الخصائص باب في مشابهة معاني
الإعراب معاني الشعر:
نبَّهنا أبو علي -رحمه الله- من هذا الموضع على أغراض حسنة, من ذلك
قولهم في لا النافية للنكرة: إنها تبنى معها فتصير كجزء1 من الاسم,
نحو: لا رجل في الدار, ولا بأس عليك, وأنشدنا في هذا المعنى "قوله "2:
خيط على زفرة فتمَّ ولم ... يرجع إلى دقَّة ولا هضم
وتأويل ذلك أن هذا الفرس لسعة جوفه وإجفار محزمه3 كأنه زَفَر, فلما
اغترق4 نفسه بُنِي على ذلك, فلزمته تلك الزفرة, فصيغ عليها لا يفارقها
"كما أن الاسم بني مع لا حتى خلط بها لا تفارقه ولا يفارقها"5 وهذا
موضع متناهٍ في حسنه, آخذ بغاية الصنعة من مستخرجه.
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "كجزء واحد".
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب، ج. والبيت للنابغة الجعدي كما في اللسان في
هضم، والخيل لأبي عبيدة في أواخره.
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "محرمة" وهو تصحيف. وإجفار مجزمة: سعة وسطه. وفي
معاني ابن قتيبة 1/ 139. "يقول: كأنه زافر أبدًا من عظم جوفه. والهضم:
استقامة الضلوع ودخول أعالبها، وهو عيب".
4 يقال: اغترف النفس: استوعب في الزفير.
5 ما بين القوسين ساقط من أ.
(2/170)
ومثله أيضًا من وصف الفرس:
بنيت معاقمها على مطوائها1
أي: كأنَّها تمطت, فلمَّا تناءت أطرافها ورحبت شحوتها2 صيغت على ذلك.
ومن ذلك قولهم: ما أدري أأذّن أو أقام, إذا قالها بأو لا بأم. فهو أنه
لم يعتدّ أذانه أذانًا, ولا قال: فمثل ذلك قول عبيد 3:
أعاقر كذات رحم ... أم غانم كمن يخيب
فكان ينبغي أن يعادل بقوله: ذات رحم، نقيضتها, فيقول: أغير ذات رحم
كذات رحم, وهكذا أراد لا محالة, ولكنه جاء بالبيت على المسألة4. وذلك
أنه لما لم تكن العاقر ولودًا صارت وإن كانت ذات رحم كأنها لا رحم لها,
فكأنه قال: أغير ذات رحم كذات رحم, كما أنه لما لم يوفِّ أذانه ولا
إقامته حقهما لمن يثبت له واحدًا منهما؛ لأنه قاله بأو, ولو قال: ما
أدري أأذَّن أم أقام "بأم"5 لأثبت له أحدهما لا محالة.
ومن ذلك قول النحويين: إنهم لا يبنون من ضرب وعلم, وما كانت عينه لامًا
أو راء مثل: عنسل. قالوا: لأنّا نصير به إلى ضنرب وعنلم, فإن أدغمنا
ألبس بفعل, وإن أظهرنا النون قبل الراء واللام ثقلت, فتركنا بناءه
أصلًا. وكان ينشد في هذا المعنى قوله 6:
__________
1 شطر بيت للمسيب بن علس صدره:
بمحالة تقص الذباب بطرفها
وانظر المصباح المنير 349, والمعاقم فقر في مؤخر الصلب. ويقال: فرس
مدلوك المعاقم, أي: ليس برهل, والمطواء النمطي. والمحالة: الشديدة
المحلل, أي: الفقار، ووقصها الذاب أنها تقتله إذا دنا منه. وقد نسب ابن
قتيبة في معانيه 1/ 44 البيت إلى المرقش, وأورد قبله:
ومغيرة تسج الجنوب شهدتها ... تمضي سوابقها على غلوائها
2 الشحوة: الخطوة.
3 يريد عبيد بن الأوص, والبيت في معلقته.
4 يريد بالمسألة ما أسلفه: أن الشيء إذا لم يوفّ ما يتوقع منه فكأنه لم
يكن.
5 ما بين القوسين ساقط من أ.
6 أي: الأعشى، وانظر الصبح المنير 126.
(2/171)
فقال:
ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظّ لمختار
وقول الآخر:
رأى الأمر يفضى إلى آخر ... فصيّر آخره أوَّلا
ووجدت أنا من هذا الضرب أشياء صالحة.
منها: أن الشعر المجزوء إذا لحق ضربه قطع لم تتداركه العرب بالردف,
وذلك أنه لا يبلغ من قدره1 أن يفي بما حذفه الجزء, فيكون هذا أيضًا
"كقولهم للمغني غير المحسن: تتعب ولا أطرب"2. ومنهم من يلحق الردف على
كل حال, فنطير معنى هذا معنى قول الآخر 3:
ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح4
وقول الآخر:
فإن لم تنل مطلبًا رمته ... فليس عليك سوى الاجتهاد
ومن ذلك قول من اختار إعمال الفعل الثاني؛ لأنه العامل الأقرب نحو:
ضربت وضربني زيد, وضربني وضربت زيدًا. فنظير معنى هذا معنى قول الهذلي
5:
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي
وعليه قول أبي نواس:
أمر غدٍ أنت منه في لبس ... وأمس قد فات فاله عن أمس
فإنما العيش عيش يومك ذا ... فباكر الشمس بابنة الشمس
__________
1 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "هذه" وهو خطأ.
2 ما بين القوسين في ش، ب، ج، وسقط في أ.
3 هو عروة بن الورد. والشعر في الحماسة.
4 هذا عجز بيت صدره:
ليبلغ عذرًا أو يصيب رغيبة
وقبله:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترًا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح
5 هو أبو خراش. وانظر الأمالي 1/ 271، واللآلي 601.
6 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "وإنما".
(2/172)
ومنه قول تأبط شرًّا: وما قَدُمَ نُسِي ومن
كان ذا شر خشي. في كلام له, وقوله:
وإذا مضى شيء كأن لم يفعل1
وقول الآخر: أنشدناه أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان عن
الأصمعي عن أبي عمرو أن رجلًا من أهل نجد أنشده:
حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر أيّتما حالٍ دهارير2
ومن ذلك أيضًا قول شاعرنا:
خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل3
ومما جاء في معنى إعمال الأول قول الطائي الكبير:
نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلّا للحبيب الأول
وقول كُثَيِّر:
ولقد أردت الصبر عنك فعاقني ... علق بقلبي من هواك قديم
وقول الآخر:
تمر به الأيام تسحب ذيلها ... فتبلى به الأيام وهو جديد
ومن ذلك ما جاء عنهم من الجوار في قولهم: هذا جحر ضب خرب, وما يحكى أن
أعرابيًّا أراد امرأة له فقالت له: إني حائض, فقال: فأين الهنة الأخرى,
فقالت له: اتق الله, فقال:
كلا ورب البيت ذي الأستار ... لأهتكنّ حلق الحتار4
قد يؤخذ الجار بجرم الجار
__________
1 صدره:
فإذا وذلك ليس إلّا حينه
وهو من قصيدة لأبي كبير الهذلي. وانظر رغبة الآمل، شرح الكامل 2/ 113.
2 جاء هذا في الأمالي 2/ 182، والكتاب 1/ 122، ويقول فيه البكري في
اللآلي: "أنشد سيبويه" ولم ينسبه الجرمي" وانظر اللآلي, وسمطه 800،
والمعمرين 40.
3 "الشمس" كذا في أ. وفي سائر الأصول: "البدر".
4 الحتار: حلقة الدير.
5 "يجرم" كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "بذنب", وهذا الشطر مَثَلٌ أورده
الميداني في حرف القاف 7/ 474 "بولاق", وقال: "مَثَلٌ إسلاميّ، وهو في
شعر الحكمي.
(2/173)
ومنه قول العرب: أعطيتك إذ سألتني وزدتك إذ
شكرنني. ف"إذ" معمولة العطية والزيادة, وإذا عمل الفعل في ظرف زمانيًّا
كان أو مكانيًّا, فإنه لا بُدَّ أن يكون واقعًا فيه, وليست العطية
واقعة في وقت المسألة, وإنما هي عقيبه؛ لأن المسألة سبب العطية, والسبب
جارٍ مجرى العلة, فيجب أن يتقدَّم المعلول والمسبب؛ لكنه لما كانت
العطية مسببة عن المسألة وواقعة على أثرها, وتقارب وقتاهما, صار لذلك
كأنهما في وقت واحد. فهذا تجاور في الزمان, كما أن ذاك تجاور في
الإعراب.
ومنه قول الله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ
أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} 1. طاولت أبا علي -رحمه الله
تعالى- في هذا وراجعته فيه عودًا على بدء, فكان أكثر ما2 برد منه في
اليد أنّه لما كانت الدار الآخرة تلي الدار الدنيا لا فاصل بينهما,
إنما هي هذه فهذه, صار ما يقع في الآخرة كأنه واقع في الدنيا, فلذلك
أجرى اليوم وهو الآخرة3 مجرى وقت4 الظلم وهو قوله: إذ طلمتم ووقت الظلم
إنما كان في الدنيا. فإن لم تفعل هذا وترتكبه بقي "إذا ظلمتم" غير
متعلق بشيء, فيصير ما قاله أبو علي إلى أنه كأنه أبدل "إذ ظلمتم" من
اليوم, أو5 كرره عليه, وهو كأنه هو.
فإن قلت: لم لا تكون "إذ" محمولة على فعل آخر, حتى كأنه قال: ولن
ينفعكم اليوم أنكم في العذاب مشتركون "اذكروا" إذ ظلمتم, أو نحو ذلك.
__________
1 آية: 39، سورة الزخرف.
2 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "برز". ويقال: بررالشيء في اليد: أي: ثبت.
3 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
4 خرج من هذا الإشكال متأخرو النحاة بأن إذ في الآية لمحض التعليل،
وليست للوقت، فلا يطلب لها فعل يقع فيه. وانظر المغني في ترجمة "إذ".
5 كذا في ش، ب، ج.
(2/174)
قيل: ذلك يفسد من موضعين: أحدهما اللفظ
والآخر المعنى, أما اللفظ فلأنك تفصل بالأجنبي -وهو قوله: "إذ ظلمتم"-
بين الفعل وهو "ينفعكم", وفاعله وهو "أنكم في العذاب مشتركون", وأنت
عالم بما في الفصل بينهما بالأجنبي. وإن كان الفصل بالظرف متجوزًا فيه.
وأما المعنى فلأنَّك لو فعلت ذلك لأخرجت من الجملة الظرف الذي هو "إذ
ظلمتم", وهذا ينقض معناها. وذلك لأنها معقودة على دخول الظرف الذي هو
"إذ" فيها, ووجوده في أثنائها, ألا ترى أن عدم انتفاعهم بمشاركة
أمثالهم لهم في العذاب إنما سببه وعلته ظلمهم, فإذا كان كذلك كان
احتياج الجملة إليه نحوًا من احتياجها إلى المفعول له، نحو قولك 1:
قصدتك رغبة في برِّك, وأتيتك طمعًا في صلتك, ألا ترى أن معناه: أنكم
عدمتم سلوة التأسِّي بمن شارككم في العذاب لأجل ظلمكم فيما مضى, كما
قيل في نظيره: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 2 أي: ذق
بما كنت تعد في أهل العز والكرم. وكما قال الله تعالى في نقيضه:
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ
الْخَالِيَةِ} 3. ومن الأول قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ} 4 ومثله في الشعر كثير, منه قول الأعشى:
على أنها إذ رأتني أُقَاد ... تقول بما قد أراه بصيرا5
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "قولهم".
2 آية: 49 سورة الدخان.
3 آية: 24 سورة الدخان.
3 آية: 61 سورة البقرة.
4 "أنها كذا في أ. وفي ش، ب: "أثنى". "أفاد". كذا في أ. وفي ش. ب:
"تقاد". وقوله: "بما قد أراه". "ما" هنا كفَّت الباء عن الجزء وأحدثت
معها معنى التقليل. ف"يما" تساوي ربما. انظر المغني في مبحث الباء
المفردة. وابن جني هنا لا يرى هذا, ويرى أنها هنا بمعنى البدل. فقوله:
بما قد أراه بصيرًا. أي: الضعف المشاهد الآن, وسوء البصر بدل ما قد مضى
من الفترة وصحة البصر، وانظر قوله هنا: أي هذا الضعف بتلك القوة.
والشعر للأعشى في الصبح المنير 69.
وما سقته عن الغني هو رأي أبي عمرو، فقد قال: "بما بمعنى ربما" وانظر
شرح ثعلب. ورأي ابن جني تبع فيه الأصمعي. فقد قال: "قالت بما قد أراه.
هذا العمى: بداك البصر، أي: هذا بذباك".
