوا لها: الخيل؛ لأنها فَعْل من
الاختيال, وكل ذلك مستحب"3.
أفلا ترى إلى تتالي هذه المعاني وتلاحظها وتقابلها وتناظرها؛ وهي
التنوّق، والجمال، والأنس، والديباج والوشي والغنيمة "والاختيال. ولذلك
قالوا: البقر، من بقرت بطنه أي: شققته؛ فهو إلى السعة والفسحة، وضد
الضيق والضغطة"4.
فإن قلت: فإنَّ الشاة من قولهم: رجل أشوه وامرأة شوهاء للقبيحين5. وهذا
ضد الأول؛ ففيه جوابان: أحدهما: أن تكون الشاة جرت6 مجرى القلب لدفع
العين عنها لحسنها؛ كما يقال7 في استحسان الشيء: قاتله الله كقوله 8:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الشنب من أنيابها بالقوادح9
__________
1 "أناس" كذا في أ، وفي ش, ب: "وناسا". "زلق أشم" كذا في أ. وفي ش، ب:
"زاق الأشم" والعدا: الغرباء.... ويريد بذي الزلق الأشم جبلًا عاليًا
تزلق فيه القدم. يقول: إن هواء في قوم غرباء، وكان أيسر له وأوفق أن
يكون هواء في مرتقى وعر.
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
3 سقط ما بين القوسين في أ، وثبت في ش، ب.
4 سقط ما بين القوسين في أ، وثبت في ش، ب.
5 كذا في ش، ب وفي أ، ج: "للمقبَّحين".
6 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "جرى".
7 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "تقول".
8 أي: جميل.
9 "الشنب". كذا في الأصول, والذي في اللسان وغيره: "الغر" والشنب
-ويقال الشمب بإبدال النون ميما- جمع أشنب، من الشنب وهو رِقَّة
الأسنان وعذوبتها. والقوادح جمع القادح، وهو السواد يظهر في الأسنان.
(2/124)
وهو كثير. والآخر أن يكون من باب1 السلب؛
كأنه سلب القبح2 منها؛ كما قيل للحرم: نالة3. ولخشسبة الصرار تَوْدية4؛
ولجوّ السماء السكاك5.
ومنه تحوَّب؛ وتأثَّم, أي: ترك الحوب والإثم.
وهو باب واسع؛ وقد كتبنا منه في هذا الكتاب ما6 ستراه بإذن الله تعالى.
وأهل اللغة يسمعون هذا فيرونه7 ساذجًا غُفْلًا، ولا يحسنون لما نحن فيه
من حديثه فرعًا ولا أصلًا.
ومن ذلك قولهم: الفضَّة سميت بذلك لانفضاض أجزائها وتفرقها في تراب
معدنها, كذا أصلها وإن كانت فيما بعد قد9 تُصَفَّى وتهذب وتسبك. وقيل
لها فضة كما قيل لها لجين. وذلك لأنها ما دامت في تراب معدنها فيه
ملتزقة "في التراب"10 متلجِّنة11 به12؛ قال الشماخ:
وماءٍ قد وردت أميم طام ... عليه الطير كالورق اللجين13
أي: المتلزق14 المتلجن؛ وينبغي أن يكونوا إنما ألزموا هذا الاسم
التحقير لاستصغار معناه ما دام في تراب معدنه, ويشهد عندك بهذا المعنى
قولهم في مراسله "الذهب"
__________
1 كذا في أ، وفي سائر الأصول: "أبواب".
2 كذا في ش، ب، وفي أ: "القبيح".
3 الذي في اللسان أن النالة ما حول الحرم؛ ويريد ابن جني من بنائها على
السلب أن من كان في التالة لم تنله اليد، وكذا نقل عنه كما في اللسان
في فول.
4 هي خشية تشد على أطباء الناقة لئلّا يرضعها الفضيل، وكأنه يريد من
بنائها على السلب أن الغرض من النودية منع الودي، وهو السيلان, يقال
ودى: سال، أي: أن النودية تحول دون ودي اللبن.
5 وجه السلب هنا أن مادة السكاك مبناها الضيق، يقال استكت مسامعه:
ضاقت, والجو من السعة بحيث لا ينكره.
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "و".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "فيرووئه".
8 كذا في ش. وفي أ، ب: "يحسون".
9 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
10 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
11 يقال: تلجَّن الشيء: تلزج.
12 كذا في أ، وفي ش، ب: "فيه".
13 من قصيدته في مدح عرابة بن أوس -رضي الله عنه. وانظر الديوان. 9،
والخزانة 2/ 222، واللآلئ وسمطه 663.
14 كذا في أ، وفي ش، ب: "الملتزق".
(2/125)
وذلك لأنه ما دام كذلك غير مصفى فهو
كالذاهب1؛ لأن ما فيه من التراب كالمستهلك له أو لأنه لما قل في الدنيا
فلم يوجد إلا عزيزًا صار كأنه مفقود ذاهب ألا ترى أن الشيء إذا قل قارب
الانتفاء. وعلى ذلك قالت العرب: قل رجل يقول ذلك إلا زيد بالرفع لأنهم
أجروه مجرى ما يقول ذاك أحد إلا زيد. وعلى2 نحو من هذا قالوا: قلما
يقوم زيد فكفوا3 "قل" ب"ما" عن اقتضائها الفاعل، وجاز عندهم إخلاء
الفعل من الفاعل لما دخله من مشابهة حرف النفي؛ كما بقوا المبتدأ بلا
خبر في نحو هذا من قولهم: أقل امرأتين تقولان ذلك لما ضارع المبتدأ حرف
النفي. أفلا ترى إلى أنسهم باستعمال القلة مقارنة4 للانتفاء. فكذلك5
لما قل هذا الجوهر في الدنيا أخذوا له اسمًا من الذهاب الذي هو الهلاك.
ولأجل هذا أيضًا سموه "تبرًا" لأنه "فعل" من التبار. ولا يقال له "تبر"
حتى يكون في تراب معدنه أو مكسور.
ولهذا قالوا للجام6 من الفضة "الغَرَب"، وهو "فَعَل" من الشيء الغريب؛
وذلك أنه ليس في العادة والعرف استعمال الآنية من الفضة, فلما استعمل
ذلك في بعض الأحوال كان عزيزًا غريبًا. هذا7 قول أبي إسحق. وإن شئت
جذبته إلى ما كنا عليه فقلت: إن هذا الجوهر غريب من بين الجواهر
لنفاسته وشرفه, ألا تراهم إذا أثنوا على إنسان قالوا: هو وحيد في وقته،
وغريب8 في زمانه، ومنقطع النظير، ونسيج وحده. ومنه قول الطائي الكبير:
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "كالذهب".
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
3 كذا في أوفي ش، ب: "وكفوا".
4 كذا في أ. وف ش، ب: "مقاربة".
5 كذا في ش، ب، وفي أ: "وكذلك".
6 يراد به قدح يسقى فيه الحمر.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "وهذا", وأبو إسحق هو الزجاج.
8 كذا في أ. وسقط هذا الحرف في ش، ب.
(2/126)
غربته العُلا على كثرة النا ... س فأضحى في
الأقربين جنيبا1
فليطُل عمره فلو مات في مَرْ ... ومقيمًا بها لمات غريبا
وقول شاعرنا:
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ... ولا أعاتبه صفحًا وإهوانا
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني ... إن النفيس عزيز2 حيثما كانا
ويدلك3 على أنهم قد تصوَّروا هذا الموضع من امتزاجه بتراب معدنه أنهم
إذا صفّوه وهذَّبوه أخذوا له اسمًا من ذلك المعنى فقالوا له: الخلاص
والإبريز والعقيان. فالخلاص فَعال من تخلّص, والإبريز إفعيل من برز
يبرز, والعقيان فعلان من عقى الصبي يعقي, وهو أول ما ينجيه4 عند سقوطه
من بطن أمه قبل أن يأكل وهو العقي. فقيل له ذلك لبروزه كما قيل له
البراز.
فالتأتّي5 والتلطّف في جميع هذه الأشياء وضمها وملاءمة ذات بينها هو
"خاص اللغة"6 وسرها، وطلاوتها7 الرائقة وجوهرها, فأما حفظها ساذجة
وقمشها8 محطوبة9 هرجة10 فنعوذ بالله منه، ونرغب بما آتاناه سبحانه عنه.
__________
1 جنيبًا أي: غريبًا. والبيتان من قصيدة يمدح بها أبا سعيد محمد بن
يوسف الثغري. وفي نسخ الخصائص "الناس", وفي الديوان "الأهل".
2 كذا في نسخ الخصائص وفي الديوان "غريب".
3 هذا عود للحديث عن التبر, فالأسماء الآتية للذهب.
4 أي: يخرجه من دبره.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "فالتأني".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "خاص آمر اللغة".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "طلاتها".
8 يقال: قمش الشيء: جمعه من ههنا وههنا من غير تحرٍّ للجهد.
9 من حطب الحطب: جمعه، ومن أمثالهم: هو كحاطب ليل: لا يبالي ما أخذ.
وهو كذلك في أ. وفي ش، ب: "مخطوطة".
10 يقال هرج البعير: سدر من شدة الحر وكثرة الطلاء بالقطران، فكأنه
يريد أن تكون ضعيفة. وفي اللغة الهرج -بكسر الهاء وسكون الراء- الضعيف.
(2/127)
وقال أبو علي -رحمه الله: قيل له حبي كما
قيل له سحاب. تفسيره أن حبيًّا "فعيل" من حبَا يحبو. وكأن السحاب لثقله
يحبو حبوًا؛ كما قيل له سحاب وهو "فعال" من سحب1؛ لأنه يسحب هدابه. وقد
جاء بكليهما شعر العرب؛ قالت امرأة:
وأقبل يزحف زحف الكسير ... سياق الرعاء البطاء العشارا2
وقال أوس 3:
داٍن مسفٍّ فويق الأرض هَيْدَبُه ... يكاد يدفعه من قام بالراح4
وقالت صبية منهم لأبيها فتجاوزت ذلك:
أناخ بذي نفر بركه ... كأن على عضديه كتافا5
وقال أبوهم 6:
وألقى بصحراء الغبيط بعاعه ... نزول اليماني ذي العياب المحمل7
__________
1 كذا في ش. وفي أ، ب: "سحبت".
2 ورد هذا البيت في ستة أبيات في ديوان المعاني العسكري 2/ 5 وفيه:
فأقبل، وهو في الأمالي 1-177 في سبعة أبيات وانظر اللسان "حبا".
2 يريد أوس بن حجر. وينسب بعضهم هذا إلى عبيد بن الأبرص, فنسبتها لأوس
ليس موضع وفاق، وهي موجودة في ديواني الشاعرين, وانظر اللآلئ وسمطه
439.
4 قبله:
يا من لبرق أبيت الليل أرقبه ... في عارض كمضي الصبح لماح
ومسف: دان قريب. وهيدبه: ما تدلي منه كأنه خيوط.
5 "نفر" كذا في ش. وذو نفر موضع. وفي أ، ب: "فقر" وهو تحريف, وفي أسماء
الأمكنة ذو بقر، وقد ورد هذا في اللسان "حبا": "بذي بقر". وبرك الجمل:
صدره؛ شبه السحاب بجمل بارك إذ تلبث بهذا الموضع.
6 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب. وأبوهم, أي: أبو الشعراء الوصافين
السحاب وسابقهم والمبرز فيهم، هو امرؤ القيس في المعلقة.
7 صحراء الغبيط موضع، والبقاع السحاب المثقل بالماء. ويريد باليماني
المحمل جملًا عليه بضائع من اليمن، إذا نزل بين القوم أقام حتى يباع ما
جاء به، ويروى المحمل -بكسر الميم- وصفًا لليماني بمعنى التاجر الذي
جاء ببضاعة من اليمن.
(2/128)
قال: ومن ذلك قولهم في أسماء الحاجة:
الحاجة والحوْجَاء واللوجاء, والإرب والإربة والمأربة, واللبانة
-والتلاوة بقية الحاجة, والتلية أيضًا- والأشكلة والشهلاء, قال
"الشاعر"1:
لم أقض حين ارتحلوا شهلائي ... من الكعاب الطفلة الغيداء
وأنت تجد مع ذلك 3من اختلاف أصولها ومبانيها جميعها4 "راجعًا"5 إلى
موضع واحد، ومخطومًا6 بمعنى لا يختلف, وهو الإقامة على الشيء والتشبث
به. وذلك أن صاحب الحاجة كلف بها ملازم للفكر فيها ومقيم على تنجُّزِها
واستحثاثها؛ قال7 رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "حبك الشيء يعمى
ويصم".
وقال المولد:
صاحب الحاجة أعمى ... لا يرى إلا قضاها
وتفسير ذلك أن الحاج شجر له شوك, وما كانت هذه سبيله فهو متشبث
بالأشياء, فأيّ شيء مرَّ عليه اعتاقة وتشبث به. فسميت8 الحاجة تشبيهًا
بالشجرة ذات الشوك. أي: أنا مقيم عليها متمسك بقضائها كهذه الشجرة في
اجتذابها ما مرَّ بها وقرب منها. والحوجاء منها وعنها تصرّف الفعل:
احتاج يحتاج احتياجًا9، وأحوجَّ يحوجّ، وحاج يحوج فهو حائج.
__________
1 زيادة في ش، ب، خلت منها أ.
2 يروى:
من العروب الكاعب الحسناء
كما في اللسان في شهل. وفيه "حتى" بدل "حين", وما هنا هو ما في الأصول.
3 بيان لقوله "ذلك".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "جميعًا".
5 زيادة وفق ما في ج. وقد خلت منها، في الأصول.
