الخصائص باب في نقض العادة
1:
المعتاد المألوف في اللغة أنه إذا كان فعل غير متعدٍّ كان أفعل
متعديًا؛ لأن هذه الهمزة كثيرًا2 ما تجيء للتعدية. وذلك نحو: قام زيد
وأقمت زيدًا, وقعد بكر وأقعدت بكرًا. فإن كان فعل متعديًا إلى مفعول
واحد فنقلته بالهمزة صار متعديًا إلى اثنين, نحو: طعم زيد خبزًا
وأطعمته خبزًا, وعطا بكر درهمًا وأعطيته درهمًا.
فأمَّا كسى زيد ثوبًا وكسوته ثوبًا, فإنه وإن لم ينقل بالهمزة فإنه نقل
بالمثال3، ألا تراه نقل من فعل إلى فعل. وإنما جاز نقله بفعَل لمَّا
كان فعل وأفعل كثيرًا ما يعتقبان4 على المعنى الواحد, نحو: جدَّ في
الأمر وأجدَّ, وصددته عن كذا وأصددته, وقصر عن الشيء وأقصر, وسحته الله
وأسحته, ونحو ذلك. فلما كان فعل وأفعل على ما ذكرنا: من الاعتقاب
والتعاوض ونقل بأفعل, نقل أيضًا فَعِل بفَعَل, نحو: كسى وكسوته،
وشترِت5 عينه وشترها5، وعارت6 وعرتها6, ونحو ذلك.
__________
1 ترجم لهذا الباب السيوطي في "الأشباه والنظائر" 1/ 338 هكذا: "وورد
الشي على خلاف العادة".
2 كذا في ش. وفي د، هـ: "أكثر", وفي الأشباه: "كثر".
3 أي: بالوزن والبناء، فوزن فعل -بكسر العين- لازم في هذه الأمثلة،
فإذا نقل إلى فعل -بفتح العين- صار متعديًا. وقد ذكر هذا الوجه من
وسائل التعدية صاحب "المغني" في آخر الباب الرابع، وعبر عنه بتحويل
حركة العين، ونسب القول به للكوفيين، ثم قال: "وهذا عندنا من باب
المطاوعة؛ يقال: شرته فشتر، كما يقال: ثرمة فثرم. ومنه كسوته الثوب
فكسيه". وقد قدم في الفصل السابق على هذا أن المطاوعة تنقص المطاوع
-بكسر الواو- عن المطاوع -بفتح الواو- درجة في التعدية؛ كما تقول:
ألبسته الثوب فلبسه، وكسرت الإناء فانكسر.
4 في د، هـ، ز: "يعقبان".
5 أي: انقلب جفنها، وشرها: قلب جفها.
6 الضمير للعين، أي: أصابها العور. و"عرتها" أي: أصبتها بالعور. وفي د،
هـ، ز، والأشباه: "غارت وغرتها". والذي في اللسان: "وأغار عينه وغارت
تغور غورًا وغثورًا، وغوّرت: دخلت في الرأس" وترى أنه لم يجيء فيه غارٍ
عينه دون همز.
(2/216)
هذا هو الحديث 1: أن "تنقل بالهمز"2 فيحدث
النقل تعديًا لم يكن قبله.
غير أن ضربًا من اللغة جاءت فيه هذه القضية معكوسة مخالفة، فنجد فعل
فيها متعديًا، وأفعل غير متعد.
وذلك قولهم: أجفل الظليم، وجفلته3 الريح, وأشنق البعير إذا رفع رأسه,
وشنقته, وأنزف البئر إذا ذهب ماؤها ونزفتها، وأقشع4 الغيم وقشعته
الريح, وأنس5 ريش الطائر ونسلته, وأمرت الناقة إذا در لبنها
ومَرَيتها6.
ونحو من ذلك ألوت7 الناقة بذنبها، ولوت ذنبها، وصرّ8 الفرس أذنه،
وأصرّ8 بأذنه، وكبَّه الله على وجهه, وأكبَّ هو, وعلوت الوسادة وأعليت
عنها9.
فهذا نقض عادة الاستعمال10، لأن فعلت فيه متعد وأفعلت غير متعد.
وعلة ذلك -عندي- أنه جعل تعدي فعلت وجمود أفعلت كالعوض لفعلت من غلبة
أفعلت لها على التعدي, نحو: جلس وأجلسته, ونهض وأنهضته, كما جعل قلب
الياء واوًا في التقوى11 والرعوى والثنوى والفتوى عوضًا للواو من كثرة
دخول الياء عليها, وكما جعل لزوم الضرب الأول من المنسرح لمفتعلن وحظر
مجيئه تمامًا
__________
1 في ج: "الحدّ".
2 "تنقل" كذا في ش. وفي ز: "ينقل" و"بالهمز" كذا في ش. وفي د، هـ، ز:
"بالهمز".
3 ظاهر الأمر عنده أن الحديث عن الظليم، ولا يقال هذا في الظليم، وفي
اللسان "جفلت الربح السحاب", فكأنه يريد هذا, فتكون الكناية في "جفلته"
للسحاب.
4 يرى الزمخشري أن أفشع من باب أصبح, أي: دخل في الصباح، فلا غرابة
فيه. وهذا في كشافه عند قوله تعالى في سورة الملك، آية 22: {أَفَمَنْ
يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} . ويرى الفخر الرازي عند قوله تعالى
في سورة البقرة، آية 26: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ
مَثَلًا} أن الهمزة في نحو أفشع للتعدية وأن الفعل متعد إلى مفعولين
محذوفين.
5 أي: سقط وتقطع.
6 أي: مسحت ضرعها لتدر.
7 أي: حركت ذنبها.
8 اي: سوى أذنه ونصبها للاستماع، وذلك إذا جد في السير.
9 في د، هـ، والأشباه "عليها".
10 في ش: "استعمال".
11 انظر في هذه الألفاظ ص88، 308 من الجزء الأول.
(2/217)
أو مخبونًا, بل توبعت فيه الحركات الثلاث
البتة تعويضًا للضرب من كثرة السواكن فيه, نحو: مفعوان ومفعولان
ومستفعلان, ونحو ذلك مما التقى في آخره من الضروب ساكنان.
ونحوٌ من ذلك ما جاء عنهم من أفعلته فهو مفعول1، وذلك نحو: أحببته فهو
محبوب, وأجنَّه الله فهو مجنون, وأزكمه فهو مزكوم, وأكزه2 فهو مكزوز،
وأقره فهو مقرور, وآرضه3 الله فهو مأروض, وأملأه3 الله فهو مملوء,
وأضأده3 الله فهو مضئود, وأحمه الله -من الحُمَّى- فهو محموم, وأهمه
-من الهم- فهو مهموم, وأزعقته فهو مزعوق, أي: مذعور.
ومثله ما أنشدناه أبو علي من قوله:
إذا ما استحمَّت أرضه من سمائه ... جرى وهو مودوع وواعد مصدق4
وهو من أودعته, وينبغي أن يكون جاء على ودع.
وأما أحزنه الله فهو محزون, فقد حمل على هذا, غير أنه قد قال أبو زيد:
يقولون: الأمر يحزنني, ولا يقولون: حزنني, إلا أن مجيء المضارع يشهد
للماضي. فهذا أمثل5 مما مضى. وقد قالوا فيه أيضًا: مُحْزَنٌ على
القياس. ومثله قولهم: محب, منه بيت عنترة:
ولقد نزلت فلا تظنِّى غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم6
__________
1 انظر في هذا "المزهر" 2/ 167.
2 أي: أصابه بالكزاز. وهو تشنج يصيب الإنسان من شدة البرد، وتعتريه منه
وعدة.
3 أي: أصابه بالزكام. وانظر ص109، من هذا الجزء.
4 هذا من قصيدة الخفاف بن ندبة في الجزء الأول من منتهى الطلب،
و"الأصمعيات" 48.
وهو في وصف فرس, وأرض الدابة: أسفل قوائمها، والسماء ظهره. واستحمام
أرضه من العرق, وقوله: "مودوع" أي: ساكن لا يجتهد. وأصل مودوع مفعول من
ودَعَه, أي: تركه، فهو متروك من الزجر والضرب. وقوله: "واعد مصدق" أي:
يعد راكبه بمواصلة المد ويصدق في رعاه، ولا يخبس فيه.
وانظر اللسان "وَدَعَ" ومعاني ابن قتيبة.
5 وذلك أن محزونًا جاء فعله الثلاثي, وإن قرن أيضًا بالريد استثناء به
عن وصفه منه. والأمثلة السابقة ليس في هذا المعنى.
6 هذا في معلقته المشهورة.
(2/218)
ومثله قول الأخرى 1:
لأنكحن بَبَّه ... جارية خدبه
مكرمة محبه ... تجب أهل الكعبة
وقال الآخر:
ومن يناد آل يربوع يُجَبْ ... يأتيك منهم خير فتيان العرب
المنكب الأيمن والردف المحب2
قالوا: وعِلَّة ما جاء من أفعلته فهو مفعول -نحو: أجنه الله فهو مجنون,
وأسله الله فهو مسلول, وبابه- أنهم إنما جاءوا به على فعل نحو: جُنَّ
فهو مجنون, وزُكِمَ فهو مزكوم, وسُلَّ فهو مسلول. وكذلك بقيته.
فإن قيل لك3 من بعد: وما بال هذا خالف فيه الفعل مسندًا إلى الفاعل
صورته مسندًا إلى المفعول, وعادة الاستعمال غير هذا, وهو أن يجيء
الضربان معًا في عدة4 واحدة؛ نحو: ضربته وضرب وأكرمته وأكرم, وكذلك
مقاد5 هذا الباب؟
__________
1 هي هند بنت أبي سفيان أخت معاوية -رضي الله عنهما. كانت ترقص ابنها
عبد الله من زوجها الحارث بن نوفل بن عبد المطلب بهذا. وقد لقبته "ببه"
وهي حكاية صوت الصبي. و"خدبة": ضخمة. تقول: لأنكحن عبد الله جارية هذه
صفتها. وقولها: "تجب أهل الكعبة" أي: تغلب نساء قريش بحسنها، وانظر
اللسان "ببب".
2 "يأتيك" كذا في ج. وفي ش: "يأتك". والمنكب: العريف على قومه أو
رئيسهم، والردف: الذي يخلف الرئيس أو الملك ويعينه، نحو الوزير. وفي
اللسان "ردف": "وكانت الردافة في الجاهلية لبني يربوع، لأنه لم يكن في
العرب أكثر إغارة على ملوك الحميرة، من بني يربوع. فصالحوهم على أن
جعلوا لهم الردافة، ويكفوا عن أهل العراق الغارة.
3 سقط في د، هـ.
4 في د، هـ: "قاعدة"، وفي ج: "وعادة الاستعمال أن يستويا في عدد
الحروف"، وههنا موافق لما في اللسان "زعق".
5 في ش: "مفاد" وما هنا موافق لما في اللسان.
(2/219)
قيل: إن العرب لما قوي في أنفسها أمر
المفعول حتى كاد يلحق عندها برتبة الفاعل, وحتى1 قال سيبويه فيهما:
"وإن كانا2 جميعًا يهمّانهم ويعنيانهم " خصّوا المفعول إذا أسند الفعل
إليه بضربين من الصنعة 3: أحدهما: تغيير صورة4 المثال مسندًا إلى
المفعول, عن صورته مسندًا إلى الفاعل, والعدة واحدة, وذلك نحو: ضرب
"زيد"5 وضرب وقتل وقتل وأكرم وأكرم ودحرج ودحرج. والآخر: أنهم لم يرضوا
ولم يقنعوا بهذا القدر من التغيير حتى تجاوزوه إلى أن غيروا عدّة
الحروف مع ضمِّ أوله, كما غيَّروا في الأول الصورة والصيغة6 وحدها.
وذلك نحو7 قولهم: أحببته وحُبَّ, وأزكمه الله وزكم, وأضأده الله وضئد,
وأملاه الله وملئ.
قال أبو علي: فهذا8 يدلك على تمكن المفعول عندهم، وتقدّم9 حاله في
أنفسهم، إذ10 أفردوه بأن صاغوا الفعل له صيغة مخالفة لصيغته وهو
للفاعل.
وهذا ضرب من تدريج اللغة عندهم الذي قدمت11 بابه، ألا ترى أنهم لما
غيروا الصيغة والعدة واحدة في نحو: ضَرَب وضُرب و"شَتَم وشُتِم"12
تدرجوا من ذلك إلى أن غيروا الصيغة مع نقصان العدة نحو: أزكمه13 الله
وزكم، وآرضه13 الله وأرض.
__________
1 سقط حرف العطف في د، هـ.
2 انظر ص15 ج1 من "الكتاب".
3 في د، هـ، اللسان: "الصيغة".
4 د، هـ، اللسان: "الصيغة".
5 زيادة في د، هـ.
6 كذا في د، هـ، اللسان، وفي ش: "الصنعة".
7 زيادة في د، هـ.
8 د، هـ: "وهذا".
9 د، هـ: "تقرير".
10 ش: "إذا". وما هنا في ج.
11 انظر ص348 من الجزء الأول.
12 د، هـ: "شرب، وشرب".
13 زيادة في د، هـ.
(2/220)
فهذا كقولهم1 في حنيفة: حنفيّ لما حذفوا
هاء2 حنيفة حذفوا أيضًا ياءها, ولما لم يكن في حنيف تاء تحذف فتحذف لها
الياء صحت الياء, فقالوا فيه: حنيفيّ. وقد تقدَّم القول على ذلك.
وهذا الموضع هو3 الذي دعا أبا العباس أحمد بن يحيى في كتاب فصيحه أن
أفرد له بابًا, فقال: هذا باب فُعِل -بضم الفاء- نحو قولك: عُنِيت
بحاجتك, وبقية الباب. إنما غرضه فيه إيراد الأفعال المسندة إلى
المفعول, ولا تسند إلى الفاعل في اللغة الفصيحة, ألا تراهم4 يقولون:
نخى زيد من النخوة, ولا يقال: نخاه كذا, ويقولون: امتقع لونه, ولا
يقولون: "امتقعه كذا, ويقولون: انقطع بالرجل, ولا يقولون"5: انقطع به
كذا. فلهذا جاء بهذا الباب أيّ ليريك أفعالًا خصت بالإسناد إلى المفعول
دون الفاعل, كما خصت أفعال بالإسناد إلى الفاعل دون المفعول, نحو: قام
زيد, وقعد جعفر, وذهب محمد, وانطلق بشر. ولو كان غرضه أن يرك صورة ما
لم يسمّ فاعله مجملًا غير مفصَّل على ما ذكرنا لأورد فيه6 نحو: ضرب
وركب وطلب وقتل وأكل وسمل7 وأكرم وأحسن إليه واستقصى8 عليه, وهذا يكاد
يكون إلى ما لا نهاية [له] 9.
فاعرف هذا الغرض, فإنه أشرف من حفظ مائة ورقة لغة.
ونظير مجيء اسم المفعول ههنا على حذف الزيادة -نحو: أجببته فهو محبوب-
مجيء اسم الفاعل على حذفها أيضًا, وذلك نحو قولهم: أورس10 الرمث فهو
وارس،
__________
1 في د، هـ، ز: "قولهم".
2 يريد بالهاء تاء التأنيث.
3 سقط في د، هـ.
4 كذا في ش. وفي د، هـ: "ترى أنهم".
5 ما بين القوسين سقط في د، هـ.
6 سقط في د، هـ.
7 في د، هـ: "شمل".
8 في د، هـ: "استعدى".
9 زيادة في الأشباه.
10 أي: اصفر ورقه. والرمث: شجر ترعاه الإبل.
(2/221)
وأيفع الغلام فهو يافع, وأبقل المكان فهو
باقل, قال الله -عز وجل: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} 1
وقياسه ملاقح؛ لأن الريح تلقح السحاب فتستدرّه. وقد يجوز أن يكون على
لقحت هي, فإذا لقحت فزكت ألقحت السحاب, فيكون هذا مما اكتُفِيَ فيه
بالسبب من المسبب, وضده قول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} 2 أي: فإذا أردت قراءة القرآن فاكتفي بالمسبب
الذي هو القراءة من السبب الذي هو الإرادة. وقد جاء عنهم مبقل, حكاها
أبو زيد. وقال داود ابن أبي دواد لأبيه في خبر لهما, وقد قال له أبوه
ما أعاشك بعدي:
أعاشني بعدك واد مبقل ... آكل من حوذانه وأنسل3
وقد جاء أيضًا حببته، قال "الشاعر "4:
ووالله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيد ومشرق5
ونظير مجيء اسم الفاعل والمفعول جميعًا على حذف الزيادة فيما مضى مجيء
المصدر أيضًا على حذفها, نحو قولهم: جاء زيد وحده. فأصل هذا أوحدته
بمروري إيحادًا, ثم حذفت زيادتها6 فجاء على الفعل. ومثله قولهم: عمرك
الله إلا فعلت, أي: عمرتك الله تعميرًا. ومثله7 قوله:
بمنجرد قيد الأوابد هيكل8
__________
1 آية: 22، سورة الحجر.
2 آية: 98، سورة النحل.
3 انظر ص98 من الجزء الأول.
4 زيادة في د، هـ، والشاعر هو غبلان بن شجاع النهشلي، وانظر اللسان
"حبب"، والكامل 4/ 4
5 قبله:
أحب أبا مروان من أجل تمره ... وأعلم أن الجار بالجار أرفق
وترى في الشاهد إقراء: "ويروي أبو العباس المبرد الشطر الأخير هكذا:
وكان عياض منه أدق ومشرق
6 كذا في د، هـ، وفي ش: "زيادته", وفي اللسان "وحد" "زيادته"، ويرى
بزيادته الهمزة الأولى والألف بعد الخاء.
7 زيادة في د، هـ.
8 عجز بيت صدره:
وقد اغتدى والطير في وكناتها
وهو من معلقة امرئ القيس في وصف فرس.
(2/222)
أي: تقييد الأوابد, ثم حذف زائدتيه1؛ وإن
شئت قلت: وصف2 بالجوهر لما فيه من معنى الفعل, نحو قوله 3:
فلولا الله والمهر المفدَّى ... لرُحْتَ وأنت غربال الإهاب
فوضع الغربال موضع مخرق, وعليه ما أنشدناه عن أبي عثمان:
مئبرة العرقوب إشفى المرفق
أي: دقيقة4 المرفق. "وهو كثير"5.
فأما6 قوله7:
وبعد عطائك المائة الرتاعا8
فليس على حذف الزيادة, ألا ترى أن في عطاء ألف إفعال9 الزائدة, ولو كان
على حذف الزيادة لقال: وبعد عطوك فيكون كوحده. وقد ذكرنا هذا فيما مضى.
ولما كان الجمع مضارعًا للفعل بالفرعية فيهما جاءت فيه أيضًا ألفاظ على
حذف الزيادة التي كانت في الواحد.
__________
1 كذا في ش. وفي د: "زيادته". وفي هـ: "زيادتيه".
2 أي: يراد بالقيد قيد الداية، وهو اسم وصف به لما فيه من التقييد، فلا
يكون فيه حذف.
3 أي: حسان في الحارث بن هشام.
4 كذا في د، هـ، ج. وفي ش: "حادة". والأشفى في الأصل مخرز الإسكاف.
والمثبرة: الإبرة. يهجو امرأة.
5 سقط ما بين القوسين في ش.
6 كذا في ش. وفي د، هـ: "وأما".
7 أي: القطامي. وانظر الديوان.
8 من قصيدته التي أولها:
قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا
وهي في مدح زفر بن الحارث الكلابي، وكان أسره في حرب, فمنَّ عليه
وأعطاه مائة من الإبل. وهاك هذا الشطر مع سابقه وبيت قبله:
قمن يكن استلام إلى ثويّ ... فقد أكرمت يا زفر المتاعا
أكفرًا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاها
استلام: فعل ما يلام عليه. والثويّ: الضيف. والمتاع: الزاد.
9 كذا في ج. وفي ش: "فعال".
(2/223)
وذلك نحو قولهم: كَرَوان وكِرْوان,
ووَرَشان ووِرْشان. فجاء هذا على حذف زائدتيه حتى كأنه صار إلى فَعَل,
فجرى مجرى خَرَبٍ وخِرْبان, وبَرَقٍ وبِرْقان, قال:
أبصر خربان فضاء فانكدر1
وأنشدنا لذي الرمة:
من آل أبي موسى ترى الناس حوله ... كأنهم الكِرْوان أبصرن بازيا2
ومنه تكسيرهم فَعَالًا على أفعال حتى كأنه إنما كُسِّر فَعَل, وذلك
نحو: جواد وأجواد، وعياءٍ3 وأعياءٍ "وحياء وأحياء"4 وعراءٍ5 وأعراءٍ,
وأنشدنا:
أو مُجْنَ عنه عَرِيت أعراؤه6
فيجوز أن يكون جمع عَراءٍ, ويجوز أن يكون جمع عُرْى, ويجوز أن يكون جمع
عَرًا من قولهم: نزل بِعَرَاه أي: ناحيته.
__________
1 من أرجوزة العجاج التي أولها:
قد جبر الدين الإله فجبر
وهي في مدح عمر عبيد الله بن معمر، وقبله:
إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر ... داتي جناحيه من الطور فمر
تقضي البازي إذا البازي كسر
وانظر الديوان 17.
2 هذا البيت الثالث والثلاثون من قصيدته في مدح بلال بن أبي بردة
الأشعري. وأولها:
ألا حي بالزرق الرسوم الخواليا ... وإن لم تكن إلّا رميًا بواليا
وانظر الديوان 154، والخزانة 1/ 296.
3 يقال: فحل عياء: لا يهتدي الضراب، وكذلك الرجل.
4 زيادة في د، هـ. والحياء للناقة رحمها وفرجها.
5 هو ما استوى من ظهر الأرض، أو هو المكان الخالي.
6 من أرجوزة رؤبة التي أولها:
وبلد عامية أعماؤه
وقبله: إذا السراب انتسجت إضاؤه
وترى أنه في وصف السراب والإضاة: الغدران، وهو ما يتراض فيه من الماء.
يقول في السراب: يظهر فيه تارة مثل الغدران، وتارة تموج عنه وتذهب.
(2/224)
ومن ذلك قولهم: نِعمة وأَنْعُم, وشِدّة
وأشُدّ, في قول1 سيبويه: جاء ذلك على حذف التاء كقولهم: ذئب وأَذْؤب,
وقِطْع2 وأقُطع, وضِرْس وأَضْرُس, قال:
وقرعن نابك قَرْعة بالأضرِس
وذلك كثير جدًّا.
وما يجيء مخالفًا ومنتقضًا أوسع من ذلك, إلّا أن لكل شيء منه عذرًا
وطريقًا. وفصل للعرب طريف, وهو إجماعهم على مجيء عين مضارع فَعَلته إذا
كانت من3 فاعلي4 مضمومة البتة. وذلك نحو قولهم: ضاربني فضربته أضربه,
وعالمني فعلمته أعلمه, وعاقلني -من العقل- فعقلته أعقله, وكارمني
فكرمته أكرمه, وفاخرني ففخرته أفخره، وشاعرني فشعرته أشعره. وحكى
الكسائي: فاخرني ففخرته أفخَره -بفتح الخاء, وحكاها أبو زيد أفخُره
-بالضم- على الباب. كل5 هذا إذا كنت أقوم بذلك الأمر منه.
ووجه6 استغرابنا له أن خصَّ مضارعه بالضم. وذلك أنا قد دللنا7 على أن
قياس باب مضارع فَعَل أن يأتي بالكسر, نحو: ضرب يضِرب, وبابه, وأرينا
وجه دخول يفعُل على يفعِل فيه, نحو: قَتَل يقْتُل, ونخل ينخُلُ, فكان
الأحجى به هنا إذ أريد الاقتصار به على أحد وجهيه أن يكون ذلك الوجه هو
الذي كان القياس مقتضيًا له في مضارع فَعَل وهو يفعِل بكسر العين. وذلك
أن العُرْف والعادة إذا أريد
__________
1 انظر الكتاب 2/ 183، وانظر أيضًا ص87 من الجزء الأول من الخصائص.
2 هو نصل صغير عريض.
3 ج: "عن"، وفي ز: "عين".
4 كذا في د، هـ، ج، والأشباه. وفي ش: "فاعله".