(2/175)
ومنه قولهم حكاية عن الشيخ: بما لا أخشى
بالذئب, أي: هذا الضعف بتلك القوة. ومنه1 أبيات العجاج "أنشدناها سنة
إحدى وأربعين "2:
إمّا تربني أصل القُعّادا ... وأتقي أن أنهض الإرعادا3
من أن تبدّلت بآدي آدا ... لم يك ينآد فأمسى انآدا4
وقصبا حنى حتى كادا ... يعود بعد أعظمٍ أعوادا5
فقد أكون مرة روّادًا ... أطّلع النجاد فالنجادا6
وآخر من جاء به على كثرته شاعرنا "فقال "7:
وكم دون الثويّة من حزين ... يقول له قدومي ذا بذاكا8
فكشفه وحرّره. ويدل على الانتفاع بالتأسي في9 المصيبة قولها 10:
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب. "من".
2 ما بين القوسين ساقط في ش، ب. وقوله: "أنشدناها" أي: أبو علي. وقوله
"سنة إحدى وأربعين" أي: ثلاثمائة. وبعض هذا الرجز في ملحق الديوان 76.
3 القعاد: جمع قاعد. وقوله أصل القعاد: أي: أكون منهم وأفعل فعلهم.
والإرعاد مفعول, "أتقي" أي: أتقي الإرعاد من أن أنهض.
4 الآد: القوة كالآبد. وانآد: أنثني وأعوجّ، وقد ورد هذا البيت وما
قبله في شواهد إصلاح المنطق لابن السيرافي، الورقة 89.
5 القصب: كل عظم ذي مخ.
6 الرؤاد: مبالغة الرائد، وهو الذي يتقدّم قومه يلتمس لهم النجعة
والكلأ, والنجاد: جمع نجد وهو ما أشرف من الأرض.
7 كذا في أ، وسقط في ش، ب.
8 التوبة: موضع قريب من الكوفة, وقوله: "دون الثوية" كذا في أ. وفي ش،
ب: "تحت الثوية".
9 كذا في أ، ب. وفي ش: "من".
10 أي: الخنساء.
(2/176)
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم
لقتلت نفسي1
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
ومنه قول أبي داود:
ويصيخ أحيانًا كما اس ... تمع المضل لصوت ناشد2
وهو كثير جدًّا.
ولسنا نريد ههنا الجوار الصناعي, نحو قولهم في الوقف: هذا بكُرْ, ومررت
ببِكرْ, وقولهم: صُيمَّ3 وقُيمَّ وقول جرير 4:
لحبّ المؤقدان إلي مؤسى
وقولهم: هذا مصباح5، ومقلات5، ومطعان5، وقوله 6:
__________
1 "إخوانهم" كذا في ش، ب. وفي أ: "أحبابهم". والشعر من مرثيئها لأخيها
صخر. وانظر الديوان 49.
2 هذا في وصف فرص، بصفة بحدة السمع. البيت في أربعة أبيات لأبي داود.
انظر تهذيب الألفاظ 475.
3 يريد أن "صيما" كان قياسه التصحيح؛ فيقال: صوم، ولكن العين لمجاورتها
اللام اكتسبت الإعلال؛ فإن الواو إذا وقعت لا ما نقلب ياء في الجمع؛
نحو: جثيّ وعصيّ.
4 من قصيدة لجرير يمدح بها هشام بن عبد الملك, وعجزه:
وجعدة إذا أضاءهما الوقود
وقبل البيت:
نظرنا نار جعدة هل نراها ... أبعد غال ضوءك أم همود
وجعدة ابنته، وموسى ابنه. وانظر الديوان (الصاوي) 147، وشواهد المغني
للسيوطي 325, وللبغدادي 2/ 1052. وأثر الجوار في البيت إبدال الواو في
"الموقدان" و"مؤسّى" همزة لمجاورتها للضمَّة قبلها، فكأنها مضمومة،
والهمز يجوز في الواو المضمومة؛ تحسو أجوه في وجوه، وأقنت في وقنت.
وانظر المغني، في القاعدة الثانية من الباب الثامن.
5 يريد أن هذه الألفاظ جرت فيها الإمالة؛ لأن الحرف المتحرك كأنه جاور
المكسور؛ إذ الحاجز ساكن وهو لا يمنع الجوار أو كأنَّ كسر الحرف السابق
على حرف الاستعلاء في حرف الاستعلاء نفسه، وحرف الاستعاء المكسور لا
يمنع الإمالة؛ نحو: غلاب وطعان، وهذا هو الذي يريده المؤلف.
6 هو عامر بن كثير المحابي، كما في اللسان ف شقد.
(2/177)
إذا اجتمعوا عليَّ وأشقذوني ... فصرت كأنني
فرأٌ متار1
وما جرى مجرى ذلك. وإنما اعتزامنا هنا الجوار المعنويّ لا اللفظيّ
الصناعي. ومن ذلك قول سيبويه في نحو قولهم: هذا الحسن الوجه: إن الجرَّ
فيه من وجهين, أحدهما: طريق الإضافة, والآخر: تشبيهه2 بالضارب الرجلِ,
هذا مع العلم بأن الجرَّ في الضارب الرجل إنما جاءه وجاز فيه لتشبيههم
إياه بالحسن الوجه, فعاد الأصل فاستعاد من الفرع نفس الحكم الذي كان
الأصل بدأ أعطاه إياه3، حتى دلَّ ذلك على تمكّن الفروع وعلوها في
التقدير. وقد ذكرنا ذلك, ونظيره في المعنى قول ذي الرمة:
ورملٍ كأوراك العذارى قطعته ... إذا ألبسته المظلمات الحنادس4
وإنما المعتاد5 في نحو هذا تشبيه أعجاز بكثبان الأنقاء. وقد تقدَّم
ذكر6 هذا المعنى في باب قبل هذا لاتصاله به, ومنه7 قول الآخر:
__________
1 قبله:
فإني لست من غطفان أصلي ... ولا بيني وبينهم اعتشار
والاعتشار: العشرة, وقوله: "اجتمعوا" في رواية اللسان: "غضبوا"،
"أشقدوني": طردوني. والفرأ: حمار الوحش. ومثار: أصله منأر، اسم مفعول
من أناره، أفزعه وطرده؛ فنقلت حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وكان
الواجب بعد هذا حذف الهمزة, فيقال: متر، ولكنه قدر السكون على الحرف
قبل الهمزة رافعًا على الهمزة، فقدر في الكلمة همزة ساكنة، وحفها
الإبدال فأبدلها ألفًَا نظرًا لها الجوار. وزعم ابن حمزة أن هذا تصحيف،
وأن صوابه: منار -بالنون- أي: مفزع، يقال: أثرته أي: أفزعته. وانظر
اللسان في شقذ، وتأر. وقوله: "مئار" بالمثناة في أ، وهو الصواب,
وبالمثلثة في ش، ب. وهو تصحيف. وقوله: "فرأ" بالفاء كذا في أ، ب، ش،
وفي ج: "قرأ" وهو تصحيف. وانظر المحتسب في آخر صورة الفاتحة.
2 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "تشبيه".
3 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "وآتاه".
4 انظر ص301 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "العادة".
6 كذا في أ، وسقط هذا في ش، ب.
(2/178)
وقرّبوا كل جُمَّاليٍّ عضه ... قريبةٍ
ندوته من محمضه1
وقد ذكرنا حاله, وشرحنا الغرض فيه في باب متقدِّم, فلا وجه لإعادته
ههنا.
وسبب تمكّن هذه الفروع عندي أنها في حال استعمالها على فرعيتها تأتي
مأتى الأصل الحقيقي لا الفرع التشبيهي, وذلك قولهم: أنت الأسد, وكفُّك
البحر, فهذا لفظه لفظ الحقيقة, ومعناه: المجاز والاتساع, ألا ترى أنه
إنما يريد: أنت2 كالأسد، وكفُّك مثل البحر, وعليه جاء قوله:
ليلى قضيب تحته كثيب3
وإنما يريد: نصف ليلى الأعلى كالقضيب, وتحته ردف مثل الكثيب, وقول
طرفة:
جازت القوم إلى أرحلنا ... آخر الليل بيعفورٍ خدر4
أي: بشخص أو بإنسان مثل اليعفور, وهو واسع كثير. فلمَّا كثر استعمالهم
إياه وهو مجاز استعمال الحقيقة, واستمرَّ واتلأبَّ, وتجاوزوا به ذاك
إلى أن أصاروه كأنه هو الأصل والحقيقة, فعادوا فاستعاروا معناه لأصله
فقال:
ورمل كأوراك العذارى..
__________
1 انظر ص304 من الجزء الأول.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "أنه".
3 انظر ص301 من الجزء الأول.
4 هذا البيت من قصيدته التي أولها:
أصوت اليوم أم شاقتك هرّ ... ومن الحب جنون مستعر
وقوله: "القوم" يُروى "البيد", وقوله: "جازت" يعنى: خيالها، وأنَّثَه
لأنه كأنه هي، والخبر عنه خبر عنها. إنما قال: "آخر الليل"؛ لأن
التعريس, أي: النزول وقطع السير يكون آخر الليل، وعند التعريس والنوم
يأتيه خيالها. واليعفور: ظبي تعلوه حمرة. والحدر: الفاتر العظام البطيء
عند القيام. يقول: قطعت البيد لينًا بمثل ظبي ملاحته وحسنه. وإنما
عناها نفسها، وهذا من باب التجربة, وانظر شرح الشنتمري لديوان طرفة
المطبوع في أوربا.
(2/179)
وهذا من باب تدريج اللغة، وقد ذكر1 فيما
مضى. وكان أبو علي -رحمه الله- إذا أوجبت القسمة عنده أمرين كلَّ واحد
منهما غير جائز يقول فيه: قسمة الأعشي يريد قوله:
فاختر وما فيهما حظ لمختار
وسأله مرة بعض أصحابه فقال له: قال الخليل في ذراع: كذا وكذا, فما عندك
أنت في هذا2؟ فأنشده مجيبًا له:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام
ويشبه هذا ما يحكى عن الشعبيّ أنه ارتُفِع إليه في رجل بخص عين رجل, ما
الواجب في ذلك؟ فلم يزدهم على أن أنشدهم بيت الراعي:
لها مالها حتى إذا ما تبوأت ... بأخفافها مرعًى تبوأ مضجعًا3
فانصرف القوم مجابين. أي: ينتظر بهذه العين المبخوصة، فإن ترامى أمرها
إلى الذهاب ففيها الدية كاملة, وإن لم تبلغ ذاك ففيها حُكُومة4.
__________
1 انظر ص348 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
2 أي: في تسمية المذكر بذراع، هل يصرف أو يمنع من الصرف. ورأى الخليل
صرفه. وانظر الكتاب 2/ 19، واللسان "ذرع".
3 بهذا البيت سمي الشاعر عبيد بن حصين بالراعي, وهو في وصف إبل. وانظر
الاشتقاق لابن دريد 179.
4 هي جزاء مالي غير مقدَّر في الشرع، وإنما يرجع في تقديره إلى الحاكم.
(2/180)
باب 1 في خلع الأدلة 2:
من ذلك حكاية يونس قول3 العرب: ضرب مَنٌ منا, أي: إنسان إنسانًا, أو
رجل4 رجلًا, أفلا تراه كيف جرد "مَنْ" من5 الاستفهام ولذلك أعربها.
ونحوه قولهم في الخبر: مررت برجل أيِّ رجل. فجرد "أيّا" من الاستفهام
أيضًا, وعليه بيت الكتاب:
والدهر أينما حالٍ دهارير6
__________
1 من هنا تبدأ نسخة ش.
2 يراد بالأدلة أعلام المعاني في العربية. فالهمزة دليل الاستفهام، وإن
دليل الشرط، وهكذا. ويراد بالمعاني: المعاني التي تحدث في الكلام من
خبر واستخبار ونحو ذلك، وأكثر ما يوضع لها الحروف والأدوات، فلا يعني
أسماء الأجناس، وخلع الأدلة تجريدها من المعاني المعروفة لها,
والمتبادرة فيها, وإرادة معانٍ أخر لها، أو تجريدها من بعض معانيها.
ومن أمثلة هذا الباب ما ذكره الزمخشري في تفسير قوله تعالى في سورة
مريم: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ
حَيًّا} . ذلك أن اللام الداخلة على المضارع تخلصه للحال، وهذا معنى
عرف لها، وسوف تخلصه للاستقبال، فقد نوارد على المضارع "أخرج" دليلان
متدافعان، والمخرج من هذا هو القول بخلع الحال من اللام, وإرادة
التوكيد بها فحسب. ومن ذلك ما ذكروه في نداء لفظ الجلالة، ذلك أن ال
تثبت في ندائه فيقال: يا الله، على حين أن المألوف من أمر النداء لما
فيه ال أن تسقط أداة التعريف, فيقال: يا رجل، ولا يقال: يا الرجل. ولكن
الذي سوّغ أن يقال يا الله أنَّ أل في لفظ الجلالة ليست للتعريف، وإنما
قصد بها التعويض من الفاء المحذوفة؛ إذ أصل (الله) الإله -كما هو أحد
الأوجه- فزال المعنى الذي يدفع أن يجتمع آل والنداء؛ إذ إن المانع أن
يقال: يا الرجل, هو أن النداء يكسب المنادى تعريفًا بالتعيين, فلا
يجتمع مع أداءة التعريف؛ لأن من شأن العرب ألا يجمعوا بين علامتين
لمعنى واحد. فقد ترى كي خلع اللام عن الحال في "لسوف أخرج"، وأل عن
التعريف في لفظ الجلالة. وانظر المعنى في مبحث اللام المفردة.