6 أي: مربوطًا بحبل واحد هو المعنى الذي ينصبّ إليه؛ يقال: خطمت
البعير: جعلت فيه الخطام وهو الحبل يقاد به. وما أثبت هو ما في أ. وفي:
ب "محفوظًا" وفي ش: "مخطومًا محفوظًا".
7 رواه أحمد في مسنده، والبخاري في التاريخ، وأبو داود. وانظر الجامع
الصغير في حرف الحاء. وفي شرح الجامع أن إسناده ضعيف.
8 كذا في أ. وفي ش: "فتشبَّهت" وفي ب: "فشبهت".
9 كذا في أ، ج، وسقط، في ش، ب.
(2/129)
واللوجاء من قولهم: لجت الشيء ألوجه لوجًا,
إذا أدرته في فيك. والتقاؤهما أن الحاجة مترددة على الفكر ذاهبة جائية
إلى أن تقضى, كما أن الشيء إذا تردد في الفم فإنه لا يزال كذلك إلى أن
يسيغه الإنسان أو يلفظه1.
والإرب والإربة والمأربة كله من الأُرْبَة وهي العقدة, وعقد مؤرب إذا
شدد. وأنشد2 أبو العباس لكناز3 بن نفيع4 بقوله لجرير:
غضبت علينا أن علاك ابن غالب ... فهلّا على جديك إذ ذاك تغضب 5
هما حين يسعى المرء مسعاة جده ... أناخًا فشداك العقال المؤرب6
والحاجة معقودة بنفس الإنسان، مترددة على فكره.
واللبانة من قولهم: تلبّن بالمكان إذا أقام به ولزمه. وهذا هو المعنى
عينه, والتلاوة والتلية من تلوت الشيء إذا قفوته واتبعته لتدركه. ومنه
قوله 7:
الله بيني وبين قيّمها ... يفر مني بها وأتَّبع
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "و"ة.
2 كذا في ش، ب. وسقط الواو في أ. وأبو العباس ثعلب، كما في اللسان
"أرب".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "كنان" وهو تحريف.
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "نقيع". وهو تحريف. وكناز بن نفيع من شعراء
تميم. وانظر معهم الشعراء للمرزباني 353.
5 يريد بابن غالب الفرزدق.
6 يريد بالمرء الفرزدق, أو هو المرء غير مخصص، يقول: إذا سعى الفرزدق
في المكارم مسعاة جده قعد بك جداك عن سبل العلا فهمًا ينيخانك ويشدانك،
يعقلانك عن السير، ثم قال: العقال المؤرب, أي: هذا هو العقال حقًّا.
فقوله العقال خبر لمبتدأ محذوف كما ترى، ويرى المبرد أن العقال بدل من
الضمير في شداك بدل اشتمال. وانظر معجم الشعراء للمرزباني 353.
7 أي: الأحوص الأنصاري. وانظر الأغاني 4/ 49 طبعة بولاق، وشعراء بن
قتيبة 500, وقيل البيت:
كأن لبني صبير غادية ... أو دمية زينت بها البيع
والصبير: السحاب الأبيض، والغادية: السحابة تجيء وقت الغداة.
(2/130)
والأشكلة كذلك كأنها من الشكال1، أي: طالب
الحاجة مقيم عليها، كأنها شكال له ومانعة من تصرفه وانصرافه عنها. ومنه
الأشكل من الألوان: الذي خالطت حمرته بياضه, فكأن كل واحد من اللونين
اعتاق صاحبه أن يصح ويصفو لونه. والشهلاء كذلك؛ لأنها من المشاهلة وهي
مراجعة القول قال 2:
قد كان فيما بيننا مشاهلة ... ثم تولت وهي تمشي البأدلة 3
البأدلة: أن تحرك في مشيها بآدلها وهي لحم صدرها. وهي مشية القصار من
النساء.
فقد ترى إلى ترامي هذه الأصول والميل بمعانيها إلى موضع واحد.
ومن ذلك ما جاء عنهم في الرجل الحافظ للمال, الحسن الرعية له والقيام
عليه, يقال: هو خال مال, وخائل مال, وصدى مال, وسرسور مال, وسؤبان4
مال, ومحجن مال "وإزاء مال"5 وبلو مال, وحبل مال "وعسل مال"6 وزر7 مال.
وجميع ذلك راجع إلى الحفظ لها8، والمعرفة بها8.
فخال مال يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون صفة على "فَعَل" كبطل وحسن, أو
"فَعِلٍ" ككبش صافٍ ورجل مال. ويجوز أن يكون محذوفًا من فاعل كقوله 9:
لاثٌ به الأشاء والعبري10
__________
1 هو حبل يوثق به يد الدابة ورجلها.
2 هو أبو الأسود العجلي كما في اللسان في شهل وبأزل.
3 قال ابن بري: سوأبه "البأزلة", وهي مشية فيها سرعة. وانظر اللسان في
شهل.
4 كذا في أ، ج. وفي ش: "سريان" وهو تحريف.
5 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
6 كذا في ش، ب، ج وفي أ "عسيل مال".والصواب ما أثبت.
7 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "رز" وهو تصحيف.
8 كذا في الأصول: "لها وبها", والضمير يرجع إلى المال. وقد ذكر الجوهري
عن بعض اللغويين أن المال يؤنث فهذا محمله, وانظر اللسان في مول.
9 أي: العجاج.
10 هو في وصف أيك, ولاث أصله لائث وهو وصف من لاث النبات: التفَّ وكثر.
والأشاء: صغار النخل. والعبري ما ينبث من شجر الضال على شطوط الأنهار.
يصف أن هذا الأيك به نبات كثير وأنهار.
(2/131)
فأما خائل مال ففاعل لا محالة. وكلاهما من
قوله 1: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة, أي:
يتعهدنا بها شيئًا فشيئًا2 ويراعينا. قال أبو علي: هو من قولهم:
تساقطوا3 أخولَ أخولَ, أي: شيئًا بعد شيء. وأنشدنا 4:
يساقط عنه روقه ضارياتها ... سقاط حديد القين أخول أخولا5
فكأن هذا الرجل يرعى ماله ويتعهده حفظًا له وشحًا عليه.
وأما صدى مال: فإنه يعارضها من ههنا وههنا ولا يهملها ولا يضيع أمرها
-ومنه الصدى لما يعارض الصوت, ومنه قراءة الحسن -رضي الله عنه "صاد
والقرآن", وكان يفسره: عارض القرآن بعملك, أي: قابل كل واحد منهما
بصاحبه- "قال العجلي:
يأتي لها من أيْمُنٍ وأشْمُلٍ6
وكذلك سرسور مال, أي: عارف بأسرار المال فلا يخفى عنه شيء من أمره.
ولست أقول كما يقول الكوفيون -وأبو بكر معهم: إن سرسورًا من لفظ السر,
لكنه قريب من لفظه, ومعناه بمنزلة عين ثرة وثرثارة. وقد تقدَّم7 ذكر
ذلك.
__________
1 أي: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه، والحديث في البخاري في كتاب
العلم.
2 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "أو".
3 كذا في ش، ج، وفي أ: "تساقط".
4 نسبة في اللسان في سقط إلى ضابئ بن الحارث البرجمي.
5 هذا في وصف الثور يردع عنه الكلاب. والروق: القرن. وحديد القين
الشرارة وقوله: "ضار ياتها" أي: الضاري من الكلاب. وهو كذلك في أ، ب،
ش. وفي ج: ضاربائها" وهو تحريف.
6 ما بين القوسين زيادة في ش، ب خلت منها أ. وفي ج: "قال العجلي يصف
الراعي: يأتي بها من أيمن وأشمل"، العجلي هو أبو النجم. وهذا في
أرجوزته الطويلة التي أولها:
الحمد لله الوهوب المجزل
7 انظر ص56 وما بعدها من هذا الجزء.
(2/132)
وكذلك سوبان مالٍ هو "فُعْلان" من السأب,
وهو الزق للشراب, قال الشاعر:
إذا ذقت فاهًا قلت علق مدمس ... أريد به قيل فغودر في ساب1
والتقاؤهما أن الزق إنما وضع لحفظ ما فيه, فكذلك هذا الراعي يحفظ المال
ويحتاط عليه احتياط الزق على ما فيه.
وكذلك محجن مال: هو "مِفْعل" من احتجنت الشيء إذا حفظته وادخرته.
وكذلك إزاء مال: هو "فِعَال" من أزى الشيء يأزي, إذا تقبض2 واجتمع,
قال:
ظل لها يوم من الشعرى أزي3
أي: يغم الأنفاس ويضيقها لشدة الحر. وكذلك هذا الراعي يشح عليها ويمنع
من تسربها. وأنشد أبو علي عن أبي بكر لعمارة:
هذا الزمان مولّ خيره أزي ... صارت رءوس به أذناب أعجاز
وكذلك بلو مال، أي: هو بمعرفته به قد بلاه واختبره, قال الله سبحانه:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ
وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} 4 قال عمر بن لجأ:
فصادفت أعصل من أبلائها ... يعجبه النزع على ظمائها5
__________
1 "قيل" كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "كيل" وهو تحريف. "فغودر" كذا في أ، ب،
ش. وفي ج: "فغرر" وهو تحريف أيضًا. وقوله: "ساب" بإبدال الهمزة ألفًا
لينة للردف كما ذكره اللسان في سأب وعلق. والعلق هنا الخمر لنفاستها،
والمدمس المخبوء المكنون. والقيل: الملك واحد الأفيال. وانظر الهمزة
لأبي زيد13.
2 كذا في شن ب. وفي أ: "نقص". وهو صحيح فإن النقيض والاجتماع نقصا
للشيء في المرأة. وفي اللسان: أزى ماله: نقص.
3 قائله عن باهلة. وعجزه:
نعوذ منه بزرانيق الركى
وزرانيق الكرى أبنية تبنى على جوانب الآبار, وعلى البئر زرنوقان يعلق
عليهما البكرة. وانظر اللسان "أزى" ومجالس ثعلب 614.
4 آية: 31، سورة محمد.
5 يتحدث عن إبل سقاها. والأعصل: اليابس البدن, وذلك أقوى له. والنزع
هنا تزع الدلو من البئر، وهو جذبها.
(2/133)
وكذلك حبل مال, كأنه يضبطها كما يضبطها
الحبل يشد به. ومنه الحبل: الداهية من الرجال؛ لأنه يضبط الأمور ويحيط
بها.
وكذلك عسْل1 مال؛ لأنه يأتيها ويعسل2 إليها من كل مكان, ومنه الذئب
العسول, ألا ترى أنه إنما سمي3 ذئبًا لتذاؤبه وخبثه ومجيئه تارة من هنا
ومرة4 من هنا.
وكذلك زرّ مال: أي يجمعه ويضبطه كما يضبط الزر "الشيء"5 المزرور.
فهذه الأصول وهذه الصيغ على اختلاف الجميع مرتمية إلى موضع واحد على ما
ترى.
ومن ذلك قولهم للدم: الجدَّية والبصيرة. فالدم من الدمية لفظًا ومعنًى,
وذلك أن الدمية إنما هي للعين6 والبصر, وإذا شوهدت فكأنَّ ما هي صورته
مشاهد بها, وغير غائب مع حضورها, فهي تصف حال ما بعد عنك. وهذا هو
الغرض في هذه الصور المرسومة للمشاهدة. وتلك عندهم حال الدم؛ ألا ترى
أن الرميّة إذا غابت عن الرامي استدلّ عليها بدمها, فاتبعه7 حتى يؤديه
إليها. ويؤكد ذلك لك قولهم فيه "البصيرة", وذلك أنها "إذا"8 أبصرت أدت
إلى المرمي الجريح. ولذلك أيضًا قالوا له "الجدية"؛ لأنه يجدي على
الطالب للرّمية ما يبغيه منها9. ولو لم ير الدم لم يستدلل عليها, ولا
عرف موضعها, قال صلى الله عليه وسلم "كُلْ ما أصميت ودع ما أنميت"10.
__________
1 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "عسبل" وهو خطأ كما تقدم.
2 أي: يتردد بينها, وهو من قولهم: عسل الذئب: أسرع في مشيه واضطرب.
3 كذا في أ، ج، وسقط في ش، ب.
4 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "تارة".
5 كذا في ب، ج، ش، وسقط في أ.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "العين".
7 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
8 كذا في أ، وسقط في ش، ب.
9 كذا في أ. وفي ش، ب: "معها".
10 "ما أصميت" أي: قتلت من الصيد فزهقت روحه بين يديك، و"ما أنميت" هو
ما أصابته إصابة غير قاتلة, ثم غاب عن نظرك ومات بعد. والحديث رواه
الطبراني. وانظر الجامع الصغير في حرف الكاف.
(2/134)
وهذا1 مذهب في هذه اللغة طريف غريب لطيف2.
وهو فقهها3، وجامع معانيها وضامّ نشرها4. وقد هممث غير دفعة أن أنشئ في
ذلك كتابًا أتقصَّى فيه أكثرها, والوقت يضيق دونه. ولعله لو خرج لما
أقنعه ألف ورقة إلا على اختصار5 وإيماء. وكان أبو علي -رحمه الله-
يستحسن هذا الموضع جدًّا وينبه عليه, ويسر بما يحضره خاطره منه. هذا
باب إنما يجمع بين بعضه وبعض من طريق المعاني مجرَّدة من الألفاظ, وليس
كالاشتقاق الذي هو من لفظ واحد, فكأنَّ بعضه منبهة على بعض. وهذا إنما
يعتنق فيه الفكر المعاني غير منبهته6 عليها الألفاظ, فهو أشرف
الصنعتين7، وأعلى المأخذين. فتفطن له، وتأنّ8 لجمعه؛ فإنه يؤنقك ويفيء
عليك, ويبسط ما تجعَّد من خاطرك, ويريك من حكم الباري -عز اسمه ما تقف
تحته وتسلم لعظم الصنعة فيه, وما أودعته أحضانه ونواحيه.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "فهذا".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "ظريف".