5 كذا في د، هـ. وفي ش: "وكل".
6 سقط في د، هـ، عرف العطف.
7 انظر ص380 من الجزء الأول.
(2/225)
الاقتصار على أحد1 الجائزين أن يكون ذلك
المقتصر عليه هو أقيسهما فيه, ألا تراك2 تقول في تحقير أسود وجذول:
أسيد وجديل بالقلب3، وتجيز من بعد الإظهار وأن4 تقول: أسيود وجديول,
فإذا صرت إلى باب مقام وعجوز اقتصرت على الإعلال البتة فقلت: مقيِّم
وعجيِّز, فأوجبت أقوى القياسين لا أضعفهما, وكذل نظائره.
فإن قلت: فقد تقول: فيها رجل قائم وتجيز فيه النصب فتقول: فيها رجل
قائمًا, فإذا قدَّمت أوجبت أضعف الجائزين. فكذلك أيضًا تقتصر في هذه
الأفعال -نحو: أكرمه وأشعُره- على أضعف الجائزين5 وهو الضمّ.
قيل: هذا إبعاد في التشبيه. وذلك أنك لم توجب النصب في "قائمًا"6 من
قولك: فيها رجل قائمًا، و"قائمًا" هذا متأخر عن رجل في مكانه في حال
الرفع, وإما اقتصرت على النصب فيه لما لم يجز فيه الرفع, أو لم يقو,
فجعلت أضعف الجائزين واجبًا ضرورة لا اختيارًا, وليس كذلك كرمته أكرمه؛
لأنه لم ينقض7 شيء عن موضعه ولم يقدّم ولم يؤخر. ولو قيل: كرمته أكرمه؛
لكان كشتمته أشتمه, وهزمته أهزمه.
وكذلك8 القول في نحو قولنا: ما جاءني إلّا زيدًا أحد, في إيجاب نصبه,
وقد كان النصب لو تأخَّر "زيد" أضعف الجائزين فيه إذا قلت: ما جاءني
أحد إلّا زيدًا, الحال فيهما واحدة, وذلك أنك لمَّا لم تجد مع تقديم
المستثنى ما تبدله منه عدلت به -للضرورة- إلى النصب الذي كان جائزًا
فيه متأخرًا. هذا كنصب "فيها قائمًا رجل" البتة، والجواب عنهما واحد.
__________
1 ش: "آكد".
2 ش: "أراك".
3 سقط في د، هـ. ويريد قلب الواو ياء.
4 سقط حرف العطف في ش.
5 كذا في ش. وفي د، هـ: "الحالين".
6 د، هـ: "قائم".
7 ش "ينقص" وهو تصحيف.
8 د، هـ: "فكذلك".
(2/226)
وإذا كان الأمر كذلك فقد وجب البحث عن علة
مجيء هذا الباب في الصحيح كله بالضم, نحو: أكرمه وأضرُبه.
وعلّته عندي أن هذا موضع معناه الاعتلاء والغلبة, فدخله بذلك1 معنى
الطبيعة والنحيزة التي تغِلب ولا تُغلب, وتلازم ولا2 تفارق. وتلك
الأفعال بابها: فَعُل يفُعل, نحو: فقُه يفقُه إذا أجاد الفقه, وعلُم
يعلُم إذا أجاد العلم. وروينا عن أحمد ابن يحيى عن الكوفيين: ضَرُبتِ
اليدُ يدهُ، على وجه المبالغة.
وكذلك نعتقد نحن أيضًا في الفعل المبني منه فعل التعجب أنه قد نُقِلَ3
عن فَعَل وفَعِل إلى فَعُلَ, حتى صارت له صفة التمكن والتقدم, ثم
بُنِيَ منه الفعل4، فقيل: ما أفعله, نحو: ما أشعره, إنما هو من شَعُر,
وقد حكاها أيضًا أبو زيد. وكذلك ما أقتله وأكفره: هو عندنا من قَتُل
وكَفُر تقديرًا, وإن لم يظهر5 في اللفظ استعمالًا.
فلمَّا كان قولهم: كارمني فكرمته أكرمه6 وبابه صائرًا إلى معنى فَعُلت
أفُعل أتاه الضمّ من هناك. فاعرفه.
فإن قلت: فهلّا لما دخله هذا المعنى تَمَّموا فيه الشبه فقالوا: ضربته
أضرُبه, وفَخُرْتُه أفْخُرهُ "ونحو ذلك؟ "7.
قيل: منع من ذلك أن فَعُلْت لا يتعدَّى8 إلى المفعول به أبدًا, ويفعُل
قد يكون في المتعدي9, كما يكون في غيره, ألا ترى إلى قولهم: سلبه
يسلُبه, وجلبه يجلبه،
__________
1 في الأشباه: "لذلك".
2 سقط في د، هـ.
3 أخذ بهذا متأخرو النحاة, وانظر الرضي شرح الكافية 2/ 308.
4 في ج: "أفعل".
5 د، هـ، الأشباه: "إلى".
6 سقط في د، هـ.
7 ما بين القوسين سقط في د، هـ، ز.
8 كذا في د، هـ. وفي ش، والأشباه: "تتعدّى".
9 ش: "المتعدية".
(2/227)
ونخله ينخُله, فلم يمنع من المضارع ما منع
من الماضي, فأخذوا منهما1 ما ساغ, واجتنبوا ما لم يسغ.
فإن قلت: فقد قالوا: قاضاني فقضيته أقضيه, وساعاني فسعيته أسعيه؟ قيل:
لم يكن من "يفعله" ههنا بُدّ, مخافة أن يأتي على يفُعل فينقلب الياء
واوًا, وهذا مرفوض في هذا النحو من الكلام.
وكما لم يكن من هذا بد ههنا لم يجئ أيضًا2 مضارع فَعَل منه مما فاؤه
واو بالضم, بل جاء بالكسر على الرسم وعادة العرب. فقالوا: واعدني
فوعدته أعده, وواجلني فوجلته أجِلُه, وواضأني فوضأته أَضؤه. فهذا
كوضعته -من هذا الباب- أضعهُ.
ويدلّك على أن لهذا الباب أثرًا في تغييره باب فَعَل في مضارعه قولهم:
ساعاني فسعيته أسعيه, ولم يقولوا: أسعاه على قولهم: سعى يسعى, لما كان
مكانًا قد رُتِّب وقرر وزوى3 عن نظيره في غير هذا الموضع.
فإن قلت: فهلا غيروا ما فاؤه واو كما غيروا ما لامه ياء فيما ذكرت,
فقالوا: واعدني فووعدته أَوعُدُه, لما دخله من المعنى المتجدّد4.
قيل: "فَعَل" مما فاؤه واو لا يأتي مضارعه أبدًا بالضمّ, إنما هو
بالكسر, نحو: وجد يجد, ووزن يزن, وبابه, وما لامه ياء فقد5 يكون على
يفعِل كيرمي ويقضي, وعلى يفعَل كيرعَى ويسعَى. فأمر الفاء إذا كانت
واوًا في فَعَلَ أغلظ حكمًا من أمر اللام إذا كانت ياء. فاعرف ذلك
فرقًا.
__________
1 ش: "منها" والضمير في "منهما" لصيفتيّ فعل ويفعل المضموم العين.
2 د، هـ: "هنا".
3 أي: نحى وأبعد.
4 د، هـ: "المجدد".
5 د، هـ: "قد".
(2/228)
باب في تدافع الظاهر:
هذا نحو من اللغة له انقسام.
فمن ذلك استحسانهم لتركيب ما تباعدت مخارجه من الحروف, نحو: الهمزة مع
النون, والحاء مع الباء, نحو: آن ونأى وحبَّ وبحّ، واستقباحهم1 لتركيب
ما تقارب من الحروف؛ وذلك نحو: صس وسص وطث وثط. ثم إنا من بعد نراهم
يؤثرون في الحرفين المتباعدين أن يقربوا أحدهما من صاحبه, ويدنوه إليه,
وذلك نحو قولهم في سويق 2: صَوِيق، وفي مساليخ: مصاليخ, وفي السوق:
الصوق، وفي اصتبر 3: اصطبر, وفي ازتان: ازدان, ونحو ذلك ما أُدْنِي فيه
الصوتان أحدهما من الآخر مع ما قدمناه: من إيثارهم لتباعد الأصوات؛ إذ
كان الصوت مع نقيضه أظهر منه مع قرينه4 ولصيقه؛ ولذلك كانت الكتابة
بالسواد5 في السواد خفية, وكذلك سائر الألوان.
والجواب عن ذلك أنهم قد علموا أنَّ إدغام الحرف في الحرف أخف عليهم من
إظهار الحرفين, ألا ترى أن اللسان ينبو عنهما معًا نبوة واحدة, نحو
قولك: شدَّ وقطَّع وسلَّم6؛ ولذلك ما حققت الهمزتان إذ كانتا عينين
نحو: سآل ورآس, ولم تصحا في الكلمة الواحدة غير عينين, ألا ترى إلى
قولهم: آمن وآدم وجاء وشاء7، ونحو ذلك. فلأجل8 هذا ما قال9 يونس في
الإضافة إلى مُثَنَّى: مُثَنَّوِيّ
__________
1 انظر ص55 من الجزء الأول.
2 انظر في هذا وما بعده ص145 من هذا الجزء.
3 في ش، هـ: "استبر"، والصواب ما أثبت.
4 كذا في د، هـ، ج، وفي ش: "قريبه".
5 سقط في د، هـ.
6 في ش بعده: "كذلك".
7 في د، هـ: "ساء". والمراد اسم الفاعل من جاء وشاء وساء.
8 كذا في ش. وفي د، هـ: "ولأجل".
9 انظر الكتاب 2/ 29.
(2/229)
فأجرى المدغم مجرى الحرف الواحد, نحو: نون
مَثْنَّى إذا قلت: مَثْنِوَيّ, قال الشاعر 1:
حلفتُ يمينًا غير ذي مَثْنَوِيَّةٍ2
ولأجل ذلك كان من قال: "هم قالوا" فاستخفَّ بحذف الواو, ولم يقل في "هن
قلن" إلّا بالإتمام.
ولذلك كان الحرف المشدد إذا وقع رويًّا في الشعر المقيد خُفِّفَ, كما
يسكن المتحرك إذا وقع رويًّا فيه. فالمشدد نحو قوله 3:
أصحوت اليوم أم شاقتك هِرّ ... ومن الحب جنونٌ مستعرْ
فقابل براء "هرّ" راء "مستعرْ" وهي خفيفة أصلًا. وكذلك قوله 4:
ففداء لبني قيس على ... ما أصاب الناس من سوء وضر
ما أقلّت قدمي إنهم ... نعم الساعون في الأمر المبر
وأمثاله كثيرة. والمتحرك "نحو قول رؤبة "5:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
ونحو ذلك مما كان مفردًا محركًا فأسكنه تقييد الروي.
__________
1 سقط في ش، ج. وهو النابغة.
2 عجزه:
ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
3 أي: طرفة. وهو مطلع القصيدة. وهرّ: اسم امرأة.
4 أي: طرفة أيضًا في القصيدة السابقة، والأمر المبر: الغالب الذي يعجز
الناس، وقوله: "قيس" في د، هـ: "عبس", والذي في الديوان الأول، وانظر
4/ 11.
5 كذا في د. وفي هـ: "في قول رؤبة"، وفي ش: "نحو قوله".
(2/230)
ومن ذلك أن تبنى مما عينه واو مثل فِعَّل
فتصح العين للإدغام نحو: قِوَّل وقِوَّم، فتصح العين للتشديد، كما تصح
للتحريك1 في نحو قولهم: عِوَض وحِوَل وطِوَل.
فلما كان في إدغامهم الحرف في الحرف ما أريناه من استخفافهم إياه صار
تقريبهم الحرف "من الحرف"2 ضربًا من التطاول إلى الإدغام. وإن لم يصلوا
إلى ذلك, فقد حاولوه واشرأبوا نحوه, إلّا أنهم مع هذا لا يبلغون بالحرف
المقرَّب من الآخر أن يصيروه إلى أن يكون من مخرجه لئلّا يحصلوا من ذلك
بين أمرين كلاهما مكروه.
أما أحدهما: فأن يدغموا مع بعد3 الأصلين وهذا بعيد.
وأما الآخر: فأن يقربوه منه حتى يجعلوه من مخرجه, ثم لا يدغموه, وهذا
كأنه انتكاث وتراجع؛ لأنه إذا بلغ من قربه إلى أن يصير من مخرجه وجب
إدغامه, فإن لم يدغموه حرموه المطلب المروم4 فيه، ألا ترى أنك إذ قربت
السين في سويق من القاف بأن تقلبها صادًا, فإنك لم تخرج السين من
مخرجها, ولا بلغت بها مخرج القاف, فيلزم إدغامها فيها. فأنت إذًا قد
رمت تقريب الإدغام المستخَفّ, لكنك لم تبلغ الغاية التي توجبه5 عليك,
وتنوط أسبابه بك.
وكذلك إذا قلت في اصتبر: اصطبر، فأنت6 قد قرَّبت التاء من الصاد بأن
قلبتها إلى أختها في الإطباق7 والاستعلاء، والطاء8 مع ذلك من جملة مخرج
التاء.
__________
1 في هـ: "للمتحرك" وفي د: " للمحرك".
2 ما بين القوسين سقط في د، هـ.
3 د، هـ: "أبعد".
4 كذا في هـ. وفي د: "المرموم" وفي ش: "الملزوم".
5 د، هـ: "توجه" والضمير المنصوب في "توجيه" للإدغام.
6 د، هـ: "فإنك".
7 كذا في د، هـ، ج. وفي ش "الطباق".
8 د، هـ فيهما زيادة بعد: "باقية".
(2/231)
وكذلك إذا قلت في مصدر: مزدر فأخلصت الصاد
زايًا , قد قربتها من الدال بما في الزاي من الجهر, ولم تختلجها1 عن
مخرج الصاد. وهذه2 أيضًا صورتك إذا أشممتها رائحة الزاي فقلت: مصدر3،
هذا المعنى قصدت، إلا أنك لم تبلغ بالحرف غاية القلب الذي فعلته مع
إخلاصها4 زايًا.
فإن كان الحرفان جميعًا من مخرج واحد فسلكت هذه الطريق, فليس إلّا أن
تقلب أحدهما إلى لفظ الآخر البتة, ثم تدغم لا غير. وذلك نحو: اطَّعن
القوم, أبدلت تاء أطتعن طاء البتة, ثم أدغمتها فيها لا غير. وذلك أن
الحروف إذا كانت5 من "مخرج واحد ضاقت مساحتها أن تدنى بالتقريب منها؛
لأنها إذا كانت معها"6 من مخرجها فهي الغاية في قربها, فإن زدت على ذلك
شيئًا فإنما هو أن تخلص الحرف إلى لفظ أخيه البتة فتدغمه7 فيه لا
محالة.
فهذا وجه التقريب مع إيثارهم الإبعاد.
ومن تدافع8 الظاهر ما تعلمه من إيثارهم الياء على الواو. وذلك لويت
ليًّا, وطويت طيًّا, وسيد وهيّن "وطيّ"9 وأغريت10 ودانيت, واستقصيت, ثم
إنهم مع ذلك قالوا: الفتوى والتقوى والثنوى, فأبدلوا الياء واوًا عن
غير قوة علة أكثر من الاستحسان والملاينة.
__________
1 أي: لم تنتزعها وتجتذبها.
2 د، هـ: "هذا".
3 ينبغي أن يكتب فوق الصاد هنا زاي صغيرة إشارة إلى الإشمام, وانظر سر
الفصاحة ص22.
4 د، هـ "إصلاحها".
5 د، هـ فيهما زيادة بعد: "معها".
6 سقط ما بين القوسين في د، هـ.
7 في د، هـ: "وتدغمه".
8 د، هـ، ز: "تباعد تدافع".
9 سقط في د، هـ.
10 كذا في ج، وفي، هـ: "أعربت", وفي ش: "أغويت", وهو مصحَّف عمَّا
أثبت، وأغربت لامها واو. وأصل المادة الغراء وهو يقيد اللصوق، فإذا
قبل: أغرى بيتهم العداوة, أي: ألصقها بهم. والأشبه أن يكون: "أغزيت"
الغزو.
(2/232)
والجواب عن هذا أيضًا أنهم -مع ما أرادوه
من الفرق بين الاسم والصفة على ما قدمناه- أنهم1 أرادوا أن يعوضوا
الواو من كثرة دخول الياء عليها.
ومثله في التعويض لا الفرق قولهم 2: تقي، وتقواء3، ومضى على مضوائه4،
وهذا أمر5 ممضوّ عليه.
ونحوه في الإغراب قولهم: عوى الكلب عوة, وقياسه عيَّة. وقالوا في العلم
للفرق بينه وبين الجنس: حَيْوة وأصله حيَّة, فأبدلوا الياء واوًا. وهذا
-مع إيثارهم خص العلمِ بما ليس للجنس- إنما هو لما قدمنا ذكره: من
تعويض الواو من كثرة دخول الياء عليها.
فلا ترينَّ من ذلك شيئًا ساذجًا عاريًا من غرض وصنعة.
ومن ذلك استثقالهم المثلين, حتى قلبوا أحدهما في نحو: أمليت -وأصلها
أمللت- وفيما حكاه أحمد بن يحيى -أخبرنا به أبو علي عنه- من قولهم: لا
وربيك لا أفعل, يريدون: لا وربك لا أفعل. نعم, وقالوا6 في أشد من ذا:
ينشب في المسعل واللهاء ... أنشب من مآشر حداء7
__________
1 أعيد "أنهم" توكيدًا لطول الفصل.
2 زيادة من د، هـ.
3 فالواو في تقواء أصلها الياء. إذ مادة الوقاية يائية اللام.
4 المضواء: التقدم.
5 د، هـ: "الأمر".
6 القائل واحد منهم، ونسب القول إليهم, أي: إلى العرب لاشتراكهم جميعًا
في إمضائه.
7 قبله: يا لك من تمر ومن شيشاء
والشيشاء من التمر: الشبص، وهو الذي لا يشتدّ نواه. والمسعل موضع
السعال من الحلق، واللهاء أصله اللهي، واحدها لهاة, وهي اللحمة المشرفة
على الحلق. والمآشر أصله المآشير جمع المئشار وهو المنشار وتراه يصف
الثمر بأنه يعلق في الحلق لما فيه من اللين, وأنه ليس بيابس قحل. وانظر
اللسان "حدد، وشيش"!
(2/233)
قالوا: يريد حداد1، فأبدل الحرف الثاني,
وبينهما ألف حاجزة, ثم قال2 مع هذا:
لقد تعللت على أيانق ... صهب قليلات القراد اللازق3
فجمعوا بين ثلاثة أمثال مصحَّحة, وقالوا: تصببت عرقًا.
وقال العجاج:
إذا حجاجا مقلتيها هججا4
وأجازوا في مثل فرزدق من رددت رَدَدّد, فجمعوا بين أربع دالات, وكرهوا
أيضًا حنيفي, ثم جمعوا بين أربع ياءات فقال بعضهم: أمَيِّيّ5
وعَدِتِّيّ, وكرهوا أيضًا أربع ياءات بينهما6 حرف صحيح حتى حذفوا
الثانية منها. وذلك قولهم في الإضافة إلى أُسَيّدٍ: أُسَيْديّ, ثم إنهم
جمعوا بين خمس ياءات مفصولًا بينهما بالحرف الواحد, وذلك قولهم في
الإضافة إلى مُهيتم7 مُهَيّيمِىّ. ولهذه الأشياء أخوات ونظائر كثيرة.
والجواب عن كل فصل من هذا8 حاضر.
أمَّا أمليت فلا إنكار لتخفيفه9 بإبداله.
__________
1 ج: "حدادًا".
2 كذا في د، هـ. وفي ش: "قالوا".
3 جاء هذا الرجز في اللسان "قرد" من غير عزو, وعقَّبه بقوله: "عني
بالقراد الجنس؛ فلذلك أفرد نعتها وذكره. ومعنى (قليلات القراد" أن
جلودها ملس لا يثبت عليها قراد، سمان ممتلئة". وانظر النوادر لأبي زيد
129.
4 الحجاج -بفتح الحاء وكسرها: منبت شعر الحاجب من العين, ويقال هجج
البعير إذا غارت عينه من جوع أو عطش أو إعياء غير خلقة. وهذا في وصف
ناقته وقبله:
تعدو إذا ما بدنها تفضجا
يقال: تفضح عرقًا: سال عرقه. يقول: إنها تعدو في حال الإعياء والكلال،
حين عرفها وحين غثور حجاجي عينها: وانظر الديوان.
5 انظر ص72ج2 من الكتاب، وشرح الشافية للرضي 2/ 30.
6 أي: بين الياءين المشددتين اللتين مجموعها أربع ياءات.
7 هو تصغير مهوم، وهو وصف من هوم الرجل إذا نام. والياء الساكنة يعد
ياء التصغير للتعويض من حذف إحدى الواوين. وانظر الكتاب 2/ 86، وشرح
الشافية 2/ 34.
8 د، هـ. "هذه".
9 د، هـ: "في تخفيفه".
(2/234)
وأما "تعللت" و"هججا" ونحو ذلك مما اجتمعت
فيه ثلاثة أمثال فخارج على أصله، وليس من حروف العلة, فيجب تغييره.
والذي فعلوه في "أمليت" و"لا وربيك لا أفعل", و"أنشب من مآشر حداء" لم
يكن واجبًا فيجب هذا أيضًا، وإنما غيِّر استحسانًا, فساغ ذلك1 فيه، ولم
يكن موجبًا لتغيير كل ما اجتمعت فيه أمثال, ألا ترى أنهم لما قلبوا ياء
طيء ألفًا في الإضافة فقالوا: طائي, لم يكن ذلك واجبًا في نظيره لما
كان الأول مستحسنًا.
وأما حنفيّ فإنهم لما حذفوا التاء شجَّعوا2 أيضًا على حذف الياء
فقالوا: حنفي. وليس كذلك عديي وأمّييّ فيمن أجازهما، "ألا ترى"3 عديًّا
لما جرى مجرى الصحيح في اعتقاب حركات الإعراب عليه -نحو: عديِّ وعديَّا
وعدييِّ- جرى4 مجرى حنيف, فقالوا: عديِّيِّ كما قالوا: حنيفيّ. وكذلك
أُمَيِّيّ أجروه مجرى نميريّ وعقيليّ. ومع هذا فليس أمّييّ وعدييّ
بأكثر في كلامهم. وإنما يقولها بعضهم.
وأما جمعهم في مهييمي بين خمس ياءات, وكراهيتهم في أسيدي أربعًا, فلأن
الثانية من أسيديّ لما كانت متحركة وبعدها حرف متحرك قلقت, لذلك وجفت.
ولما تبعتها في مهييميّ ياء المد لانت ونعمت. وذلك من شأن المدات.
ولذلك استعملن في الأرداف والوصول والتأسيس والخروج، وفيهن يجري الصوت
للغناء والحداء والترنم والتطويح.
وبعد فإنهم إذا خفَّفوا في موضع وتركوا آخر في نحوه كان أمثل من ألا
يخففوا في أحدهما, وكذلك جميع ما يرد عليك مما ظاهره ظاهر التدافع, يجب
أن ترفق به ولا تعنف عليه ولا تسرع إلى إعطاء اليد بانتقاض بابه.
والقياس القياس.
__________
1 سقط في د، هـ.
2 كذا في د، هـ، ج. وفي ش: "أجمعوا".
3 في ز: "الآن", وهو محرَّف عن "إلا أن".
4 د، هـ: "فجرى".
(2/235)
باب في التطوع بما
لا يلزم:
هذا أمر قد جاء في الشعر القديم والمولّد جميعًا مجيئًا واسعًا.
وهو أن يلتزم الشاعر ما لا يجب عليه ليدل بذلك على غُزره1 وسعة ما
عنده. فمن ذلك ما أنشده الأصمعي لبعض الرجاز:
وحسدٍ أوشلت من حظاظها ... على أحاسي الغيظ واكتظاظها2
حتى ترى الجوّاظ من فظاظها ... مدلوليًّا بعد شدا أفظاظها3
وخُطَّةٍ لا روح كظاظها ... أنشطت عني عروتي شظاظها4
بعد احتكاء أربتي أشظاظها ... بعزمة جلت غشا إلظاظها5
بجك كرش الناب لافتظاظها6
__________
1 الغزر -بضم الغين وفتحها- الكثرة والغزارة.