وقد ترجم السيوطي في الأشباه والنظائر 1/ 220، لهذا الباب، ونقل فيه
معظم ما هنا.
3 في ش: "من قول". وفي الأشباه والنظائر، "ما حكاه يونس من قول".
4 في ش: "و".
5 سقط في ج، ش.
6 انظر ص 173 من هذا الجزء.
(2/181)
أي: "والدهر"1 في كل وقت وعلى كل حال
دهارير, أي: متلوّن ومتقلّب بأهله. وأنشدنا أبو علي:
وأسماء ما أسماء ليلة أدلجت ... إلي وأصحابي بأيّ وأينما2
قال: فجرّد "أي"3 من الاستفهام ومنعها الصرف, لما فيها من التعريف
والتأنيث. وذلك أنه وضعها علمًا على الجهة التي حلَّتها.
فأما قوله4: "وأينما" فكذلك أيضًا, غير5 أن لك في أينما وجهين:
أحدهما: أن تكون الفتحة هي التي تكون6 في موضع "جرما"7 لا ينصرف؛ لأنه
جعله علمًا للبقعة أيضًا، فاجتمع فيه التعريف والتأنيث، وجعل "ما"
زائدة8 بعدها للتوكيد.
والآخر: أن تكون فتحة النون من "أينما" فتحة التركيب، ويضمّ "أين" إلى
"ما", فيبنى الأوّل على الفتح, كما يجب في نحو: حضرموت "وبيت بيت"9
فإذا أنت فعلت ذلك "قدرت"10 في ألف "ما" فتحة ما لا ينصرف في موضع
الجرِّ؛ كمررت بأحمد وعمر. ويدل على أنه قد يضم "ما" هذه إلى ما قبلها,
ما أنشدناه11 أبو علي عن أبي عثمان:
أثورٌ ما أصيدكم أم ثورين ... أم تيكم الجماء ذات القرنين12
__________
1 سقط في أ، م.
2 "أدلجت" كذا في ج، ش، وفي سائر الأصول: "أدلجوا" وانظر ص131 من الجزء
الأول.
3 في ج: "أيا".
4 كذا في أ، م. وفي سواهما: "وأمّا".
5 في ش: "إلّا".
6 سقط في ش.
7 في ش: "الجر لما".
8 في أ، م: زيادة.
9 سقط في ش، ب.
10 في ش: "جعلت.
11 في ش: "أنشده".
12 "أم ثورين", في أ "أو ثورين". "الجماء". كذا في ب، ش. وفي أ، ش:
"الحماء" بالحاء، والجماء: التي لا قرنين لها، وهذا لا يتفق مع قوله:
"ذات القرنين" غير أنه يحمل على هذه الرواية على الهزء والتهكم, وقال
المبرد: كان قرناها صغيرين فشبهها بالجماء. وانظر اللسان "قرن".
والحماء: السوداء, والكلام عليها ظاهر لا غبار عليه. وانظر اللسان.
"ثور".
(2/182)
فقوله: "أثور ما" فتحة الراء منه فتحة
تركيب "ثور" مع "ما" بعده، كفتحة راء حضرموت ولو كانت فتحة إعراب لوجب
التنوين لا محالة؛ لأنه مصروف. وبنيت "ما" مع الاسم, وهي مبقاة على
حرفيتها كما بنيت "لا" مع النكرة, في نحو: لا رجل. ولو جعلت "ما" مع
"ثور" اسمًا ضممت إليه "ثورًا" لوجب مدها؛ لأنها قد صارت اسمًا فقلت:
أثور ماء أصيدكم. وكما1 أنك لو جعلت "حاميم" من قوله:
يذكرني حاميم والرمح شاجر2
اسمين مضمومًا أحدهما إلى صاحبه لمددت "حا" فقلت: حاء ميم, ليصير
كحضرموت.
ومثل3 قوله: "أثور ما أصيدكم" في أنه اسم ضمَّ إلى حرف في قول أبي
عثمان "ما أنشدناه أبو علي "4:
ألا هيَّما مما لقيت وهيما ... وويحًا لمن لم يلق منهن ويحما
__________
1 كذا في أ، م. وفي غيرهما: "كما".
2 عجزه:
فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وهذا ينسب لشريح بن أرفى العبسي، وقيل: للأشتر النخعي. والضمير المرفوع
في "يذكرني" لمحمد بن طلحة، قتله الأشتر أو سريح. وانظر اللسان "حمم".
وفي طبقات ابن سعد 5/ 39, أن ذلك كان في وقعة الجمل، وأن في قاتله
خلافًا، وأن قاتله قال:
وأشعث قوَّام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخرَّ صريعًا لليدين والفم
يذكرني حم والرمح شارع ... فهلّا تلا حم قبل التقدم
على غير شيء أن ليس تابعًا ... عليًّا ومن لا يتبع الحق يندم
وقوله: "يذكرني حاميم" فذلك أن شعار شيعة علي -رضي الله عنه- كان حم.
وانظر البخاري وشروحه في أول تفسير سور غافر.
3 كذا في أ، م. وفي ش، ب: "مثله.
4 سقط ما بين القوسين في ش، ب.
(2/183)
وأسماء ما أسماء ليلة أدلجت ... إليّ
وأصحابي بأي وأينما1
فكلام في "ويحما" هو الكلام في "أثور ما".
فأما قول الآخر:
وهل لي أمٌّ غيرها إن هجوتُها ... أبى الله إلّا أن أكون لها أبنما2
فليس من هذا الضرب في شيء, وإنما هي ميم زيدت آخر ابن, وجرت قبلها حركة
الإتباع, فصارت هذا ابنم, ورأيت ابنما ومررت بابنم. فجريان حركات
الإعراب على الميم يدل على أنها ليست "ما". وإنما الميم في آخره كالميم
في آخر ضرزم3، ودقعم، ودردم4.
وأخبرنا أبو علي أن أبا عثمان ذهب في قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ
مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} 5 إلى أنه جعل "مثل"6 و"ما" اسمًا
واحدًا, فبنى الأول على الفتح, وهما جميعًا عنده في موضع رفع لكونهما
صفة ل"حق".
فإن قلت: فما موضع {أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} قيل: هو جرّ بإضافة "مثل
ما"8 إليه.
__________
1 انظر ص182 من هذا الجزء.
2 هذا من قصيدة للمتلمس يقول فيها:
يعيرني أمي رجال ولا أرى ... أخا كرم إلّا بأن يتكرَّما
ومن كان ذا عرض كريم ولم يصن ... له حسبًا كان اللئيم المذمَّمَا
وانظر مختارات ابن الشجري 32، والخزانة 4/ 214، 216، الأغاني 21/ 133،
137، والأصمعيات.
3 يقال ناقة ضرزم: مسنة.
4 انظر ص53 من هذا الجزء.
5 آية: 23، سورة الذاريات.
6 في ش، ب: "مثل ما".
7 في ش، ب: "لكونها".
8 في ش، ب: "مثل" ورسم في أ، م: "مثلما".
(2/184)
فإن قلت: ألا تعلم أنَّ "ما" على بنائها؛
لأنها على حرفين, الثاني منهما حرف لين, فكيف تجوز إضافة المبني؟ قيل:
ليس المضاف "ما" وحدها, إنما المضاف الاسم المضموم إليه "ما"1, فلم تعد
"ما" هذه أن تكون كتاء2 التأنيث في نحو: هذه جارية زيد, أو كالألف
والنون في سرحان عمرو, أو كتاء الإضافة في بصريّ القوم، أو كألفي
التأنيث في صحراء3 زتم، أو كالألف والتاء في:
في غائلات الحائر المتوّه4
فهذا وجه.
وإن شئت قلت: و"ما" في إضافة المبنيّ! ألا ترى إلى إضافة "كم" في الخبر
نحو: كم عبد ملكت, وهي مبنية, وإلى إضافة أيّ من قول الله سبحانه:
{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى
الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} 5 وهي مبنية عند سيبويه.
وأيضًا فلو ذهب ذاهب واعتقد معتقد أن الإضافة كان يجب أن تكون داعية
إلى البناء من حيث كان المضاف من المضاف إليه بمنزلة صدر الكلمة من
عجزها, وبعض الكلمة صوت, والأصوات إلى الضعف والبناء لكان قولًا! .
__________
1 في ش: "فما" و"تعد" على هذا يجب أن يكون "تعدر".
2 في ش: "كهاء".
3 زمّ: بئر بحفائر سعد بن مالك. وقد ورد (صحراء زمّ) في قول الأعشى:
وما كان ذلك إلّا الصبا ... وإلّا عقاب امرئ قد أثم
ونظرة عين على غرة ... محل الخليط بصحراء زمّ
وانظر الصبح المنير 28، واللسان "زمم".
4 هذا من أرجوزة لرؤبة في الديوان 166، و"المنوّه" ضبط في أعلى صيغة
اسم الفاعل بكسر الواو المشدَّدة، وفي ب ضبط بفتح الواو على صيغة اسم
المفعول، وهو وصف من توه نفسه, أي: حيرها، والرواية المعروفة: المنهته"
في مكان "المنوّه" أي: المردد في الباطل.
5 آية: 19 سورة مريم.
(2/185)
ومما خلعت عنه دلالة الاستفهام قول الشاعر
-أنشدناه سنة إحدى وأربعين:
أني جزوا عامرًا سيئًا بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوأى من الحسن1
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رثمان أنف إذ ما ضنَّ باللبن1
فأم في أصل الوضع للاستفهام, كما أن "كيف" كذلك. ومحال "اجتماع2 حرفين"
لمعنى واحد3؛ فلا بُدَّ أن يكون أحدهما قد خُلِعت عنه دلالة الاستفهام.
وينبغي أن يكون ذلك الحرف "أم" دون "كيف"؛ حتى كأنه قال: بل4 كيف ينفع,
فجعلها بمنزلة "بل" في الترك "والتحول"5.
ولا يجوز أن تكون "كيف" هي المخلوعة عنها دلالة الاستفهام؛ لأنها لو
خلعت عنها لوجب إعرابها؛ لأنها إنما بنيت لتضمنها معنى حرف الاستفهام,
فإذا زال ذلك عنها وجب إعرابها, كما أنه لما خلعت دلالة الاستفهام عن
"مَنْ" أعربت في قولهم: ضرب مَنٌ منًا. وكذلك قولك: مررت برجل أيّ رجل,
لما خلعت عنها دلالة الاستفهام "جرت وصفًا"6. وهذا واضح جلي.
__________
1 من قصيدة لأفنون التغلبي. و"سيئا" هو مخفف سبي. وهو بهذه الصورة في
أ. وفي ش، ب، ج: "شبئًَا" وهو تصحيف. وفي ش: "سوءا". وعامر هي القبيلة
المعروفة. وقابل "السوأى" بالحسن للقافية. ولولا ذلك لقال: من الحسنى،
والعلوق من الإبل: التي لا ترأم ولدها، ولا تدر عليه؛ ورئمانها: عطفها
ومحبتها. وانظر الخزانة 4/ 455، 519، وشرح المفضليات لابن الأنباري
534، وأمالي ابن الشجري 1/ 37.
2 في أ: "اجتماعهما", وهو يريد بالحرف الأداة وإن كانت اسمًا في
الاصطلاح النحوي. ومن هذا جعل "كيف" حرفًا، وهي في عداد الأسماء, وهو
يريد اجتماع الحرفين لغير توكيد.
3 في م "في موضع واحد".
4 سقط هذا الحرف في أ، م.
5 سقط في أ.
6 كذا في أ. وفي غيرها: "أعربت".
(2/186)
ومن ذلك كاف المخاطب للمذكر والمؤنث -نحو:
رأيتك وكلمتك- هي تفيد شيئين: الاسمية والخطاب, ثم قد خلع1 عنها دلالة
الاسم في قولهم 2: ذلك وأولئك وهاك وهاءك وأبصرك زيدًا, وأنت تريد:
أبصر زيدًا, وليسك أخاك, في معنى ليس أخاك.
وكذلك قولهم: أرأيتك زيدًا ما صنع؟ وحكى أبو زيد: بلاك والله, وكلاك
والله, أي: بلي وكلا. فالكاف في جميع ذلك حرف خطاب مخلوعة عنه دلالة
الاسمية, وعليه قول3 سيبويه. ومن زعم أن الكاف في "ذلك" اسم انبغى له
أن يقول: ذلك نفسك. وهذا كله مشروح في أماكنه. فلا موضع إذًا لهذه
الكاف من الإعراب, وكذلك هي إذا وصلت بالميم والألف والواو نحو: ذلكما
وذلكمو. فعلى هذا يكون قول الله سبحانه: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ
تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} 4. " كُمَا" من "أنهكما" منصوبة الموضع و"كما"
من "تلكما" لا موضع لها؛ لأنها حرف خطاب5.
فإن قيل: فإذا كانت حرفًا لا اسمًا, فكيف جاز أن تكون الألف المنفصلة
التي قبلها تأسيسًا6 في نحو قوله7:
__________
1 كذا في أ. وفي ب، ش: "تخلع" وفي ش: "ثم يخلع".