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "فقيهها".
4 النشر: المتفرق غير المجتمع.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "انتصار".
6 كذا في أ. وفي ش، ب "منبهة".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "الصنفين".
8 كذا في أ. وفي ش، ب: "فتأت".
(2/135)
باب في الاشتقاق
الأكبر:
هذا موضع لم يسمِّه أحد من أصحابنا غير أن أبا علي -رحمه الله- كان
يستعين به ويخلد إليه, مع إعواز الاشتقاق الأصغر. لكنه مع هذا لم
يسمِّه, وإنما كان يعتاده عند الضرورة, ويستروح إليه ويتعلل به. وإنما
هذا التلقيب لنا نحن, وستراه فتعلم أنه لقب مستحسن1. وذلك أن الاشتقاق
عندي على ضربين: كبير وصغير.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "مستحق".
(2/135)
فالصغير ما في أيدي الناس وكتبهم, كأن
تأخذ1 أصلًا من الأصول فتتقرّاه فتجمع1 بين معانيه, وإن اختلفت صيغه
ومبانيه. وذلك كتركيب "س ل م ", فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه؛
نحو: سلم ويسلم وسالم وسلمان وسلمى والسلامة والسليم: اللديغ, أطلق
عليه تفاؤلًا بالسلامة. وعلى ذلك بقية الباب إذا تأولته, وبقية الأصول
غيره كتركيب "ض ر ب " و "ج ل س " و "ز ب ل " على ما في أيدي الناس من
ذلك. فهذا هو الاشتقاق الأصغر, وقد قدم أبو بكر2 -رحمه الله- رسالته
فيه بما أغنى عن إعادته؛ لأن أبا بكر لم يأل فيه نصحًا وإحكامًا وصنعة
وتأنيسًا.
وأمَّا الاشتقاق الأكبر فهو أن تأخذ أصلًا من الأصول الثلاثية3، فتعقد
عليه وعلى تقاليبه4 الستة معنًى واحدًا, تجتمع التراكيب الستة وما
يتصرف من كل واحد منها عليه, وإن تباعد شيء من ذلك "عنه"5 رُدَّ بلطف
الصنعة والتأويل إليه, كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد.
وقد كنا قدمنا ذكر طرف من هذا الضرب من الاشتقاق في أول هذا الكتاب عند
ذكرنا أصل الكلام, والقول وما يجيء من تقليب6 تراكيبهما نحو: "ك ل م "
"ك م ل " "م ك ل " "م ل ك " "ل ك م " "ل م ك " وكذلك "ق ول " "ق ل و "
"وق ل " "ول ق " "ل ق و " "ل وق " وهذا أعوص7 مذهبًا، وأحزن مضطربًا.
وذلك8 أنا عقدنا تقاليب
__________
1 كذا في أ. وفي ب: "يأخذ.... فيتقراه فيجمع" وفي ش كما في ب, غير أن
فيه: "فيقرأ" وهو تصحيف.
2 يريد ابن السراج. وله كتاب الاشتقاق، ولم يتممه. راجع البغية 44.
3 كذا في أ، ج. وفي ش،: "الثلاثة".
4 كذا في أ، ب. وفي ج: "مقاليبه".
5 كذا في ش، ب، ج. وسقط هذا في أ.
6 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
7 كذا في ش، أ. وفي ب: "أغوص".
8 كذا في أ، ب. وفي ش: "ولذلك".
(2/136)
الكلام الستة على القوة والشدة، وتقاليب
القول الستة على الإسراع والخفة, وقد مضى ذلك في صدر الكتاب.
لكن بقي علينا "أن نحضر هنا"1 مما يتصل به أحرفًا تؤنس بالأول، وتشجّع2
منه المتأمل.
فمن ذلك تقليب "ج ب ر " فهي -أين3 وقعت- للقوة والشدة, منها: "جبرت
العظم والفقير" إذا قويتهما وشددت منهما, والجبر: الملك لقوته وتقويته
لغيره, ومنها: "رجل مجرب" إذا جرَّسته4 الأمور ونجذته5، فقويت منّته
واشتدت شكيمته, ومنه الجراب؛ لأنه يحفظ ما فيه, وإذا حفظ الشيء وروعي
اشتدَّ وقوي, وإذا أغفل وأهمل تساقط ورذي6. ومنها: "الأبجر والبجرة"
وهو القوي السرة. ومنه قول علي -رضي الله عنه: إلى الله أشكو عجري
وبجري, تأويله: همومي وأحزاني, وطريقه أن العجرة كل عقدة في الجسد,
فإذا كانت في البطن والسرة فهي البجرة, "والبجرة"7 تأويله أن السرة
غلظت ونتأت فاشتد مسّها وأمرها. وفُسِّر أيضًا قوله: عجري وبجري, أي:
ما أبدي وأخفي من أحوالي. و"منه البُرْج لقوته في نفسه وقوة ما يليه"8
به، وكذلك البَرَج لنقاء بياض العين وصفاء سوادها هو قوة أمرها،
__________
1 كذا في أ، وفي ش، ب: "نحضرهما".
2 كذا في ش. وفي أ، "يسجع".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: لين، وهو تحريف.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "حرمته" وهو تصحيف. وجرسته الأمور: جرَّبته
وأحكمته.
5 كذا في أ، ج، وفي ش، ب: "نجدته" وكلاهما صحيح. والذال أعلى. يقال:
نجده الدهر ونجذه: عرفه وعلمه.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "ردي" وكلاهما صحيح، فردي هلك، ووذي: أثقله
المرض.
7 كذا في أ، وسقط هذا في ش، ب.
8 كذا في ش، ب، وفي أ: "منها البرج المؤيد في نفسه وقوة من عليه".
(2/137)
وأنه ليس بلون مستضعف, ومنها رجَّبت الرجل1
إذا عظَّمته وقوَّيت أمره, ومنه رجب لتعظيمهم إياه عن القتال فيه, وإذا
كرمت النخلة على أهلها فمالت دعموها بالرجبة, وهو شيء تسند إليه لتقوى
به. والراجبة: أحد فصوص الأصابع وهي مقوية لها. ومنها الرباجي وهو
الرجل يفخر بأكثر من فعله, قال:
وتلقَّاه رباجيًّا فخورا2
تأويله أنه يعظِّم نفسه ويقوّي أمره.
ومن ذلك تراكيب "ق س و " "ق وس " "وق س " "وس ق " "س وق "3 وأهمل " س ق
و " , وجميع ذلك إلى القوة والاجتماع. منها: "القسوة" وهي شدة القلب
واجتماعه, ألَا ترى إلى قوله:
يا ليت شعري -والمنى لا تنفع ... هل أغدون يومًا وأمري مجمع4
أي: قوى مجتمع5، ومنها "القوس" لشدتها، واجتماع طرفيها, ومنها "الوقس"
لابتداء الجرب، وذلك لأنه يجمع الجلد ويقحله6، ومنها "الوَسْق" للحمل،
وذلك لاجتماعه وشدته, ومنه استوسق الأمر أي اجتمع {وَاللَّيْلِ وَمَا
وَسَقَ} 7 أي: جمع،
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب. "الأمر".
2 أورده في الجمهرة 1/ 309 غير معزو.
3 كذا في أ. وفي ش: "فأهمل", وفي أما هو أدنى إلى ما في ش.
4 في النوادر 123. وبعده:
وتحت رحلي زفيان ميلع ... حرف إذا ما زجرت تبوّع
5 كذا في أ. وفي ش، ب "مجمع".
6 كذا في ب، أي: جعله قحلًا، أما وفي أ: "يحفيه" أي: يذهبه. وفي ج:
"يخفيه". وفي ش: "يفلحه" وكأنه تحريف عن "يفحله".
7 آية: 17، سورة الانشقاق.
(2/138)
ومنها "السوق"، وذلك لأنه استحثاث وجمع
للمسوق بعضه؛ وعليه قال1:
مستوسقات لو يجدن سائقًا2
فهذا كقولك:
مجتمعاتٍ لو يجدن جامعًا
فإن شد شيء من شعب هذه الأصول عن عقده ظاهرًا رُدَّ بالتأويل إليه,
وعطف بالملاطفة عليه. بل إذا كان هذا قد3 يعرض في الأصل الواحد حتى
يحتاج فيه إلى ما قلناه, كان فيما انتشرت أصوله بالتقديم والتأخير أولى
باحتمال وأجدر بالتأوّل له.
ومن ذلك تقليب "س م ل " "س ل م " "م س ل " "م ل س " "ل م س " "ل س م "
والمعنى الجامع لها المشتمل عليها الإصحاب والملاينة, ومنها الثوب
السمل وهو الخلق. وذلك لأنه ليس عليه من الوبر والزئبر ما على الجديد.
فاليد إذا مرَّت عليه للمس لم يستوقفها عنه جدَّة4 المنسج ولا خشنة
الملمس. والسمَل: الماء القليل؛ كأنه شيء قد أخْلَق وضعف عن قوة
المضطرب, وجمة المرتكض, ولذلك قال:
حوضًا كأنَّ ماءه إذا عسل ... من آخر الليل رويزي سمل5
وقال آخر:
ورّاد أسمال المياه السُدْم ... في أخريات الغبش المغمّ6
__________
1 أي: العجاج كما في اللسان في وسق.
2 قبله:
إن لنا الإبلا حقائقًا
3 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
4 كذا في ش، ب. وفي أ "حدة".
5 قبله كما في اللسان في عسل عن ثعلب:
قد صبحت والظل غض ما زحل
كأنه يصف إلّا أوقطا وردت الماء، ويقال: عسل الماء إذا حركته الريح
فاضطرب وارتفعت حبكه وطرائفه. والرويزي تصغير الرازي: المنسوب إلى
الري. ويعني به ثوب أخضر يشبه الماء به.
6 السدم: المتدفئة الغائرة، والغبش: الظلمة إذ يقبل الصباح, والمغم ذو
الغيم, أو الذي يضيق الأنفاس من شدة الحر.
(2/139)
ومنها السلامة. وذلك أن السليم ليس فيه عيب
تقف النفس عليه, ولا يعترض عليها به. ومنها "المَسْل و"1 المَسَل
والمَسِيل كله واحد, وذلك أن الماء لا يجري إلّا في مذهب له, وإمام
منقاد به, ولو صادف حاجزًا2 لإعتاقه فلم يجد متسرَّبا معه. ومنها
الأملس والملساء. وذلك أنه لا اعتراض على الناظر فيه والمتصفح له.
ومنها اللمس, وذلك أنه إن عارض اليد شيء حائل بينها وبين الملموس لم
يصح هناك لمس؛ فإنما هو3 إهواء باليد نحوه, ووصول منها إليه, لا حاجز
ولا مانع, ولا بُدَّ مع اللمس من إمرار اليد وتحريكها على الملموس, ولو
كان هناك حائل لاستوقفت به عنه. ومنه الملامسة {أَوْ لَامَسْتُمُ
النِّسَاءَ} 4 أي: جامعتم، وذلك أنه لا بُدَّ هناك من حركات واعتمال,
وهذا واضح. فأما "ل س م " فمهمل, وعلى أنهم قد قالوا: نسمت الريح إذا
مرَّت مرًّا سهلًا ضعيفًا, والنون أخت اللام, وسترى نحو ذلك.
" ومرَّ بنا أيضًا أَلْسَمْتُ الرجل حجته إذا لقَّنته وألزمته إياها.
قال:
لا تُلْسِمَنَّ أبا عمران حُجَّته ... ولا تكوننَّ له عونًا على عمرا5
فهذا من ذلك, أي: سهلتها وأوضحتها"6.
واعلم أنا لا ندعي أن هذا مستمر في جميع اللغة, كما لا ندعي للاشتقاق
الأصغر أنه في جميع اللغة. بل إذا كان ذلك "الذي هو"7 في القسمة سدس
هذا أو خمسه متعذرًا صعبًا, كان تطبيق هذا وإحاطته أصعب مذهبًا وأعز
ملتمسًا8. بل لو صحَّ
__________
1 كذا في أ، ج. وسقط هذا في ش، ب. والمعنى الواحد الذي يأتي له هذه
الألفاظ الثالثة هو مجرى الماء، وصاحب القاموس يجعل المسل في معنى
السيلان، والخطب سهل.
2 في ش بعد "حاجزًا": "أو جائزًا" وفي ب: "أو حائزًا".
3 أي: اللمس.
4 آية: 6 سورة المائدة.
5 "عمرًا" كذا في ب. وهو الموافق لما في اللسان في لسم, وفي ش: عمر،
بكسر الراء.
6 ما بين القوسين في ش، ب: وسقط في أ.
7 كذا في أ، وفي ش، ب: "هو الذي".
8 كذا في ش، ب. وفي أ: "ملبسًا".
(2/140)
من هذا النحو, وهذه الصنعة المادة الواحدة
تتقلّب على ضروب التقلب كان غريبًا معجبًا. فكيف به وهو يكاد يساوق
الاشتقاق الأصغر ويجاريه إلى المدى الأبعد.