2 جاء هذان للشطران في اللسان "حفظ"، و"كظظ". أوشل حظه: أقله وأخسه.
والحفاظ واحده الحظ. والأحاسي كأنه جمع الحساء على غير قياس، وهو ما
يشرب أو الشرب نفسه، والاكتظاظ من الكظة وهو الامتلاء من الطعام، ويقول
ابن سيده كما في اللسان: "إنما أراد اكتظاظي عنها فحذف وأرسل، وهو يريد
امتلاءه من الغمّ، ويريد بأحاسي الغيظ: تضمنه الغيظ منهم، الأنسب أن
يكون احتساء الغبظ الاكتظاظ من الحد، والإضافة في "اكتظاظها" على
وجهها، وانظر اللسان "حظظ، وكظظ، وحسا".
3 الجواظ، المتكبر الجافي. الفظاظ: الفظاظة. ويقال: اذلولي: ذلَّ
وانكسر قلبه، والشدا بالدال المهملة، وفي اللسان بالذال المعجمة.
والأول: الحد والبقية، والثاني: الحدة، وهو أيضًا الأذى. والأفظاظ
واحده الفظ، وجاء الشطران في اللسان "فظظ".
4 الخطة: الخطب والأمر المهم. والروح: الراحة والنجاة من غمّ القلب،
وأصله برد نسيم الريح، والكظاظ: الملازمة على الشدة، والشظاظ العود
الذي يجعل في عروة الجوالق. وأنشط العقدة: حلها. يقول: إنه يحل بثاقب
فكره وأصيل رأيه ما تعقَّد من الأمور وأشكل من الأحداث. وورد الشطران
في اللسان "كظظ".
5 الأربة: العقدة. والإشظاظ مصدر قولك: أشظه: جعل فيه الشظاظ. واحتكاء
الأربة أن يحكم شدها. والغشا جمع الغشوة وهو الغطاء، والإلظاظ: لزوم
الشيء والمثابرة عليه. وورد الشطر الأول في اللسان "كظظ".
6 أفتظه: شق عنه الكرش أو عصره منها، والبج: الشق. وبج كرش الناب في
المفارز عند الحاجه إلى الماء وورد هذا الشطر في اللسان "فظظ".
(2/236)
فالتزم في جميعها ما تراه من الظاء الأولى
مع كون الرويّ ظاء, على عزة ذلك مفردًا من الظاء الأول, فكيف به إذا
انضمَّ إليه ظاء قبله1. وقلَّما رأيت في قوة الشاعر مثل هذا.
وأنشد الأصمعي أيضًا من مشطور السريع رائية طويلة التزم قائلها2 تصغير
قوافيها في أكثر الأمر, إلا القليل النزر, وأولها:
عزَّ على ليلى بذي سدَير ... سوء مبيتي ليلة الغُمير3
مقبضًا نفسي في طمير ... تجمع القنفذ في الحجير4
تنتهض الرعدة في ظهيري ... يهفو إلى الزور من صديري5
مثل هرير الهرّ للهرير ... ظمآن في ريح وفي مطير
وأرز قرّ ليس بالقرير ... من لدما ظهر إلى سحير6
حتى بدت لي جبهة القمير ... لأربع غبرن من شهير7
__________
1 في ز: "الأولى" و"قبلها".
2 في العيني 3/ 429 على هامش الخزانة أن قائلها راجز من رجاز طيء. وهذه
الأرجوزة اعندَّها المصنف من مشطور السريع. ويعدّها المتأخرون من مشطور
الرجز, وقد جرى القطع في الجزء الأخير من الخبن.
3 ذو سدير: قرية لبني العنبر، والغمير: موضع بين ذات عرق والبسنان،
وانظر معجم البلدان.
4 الطمير: مصغر الطمر، وهو الثوب البالي. وفي المثل السائر "النوع
الرابع من المقالة الأولى" "طميري" والحجير مصغر الحجر.
5 "تنهض" كذا في د، هـ، ز، وفي ش: "تنتقض". وما أثبت موافق لما في
اللسان "نهض"، ولما في شواهد العيني على هامش الخزانة 3/ 429. والزور:
أعلى الصدر أو وسطه، أو هو الصدر. والمناسب هنا أحد المعنيين الأولين.
6 الأرز: شدّة البرد. يقال: ليلة آرزة. وقد ورد الشطر الأول في اللسان
"أرز"، والشطر الثاني ورد في اللسان, وفي شواهد العيني بعد الشطر
السابق.
تنتهض الرعدة في ظهيري
هكذا:
من لدن الظهر إلى العصير
7 "غبرن" كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "خلون".
(2/237)
ثم غدوت غرضًا من فوري ... وقطقط البلة في
شعيري1
يقذفني مور إلى ذي مور ... حتى إذا ورَّكت من أيبري2
سواد ضيفيه إلى القصير ... رأت شحوبي وبذاذ شوري3
وجردبت في سمل عفير ... راهبة تكنَّى بأم الخير4
جافية معوى ملاث الكور ... تتحزم فوق الثوب بالزنير5
__________
1 غرضًا أي: قلقًا. وفي د، هـ، ز: "حرصًا" وهو محرّف عن "حرضًا" وهو
المريض، والقطقط: صغار البرد -بفتح الراء- وهو المطر المتفرق، وانظر
اللسان "بلل" ففيه الشطر الأخير.
2 المور: الطريق. وقوله: "ذي مور" فكأنه "ذي" ملغاة في التقدير، وكأنه
قال: إلى مور. وقوله: "أييرى" تصغير الأير، وهو الذكر. وقوله: "من
أييري" كذا في اللسان, "ورك" إذ جاء هذا الشطر والشطران بعده. وفي نسخ
الخصائص: "في أبيري". وورد في اللسان "ضوف" "أتير" وهو تصحيف, ويقال:
ورك الشيء: جعله حيال وركه.
3 الضيف في الأصل: جانب الوادي، استعارة للذكر، وسواد الضيفين كأنه
يريد شخص الذكر ومعظمه, وقد قرأها من نسخ من ش: "سواء" أي: وسط. وهو
قريب من "سواد", فإن سواد الشيء شخصه ومعظمه, والقصير تصغير القصر, وهو
مع القصرة لأصل العنق. وقد جمع القصرة وما حولها فأتى بلفظ الجمع.
والبذاذ: سوء الحالة ورثاثتها. والشور: الزينة. وقوله: "شحوبي" كذا في
ش واللسان، وفي د، هـ، ز: "شجوني".
4 جردبت: أي بخلت بالطعام. والجردبة في الطعام أن يستر ما بين يديه في
الطعام بشمال لئلّا يتناوله غيره. والسمل: الخلق من الثياب. وعفير:
كأنه تصغير أعفر, على تصغير الترخيم, أي: مصبوغ بصبغ بين البياض
والحمرة. وانظر اللسان "عفر".
5 ورد الشطر الأول في اللسان "كور". والمعوي: مكان العي, وهو الليّ
والعطف والثنى. يقال: عوى الشيء يعويه، والملاث كذلك من اللوث, يقال:
كار العمامة لفهاولواها. وكأنه يصف غطاء رأسها، وأنها قلقه على رأسها,
لفة جافية: غير رقيقة, والزنير لغة في الزنار. وهو ما يلبسه النصراني
يشده في وسطه, وقد ورد الشطر وما بعده في اللسان "زنر".
(2/238)
تقسم أستيّا لها بنير ... وتضرب الناقوس
وسط الدير1
قبل الدجاج وزقاء الطير ... قالت ترثِّي لي ويح غيري
إني أراك هاربًا من جور ... من هذه السلطان قلت جير2
ما زلت في منكظة وسير ... لصبية أغيرهم بغير3
كلهم أمعط كالنغير ... وأرملاتٍ ينتظرن ميري4
قالت ألا أبشر بكل خير ... ودهنت وسرحت ضفيري5
وأدمت خبزي من صبير ... من صير مصرين أو البحير6
وبزييت نمس مرير ... وعدس قشّر من قشير7
__________
1 الأستي: الثوب المسدَّى. والنير: العلم في الثوب. وهو بكسر النون،
وكأنَّ فتح النون للضرورة والخروج من عيب السناد.
2 "من جور" في اللسان "جير": "للجور", حيث ورد هذا البيت. والسلطان:
قدرة الملك يذكر ويؤنث، كما هنا. وفي اللسان: "هدّة السلطان" والهدّ:
الكسر والظلم.
3 ورد الشطران في اللسان "نكظ". والمنكظة: الجهد في السفر والشدة،
و"أغيرهم" أي: أميرهم، والغير: هو المير أمي إحضار الميرة وهي الطعام
يجلب.
4 الأمعط: من لا شعر على جسده. والنفير: طائر يشبه العصفور.
5 ورد الشطر الأخير في اللسان "ضفر". والضفير تصغر الضفر -بسكون الفاء-
وهو خصلة الشعر.
6 ورد الشطران في اللسان "صير، ومضر", الصير: سمك مملوح يتخذ منه طعام،
و"عصرين" ضبط بكسر الراء وفتح النون على صيغة الجمع، وكأنه أراد: مصر,
فجمعها باعتبار تعدد أقالميها, فكأن كل إقليم منها مصر. وضبط أيضًا
بالتثنية، وهذا هو الأقرب, ويراد البصرة والكوفة، وكان عليه أن يقول:
المصرين، ولكن لم يتهأ له ذلك لضيق الوزن. وقوله: "أو البحير" فالأقرب
أن يريد "البحرين", ويرى بعضهم أنه يريد البحر فصغَّره.
7 ورد الشطر الأول في اللسان "نمس"، والآخر فيه "فشا"، والنمس: الفاسد
المتغير. وفي د، هـ، ز: "نمش" وهو تصحيف. وقوله: "قشر" كذا في ش. وفي
ز، واللسان: "فشى" هو بمعناه.
(2/239)
وقبصات من فغى تمير ... وأتأرتني نظرة
الشفير1
وجعلت تقذف بالحجير ... شطري وما شطري وما شطيري
حتى إذا ما استنتفدت خبيري ... قامت إلى جنبي تمسّ أيري2
فزفَّ رألى واستطير طيري ... وقلت: حاجاتك عند غيري3
حُقِّرت ألا يوم قُدَّ سيري ... إذ أنا مثل الفلتان العير4
حمسًا ولا إضت كالنسير ... وحين أقعيت على قبيري5
أنتظر المحتوم من قديري ... كلا ومن منفعتي وخيري6
بكفه ومبدئي وحوري7
أفلا ترى إلى قلة غير المصغّر في قوافيها, وهذا أفخر ما فيها، وأدله
على قوة قائلها، وأنه إنما لزم التصغير في أكثرها سباطة وطبعًا، لا
تكلفًا وكرهًا؛ ألا ترى أنه
__________
1 القبصات جمع القبصة -وهو بضم القاف وفتحها: ما تناولته بأطراف
أصابعك. والفغي: الرديء، وقد كتب في اللسان بالياء كما ترى. ويقال:
أتأره بصره. أتبعه إياه. والشفير تصغير الشفر، وهو للعين ما نبت عليه
الشعر.
2 ورد الشطر الأخير مع الشطر الأول من البيت التالي في اللسان "رأل".
3 الرأل: ولد النعام، وزفيفه: سرعته. ويقال: زفَّ رأله إذا فزع ونفر,
يريد أن فيه وحشية كالرأل. ويقال: استطير الرجل: فزع، واستطير طيره:
كناية عن فزعه.
4 "حقرت" يدعو عليها بالتحقير. وقوله: "ألا يوم قُدَّ سيري" أي: هلا
كان ما تبغين مني ومراودتك إياي عن نفسي في شبابي وقوتي. والسير: واحد
السيور، وهو ما يقدّ من الجلد، وقد سيره: قد يريد به أنه طليق غير
مقيد, فقدَّ قطع قيده، أو يريد جدته بجدة سيره، والسير: الحمار الوحشي.
والفلتان: الجريء، ويقال: فرس فلتان: نشيد حديد الفؤاد.
5 حمسًا, أي: شدة وقوة ونشاطًا. وهو راجع إلى قوله قبل: "إذ أنا مثل
الفلتان". والنسير: تصغير النسر.
6 القدير تصغير القدر -بفتح الدال- وهو ما قدره الله وقضاء على العبد.
7 الحرر: الرجوع.
(2/240)
لو كان ذلك منه تجشمًا وصنعة لتحامي غير
المصغَّر ليتمَّ له غرضه، ولا ينتقض عليه ما اعتزمه.
وكذلك ما أنشده الأصمعي من قول الآخر:
قالوا ارتحل فاخطب فقلت هلَّا ... إذ أنا روقاي معًا ما انفلاَ1
وإذ أؤل المشي ألْا ألَّا ... وإذ أنا أرى ثوب الصبا رفلاَ2
علي أحوي نديًّا مخضلّا ... حتى إذا ثوب الشباب ولَّى
وانضمَّ بدن الشيخ واسمألَّا ... وانشنج العلباء فاقفعلّا3
مثل نضي السقم حين بلّا ... وحرّ صدر الشيخ حتى صلّا4
على حبيب بان إذ تولَّى ... غادر شغلًا شاغلًا وولَّى5
قلت تعلق فيلقًا هوجلّا ... عجاجة هجاجة6 تألَّى
__________
1 روقاي: قرناي, والانفلال: الائتلام, يريد: قوة الشباب واجتماع أسباب
الحمية والأنفة، وضرب الروقن مثلًا لأنَّ الحيوان يدفع بهما.
2 أوّل المشي: أسرع فيه واهتز, ويقال: ثوب رفل: طويل. وأصل ذلك في
الفرس الرفل، وهو الطويل الذيل.
3 البدن مصدر بدن, وبدن من بابي كرم ونصر إذا سمن. ويريد به هنا: الشحم
الذي به يكون سمينًا، وانضمامه: تقبضه ونقصه، يريد هزاله. واسمألّ:
ضمر. وانشنج: تقبض, والعلباء: عصب العتق. واقفعل: يبس من الكبر. وقد
ورد الشطر الأول في اللسان في "بدن"، والشطر الأخير مع ما بعده في
"نضا".
4 "نضي" كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "بطيّ", والنضي: الذي أبلاه السفر.
ويقال: بلّ من عرضه: شفى ونجا. وحر صدره: اشتدت حرارته وصلا الألف فيه
للإطلاق، يقال: صل صليلًا: صوت.
5 كأنه يريد بالحبيب المولى الشباب.
6 الفيلق: الصخابة، والهوجل: المرأة الفاجرة، وشدده إجراء للوصل مجرى
الوقف. والعجاجة: الصياحة. والهجاجة: الحمقاء، ويقال لذكر أيضًا، وهو
الوارد في المعاجم، وتألَّى أصله تتألَّى, أي: تقسم. والمقسم عليه ما
يأتي في البيت بعد. وقوله: "قلت تعلق" البيت جواب قوله قبل: "إذا ثوب
الشباب ولّى" وورد البيت في اللسان في "فلق".
(2/241)
لأصبحنّ الأحقر الأذلَّا ... وأن أعلَّ
الرغم علَّا علَّا1
فإن أقل يا ظبي حلَّا حلَّا ... تقلق وتعقد حبلها المنحلّا2
وحملقت حوليّ حتى احولَّا ... مأقان كرهان لها واقبلّا3
إذا أتت جارتها تفلَّى ... تريك أشغى قلحًا أفلّا4
مركَّبًا راو وله مثعلّا ... كأن كلبًا لثقًا مبتلّا5
وغلفة معطونة وجلّا ... أنداه يوم ماطر فطلّا6
وعلهبا من التيوس علّا ... يغل تحت الردن منها غلّا7
منتوفة الوجه كأن ملاّ ... يمل وجه العرس فيه ملاّ8
كأن صابًا آل حتى امطلّا ... تسفه وشبرما وخلّا9
إن حلَّ يومًا رحله محلّا ... حَمْوٌ لها أزجت إليه صِلّا10
__________
1 ورد الشطر الأخير في اللسان، وقال عقبه: "جعل الرغم بمنزلة الشراب,
وإن كان الرغم عرضًا، كما قالوا: جرعته الذل. وعداه إلى مفعولين".
2 في ز: "يا طمر" بدل "يا ظبي" والطمر: الثوب البالي، ناداها بالظبي
تهكمًا، وناداها بالطمر لبلائها وقدمها, و"حلّا" أي: تحللي مما عزمت
عليه، يقال لمن أقسم على شيء: حلّا أي: تحلل من يمينك، وتقلق: تضجر،
وعقد حبلها كأنها تريد الرحيل والانصراف عنه.
3 حملق إليه: نظر نظر شديدًا. والإقبيلال من القبل, وهو إقبال إحدى
الحدقتين على الأخرى. وكرهان: مكروهان. وورد البيت في اللسان "كره".
4 أشغى وصف من الشغاء, وهو اختلاف نبتة الأسنان بالطول والقصر.
والأفلّ: المتثلم المتكسر.
5 الراوول: السن الزائدة لا تنبت على نبتة الأضراس. والمثعل من الثعل,
وهو دخول سن تحت أخرى. وورد الشطر الأول مع ما قبله في اللسان "رول".
واللثق: المبتل النديّ.
6 الغلفة: عشبة تنفع في مائها الجلود فيزول ما عليها. والجل: كأنه يريد
به ما تلبسه الدابة لتصان به.
7 العلهب: التيس من الظباء, والعلّ: الضخم من التيوس. ويغل يدخل, يقال:
غله: أدخله. والردن: أصل الكم. رود الشطر الأول في اللسان "علل".
8 الملل: الرماد الحار الذي يحمي ليدفن فيه الخبز لينضج، ويقال: مل
الشيء في الجمر، أدخله فيه.
9 آل: خثر، وامطلّ: امتد، وورد الشطر الأول في اللسان "مطل". والشبرم:
نبات له حسب كالعدس.
10 حمو المرأة فريب زوجها؛ كأبيه وأخيه. وأزجت: ساقت. والعمل: الداهية،
وأصله: الحية. يريد أنها آذنه أبلغ إيذاء.
(2/242)
وعقربًا تمتلّ ملًّا ملَّا ... ذاك وإن ذو
رحمها استقلّا1
من عثرة ماتت جوى وسلّا ... أو كثر الشيء له أو قلّا
قالت لقد أثرى فلا تملَّى ... وإن تقل يا ليته استبلّا
من مرض أحرضه وبلّا ... تقل لأنفيه ولا تعلَّى2
تسر إن يلق البلاد فلّا ... مجروزة نفاسة وغلّا3
وإن وصلت الأقرب الأخلّا ... جنت جنونًا واستخفت4 قلّا
وأجللت من ناقع أفكلّا ... إذا ظبي الكنسات انغلّا5
تحت الإران سلبته الظلّا ... وإن رأت صوت السباب علَّى6
سحابة ترعد أو قسطلّا ... أجت إليه عنقًا مثلّا7
أج الظلم رعته فانشلّا ... ترى لها رأسا وأي قندلّا8
__________
1 تمتل: تسرع, واستقلَّ من العثرة: نهض منها وارتفع.
2 هذا البيت والشطر الذي قبله في اللسان "علا", وتعلّ: ارتفع وبرأ من
مرضه, وقوله: "لأنفيه" كأنها تريد: رغم لأنفيه، تدعو عليه بالذل.
وأنفاه: منخراء، أي: جانبا الأنف.
3 الفلّ: الأرض الفقر. ويقال: أرض مجروزة. لا تثبت. والنفاسة: مصدر
قولك: نفس -من باب فرخ- عليه الشيء: لم يره أهلًا له. وقوله: "إن يلق
البلاد" في ز: "أن يلقي البلاد" وورد البيت في اللسان "حرز".
4 الأخل: المعدم المحتاج. والقل: الرعدة.
5 "أجللت" كذا في النسخ، وكأن الصواب: "جللت" أي: غشيت، والأفكل:
الرعدة، وكأنه يريد بالناقع السم، وكأنّ الكلام على القلب, أي: جللت
سمًّا من الأفكل الذي اعتراها، والكنسات جمع الكنس -بوزن الكتب- جمع
الكناس، وهو ما يستكن فيه الوحش من الظباء والبقر. وأنغل دخل. ورد
الشطر الأخير مع ما بعده في اللسان "كنس".
6 الإران: كناس الوحش.
7 القسطل: الغبار. وأجّ: أسرع في سيره، ومثلّا: سريعًا.
8 انشل مطاوع شله أي: طرده. والوأي: الشديد الخلق: والقندل: الضخم،
وثقله للضرورة.
(2/243)
لو تنطح الكنادر العتلّا ... للكندر
الزوازي الصملّا1
الصتم والشنظيرة المتلّا ... فمضت شئون رأسه وأفتلّا2
تقول لأبنيها إذا ما سلّا ... سليلة من سرق أو غلّا3
أو فجعا جيرتها فشلّا ... وسيقة فكرّشا وملّا4
أحسنتما الصنع فلا تشلّا ... لا تعدما أخرى ولا تكلّا5
يا ربِّ ربَّ الحج إذ أهلّا ... محرمه ملبيًا وصلَّى
وحلّ حَبْلَى رحله إذ حلّا ... بالله قد أنضى وقد أكلّا
وأنقب الأشعر والأظلّا ... من نافه قد انضوى واختلّا6
يحمل بلو سفر قد بلَّى ... أجلاده صيامه وألّا7
__________
1 الكنادر: الغليظ من حمر الوحش؛ والعتل: الصلب الشديد, والكندر:
الغليظ أيضًا, والزوازي: القصير الغليظ. والصمل: الشديد الحلق العظيم.
وقد ورد الشطر الأول مع الشطر الأخير من البيت التالي في اللسان "فلل".
2 الصتم: الضخم الشديد. والشنطيرة: البذيء السيئ الخلق. والمنثل:
الشديد. وافتل: سلم وتكسر. والشئون: مجاري الدموع إلى العين.
3 اليسل: السرقة. والسليلة: مصغر السلة: وهي اسم السرقة، والغلول
الخيانة.
4 الشل: الطرد. والوسيقة: القطعة من الإبل المجتمعة, فإذا سرقت ذهبت
معًا. وكرشا: أي: طبخًا اللحم في الكرش، وملّا: وضعاه في الملة وهي
الجمر الحار. وانظر اللسان "كرش" ففيه الشطران.
5 لا تشلّا: لا يصيبكما الشلل.
6 الأشعر: ما استدار بالحافر من منتهى الجلد حيث تنبت الشعرات حوالي
الحافر. والأظل: ما تحت منسم البعير. والنافه: البعير المعيي الكال.
وانضوى: هزل، والوارد الثلاثي. واختلّ: هزل ونحف. وفي د، هـ، ز:
"انطوى" في مكان "انضوى".
7 بلو السفر: الذي أبلاه السفر وأهزله. وأجلاده: شخصه, وبلاها الصوم:
أهزلها. وقوله: "وألا يزال نضو غزوة" أي: بلاء أيضًا كثرة غزوه وجهاده
في سبيل الله.
(2/244)
يزال نضو غزوة مملّا ... وصّال أرحام إذا
ما ولَّى1
ذو رحم وصّله وبلّا ... سقاء رحم منه كان صلّا2
وينفق الأكثر والأقلّا ... من كسب ما طاب وما قد حلّا
إذا الشحيح غلّ كفًّا غلّا ... بسط كفيه معًا وبلّا3
وحلّ زاد الرحل حلًّا حلّا ... يرقب قرن الشمس إذ تدلَّى
حتى إذا ما حاجباها انفلَّا ... تحت الحجاب بادر المصلَّى4
أحذى القطيع الشارف الهبلّا ... فجال مخطوف الحشَى شملّا6
حتى إذا أوفى بلالًا بلّا ... بدمعه لحيته وانغلّا7
بها وفاض شرقًا فابتلّا ... جيب الرداء منه فارمعلّا8
وحفز الشأنين فاستهلَّّا ... كما رأيت الوشلين انهلّا9
__________
1 "نضو غزوة"، كذا في ش، وكتب في هامشها: "نقض", وكذا هو "نقض" في د،
هـ، ز. والنقض: المهزول.
2 "وصله" الضمير المنصوب يعود على الرحم، والمعروف فيها التأنيث، وكأنه
أراد بالرحم قرب النسب فذكر. يقول: إنه يبل سقاء الرحم بالصلة، وهذا
استعارة، جعل للرحم سقاء وقرابة ووصف أن سقاء الرحم كان قد يبس حتى صوت
من القطيعة.