2 في ش، ب: "قولك".
3 انظر الكتاب 2/ 304.
4 آية: 22، سورة الأعراف.
5 في ش، ب: "للخطاب".
6 التأسيس: ألف بينه وبين الروي حرف، وهو مما يلتزم. ومن شرطه أن يكون
في كلمة الروي، ولا يكون في غيرها إلّا إذا كان الروي ضميرًا. ومن هنا
جاء هذا البحث. فإن الألف في "ذلك" جعلت تأسيسًا في الشعرين المسوقين
بدليل التزامها، وهي من كلمة الرويّ، والروي كان (ذلك) , وهذا يقضي بأن
تكون الكاف فيها ضميرًا.
7 أي: طرفة، وانظر الديوان 44، والأصمعيات 55.
(2/187)
. . . . . . . . . . . . ... على صدفيّ
كالحنية بارك1
ولا غرو إلا جارتي وسؤالها ... أليس لنا أهل سئلت كذلك2
وقول خفاف بن ندبة:
وقفت له علوي وقدم خام صحبتي ... لأبني مجدًا أو لأثار هالكا2
أقول له والرمح بأطر متنه ... تأمل خفافًا إنني أنا ذلكا4
__________
1 هاك هذا الشطر مع صدر البيت وبيت قبله، على ما في الديوان:
ظللت بذي الأرطي فويق مثقب ... بكينة سوء هالكًا أو كهالك
تلف على الريح ثوبي قاعدًا ... إلى صدفيّ كالحنية بارك
وترى "إلى صدفي" ورواية الأصمعيات "لدى صدفي", والصدفى: المنسوب إلى
الصدف -بزنة كنف- وهي قبيلة يمنية. وأراد بالصدفى جملًا, وفي اللسان:
"والصدفي ضرب من الإبل" والحنية: الفوس، شبه بعيره بها في صلابته
وضميره.
2 هذا البيت بعد تسعة أبيات من البيت السابق "فليس متصلًا به" كما
يوهمه وضع الكتاب, وإنما قرنهما ليبني على ذلك ما يذكره، وقوله: "أليس
لنا أهل" في ش: "ألا هل لنا أهل", وهي رواية الديوان، وبعد هذا البيت:
تعيرني جوب البلاد ورحلتي ... ألا رب دارلي سوى حرّ دارك
يذكر أنه دائب الترحال والضرب في البلاد لطلب الرزق، وقد بلغ به الأمر
أن أنكرت ذلك جارته -وهي زوجه- فقالت له: أليس لك أهل نشوى لديهم،
وتقيم عندهم! فقال في الرد عليها سئلت كذلك, وهذه جملة دعائية، أي:
صبرك الله غريبة, فتسألين هذا السؤال كما سألتيني.
3 قبل هذا البيت:
إن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدًا على عيني يتممت مالكا
الخيل: الفرسان، وصميم الخيل: عميدهم ومقدمهم. ويريد به معاوية بن عمرو
أخا الخنساء, ومالك هو مالك بن حمار, سيد بني شمخ من فزارة. وعلوي: اسم
فرسه، وفي اللسان "جلا" أن سامها جلوى، وأورد البيت، رخام أي: جبن، وفي
ش، ب: "نام".
4 "بأطر متنه" أي: يثنيه ويعطفه، وذلك كسره بالطعن. وقوله: "إنني أنا
ذلكا" أي: أنا ذلك الذي سمعت به. وانظر الكامل 7/ 162، والأغاني 16/
139، والخزانة 2/ 470 والإنصاف304.
(2/188)
ألا ترى أن الألف في "هالكا" و"بارك" تأسيس
لا محالة, وقد جمعهما مع الألف في "ذلكا" و [ذلك] 1 وهي منفصلة, وليس
الروي -وهو الكاف- اسمًا مضمرًا "كياء قوله"2 "بداليا"3, ولا من جملة
اسم مضمركميم "كماهما"4. وهذا يدل على أن الكاف في "ذلك" اسم مضمر لا
حرف.
قيل: هذا كلام لا يدخل على المذهب في كونها حرفًا, وقد قامت الدلالة
على ذلك من عدة أوجه.
ولكن بقي علينا الآن أن نرى وجه5 علة جواز كون الألف في "ذلك" تأسيسًا
مع أن الكاف ليست باسم مضمر.
وعلة ذلك أنها وإن تجرَّدت في هذا الموضع من معنى الاسمية, فإنها في
أكثر أحوالها اسم, نحو: رأيتك وكلمتك ونظرت إليك, واشتريت لك ثوبًا,
وعجبت منك, ونحو ذلك. فلما جاءت ههنا على لفظ تلك التي هي اسم -وهو أقل
الموضعين- حملت على الحكم في أكثر الأحوال، لا سيما6 وهي هنا وإن جردت
من معنى الاسمية, فإن ما كان فيها من معنى الخطاب باقٍ عليها وغير
مختزل7 عنها. وإذا جاز حمل همزة علباء على همزة حمراء للزيادة, وإن
عريت من التأنيث
__________
1 ما بين الحاصرتين زيادة يقتضيها السياق خلت منها الأصول.
2 في ش، ب: "كيا في قوله".
3 كأنه يريد قول مالك بن الريب:
أقول لأصحابي ارفعوني فإنه ... يقر بعيني أن سهيل بداليا
وانظر الخزانة في شواهد المنادى.
4 يريد قوله عوف بن عطية الخرع.
وإن شئتم ألحقتم وتتجتم ... وإن شلتم عينًا بعين كاهما
وانظر في الخزانة 3/ 358.
5 سقط في ش، ب.
6 في ش: "ولا سيما".
7 في ش، ب: "متحرك".
(2/189)
الذي دعا إلى قلبها في صحراوات1، وصحراويّ,
كأن حمل كاف "ذلك" على كاف رأيتك جائزًا أيضًا, وإن لم يكن أقوى لم يكن
أضعف.
وقد2 اتَّصل بما نحن عليه موضع طريف. ونذكره لاستمرار مثله.
وذلك أن أصغر الناس قدرًا قد يخاطب أكبر الملوك محلًّا بالكاف من غير
احتشام منه ولا إنكار عليه. وذلك نحو قول التابع الصغير للسيد الخطير:
قد خاطبت ذلك الرجل, واشتريت تينك الفرسين, ونظرت إلى ذينك الغلامين,
فيخاطب3 الصاحب الأكبر بالكاف, وليس الكلام شعرًا, فتحتمل4 له جرأة
الخطاب فيه كقوله5: لقينا بك الأسد, وسألنا منك البحر, وأنت السيد
القادر, ونحو ذلك.
وعلة جواز ذلك عندي أنه إنما لم تخاطب الملوك بأسمائها إعظامًا لها؛ إذ
كان الاسم دليل المعنى وجاريًا في أكثر الاستعمال مجراه, حتى دعا ذاك
قومًا إلى أن زعموا6 أنّ الاسم هو المسمَّى. فلمَّا أرادوا7 إعظام
الملوك وإكبارهم تجافوا وتجانفوا عن ابتذال أسمائهم التي هي شواهدهم,
وأدلة عليهم إلى الكناية بلفظ الغيبة, فقالوا: إن رأي الملك أدام الله
علوّه, ونسأله حرس الله ملكه، ونحو ذلك، وتحاموا "إن رأيت"، و"نحن
نسألك"، لما ذكرنا. فهذا هذا. فلمّا خلعت عن هذه الكاف دلالة الاسمية,
وجردت8 للخطاب البتة, جاز استعمالها؛ لأنها ليست
__________
1 في ش: "صحراوان" وسقط في ش، ب، وحمل همزة علباء على همزة حمراء في
قلبها واوًا عند النسب والتثنية.
2 سقط في ش، ب.
3 في ش، ب: "فتخاطب".
4 في ش: "فتحمل" وفي ب. "فيحمل".
5 في ش، ب: "كقولنا".
6 في اللسان "سما": "وسئل أبو العباس عن الاسم أهو المسمَّى أو غير
المسمى؟ فقال: قال أبو عبيدة: الاسم هو المسمَّى، وقال سيبويه: الاسم
غير المسمى" وبه مسألة كلامية جرى فيها بحث واختلاف بين المتكلمين.
وانظر الإنصاف المنسوب للباقلاني 53، وتفسير البيضاوي في سورة الفاتحة.
7 في ش، ب: "أراد الناس".
8 في ش، ب: "تجردت".
(2/190)
باسم, فيكون في اللفظ به ابتذال له. فلمّا
خلصت هذه الكاف خطابًا البتة, وعريت من معنى الاسمية استعملت في خطاب
الملوك لذلك.
فإن قيل: فهلّا جاز على هذا أن يقال للملك ومن يلحق به في غير الشعر
"أنت"؛ لأن التاء هنا أيضًا للخطاب, مخلوعة عنها دلالة الاسمية؟ قيل:
التاء في "أنت" وإن كانت حرف خطاب لا اسمًا, فإن معها نفسها الاسم, وهو
"أن" من "أنت", فالاسم على كل حال حاضر, وإن لم تكن الكاف, وليس كذا1
قولنا: "ذلك"؛ لأنه ليس للمخاطب بالكاف هنا اسم غير الكاف, كما كان له
مع التاء في "أنت" اسم للمخاطب نفسه، وهو "أن" فاعرف ذلك فرقًا بين
الموضعين.
ونحو من ذلك ما رآه2 أبو الحسن في أن الهاء والياء في "إياه" و"إياي"
حرفان؛ أحدهما للغيبة وهو الهاء, والآخر للحضور وهو الياء. وذلك أنه
كان يرى أن الكاف في "إياك" حرف للخطاب, فإذا أدخلت عليه الهاء والياء
في "إياه" و"إياي" قال: هما أيضًا حرفان للغيبة والحضور, مخلوعة3 عنهما
دلالة الاسمية في رأيته، وغلامي وصاحبي. وهذا مذهب هول4. وهو5 -وإن كان
كذلك- جارٍ على القوة، ومقتاس بالصحة.
واعلم أن نظير الكاف في رأيتك إذا خلعت عنها دلالة الاسمية, واستقرّت
للخطاب -على ما أرينا- التاء في قمت وقعدت ونحو ذلك, هي هنا تفيد
الاسمية والخطاب, ثم تخلع عنها دلالة الاسمية, وتخلص للخطاب البتة في
أنت وأنت. فالاسم "أن" وحده، والتاء "من بعد"6 للخطاب.
__________
1 في ش، ب، "كذلك".
2 في ش: "رواه". وفي شرح الرضي للكافية 2/ 12 أن الأخفش -وهو أبو
الحسن- يرى أن الهاء والياء في إياه وإياي اسمان أضيف إليهما إياه.
وهذا الرأي يعزى إلى الخليل.
3 في ش: "مخلوع".
4 يريد بالهول الشديد غير المتوقع، الغريب. وهو من الوصف بالمصدر، وفي
ش: "مقول".
5 سقط حرف العطف في أ.
6 في ش، ب: "بعده".
(2/191)
وللتاء موضع آخر تخلص فيه للاسمية البتة,
وليس "ذلك للكاف"1. وذلك الموضع قولهم: أرأيتك زيدًا ما صنع. فالتاء
اسم مجرَّد من الخطاب, والكاف حرف للخطاب مجرد من الاسمية. هذا هو
المذهب. ولذلك لزمت التاء الإفراد والفتح في الأحوال كلها, نحو قولك
للمرأة: أرأيتك زيدًا ما شأنه, وللاثنين "وللاثنتين"2 أرأيتكما زيدًا
أين جلس؟ ولجماعة المذكر والمؤنث: أرأيتكم زيدًا ما خبره؟ وأرأيتكن
عمرًا ما حديثه؟ فالتغيير للخطاب لاحق للكاف والتاء -"لأنه" لا خطاب
فيها- على صورة واحدة؛ لأنها مخلصة اسمًا.
فإن قيل: هذا ينقض عليك أصلًا مقررًا3. وذلك أنك إنما4 تعتلّ لبناء
الأسماء المضمرة بأن تقول: إن شبه الحرف "غلب عليها ومعنى الاسم بعد
عنها"5 وذلك نحو قولك: "ذلك"6 وأولئك, فتجد الكاف مخلصة للخطاب, عارية
من معنى الاسم. وكذلك التاء في أنتَ وأنتِ عارية من معنى الاسم, مجردة
لمعنى الحرف. وأنت مع هذا تقول: إن التاء في أرأيتك زيدًا "أين هو7،
ونحو ذلك, قد أخلصتها اسمًا, وخلعت عنها دلالة الخطاب. فإذا كانت قد
تخلص في موضع اسمًا، كما خلصت في آخر حرفًا تعادل أمرها8، ولم يكن لك
عذر في الاحتجاج بإحدى حاليها.
__________
1 في ش، ب: "كذلك الكاف".
2 سقط في ش، ب.
3 في ش، ب: "مطردًا".
4 سقط في ش، ب.
5 في أ، م: "أغلب عليها من معنى الاسم فتأخّر عنها".
6 سقط في أ.