وقد رسمتُ لك منه رسمًا فاحتذه1، وتقيّله2 تحظ به، وتكثر إعظام هذه
اللغة الكريمة من أجله. نعم, وتسترفده في بعض الحاجة إليه فيعينك ويأخذ
بيديك, ألا ترى أن أبا علي -رحمه الله- كان يقوِّي كون لام "أثفية"
فيمن جعلها "أفعولة" واوًا بقولهم: جاء يثفه, ويقول: "هذا"3 من الواو
لا محالة كيعِده. فيرجَّح4 بذلك الواو على الياء التي ساوقتها في يثفوه
ويثفيه, أفلا تراه كيف استعان على لام ثفا بفاء وثف. وإنما ذلك لأنها
مادّة واحدة شُكِّلت على صور مختلفة, فكأنها لفظة واحدة. وقلت مرة
للمتنبئ: أراك تستعمل في شعرك ذا وتا وذي كثيرًا, ففكر شيئًا ثم قال:
إن هذا الشعر لم يعمل كله في وقت واحد. فقلت له: أجل لكن5 المادة
واحدة. فأمسك البتة. والشيء يذكر لنظيره, فإن المعاني وإن اختلفت
معنياتها آوية إلى مضجع غير مقضّ, وآخذ بعضها برقاب بعض.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "فأخذه".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "تقبله"، وتقيله: تبعه وترسَّمه من قولهم: تقبل
فلان أباه, إذا نزع إليه في الشبه.
3 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "فترجح".
5 كذا في أ. وفي سائر الأصول "إلّا أن".
(2/141)
باب في الإدغام
الأصغر:
قد ثبت أن الإدغام المألوف المعتاد إنما هو تقريب صوت من صوت, وهو في
الكلام على ضربين: أحدهما أن يلتقي المثلان على.
الأحكام التي يكون عنها الإدغام, فيدغم الأول في الآخر.
(2/141)
والأوّل من الحرفين في ذلك على ضربين: ساكن
ومتحرك؛ فالمدغم الساكن الأصل كطاء قطَّع وكاف سُكِّر الأوليين,
والمتحرك نحو دال شدَّ1، ولام معتل. والآخر أن يلتقي المتقاربان على
الأحكام التي يسوغ معها الإدغام, فتقلب أحدهما إلى لفظ صاحبه فتدغمه2
فيه. وذلك مثل: "ودَّ"3 في اللغة التميمية, وأمَّحى وامَّاز واصَّبر
واثَّاقل عنه. والمعنى الجامع لهذا كله تقريب الصوت من الصوت, ألا ترى
أنك في قطَّع ونحوه قد أخفيت الساكن الأول في الثاني حتى نَبَا اللسان
عنهما نبوة واحدة, وزالت الوقفة التي كانت تكون في الأول لو لم تدغمه
في الآخر, ألا ترى أنك لو تكلَّفت ترك إدغام الطاء الأولى لتجشَّمت لها
وقفة عليها تمتاز4 من شدَّة ممازجتها للثانية بها؛ كقولك: قططع وسككر,
وهذا إنما تحكمه5 المشافهة به. فإن6 أنت أزلت تلك الوُقَيفة والفترة
على الأول خلطته بالثاني فكان قربه منه "وادّغامه"7 فيه أشد لجذبه إليه
وإلحاقه بحكمه. فإن كان الأول من المثلين متحركًا ثم أسكنته وأدغمته في
الثاني فهو أظهر أمرًا وأوضح حكمًا, ألا ترى أنك إنما أسكنته لتخلطه
بالثاني وتجذبه إلى مضامّته ومماسّة لفظه بلفظه بزوال8 الحركة التي
كانت حاجزة بينه وبينه. وأمَّا إن كانا مختلفين ثم قُلِبَت أدغمت, فلا
إشكال في إيثار تقريب أحدهما من صاحبه؛ لأن قلب المتقارب أوكد من تسكين
النظير.
__________
1 أي: فعلًا لا مصدرًا.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "فيه غمه".
3 وأصله وتد.
4 كذا في ش, ب. وفي أ: "تمتازها".
5 كذا في ش، وفي أ، ب: "يحكمه".
6 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "فإذا".
7 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "بعد إدغامه".
8 كذا في ش، ب. وفي أ "فزوال" وهو تصحيف.
(2/142)
فهذا حديث الإدغام الأكبر1؛ وأما الإدغام
الأصغر2 فهو تقريب الحرف من الحرف وإدناؤه منه من غير إدغام يكون هناك.
وهو ضروب.
فمن ذلك الإمالة، وإنما3 وقعت في الكلام لتقريب الصوت من الصوت. وذلك
نحو: عالم وكتاب وسعَى وقَضى واسقضى, ألا تراك قرَّبت فتحة العين من
عالِم إلى كسرة اللام منه, بأن نحوت بالفتحة نحو الكسرة فأملت الألف
نحو الياء, وكذلك سعى وقضى , نحوت بالألف نحو الياء التي انقلبت عنها,
وعليه بقية الباب.
ومن ذلك أن تقع فاء افتعل صادًا أو ضادًا أو طاءً أو ظاءً, فتقلب لها
تاؤه طاء, وذلك نحو: اصطبر واضطبر واضطرب واطرد واظطلم. فهذا تقريب من
غير إدغام, فأما اطَّرد فمن ذا الباب أيضًا, ولكن إدغامه ورد ههنا
التقاطًا4 لا قصدًا. وذلك أن فاءه طاء, فلمَّا أبدلت تاؤه طاء صادفت
الفاء طاء فوجب الإدغام لما اتفق حينئذ, ولو لم يكن هناك طاء لم يكن
إدغام, ألا ترى أنَّ اصطبر واضطرب واظطلم لمَّا كان الأول منه غير طاء
لم يقع إدغام قال 5:
..... ويظلم أحيانًا فيظطلم
وأما فيظلم "وفيطَّلم"6 بالظاء والطاء جميعًا, فادّغام عن قصد لا عن
توارد. فقد عرفت بذلك فرق ما بين اطَّرد وبين اصَّبر واظَّلم واطَّلم.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "الأصفر" وهو خطأ.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "الأكبر" وهو خطأ.
3 كذا في ش، ب. وسقط حرف العطف في أ.
4 أي: من غير أن يقصد إليه, تقول: لقيت فلانًا التقاطها, أي: فجأة.
5 هو زهير, وانظر الديوان بشرح ثعلب 156.
6 زيادة على حسب ما في ج خلت منها الأصول الثلاثة.
(2/143)
ومن ذلك أن تقع فاء "افتعل" زايا أو دالًا
أو ذالًا, فتقلب تاؤه1 لها دالًا؛ كقولهم: ازدان وادَّعى "وادكر
واذدكر"2 فيما حكاه أبو3 عمرو.
فأما ادَّعى فحديثه حديث اطَّرد لا غير في أنه لم تقلب قصدًا للإدغام,
لكن قلبت4 تاء ادعى دالًا كقلبها في ازدان, ثم وافقت فاؤه الدال
المبدلة من التاء فلم يكن من الإدغام بد.
وأما اذدكر "فمنزلة بين"5 ازدان وادَّعى. وذلك أنه لما قلب التاء دالًا
"لوقوع الذال"6 قبلها صار إلى اذدكر, فقد كان هذا وجهًا يقال مثله, مع
أن أبا عمرو قد أثبته وذكره, غير أنه أجريت الذال لقربها من الدال
بالجهر مجرى الدال فأوثر الإدغام لتضامّ الحرفين في الجهر فأدغم, فهذه
منزلة بين منزلتي7 ازدان وادّعى. وأما اذَّكر8 فكاسّمع واصّبر.
ومن ذلك أن تقع السين قبل الحرف المستعلي فتقرّب9 منه بقلبها صادًا على
ما هو مبين في موضعه من باب الإدغام, وذلك كقولهم في سُقْت: صُقْت, وفي
السوق: الصوق, وفي سبقت: صبقت،
__________
1 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "فاؤه"، وهو تصحيف.
2 في أ: "اذدكر". وفي ب: "ذدكر". وهي اذدكر. وفي ش: "ادّكر". وفي ج:
"اذكره". وقد رأيت أن المقام يدعو إلى اذدكر وادكر؛ فإن فيهما قلب تاء
الافتعال دالًا. وقد جعلت "اذدكر"، وبإزاء ما حكاه أبو عمرو فإنه هو
الذي أثبتها" وسيبويه يمنعها، واذَّكر بقولها الجميع. وانظر شرح الرضي
للشافية في مبحث الإدغام، وابن يعيش 10/ 150.
3 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "عمر" والصواب ما أثبت.
4 كذا أثبتها. وفي الأصول: "فاء".
5 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "فبمنزلة". والوجه ما أثبت كما يتبين مما
يجيء.
6 كذا في ش، ب وسقط هذا في أ.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "منزلتين".
8 كذا أثبته. وفي الأصول: ادكر, والوجه ما أثبت, يريد أن اذَّكر فيها
إبدال تاه الافتعال من جنس الفاء كما في اسَّمع وأصله استمع، واصَّبر
وأصله اصطبر.
9 كذا في أ. وفي ش، ب: "فيقرب".
(2/144)
وفي السوق: الصوق، وفي سبقت: صبقت، وفي
سملق1 وسويق: صملق وصويق, وفي سالغ2 وساخط: صالخ وصاخط, وفي سقر: صقر,
وفي مساليخ: مصاليخ. ومن ذلك قولهم3: ست أصلها سدس, فقربوا السين من
الدال بأن قلبوها تاء فصارت سِدْت, فهذا تقريب لغير ادّغام, ثم إنهم
فيما بعد أبدلوا الدال تقاء لقربها منها إرادة للإدغام الآن فقالوا ست.
فالتغيير الأول للتقريب من غير إدغام والتغيير الثاني مقصود به
الإدغام.
ومن ذلك تقريب الصوت من الصوت مع حروف الحلق نحو شعيرٍ وبعيرٍ ورغيفٍ,
وسمعت الشجري غير مرة يقول: زِئير الأسد, يريد: الزَّئِير. وحكى أبو
زيد عنهم: الجنَّة لمن خاف وعيد الله. فأما مغيرة فليس اتباعه لأجل حرف
الحلق, إنما هو4 من باب مِنْتِن, ومن قولهم: أنا أجوءك وأنبؤك.
والقرفصاء5، والسلطان، وهو منحدر من الجبل, وحكى سيبويه أيضًا مُنْتُن,
ففيه إذًا ثلاث لغات: مُنْتِن وهو الأصل, ثم يليه مِنْتِن, وأقلها
مُنْتُن. فأما قول من قال: إن مُنْتِن من قولهم: أنتن, ومِنْتِن من
قولهم: نَتُن الشيء, فإن ذلك لُكْنَة منه.
ومن ذلك أيضًا قولهم: "فَعَل يَفْعَل" مما عينه أو لامه حرف حلقيّ نحو:
سَأَل يسأل, وقَرَأ يَقَرَأ، وسَعَر يَسعر6، وقرع يقرع, وسَحَل يسحل,
وسَبَح يَسْبَح. وذلك أنهم ضارعوا بفتحة العين في المضارع جنس حرف
الحلق لما كان7 موضعًا منه مخرج الألف التي منها الفتحة.
__________
1 السملق: هو الأرض المستوية أو القفر لا نبات فيه.
2 يقال: سلغت الشاة إذا طلع نابها.
3 ثبت هذا في أ، وسقط في سائر الأصول.
4 كذا في ش، وسقط في أ.
5 هكذا بسكون الفاء كما في اللسان والقاموس بضبط القلم. وفي ج ضبط
"القرفصاء" بضم القاف والراء والفاء.
6 يقال: سعر النار: أوقدها. وفي ج: "شعر يشعر" ولم يعرف في هذا فتح
العين في الماضي والمضارع.
7 أي: لما كان الحلق منه مخرج الألف، والألف ينشأ منها الفتحة ألف
صغيرة كان حرف الحلق مقتضيًا للفتحة. وانظر في توضيح هذا شرح الرضي
للشافية 1/ 119.
(2/145)
ومن التقريب قولهم: الحمُدُ لله, والحمِدِ
لله.
ومنه1 تقريب الحرف من الحرف, نحو قولهم في نحو مَصْدر: مَزْدر, وفي
التصدير: التزدير. وعليه قول العرب في المثل "لم يُحْرَمْ منْ فُزْد
لَهُ " 2 أصله فُصِدَ له, ثم أسكنت العين على قولهم في ضُرِب: ضُرْبَ
وقوله:
ونفخوا في مدائنهم فطاروا3
فصار تقديره: فُصْدله, فما سكنت الصاد فضعِّفت به وجاورت الصاد -وهو
مهموسة- الدال -وهي مجهورة- قربت منها بأن أشمت شيئًا من لفظ الزاي
المقاربة للدال بالجهر.
ونحو من ذلك قولهم: مررت بمذعور وابن بور 4: فهذا نحو من قيل وغيض
لفاظًا, وإن اختلفا5 طريقًا.
ومن ذلك إضعاف الحركة لتقرب بذلك من السكون نحو: حيِي وأُحْيِى وأُعيي,
فهو -وإن كان مخفي- "بوزنه محركًا"6, وشاهد ذاك قبول وزن الشعر له
قبوله للمتحرك البتة. وذلك قوله:
أأن زم أجمال وفارق جيرة7
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "منها".
2 يقال فصد العزق، شقه فاستخرج ما فيه من الدم. وقال في القاموس في شأن
هذا المثل: بات رجلان عند أعرابي فالتقها صباحا، فسأل أحدهما صاحبه عن
القرى، فقال: ما قريت وإنما فصدلي. قال: "لم يحرم من فزد له"..
3 مصدره:
ألم يخز التفرق جند كسرى
والبيت للقطامي. وانظر الديوان 84.
4 الذي أنبته سيبويه في باب الإمالة: ابن نور بالنون. والمراد إشمام
الضمة شيئا من الكسر لكسر الراء.
5 يريد أن لغة الإشمام في قيل -وهو الإتيان بحركة الفاء بين الضم
والكسر- كالإشمام في ابن مذهور، ولكن طريق الإشمامين مختلف؛ فطريق
الإشمام في قبل هو مراعاة ضم الفاء ومراعاة الياءن وطريق الإشمام في
ابن مذعور مراعاة كسر الراء.