3 ورد هذا البيت في اللسان "بسط".
4 "انغلّا تحت الحجاب" أي: دخلا تحته، يريد غروب الشمس.
5 الخل: الطريق في الرمل، وتسدّاه: علاه وركبه، ونضوه: بعيره المهزول.
6 القطيع: السوط. والشارف: المسنّ من النوق، والشمل: السريع. ويقال:
أحذاه: أعطاه. أراد أنه ينحي على المطية بالسوط, فكأنه يعطيها إياه.
7 "بلالًا" يبدو أنه محرف من "ألالا" وألال: جبل بعرفات، يريد أنه وصل
إلى عرفات، فهناك يبكي من ذنبه ويدعو الله سبحانه.
8 أرمعلّ: ابتلّ.
9 الشأنان: عرقان يخدران من الرأس إلى الحاجبين ثم إلى العينين, وقوله:
"الشأنين" كذا في ش. وفي د، هـ، ز:"الشأنان", والوشل: الماء القليل
يتحلّب من صخرة أوجبل يقطر قليلًا قليلًا.
(2/245)
حتى إذا حبل الدعاء انحلّا ... وانقاض زبرا
جاله فابتلّا1
أثنى على الله علا وجلّا ... ثم انثنى من بعد ذا فصلَّى2
على النبي نهلًا وعلّا ... وعمّ في دعائه وخلّا3
ليس كمن فارق واستحلّا ... دماء أهل دينه وولَّى
وجهته سوى الهدى مولَّى ... مجتنبًا كبرى الذنوب الجلّى
مستغفرًا إذا أصاب القلَّى ... لما أتى المزدلفات صلَّى4
سبعًا تباعًا حلهن حلّا ... حتى إذا أنف الفجير جلَّى
برقعه ولم يسرّ الجلّا ... هب إلى نضيه فعلَّى5
رحيله عليه فاستقلّا
التزم اللام المشددة من أولها إلى آخرها؛ وقد "كان"6 يجوز له معها7
نحو: قبلًا ونخلًا، ومحلًا، فلم يأت به.
ومثله ما رويناه لأبي العالية من قوله:
إني امرؤ أصفي الخليل الخلّه ... أمنحه ودّي وأرعى إلَّه8
وأبغض الزيارة المملَّه ... وأقطع المهامه المضلَّه
__________
1 الزبر: طيّ البئر بالحجارة، والجال: جانب البئر، وانقاض: تصدَّع
وتشقق كأنما الدموع كانت محجوزة فتصدع حجازها وحجابها, فانسكبت فابتل
الرجل منها, وورد البيت في اللسان "زبر".
2 "انثنى" كذا في د، هـ، ز وفي ش: "ثنى", وقد ورد الشطر الأخير مع ما
بعده في اللسان "علل".
3 خل في دعائه: خصص. وورد في اللسان "خلل" هذا البيت:
قد عمّ في دعائه وخلّا ... وخطّ كانباه واستملّا
4 يريد بقوله: "صلى سبعًا": صلى العشاء وسنتها ووترها.
5 الجل -بالضم والفتح- ما تلبسه الدابة لتصان به، يريد أنه لا يزال بعض
الضلام، فهو لم يلق جله كله حتى ينكشف ظهره.
6 سقط في ش
7 في د، هـ، ز: "فيها".
8 الخلة: الود والصداقة، والإل: الحلف والعهد.
(2/246)
لست بها لركبها تعلَّه ... إلّا نجاء
الناجيات الجلّهْ1
على هبلِّ أو على هِبِلَّهْ ... ذات هباب جسرة شملّه2
ناجية في الخرق مشمعلّهْ ... تنسلُّ بعد العقب المكلّه3
مثل انسلال العضب من ذي الخلَّه ... وكاشح رقيت منه صلّه4
بالصفح عن هفوته والزلَّه ... حتى استللت ضغنه وغلّه5
وطامح ذي نخوة مدلّه ... حملته على شباة ألّه6
ولم أملَّ الشر حتى ملَّه ... وشنج الراحة مقفعلَّه7
ما إن تبضّ كفه ببلّه ... أفاد دثرًا بعد طول خلّه8
وصار ربَّ إبل وثلَّه ... لما ذممت دقه وجلّه9
تركته ترك ظبيٍّ ظلّه ... ومعشر صيد ذوي تجلّه
ترى عليهم للندى أدلّه ... سماؤهم بالخير مستهلّه
__________
1 الجملة: المسانّ. واحدها جليل؛ كصبي وصبية.
2 الهباب: النشاط، والجمرة: الماضية.
3 الخرق: القفر والأرض الواسعة تتحرق فيها الرياح، والمشمعلة: النشيطة،
والعقب: جمع العقبة، وهي النوبة، ويراد بها مسافة من السير.
4 العضب: السيف، وذو الخلة: الغمد. والخلة: بطانة يغشى بها الغمد.
والكاشح: مضمر العداوة، وصله: حقده وبغضته، وأصل الصل للجية لا تنفع
فيها الرقبة.
5 في د، هـ، ز: "امتألت" ولم يظهر وجهها.
6 الآلة: الحربة. وشباتها: حدّها.
7 شنج الراحة: منقبضها. وهذا كناية عن البخل. والانفعلال: البيس.
و"مقفعلة" كأنه حال من الراحة أي: حال كونها مقفعلة، وقد يكون وصف "شنج
الراحة", فالأصل: "مقفعلة" بهاء الضمير في آخره، وهو يعود على الراحة
على تأويلها بمذكر كالعضوء.
8 البلة: الخير والرزق. والدثر: المال الكثير، والخلة: الحاجة.
9 الثلة: القطعة من الغنم.
(2/247)
أوفى بهم دهر على مزلّه ... ثم تلفّاهم
بمصمئلّه1
فبدّلت كثرتهم بقلّه ... وأعقبت عزتهم بذلّه
وغادروني بعدهم ذا غلَّه ... أبكيهم بعبرة منهلّه
ثم صبرت واعتصمت بالله ... نفسًا بحمل العبء مستقلَّه2
ودول الأيام مضمحلّه ... يشعبها ما يشعب الجبلّه
تتابع الأيام والأهلًّه
وأنشدنا أبو علي:
شلَّت يدًا قارية فرتها ... وفقئت عين التي أرتها3
مسك شبوب ثم وفَّرتها ... لو خافت النزع لأصغرتها4
فلزم التاء والراء، وليست واحدة منهما بلازمة. والقطعة هائية لسكون ما
قبل الهاء, والساكن لا وصل له. ويجوز مع هذه القوافي ذرها5 ودعها.
وأنشد ابن الأعرابي ليزيد بن الأعور الشنيّ وكان أكرى بعيرًا له, فحمل
عليه محملان أوّل ما علمت المحامل. وهو7 قوله:
__________
1 المزلة -بفتح الزاي وكسرها- موضع الزلل: والمصمئلة: الداهية.
2 تقرأ "بالله" باختلاس فتحة اللام في لفظ الجلالة.
3 فرشها: قدرتها وعملها. وهو حديث عن دلو من جلد، وانظر اللسان "فرى".
4 الشبوب: الشاب من الثيران، ومسكه: جلده، ويقال: أصغر القربة: خرزها
صغيرة، و"مسك شبوب" مفعول "أرتها" قبله. ويقال: "وفر المزاد إذا لم
يقطع من أديمها فضلته, يدعو على المرأة التي أرت الخارزة مسك الشوب,
فعملت منه الدلو التي يستقي بها: وينزع من البئر.
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "خذها"، وهذا على أن الرويّ الهاء، وهذا
مذهب المتقدمين، ويرى بعض العروضين أن الرويّ التاء، فلا يجوز حذفها
ونحوه. وانظر مقدمة اللزوميات للمعري.
6 المحمل -بزنة مجلس ومقود- شقان على البعير، يركب في كل شقٍّ راكب
يكون عديلًا للآخر. وقد عملت في زمن الحجاج الثقفي, ونسبت إليه. وانظر
اللسان "حمل".
7 كذا في ش. وفي د، ز: "هي".
(2/248)
لما رأيت محمليه أنَّا ... مخدّرين كدت أن
أجنَّا1
قرّبت مثل العلم المبنَّى ... لا فاني السنِّ وقد أسنَّا2
ضخم الملاط سبطًا عبنَّا ... يطرح بالطرف هُنَا وهَنّا3
وافتنَّ من شأو النشاط فنَّا ... يدقّ حنو القتب المحنَّى5
إذا علا صوَّانة أرنَّا ... يرمعها والجندل الأغنَّا6
ضخم الجفور سهبلًا رفنَّا ... وفي الهباب سدمًا معنَّى7
كأنما صريفه إذ طنَّا ... في الضالتين أخطبانٌ غنَّى8
__________
1 "أنا" من الأنين، يريد أنهما صوتًا, وجاء في آخر اللسان "هنا": "هنا"
بدل "أنا", وهو ظرف في معنى "هنا", والمفعول الثاني على عدَّ هو
"مخدرين". و"مخدرين" أي: عليهما حدور وستور.
2 العلم: القصر، والمبني: المبني, شبه بعيه بالقصر المبني, وقد أورد
صاحب اللسان البيت في "بنى" وفسره.
3 يقال: جمل عين: ضخم، والملاط: الجنب.
4 المسحل والمثبَّى: ضربان من الحبال، فالمسحل: الحبل يفتل وحده، وكأن
المثنى ما يفتل مرتين.
5 المحنَّى: وصف من حنى الشيء: حناه وعطفه. وورد الشطر الأخير والشرط
الذي بعده في اللسان "حنى"، وحنوه: ما أعوج منه.
6 الصوّانة: ضرب من الحجارة شديد، وجمعه صوّان. وفي اللسان "حنا"، وز
"صوانه". واليرمع: حجارة رخوة, وقد استعمل "أرن" متعدية، أي: جعل
اليرمع والجندل يرن ويصبح.
7 الجفور: جمع جفرة -بضم الجيم- وهو جوف الصدر. وجفرة الفرس: وسطه،
والمعروف جمع الجفرة على جفر وجفار. والسهيل: الجرئ. وفي: ز، "سجلّا"
وهو الضخم. والرفن: الطويل الذيل، وهو مبدل من الرفل، والسدم: الهائج.
والمعنى: الذي حبس ومنع الضراب، فهو أقوى له.
8 الضالتان: تتنيه الضالة، وهي ضرب من الشجر، والأخطبان: طائره, وقوله:
"في الضالتين" متعلق بقوله: "عنى", ويقرب من هذا قول بشر في الأخطب:
إذا أرقلت كأن أخطب ضالة ... على خدب الأنياب لم يتئلم
وانظر التكملة للصاغاني "خدب".
(2/249)
مستحملًا أعرف قد تبنّى ... كالصدع الأعصم
لما اقتنّا1
يقطع بعد الفيف مهوأنّا ... وهو حديد القلب ما ارفأنّا2
كأن شنًا هزِمًا وشنّا ... قعقعه مهزج تغنَّى3
تحت لبان لم يكن أدنَّا4
ألتزم النون المشددة في جميعها على ما تقدم ذكره.
وقال آخر:
إليك أشكو مشيها تدافيا ... مشي العجوز تنقل الأثافيا5
فالتزم الفاء وليست واجبة.
وقال آخر:
كأن فاها واللجام شاحيه ... جنوا غبيط سلس نواحيه6
__________
1 "مستحملًا أعرف" أي: حاملًا سنامًا، ويقال: سنام أعرف، أي: طويل ذو
عرف، وتبنَّى: سمن، والصدع: الوعل الشاب القوي، والأعصم: ما في ذراعيه
أو أحدهما بياض وسائره أسود أو أحمر. وانتن. انتصب على القنة، وهو
افتعال منها, وجاء الشطر الأخير في اللسان "فتن".
2 الفيف: المكان المستوي, أو المفازة لا ماء فيها. والمهوان: ما اطمأنّ
من الأرض واتسع. ورفأنّ: نفرتم وسكن وضعف واسترخى.
3 الشنّ: القرية الخلق الصغيرة. والهزم من قولهم: تهزم السقاء إذا يبس
فتكسر، أو من قولهم: فرس هزم الصوت، يشبه صوته بصوت الشن. وذلك أنه إذا
كان متشققًا كان له صوت.
4 اللبان: الصدر، وأدنّ وصف من الدنن، وهو انحناء في الظهر.
5 التدافي: شيء جاف: أو هو المشي في شق.
6 شاحيه: فاتحه. والغبيط: رجل يوضع على ظهر البعير.
(2/250)
التزم الألف والحاء والياء, وليست واحدة
منهنَّ لازمة؛ لأنه قد يجوز مع هذه القوافي نحو:1 يحدوه ويقفوه, وما
كان مثله. وأنشد أبو الحسن:
ارفعن أذيال الحقيّ وأربعن ... مشي حييات كأن لم يفزعن2
إن تمنع اليوم نساء تمنعن
فالتزم العين وليست بواجبة.
وقال آخر:
يا رُبَّ بكر بالرداقى واسج ... اضطره الليل إلى عواسج2
عواسج كالعجز النواسج
التزم الواو والسين وليست واحدة منهما بلازمة.
وقال آخر:
أعينيّ ساء الله من كان سرّه ... بكاؤكما ومن يحبّ أذاكما4
ولو أن منظورًا وحبّة أسلما ... لنزع القذى لم يبرئا لي قذاكما
التزم الذال والكاف, وقالوا: حبة, امرأة هويها رجل من الجن يقال له
منظور، وكانت5 حبة لتطبب بما يعلمها منظور.
__________
1 سقط في د، هـ، ز.
2 "ارفعن" في د، هـ، ز: "رفعن". والحقي جمع الحقو. وهو هنا الإزار،
وأصله الكشح؛ حيث يعقد الإزار، "تمنع" في د، هـ، ز: "يمنع", و"تمنعن"
في الأصول السابقة: "يمنعن"، والرجز لغلام من بني جذيمة، وهو يسوق بأمه
وأختين له, وقد هرب بهن من جيش خالد ابن الوليد حين أغار على بني جذيمة
بعد فتح مكة. وانظر السيرة على هامش الروض 2/ 286.
3 البكر: الفتى من الإبل. والردافي: الحداة وأعوانهم، والواسج: وصف من
الوسج، وهو ضرب من السير. والعواسج: جمع العوسجة وهي ضرب من الشجر،
ووردت الأشطار الثلاثة في اللسان "عسج".
4 ورد البيتان في اللسان "حبب".
5 في د: هـ، ز: "فكانت".
(2/251)
وأنشد الأصمعيّ لغيلان الربعي:
هل تعرف الدار بنعف الجرعاء ... بين رحا المثل وبين الميثاء1
كأنها باقي كتاب الإملاء ... غيَّرها بعذي مرّ الأنواء
نوء الثريَّا أو ذراع الجوزاء ... قد اغتدى والطير فوق الأصواء2
مرتبئات فوق أعلى العلياء ... بمكرب الخلق سليم الأنقاء3
طرف تنقيناه خير الأفلاء ... لأمهاتٍ نسبت وآباء4
ثمَّت قاظ مرفها في إدناء ... مداخلًا في طولٍ وأغماء5
وفي الشعير والقضيم الأجباء ... وما أراد من ضروب الأشياء6
دون العيال وصغار الأبناء ... مقفى على الحي قصير الأظماء7
__________
1 نعف الجرها ورحا المثل والميثاء: مواضع. وفي ياقوت: أن رحا المثل
موضع بنجد.
2 "أو ذراع" كذا في د، هـ، ز، وفي ش: "وذراع": والذراع: نجم من نجوم
الجوزاء. والأصواء: جمع الصوى، وهو جمع الصوّة، وهو حجر يكون علامة.
وورد الشطران في اللسان "ذرع".
3 مرتبئات: وصف من ارتبأ إذا أشرف. ومكرب الخلق: شديد قوي. أراد به
فرسًا يقال للحيوان الوثيق المفاصل: مكرب الخلق. والأنفاء من العظام:
ذوات المخ، واحدها نقي، بكسر النون وسكون القاف، وورد الشطر الأول مع
ما قبله في اللسان "ربأ".
4 الطرف: الكريم من الخبل. والأفلاء جمع الفلق، وهو المهر حين يفطم.
5 "قاظ" من القيظ، وفي ز: "قاظ" وهذا غير ظاهر هنا، فإن معنى "قاظ"
مات, والطول: حبل طويل يشد في إحدى يدي الفرس ليرعى. والآغماء: واحدها
الغمى، وهو ما يغطَّى به الفرس ليعرق فيضمر، وورد الشطر الأخير في
اللسان "غما".
6 القضيم: شعير الدابة، والأجباء كأنه يريد المختار: ولم يظهر وجه هذه
الكلمة.
7 المقفى: المكرم المؤثر، والأظماء: جمع الظلم، وهو ما بين الشربين أو
ما بين الوردين، وقد ورد الشطر الأخير في اللسان "ظمأ".
(2/252)
أمسوا فقادوهنّ نحو الميطاء ... بمائتين
بغلاء الغلاء1
أوفيته الزرع وفوق الإيفاء ... قد فزّعوا غلمانها بالإيصاء2
مخافة السبق وجدّ الأنباء ... فلحقت أكبادهم بالأحشاء
باتت وباتوا كبلايا الأبلاء ... مطلنفئين عندها كالأطلاء3
لا تطعم العيون نوم الإغفاء ... حتى إذا شقّ بهيم الظلماء
وساق ليلًا مرجحنّ الأثناء ... غبره مثل حداء الحداء4
وزقت الديك بصوت زقاء ... ثمت أجلين وفوق الإجلاء5
__________
1 الميطاء: الأرض المنخفضة. وهو هنا يصف حلبة الخيل، وقد كان الميطاء
مضمارًا لها. وقوله: بمائتين" أي: بمائتي غلوة، وهي مقدار رمية سهم.
والغلاء: أن يرفع يديه بالسهم يرميه ليبلغ أقصى الغاية، الغلا بعيد
الغلوّ بالسهم. يريد أن المسافة التي أعدت لجري الخيل كانت مائتي غلوة.
وورد الشطر الأول في اللسان "وطأ" والشطران فيه في "غلا".
2 "أوفينه الزرع" كذا في اللسان "وفي". وفي ش: "أوفيت الزرع" وفي ز:
"أوفيت الدرع" وكأنَّ الزرع يراد به تربيته وإنياته والقيام عليه،
ويبدو إن صح هذا أن هذا الشطر محله بعد قوله: "مقفى على الحيّ...."
وأنه زحزح عن مكانه، وقوله: "قد فزعوا غلمانها بالإيصاء" أو إن أصحاب
خبل السباق أوصوا الغلمان الموكلين بها أن يعنوا بها هذه الليلة
ويعدوها للغد. وقوله: "فزعوا" كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "فزقوا", وهو من
الفرق -بالتحريك- بمعنى "فزعوا"، وفي حديث أبي بكر -رضي الله عنه: أبا
لله تفرقني. وانظر اللسان "فرق".
3 البلايا: جمع البلية, وهي الراحلة التي أعيت وصارت نضوا هالكًا.
والأبلاء: جمع البلور وهي التي أبلاها للسفر وأهزلها. وكأنَّ الإضافة
للمبالغة، كما يقال: عابد العابدين. وتطلق البلية أيضًا على الناقة
التي كانت تعقل في الجاهلية عند قبر صاحبها لا تعلف ولا تسقى حتى تموت،
كانوا يقولون: إن صاحبها يحشر عليها، ويقال: أطلنفأ لزق بالأرض, أو
استلقى على ظهره. والأطلاء جمع الطلا، وهو الولد من ذوات الحف أو
الظلف. وورد الشطران في اللسان "بلا".
4 أرجحنّ: مال. وليل مرجحن: ثقيل واسع. وغير الليل: آخره.
5 أنث فعل الديك على إرادة الدجاجة. وانظر اللسان "ديك".
(2/253)
مستويات كنعال الحذاء ... فهنّ يعبطن جديد
البيداء1
ما لا يستوي عبطه بالرفاء ... يتبعن وقعًا عند رجع الأهواء2
بسلبات كمساحي البناء ... يتركن في متن أديم الصحراء3
مساحبًا مثل احتفار الكماء ... وأسهلوهنّ دقاق البطحاء4
يثرن من أكدارها بالدفعاء ... منتصبًا مثل حريق القصباء5
كأنها لما رآها الرآء ... وأنشرتهنّ علاة البيداء6
ورفع اللامع ثوب الإلواء ... عقبان دجن في ندى وأسداء7
كل أغرّ محكٍّ وغراء ... شادخة غرتها أو قرحاء8
__________
1 "يعبطن" كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "يخبطن"، ويقال: عبط الأرض: حفر
منها موضعها لم يحفر من قبل.
2 "ما لا يستوي عبطه بالرفاء" يريد: أنهن يحدثن في الأرض حفرًا وشفوقًا
بعسر تسويتها. وقوله: "الأهواء" كأنه جمع الهيء، وهو صوت للزجر، كأنهم
كانوا يزجرونها بذلك. وقد جاء هكذا في د، هـ، ز، وفي ش "الأهراء", ولم
يظهر وجهها. وفي ط: عطه.
3 فرس سلب القوائم: طويلها. والمساحي: جمع المسحاة, وهي ما يسحى به
الطين ويقشر ويجرف.
4 الكماء هنا: جاني الكمأة. وقوله: "وأسهلوهن دقاق البطحاء" أي: أسهلوا
بهنَّ في دقاق البطحاء, أي: نزلوا بهنَّ السهل في ذلك, فحذف الحرف
وأوصل. وانظر اللسان "سهل".
5 الدقعاء: التراب الدقيق. وقوله: "من أكدارها" كذا في ش. وفي ز:
"أكدرها", ويريد بالمنتصب الغبار: المتماسك المجتمع.
6 ورد الشطر الأوّل في الجزء الأول من هذا الكتاب في ص281، وقد رسم فيه
"الرواء" هكذا بصيغة الجمع، وجاء في اللسان "رأي" مضبوطًا بصيغة الفعال
مبالغة الرائي، ففيه: "ورجل راء: كثير الرؤية، وأنشد هذا البيت.
والعلاة: الصخر. وأنشرتهن: أظهرتهن ورفعتهن.
7 يقال: ألوى بثوبه إذا لمع به وأشار، فاللامع هو الذي يشير بثوبه، وهو
يشير السباق. والسدي: ندى الرزع.
8 الأغرّ: الذي في جبيته غرة, أي: بياض. والمحك: الذي يلج في المدر.
والغرة الشادخة: التي تتسع في الوجه وتسبل, والقرحاء تكون قدر الدرهم.
(2/254)
قد لحقت عصمتها بالأطباء ... من شدة الركض
وخلج الأنساء1
كأنما صوت حفيف المعزاء ... معزول شذان حصاها الأقصاء2
صوت نشيش اللحم عند القلاء3
اطَّرد4 جميع قوافيها على جر واضعها إلّا "بيتًا واحدًا وهو"5 قوله:
كأنها لما رآها الراء
فإنه مرفوع الموضع, وفيه مع ذلك سر لطيف يرجعه إلى حكم المجرور
بالتأويل.
وذلك أن لمَّا مضافة إلى قوله: رآها الرآء, والفعل لذلك مجرور الموضع
بإضافة الظرف الذي هو "لمّا" إليه, كما أن قول الله تعالى: {إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} 6 الفعل الذي هو "جاءَ" في موضع جر
بإضافة الظرف "الذي" هو إذا إليه. وإذا كان كذلك, وكان صاحب الجملة
التي هي الفعل والفاعل إنما هو الفاعل, وإنما جيء بالفعل له ومن أجله,
وكان أشرف جزءيها وأنبههما7, صارت الإضافة "كأنها"8 إليه, فكأن الفاعل
لذلك في موضع جر, لا سيما وأنت لو لخَّصت الإضافة هنا وشرحتها لكان
تقديرها: كأنها وقت رؤية الرآء لها. " فالرآء"9 إذًا مع الشرح مجرور لا
محالة.
__________
1 "بالأطباء" كذا في اللسان "عصم" وفي ش، ج، هـ، ز، "بالأبطال"
والأطباء: جمع الطبي، وهو لذوات الحافر كالتثدي للمرأة وكالضرع لغيرها.