7 من: "أين هو ونحو ذلك" إلى: "والتاء في أرأيتك زيدًا" سقط في أ.
8 كذا في ش، وفي ب، ش: "أمرها".
(2/192)
"قيل: إن"1 الكاف في "ذلك" جُرّدت من معنى
الاسمية, ولم تقرن باسم المخاطب بها. والتاء في أرأيتك زيدًا ما صنع,
لم تجرّد من معنى الحرفية إلّا مقترنة بما كان مرة اسمًا, ثم جرد من
معنى الاسمية, وأخلص للخطاب والحرفية وهو الكاف في "أرأيتك زيدًا ما
صنع" ونحوه. فأنت2 وإن خلعت عن تاء "أرأيتك زيدًا ما خبره" معنى
الحرفية, فقد قرنت بها ما جردته من معنى الاسمية, وهو الكاف بعدها,
فاعتدل الأمران باقتران الاسم3 البتة بالحرف البتة. وليس كذلك "ذلك"؛
لأنك إنما معك4 الكاف المجرَّدة لمعنى الخطاب, لا اسم معها للمخاطب
بالكاف, فاعرف ذلك. وكذلك أيضًا في "أنت" قد جرّدت الاسم وهو "أن" من
معنى الحرفية, وأخلصت التاء البتة بعده للخطاب, كما أخلصت الكاف بعد
التاء في "أرأيتك عمرًا ما شأنه" حرفًا للخطاب.
فإن قلت: ف"أن" من "أنت" لم تُستعمل قط حرفًا, ولا خلعت دلالة الاسمية
عنها, فهذا يقوي حكم الأسماء المضمرة, كما أضعفها ما قدمت أنت من حالها
في تجردها من معنى الأسمية5 وما غلب عليها من حكم الحرفية.
قيل: لسنا ندَّعي أن كل اسم مضمر لا بُدَّ من6 أن يخلع عنه حكم
الاسمية, ويخلص للخطاب والحرفية, فيلزمنا ما رمت إلزامنا إياه, وإنما
قلنا: إن معنى الحرفية قد أخلص له بعضها, فضعف لذلك حكم جميعها, وذلك
أن الخلع العارض فيها إنما لحق متصلها دون منفصلها -وذلك لضعف المتصل-
فاجترئ عليه لضعفه، فخلع معنى الاسمية منه. وأما المنفصل فجارٍ
بانفصاله مجرى الأسماء الظاهرة القوية المعربة. وهذا واضح.
__________
1 في ش: "فإن".
2 كذا في أ، وفي سواها: "وأنت".
3 كذا في أ، م، ش. وفي ب، ش: "الاسمية".
4 في ش: "جعلت".
5 يوجد فيما عد أ، ش بعد "الاسمية" ما يأتي: "ويقوى في غير ذهاب معنى
الاسمية".
6 سقط في ش.
(2/193)
فإن قلت: في1 الأسماء الظاهرة كثيرة من
المبنية, نحو: هذا وهذي "وتاك"2 وذلك والذي والتي وما ومن وكم وإذ ونحو
ذلك, فهلّا لمّا وجد البناء في كثير من المظهرة3 سرى في جميعها, كما
أنه لما غلب شبه الحرف في بعض المضمرة أجرى عليها جميعها على ما قدمته؟
قيل: إن الأسماء المظهرة من حيث كانت هي الأُوَل القدائم القوية, احتمل
ذلك فيها لسبقها وقوتها, والأسماء المضمرة ثوانٍ لها وأخلاف منها,
"ومعوضة"4 عنها، فلم تقو قوة ما هي تابعة له، ومعتاضة5 منه، فأعلها ما
لا يعله، ووصل إليها ما يقصر دونه.
وأيضًا, فإن المضمر المتصل وإن كان أضعف من الضمير المنفصل, فإنه أكثر
وأسير6 في الاستعمال منه, ألا تراك تقول: إذا قدرت على المتَّصل لم تأت
بالمنفصل. فهذا يدلك على أن المتَّصل أخف عليهم وآثر في أنفسهم7. فلما
كان كذلك وهو مع ذلك أضعف من المنفصل, وسرى فيه لضعفه حكم, لزم
المنفصل, أعني: البناء؛ لأنه مضمر مثله, ولا حق في سعة الاستعمال به.
فإن قيل: وما الذي رغَّبهم في المتصل حتى شاع استعماله, وصار متى قدر
عليه لم يؤت بالمنفصل مكانه؟
__________
1 في ش، ب: "ففي".
2 سقط في غير ش.
3 في ش، ب: "المظهر".
4 في أ: "ومغرومة". وفي ب: "مفرومة" وفي م: "مقرومة" أي: مقطوعة منها،
والقرم: القشر والقطع.
5 في ش: "معوضة".
6 كذا في أ. وفي ش، ب، م: "أيسر" وفي ش: "أسبق".
7 كذا في أ، م. وفي سواهما، "نفوسهم".
(2/194)
قيل: علة ذلك أن الأسماء المضمرة إنما رغب
فيها وفزع إليها طلبًا للخفة بها بعد زوال الشك بمكانها, وذلك أنك لو
قلت: زيد ضرب زيدًا, فجئت بعائده1 مظهرًا مثله, لكان في ذلك إلباس
واستثقال.
أما الإلباس فلأنك إذا قلت: "زيد ضربت زيدًا, لم تأمن أن يظن أن زيدًا
الثاني غير الأول, وأن عائد الأول متوقع مترقب. فإذا قلت: "زيد ضربته"
عُلِمَ بالمضمر أن الضرب إنما وقع بزيد المذكور لا محالة, وزال تعلق
القلب2 لأجله وسببه3. وإنما كان كذلك لأنّ المظهر يرتجل, فلو قلت: زيد
ضربت زيدًا لجاز أن يتوقّع4 تمام الكلام, وأن4 يظنَّ أن الثاني غير
الأول, كما تقول: زيد ضربت عمرًا, فيتوقع أن تقول: في داره أو معه أو
لأجله. فإذا قلت: زيد ضربته, قطعت بالضمير سبب الإشكال من حيث كان
المظهر يرتجل, والمضمر تابع غير مرتجل في أكثر اللغة.
فهذا وجه كراهية الإشكال.
وأما وجه الاستخفاف: فلأنك إذا قلت: العبيثران5 شممته, فجعلت موضع
التسعة6 واحدًا, كان أمثل من أن تعيد التسعة كلها فتقول: العبيثران
شممت العبيثران. نعم, وينضاف إلى الطول قبح التكرار المملول. وكذلك ما
تحته من العدد الثماني والسباعي فما تحتهما, هو على كل حال أكثر من
الواحد.
فلمَّا كان الأمر الباعث عليه والسبب المقتاد إليه إنما هو طلب الخفة
به, كان المتصل منه آثر في نفوسهم وأقرب رحمًا عندهم, حتى إنهم متى
قدروا عليه لم يأتوا بالمنفصل مكانه.
__________
1 في أ: "بعائدة".
2 في أ، م: "الفكر".
3 في ش، ب: "لسببه".
4 في ش، ب: "نتوقع.... تظن".
5 هو نبت طيب الريح، من نبات البادية. وتفتح التاء فيه وتضم.
6 أي: من الأحرف. وهي أحرف "العبيثران".
(2/195)
فلذلك لما غلب شبه الحرفية على المتصل بما
ذكرناه: من خلع دلالة1 الاسمية عنه في ذلك وأولئك وأنتَ وأنتِ, وقاما
أخواك, وقاموا إخوتك:
ويعصرن السليط أقاربه2 ... وقلن الجواري ما ذهبت مذهبا3
حملوا المنفصل عليه في البناء؛ إذ كان ضميرًا مثله, وقد يستعمل في بعض
الأماكن في موضعه, نحو قوله:
إليك حتى بلغت إياكا4
أي: بلغتك, وقول أبي بجيلة "وهو بيت الكتاب "5:
كأنَّا يوم قرى إذّ ... ما نقتل إيانا6
__________
1 في ش، ب، أ: "الأدلة".
2 من بيت الفرزدق, وهاكه بتمامه:
ولكن ديافيّ أبوه وأمّه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه
وقبله في هجو عمرو بن عفراء الضبي:
فلو كنت ضبيًّا صفحت ولو مرت ... على قدمي حياته وعقاريه
ديافي منسوب إلى دياف, وهي من قرى الشأم يسكنها النبط. يذكر أنه نبطي
غير خالص العربية. وحوران: كورة واسعة من أعمال دمشق ذات قرى كثيرة,
والسليط: الزيت. وانظر الخزانة 2/ 386.
3 هذا من رجز أنشده الفراء في "معاني القرآن" 1/ 4 عن أبي ثروان،
وبعده:
وعبتني ولم أكن معيبًا
وفيه "قال الجواري" وكذا في اللسان "عيب".
4 قبله: أئتك عنس تقطع الأراكا
وهو لحميد الأرقط، وانظر الكتاب 1/ 383، والخزانة 2/ 456.
5 سقط ما بين القوسين في أ.
6 ورد في سيبويه 1/ 383 معزوًا إلى بعض اللصوص, وورد أيضًا في ص 271،
وقال الأعلم: "وصف أن قومه أوقعوا ببني عمه فكأنهم قتلوا أنفسهم ...
وقرّى: اسم موضع، نسب ابن الشجري في أماليه 1/ 39 إلى ذي الإصبع
العدواني. ومصدر هذا تهذيب الألفاظ 210. وانظر الخزانة 2/ 406.
(2/196)
وبيت أمية:
بالوارث الباعث الأموات قد ضمنت ... إياهم الأرض في دهر الدهارير1
وكذلك قد يستعمل المتصل موضع المنفصل؛ نحو قوله:
فما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... ألّا يجاورنا إلّاك ديار1
فإن قلت: زعمت أن المتصل آثر في نفوسهم من المنفصل, وقد ترى إلى أكثر
استعمال المنفصل موضع المتصل, وقلة استعمال المتصل موضع المنفصل, فهلّا
دلَّك ذلك على خلاف مذهبك؟
قيل: لمَّا كانوا متى قدروا على المتَّصل لم يأتوا مكانه بالمنفصل, غلب
حكم المتصل, فلمَّا كان كذلك عوَّضوا منه أن جاءوا في بعض المواضع
بالمنفصل في موضع المتصل, كما قلبوا الياء إلى الواو في نحو2: الشروي
والفتوي؛ لكثرة دخول الياء على الواو في اللغة.
ومن ذلك قولنا: ألا قد كان كذا, وقول الله سبحانه: {أَلا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} 3 ف"ألا" هذه فيها هنا شيئان: التنبيه وافتتاح
الكلام, فإذا جاءت4 معها "يا" خلصت افتتاحًا "لا غير"5, وصار التنبيه
الذي كان فيها ل"يا" دونها. وذلك نحو6 قول الله -عز اسمه: "أَلَا
يَسْجُدُوا لِلَّهِ"7 وقول الشاعر:
ألا يا سنا برق على قُلَل الحمى ... لهنَّك من برق علي كريم8
__________
1 انظر ص308 من الجزء الأول.
2 سقط في ش، ب.
3 آية: 5 سورة هود.
4 في ش، ب: "جاء".
5 في أ: "لا غيره".
6 سقط في أ.
7 آية: 25، سورة النمل. والاستشهاد بالآية على تخفيف ألا, وهي قراءة
الكسائي وأبي جعفر وابن عباس وآخرين. وقراة العامة: {أَلَّا يَسْجُدُوا
لِلَّهِ} ، بتشديد "ألّا".
8 انظر ص316 من الجزء الأول.
(2/197)
ومن ذلك واو العطف؛ فيها معنيان: العطف
ومعنى الجمع. فإذا وضعت موضع "مع" خلصت للاجتماع, وخلعت عنها دلالة
العطف, نحو قولهم: استوى الماء والخشبة, وجاء البرد والطيالسة.
ومن ذلك فاء العطف فيها معنيان: العطف والإتباع. فإذا استعملت في جواب
الشرط خلعت عنها دلالة العطف وخلصت للإتباع, وذلك قولك: إن تقم فأنا
أقوم, ونحو ذلك.
ومن ذلك همزة الخطاب في "هاء يا رجل"، و"هاء يا امرأة" كقولك: "هاكَ"
و"هاكِ", فإذا ألحقتها الكاف جردتها من الخطاب؛ لأنه يصير بعدها في
الكاف, وتفتح هي أبدًا. وهو قولك: هاءكَ وهاءَكِ وهاءكما وهاءكم.
ومن ذلك "يا" في النداء؛ تكون تنبيهًا ونداء في نحو: يا زيد, ويا عبد
الله. وقد تجردها من النداء للتنبيه البتة, نحو قول الله تعالى:
{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} "كأنه قال: ألا ها اسجدوا"1.
وكذلك قول العجاج:
يا دار سلمة يا اسلمي ثم اسلمي2
إنما هو كقولك: ها اسلمي. وهو كقولهم: "هَلُمَّ" في التنبيه على الأمر.
وأما3 قول أبي العباس: إنه أراد: ألا يا هؤلاء اسجدوا, فمردود4 عندنا.
وقد كرر4 ذلك أبو علي في غير موضع فغنينا عن إعادته5.