6 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "بزنته متحركا" وانظر في إخفاء الرحركة
الكتاب 2/ 378.
7 عجزه:
وصاح غراب البين أنت حزين
والبيت في ابن يعيش 9/ 113، وهو من شعر كثير، وانظره في ترجمة مدى بن
الرقاع في الأغاني. والمراد النطق بقوله: أأنت بتخفيف الهمزة الثانية
يجعلها بين بين.
(2/146)
فهذا بزنته محقَّقًا1 في قولك: أأن زمّ
أجمال. فأما روم الحركة فهي وإن كانت من هذا فإنما هي كالإهابة بالساكن
نحو الحركة, وهو لذلك ضرب من المضارعة. وأخفَى منها الإشمام لأنه للعين
لا للأذن. وقد دعاهم إيثار قرب الصوت إلى أن أخلوا بالإعراب فقال
بعضهم:
وقال اضرب الساقين إمَّكَ هابِل2
وهذا نحو "من"3 الحمدُ لُلَّه والحمدِ لِله.
وجميع ما هذه حاله مما قُرِّب فيه الصوت من الصوت جارٍ مجرى الإدغام
بما ذكرناه من التقريب, وإنما احتطنا له بهذه السمة التي هي الإدغام
الصغير؛ لأن في هذا إيذانًا4 بأن التقريب شامل للموضعين وأنه هو المراد
المبغي في كلتا الجهتين, فاعرف ذلك.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "مخففًا".
2 الشاهد فيه كسر الميم في إمِّك اتّباعًا لكسرة الهمزة. والإمّ لغة في
الأم، وهذا إخلال بإعراب المبتدأ. ومن الناس من يرويه: "أضرب الساقين
أمك" بضم النون في الساقين اتّباعًا لهمزة أمك. انظر تفسير القرطبي 1/
136.
3 كذا في أ، ج. وسقط في ش، ب.
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "أذانًا".
(2/147)
باب في تصاقب 1 الألفاظ لتصاقب المعاني:
هذا غور من العربية لا ينتصف2 منه ولا يكاد يحاط به. وأكثر كلام العرب
عليه وإن كان غفلًا مسهوًّا عنه, وهو على أضرب:
منها اقتراب الأصلين الثلاثيين؛ كضياط وضَيْطار, ولُوقةٍ وأَلوقةٍ,
ورخْو ورِخْوَدٍّ, ويَنْجُوج وأَلَنْجُوج. وقد مضى3 ذكر ذلك.
__________
1 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "تصاريف الألفاظ لمتعاقب المعاني.
2 أي: لا يدرك كله, يقال: انتصف منه: استوفى منه حقَّه كاملًا.
3 انظر ص 47 من هذا الجزء.
(2/147)
ومنها اقتراب الأصلين ثلاثيًّا أحدهما
ورباعيًّا صاحبه, أو رباعيًّا أحدهما وخماسيًّا صاحبه؛ كدمث ودمثر,
وسبط وسبطر, ولؤلؤ ولُآل, والضبغطى والضبغطري. ومنه قوله:
قد دَرْدَبَتْ والشيخ دَرْدَبِيس ... وقد مضى1 هذا أيضًا2
ومنها التقديم والتأخير على ما قلنا في الباب الذي قبل هذا في تقليب
الأصول نحو: "ك ل م " و"ك م ل " و"م ك ل " ونحو ذلك. وهذا كله والحروف
واحدة غير متجاورة3. لكن من وراء هذا ضرب غيره وهو أن تتقارب الحروف
لتقارب المعاني, وهذا باب واسع.
من ذلك قول الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا
الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} 4 أي: تزعجهم
وتقلقهم, فهذا في معنى تهزّهم هزًّا, والهمزة أخت الهاء, فتقارب
اللفظان لتقارب المعنيين. وكأنهم5 خصّوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى
من الهاء, وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهزِّ؛ لأنك قد تهز ما لا
بال له كالجذع وساق الشجرة, ونحو ذلك.
" ومنه العَسْف6 والأسَف, والعين أخت الهمزة, كما أن الأسف يعسف7 النفس
وينال منها, والهمزة أقوى من العين, كما أن أسف النفس أغلظ من
"التردد"8 بالعسف. فقد ترى تصاقب اللفظين لتصاقب المعنيين"9.
__________
1 انظر ص51 وما بعدها من هذا الجزء.
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
3 كذا في أ، ش. وفي ب: "متجاوزة". وهو تصحيف.
4 آية: 83، سورة مريم.
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "وذلك كأنهم".
6 في ج: "العسيف والأسيف", والعسيف: الأجير، والأسيف: الشيخ الكبير،
ومن اشتد به الأسف. وكأنه يريد بالعسف هنا السير على غير طريق وهدًى,
ويناسبه قوله بعد: "كما أن أسف النفس أغلظ من التردد بالعسف".
7 أي: ينال منها، يقال: عسف فلانًا: ظلمه، ونال منه.
8 في ش، ب: "التودد". وهو غير مناسب.
9 سقط ما بين القوسين في أ، وثبت في ش، ب.
(2/148)
ومنه القرمة وهي الفقرة تُحزّ على أنف
البعير. وقريب منه قلَّمت أظفاري؛ لأن هذا انتقاص للظفر وذلك انتقاص
للجلد. فالراء أخت اللام والعملان متقاربان. وعليه قالوا فيها:
الجَرْفة وهي من "ج ر ف " وهي أخت جلفت لقلم إذا أخذت جُلْفته, وهذا من
"ج ل ف "؛ وقريب منه الجنف وهو الميل, وإذا جَلَفت الشيء أو جرفته فقد
أملته عمَّا كان عليه, وهذا من "ج ن ف ".
ومثله تركيب "ع ل م " في العلامة والعلم, وقالوا مع ذلك: بيضة عرماء
وقطيع أعرم إذا كان فيهما سواد وبياض, وإذا وقع ذلك بأن أحد اللونين من
صاحبه، فكان كل واحد منهما علمًا لصاحبه. وهو من "ع ر م", قال أبو وجزة
السعدي:
ما زلن ينسبن وهنا كل صادقةٍ ... باتت تباشر عُرْمًا غير أزواجِ1
حتى سَلَكن الشوى منهن في مسكٍ ... من نسل جوابة الآفاقِ مهداج
ومن ذلك تركيب "ح م س " و "ح ب س ", قالوا: حبست الشيء, وحمس الشر إذا
اشتد, والتقاؤهما أن الشيئين إذا حبس أحدهما صاحبه تمانعا وتعازا, فكان
ذلك كالشر يقع بينهما.
__________
1 هذا البيت في اللسان، والحيوان 5-573، والبيتان في صفة حمير الوحش،
وقد وردن الماء ليلًا فأثرن القطا ... حتى وردنه وأدخلن أرجلهن فيه
وقوله: "وهنا" أي: حين أدبر الليل, ويريد بالصادقة: القطاة؛ لأن القطاة
تصحيح: قطا قطا، وهو اسمها, فنسب إليها الصدق, وقيل: أصدق من قطاة. وقد
وصفها بأن بيضها عرم غير أزواج، أفراد وكذلك بيض القطا. والشوى من
الداية: البدان والرجلان، والمسك: ما يكون في رجل الدابة كالخلخال.
وأراد بجوابة الآفاق المهداج: الريح الحنون. أراد أن الأتن أدخلن
قوائمهن في الماء فصار الماء لأرجلهن وأيديهن كالمسك، ووصف أن هذا
الماء ماء مطر ساقته الريح. وانظر اللسان في هدج ومسك، والبيت الأول في
الحيوان.
(2/149)
ومنه العَلْب: الأثر والعَلْم: الشقّ في
الشفة العليا. فذاك من "ع ل ب ", وهذا من "ع ل م ", والباء أخت الميم,
قال طرفة:
كأن عُلوب النسع في دأياتها ... موارد من خلقاء في ظهرِ قردد1
ومنه تركيب "ق ر د " و "ق ر ت ", قالوا للأرض: قَرْدَد, وتلك2 نباك
تكون في الأرض, فهو من قرد الشيء وتقرّد إذا تجمع, أنشدنا أبو علي 3:
أهوى لها مشقصٌ حشر فشبرقها ... وكنتُ أدعو قذاها الإثمد القردا4
"أي: أسمي الإثمد القرد أذًى لها. يعنى عينه"5 وقالوا: قرت الدم عليه,
أي: جمد, والتاء أخت الدال كما ترى. فأما لم خص هذا المعنى بذا الحرف
فسنذكره في باب يلي هذا بعون الله تعالى.
ومن ذلك العلز: خفّة وطيش وقلق يعرض للإنسان, وقالوا: "العلوص" لوجع في
الجوف يلتوي له الإنسان6 ويفلق منه. فذاك من "ع ل ز", وهذا من "ع ل ص",
والزاى أخت الصاد.
__________
1 البيت في معلقته, وهو في وصف الناقة, والنسع: سير تشد به الرجال.
والدأيات، أضلاع الكنف، والموارد: طرق الواردين إلى الماء. والخلقاء:
الصخرة الملساء، والقردد: ما ارتفع من الأرض. يصف آثار الحزام في
أضلاعها؛ وشبهها بالطَّرق في صخرة ملساء، وذلك من كثرة حمل الرحل
عليها.
2 واحدها نبكة, وهي التل أو الأكمة.
3 نسبه في اللسان في هوى إلى ابن أحمر.
4 أهوى: هوى وانقض عليها وسقط, والمشقص: السهم المريض، والحشر: اللطيف
الدقيق, وشرقها: مزتها. يريد أن عينه أصابهم منهم ففقأها، وكان من قبل
مشققًا عليها حريصًا على ألّا ينالها شيء؛ حتى إن الإثمد القرد كان
يراه قذى لها. وفي رواية اللسان في هوى: "مشقصًا".
5 كذا في ش، ب. وسقط ما بين القوسين في أ.
6 كذا في ش، ب: وسقط في أ.
(2/150)
ومنه الغَرْب: الدلو العظيمة، وذلك لأنها
يغرف من الماء بها، فذاك1 من "غ ر ب ", وهذا من "غ ر ف " , أنشد أبو
زيد:
كأن عيني وقد بانوني ... غربان في جدول منجنون2
واستعملوا تركيب "ج ب ل " و "ج ب ن " و "ج ب ر " لتقاربها في موضع واحد
وهو الالتئام والتماسك. منه الجبل لشدّته وقوته, وجبن إذا استمسك
وتوقَّف وتجمَّع, ومنه جبرت العظم ونحوه, أي: قويته.
وقد تقع المضارعة في الأصل الواحد بالحرفين نحو قولهم: السحيل والصهيل,
قال 3:
كأن سحيله في كل فجر ... على أحساء يمؤود دعاء4
وذاك من "س ح ل ", وهذا من "ص هـ ل ", والصاد أخت السين, كما أن الهاء
أخت الحاء. ونحو منه قولهم: "سحل" في الصوت, و"زحر", والسين أخت الزاي,
كما أن اللام أخت الراء.
وقالوا: "جلف وجرم", فهذا للقشر وهذا للقطع, وهما متقاربان معنًى
ومتقاربان لفظًا؛ لأن ذاك من "ج ل ف " , وهذا من "ج ر م ".
__________
1 في ج: "وذلك لأنها تغرف من الماء، والفاء أخت الباء".
2 بانوني، بانوا عني وفارقوني, والمنجنون ما يستقي به وهو الدولاب،
وانظر النوادر60.
3 هو زهير في قصيدته التي مطلعها:
عفا من آل فاطمة الجواد ... فيُمْن فالقوادم فالحساء
4 هذا في الحديث عن الحمار الوحشي، وسحيله صوته، ويمؤرد: واد في أرض
غطفان. فالأحساء: الرمال يكون فيها الماء. وانظر الديوان بشرح ثعلب.
طبعة دار الكتب 75.
(2/151)
" وقالوا: صال يصول, كما قالوا: سار
يسور"1.
نعم, وتجاوزوا ذلك إلى أن ضارعوا بالأصول الثلاثة: الفاء والعين
واللام. فقالوا: عصر الشيء, وقالوا: أزله2 إذا حبسه, والعصر ضرب من
الحبس. وذاك من "ع ص ر " , وهذا من "أزل", والعين أخت الهمزة, والصاد
أخت الزاي, والراء أخت اللام. وقالوا: الأزم: المنع والعصب: الشدّ,
فالمعنيان متقاربان, والهمزة أخت العين, والزاي أخت الصاد, والميم أخت
الباء. وذاك من "أزم" وهذا من " ع ص ب".
وقالوا: السلب والصرف, وإذا سلب الشيء فقد صرف عن وجهه. فذاك من "س ل ب
", وهذا من "ص ر ف" , والسين أخت الصاد, واللام أخت الراء, والباء أخت
الفاء.
وقالوا: الغدر, كما قالوا: الختل, والمعنيان متقاربان, واللفظان
متراسلان, فذاك من "غ د ر " , وهذا من "خ ت ل ", فالغين أخت الخاء,
والدال أخت التاء, والراء أخت اللام.
وقالوا: زأر, كما قالوا: سعل, لتقارب اللفظ والمعنى.
وقالوا: عدن بالمكان, كما قالوا: تأطر, أي: أقام وتلبَّث.
وقالوا: شرب, كما قالوا: جلف؛ لأن شارب الماء مُفْنٍ له كالجلف3 للشيء.
وقالوا: ألته حقه, كما قالوا: عانده. وقالوا: الأرفة للحد بين الشيئين,
كما قالوا: علامة. وقالوا: قفز, كما قالوا: كبس, وذلك أن القافز إذا
استقرَّ على الأرض
__________
1 سقط ما بين القوسين في أ، وثبت في ش، ب.