والعصمة: بياض في الذراع. والأنساء جمع النساء، وهو عرق يخرج من الورك
فيستبطن الفخذين, ثم يمر بالعرقوب حتى يبلغ الحافر، وخلجها: جذبها.
2 "معزول" بدل من "المعزاء" وهو الأرض الصلبة، والشذان: المتفرق.
والأقصاء جمع القاصي أو القصي، وهو وصف الحصى.
3 التشيش: صوت الغليان.
4 في د، هـ، ز: "يطرد".
5 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز: وثبت في ش.
6 آية: 1، سورة النصر.
7 في ز: "أثبتهما".
8 في د، هـ، ز: "كأنما هي".
9 ما بين القوسين سقط في د، هـ، ز, وثبت في ش.
(2/255)
نعم، وقد ثبت أن الفعل مع الفاعل في كثير
من الأحكام والأماكن كالشيء الواحد.
وإذا كان الفعل مجرور الموضع, والفاعل معه كالجزء منه, دخل الفاعل منه
في اعتقاد تلخيصه مجرورًا في اللفظ موضعه, كما أنّ النون من إذن لما
كانت بعض حرف جرى عليها ما يجري على الحرف المفرد من إبداله في الوقف
ألفًا, وذلك قولهم: لأقومنَّ إذًا كما تقول: ضربت زيدًا, ومع النون
الخفيفة للواحد: إضربًا. فكما أجريت على بعض الحرف ما يجري على جميعه
من القلب كذلك أجريت على بعض الفعل -وهو الفاعل- ما يجري على جميعه من
الحكم.
ومما أجري فيه بعض الحرف مجرى جميعه قوله 1:
فبات متصبًا وما تكردسا2
فأُجري "منتصبًا"3 مجرى فخذ, فأسكن ثانيه, وعليه حكاية الكتاب 4: أراك
منتفخًا, ونحو من قوله: "لما رآها الرآء" في توهم جر الفاعل قول5 طرفة:
وسديف حين هاج الصنبر
كأنه أراد: الصنبر, ثم تصور معنى الإضافة, فصار إلى أنه كأنه قال:
حين هيج الصنّبر ثم نقل الكسرة على حدّ مررت ببكر, وأجرى صنَبِر من
الصنّبر مجرى بكر على قوله: أراك منتفخًا.
__________
1 أي: العجاج. وانظر شرح شواهد الشافية 32.
2 بعده:
إذا أحس نبأة توجسًا
وقوله: "منتصبًا" كذا في اللسان "نصب", وفيه في كردس ونصص: "منتصًا"
وهو وصف من انتص, أي: استوى واستقام، وهو في وصف ثور وحشي.
3 كذا في ز، ج. وفي ش: "منتصها".
4 انظر الكتاب 2/ 258.
5 انظر ص282 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
(2/256)
وأعلى من هذا أن مجيء هذا البيت في هذه
القصيدة مخالفًا لجميع أبياتها يدل على قوة شاعرها وشرف صناعته1، وأن
ما وجد من تتالي قوافيها على جرِّ مواضعها ليس شيئًا سعى فيه, ولا أكره
طبعه عليه, وإنما هو مذهب قاده إليه علوّ طبقته2، وجوهر فصاحته.
وعلى ذلك ما أنشدناه أبو بكر3 محمد بن علي عن أبي إسحاق لعبيد4 من
قوله:
يا خليليّ أربعًا واستخبرا ال ... منزل الدارس من أهل الحلال5
مثل سحق البرد عفّى بعدك ال ... قطر مغناه وتأويب الشمال6
ولقد يفنى به جيرانك ال ... ممسكو منك بأسباب الوصال7
ثم أودى ودّهم إذ أزمعوا ال ... بين والأيام حال بعد حال8
فانصرف عنهم بعنس كالوأي ال ... جاب ذي العانة أو شاة الرمال9
__________
1 في ج: "صناعتها".
2 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "طبيعته".
3 يبدو أنه مبرمان شارح الكتاب، أخذ عن أبي إسحق الزجاج، وأخذ عن
السيرافي والفارسي، ولا بعد أن يأخذ عنه ابن جني. وانظر ترجمته في
البغية 74.
4 سقط في د، هـ، ز. وثبت في ش. وهو عبيد بن الأبرص.
5 الحلال جمع الحلة -بكسر الحاء- وهي جماعة البيوت، أو مائة بيت.
6 السحق: الليالي. يريد أن المنزل درس وصار كالبرد البالي، وعفى: محا.
وتأويب الشمال: رجوعها وتردد هبوبها.
7 "الممسكو" أصله الممسكون، فحذف النون لطول الاسم.
8 "أودى ردهم": انقطع. وأصل ذلك في الهلاك. ورواية الديوان: "كدى ردهم"
وهو بهذا المعنى، يقال: أكدى إذا انقطع. وأصل ذلك أن يقال:! ندى الحفر
إذا حفر, فبلغ الكدي -وهي الصخور- فانقطع عن الحفر، وقوله: "إذا
أزمعوا" في الديوان: "أن أومعوا".
9 وردَّ هذا البيت في الديوان هكذا:
فاسل عنهم بأمون كالوأي ال ... جاب ذي العانة أو تيس الرمال
والعنس: النافه الصلبة، والأمون: الناقة الوثيقة الخلق التي لا يخاف
عليها الإعياء، والوأي: الحمار الوحشي، والعانة: القطيع من حمر الوحش،
وشاة الرمال يريد به هنا الثور الوحشي. والتيس هنا الذكر من الظباء.
(2/257)
نحن قدنا من أهاضيب الملا ال ... خيل في
الأرسان أمثال السعالي1
شزّبًا يعسفن من مجهولة ال ... أرض وعثًا من سهول أو رمال2
فانتجعنا الحارث الأعرج في ... جحفل كالليل خطّار العوالي3
يوم غادرنا عديًّا بالقنا الذ ... بل السمر صريعًا في المجال4
ثم عجناهنّ خوصًا كالقطا ال ... قاربات الماء من أين الكلال5
__________
1 الأهاضيب: جمع الأهضوية، وهي كالهضب الجبل الطويل المنبسط، والملا:
موضع في أرض كلب وآخر في ديار طيء، والسعالي: جمع السعلاة وهي نثى
الغول. شبه الخيل بهنَّ من النشاط والمرح, وقد ورد البيت في اللسان
"هضب".
2 الشزب: جمع الشازب، وهو اليابس الضامر. "وعثًا" ضبط في ش -بضم الواو،
وهي جمع الوعث -بفتح الواو، وهو المكان السهل اللين الذي تغيب فيه
قوائم الإبل، و"يعسفن" فالعسف الأخذ على غير الطريق المألوف، وفي د،
هـ، ز: "يغشين" في مكان "يعسفن", هو كذلك في الديوان. وقوله: "من
مجهولة الأرض" أي: من الأرض، وهي التي لا يهتدي فيها. وفي د، هـ، ز:
"مجهولة الأرض". وقوله: "أو رمال" في الديوان: "وجبال".
3 "فانتجعنا" في ابن الشجر، "فانتجعن" يريد الخيل. والحارث الأعرج: من
الغسانين ملوك الشام. وفي الشرح أنه جدّ امرئ. القيس. وهذا أظهر، فإن
العداوة بين أسرة امرئ القيس الكندية وبني أسد أسرة عبيد معروفة. وهذا
يوافق ما سيأت أن عديًّا من كندة. والعوالي: الرماح "وخطارها" مضطربها.
وجاء البيت في اللسان "نجع".
4 سقط هذا البيت في ش، وعديّ هو ابن أخت الحارث، قتل يومئذ، وقيل: هو
رجل من كندة. وقوله: "صريعًا" كذا في الديوان وابن الشجري. وفي د، هـ،
ز: "سريعًا", ويبدو أنه تحريف عمَّا في الديوان.
5 عاج الحيوان: عطفه بالزمام. والخوص: من الخوص، وهو غثور العينين.
والفاريات: من القريب، وهو سير الليل لورد الغد. والأين: الإعياء،
وقوله: "القاربات الماء" كذا في نسخ الخصائص. وفي الديوام: "القارب
المنهل" يريد تشبيه الخليل بالقطا في السرعة.
(2/258)
نحو قوص يوم جالت حوله ال ... خيل قبًّا عن
يمين أو شمال1
كم رئيس يقدم الألف على السا ... بح الأجرد ذي العقب الطوال2
قد أباحت جمعه أسيافنا ال ... بيض في الروعة من حيٍّ حلال3
ولنا دار ورثناها عن ال ... أقدم القدموس من عمّ وخال4
منزل دمّنه آباؤنا ال ... مورثونا المجد في أولَى الليالي5
ما لنا فيها حصون غير ما ال ... مقربات الخيل تعدو بالرجال6
__________
1 "قوص" كذا في ش, وهو يوافق ما في الخزانة، ويقول صاحبها: "وقوله: نحو
قوص -بالضم- موضع". وفي د، هـ، ز: "فرس". وفي الديوان، وابن الشجري:
"فرص. وكأنه الأشبه بالصواب. وفي ياقوت أنه تل بأرض غسَّان، وفسر به
هذا البيت، وفي هامش ابن الشجري أنه رجل من غسان، أو من كندة أو من بني
عامر بن صعصعة. وقب وصف من القبب، وهو دقة الحصر وضمور البطن.
2 السابح: الفرس الحسن الجري، والأجرد: القصير الشعر. وفي ش، والديوان:
الأجود، وكذا في الخزانة وإن كان صاحبها في شرح القصيدة شرح الأجرد ولم
يعرض للأجود. والظاهر أن هذا تحريف عمَّا أثبت. وقد يذهب الوهم إلى أنه
أفعل للجواد وإن لم يعرف هذا, والعقب: الجري بعد الجري الأول, وهو
العدو الثاني.
3 أباحت جمعه أسيافنا، أي: تمكنا من نهيهم والعلوّ عليهم بالقتل وغيره،
وقوله: "في الروعة" أي: هذا الرئيس الذي استبحنا جمعه كان فيما يروع
ويعجب من حبه وقومه, والروعة مصدر قولك: راعني الشيء: أعجبني. ويقال:
حي حلال أي: كثير, أو نازلون في بيوت مجتمعة.
4 القدوس: القديم، وهو هنا مبالغة القديم. ويريد بيت مجدهم وشرفهم، وفي
الديوان البيت هكذا:
ولنا دار ورثنا عزها ال ... أقدم القدموس عن عمٍّ وخال
5 يقال: دمن القول المنزل: سؤدوه, وأثروا فيه بالدن -بكسر فسكون- وهو
البعر. وفي ش: "منزل في دمنة آباؤنا ... " أي: منزل في موضع الدمنة
وآثار العمران والإقامة، وقوله: آباؤنا على هذا بدل من "منزل".
6 في الديوان بعد المقربات: "الجرد تردي بالرجال", والمقربات: التي
أعدت للركوب فكانت قريبة، "وتردي": ترجم الأرض بحوافرها وتعدو.
(2/259)
في روابي عدمليّ شامخ ال ... أنف فيه إرث
مجدٍ وجمال1
فاتَّبعنا ذات أولانا الألى ال ... موقدي الحرب وموفٍ بالحبال2
فقاد القصيدة كلها، على أن آخر مصراع كل بيت منها منتهٍ إلى لام
التعريف، غير بيت واحد؛ وهو قوله:
فانتجعنا الحارث الأعرج في
فصار هذا البيت الذي نقض القصيدة أن تمضي على ترتيب واحد هو أفخر ما
فيها, وذلك أنه دلَّ على أن هذا الشاعر إنما تساند إلى ما في طبعه ولم
يتجشَّم إلّا ما في نهضته ووسعه من غير اغتصاب له ولا استكراه أجاءه
إليه؛ إذ لو كان ذلك على خلاف ما حدَّدْناه, وأنه إنما صنع الشعر
صنعًا, وقابله بها ترتيبًا ووضعًا؛ لكان قمنا ألا ينقض ذلك كله3 بيت
واحد يوهيه ويقدح فيه. وهذا واضح.
وأما قول الآخر:
قد جعل النعاس يغرنديني ... أدفعه عني ويسرنديني4
فلك فيه وجهان: إن شئت جعلت رويَّه النون؛ وهو الوجه. وإن شئت الياء،
وليس بالوجه.
وإن أنت جعلت النون هي الروي فقد التزم الشاعر فيها أربعة أحرف غير
واجبة, وهي الراء والنون والدال والياء. " ألا ترى أنه يجوز معها
يعطيني
__________
1 الروابي: جمع الرابية، وهي ما علا من الأرض. العدملي: القديم. يصف
بيت شرفه ومجده.
2 "ذات أولانا" كلمة "ذات" صلة، وهذا من إضافة الملغي إلى المعتبر، أي:
اتبعنا أولانا, أي: قبيلنا الأول، والألى أصله الأول، فجرى في الكلمة
قلب مكاني. وقوله: "وموف بالحيال" فالمراد: ومنهم موف. والحبال.
العهود.
3 سقط هذا في ش.
4 الآغر نداء والآسر نداء: العلو والغلبة. وورد الرجز في اللسان في
"سرد"، "غرند" من غير عزو.
(2/260)
ويرضيني ويدعوني ويغزوني"1؛ ألا ترى أنك
إذا جعلت الياء هي الروي فقد زالت الياء أن تكون ردفًا لبعدها عن
الروي. نعم وكذلك لما كانت النون رويًّا كانت الياء غير لازمة. وإن أنت
جعلت الياء الروي فقد التزم فيه خمسة أحرف غير لازمة, وهي الراء والنون
والدال والياء والنون؛ لأن الواو يجوز معها "ألا ترى أنه يجوز معها"1
في القولين جميعًا يغزوني ويدعوني.
ومما يسأل عنه من هذا النحو قول الثقفي يزيد بن الحكم:
وكم منزل لولاي طحت كما هوى بها ... بأجرامه من قلّة النيق منهو2
التزم الواو والياء فيها كلّها.
والجواب أنها واوية لأمرين: أحدهما أنك إذا جعلتها واويَّة كانت مطلقة,
ولو جعلتها يائية كانت مقيدة، والشعر المطلق أضعاف المقيد، والحمل3
إنما يجب أن يكون على4 الأكثر لا على الأقل.
والآخر أنه قد التزم الواو, فإن جعلت القصيدة واويَّة فقد التزم
واجبًا, وإن جعلتها يائية فقد التزم غير واجب, واعتبرنا هذه اللغة
وأحكامها ومقاييسها, فإذا الملتزم أكثره واجب "وأقله غير واجب"5 والحمل
على الأكثر دون الأقل.
فإن قلت: فإن هذه القلّة أفخر من الكثرة, ألا ترى أنها دالة على قوة
الشاعر. وإذا كانت أنبه وأشرف كان الأخذ يجب أن يكون بها, ولم يحسن
العدول عنها مع القدرة عليها. وكما أن الحمل على الأكثر, فكذلك يجب أن
يكون الحمل على الأقوى أولى من الحمل على الأدنى.
__________
1 سقط ما بين القوسين في ش.
2 تقدم شيء منها في ص107 من هذا الجزء.
3 كذا في د، هـ،، ز. وفي ش: "المحمل" وهو مصدر ميمي بمعنى الحمل.
4 سقط في ش.
5 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز.
(2/261)
قيل: كيف تصرَّفت الحال فينبغي أن يعمل1
على الأكثر لا على الأقل, وإن كان الأقل أقوى قياسًا, ألا ترى إلى2 قوة
قياس قول بني تميم في "ما ", وأنها ينبغي أن تكون غير عاملة3 في أقوى
القياسين عن سيبويه. ومع ذا فأكثر المسموع عنهم إنما هو لغة أهل
الحجاز, وبها نزل القرآن. وذلك "أننا بكلامهم ننطق"4, فينبغي أن يكون
على ما استكثروا5 منه يحمل. هذا هو "قياس مذهبهم" وطريق اقتفائهم.
ووجدت أكثر قافية رؤبة مجرورة الموضع. وإذا تأملت ذلك وجدته, أعني:
قوله:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
وقد التزم العجاج في رائيته:
قد جبر الدين إلاله فجبر
وذلك أنه التزم الفتح قبل رويّها البتة. ولَعَمْري إن هذا مشروط في
القوافي, غير أنك قلَّمَا تجد قافية مقيدة إلّا وأتت الحركات قبل رويها
مختلفة, وإنما المستحسن من هذه الرائية سلامتها, مما لا يكاد يسلم منه
غيرها. فإن6 كانت المقيدة مؤسسة ازداد اختلاف الحركات قبل رويّها
قبحًا. وذلك أنه ينضاف إلى قبح اختلافه أن هناك
__________
1 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "يحمل".
2 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "أن".
3 في ش: "هي". وما أثبت في د، هـ، ز.
4 كذا في ش. وفي ج، هـ، ز: "أنك إنما بكلامهم تنطق".
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "القياس في مذهبهم".
6 كذا في ش، وفي ج، هـ، ز: "وإن".
(2/262)
تأسيسًا؛ ألا ترى أنه يقبح اختلاف الإشباع1
إذا كان الروي مطلقًا نحو قوله 2: فالفوارع مع قوله: فالتدافع2. فما
ظنّك إذا كان الروي مقيدًا, وقد أحكمنا هذا في كتابنا المعرب3 في شرح
قوافي أبي الحسن.
وقد قال هميان بن قحافة 4:
لما رأتني أم عمرو صدفت ... قد بلغت بي ذرأة فألحفت5
وهامة كأنها قد نُتِفْت ... وانعاجت الأحناء حتى احلنقفت6
وهي تسعة وثلاثون بيتًا التزم في جميعها الفاء وليست واجبة, وإن كانت
قريبةً من صورة7 الوجوب. وذلك أن هذه التاء في الفعل إذا صارت إلى
الاسم صارت في الوقف هاء في قولك: صادفة وملحفة ومحلنقفة "فإذا صارت
هاء"8 لم يكن الروي إلّا ما قبلها, فكأنها لما سقط حكمها مع الاسم من
ذلك الفعل
__________
1 هو حركة الدخيل, وهو الحرف الذي يسبق الروي بعد التأسيس.
2 أي: النابغة الذبياني, وقوله: "فالفوارع" يريد قوله في مطلع القصيدة:
عفا ذو حسا من فرتني فالقوارع ... فجنبًا أريك فالتلاع الدوافع
وقوله: "التدافع" يريد قوله في البيت الثاني والعشرين:
بمصطحبات من لصاف وثبرة ... يزون ألالا سيرهنّ التدافع
وترى أن الجزء الاول: "فالقوارع" ليس في الضرب, بل في العروض, فلا يدخل
في التقفية، غير أن البيت مصرع، فآخر العروض كأنه آخر الضرب.
3 في ش "المعروف" وانظر ص68 من مقدمة هذا الكتاب.
4 نسب الرجز هنا إلى هميان، وفي اللسان: "باع" نسب إلى حسان، ويبدو أنه
محرَّف عن هميان. وكتب "بلغت" وصوابه: "بلغت" بالعين المهملة وشد
اللام، يقال: بلّع فيه السيب تبليعًا: بدأ وظهر. وفي اللسان بعد إيراد
البيت الأول: "فإنما عدّاه بقوله: بي لأنه في معنى: قد ألمت, أو أراد:
في: فوضع "بي" مكانها للوزن حين لم يستقم له أن يقول: "في".
5 ذرأة أي: شيب.
6 الأحناء: الجوانب، واحلتقف الشيء: أفرط اعوجاجه.
7 كذا في ش، ج. وفي د، هـ، ز: "صور".
8 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز.
(2/263)
صارت في الفعل نفسه قريبة من ذلك الحكم,
وهذا الموضع لقطرب, وهو جيد.
ومن ذلك تائية كثيِّر:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا1
لزم2 في جميعها اللام والتاء.
ومنه قول منظور 3:
من لي من هجران ليلى من لي
لزم اللام المشدد إلى آخرها.
وفي المحدثين من يسلك هذا الطريق وينبغي أن يكونوا إليه أقرب وبه أحجى؛
إذ كانوا في صنعة الشعر أرحب ذراعًا وأوسع خناقًا؛ لأنهم فيه متأنون
وعليه متلومون4، وليسوا بمرتجليه ولا مستكرهين فيه.
وقد كان ابن الرومي رام ذلك لسعة حفظه وشدة مأخذه. فمن ذلك رائيته في
وصف العنب وهي قوله:
ورازقيّ مُخْطَفِ الخصور ... كأنه مخازن البلور
__________
1 عجزه:
قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
وهو مطلع قصيدة غزلية عدتها 42 بيتًا في الديوان 1/ 36، وفي الأمالي 2/
109.
2 في الخزانة 2/ 387 في الحديث عن هذه التائية: "والتزم فيها ما لا
يلزم الشارع -وذلك اللام قبل حرف الروي- اقتدارًا في الكلام وقوة في
الصناعة. وما حرم ذلك إلّا في بيت واحد، وهو:
فما أنصفت أما النساء فبغضت ... إلي وأما بالنوال فضنَّت
3 يريد منظور بن مرثد الأسدي, وبعد الشطر الشاهد:
والحبل من حبالها المنحل
انظر شرح الشافية للبغدادي 248.
4 التلوم على الأمر: التمكث فيه والانتظار.
5 الرازق: ضرب من عنب الطائف أبيض طويل الحب، ومخطف الحضور: ضامرها.
انظر الديوان تحقيق د. حسين نصار 3/ 987 "المصحح".
(2/264)
التزم فيها الواو البتَّة ولم يجاوزها
غالبًا1. وكذلك تائيته 2: أترفتها وخطرقتها وسفسفتها, التزم فيها الفاء
وليست بواجبة, وكذلك ميميته التي يرثي بها أمه:
أفيضا دَمًا إن الرزايا لها قيَم2
أوجب على نفسه الفتحة قبل الميم على حدّ رائية العجاج:
قد جبر الدين الإله فجبر
غير أنِّي أظن أن4 في هذه الميمية بيتًا ليس من قبل رويّه مفتوحًا5.
وأنشدني مرة بعض أحداثنا شيئًا سماه شعرًا على رسم للمولدين6 في مثله،
غير أنه عندي أنا قوافٍ منسوقة غير7 محشوة في معنى قول سلم الخاسر 8:
موسى القمر
غيث بكر
ثم انهمر
وقول الآخر 9:
طيف ألم
بذي سلم
يسري العتم10
بين الخيم
"جاد بفم"11
__________
1 كذا في ش وفي د، هـ، ز: "بالياء".
2 هذه التائية في مدح إسماعيل بن بلبل. ويوجد فيها "سفسفتها", وكأن
"خطرقتها" محرفة عن "تطرقتها" وهو أترفتها" محرّفة عن "طرفتها". انظر
الديوان 1/ 359 "المصحح".
3 عجزه:
فليس كثيرًا أن تجود لها بدم
انظر الديوان 6/ 2299 "المصحح".
4 سقط هذا الحرف في د، هـ، ز.
5 انظر القصيدة رقم 1212 بالديوان الجزء السادس من ص229 إلى ص312،
"المصحح".
6 في د، هـ، ز: "المولدين". والزجاج لا يأبى تسمية هذا شعرًا، ويجعله
من الرجز. ويجعله الأخفش والخليل وغيرهما سجعًا. وانظر الدماميني على
الخزرجية والدمئهوري على الكافي في مبحث الرجز.
7 سقط في اللفظ في د، هـ، ز.
8 من شعراء الدولة العباسية, وهو في هذا الشعر يمدح موسى الهادي, وانظر
معجم الأدباء "الحلبي" 11/ 240، والعمدة "باب في الرجز والقصيدة، في
الجزء الأول".
9 في العمدة في الموطن السابق أن هذا الشعر ينسب -فيما يظن- إلى علي بن
يحيى أو يحيى بن علي المنجم.
10 أصله العتمة، وهي ظلام الليل، فحذف التاء وفي رواية اللسان "عتم":
"يسري عتم" وجوز في عتم أن يكون كما ذكرت محذوف التاء فيكون ظرفًا، وأن
يكون المراد به البطء, أي: يسري بطيئًا فيكون حالًا. وانظر اللسان في
الموطن المذكور.
11 سقط هذا الشطر في د، هـ، ز.