__________
1 سقط ما بين القوسين في أ.
2 هذا مطلع أرجوزة له في الديوان 58. وقوله: "يا دار سلمى" كذا في ش.
وفي أ، ب، ش: "يا دارميّ".
3 في أ، ب، ش: "مردود". ووجه رده أن في حذف المنادى مع حذف الفعل الذي
ناب عنه حرف النداء وحذف فاعله إحجافًا. وقد بسط الكلام على هذا أبو
حيان في البحر 7/ 69.
4 في ش: "ذكر".
5 إلى هنا تنتهي نسخة ب.
(2/198)
باب في تعليق
الأعلام على المعاني دون الأعيان:
هذا باب من العربية غريب الحديث, أراناه أبو علي -رحمه الله تعالى, وقد
كنت شرحت حاله في صدر1 تفسيري أسماء شعراء الحماسة بما فيه مقنع, إلّا
أنا أردنا ألّا نخلّي كتابنا هذا منه؛ لإغرابه وحسن التنبيه عليه.
اعلم أن الأعلام أكثر وقوعها في كلامهم إنما هو على الأعيان دون
المعاني. الأعيان هي الأشخاص نحو: زيد وجعفر وأبي محمد "وأبي القاسم"2،
وعبد الله, وذي النون وذي يزن, وأعوج "وسبل"2، والوجيه ولاحق وعلوي3،
وعتوة3، والجديل، "وشدقم"3 وعُمَان، ونجران4، والحجاز والعراق والنجم
والدبران, والثريا، وبرقع5، والجرباء5. ومنه محوة للشمال؛ لأنها على كل
حال جسم وإن لم تكن مرئية.
وكما جاءت الأعلام في الأعيان, فكذلك أيضًا قد جاءت في المعاني نحو
قوله 6:
أقول لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
فسبحان "اسم"7 علم لمعنى8 البراءة والتنزيه, بمنزلة عثمان وحمران.
__________
1 سقط في أ. وتفسير أسماء شعراء الحماسة. طبع في دمشق باسم "المنهج",
وانظر ص64، من مقدمة هذا الكتاب. وهذا البحث في المبهج ص11.
2 سقط في أ.
3 هو اسم فرس.
4 في ش: "نجد".
5 من أسماء السماء.
6 أي: الأعشى. وانظر الصبح المنير 104 وما بعدها. وهو يعني علقمة بن
علانة يهجوه, وينتصر لعامر بن الطفيل، وقوله: "فخره" و"الفاخر" في
الديوان: "فجره" و"الفاجر".
7 سقط في أ، م.
8 ش: "بمعنى".
(2/199)
ومنه1 قوله:
وإن قال غاو من تنوخ قصيدة ... بها جربٌ عدت عليّ بزوبرا
سألت أبا علي عن ترك صرف "زوبر" فقال: علّقه علمًا على القصيدة, فاجتمع
فيه التعريف والتأنيث, كما اجتمع في سبحان التعريف والألف والنون.
ومنه -فيما ذكره أبو علي- ما حكاه أبو زيد من قولهم: كان ذلك الفينة,
وفينة, وندرى, والندرى. فهذا مما اعتقب عليه تعريفان: العلمية والألف
واللام, وهو كقولك: شعوب, والشعوب للمنية. " وعروبة, والعروبة"2. كما
أنَّ الأول كقولك: في الفرط والحين. " ومثله غدوة, جعلوها علمًا
للوقت"3. وكذلك أعلام الزمان نحو: صفر ورجب وبقية الشهور, "وأول وأهون
وجبار, وبقية تلك الأسماء"3.
ومنه أسماء الأعداد كقولك: ثلاثة نصف ستة, وثمانية ضعف أربعة, إذا أردت
قدر العدد لا نفس المعدود, فصار هذا اللفظ علمًا لهذا المعنى.
ومنه4 ما أنشده صاحب الكتاب من قوله 5:
أنا اقتسمنا خُطَّتينا بيننا ... فحملت برّة واحتملت فجار
__________
1 أي: ابن أحمر، كما في اللسان "زبر". وفي شرح المفصّل لابن يعيش 1/ 38
نسبته للطرماح. وانظر الخزانة 4/ 379, ففيها بيتان قريبان من هذا في
قصيدة للفرزدق. وانظر المخصص 15/ 183, وقوله: "عدت علي بزوبرا" أي:
بأجمعها وكليتها.
2 ما بين القوسين سقط في ش, وعروبة والعروبة يوم الجمعة. وانظر ص 38 من
الجزء الأول.
3 ما بين القوسين سقط في أ.
4 في ش "مثله".
5 أي: النابغة، يهجو زرعة بن عمرو الكلابي، وكان لقي النابغة بسوق
عكاظ، وحبب إليه الغدر ببني أسد، فأبى عليه النابغة. وقيل البيت:
أعلمت يوم عكاظ حين لقيتني ... تحت الغبار فما خططت غباري
فقوله: "أنا اقتسمنا ... " مفعول قوله: "أعلمت". وانظر الخزنة 3/ 68.
(2/200)
فبرّة اسم علم لمعنى البرِّ, فلذلك لم يصرف
للتعريف والتأنيث. وعن مثله عُدِل فجار, أي: عن فجرة. وهي علم غير
مصروف, كما أن برّة كذلك. وقول1 سيبويه: إنها معدولة عن الفجرة تفسير
على2 طريق المعنى لا على3 طريق اللفظ. وذلك أنه أراد أن يعرف أنه معدول
عن فجرة علمًا, ولم تستعمل تلك علمًا, فيريك ذلك, فعدل عن لفظ العلمية
المراد إلى لفظ التعريف فيها المعتاد. وكذلك لو عدلت عن برّة هذه لقلت:
برار, كما قال: فجار. وشاهد ذلك أنهم عدلوا حذام وقطام عن حاذمة
وقاطمة, وهما عَلَمان, فكذلك يجب أن تكون فَجَارِ معدولة عن فَفْرَة
علمًا أيضًا.
ومن الأعلام المعلَّقة على المعاني ما استعمله النحويون في عباراتهم من
المثل المقابل بها الممثّلات, نحو قولهم: "أفعل" إذا أرادت به الوصف,
وله "فعلاء" لم تصرف. فلا4 تصرف أنت "أفعل" هذه من حيث صارت علمًا لهذا
المثال نحو: أحمر وأصفر وأسود وأبيض. فتجري5 "أفعل" هذا مجرى أحمد
وأصرم علمين. وتقول: "فاعلة" لا تنصرف معرفة, وتنصرف نكرة. فلا تصرف
"فاعلة"؛ لأنها علم لهذا الوزن, فجرت مجرى فاطمة وعاتكة. وتقول:
"فعلان" إذا كانت له فَعْلَى, فإنه لا ينصرف معرفة ولا نكرة. فلا تصرف
فعلان هذا؛ لأنه عَلَم لهذا الوزن بمنزلة حَمْدان وقحطان. وتقول: وزن
طلحة "فَعْلة" ومثال عَبَيْثُرَان "فَعَيْلُلان" ومثال إسحارّ6
"إفعالّ" ووزن إستبرق "إستفعل", ووزن طريفة "فعيلة". وكذلك جميع ما جاء
من هذا الطرز. وتقول: وزن إبراهيم "فعلاليل" فتصرف هذا المثال؛ لأنه لا
مانع له من الصرف،
__________
1 انظر الكتاب 2/ 39.
2 سقط في ش.
3 في ش: "هذا".
4 في أ: "فلم".
5 في أ: "فجرى".
6 هو يقل: يسمن عليه المال، أي: الإبل.
(2/201)
ألا ترى أنه ليس فيه أكثر من التعريف,
والسبب الواحد لا يمنع الصرف. ولا تصرف إبراهيم للتعريف والعجمة. وكذلك
وزن جبرئيل "فعلئيل" فلا تصرف جبرئيل, وتصرف مثاله. والهمزة فيه زائدة
لقولهم: جبريل. وتقول: مثال جعفر "فعلل" فتصرفهما جميعًا؛ لأنه ليس في
كل واحد منهما أكثر من التعريف.
وقد1 يجوز إذا قيل لك ما مثال "أَفْكَلٍ" أن تقول: مثاله: "أفعلٍ",
فتصرفه حكاية لصرف أفكلٍ كما جررته حكاية لجره؛ ألا تراك إذا قيل لك:
ما مثال ضرب قلت: فُعِل فتحكى في المثال بناء ضرب, فتبنيه كما بنيت
مثال المبنيّ, كذلك حكيت إعراب أفكلٍ وتنوينه, فقلت في جواب ما مثال
أفكلٍ: مثاله أفعلٍ فجررت كما صرفت. فاعرف ذلك.
ومن ذلك قولهم: قد صرّحت2 بِجدّانَ وجلدانَ. فهذا3 علم لمعنى الجِدّ.
ومنه قولهم: أتى على ذي بليان. فهذا علم للبعد4؛ قال:
تنام ويذهب الأقوامُ حتى ... يقالَ أتوا على ذي بِلِّيان5
فإن قلت: ولم قلت الأعلام في المعاني، وكثرت في الأعيان، نحو: زيد
وجعفر، وجميع ما علق عليه علم وهو شخص؟ قيل: لأن الأعيان أظهر للحاسَّة
وأبدى إلى المشاهدة، فكانت6 أشبه بالعلمية مما لا يرى ولا يشاهد
حسًّا7، وإنما يعلم تأمّلًا واستدلالًا، وليست كمعلوم8 الضرورة
للمشاهدة.
__________
1 سقط في أ.
2 هذا مثل يضرب للأمر إذا بان وصرح ووضح بعد التباسه.
3 كذا في ش. وفي غيرها: "وهو".
4 في أ: "للحبور".
5 هذا لا يعرف قائله, وفي اللسان أن الكسائي كان ينشده في رجل يطيل
النوم. يعني أنه أطال النوم, ومضى أصحابه في سفرهم حتى صاروا إلى موضع
لا يعرفه. وقوله: "يذهب الأقوام، في هامش "سفر السعادة" عند هذا البيت:
"الرواية: يدلج الأقوام", وهذا من نسخة صاحب الخزانة المحفوظة بدار
الكتب.
6 في أ: "وكانت".
7 في أ: "حيا".
8 في أ: "كتعلق".
(2/202)
باب في الشيء يرد مع نظيره مورده 1 مع
نقيضه:
وذلك أضرب:
منها اجتماع المذكر والمؤنث في الصفة المؤنثة؛ نحو: رجل علَّامة,
وامرأة علَّامة, ورجل نسَّابة, وامرأة نسابة, ورجل همزة لمزة, وامرأة
همزة لُمَزة, ورجل صرورة وفروقة, وامرأة صرورة وفروقة, ورجل هلباجة
فقاقة2، وامرأة كذلك. وهو كثير.
وذلك أن الهاء في نحو ذلك لم تلحق لتأنيث الموصوف بما هي فيه, وإنما
لحقت لإعلام المسامع أن هذا الموصوف بما هي فيه قد بلغ الغاية
والنهاية, فجعل تأنيث الصفة أمارة3 لما أريد من تأنيث الغاية
والمبالغة, وسواء كان ذلك الموصوف بتلك الصفة مذكرًا أم4 مؤنثًا. يدل
على ذلك أن الهاء لو كانت في نحو: امرأة فروقة, إنما لحقت؛ لأن المرأة
مؤنثة لوجب أن تحذف في المذكر فيقال: رجل فروق, كما أن التاء في "نحو
امرأة"5 قائمة، وظريفة, لما لحقت لتأنيث الموصوف حذفت مع تذكيره في
نحو:6 رجل ظريف وقائم وكريم. وهذا واضح.
ونحو من تأنيث هذه الصفة7 لا يعلم أنها بلغت المعنى الذي هو مؤنث أيضًا
تصحيحهم العين في نحو: حول وصيد واعتونوا واجتوروا, إيذانًا بأن ذلك في
معنى ما لا بُدَّ من تصحيحه. وهو احولَّ واصيدَّ وتعاونوا، وتجاوروا،
__________
1 كذا في أ. وفي غيرها: "وروده". وهذا الباب في "الأشباه والنظائر" 1/
230.
2 سقط في أ. والهلياجة والفقافة كلاهما الأحمق، الذكروالأنثى في ذلك
سواء.
3 في أ: "أمثلة".
4 في ش: "أو".
5 زيادة في ش.
6 سقط في غيرش، أ.
7 كذا في أ. وفي غيرها: "الصيغة".
(2/203)
وكما كررت الألفاظ لتكرير المعاني نحو:
الزلزلة والصلصلة والصرصرة. وهذا1 باب واسع.
ومنها اجتماع المذكر والمؤنث في الصفة المذكرة, وذلك نحو: رجل خصم,
وامرأة خصم, ورجل عدل وامرأة عدل, ورجل ضيف وامرأة ضيف, ورجل رضا
وامرأة رضًا. وكذلك ما فوق الواحد نحو: رجلين2 رضا وعدل, وقوم رضا
وعدل, قال زهير3:
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم ... هم بيننا فهم رضًا وهم عدلُ4
وسبب اجتماعهما هنا في هذه الصفة أن التذكير إنما أتاها من قبل
المصدرية5، فإذا قيل: رجل عدل فكأنه وصف بجميع الجنس مبالغة كما تقول:
استولى على الفضل, وحاز جميع الرياسة والنبل, ولم يترك لأحد نصيبًا في
الكرم والجود, ونحو ذلك. فوصف بالجنس أجمع6، تمكينًا "لهذا الموضع"7
وتوكيدًا.