2 كذا في أ، ج. وفي، ب: "أزاله", وهو خطأ.
3 يقال: جلف الشيء: استأصله.
(2/152)
كبسها. وقالوا: صهل, كما قالوا: زأر.
وقالوا: الهتْر, كما قالوا: الإدل1, وكلاهما العجب. وقالوا: كلف به,
كما قالوا: تقرب منه. وقالوا: تجعد, كما قالوا: شحط, وذلك أن الشيء إذا
تجعَّد وتقبَّض عن غيره شحط وبعد عنه, ومنه قول الأعشى:
إذا نزل الحي حلّ الجحيش ... شقيًّا غويًّا مبينًا غيورا2
وذاك من تركيب "ج ع د " , وهذا من تركيب "ش ح ط ", فالجيم أخت الشين,
والعين أخت الحاء, والدال أخت الطاء. وقالوا: السيف والصوب, وذلك أن
السيف يوصف بأنه يرسب في الضريبة لحدته ومضائه, ولذلك قالوا: سيف رسوب,
وهذا هو معنى صاب يصوب إذا انحدر. فذاك من "س ي ف " , وهذا من "ص وب ",
فالسين أخت الصاد, والياء أخت الواو, والفاء أخت الباء. وقالوا: جاع
يجوع, وشاء يشاء, والجائع مريد للطعام لا محالة, ولهذا يقول المدعوّ
إلى الطعام إذا لم يجب: لا أريد ولست أشتهي ونحو ذلك, والإرادة هي
المشيئة. فذاك من "ج وع ", وهذا من "ش ي أ " , والجيم أخت الشين,
والواو أخت الياء, والعين أخت الهمزة. وقالوا: فلان جلس بيته إذا
لازمه. وقالوا: أرز إلى الشيء إذا اجتمع نحوه وتقبَّض إليه, ومنه: إن3
الإسلام ليأرز إلى المدينة, وقال 4:
بآرزة الفقارة لم يخنها ... قطاف في الركاب ولا خلاء
__________
1 هذا صحيح في الهتْر، جاءت به اللغة "فأمّا الإدل فهو وجع يأخذ في
العنق، وهو أيضًا اللبن الخائر الشديد الحموضة، ولم أقف على وروده
للعجب, وهو محرّف عن الأدب.
2 المعروف في الرواية:
حريد المحل غويًّا غيورًا
وهو في وصف رجل غيور على امرأته، فإذا نزل بها في السير اعتزل القوم
بها, وانظر الصبح المنير 68، واللسان "جحش", والجحيش يروى بالنصب على
الظرفية, أي: المكان المنفرد، ويروى بالرفع, أي: زوجها المعتزل بها عن
الناس.
3 هذا الحديث في البخاري في "فضائل المدينة" بلفظ: "إن الإيمان....".
4 أي: زهير.
5 "آرة الفقارة" أي: قوية، وهو من وصف الناقة، وذلك أن فقارها آرز:
متداخل مجتمع، وذلك من قوتها, "ولم يختها": لم ينقصها، والقطاف: مقاربة
الحطر، والخلاء في الإبل كالحران في الدواب, وانظر الديوان بشرح ثعلب,
طبعة دار الكتب 63.
(2/153)
فذاك من "ح ل س " وهذا من "أر ز ", فالحاء
أخت الهمزة, واللام أخت الراء, والسين أخت الزاي. وقالوا: أفل, كما
قالوا: غبر؛ لأن أفل: غاب, والغابر غائب أيضًا. فذاك من " أف ل ", وهذا
من " غ ب ر ", فالهمزة أخت الغين, والفاء أخت الباء, واللام أخت الراء.
وهذا النحو من الصنعة موجود في أكثر الكلام وفرش اللغة, وإنما بقي من
يثيره ويبحث عن مكنونه, بل مَنْ إذا أوضح له وكشفت عنده حقيقته طاع
طبعه لها فوعاها وتقبلها. وهيهات ذلك مطلبًا, وعزَّ فيهم مذهبًا! وقد
قال أبو بكر: من عرف ألف, ومن جهل استوحش. ونحن نتبع هذا الباب بابًا
أغرب منه وأدلّ على حكمة القديم سبحانه, وتقدست أسماؤه, فتأمله تحظ به
بعون الله تعالى.
(2/154)
باب في إمساس
الألفاظ أشباه المعاني:
اعلم أن هذا موضع شريف لطيف, وقد نبَّه عليه الخليل وسيبويه, وتلقته
الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته.
قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدًّا فقالوا: صَرَّ,
وتوهموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صرصر.
وقال سيبويه1 في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للاضطراب
والحركة, نحو: النقزان2 والغلبان والغثيان, فقابلوا3 بتوالي حركات
المثال توالي حركات الأفعال.
__________
1 عبارة سيبويه في الكتاب 2/ 218: "ومن المصادر التي جاءت على مثال
واحد حين تقاربت المعاني قولك: النزوان والنقزان والقفزان. وإنما هذه
الأشياء في زعزعة البدن واهتزاز في ارتفاع, ومثله العسلان والرتكان ...
ومثل هذا الغلبان؛ لأنه زعزعة وتحرك، ومثله: الغثيان؛ لأنه تجيش نفسه
وتثور، ومثله: الخطران واللعان؛ لأن هذا اضطراب وتحرك، ومثل ذلك:
اللهبان والوهجان؛ لأنه تحرك الحر وتثوره، فإنما هو بمنزلة الغليان".
2 يقال: نقز الظبي: وثب صعذا.
3 هذا من كلام ابن جني لا من كلام سيبويه، كما يعلم من نص سيبويه
السابق.
(2/154)
ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على
سَمْت ما حدّاه1، ومنهاج ما مثّلاه. وذلك أنك تجد المصادر الرباعية
المضعفة تأتي للتكرير نحو: الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة، والقعقعة
"والصعصعة"2 والجرجرة والقرقرة. ووجدت أيضًا "الفَعَلى" في المصادر
والصفات إنما تأتى للسرعة نحو: البشكى والجمزى والولقى, قال رؤبة:
أو بَشَكَى وخد الظليم النزّ3
وقال الهذلي4:
كأني ورحلي إذا هجّرت ... على جمزى جازئ بالرمال
أو أصحم حام جراميزه ... حزابية حيدى بالدحال5
فجعلوا المثال المكرر للمعنى المكرر -أعني: باب القلقلة- والمثال الذي6
توالت حركاته للأفعال التي توالت الحركات فيها.
ومن ذلك -وهو أصنع منه- أنهم جعلوا "استفعل" في أكثر الأمر للطلب, نحو:
استسقى واستطعم واستوهب واستمنح, واستقدم عمرًا, واستصرخ جعفرًا.
فرتّبت في هذا الباب الحروف على ترتيب الأفعال, وتفسير ذلك أن الأفعال
المحدث عنها أنها وقعت عن غير طلب إنما تفجأ حروفها الأصول أو ما ضارع
بالصنعة7 الأصول.
__________
1 كذا في أ. وفي ب: "حذّياه" وفي ش: "حذياه".
2 كذا في ش، ب، ج. وسقط هذا في أ. والصعصعة: التحريك والقلقلة.
3 يقال ظليم نز: لا يستقر في مكان. وانظر الديوان 65.
4 هو أمية بن أبي عائذ كما في اللسان في جمز، وانظر الهذليين 2/ 176.
5 يريد بالجمزى: حمار وحش، وجازئ: يستغني بالرطب عن الماء، والأحم من
الصحة وهي سواد إلى صفرة. ويريد به أيضًا حمار وحش، وجراميزه: جسده
ونفسه، يحميها من الصائد، حزابية، غليظ. حيدى: يحيد من سرعته. والدحال:
وهو هوة ضيقة الأعلى واسعة الأسفل.
6 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "التي" وهو خطأ.
7 كذا في أ: وفي ش، ب: "بالصفة".
(2/155)
فالأصول نحو قولهم: طعم ووهب, ودخل وخرج,
وصعد ونزل. فهذا إخبار بأصول فاجأت عن أفعال وقعت, ولم يكن معها دلالة
تدل على طلب لها ولا إعمال فيها. وكذلك ما تقدمت الزيادة فيه على سمت
الأصل نحو: أحسن وأكرم وأعطى وأولى. فهذا من طريق الصنعة1 بوزن الأصل
في نحو: دحرج وسرهف وقوقى وزوزى. وذلك أنهم جعلوا هذا الكلام عبارات عن
هذه المعاني, فكلما ازدادت العبارة شبهًا بالمعنى كانت أدلّ عليه وأشهد
بالغرض فيه.
فلمّا كانت إذا 2فأجأت الأفعال فاجأت أصول المثل الدالة عليها, أو ما
جرى مجرى أصولها نحو: وهب ومنح وأكرم وأحسن, كذلك إذا أخبرت بأنك سعيت
فيها وتسببت لها, وجب أن تقدم أمام حروفها الأصول في مثلها الدالة
عليها أحرفًا زائدة على تلك الأصول, تكون كالمقدمة لها, والمؤدية
إليها.
وذلك نحو: استفعل, فجاءت الهمزة والسين والتاء زوائد, ثم وردت بعدها
الأصول: الفاء والعين واللام. فهذا من اللفظ وفق المعنى الموجود هناك,
وذلك أن الطلب للفعل والتماسه والسعي فيه والتأتي3 لوقوعه تقدمه, ثم
وقعت الإجابة إليه فتبع الفعل السؤال فيه والتسبب لوقوعه. فكما تبعت
أفعال الإجابة أفعال الطلب كذلك تبعت حروف الأصل الحروف الزائدة التي
وضعت للالتماس والمسألة. وذلك نحو استخرج واستقدم واستوهب واستمنح
واستعطى واستدنى, فهذا على سمت الصنعة التي تقدَّمت في رأي الخليل
وسيبويه, إلّا أن هذه أغمض من تلك. غير أنها وإن كانت كذلك فإنها
منقولة عنها ومعقودة4 عليها.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "الصيغة".
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "إذ".
3 كذا في ب. وفي ش، أ: "الثاني" وهو تصحيف.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "مقردة".
(2/156)
ومن وجد مقالًا قال به وإن لم يسبق إليه
غيره. فكيف به إذا تبع العلماء فيه وتلاهم على تمثيل معانيه.
ومن ذلك أنهم جعلوا تكرير العين في المثال1 دليلًا على تكرير الفعل,
فقالوا: كسَّر وقطَّع وفتَّح وغلَّق. وذلك أنهم لما جعلوا الألفاظ
دليلة المعاني فأقوى اللفظ ينبغي أن يقابل به قوة الفعل, والعين أقوى
من الفاء واللام, وذلك لأنها واسطة لهما ومنكوفة بهما, فصارا كأنهما
سياج لها, ومبذولان للعوارض دونها2. ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما
دونها. فأما حذف الفاء ففي المصادر من باب: وعد, نحو العدة والزنة،
والطدة3، والتدة، والهبة، والإبة. وأما اللام فنحو: اليد والدم والفم
والأب والأخ والسنة والمائة، والفئة4. وقلَّما تجد الحذف في العين5.
فلمَّا كانت الأفعال دليلة المعاني كرروا أقواها وجعلوه دليلًا على قوة
المعنى المحدث به, وهو تكرير الفعل, كما جعلوا تقطيعه في نحو: صرصر
وحقحق, دليلًا على تقطيعه. ولم يكونوا ليضعفوا الفاء ولا اللام لكراهية
التضعيف في أول الكلمة, والإشفاق على الحرف المضعَّف أن يجيء في آخرها
وهو مكان الحذف وموضع الإعلال, وهم قد أرادوا تحصين الحرف الدال على
قوة الفعل. فهذا أيضًا من مساوقة الصيغة6 للمعاني.
وقد أتبعوا اللام في باب المبالغة العين, وذلك إذا كرّرت العين7 معها
في نحو: دمكمك وصمحمح وعركرك8 وعصبصب وغشمشم, والموضع في ذلك للعين,
وإنما
__________
1 يريد بالمثال البناء.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "بدلًا منها".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "الصدة". والطدة من وطد, والصدة من رصد, يقال:
"وطّد الشيء ووصد، ثبت.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "الهنة".
5 من ذلك السة وأصله الستة, ومذ وأصله منذ.
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "الصنعة".
7 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "بالعين".
8 يقال: بعير عركرك: قوي غليظ.
(2/157)
ضامَّتها اللام هنا تبعًا لها ولاحقة بها,
ألا ترى إلى ما جاء عنهم للمبالغة من نحو: اخلولق واعشوشب واغدودن
واحمومى واذلولى واقطوطى, وكذلك في الاسم نحو: عثوثل وغدودن وخفيدد1،
وعقنقل، وعبنبل2، وهجنجل, قال:
ظلّت وظلَّ يومها حوب حل ... وظلّ يوم لأبي الهجنجل3
فدخول لام التعريف فيه مع العلمية يدل على أنه في الأصل صفة كالحرث
والعبّاس وكل واجد من هذه المثل قد فصل بين عينيه بالزائد لا باللام.