(2/265)
وقول الآخر1:
قالت حيل
شؤم الغزل
هذا الرجل
حين احتفل
أهدى بصل2
والقوافي المنسوقة التي أنشدنيها صاحبنا هذا ميمية في وزن قوله: طيف
ألم, لا يحضرني الآن حفظها غير أنه التزم فيها الفتحة البتة إلّا قافية
واحدة وهو3 قوله: فاسلم ودم، ورأيته قلقًا لاضطراره إلى مخالفة بقية
القوافي بها4 فقلت له: لا عليك فلك أن تقول: فاسلم ودم، أمرًا من قولهم
5: دام يدام، وهي لغة، قال:
يا مي لا غرو ولا ملامًا ... في الحب إن الحب لن يداما6
فسر بذلك وقال: أسير بها إلى بلدي.
وأفضينا إلى هذا القدر لاتصاله بما كنا عليه، قال 7:
وعند سعيد غير أن لم أبح به ... ذكرتك إن الأمر يذكر للأمر
وأكثر هذه الالتزامات في الشعر؛ لأنه يخطر على نفسه ما تبيحه الصنعة
إياه إدلالًا وتغطرفًا واقتدارًا وتعاليًا, وهو كثير. وفيما أوردناه
منه كافٍ.
__________
1 هو عبد الصمد بن المعذل، كما في الدماميني على الخزرجية.
2 "حيل" كذا في نسخ الخصائص. وفي الدماميني على الخزرجية: "خبل", ويبدو
أن هذا محرّف عن "جبل" وهي جارية مغنية كان عبد الصمد يتعشقها هو وأبو
رهم، فاشتراها الآخر وكان يبخل، فلجت المهاجاة بين عبد الصمد وأبي رهم،
ويبدو أنه المعنى بهذا الهجاء. وانظر الأغاني 12/ 66.
3 في د، هـ، ز: "هي".
4 د، هـ، ز: "لها".
5 سقط هذا في ش، وثبت في د، هـ، ز.
6 انظر ص381 من الجزء الأول.
7 يظهر أن القائل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: وأن المعنى
بسعيد في البيت ابن المسيب، وأورد له صاحب الأغاني بيتين في هذا
المذهب، وهما:
سألت سعيد بن المسيب مفتي ال ... مدينة هل في حب ظمياء من وزر
فقال سعيد بن المسيب إنما ... تلام على ما تستطيع من الأمر
وانظر الأغاني طبعة دار الكتب 9/ 147. وفي مجالس ثعلب 501 بعد إيراد
البيت: "أي ذكرتك عند سعيد، وكان سعيد والي المدينة, وقد دعا به للقتل.
يقول: إذا ذكرتك في هذا الوقت فكيف سائر الأوقات".
(2/266)
فأما في غير الشعر فنحو قولك في جواب من
سألك فقال لك 1: أي شيء عندك؟ زيد أو عمرو أو محمد الكريم أو علي
العاقل. فإنما جوابه الذي لا يقتضي السؤال غيره أن يجيبه بنكرة في غاية
"شياع مثلها"2 فيقول 3: جسم. ألا ترى أنه قد يجوز أن يكون في قوله: أيّ
شيء عندك إنما أراد أن يستفصلك بين أن يكون عندك علم أو قراءة أو جود
أو شجاعة, وأن يكون عندك جسم ما. فإذا قلت: جسم فقد فصلت بين أمرين قد
كان يجوز أن يريد منك فصلك بينهما, إلّا أن جسمًا وإن كان قد فصل بين
المعنيين فإنه مبالغ في إبهامه. فإن تطوّعت زيادة على هذا قلت: حيوان.
وذلك أن حيوانًا أخص من جسم, كما أن جسمًا أخص من شيء, فإن تطوع شيئًا
آخر قال في جواب أي شيء عندك: إنسان؛ (لأنه أخص من حيوان, ألا تراك
تقول: كل إنسان حيوان, وليس كل حيوان إنسانًا, كما تقول: كل إنسان جسم,
وليس كل جسم إنسانًا. فإن تطوَّع بشيء آخر قال: رجل. فإن زاد في التطوع
شيئًا آخر4 قال: رجل عاقل, أو نحو ذلك. فإن تطوع شيئًا آخر قال: زيد أو
عمرو "أو نحو ذلك"5.
فهذا كله تطوع بما لا يوجبه سؤال هذا السائل.
ومنه قول أبي دواد:
فقصرن الشتاء بعد عليه ... وهو للذود أن يقسمن جار6
__________
1 سقط في د، هـ، ز.
2 في ش: "الشياع".
3 د، هـ، ز: "فنقول".
4 سقط هذا في ش.
5 كذا في ش، ز وسقط ما بين القوسين في د، هـ.
6 هذا في وصف فرس، يقول: إنه أوثر بلبن الإبل في الشتاء, فصارت الإبل
مقصورات عليه، لا يشركه غير في ألبانهن, وذكر أن هذا الجراد جار للإبل
وحام لها، إذ يمنع العدو أن يغير عليها فيتقسمها وينهبها. والذود:
القطع من الإبل. وقوله. "فقصرن" في ش: "فقمن" وهو خطأ. وانظر اللسان
"قصر"، والكتاب 1/ 111.
(2/267)
فهذا جواب كم؛ كأنه قال: كم قصرن عليه؟
وكم1 ظرف2 ومنصوبة الموضع, فكان3 قياسه أن يقول: ستة أشهر؛ لأن كم سؤال
عن قدر من العدد محصور, فنكرة هذا كافية من معرفته, ألا ترى أن قولك:
عشرون والعشرون وعشروك "ونحو ذلك"4 فائدته في العدد واحدة, لكن المعدود
معرفة مرة ونكرة أخرى. فاستعمل الشتاء وهو معرفة في جواب كم. وهذا
تطوّع بما لا يلزم. وليس عيبًا بل هو زائد على المراد. وإنما العيب أن
يقصر في الجواب عن مقتضى السؤال, فأمَّا إذا زاد عليه فالفضل معه واليد
له.
وجاز أن يكون الشتاء جوابًا "لكم" من حيث كان عددًا في المعنى, ألا
تراه ستة أشهر. وافقنا5 أبو علي -رحمه الله- على هذا الموضع من الكتاب
وفسره ونحن بحلب, فقال: إلا في هذا البلد فإنه ثمانية أشهر. يريد طول
الشتاء بها.
ومن ذلك قولك في جواب من قال لك: الحسن6 أو الحسين أفضل أم ابن
الحنفية: الحسن أو قولك: الحسين. وهذا تطوع من المجيب بما لا يلزم.
وذلك أن جوابه على ظاهر سؤاله أن يقول له: أحدهما ألا ترى أنه لما قال
له: الحسن أو الحسين أفضل أم ابن الحنفية فكأنه قال: [أ] 7أحدهما أفضل
أم ابن الحنفية, فجوابه على ظاهر سؤاله أن يقول: أحدهما. فقوله:
"الحسن" أو قوله: الحسين فيه زيادة تطوع بها لم ينطو السؤال على
استعلامها. ونظير قوله في الجواب على اللفظ أن يقول: الحسن "أو
الحسين"؛ لأن قوله: "أو الحسين" بمنزلة أن
__________
1 في د، هـ، ز: "فكم".
2 سقط حرف العطف في ز.
3 في د، هـ، ز: "وكان".
4 سقط في ش.
5 في هـ: "وافقنا".
6 هذه المسألة من مسائل الإيضاح لأبي علي الفارسي. وانظر أمالي ابن
الشجري 2/ 336.
7 زيادة خلت منها الأصول.
(2/268)
يقول: أحدهما. والجواب المتطوع فيه أن
يقول: "الحسن" ويمسك, أو أن يقول: الحسين ويمسك. فأما إن كان
كيسانيًّا1 فإنه يقول: ابن الحنفية, هكذا كما ترى. فإن قال: الحسن
"أفضل أم الحسين"2 أو ابن الحنفية, فقال: الحسن, فهو جواب لا تطوع فيه.
فإن قال: أحدهما, فهو جواب لا تطوع فيه أيضًا. فإن قال: "الحسين" ففيه3
تطوع. وكذلك إن قال: "ابن الحنفية" فقد تطوّع أيضًا. فإن قال: الحسن أو
ابن الحنفية أفضل أم الحسين, فقال له المجيب: الحسين, فهو جواب لا تطوع
فيه. فإن قال: أحدهما, فهو أيضًا جواب لا تطوع فيه. فإن قال: الحسن, أو
قال: ابن الحنفية ناصًّا على أحدهما معينًا فهو جواب متطوع فيه على ما
بينا فيما قبل.
ومن التطوع المشام للتوكيد قول الله سبحانه: {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} 4،
{وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 5، وقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ
فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} 6 وقولهم: مضى أمس الدابر وأمس
المدبر. وهو كثير. وأنشد الأصمعي:
وأبي الذي ترك الملوك وجمعهم ... بصهاب هامدةً كأمس الدابر7
وقال 8:
خبلت غزالة قلبه بفوارسٍ ... تركت منازله كأمس الدابر9
__________
1 الكيسانية: فرقة من الشيعة ينتسبون إلى كيسان؛ وهو المختار بن أبي
عبيد الثقفي، يقولون بإمامة محمد بن الحنفية.
2 في د، هـ، ز: "أم الحسين أفضل".
3 في د، هـ، ز: "فقد".
4 آية: 51، سورة النحل.
5 آية: 2، سورة النجم.
6 آية: 13، سورة الحاقة.
7 ذكر ياقوت في صباب أنه موضع، ولم يحله بوصفه، وقد أورد الشطر الأخير
نقلًا عن أبي علي في الحجية.
8 أي: عمران بن حطان، وانظر الكامل 9/ 154، والأغاني "بولاق" 16/ 155.
9 سقط هذا البيت في د، هـ، ز، وثبت في ش. وغزالة: امرأة من الخوارج
كانت تحارب مع الخوارج الحجاج، ولما جخلت الكوفة بجيش الخوارج تحصَّن
الحجاج منها وأغلق عليه قصره.
(2/269)
ومن ذلك أيضًا الحال المؤكدة، كقوله 1:
كفى بالنأي من أسماء كاف
لأنه إذا2 كفى فهو كافٍ لا محالة.
ومنه قولهم: أخذته بدرهم فصاعدًا، هذه أيضًا حال مؤكدة, ألا ترى أن
تقديره: فزاد الثمن صاعدًا, ومعلوم أنه إذا زاد الثمن لم يكن إلّا
صاعدًا. غير أن للحال هنا مزية عليها في قوله:
كفى بالنأي من أسماء كافٍ
لأن صاعدًا ناب في اللفظ عن الفعل الذي هو زاد، "وكافٍ" ليس بنائب في
اللفظ عن شيء, ألا ترى أن الفعل الناصب له ملفوظ به معه.
ومن الحال المؤكدة قول الله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} 3
وقول ابن دارة:
أنا ابن دارة معروفًا بها نسبي4
وهو باب منقاد.
__________
1 أي: بشر بن أبي خازم الأسلمي وعجزه:
وليس لحبها إذ طال شاف
وانظر الخزانة 2/ 261، والمفصل 6/ 51.
2 في ش: "أراد" وهو تصحيف.
3 آية: 25، سورة التوبة.
4 عجزه:
وهل بدارة بالتاس من عار
وانظر الخزانة 1/ 557.
(2/270)
فأما قوله سبحانه: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ
بِجَنَاحَيْهِ} 1 فيكون من هذا, وقد يجوز أن يكون قوله سبحانه:
{بِجَنَاحَيْهِ} مفيدًا. وذلك أنه قد يقال في المثل:
طاروا علاهنّ فشل علاها2
وقال آخر:
وطرت بالرحل إلى شملة ... إلى أمون رحلةٍ فذلَّت
ومن أبيات الكتاب:
وطرت بمنصلي في يعملات ... دوامي الأيد يخبطن السريحا4
وقال القطامي:
ونفخوا عن مدائنهم فطاروا5
__________
1 آية: 38، سورة الأنعام.
2 هذا الرجز أنشده أبو الغول لبعض أهل اليمن، كما في نوادر أبي زيد 58،
164، وفي الموطن الأول عن أبي حاتم أن أبا عبيدة اتهم المفضل بصنعه،
وقوله: "فشل" أي: ارتفع واركب، وورد في اللسان "طير": "فشك"، وهو
تحريف. وفي رواية اللسان "علا": "فطر" وعلاها لغة في عليها تنسب إلى
الحارث بن كعب. وانظر النوادر واللسان.
3- الشملة: السريعة. والأمون: الناقة الوثيقة الحق التي يؤمن عليها
العثار. الرحلة: القوية، وهو أصله القوة والقدرة على السير، يقال: يعبر
ذر رحلة، قرصف بالمصدر.
4 ينسب هذا إلى مضرّس بن ربعي الأسدي. واليعملات جمع اليعملة وهي
الناقة السريعة، والأيد هي الأيدي فحذف الياء تخفيفًا. والسريح: السير
الذي تشد به الخدمة، وهي ما يشدّ في الرسخ والبيت في الكتاب 1/ 9، 2/
291.
5 صدره:
ألم يخز التفرق جند كسرى
وقبله:
فما قومي هلمَّ إلى جميع ... وفيما قد مضى كان اعتبار
(2/271)
وقال العجاج:
طرا إلى كل طوال أعوجا1
وقال العنبري 2:
طاروا إليه زرافاتٍ وأُحدانا
وقال النابغة الذبياني:
يطير فضاضًا بينها كل قونسٍ3
فيكون قوله تعالى: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} على هذا مفيدًا, أي: ليس
الغرض تشبيهه بالطائر ذي الجناحين, بل هو الطائر بجناحيه البتة. وكذلك
قوله -عز اسمه: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} 4 قد
يكون قوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ} مفيدًا. وذلك أنه قد يستعمل في الأفعال
الشاقة المستثقلة على قول من يقول: قد سرنا5 عشرًا وبقيت علينا ليلتان؛
وقد حفظت القرآن وبقيت عليّ منه سورتان, وقد صمنا عشرين من الشهر وبقي
علينا عشر. وكذلك يقال في الاعتداد على الإنسان بذنوبه
__________
1 من أرجوزته إلى أولها: ما هاج أحزانًا وشجوًا قد شجا
وقوله: "طرنا" جواب قوله قبل:
إنا إذا مذكى الحروب أرجا ... منها سعارًا واستشاطت وهجا
وانظر الديوان 10.
2 هو فريط بن أنيف وعجزه:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
وقوله: "أحدانا" كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "وحدانا", والهمزة بدل من
الواو، والبيت من أولى قصائد الحماسة.
3 عجزه:
ويتبعها منهم فراش الحواجب
والقونس: أعلى بيضة الحديد. الفراش عظام رفاق على الخياشيم من داخل،
وهو من قصيدته التي مطلعها:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
4 آية: 26، سورة النحل.
5 في د، هـ، ز: "سرينا".
(2/272)
وقبيح1 أفعاله: قد أخرب عليّ ضيعتي وموّت2
عليّ عواملي وأبطل عليّ انتفاعي3, فعلى هذا لو قيل: فخرَّ عليهم السقف,
ولم يقل: من فوقهم, لجاز أن يظن به أنه كقولك 4: قد خربت عليهم دارهم,
وقد أهلكت5 عليهم مواشيهم وغلاتهم6, وقد تلفت عليهم تجاراتهم. فإذا
قال: {مِنْ فَوْقِهِمْ} زال ذلك المعنى المحتمل, وصار معناه: أنه سقط
وهم من تحته. فهذا معنى غير الأول.
وإنما "اطَّردت على"7 في الأفعال التي قدّمنا ذكرها, مثل: خربت عليه
ضيعته, وموتت عليه عوامله, ونحو8 ذلك من حيث كانت "على" في الأصل
للاستعلاء. فلمَّا كانت هذه الأحوال "كلفًا و"9 مشاق تخفض الإنسان
وتضعه وتعلوه وتفرعه10 حتى يخضع لها ويخنع11 لما يتسدّاه12 منها, كان
ذلك من مواضع على, ألا تراهم يقولون: هذا لك, وهذا عليك, فتستعمل اللام
فيما تؤثره13، وعلى فيما تكرهه13، قالت 14:
سأحمل نفسي على آلة ... فإما عليها وإما لها
__________
1 في د، هـ، ز: "قبح".
2 في د، هـ، ز: "أعطب".
3 في د، هـ، ز: "ارتفاعي، والارتفاع: الغلة للضيعة ونحوها".
4 في د، هـ، ز: "كقوله".
5 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "هلكلت".
6 في ز: "غلالهم".
7 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "اطرد".
8 سقط في د، هـ، ز.
9 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "كلها".
10 أي: تعلوه. وفي د، هـ، ز: "تنفرعه". وما هنا في ش. وفي ج: "تقرعه".
11 في هـ، ز: "يختع" وهو محرق عن "يخنع" وفي د: "يخشع".
12 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "تسدّاه". ويقال: تسداه: ركبه وعلاه.
13 في د، هـ، ز: يؤثره" و"يكرهه".
14 كذا في د، هـ، ز وفي ش: "قال", والقائل هي الخنساء في مرثية أخيها
معاوية، قتلته بنو مرة. وقوله: سأحمل" كذا في ش. وفي د، هـ، ز "لأحمل".
(2/273)
وقال ابن حلزة:
فله هنالك لا عليه إذا ... دنعت أنوف القوم للتعس1
فمن هنا دخلت "على" هذه في هذه الأفعال التي معناها إلى الإخضاع
والإذلال.
وما يُتَطوَّع به من غير وجوب كثير, وفيما مضى منه2 كافٍ ودالٍّ عليه
بإذن الله.
__________
1 هذا في قصيدة مفضلية في مدح الملك قيس بن شراحيل بن مارية. ودنعت:
ذلت, وفي أصول الخصائص "دفعت" وهو تصحيف. يقول: إذا حصل أفعال الناس
ومآثره كان الفضل له، ولم يكن ما ينقم عليه.
2 سقط في د، هـ، ز.
(2/274)
باب في التامِّ يزاد عليه فيعود ناقصًا 1:
هذا موضع ظاهره2 ظاهر التناقض, ومحصوله صحيح واضح.
وذلك قولك: قام زيد, فهذا كلام تام, فإن زدت عليه فقلت: إن قام زيد,
صار شرطًا واحتاج إلى جواب. وكذلك قولك: زيد منطلق, فهذا كلام مستقل3،
فإذا زاد عليه4 أن "المفتوحة فقال: أن زيدًا منطلق"5 احتاج إلى عامل
يعمل في أن وصلتها, فقال: بلغني أن زيدًا منطلق, ونحوه. وكذلك قولك:
زيد أخوك, فإن زدت عليه "أعلمت" لم تكتف بالاسمين فقلت: أعلمت "بكرًا
زيدًا أخاك"6.
وجماع هذا أن كل كلام مستقل زدت عليه شيئًا غير معقود بغيره ولا مقتض
لسواه فالكلام باقٍ على تمامه7 قبل المزيد عليه. فإن زدت عليه شيئًا
مقتضيًا لغيره معقودًا به عاد الكلام ناقصًا لا لحاله الأولى, بل لما
دخل عليه معقودًا بغيره.
__________
1 هذا البحث في الأشياء للسيوطي 1/ 295.
2 سقط في ش.
3 كذا في د، هـ، ز. وسقط في ش.
4 في د، هـ، ز: "على هذا".
5 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز. وثبت في ش.
6 كذا في ز. وفي ش: "زيدًا بكرًا أخال".
7 في د، هـ، ز "حاله".
(2/274)
فنظير الأول قولك: زيد قائم, وما زيد قائم
وقائمًا على اللغتين, وقولك: قام محمد, وقد قام محمد, وما قام محمد,
وهل قام محمد, وزيد أخوك, وإن زيدًا أخوك, وكان زيد أخاك، وظننت زيدًا
أخاك.
ونظير الثاني ما تقدَّم من قولنا: قام زيد, وإن قام زيد. فإن جعلت "إن"
هنا نفيًا بقي على تمامه, ألا تراه بمعنى ما قام زيد.
ومن الزائد العائد بالتمام إلى النقصان قولك: يقوم زيد, فإن زدت اللام
والنون فقلت: ليقومَنَّ زيد, فهو محتاج إلى غيره, وإن لم يظهر هنا في
اللفظ, ألا ترى أن تقديره عند الخليل: أنه جواب قسم, أي: أقسم
ليقومنَّ, أو نحو ذلك. فاعرف ذلك إلى ما يليه.
(2/275)
باب في زيادة الحروف
وحذفها:
وكلا ذينك ليس بقياس لما سنذكره.
أخبرنا أبو علي -رحمه الله- قال: قال أبو بكر: حذف الحروف ليس بالقياس.
قال: وذلك أن الحروف إنما دخلت الكلام لضرب من الاختصار, فلو ذهبت
تحذفها1 لكنت مختصرًا لها2 هي أيضًا, واختصار المختصر إجحاف به. تمت
الحكاية2.
تفسير قوله: "إنما3 دخلت الكلام لضرب من الاختصار" هو أنك إذا قلت: ما
قام زيد, فقد أغنت "ما " عن "أنفى "؛ وهي4 جملة فعل وفاعل. وإذا قلت:
قام
__________
1 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "لحذفها".
2 سقط هذا في ش.
3 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "إنها".
4 في د، هـ، ز: "هو".
(2/275)
القوم إلا زيدًا, فقد نابت "إلا " عن
"أستثني ", وهي1 فعل وفاعل. وإذا قلت: قام زيد وعمرو, فقد نابت الواو
عن "أعطف"2, وإذا قلت: ليت لي مالًا, فقد نابت "ليت" عن "أتمنى".
وإذا قلت: هل قام أخوك, فقد نابت " هل " عن "أستفهم". وإذا قلت: ليس
زيد بقائم, فقد نابت الباء عن "حقًّا" و"البتة"، و"غير ذي شك". وإذا
قلت: "فيما نقضهم ميثاقهم" فكأنك قلت: فبنقضهم ميثاقهم, فكأنك قلت:
فبنقضهم ميثاقهم فعلنا كذا حقًّا أو يقينًا. وإذا قلت: أمسكت بالحبل,
فقد نابت الباء عن قولك3: أمسكته مباشرًا له وملاصقة4 يدي له5. وإذا
قلت: أكلت من الطعام, فقد نابت "من " عن البعض, أي: أكلت بعض الطعام.
وكذلك بقية ما لم نسمه.
فإذا كانت هذه الحروف نوائب عمَّا هو أكثر منها من الجمل وغيرها لم يجز
من بعد ذا أن تتخرّق6 عليها, فتنتهكها وتجحف بها.
ولأجل ما ذكرنا: من إرادة الاختصار بها لم يجز أن تعمل في شيء من
الفضلات: الظرف والحال والتمييز والاستثناء وغير ذلك, وعلته أنهم قد
أنابوها عن الكلام الطويل لضرب7 من الاختصار؛ فلو ذهبوا يعملونها فيما
بعد لنقضوا ما أجمعوه, وتراجعوا عمَّا اعتزموه.
__________
1 في د، هـ، ز: "هما".
2 كذا في د، هـ، ز، والأشباه. وفي ش: "العطف".
3 سقط في ش.
4 في ش: "ملاصقًا".
5 في ش: "به".
6 في ش رسمت هذه الكلمة "تنخرق" من الانخراق، وفي ز، هـ: "تخرق" وفي د:
"تخرف". وكأن "تنخرق" محرفة عن "نتخرق" أو تتخرق"، وكأن الأولى معناها
ارتكاب الخرق ومجانبة الرفق، والتمزق يدور معناه على الضيق والضغط، وفي
ج: "تحيف", وهي واضحة.
7 في ش: "بضرب".
(2/276)
فلهذا لا يجوز ما زيد أخوك قائمًا, على ان
تجعل "قائمًا" حالًا منك, أي: أنفي هذا في حال قيامي, ولا حالًا من
"زيد", أي: أنفي هذا عن زيد في حال قيامه. ولا هل زيد أخوك يوم الجمعة,
على أن تجعل يوم الجمعة ظرفًا لما دلت عليه "هل" من معنى الاستفهام.
فإن قلت: فقد أجازوا ليت زيدًا أخوك قائمًا, ونحو ذلك, فنصبوه1 بما في
ليت من معنى التمني, وقال النابغة:
كأنه خارجًا من جنب صفحته ... سفود شرب نسوه عند مفتأد2
فنصب "خارجًا" على الحال, بما في "كأن" من معنى التشبيه, وأنشد أبو
زيد:
كأنَّ دريئة لما التقينا ... لنصل السيف مجتمع الصداع3
فأعمل معنى التشبيه في "كأن" في الظرف الزماني الذي هو "لما التقينا".