وقد ظهر منهم ما يؤيد هذا المعنى ويشهد به. وذلك نحو قوله: أنشدناه أبو
علي:
ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل ... وضنَّت علينا والضنين من البخل8
__________
1 كذا في أ. وفي غيرها: "هو".
2 كذا في أ. وفي ش: "رجلان".
3 ثبت في ش، وسقط في غيرها.
4 من قصيدته التي مطلعها:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو ... وأقفر من سلمى التعانيق والثقل
قالها في هرم بن سنان, والحارث بن عوف المزبين. انظر الديوان "طبعة دار
الكتب" 107.
5 في ش: "الصيغة".
6 في ش: "الجميع"، وسقط في غيرها.
7 سقط في أ.
8 نسبه في اللسان "ضئن" إلى البعيث, وقد أورد ابن قتيبة في الشعراء
البعيث أربعة أبيات على هذا الروي، وليس منها البيت، وورد غير معزو في
أمالي ابن الشجري 1/ 72.
(2/204)
فهذا كقولك: هو مجبول من الكرم, ومطين من
الخير, وهي مخلوقة1 من البخل. وهذا أوفق معنى من أن تحمله2 على القلب
وأنه يريد به 3: والبخل من الضنين؛ لأن فيه من الإعظام والمبالغة ما
ليس في القلب.
ومنه ما أنشدناه أيضًا من قوله:
وهنّ من الإخلاف قبلك والمطل4
و"قوله"5:
وهن من الإخلاف والولعان6
وأقوى التأويلين في قولها 7:
فإنما هي إقبالٌ وإدبار
أن يكون8 من هذا، أي: كأنها مخلوقة9 من الإقبال والإدبار لا على أن
يكون من باب حذف المضاف, أي: ذات إقبال وذات إدبار. ويكفيك من هذا كله
قول الله -عز وجل: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 10 وذلك لكثرة
فعله إياه واعتياده له, وهذا أقوى معنى من أن يكون أراد: خلق العجل من
الإنسان؛ لأنه أمر قد
__________
1 في أ: "مملوءة".
2 كذا في أ، ش، وفي غيرهما: "يحمله".
3 سقط في ش.
4 نسبه في اللسان "ولع" إلى البعيث، وكأنه من القصيدة التي فيها البيت
السابق.
5 سقط في غير ش، أ.
6 صدره كما في اللسان "ولع":
لخلابة العينين كذابة المنى
والولعان: الكذب. وانظر إصلاح المنطق طبعة المعارف 298، وشواهد ابن
السيرافي.
7 أي: الخنساء في رثاء أخيها صخر، وصدره:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت
ونظر الخزانة 1/ 207.
8 في أ: "تكون".
9 كذا في أ. وفي غيرها: خلفت.
10 آية 37، سورة الأنبياء.
(2/205)
اطَّرد واتَّسع, فحمله على القلب يبعد في
الصنعة و"يصغِّر المعنى"1. وكأن هذا الموضع لما خفي على بعضهم قال في
تأويله: إن العَجَل هنا الطين. ولعمري إنه في اللغة كما ذكر غير أنه في
هذا الموضع لا يراد به إلّا نفس العجلة والسرعة, ألا تراه عزَّ اسمه
كيف قال عقبه: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} 2 فنظيره
قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} 3 {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ
ضَعِيفًا} 4؛ لأن العجلة ضرب من الضعف لما تؤذن5 به من الضرورة
والحاجة.
فلمَّا كان الغرض في قولهم: رجل عدل وامرأة عدل إنما هو إرادة المصدر
والجنس, جعل الإفراد والتذكير أمارة للمصدر6 المذكر.
فإن قلت: فإن نفس7 لفظ المصدر قد جاء مؤنثًا نحو: الزيادة والعبادة8،
والضئولة، والجهومة والمحمية والموجدة والطلاقة، والسياطة. وهو كثير
جدًّا. فإذا كان نفس المصدر قد جاء مؤنثًا فما هو في معناه ومحمول
بالتأويل عليه أحجى بتأنيثه.
قيل: الأصل لقوّته أحمل لهذا المعنى من الفرع لضعفه. وذلك أن الزيادة،
والعبادة8، والجهومة والطلاقة ونحو ذلك مصادر غير مشكوك فيها, فلحاق
التاء لها9 لا يخرجها عمَّا ثبت في النفس من مصدريتها. وليس كذلك
الصفة؛ لأنه ليست في الحقيقة مصدرًا, وإنما هي متأولة عليه ومردودة
بالصنعة إليه. فلو قيل: رجل عدل, وامرأة عدلة, وقد جرت صفة
__________
1 في الأشياء للسيوطي: "يصغر في المعنى".
2 آية: 37، سورة الأنبياء.
3 آية: 11، سورة الإسراء.
4 آية: 28، سورة
5 كذا في ش. وفي غيرها: "يؤذن".6 في أ: "المصدر".
7 كذا في أ، ش. وسقط في غيرهما.
8 في ش: "القيادة".
9 في ش: "بها".
10 في أ: "عدل" هو خطأ في النسخ.
(2/206)
كما ترى لم يؤمن أن يظن بها1 أنها صفة
حقيقية؛ كصَعْبة من صعب, وندبة من ندب, وفخمة من فخم, ورطبة من رطب.
فلم يكن فيها من قوة الدلالة على المصدرية ما في نفس المصدر نحو:
الجهومة والشهومة والطلاقة والخلاقة. فالأصول2 لقوّتها يتصرف فيها,
والفروع لضعفها يتوقف بها، ويقصر عن بعض ما تسوغه القوة لأصولها.
فإن قلت: فقد قالوا: رجل عدل, وامرأة عدلة, وفرس طوعة القياد, وقال
أمية -أنشدناه:
والحيّة الحتفة الرّقشاء أخرجها ... من بيتها آمِنَات الله والكلم2
قيل: هذا مِمَّا خرج على صورة الصفة؛ لأنهم لم يؤثروا أن يبعدوا كل
البعد عن أصل الوصف الذي بابه أن يقع الفرق فيه بين مذكره ومؤنثه, فجرى
هذا في حفظ3 الأصول والتلفت إليها، "للمباقاة لها"4، والتنبيه عليها,
مجرى إخراج بعض المعتل على أصله نحو: استحوذ وضننوا -وقد تقدَّم ذكره-
ومجرى إعمال صغته وعدته، وإن كان قد نقل إلى "فَعُلت" لما كان أصله
"فَعَلت". وعلى ذلك أنَّث بعضهم فقال: خصمة وضيفة؛ وجمع5، فقال 6:
يا عين هلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد
وعليه قول الآخر:
إذا نزل الأضياف كان عذورًا ... على الحي حتى تستقلّ مراجله7
__________
1 سقط في أ.
2 كذا في ش، أ. وفي غيرهما: "والأصول".
3 انظر ص155 من الجزء الأول.
4 في أ: "للمناواة بها".
5 كذا في أ، ش. وفي غيرهما: "جمعوا".
6 كذا في أ، ش. وفي غيرهما: "قال", والقائل هو لبيد. وانظر الأغاني 5/
123، والديوان 1/ 19، والسمط 298،والكامل 8/ 167.
7 انظر ص122من هذا الجزء.
(2/207)
الأضياف هنا بلفظ القلة ومعناها أيضًا,
وليس كقوله 1:
وأسيافنا يقطرن من نجدة دمًا
في أن المراد به2 معنى الكثرة, وذلك أمدح؛ لأنه إذا قرى الأضياف وهم
قليل بمراجل الحي أجمع, فما ظنك به3 لو نزل به الضيفان الكثيرون!
فإن قيل: فلم أنَّث المصدر أصلًا؟ وما الذي سوَّغ التأنيث فيه مع معنى
العموم والجنس وكلاهما إلى التذكير, حتى احتجت إلى الاعتذار له بقولك
4: إنه أصل, وإن الأصول تحمل ما لا تحمله الفروع.
قيل: علة جواز تأنيث المصدر مع ما ذكرته من وجوب تذكيره أن المصادر
أجناس للمعاني "كما غيرها"5 أجناس للأعيان, نحو: رجل وفرس وغلام ودار
وبستان. فكما6 أن أسماء أجناس الأعيان قد تأتي مؤنثة الألفاظ, ولا
حقيقة تأنيث في معناها نحو: غرفة، ومشرقة7، وعلية ومروحة، ومِقْرَمَة8؛
وكذلك جاءت أيضًا أجناس المعاني مؤنثًا بعضها لفظًا لا معنى, وذلك نحو:
المحمدة والموجدة والرشاقة، والجباسة9، والضئولة، والجهومة.
__________
1 أي: حسان بن ثابت -رضي الله عنه. وصدره:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
وانظر الخزانة 3/ 430، وسيبويه 2/ 181.
2 كذا في أ. وفي غيرها: "بها".
3 سقط في ش.
4 كذا في د، هـ، والأشباه. وفي أ: "وذلك".
5 في الأشباه: "كما أن غيرها".
6 كذا في أ. وفي د، هـ: "وكما".
7 المشرفة -مثلثة الراء: موضع القعود في الشمس بالشتاء.
8 في ستر دقيق.
9 كذا في د، هـ، ز. والجباسة كأنه يريد بها ثقل الروح، من الجبس الثقيل
الروح، والردئ، وإن لم يرد منه فعل ولا مصدر. وفي أ: "الحباسة".
(2/208)
نعم، وإذا جاز تأنيث المصدر وهو على
مصدريته غير موصوف به، لم يكن تأنيثه وجمعه, وقد ورد1 وصفًا2 على المحل
الذي من عادته أن يفرق فيه بين مذكره ومؤنثه, وواحده وجماعته قبيحًا
ولا مستكرهًا, أعني: ضيفة3 وخصمة، وأضيافًا وخصومًا, وإن كان التذكير
والإفراد أقوى في اللغة وأعلى في الصنعة, قال الله تعالى: {وَهَلْ
أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} 4.
وإنما كان التذكير والإفراد أقوى من قبل أنك لما وصفت بالمصدر أردت
المبالغة بذلك, فكان من تمام المعنى وكماله أن تؤكد ذلك بترك التأنيث
والجمع, كما يجب للمصدر في أول أحواله, ألا ترى أنك إذا أنثت وجمعت
سلكت به مذهب الصفة الحقيقة التي لا معنى للمبالغة5 فيها، نحو: قائمة
ومنطلقة وضاربات ومكرمات, فكان ذلك يكون نقضًا للغرض أو كالنقض له.
فلذلك قلَّ حتى وقع الاعتذار لما جاء منه مؤنثًا أو مجموعًا.
ومما جاء من المصادر مجموعًا ومعملًا أيضًا قوله 6:
مواعيد عرقوب أخاه بيثرب7
و"بيترب".
ومنه عندي قولهم: تركته بملاحس البقر أولادها. فالملاحس جمع ملحس, ولا
يخلو أن يكون مكانًا أو مصدرًا, فلا يجوز أن يكون هنا مكانًا، لأنه قد
عمل
__________
1 كذا في أ. وفي غيرها: "جرى".
2 كذا في أ. وفي غيرها "وحل".
3 في أ: "ضيفًا".
4 آية: 21، سورة ص.
5 في أ: "لمبالغة".
6 في أ: "قولهم".
7 هذا عجز بيت أوله:
وواعدتني مالًا أحاول نفعه
وهو من أبيات الشماخ أوردها في "فرحة الأديب" في المقطوعة 34. وقد روى
ابن السيرافي: "بيترب" بالتاء والراء المفتوحة، فردَّ عليه صاحب الفرحة
وذكر أن الرواية "بيثرب" اسم مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام.
(2/209)
في الأولاد فنصبها, والمكان لا يعمل في
المفعول به, كما أنَّ الزمان لا يعمل فيه. وإذا كان الأمر على ما ذكرنا
كان المضاف هنا محذوفًا مقدَّرًا, وكأنه قال: تركته بمكان ملاحس البقر
أولادها, كما أن قوله:
وما هي إلا في إزار وعلقة ... مغار ابن همام على حيِّ خَثْعَما1
محذوف المضاف, أي: وقت إغارة ابن همام على حيِّ خثعم, ألا تراه قد عداه
إلى "على في"2 قوله: "على حيِّ خثعما". ف"ملاحس البقر" إذًا مصدر مجموع
معمل في المفعول به، كما أن "مواعيد عرقوب أخاه بيثرب" كذلك. وهو غريب.
وكان أبو علي -رحمه الله- يورد "مواعيد عرقوب" مورد الطريف المتعجَّب
منه.