فعلمت أن تكرير المعنى في باب: صمحمح "إنما هو للعين"4، وإن كانت اللام
فيه أقوى من الزائد في باب: افعوعل وفعوعل وفعيعل5 وفعنعل؛ لأن اللام
بالعين أشبه من الزائد بها. ولهذا أيضًا ضاعفوها كما ضاعفوا العين
للمبالغة نحو: عتلّ وصملّ وقمدّ وحزقّ, إلّا أن العين أقعد6 في ذلك من
اللام, ألا ترى أن الفعل الذي هو موضع للمعاني لا يضعف ولا7 يؤكد
تكريره إلّا بالعين. هذا هو الباب. فأما اقعنسس واسحنكك, فليس الغرض
فيه التوكيد والتكرير؛ لأن ذا إنما ضعف للإلحاق, فهذه طريق8 صناعية,
وباب تكرير العين هو طريق معنوية9، ألا ترى أنهم لما اعتزموا إفادة
المعنى توفروا عليه وتحاموا طريق الصنعة والإلحاق فيه فقالوا: قطَّع
وكسَّر تقطيعًا وتكسيرًا, ولم يجيئوا بمصدره على مثال فعللة فيقولوا:
قطعةً وكسرة, كما قالوا في الملحق: بيطر بيطرة, وحوقل حوقلة, وجهور
جهورة.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "خفيفد" وكلاهما السريع في وصف الظليم.
2 كذا في أوسقط في ش، ب. والعبنبل: الضخم الشديد.
3 يريد ظل يومها مقولًا فيها: حوب حل. وحوب زجر لذكور الإبل، وحل زجر
لإناثها. ورود هذا الزجر مع صلة له في شرح التبريزي للحماسة 1/ 323
بتحقيق الشيخ محمد محيى الدين.
4 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
5 كذا في ش، ب وسقط في أ.
6 كذا في أوفي ش، ب: "أقوى" وفي ج: "أولى".
7 كذا في ش، ب وسقط في أ.
8 كذا في أوفي ش، ب: "طريقة.
9 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "معنوي".
(2/158)
ويدلك1 على أن افعوعل لما ضعفت عينه للمعنى
انصرف به عن طريق الإلحاق -تغليبًا للمعنى على اللفظ وإعلامًا أن قدر
المعنى عندهم أعلى وأشرف من قدر اللفظ- أنهم قالوا في افعوعل من رددت:
"اردودّ" ولم يقولوا: اردودد, فيظهروا التضعيف للإلحاق كما أظهروه في
باب2 اسحنكك، واكلندد3، لما كان للإلحاق بالحرنجم واخرنطم ولا تجد في
بنات الأربعة نحو: احروجم, فيظهروا "افعوعل" من رددت فيقال: "اردودد"؛
لأنه لا مثال له رباعيًّا فيلحق هذا4 به.
فهذا طريق المثل واحتياطاتهم فيها بالصنعة ودلالاتهم "منها"5 على
الإرادة والبغية.
فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث, فباب عظيم واسع,
ونهج متلئب عند عارفيه مأموم. وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف
على سمت الأحداث المعبَّر بها عنها, فيعدلونها بها ويحتذونها عليها,
وذلك أكثر مما نقدره6، وأضعاف ما نستشعره6.
من ذلك قولهم: خضم وقضم, فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان
نحوهما من المأكول الرطب, والقضم للصلب اليابس نحو: قضمت الدابة شعيرها
ونحو ذلك. وفي الخبر قد يدرك الخضم بالقضم, أي: قد يدرك الرخاء بالشدة
واللين بالشظف. وعليه قول أبي7 الدرداء: يخضمون8 ونقضم والموعد الله.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "يدل".
2 كذا في ش، ب وفي أ: "نحو".
3 يقال: أكلندد: اشتد.
4 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
5 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
6 كذا في ش، ب بالنون. وفي أبالتاء فيهما.
7 في النهاية أن في حديث أبي ذر: "تأكلون خضماونا كل قضمًا", وفيها
أيضًا: "وفي حديث أبي هريرة أنه مرَّ بمروان وهو يبني بيتًا له، فقال:
ابنوا شديدًا، وأملوا بعيدًا، واخضموا فسنقضم"، وفي الأساس: "وفي حديث
أبي ذر: "اخصموا نستقضم" ولم أقف على نسبة هذا لأبي الدرداء.
8 كذا في ش، أ، ب. وفي ج: "تخضمونه".
(2/159)
فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب, والقاف
لصلابتها لليابس حذوًا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث.
ومن ذلك قولهم: التضح للماء نحوه والنضح أقوى من النضح, قال الله
سبحانه: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} 1 فجعلوا الحاء -لرقَّتها-
للماء الضعيف, والخاء -لغلظها- لما هو أقوى منه.
ومن ذلك القدّ طولًا والقط عرضًا. وذلك أن الطاء أحصر2 للصوت وأسرع
قطعًا له من الدال, فجعلوا الطاء المناجزة3 لقطع العرض؛ لقربه وسرعته,
والدال المماطلة لما طال من الأثر وهو قطعه طولًا.
ومن ذلك قولهم: قرت الدم وقرد الشيء وتقرّد وقَرَطَ يقرط, فالتاء أخفت4
الثلاثة, فاستعملوها في الدم إذا جفَّ؛ لأنه قصد ومستخف في الحسِّ عن
القردد الذي هو النباك في الأرض ونحوها. وجعلوا الطاء -وهي أعلى
الثلاثة صوتًا- "للقرط"5 الذي يسمع, وقرد، من القرد, وذلك لأنه موصوف
بالقلة والذلة, قال الله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ} 6.
ينبغي أن يكون "خاسئين" خبرًا آخر ل"كونوا", والأول "قردة", فهو كقولك
7: هذا حلو حامض وإن جعلته وصفًا ل"قردة" صغر معناه، ألا ترى أن القرد
لذله
__________
1 آية: 66، سورة الرحمن.
2 كذا في أ، وفي ج: "أخصر" وفي ب: أخص", وفي ش: "أخفض", ويبدو فيها
الإصلاح وكان أصلها أخص وهو ما في ب، وكلاهما تحريف عن أحصر.
3 كذا في أ. وفي ش: "للمناجزة" وفي ب: "المناجرة".
4 كذا في ش، أ، ب. وفي ج: "أخف" وأخفتها: أخفاها صوتًا. والخفت: إسرار
النطق.
5 يقال: قرط الكراث: قطعة في القدر، والقرط يسمع له صوت؛ إذ كان قطعًا
وشقًّا.
6 آية: 65، سورة البقرة.
7 الأخلق بما نحن فيه أن يكون كقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ
الْوَدُودُ} مما يصحّ الاقتصار فيه على أحد الخبرين أو الأخبار, وأما
"هذا حلو حامض" فالخبران في قوة خبر واحد، وهو "مزّ".
(2/160)
وصغاره خاسئ أبدًا, فيكون إذًا صفة غير
مفيدة, وإذا جعلت "خاسئين" خبرًا ثانيًا حسن وأفاد حتى كأنه قال: كونوا
قردة " و"1 كونوا خاسئين, ألا ترى أن ليس لأحد الاسمين من الاختصاص
بالخبرية إلّا ما لصاحبه, وليس كذلك الصفة بعد الموصوف, إنما اختصاص
العامل بالموصوف, ثم الصفة من بعد تابعة له.
ولست أعني بقولي: إنه كأنه قال تعالى: كونوا قردة, كونوا خاسئين, إن
العامل في خاسئين عامل ثانٍ غير الأول, معاذ الله أن أريد ذلك, إنما
هذا شيء يقدَّر مع البدل. فأما في الخبرين فإن العامل فيهما جميعًا
واحد, ولو كان هناك عامل آخر لما كانا خبرين لمخبر عنه واحد, وإنما
مفاد الخبر من مجموعهما2. ولهذا كان عند أبي علي أن العائد على المبتدأ
من مجموعهما لا من أحدهما؛ لأنه ليس الخبر بأحدهما بل بمجموعهما. وإنما
أريد أنك متى شئت باشرت ب"كونوا" أي: الاسمين آثرت, ولست كذلك الصفة.
ويؤنّس بذلك أنه لو كانت "خاسئين" صفة ل"قردة" لكان الأخلق أن يكون
"قردة خاسئة"، "وفي أن"3 لم يقرأ بذلك البتَّة دلالة على أنه ليس بوصف.
وإن كان قد يجوز أن يكون "خاسئين" صفة "لقردة على المعنى إذ كان
المعنى"4 أنها هي هم في المعنى, إلّا أن هذا إنما هو جائز وليس بالوجه,
بل الوجه أن يكون وصفًا لو كان على اللفظ. فكيف وقد سبق ضعف الصفة
ههنا. فهذا شيء عَرَض قلنا فيه ثم لنعد.
__________
1 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
2 قد علمت أن مفاد الخبر في الآية ليس من مجموع "قردة" و"خاسئين", بل
كل منهما يصح أن يكون خبر وحده، على هذا فلا يجيء ما شاه عليه بعد
نقلًا عن أبي علي: أن العائد على المبتدأ من مجموعهما، فإن مذهب أبي
علي هذا في نحو: "الرمان حلو حامض" لا فيما نحن فيه، وانظر الهمع 1/
95.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "فإن".
4 في أ "لقردة على المعنى". وما بين القوسين فيما عداها من الأصول.
(2/161)
أفلا ترى إلى تشبيههم الحروف بالأفعال
وتنزيلهم إياها على احتذائها.
ومن ذلك قولهم: الوسيلة والوصيلة, والصاد -كما ترى- أقوى صوتًا من
السين لما فيها من الاستعلاء, والوصيلة أقوى معنى من الوسيلة. وذلك أن
التوسّل ليست له عصمة الوصل والصلة, بل الصلة أصلها من اتصال الشيء
بالشيء ومماسته له, وكونه في أكثر الأحوال بعضًا له؛ كاتصال الأعضاء
بالإنسان وهي أبعاضه, ونحو ذلك, والتوسل معنى يضعف ويصغر أن يكون
المتوسّل جزءًا أو كالجزء من المتوسل إليه. وهذا واضح. فجعلوا الصاد
لقوتها للمعنى الأقوى، والسين لضعفها للمعنى الأضعف.
ومن ذلك قولهم: "الخذا" في الأذن، "والخذأ: الاستخذاء"1, فجعلوا الواو
في خذواء2 -لأنها دون الهمزة صوتًا- للمعنى الأضعف, وذلك لأن استرخاء
الأذن "ليس"3 من العيوب التي يسبّ بها, ولا يتناهى في استقباحها. وأما
الذل فهو من أقبح العيوب وأذهبها في المزراة والسب, فعبروا عنه بالهمزة
لقوتها, وعن عيب الأذن المحتمل بالواو لضعفها. فجعلوا أقوى الحرفين
لأقوى العيبين, وأضعفهما لأضعفهما.
ومن ذلك قولهم: قد جفا الشيء يجفو, وقالوا: جفأ الوادي بغثائه4، ففيهما
كليهما5 معنى الجفاء لارتفاعهما, إلّا أنهم استعملوا الهمزة في الوادي
لما هناك من حفزه6، وقوة دفعه.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش؛ "والحذأ والاستخذاء" وواو العطف يبدو أنها ملحقة
إصلاحًا، وكتب في الهامش بعد هذا: "في الذل" و"صح".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "الحذراء" أي: في قولهم أذن خذواء وصفًا من
الحذا.
3 كذا في أ، ب. وسقط في ش. وفي ج. "ليس من العيوب التي يتناهى في
اسقباحها".
4 كذا في ش، ب وفي أ: "بعبابه". وفي اللسان: جفأ الوادي غثاءه يجفأ
جفأ: رمى بالزبد والقذى.
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "كلتيهما".
6 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "حفره".
(2/162)
ومن ذلك قولهم: صعد وسعد, فجعلوا الصاد
-لأنها أقوى- لما فيه أثر مشاهد يرى، وهو الصعود في الجبل والحائط ونحو
ذلك. وجعلوا السين -لضعفها- لما لا يظهر ولا يشاهد حسًّا, إلا أنه مع
ذلك فيه صعود الجد لا صعود الجسم, ألا تراهم يقولون: هو سعيد الجدّ,
وهو عالي الجد, وقد ارتفع أمره وعلا قدره. فجعلوا الصاد لقوتها مع ما
يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشمة, وجعلوا السين لضعفها فيما تعرفه
النفس وإن لم تره العين, والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية.
فإن قلت: فكان يجب على هذا أن يكون الخذا في الأذن مهموزًا, وفي الذل
غير مهموز؛ لأن عيب الأذن مشاهد, وعيب النفس غير مشاهد, قيل: عيب الأذن
وإن كان مشاهدًا فإنه لا علاج فيه على الأذن, وإنما هو خمول وذبول
ومشقة الصاعد ظاهرة مباشرة1 معتدة متجشمة, فالأثر فيها أقوى, فكانت
بالحرف الأقوى -وهو الصاد- أحرى.
ومن ذلك أيضًا: سدَّ وصدَّ؛ فالسد دون الصد؛ لأن السد للباب يسد,
والمنظرة ونحوها, والصد جانب الجبل والوادي والشعب, وهذا أقوى من السد
الذي قد يكون لثقب الكوز2 ورأس القارورة ونحو ذلك, "فجعلوا الصاد
لقوتها للأقوى، والسين لضعفها، للأضعف"3.
ومن ذلك القسم والقصم, فالقصم أقوى فعلًا من القسم؛ لأن القصم يكون معه
الدق, وقد يقسم بين الشيئين فلا ينكأ أحدهما, فلذلك خصت بالأقوى الصاد
وبالأضعف السين.
__________
1 كذا في ش، أ، وفي ب: "مباصرة".
2 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "الكثرة".
3 ما بين القوسين ساقط من أ.
(2/163)
ومن ذلك تركيب "ق ط ر " و "ق د ر " و "ق ت
ر " فالتاء خافية متسفلة, والطاء سامية متصعدة,/ فاستعملتا
-لتعاديهما-1 في الطرفين كقولهم: فتر الشيء2 وقطره. والدال بينهما ليس
لها صعود الطاء ولا نزول التاء, فكانت3 لذلك واسطة بينهما, فعبِّر بها
عن معظم الأمر ومقابلته, فقيل: قدر الشيء لجماعه ومحر نجمه4. وينبغي أن
يكون قولهم: قطر الإناء الماء ونحوه, إنما هو "فعل" من لفظ القطر
ومعناه. وذلك أنه إنما ينقط الماء عن صفحته الخارجة وهي قطره. فاعرف
ذلك.