قيل: إنما جاز ذلك في "ليت " و "كأن "4 لما اجتمع فيهما: وهو أن كل
واحدة منهما فيها معنى الفعل "من التمني"5 والتشبيه, "وأيضًا"6 فكل
"واحدة"7 منهما
__________
1 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "ونصبوه".
2 من قصيدته في مدح النعمان والاعتذار له عمَّا بلغه عنه. ومطلعها:
يا درامية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليا سالف الأمد
والحديث عن الثور الوحشي الذي أنشب مدراه "قرنه" في كلب الصيد, فقوله:
"كأنه" أي: المدري" يشبه المدري بسفود منسيّ عند مقتأد, أي: موضع قار.
والسفود: الحديدة التي يشوى عليها اللحم. وانظر الخزانة 1/ 521.
3 هو لمرداس بن حصين. والدريئة: حلقه يتعلم عليها الطعن، ومجتمع الصداع
الرأس. يذكر أنه حين لقي قرنه في القتال أنحى عليه بضرب السيف تعمّ
رأسه، حتى كأن رأسه إذ يتردَّد عليه السيف "دريئة". وترى ابن جني يروي
"كأن" التشبيهية. والذي في نوادر أبي زيد ص: "فكانَّ" بفاء العطف
و"كان" الناقصة. وهذه الرواية تتسِقُ مع سابق الشعر. وانظر في النوادر.
4 في د، هـ، ز: "كأني".
5 في د، هـ، ز: "والتمني".
6 ما بين القوسين سقط في د، هـ، ز.
7 سقط في ز.
(2/277)
رافعة وناصبة كالفعل القويّ المتعدي, وكل
واحدة منهما متجاوزة عدد الاثنين, فأشبهت بزيادة عدتها الفعل, وليس
كذلك ما كان على حرف, ولا ما كان على حرفين؛ لأنه لم يجتمع فيه ما
اجتمع في ليت ولعل.
ولهذا كان ما ذهب إليه أبو العباس: من أن "إلّا" في الاستثناء هي
الناصبة؛ لأنها نابت عن "أستثنى"، و"لا أعني" مردودًا عندنا لما في ذلك
من تدافع الأمرين: الإعمال المبقِّي حكم الفعل, والانصراف عنه إلى
الحرف1 المختصر به القول.
نعم، وإذا كانت هذه الحروف تضعف وتقلّ عن العمل في الظروف2, كانت من
العمل في الأسماء الصريحة القوية التي ليست ظروفًا ولا أحوالًا ولا
تمييزًا لاحقًا بالحال اللاحقة بالظروف أبعد.
فإن قلت: فقد قالوا: يا عبد الله, ويا خيرًا من زيد، فأعملوا "يا" في
الاسم الصريح وهي حرف، فكيف القول3 في ذلك؟
قيل: ل"يا" في هذه خاصة4 في قيامها مقام الفعل ليست لسائر5 الحروف.
وذلك أن "هل" تنوب عن "أستفهم"، و"ما" تنوب عن "أنفي"، و"إلّا" تنوب عن
"أستثنى", وتلك الأفعال النائبة عنها هذه الحروف6 هي الناصبة في الأصل.
فلمَّا انصرفت عنها إلى الحروف7 طلبًا للإيجاز ورغبة عن الإكثار, أسقطت
عمل تلك الأفعال ليتمَّ لك ما انتحيته من الاختصار. وليس كذلك يا.
__________
1 في ش: "الحكم".
2 كذا في ش. وفي د، هـ، هـ، ز: "الظروف".
3 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "على".
4 كذا في ش. في د، هـ، ز: "خاصية".
5 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "كسائر".
6 سقط في د، هـ، ز.
7 في د، هـ، ز: "الحرف".
(2/278)
وذلك "أن يا"1 نفسها هي العامل الواقع على
زيد, وحالها في ذلك حال "أدعو" و"أنادي" في كون كل واحد منهما هو
العامل في المفعول, وليس كذلك ضربت وقتلت ونحوه. وذلك أن قولك: ضربت
زيدًا وقلت عمرًا2, الفعل الواصل إليهما المعبّر بقولك: ضربت عنه ليس
هو نفس "ض ر ب "3 إنما ثمّ4 أحدث هذه الحروف دلالة5 عليها؛ وكذلك القتل
والشتم والإكرام ونحو ذلك. وقولك: أنادي عبد الله وأدعو عبد الله, ليس
هنا فعل واقع على "عبد الله" غير هذا اللفظ, و "يا " نفسها في المعنى
ك"أدعو"؛ ألا ترى أنك إنما تذكر بعد "يا" اسمًا واحدًا, كما تذكره بعد
الفعل المستقل بفاعله إذا كان متعديًا إلى مفعول واحد؛ كضربت زيدًا,
ولقيت قاسمًا, وليس كذلك حرف الاستفهام, وحرف النفي, إنما تدخلهما6 على
الجمل المستقلة فتقول: ما قام زيد. وهل قام أخوك؟ فلما قويت "يا "7 في
نفسها وأوغلت في شبه الفعل تولت بنفسها العمل.
فإن قلت: فإنما تذكر بعد "إلّا" اسمًا واحدًا أيضًا, قيل: الجملة قبل
"إلّا" منعقدة بنفسها, وإلا8 فضلة فيها. وليس9 كذلك يا، لأنك إذا قلت:
يا عبد الله, تَمَّ
__________
1 في د، هـ، ز: "أنها".
2 في د، هـ، ز: "بشرًا".
3 في د، هـ، ز: "ض ر ب". وفي ج. "صرب".
4 في د، هـ، ز: "هو". وذلك ضمير القصة والشأن.
5 في ج: "دالة".
6 في د، هـ، ز: "تدخلها".
7 سقط في د، هـ، ز.
8 في ش: "لا" وهو خطأ في النسخ.
9 في د، هـ، ز: "ليست".
(2/279)
الكلام بها وبمنصوب بعدها, فوجب أن تكون هي
كأنها الفعل المستقل بفاعله, والمنصوب هو المفعول بعدها, فهي في1 هذا
الوجه كرويد2 زيدًا.
ومن وجه آخر أن قولك: يا زيد, لما اطرد فيه الضم, وتَمَّ به القول, جرى
مجرى ما ارتفع بفعله أو بالابتداء, فهذا3 أدون حالي يا, أعنى: أن
"يكون"4 كأحد جزأي5 الجملة. وفي القول الأول هي جارية مجرى الفعل مع
فاعله. فلهذا قوي حكمها, وتجاوزت رتبة الحروف التي إنما هي إلحاق6
وزوائد على الجمل.
فلذلك عملت يا ولم تعمل هل, ولا ما, ولا شيء من ذلك النصب, بمعنى الفعل
الذي دلّت عليه ونابت عنه. ولذلك ما وصلت تارة بنفسها في قولك: يا عبد
الله, وأخرى بحرف الجر نحو قوله: يا لبكر, فجرت في ذلك مجرى ما يصل من
الفعل تارةً بنفسه, وأخرى بحرف الجر نحو قوله 7: خشنت8 صدره وبصدره,
وجئت زيدًا وجئت إليه, واخترت الرجال ومن الرجال, وسميته زيدًا وبزيد,
وكنيته أبا علي وبأبي علي.
فإن قلت: "فقد"9 قال الله سبحانه: {أَلَّا يَسْجُدُوا} 9 وقد قال غيلان
10:
ألا يا أسلمي يا دارمي على البلى
__________
1 في د، هـ، ز: "من". وما هنا في ش، ج.
2 يريد بذلك أنها تشبه اسم للفعل كرويد زيدًا. وقد قال أبو علي أستاذ
المؤلف بذلك, وأنها اسم فعل في بعض أقواله. وفي المسألة بحث انظر في
شرح الرضي للكافية 1/ 132.
3 في ز: "فهو".
4 في د، هـ، ز: "يكون الفعل".
5 في ش: "حرفي".
6 جمع لحق -بالتحريك- وهو ما يلحق بالشي الأوّل.
7 سقط في ش.
8 أي: أوغر صدره عليه وأغضبه.
9 سقط في د، هـ، ز. وثبت في ش. انظر الآية ص198 من هذا الجزء.
10 في د، هـ، ز: "ذو الرمة". وعجزه:
ولا زال منهلًا بجرعاتك القطر
(2/280)
وقال:
يا دار هند يا اسلمي ثم اسلمي1
فجاء بيا2 ولا منادى معها, قيل: يا في هذه الأماكن قد جرّدت من معنى
النداء وخلصت3 تنبيهًا. ونظيرها في الخلع من أحد المعنيين وإفراد4
الآخر: "ألا"؛ لها في الكلام معنيان 5: افتتاح الكلام والتنبيه نحو قول
الله سبحانه: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} 6، وقوله
تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} 7 و"قول كثيّر "8:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة9
فإذا دخلت على "يا " خلصت "ألَا " افتتاحًا, وخص التنبيه بيا. وذلك
كقول نصيب 10:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... فقد زادني مسراك وجدًا على وجد
فقد صحَّ بما ذكرناه إلى أن قادنا إلى هنا أن حذف الحروف لا يسوغه
القياس؛ لما فيه من الانتهاك والإجحاف.
وأما زيادتها فخارج11 عن القياس أيضًا.
__________
1 انظر ص198 من هذا الجزء.
2 في د، هـ، ز: "بها".
3 في د، هـ، ز: "أخلصت".
4 في د، هـ، ز: "إقرار".
5 في د، هـ، ز: "معنيين". وهو خطأ.
6 آية: 151، سورة الصافات.
7 آية: 12، سورة البقرة.
8 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "قوله: أعني كثيرًا". وانظر ديوانه 1/ 264.
9 عجزه:
إذا غمزهوها بالأكف تلين
10 في الأغاني "بولاق" 5/ 38 نسبته إلى يزيد بن الطثرية. وكذا في ذيل
الأمالي 105.
11 أي: أمر خارج، ولولا هذا لقال: "خارجة".
(2/281)
وذلك أنه إذا كانت1 إنما جيء بها اختصارًا
وإيجازًا كانت زيادتها نقضًا لهذا الأمر وأخذًا له بالعكس والقلب؛ ألا
ترى أن الإيجاز ضد الإسهاب, ولذلك لم يجز أبو الحسن توكيد2 الهاء
المحذوفة من صلة الذي في نحو: "الذي ضربت زيد"، فأفسد أن تقول: الذي
ضربت نفسه زيد. قال: لأن ذلك نقض من حيث كان التوكيد إسهابًا الحذف
إيجازًا. وذلك أمر ظاهر التدافع.
هذا هو القياس: ألا يجوز حذف الحروف ولا زيادتها. ومع ذلك فقد حذفت
تارة وزيدت أخرى.
أما حذفها فكنحو ما حكاه أبو عثمان عن أبي زيد من حذف حرف العطف في
نحو3 قولهم: أكلت لحمًا سمكًا تمرًا. وأنشدني أبو الحسن:
كيف أصبحت كيف أمسيت مما ... يزرع الودّ في فؤاد الكريم
يريد: كيف أصبحت وكيف أمسيت, وأنشد ابن الأعرابي:
وكيف لا أبكي على علاتي ... صبائحي, غبائقي, قيلاتي4
أي: صبائحي وغبائقي وقيلاتي. وقد يجوز أن يكون بدلًا؛ أي: كيف لا أبكي
على علاتي5 التي هي صبائحي وهي غبائقي وهي قيلاتي, فيكون هذا من بدل
الكل. والمعنى6 الأول أن منها صبائحي, ومنها غبائقي, ومنها قيلاتي.
__________
1 في د، هـ، ز: "كان".
2 انظر ص288 من الجزء الأول، وينسب إلى الخليل وسيبويه جواز تأكيد
المحذوف، فقد ورد في الكتاب 1/ 247 قوله: "وسألت الخليل عن مررت يزيد
وأتاني أخوه أنفسهما فقال: الرفع على هما صاحباي أنفسها، والنصب على
أعينهما". وانظر حاشية الصبان على الأشموني في مبحث المعرب والمبني
"إعراب المبني", ومبحث المبتدأ "الإخبار بالظرف".
3 سقط في د، هـ، ز.
4 انظر ص291 من الجزء الأول.
5 في ج بعد "علاتي". "إبل".
6 في ج: "تقدير المعنى".
(2/282)
ومن ذلك ما كان يعتاده رؤبة إذا قيل له:
كيف أصبحت؟ فيقول: خير عافاك "أي: بخير"1 وحكى سيبويه: الله لا أفعل,
يريد: والله. ومن أبيات الكتاب 2:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان
أي: فالله يشكرها.
وحذفت همزة الاستفهام؛ نحو قوله 4:
فأصبحت فيهم آمنًا لا كمعشر ... أتوني وقالوا من ربيعة أو مضر؟
"يريد5 أمن ربيعة", وقال الكميت:
طربت وما شوقًا إلى البيت أطرب ... ولا لعبًا مني وذو الشيب يلعب6
أراد7: أو ذو الشيب يلعب, ومنه قول ابن أبي ربيعة8:
ثم قالوا تحبها قلت بهرًا ... عدد القطر والحصى والتراب
أظهر الأمرين فيه أن يكون أراد: أتحبها؛ لأن البيت الذي قبله يدل عليه،
وهو قوله:
أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بين خمس كواعب أتراب9
لهذا ونحوه نظائر. وقد كثرت.
__________
1 ثبت في د، هـ، ز، وسقط في ش.
2 انظر سيبويه 1/ 435.
3 نسب في كتاب سيبويه المطبوع إلى حسان بن ثابت. وفي الخزانة 3/ 645:
"والبيت نسبه سيبويه وخدمته لعهد الرحمن بن حسان بن ثابت -رضي الله عنه
"ورواه جماعة لكعب بن مالك الأنصاري" وانظر نوادر أبي زيد 31.
4 أي: عمران بن حطان, وهو من شعر يقوله في قوم من الأزد نزل به
متنكرًا, ويشكر صنيعهم معه. وانظر الكامل 7/ 87.
5 ثبت في ش، وسقط في د، هـ، ز.
6 هذا مطلع إحدى هاشمياته. وانظر العيني على هامش الخزانة 3/ 111.
7 في د، ز: "أي".
8 أي: عمر, وهذا من قصيدة غزلية في الثريَّا بنت عبد الله لما صرمته.
وانظر شواهد المغني للسيوطي 14.
9 هذا البيت قبل البيت السابق مع الفصل بستة أبيات. وقوله: "خمس" هو ما
في ش. وهو يوافق ما في شواهد المغني. وفي ج، هـ، ز: "عشر".
(2/283)
فأما تكريرها1 وزيادتها فكقوله 2:
لددتهم النصيحة كلّ لَدٍّ ... فمجوا النصح ثم ثنوا فقاءوا2
فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للمابهم أبدًا دواء4
وقد كثرت زيادة "ما" توكيدًا كقول الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ} 5 وقوله سبحانه: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ
نَادِمِينَ} 6 وقوله عز قدره: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا نَارًا} 7.
وقال جل وعز: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 8
"فالباء زائدة"9 وأنشد أبو زيد 10:
بحسبك في القوم أن يعلموا ... بأنك فقيهم غنيٌّ مضر11
فزاد الباء في المبتدأ, وأنشد لأمية:
طعامهم إذا أكلوا مهنًّا ... وما إن لا تحاك لهم ثياب12
__________
1 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "نكررها".
2 أي: مسلم بن معبد الوالبيّ، وهو شاعر إسلامي في الدولة الأموية،
وانظر الخزانة 1/ 364، ومعاني القرآن للفراء 10/ 68.
3 "لددتهم النصيحة" أي: قدَّمتها لهم. وهو من قولهم: لدَّ المريض إذا
أسقاه دواء في أحد شقي فمه، جعل النصيحة كالدواء المكروه، وقوله:
"فقاءوا" أي: لفظوا النصيحة ولم يقبلوها.
4 "دواء" رواية الخزانة: "شفاء", وفيها: "فلا وأبيك" في مكان "فلا
والله".
5 آية: 155، سورة النساء، وآية: 13 سورة المائدة.
6 آية: 40، سورة المؤمنين.
7 آية 25 سورة نوح.
8 آية: 195، سورة البقرة.
9 ثبت ما بين القوسين في د، هـ، ز. وسقط في ش.
10 انظر النادر 23.
11 مضر: يروح عليه ضرة من المال, أي: قطعة من الإبل والغنم، وهو من
مقطوعة في الهجاء. وانظر اللسان "ضرر".
12 "إذا" كذا في ش وفي د، هـ، ز: "دائن".وقوله مهنا" كذا في ش, وفي
النسخ الثلاثة "معن".
(2/284)
فإن لتوكيد النفي كقول زهير:
ما إن يكاد يخليهم لوجهتهم1
ولا من بعدها زائدة.
وزيدت اللام في قوله -رويناه عن أحمد بن يحيى:
مرّوا عجالًا وقالوا كيف صاحبكم ... قال الذي سألوا أمسى لمجهودًا2
وفي قراءة سعيد بن جبير {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} 3 وقد
تقدَّم ذكر ذلك.
وزيدت لا "قال أبو النجم "4:
ولا ألوم البيض ألّا تسخرا ... وقد رأين الشمط القفندرا5
"وقال6 العجاج:
بغير لا عصفٍ لا اصطراف7
وأنشدنا:
أبي جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتًى لا يمنع الجود قاتله8
__________
1 انظر ص111، من الجزء الأول.
2 انظر ص317 من الجزء الأول.
3 آية: 20، سورة الفرقان.
4 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "في قول أبي النجم".
5 الشمط، الشيب، والقفندر: القبح المنظر. وانظر مجالس ثعلب 198.
6 ثبت ما بين القوسين في د، هـ، ز: وسقط في ش.
7 قبله: قد يكسب المال الهدان الجاف
والهدان: الأحمق النقيل. العصف: الكسب. والاصطراف، افتعال من الصرف، أي
التصرف في وجوه الكسب.
8 انظر ص37 من هذا الجزء.
(2/285)
فهذا على زيادة "لا" أي: أبى جوده البخل,
وقد يجوز أن تكون "لا" منصوبة الموضع ب"أبى"، و"البخل" بدل منها.
وزيادة الحروف كثير، وإن كانت على غير قياس كما أن حذف المضاف أوسع
وأفشى, وأعم وأوفى, وإن كان أبو الحسن قد1 نصَّ على ترك القياس عليه.
فأمَّا عذر حذف هذه الحروف فلقوة المعرفة بالموضع؛ ألا ترى إلى "قول
امرئ القيس "2:
فقلت يمين الله أبرح قاعدًا3
لأنه لو أراد الواجب4 لما جاز؛ لأن "أبرح" هذه لا تستعمل في الواجب،
فلا بُدَّ من أن يكون أراد: لا أبرح. ويكفي من هذا قولهم: رب إشارة
أبلغ من عبارة.
وأمَّا زيادتها فلإرادة التوكيد بها, وذلك أنه قد سبق أن الغرض في
استعمالها إنما هو الإيجاز والاختصار والاكتفاء5 من الأفعال وفاعليها,
فإذا زيد ما هذه سبيله فهو تناهٍ في التوكيد به. وذلك كابتذالك في
ضيافة ضيفك أعزَّ ما تقدر عليه, وتصونه من أسبابك, فذاك غاية إكرامك6
له, وتناهيك في الحفل به.
__________
1 ثبت في ش، وسقط في د، هـ، ز.
2 كذا في هـ، ز، وفي ش: "قوله"، وفي د: "قوله, أي: أمري القيس".
3 عجزه:
ولو قطعوا وأسى لديك وأوصالي
وهو من قصيدته التي أولها:
ألاهم صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
4 يريد المثبت ضد المنفي.
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "في".
6 سقط في د، هـ، ز.
(2/286)
باب في زيادة الحرف عِوضًا من آخر محذوف:
اعلم أن الحرف الذي يحذف فيجاء بآخر1 عوضًا منه على ضربين: أحدهما أصلي
والآخر زائد.
الأول من ذلك على ثلاثة أضرب 2: فاء, عين, لام.
أما ما حذفت3 فاؤه وجيء بزائد عوضًا منه فباب فعله في المصادر4، نحو:
عدة وزنة وشية وجهة. والأصل5 وعدة ووزنة ووشية ووجهة, فحذفت الفاء لما
ذكر في تصريف ذلك، وجعلت التاء بدلًا6 من الفاء. ويدل على أن أصله ذلك
قول الله سبحانه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} 7 وأنشد أبو
زيد:
ألم تر أنني -ولكل شيء ... إذا لم تؤت وجهته تعاد
أطعت الآمريّ بصرم ليلى ... ولم أسمع بها قول الأعادي8
وقد حذفت الفاء في أناس, وجعلت ألف فعال بدلًا منها "فقيل: ناس,
ومثالها عال؛ كما أن مثال عدة وزنة علة.
__________
1 في د، هـ، ز بعده: "زائد".
2 في د، هـ، ز: "أحرف".
3 في د، هـ، ز: "حذف".
4 كذا في د، هـ، ز. وفي ش "المصدر".
5 بعده في د، هـ، ز: "في عدة".
6 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "عوضًا".
7 آية 148 سورة البقرة.
8 كأنه يريد نه صرم ليلى استجابة لمن أمره بذلك مع بقائه على حبها
وإضمار الود لها، والإعراض عن القدح فيها. وفي المصنف للمؤلف 662 نسخة
التيمورية: "عصيت" في مكان "أطعت" وهي واضحة.
(2/287)
وقد حذفت الفاء وجعلت تاء افتعل عوضًا
منها"1 وذلك قولهم 2: تقي يقتي, والأصل: اتَّقى يتقي فحذفت التاء فبقي
تقي, ومثاله تعل ويتقي: يتعل, قال الشاعر 3:
جلاها الصيقلون فأخلصوها ... خفافًا كلها يتقي بأثر4
وقال أوس 5:
تقاك بكعب واحد وتلذه ... يداك إذا ما هز بالكف يعسل6
وأنشد أبو الحسن:
زيادتنا نعمان لا تنسينّها ... تق الله فينا, والكتاب الذي تتلو7
ومنه أيضًا قولهم: تجه يتجه, "وأصله اتّجه"8, ومثال تجه على هذا تعل
كتقي سواء. وروى أبو زيد أيضًا فيما حدثنا به أبو علي عنه: تجه يتجه,
فهذا من لفظ آخر وفاؤه تاء. وأنشدنا:
قصرت له القبيلة اذتجهنا ... وما ضاقت بشدّته ذراعي9
فهذا محذوف من اتَّجه كاتَّقى.
__________
1 ثبت ما بين القوسين في ش: وسقط في د، هـ، ز.
2 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "قولك".
3 سقط في ش. والشاعر هو خفاف بن ندية. وانظر اللسان "أثر" و"وقي".
4 هذا في وصف سيوف. وأثر السيف فرنده وديباجته ورونقه. أي: كلها
يستقبلك بفرنده، أي: إذا نظر الناظر إليها اتَّصل شعاعها بعينه فلم
يتمكن من النظر إليها، وانظر اللسان "أثر".
5 هو ابن حجر, وانظر النوادر 27.
6 يقال: عسل الرمح إذا اهتزَّ واضطرب من لينه ولدوتته.
7 قائله عبد الله بن همام السلولي. وبعده:
أيثبت ما زدتم وقلق زيادتي ... دمي إن أسيفت هذه لكم سحل
وانظر فوادر أبي زيد 4، واللسان "وقى" و"بسل".
8 ثبت ما بين القوسين في ش، وسقط في د، هـ، ز.
9 هذا لمرداس بن حصين، و"قصرت" أي: حبست. والقبيلة اسم فرسه, وأبو زيد
يروي "تجهنا" في البيت بكسر الجيم، الأصمعي بفتحها. وانظر اللسان
"وجه". وكأنَّ المؤلف لم يبلغه إلّا فتح الجيم فجعله محذوف اتجه، وانظر
النوارد، وانظر بيتًا بعد هذا البيت سبق في ص277 من هذا الجزء.