فأما قوله:
قد جرَّبوه فما زادت تجاربهم ... أبا قدامة إلّا المجد والفنعا3
__________
1 نسب هذا البيت ابن السيرافي إلى حميد بن ثور، ولا يوجد في ميمية حميد
التي في ديوانه طبعة دار الكتب، وقد ردَّ عليه ذلك صاحب "فرحة الأديب"
فقال: "غر ابن السيرافي قصيدة حميد الميمية التي أوَّلها:
سل الربع أني يممت أم سالم ... وهل عادة للربع أن يتكلما
فتوهَّم أن هذا البيت منها.. والبيت للطماح بن عامر بن الأعلم بن خويلد
العقيل، وهو شاعر مجيد، وله مقطعات حسان. قال الطماح العقلي:
عرفت لسلمى رسم دار تخالها ... ملاعب جنٍّ أو كتابًا منمما
وعهدي بسلمى والشباب كأنه ... عسيب نمى في ريه فتقوَّما
وما هي إلا ذات وثر وشوذر ... مغار ابن همام على حيّ خثعما
والعلقة: قميص بلا كمين، أو هو ثوب صغير للصبيان، والشوذر: ثوب بلا
كمين تلبسه المرأة، والوتر تلبسه الجارية قبل أن تدرك. الكامل 2/ 26،
وتاريخ ابن الأثير 1/ 7.
2 سقط ما بين القوسين في غير أ.
3 من قصيدة للأعشى في مدح هوذة بن علي. والقنع: الكرم والعطاء والجود
الواسع. وانظر "الصبح المنير) 72 وما بعدها. قوله: "قد جربوه" في أ: كم
جربوه".
(2/210)
فقد يجوز أن يكون من هذا, وقد يجوز أن يكون
"أبا قدامة" منصوبًا ب"زادت", أي: فما زادت أبا قدامة تجاربهم إيّاه
إلا المجد. والوجه أن ينصب1 ب"تجاربهم"؛ لأنه2 العامل الأقرب, ولأنه لو
أراد إعمال الأوَّل لكان حريّ أن يعمل الثاني أيضًا, فيقول: فما زادت
تجاربهم إياه أبا قدامة إلّا كذا, كما تقول 3: "ضربت فأوجعته زيدًا"،
وتضعَّف4 "ضربت فأوجعت زيدًا" على إعمال الأول. وذلك أنك إذا كنت تعمل
الأول على بعده وجب إعمال الثاني أيضًا لقربه؛ لأنه لا يكون الأبعد
أقوى حالًا من الأقرب.
فإن قلت: أكتفي بمفعول5 العامل الأول من مفعول العامل الثاني؛ قيل لك:
فإذا كنت مكتفيًا مختصرًا فاكتفاؤك بإعمال الثاني الأقرب أولى من
اكتفائك بإعمال الأول الأبعد. وليس لك في هذا مالك في الفاعل لأنك
تقول: لا أضمر على غير تقدّم6 ذكر إلا مستكرهًا, فتعمل الأول فتقول:
"قام وقعدا أخواك". فأما المفعول فمنه بُدّ, فلا ينبغي أن تتباعد
بالعمل إليه وتترك ما هو أقرب إلى المعمول7 فيه منه.
ومن ذلك "فرس وساعٌ" الذكر والأنثى فيه سواء, وفرس جواد, وناقة ضامر,
وجمل ضامر، وناقة بازل، وجمل بازل، وهو لباب قومه، وهي لباب قومها، وهم
لباب قومهم؛ قال جرير:
تذري فوق متنيها قرونًا ... على بشر وآنسة لباب8
__________
1 في ش: "تنصبه".
2 في ش: "لأنها". وترى ابن جني يجيز إعمال المصدر مجموعًا، فقد سواه
بالفعل، والمتأخرون من النحاة لا يرون هذا، ويجعلون لا يرون هذا،
ويجعلون إعمال التجارب إذا أعمل شاذًّا، وقد وافق ابن جني بعض
المتأخرين كابن عصفور، وانظر الأشموني والصبان عليه.
3 كذا في أ، ش. وفي غيرهما: "يقول".
4 أي: تنسبه إلى الضعف. وضبط في أ: "تضعف" بصيغة مضارع الثلاثي, أي:
تضعف هذه الصيغة. وفي الأشباه: "يضعف".
5 في ش: "بمعمول".
6 كذا في ش، وفي د، هـ "تقديم" وسقط في أ.
7 في د: "المفعول".
8 ورد في الديوان مفردًا. وجاء في اللسان "لبب". وفي اللسان "تدري"
بصيغة المبني للفاعل، وفي ش: "تجري" وضبط في أبصيغة المبني للمفعول,
وكأن معنى تدريه القرون من الشعر تسريحها وترجيلها.
(2/211)
وقال ذو الرمة:
سبحلا أبا شرخين أحيا بناته ... مقاليتها فهي اللباب الحبائس1
فأما ناقة هجان, ونوق هجان, ودرع دلاص, وأدرع دلاص, فليس من هذا الباب,
فإن فعالًا منه في الجمع تكسير فعال في الواحد. وقد تقدَّم ذكر ذلك في
باب ما اتفق لفظه واختلف تقديره.
__________
1 هذا في وصف فحل الإبل. والسبحل: الضخم، والشرخ: نتاج السنة من أولاد
الإبل. والمقاليت جمع المقلات، وهي التي لا يعيش لها ولد. يقول: إن
المقاليت إذا طرفها هذا الفحل عاش نسله منها، فهن يجبين بنائه لذلك.
والحبائس: يحبسها من يملكها, فلا يخرجها من ملكه. وانظر الديوان 321
والمخصص 17/ 33.
(2/212)
باب في ورود الوفاق
مع وجود الخلاف:
هذا الباب ينفصل1 من الذي قبله بأن2 ذلك تبع فيه اللفظ ما ليس وفقًا له
نحو: رجل نسابة وامرأة عدل, وهذا الباب الذي نحن فيه ليس بلفظ تبع
لفظًا, بل هو قائم برأسه. وذلك قولهم: غاض الماء وغضته سوَّوا فيه بين
المتعدي وغير المتعدي. ومثله: جبرت يده وجبرتها, وعمر المنزل وعمرته,
وسار الدابة وسرته, ودان الرجل ودنته, من الدين في معنى أدنته, وعليه
جاء مديون في لغة التميميين, وهلك الشيء وهلكته, قال العجاج:
ومهمهٍ هالك من تعرّجا3
__________
1 د، هـ: "منفصل".
2 ش: "فإن".
3 بعده: هائلة أهواله من أدلجا
وهو من أرجوزته التي أولها:
ما هاج أحزانًا وشجرًا قد شجا
وانظر الديوان 7، وإلى هنا ينتهي الجزء الأول من نسخة ش.
(2/212)
فيه قولان: أحدهما أن "هالكًا" بمعنى مهلك,
أي: مهلك من تعرج فيه. والآخر: ومهمهٍ هالك المتعرجين فيه, كقولك: هذا
رجل حسن الوجه, فوضع "من" موضع الألف واللام. ومثله هبط الشيء وهبطته,
قال:
ما راعني إلا جناح هابطًا ... على البيوت قوطه العلابطا1
أي: مهبطًا قوطه. وقد يجوز أن يكون أراد: هابطًا بقوطه, فلمَّا حذف حرف
الجر نصب بالفعل2 ضرورة. والأوّل أقوى.
فأما قول الله سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ} 3 فأجود القولين فيه أن يكون معناه: وإن منها لما يهبط من نظر
إليه لخشية الله. وذلك أن الإنسان إذا فكر في عظم هذه المخلوقات تضاءل
وتخشع4، وهبطت نفسه لعظم ما شاهد. فنسب الفعل إلى تلك الحجارة لما كان
السقوط والخشوع مسببًا عنها وحادثًا لأجل النظر إليها, كقول الله
سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 5
وأنشدوا بيت6 الآخر:
فاذكر موقفي إذا التقت الخي ... ل وسارت إلى الرجال الرجالا7
أي: وسارت الخيل الرجال إلى الرجال.
__________
1 جناخ: اسم راع. والقوط، القطيع من الغنم. والعلابط: القطيع أيضًا
وأقله خمسون. و"قوطه" مفعول هابطًا. وللبيت صلة في اللسان "قوط". وانظر
"نوادر أبي زيد" 173.
2 سقط في ش.
3 آية: 74، سورة البقرة.
4 ش: "خشع".
5 آية: 17، سورة الأنفال.
6 كذا في أ. وفي غيرها: "قول".
7 في اللسان "سار" البيت بهذه العمورة:
فاذكرن موضعًا إذا التقت الخي ... ل وقد سارت الرجال الرجالا
(2/213)
وقد يجوز أن يكون أراد: وسارت إلى الرجال
بالرجال, فحذف حرف الجر فنصب. والأول أقوى. وقال خالد بن زهير:
فلا تغضبن من سيرة أنت سِرتَها ... فأول راضٍ سيرة من يسيرها1
ورجنت الدابة بالمكان إذا أقامت فيه, ورجنتها, وعاب2 الشيء وعبته3،
وهجمت على القوم, وهجمت غيري عليهم أيضًا, وعفا الشيء: كثر وعفوته:
كثرته وفغر فاه, وفغر فوه, وشحا فاه3, وشحا فوه, وعثمت يده وعثمتها,
أي: جبرتها على غير استواء, ومدَّ النهر ومددته, قال الله -عز وجل:
{وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} 4 وقال
الشاعر:
ماء خليج مده خليجان5
وسرحت الماشية وسرحتها، وزاد الشيء وزدته, وذرا الشيء وذروته: طيرته,
وخسف المكان وخسفه الله, ودلع اللسان ودلعته, وهاج القوم وهجتهم, وطاخ
الرجل وطخته, أي: لطخته بالقبيح -في معنى أطخته6، ووفر
__________
1 هذا من شعر يقوله في أبي ذؤيب الهذلي. وكان يرسل خالدًا إلى صديقة له
فخانه فيها، وقال فيه شعرا. وكان أبو ذؤيب فعل ذلك برجل يقال عويم بن
مالك كان أبو ذؤيب رسوله إليها, فخانه فيها, فيذكره خالد هذا. وقيل هذا
البيت:
ألم تنقذها من عويم بن مالك ... وأنت صفىّ نفسه وسجيرها
وانظر الأغاني طبعة دار الكتب 6/ 277، وقوله: "فأول", في أ: "أول".
2 كذا في أ، ش. وفي د، هـ: "عاد ... عدته".
3 يقال: شحا فاه: فتحه، وشحا فوه: انفتح.
4 آية 27، سورة لقمان.
5 في اللسان: "خليج" هذا البيت.
إلى فتى فاض أكف الفتيان ... فيض الخليج مدَّه خليجان
وفي المخصص 10/ 32 الشطر الشاهد فقد, وهو في الجزء 15/ 54 منسوبًا إلى
أبي النجم.
6 الوارد في اللسان والقاموس من مزيد المادة (طيخه) من التفصيل.
(2/214)
الشيء ووفرته. وقال الأصمعيّ: رفع البعير
ورفعته -في السير المرفوع- وقالوا: نفى الشيء ونفيته, أي: أبعدته, قال
القطامي 1:
فأصبح جاراكم قتيلًا ونافيا
ونحوه: نكرت البئر ونكرتها2, أي: أقللت ماءها ونزفت ونزفتها.
فهذا كله شاذ عن القياس وإن كان مطردًا في الاستعمال, إلا أنَّ له عندي
وجهًا لأجله جاز. وهو أن كل فاعل غير القديم سبحانه, فإنما الفعل منه
شيء أعيره وأعطيه, وأقدر عليه, فهو وإن كان فاعلًا فإنه لما كان معانًا
مقدرًا صار كأن فعله لغيره, ألا ترى إلى قوله سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ
إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 3 نعم, وقد قال بعض الناس: إن
الفعل لله, وإن العبد مكتسبه, وإن كان هذا خطأ عندنا فإنه قول لقوم.
فلما كان قولهم: غاض الماء أن غيره أغاضه, وإن جرى لفظ الفعل له تجاوزت
العرب ذلك إلى أن أظهرت هناك فعلًا بلفظ الأول متعديًا؛ لأنه قد كان
فاعله في وقت فعله إياه إنما هو مشاء4 إليه أو معان عليه. فخرج اللفظان
لما ذكرنا خروجًا واحدًا. فاعرفه5.
__________
1 كذا نسبه اللسان "نفى" في القطامي. وفي ديوان القطامي 80 نسبته في
بيتين إلى الأخطل في قصة. والبيتان هما:
لو كان حبل ابني طريف معلقًا ... بأحقى كرام أحدثوا فيهما أمرَا
أأصبح جراهم قتيلًا ونافيًا ... أصم فزادوا في مسامعه وقرا
وفي ديوانه 271 البيت هكذا من قصيدة للأخطل:
لقد كان جاراهم قتيلًا وخائفًا ... أصم فقد زادوا مسامعه وقرا
2 الوارد في اللسان "نكزها" بالتشديد بضبط القلم.
3 آية: 17، سورة الأنفال.
4 هو وصف من أشاءه إلى الشيء: ألجأه إليه، وهو لغة في أجاءه، وتنسب إلى
تميم. وانظر القاموس وشرحه "شبأ".
5 إلى هنا تنتهي نسخة أ.
(2/215)
|