فهذا ونحوه أمر إذا أنت أتيته من بابه, وأصلحت فكرك لتناوله وتأمله,
أعطاك مقادته5 وأركبك ذروته وجلا عليك بهجاته ومحاسنه, وإن أنت تناكرته
وقلت: هذا أمر منتشر, ومذهب صعب موعر, حرمت نفسك لذته, وسددت عليها باب
الحظوة به.
نعم، ومن وراء هذا ما اللطف فيه أظهر, والحكمة أعلى وأصنع. وذلك أنهم
قد يضيفون إلى اختيار الحروف وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبَّر عنها
بها ترتيبها, وتقديم ما يضاهي أول الحدث, وتأخير ما يضاهي آخره،
وتوسيط6 ما يضاهي أوسطه, سوقًا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض
المطلوب.
__________
1 أي: لتباينهما -وكذا هو في ش، ب. وفي أ "لعادتهما".
2 قتر الشيء وقطره: ناحيته وجانبه. والأصل القطر، والقتر لغة فيه، كما
في اللسان.
3 كذا في ش، ب. وفي أ "وكانت".
4 هو حيث مجتمع، من قولهم: احرنجمت الإبل: اجتمعت.
5 كذا في ش، ب. وفي أ "مقاده".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "توسط".
(2/164)
وذلك قولهم: بحث. فالباء لغلظها1 تشبه
بصوتها2 خفقة الكف3 على الأرض، والحاء لصحلها4 تشبه مخالب الأسد وبراثن
الذئب, ونحوهما إذا غارت في الأرض والثاء للنفث، والبث للتراب5. وهذا
أمر تراه محسوسًا محصلًا, فأيّ شبهة تبقى بعده, أم أيّ شك يعرض6 على
مثله. وقد ذكرت هذا في موضع آخر من كتبي لأمرٍ دعا إليه هناك. فأمَّا
هذا الموضع فإنه أهله, وحقيق به لأنه موضوع له ولأمثاله.
ومن ذلك قولهم: شدَّ الحبل ونحوه. فالشين بما فيها من التفشي تشبه
بالصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد, ثم يليه إحكام الشدّ
والجذب وتأريب العقد, فيعبر عنه بالدال التي هي أقوى من الشين, ولاسيما
وهي مدغمة, فهو أقوى لصنعتها وأدلّ على المعنى الذي أريد بها. ويقال7
شدَّ وهو8 يشد. فأمَّا الشدة في الأمر فإنها مستعارة من شدّ الحبل
ونحوه لضرب من الاتساع والمبالغة, على حد ما نقول9 فيما يشبه بغيره
لتقوية أمره المراد به10.
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "بفلظها".
2 كذا في ش، ب. وفي أ "لصوتها".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "خفقة الكف على الكف".
4 كذا في ج، وهو محرق في ش. وفي أ: "فيهما". والصحل: البحة في الصوت.
5 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "النبث".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "يعترض".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "فيقال".
8 كذا في ش، ب. وفي أ: "فهو".
9 في أ، ش: "يقول". وفي ب غير منقوطة.
10 كذا في أ. وفي ب: "بالمراد".
(2/165)
ومن ذلك أيضًا جرَّ الشيء يجرّه, قدموا
الجيم لأنها حرف شديد, وأول الجر بمشقة1 على الجار والمجرور جميعًا, ثم
عقَّبوا ذلك بالراء وهو حرف مكرر, وكررها مع ذلك في نفسها. وذلك لأن
الشيء إذا جر على الأرض في غالب الأمر اهتزَّ عليها واضطرب صاعدًا عنها
ونازلًا إليها, وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة2 والقلق. فكانت
الراء -لما فيها من التكرير؛ ولأنها أيضًا قد كررت في نفسها في "جر"
و"جررت"- أوفق لهذا المعنى من جميع الحروف غيرها. هذا هو محجة هذا
ومذهبه.
فإن أنت رأيت شيئًا من هذا النحو لا ينقاد لك فيما رسمناه, ولا يتابعك
على ما أوردناه, فأحد أمرين 3: إما أن تكون لم تنعم النظر فيه فيقعد بك
فكرك عنه, أو لأن لهذه اللغة أصولًا وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها
دوننا "كما قال سيبويه:"4 أو لأنَّ الأول وصل إليه علم5 لم يصل إلى
الآخر.
فإن قلت: فهلّا أجزت أيضًا أن يكون ما أوردته في هذا الموضع شيئًا
اتفق، وأمرًا وقع في صورة المقصود، من غير أن يعتقد (وما الفرق) 6؟.
قيل: في هذا حكم بإبطال ما دلت الدلالة عليه من حكمة العرب التي تشهد
بها العقول، وتتناصر7 إليها أغراض ذوي التحصيل, فما ورد على وجه يقبله
__________
1 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "المشقة".
2 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "المعنفة".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "الأمرين". وفي ج: "فلأحد أمرين".
4 ما بين القوسين في ش، ب، ج. وسقط في أ.
5 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "و".
6 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
7 كذا في أ، ج. وفي ش، ب "يتناضل".
(2/166)
القياس, وتقتاد إليه دواعي النظر والإنصاف,
حمل عليها ونسبت الصنعة فيه إليها. وما تجاوز ذلك فخفي لم توءس1 النفس
منه, ووكل إلى "مصادقة2 النظر فيه", وكان الأحرى به أن يتهم الإنسان
نظره، ولا يخفّ إلى ادعاء النقض3 فيما قد ثبَّت الله أطنابه, وأحصف
بالحكمة أسبابه. ولو لم يتنبه "على ذلك"4 إلّا بما جاء عنهم من
تسميتهم5 الأشياء بأصواتها؛ كالخازباز لصوته6، والبط لصوته، والخاقباق
لصوت الفرج عند الجماع, والواق7 للصرد8 لصوته، وغاق للغراب9 لصوته،
"وقوله"10: "تداعين باسم الشيب"11 لصوت مشافرها, وقوله:
بينما نحن مرتعون بفلج ... قالت الدلّح الرواء إنيه12
فهذا حكاية لرزمة السحاب وحنين الرعد, وقوله:
كالبحر يدعو هيقما وهيقما13
وذلك لصوته, ونحو منه قولهم: حاحيت وعاعيت وهاهيت, إذا قلت: حاء وعاء
وهاء. وقولهم: بسملت وهيللت وحولقت؛ كل ذلك "وأشباهه"14 إنما يرجع في
اشتقاقه إلى الأصوات. والأمر أوسع.
__________
1 كذا في أ، ب، ج: وفي ش: "تيأس".
2 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "معاودة".
3 في ج: "النقص".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "لذلك".
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "تشبيهم".
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "لجنونه" والحازباز، الذباب.
7 الواق -بكسر القاف حكاية لصوته, ويقال فيه: الواقي.
8 كذا في ب، وفي ج: "الصرد" وفي أ، "المصرّ", وهو تحريف عن المصرصر,
أي: المصوّت. وفي ش: "المصرد". والصرد: طائر فوق العصفور، وهو الواقي
والواق.
9 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "الغراب".
10 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "في قوله".
11 الشيب "بالكسر": حكاية صوت مشافر الإبل عند الشرب, والكلمة من بيت
لذي الرمة وهو:
تداعين باسم الشيب في متثلم ... جوانبه من بصرة وسلام
12 انظر ص24 من الجزء الأول.
13 الهيقم: حكاية صوت اضطراب البحر.
14 كذا في ش، ب، وفي أ: "بأشباهه".
(2/167)
" ومن طريف ما مرَّ بي في هذه اللغة التي
لا يكاد يعلم بُعْدُها, ولا يحاط بقاصيها, ازدحام الدال والتاء والطاء
والراء واللام والنون إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير, فأكثر
أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما"1.
من2 ذلك "الدالف" للشيخ الضعيف, والشيء التالف والطليف3، "والظليف"4
المّجان5, وليست له عصمة الثمين, والطنف لما أشرف خارجًا عن البناء,
وهو إلى الضعف لأنه ليست له قوة الراكب الأساس6, والأصل والنطف: العيب،
"وهو إلى الضعف"7، والدنف: المريض. ومنه "التنوفة"8 وذلك لأن الفلاة
إلى الهلاك, ألا تراهم يقولون لها: مهلكة, وكذلك قالوا لها: بيداء, فهي
فعلاء من بادٍ يبيد. ومنه الترفة9؛ لأنها إلى اللين والضعف, وعليه
قالوا: الطرف؛ لأن طرف الشيء أضعف من قبله وأوسطه, قال الله سبحانه:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ
أَطْرَافِهَا} 10. وقال11 الطائي الكبير:
كانت هي الوسط الممنوع فاستلبت ... ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفا
ومنه "الفرد"؛ لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك ما هو, قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم: "المرء كثير بأخيه"12. والفارط المتقدّم, وإذا
تقدَّم انفرد, وإذا انفرد
__________
1 ما بين القوسين ساقط من أ.
2 كذا في ب، ج. وفي أ: "ومن".
3 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "اللطيف" وهو خطأ.
4 كذا في ش، ب. وسقط في أ، ج. والظليف لغة في اللطيف. ويقال: ذهب به
مجانًا وظليفًا وطليفًا إذا أخذه بغير عن.
5 كذا في أ، ج. وفي ش، ب. "المحاز". وهو تحريف.
6 كذا في أ. وفي ش, ب. "للأساس"، وفي ج: "على الأساس".
7 كذا في أ. وفي ب: "وهو إلى الضعة والغض". وفي ش. "وهي الضعة والغض".
وفي ج: "وهو إلى الضعة والنقص".
8 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "الدنوفة" وهو تحريف.
9 هي التنعم ولين العيش, وتقال الترفة أيضًا للطعام الطيب.
10 آية: 41، سورة الرعد.
11 كذا في ش، ب، ج. وسقطت الواو في أ.
12 رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان عن سهل بن سعد الساعدي. وانظر
الجامع الصغير في حرف الميم.
(2/168)
"أعرض للهلاك"1, ولذلك2 ما يوصف بالتقدّم
ويمدح به لهول مقامه وتعرّض راكبه. وقال محمد بن حبيب في الفرتَنَى
الفاجرة: إنها من الفرات، وحكم بزيادة النون والألف, فهي3 على هذا
كقولهم4 لها "هلوك". قال الهذلي5:
السالك الثغرة اليقظان كالئها ... مَشْي الهلوك عليها الخيعل الفضل6
وقياس مذهب سيبويه أن تكون "فرتنى" فعللى7 رباعية كجحجبى8, ومنه
الفرات؛ لأنه الماء العذب, وإذا عذب الشيء ميل عليه ونيل منه, ألا ترى
إلى قوله:
ممقرٌ مُرّ على أعدائه ... وعلى الأدنين حلو كالعسل9
وقال الآخر 10:
تراهم يغمزون من استركوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا11
ومنه الفتور للضعف, والرفت للكسر والرديف؛ لأنه ليس له تمكّن الأول,
ومنه الطفل للصبي لضعفه, والطفل للرخص, وهو ضد الشثن, والتفل للريح
المكروهة, فهي منبوذة مطروحة. وينبغي أن تكون "الدفلى"12 من ذلك لضعفه
عن صلابة النبع والسراء13 والتنضب، والشوْحَط. وقالوا: الدفر للنتن،
وقالوا:
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "ملك".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "كذلك".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "فهو".
4 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "قولهم".
5 هو المتنخل يرثي ابنه أثيلة. وانظر ديوان الهذليين "الدار" 2/ 34.
6 الثغرة موضع المخافة، وكالئها: حافظها. والحيعل: ثوب يخاط أحد شقيه
ويترك الآخر. والفل هو الحيعل ليس تحته إزار ولا سراويل. يقول: إن من
شأنه سلوك موضع المخافة متمكنًا منها غير هياب, كما تمشي المرأة
المتبخترة. وانظر الحرانة 4/ 288.
7 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "فعلل". وهو خطأ.
8 هم حي من الأنصار.
9 قائله لبيد، وهو من قصيدة في مرثية أربد في الديوان. وأمقر الشيء:
إذا كان مرًّا كالمقر وهو الصبر.
10 هو القطامي. والنظر الديوان 40.
11 استركوا: استضعفوا. والمصاع: المجالدة بالسيوف.
12 شجر مرٌّ أخضر يكون في الأودية.
13 كذا في أ، ب، ش، وفي ج: والشرا" وهو تصحيف. "والسراء" من كبار الشجر
ينبت في الجبال وتتخذ منه القسي.
(2/169)
للدنيا1 "أم دفر" سب لها وتوضيع منها. ومنه
"الفلتة" لضعفة الرأي, وفتل المغزل لأنّه تثنّ واستدارة, وذاك إلى وهي
وضعفة, والفطر: الشق, وهو إلى الوهن.
الآن قد أنَّستك بمذهب القوم فيما هذه حاله, ووقفتك على طريقه, وأبديت
لك عن مكنونه, وبقي عليك أنت التنبه لأمثاله, وإنعام الفحص عمَّا هذه
حاله, فإنني إن زدت على هذا مللت وأمللت. ولو شئت لكتبت من مثله
أوراقًا مئين, فأبه له ولاطفه, ولا تجفّ عليه فيعرض عنك ولا يبهأ2 بك.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "والدنيا".
2 يقال: بهأ بالشيء: أنس به.
(2/170)
|