(2/288)
فأمَّا1 قولهم: اتخذت فليست تاؤه بدلًا من
شيء, بل هي فاء أصلية بمنزلة اتَّبعت من تبع, يدل على ذلك ما أنشده
الأصمعيّ من قوله 2:
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها ... نسيفًا كأفحوص القطاة المطرّق3
وعليه قول الله سبحانه: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ
أَجْرًا} 4 وذهب أبو إسحاق إلى أن اتخذت كاتقيت واتزنت, وأن الهمزة
أجريت في ذلك مجرى الواو. وهذا ضعيف إنما جاء منه شيء شاذ؛ أنشد ابن
الأعرابي:
في داره تقسم الأزواد بينهم ... كأنما أهله منها الذي اتّهلا5
وروى لها أبو علي عن أبي الحسن علي بن سليمان متَّمن6. وأنشد:
. . . . . . . . . بيض اتَّمن
والذي يقطع على أبي إسحاق قول الله -عز وجل: {قَالَ لَوْ شِئْتَ
لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} . فكما أن تجه ليس من لفظ الوجه كذلك,
ليس تخذ من لفظ الأخذ.
وعذر من قال: اتَّمن واتَّهل من الأهل, أن لفظ هذا إذا لم يدغم يصير
إلى صورة ما أصله حرف لين. وذلك قولهم في افتعل من الأكل: ايتكل, ومن
__________
1 في د، هـ، ز: "وأما".
2 أي: الممزق العبدي، واسمه شأس بن نهار.
3 الغرز للناقة مثل الحزام للفرس، والغرز للجمل مثل الركاب للبغل,
ويبدو أن المراد هنا المعنى الأول. والنسيف أثر العض الركض ونحو ذلك.
والأفحوص: الميض، والمطرق وصف القطاة، يقال: طرقت القطاة إذا حان خروج
بيضها، ووصف الأنثى بالمطرق كما يقال: مرضع وحائض.
4 آية: 77، وسورة الكهف، وهذه قراءة الحسن وابن مسعود، وانظر البحر 6/
152.
5 "بينهم" كذا في ز. وهو يوافق ما في اللسان، وفي ش: "بينهما", وقوله:
"أهله".
كذا في أصول الخصائص. وفي اللسان "أهل": "أهلنا"، وهو الأوفق بالمعنى،
يريد ن هذا الممدوح يشرك ضيفه فيما عنده، ويتحدث الشاعر الضيف عن نفسه
فيقول: كأنما أهلنا من الدار، وكأنما أهلنا أهله الذي اتهلهم, أي:
اتخذهم أهلًا، فأهلنا وأهله سواء في داره.
6 وهو وصف من اتَّمن، افتعل من الأمان.
(2/289)
الإزرة 1: ايتزر. فأشبه حينئذ ايتَّعد في
لغة من لم يبدل الفاء تاء, فقال: اتَّهل واتَّمن لقول غيره: ايتهل
وايتمن, وأجود اللغتين "إقرار الهمز"2 قال الأعشى:
أبا ثبيتٍ أما تنفكّ تأتكل3
وكذلك ايتزر يأتزر, فأما اتَّكلت عليه فمن الواو على الباب؛ لقولهم
الوكالة والوكيل. وقد ذكرنا هذا الموضع في كتابنا في شرح تصريف أبي
عثمان.
وقد حذفت الفاء همزة وجعلت "ألف فعال"4 بدلًا منها, وذلك قوله5:
لاه ابن عمِّك لا أفضلت في حسب6
في أحد7 قولى سيبويه. وقد ذكرنا ذلك.
__________
1 هو اسم هيئة من الاتئزاز، يقال: ائترز إزرة حسنة.
2 في د، هـ، ز: "إقرار ترك الهمز". ويبدو أنه كان هنا نسختان: "إقرار
الهمز" و"ترك الهمز" فجمع بينهما.
3 صدره:
أبلغ يزيد بني شيبان مألكة
أبو ثبيت كنية يزيد، وهو ابن عم الأعشى، وكان بينهما ملاحاة, والمألكة:
الرسالة، والائتكال: الغضب، كأن الغاضب يأكل بعضه بعضًا. وهذا البيت من
معلقة الأعشى المشهورة.
4 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "لام فعال". ورأى سيبويه أن العوض من همزة
"إله" الألف واللام في لفظ الجلالة, فهل الأصل هنا: "الألف واللام"
فحرف إلى ما وقع إلينا. وانظر ص226 من الجزء الأول.
5 أي: ذي الأصبع العدواني, وهو من قصيدة مفضلية.
6 عجزه:
عنى ولا أنت دياني فتخزوني
الديان: القائم بالأمر القاهر, ويقال: خزاه إذا ساسه ودبَّر أمره.
7 يريد بذلك أن لفظ الجلالة من "أله" والقول الآخر أنه من "ليه", يقال:
لاه يليه إذا تَستَّر. والقول الأول في الكتاب 1/ 309، والقول الآخر
رواه عنه الزجاج، وليس في الكتاب. وانظر الخزانة 4/ 335.
(2/290)
وأما ما حذفت عينه وزيد هناك حرف عوضًا
منها فأينق في أحد1 قولي سيبويه, وذلك أن أصلها أنوق, فأحد قوليه فيها
أن الواو التي هي عين حذفت وعوضت منها ياء فصارت: أينق. ومثالها في2
هذا القول3 على اللفظ: أيفُل, والآخر: أن العين قدمت على الفاء فأبدلت
ياء. ومثالها على هذا أعفُل.
وقد حذفت العين حرف علة, وجعلت ألف فاعل عوضًا منها, وذلك رجل خافٌ
ورجل مالٌ ورجل3 هاعٌ لاعٌ. فجوّز أن يكون هذا فَعِلا كفَرِقَ, فهو
فرِق, وبطر فهو بطِر. ويجوز أن يكون فاعلًا حذفت عينه وصارت ألفه عوضًا
منها كقوله:
لاثٌ به الأشاء والعُبريّ4
ومما حذفت عينه وصار الزائد عوضًا منها قولهم: سيد وميت وهين ولين؛ قال
5:
هيْنون لينون أيسار ذوو يسرٍ ... سوّاس مكرمةٍ أبناءُ أيسار6
وأصلها فيعِل: سيد وميت وهين ولين, حذفت عينها وجعلت ياء فيعِل عوضًا
منها. وكذلك باب قيدودة وصيرورة وكينونة, وأصلها فيعلولة حذفت عينها,
وصارت ياء فيعلولة الزائدة3 عوضًا منها.
فإن قلت: فهلَّا كانت لام فيعلولة الزائدة عوضًا منها, قيل: قد صحَّ في
فيعل من نحو: سيد وبابه, أن الياء الزائدة عوض من العين، وكذلك الألف
__________
1 انظر 1/ 226، 2/ 77 من هذا الكتاب.
2 كذا في د، هـ، ز: وفي ش: "على".
3 سقط في ش.
4 انظر ص131 من هذا الجزء.
5 أي: عبيد بن المريدس الكلابي. وانظر الكامل 2/ 3.
6 الأيسار. القوم يجتمعون على اليسر, واليسر: اللين والانقباد، وتسكن
السين أيضًا.
(2/291)
الزائدة في خافٍ و"هاع لاع"1 عوض من العين.
وجوَّز سيبويه أيضًا ذلك في أينق, فكذلك أيضًا ينبغي أن تحمل فيعلولة
على ذلك. وأيضًا فإن الياء أشبه بالواو من الحرف الصحيح في باب قيدودة
وكينونة. وأيضًا فقد جعلت2 تاء التفعيل عوضًا من عين الفعّال. وذلك
قولهم: قطعته تقطيعًا , وكسرته تكسيرًا, ألا ترى أن الأصل قطاع وكسار,
بدلالة قول الله سبحانه: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} 3 وحكى
الفراء قال: سالني أعرابي فقال: أحِلَّاق أحب إليك أم قِصَّار, فكما أن
التاء الزائدة في التفعيل عوض من العين فكذلك ينبغي أن تكون الياء في
قيدودة عوضًا من العين لا الدال4.
فإن قلت: فإن اللام أشبه بالعين من الزائد, فهلّا كانت لام القيدودة
عوضًا من عينها, قيل: إن الحرف الأصلي القوي5 إذا حذف لحق بالمعتل
الضعيف, فساغ لذلك أن ينوب عنه الزائد الضعيف. وأيضًا فقد رأيت كيف
كانت تاء6 التفعيل الزائدة عوضًا من عينه, "وكذلك ألف فاعل كيف كانت
عوضًا من عينه"7 في خاف وهاع ولاع ونحوه. وأيضًا فإن عين قيدودة
وبابها, وإن كانت أصلًا فإنها على الأحوال كلها حرف علة ما دامت موجودة
ملفوظًا بها، فكيف
__________
1 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "هاغ ولاع".
2 انظر ص71 من هذا الجزء.
3 آية: 28، سورة النبأ.
4 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "اللام" يراد لام الميزان، فأما الدال فهي
في الموزون "قيدودة". وكل صحيح.
5 سقط في ش.
6 في ش: "لام" وهو خطأ في النسخ.
7 سقط ما بين القوسين في ش.
(2/292)
بها إذا حذفت1 فإنها حينئذ توغِل في
الاعتلال والضعف. ولو لم يعلم تمكّن هذه الحروف في الضعف إلّا بتسميتهم
إياها حروف العلة لكان كافيًا. وذلك أنها في أقوى أحوالها ضعيفة, ألا
ترى أن هذين2 الحرفين إذا قويا بالحركة فإنك حينئذ3 مع ذلك مؤنس فيهما
ضعفًا. وذلك أنّ تحملهما للحركة أشقّ منه في غيرهما. ولم يكونا كذلك
إلا لأنَّ مبنى أمرهما على خلاف القوة. يؤكد ذلك عندك أن أذهب الثلاث
في الضعف والاعتلال الألف. ولما كانت كذلك لم يمكن4 تحريكها البتة,
فهذا أقوى دليل على أن الحركة إنما يحملها ويسوغ فيها5 من الحروف
الأقوى لا الأضعف. ولذلك ما تجد أخف الحركات الثلاث6 -وهي الفتحة-
مستثقلة7 فيهما8 حتى9 يجنح لذلك, ويستروح إلى إسكانها نحو قوله:
يا دار هند عفت إلا أثافيها10
وقوله:
كأن أيديهنّ بالقاع القرق11
__________
1 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "انحذفت".
2 أي: الواو والياء.
3 سقط في ش.
4 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "يكن".
5 في د، هـ، ز: "فيه".
6 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "الثلاثة", وإذا لم يذكر المعدود المؤنَّث
بعد العدد جاز تذكير العدد وتأنيثه.
7 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "مستقلة".
8 كذا في ز. وفي ش: "فيها".
9 كذا في الأصول, والأقرب: "حين".
10 انظر ص308 من الجزء الأول, والبيت للحطيئة, انظر ديوانه تحقيق:
نعمان أمين طه ص201 "المصحح" وعجزه:
بين الطوي فصارات فواديها
11 انظر ص307 من الجزء الأول.
(2/293)
ونحو من1 ذلك قوله 2:
وأن يعرين إن كسى الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف
نعم، وإذا كان الحرف1 لا يتحامل بنفسه حتى يدعو إلى اخترامه وحذفه كان
بأن يضعف عن تحمل الحركة الزائدة عليه فيه أحرى وأحجى, وذلك نحو قول
الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 2 و {ذَلِكَ مَا كُنَّا
نَبْغِ} 4 و {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 5، وقوله 6:
... ... ... ... وما ... قرقر قمر الواد بالشاهق7
وقال الأسود "بن يعفر "8:
فألحقت أخراهم طريق ألاهم9
__________
1 سقط في ش.
2 أي: سعيد بن مسحوج الشيباني. وقد تمثّل بها أبو خالد القناني. وانظر
الكامل 7/ 81، واللسان "كرم" و"كسا"، وكرم يريد: كريمات وهو من الوصف
بالمصدر.
3 آية: 4 سورة الفجر.
4 آية: 64 سورة الكهف.
5 آية: 9 سورة الرعد.
6 أي: أبي الربيس التغلبي. وانظر اللسان "ودي".
7 قبله مع تمام بيته:
لا صلح بيني فاعلموه ولا ... بينكم ما حملت عاتقي
سيفي وما كنا بنجد وما ... قرقر قمر الواد بالشاهق
قرقر: صوّت. القمر: ضرب من الطهور. والشاهق، الجبل المرتفع، وفي
اللسان: "قرر" أن قائله أبو عامر جد العباس بن مرداس.
8 سقط في د، هـ، ز. والأسود هو أعشى نهشل. وانظر الصبح المنير 302،
والخزانة 4/ 525، والأغاني "طبعة دار الكتب" 11/ 138.
9 عجزه:
كما قيل نجم قد خوى متتابع
(2/294)
يريد أولاهم، و {يَمْحُ اللَّهُ
الْبَاطِلَ} 1 و {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} 2 كتبت في المصحف بلا واو
للوقف عليها كذلك. وقد حذفت الألف في نحو ذلك, قال رؤبة:
وصَّاني العجاج فيما وصني3
يريد: فيما وصاني. وذهب أبو عثمان في قول الله -عز اسمه: "يَا أَبَتَ"4
إلى أنه أراد يا أبتاه, وحذف الألف. ومن أبيات الكتاب قول لبيد:
رهط مرجوم ورهط ابن المعلّّ5
يريد المعلّي, وحكى6 أبو عبيدة وأبو الحسن وقطرب وغيرهم رأيت فرج, ونحو
ذلك. فإذا كانت هذه الحروف تتساقط وتهي عن حفظ أنفسها وتحمل7 خواصَّها
وعواني8 ذواتها, فكيف بها إذا جُشِّمت احتمال الحركات النّيفات على
مقصور صورها.
نعم وقد أعرب بهذه الصور9 أنفسها, كما يعرب بالحركات التي هي أبعاضها.
وذلك في باب أخوك وأبوك, وهناك وفاك, وحميك وهنيك, والزيدان والزيدون
__________
1 آية: 24، سورة الشورى.
2 آية 18، سورة العلق.
3 انظر الديوان 187.
4 ورد في عدّة سور. ومن ذلك في سورة يوسف آيتا 4، 10, والمعنى هنا
القرءة بفتح تاء أبت, وهي قراءة ابن عامر وأبي جعر والأعرج وقراءة
الجمهور كسر التاء.
5 قبله:
وقبيل من لكيز شاهد
لكيز من عبد القيس, ومرجوم من أشرافهم واسمه عامر بن مرّ, وابن
المعلَّى جد الجارود بن بشير ابن عمرو بن المعلّى من عبد القيس, وقد
نسب هذا البيت في التاج "رجم" إلى لبيد كما هنا، ولا يوجد في قصيدته
اللامية التي على هذا الروي في ديوانه. انظر الكتاب 2/ 291.
6 انظر في هذه اللغة ص99 من هذا الجزء.
7 في د، هـ، ز: "عمل" وهو تحريف.
8 أي: ذواتها العواني, أي: الضعيفات، يقال: النساء عوان, أي: ضعيفات أو
مأسورات عند أزواجهن.
9 في د، هـ، ز: "الحروف".
(2/295)
والزيدين. " وأجريت"1 هذه الحروف مجرى
الحركات في زيدٌ وزيدًا وزيدٍ, ومعلوم أن الحركات لا تحمل -لضعفها-
الحركات. فأقرب أحكام هذه الحروف إن لم تمنع2 من احتمالها الحركات أن3
إذا تحملتها جفت عليها وتكاءدتها4.
ويؤكد عندك ضعف هذه الأحرف الثلاثة أنه5 إذا وجدت أقواهن -وهما الواو
والياء- مفتوحًا ما قبلها فإنهما كأنهما تابعان لما هو منهما؛ ألا ترى
إلى ما جاء عنهم من نحو: نوبة ونوب, وجوبة6 وجوب, ودولة ودول. فمجيء
فَعْلة على فُعَل يريك أنها كأنها إنما جاءت عندهم من فُعْلة, فكأن
دَولة دُولة, وجَوْبة جُوبة, ونَوبة نُوبة. وإنما ذلك لأنَّ الواو مما
سبيله أن يأتي تابعًا للضمة.
وكذلك ما جاء من فَعلة مما عينه ياء على فِعَل؛ نحو: ضَيْعة وضِيع,
وخيمة وخيم, وعَيبة7 وعِيب, كأنه إنما جاء على أن واحدته فِعلة نحو:
ضِيعة وخِيمة وعِيبة. أفلا تراهما مفتوحًا ما قبلهما مجراتين مجراهما
مكسورًا ومضمومًا ما قبلهما, فهل هذا إلّا لأنَّ الصنعة مقتضية لشياع
الاعتلال فيهما.
فإن قلت: ما أنكرت ألا يكون ما جاء من نحو: فَعْلة على فُعَل -نحو:
نُوب وجُوَب ودُول- لما ذكرته من تصور الضمة في الفاء, ولا يكون ما جاء
من فَعلة على فِعَل, نحو: ضِيع وخِيم وعِيب لما ذكرته من تصور الكسرة
في الفاء, بل لأنَّ ذلك ضرب من التكسير ركَّبوه فيما عينه معتلة, كما
ركَّبوه فيما عينه صحيحة؛
__________
1 في د، هـ، ز: "فأجريت".
2 في د، هـ، ز: "يمتنع".
3 سقط في د، هـ، ز.
4 يقال: تكاءدة الأمر: شق عليه وصعب.
5 في د، هـ، ز: "أنك".
6 هي الحفرة، وفجوة ما بين البيوت.
7 هي وعاء من جلد يكون فيه المتاع.
(2/296)
نحو لأمةٍ1 ولُؤَم وعَرْصة وعُرَص وقَرْية
وقُرًى وبروة2 وبُرا -فيما ذكره أبو علي- ونَزْوة3 ونُزًا -فيما ذكره
أبو العباس- وحَلْقة وحِلَق, وفَلْكة وفَلك.
قيل: كيف تصرفت الحال فلا اعتراض شكَّ في أن الياء والواو أين وقعتا
وكيف تصرَّفتا معتدَّتان حرفي علة ومن أحكام4 الاعتلال أن يتبعا ما هو
منهما. هذا، ثم إنَّا5 رأيناهم قد كسَّروا فَعْلة مما6 هما عيناه على
فُعَل وفِعَل, نحو: جُوَب ونُوَب, وضِيَع وخِيَم, فجاء تكسيرهما تكسير
ما واحدة مضموم الفاء ومكسورها. فنحن الآن بين أمرين 7: إما أن نرتاح
لذلك ونعلله, وإما أن نتهالك فيه ونتقبله غُفْل الحال, ساذَجًا من
الاعتلال. فإن يقال: إن8 ذلك لما ذكرناه من اقتضاء الصورة فيهما أن
يكونا في الحكم تابعين لما قبلهما أولى من أن ننقض الباب فيه, ونعطي
اليد عنوة به من غير نظر له ولا اشتمال من الصنعة عليه, ألا ترى إلى
قوله: وليس شيء9 مما يضَّطرون إليه إلا هم يحاولون10 له وجهًا. "
فإذا"11 لم يخل مع الضرورة من وجه من القياس محاول فهم لذلك مع الفسحة
في حال السعة أولى بأن يحاولوه, وأحجى بأن يناهدوه12 فيتعللوا13 به ولا
يهملوه.
فإذا ثبت ذلك في باب ما عينه ياء أو واو, جعلته الأصل في ذلك, وجعلت ما
عينه صحيحة فرعًا له ومحمولًا عليه, نحو: حِلَقٍ وفِلكٍ وعُرَص ولُؤَم
وقرى وبرا, كما أنهم لما أعربوا بالواو والياء والألف في الزيدون
والزيدين والزيدان, تجاوزوا
__________
1 هي الدرع.
2 هي الحلقة في أنف البعير.
3 انظر سيبويه 2/ 188.
4 في د، هـ، ز: "أحكام أحكام".
5 في د، هـ، ز: "إنا قدر".
6 في د، هـ، ز: "فيما".
7 في د، هـ، ز: "الأمرين".
8 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "لك".
9 سقط في ش.
10 في د، هـ، ز: "به".
11 في د، هـ، ز: "فإن".
12 أي: يناهضوه ويقصدون.
13 في د، هـ، ز: "فيعللوا".
(2/297)
ذلك إلى أن أعربوا بما ليس من حروف اللين.
وهو النون في يقومان وتقعدين وتذهبون. فهذا1 جنس من تدريج اللغة الذي
تقدَّم بابه فيما مضى من كتابنا هذا. وأما ما حذفت لامه وصار الزائد
عوضًا منها فكثير.
منه باب سنة ومائة ورئة وفئة وعضة وضعة. فهذا ونحوه مما حذفت لامه
وعوّض منها تاء التأنيث, ألا تراها كيف تعاقب اللام في نحو: برة وبرا,
وثبة وثبا. وحكى أبو الحسن عنهم: رأيت مِئْيا بوزن مِعْيًا. فلما حذفوا
قالوا: مائة.
فأما بنت وأخت, فالتاء عندنا بدل من لام2 الفعل وليست عوضًا.
وأما ما حذف لالتقاء السكانين من هذا النحو فليس الساكن الثاني3 عندنا
بدلًا ولا عوضًا؛ لأنه ليس لازمًا. وذلك نحو: هذه عصًا ورحًا, وكلمت
معلّى, فليس التنوين في الوصل ولا الألف التي هي بدل منها4 في الوقف
-نحو: رأيت عصًا, عند5 الجماعة، وهذه عصا, ومررت بعصا, عند أبي عثمان
والفراء- بدلًا من لام الفعل ولا عوضًا, ألا تراه غير لازم؛ إذ كان
التنوين يزيله الوقف, والألف التي هي بدل منه يزيلها الوصل. وليست كذلك
تاء مائة وعضة وسنة وفئة وشفة؛ لأنها ثابتة في الوصل ومبدلة هاء في
الوقف. فأمَّا الحذف فلا حذف. وكذلك ما لحقه علم الجمع نحو: القاضون
والقاضين والأعلَون والأعلَين, فعلم الجمع ليس عوضًا ولا بدلًا؛ لأنه
ليس لازمًا.
__________
1 في د، هـ، ز: "وهذا".
2 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "لامي".
3 في د، هـ، ز: "الباقي".
4 في د، هـ، ز: "منه".
5 ذلك أنهم يرون اعتبار المقصور بالصحيح، فحكموا أن الألف في النصف ألف
مجتلبة للوقف بدلًا من التنوين، كما نقول: رأيت زيدًا، فأما في حالتي
الرفع والجر فالألف بدل من لام الكلمة عادت بعد حذف التنوين الذي كان
سببًا في حذفها. فأما أبو عثمان والفراء فيريان أن الألف للوقف في
الأحوال اللثلاث, وأن لام الكلمة لا تعود في الوقف في الأحوال جميعًا.
وانظر الأشموني على الألفية في مبحث الوقف.
(2/298)
فأمَّا قولهم: هذان وهاتان واللذان واللتان
والذين واللذون, فلو قال قائل: إن علم التثنية والجمع فيها عوض من
الألف1 والياء2 من حيث كانت هذه أسماء صيغت للتثنية والجمع, لا على حد
رجلان وفرسان وقائمون وقاعدون, ولكن على حد3 قولك: هما وهم وهن, لكان
مذهبًا, ألا ترى أن "هذين " من "هذا " ليس على "رجلين" من "رجل", ولو
كان كذلك لوجب أن تنكره البتة, كما تنكر الأعلام نحو: زيدان وزيدين
وزيدون وزيدين, والأمر في هذه الأسماء بخلاف ذلك, ألا تراها تجري مثناة
ومجموعة أوصافًا على المعارف4 كما تجري عليها مفردة. وذلك قولك: مررت
بالزيدين هذين, وجاءني أخواك اللذان في الدار. وكذلك قد توصف هي أيضًا
بالمعارف نحو قولك: جاءني ذانك الغلامان, ورأيت اللذين في الدار
الظريفين. وكذلك أيضًا تجدها في التثنية والجمع تعمل من نصب الحال ما
كانت تعمله مفردة, وذلك نحو قولك 5: هذان قائمين الزيدان, وهؤلاء
منطلقين إخوتك. وقد تقصينا القول في6 ذلك في كتابنا "في سر الصناعة".
وقريب من هذان واللذان قولهم: هيهات مصروفة "وغير مصروفة"7, وذلك أنها
جمع هيهاة, وهيهاة عندنا رباعية مكررة8، فاؤها ولامها الأولى هاء،
وعينها ولامها الثانية ياء. فهي -لذلك- من باب صِيِصية9. وعكسها باب
يَلْيَل10 ويَهْيَاه11، قال ذو الرمة:
__________
1 أي: في اسم الإشارة.
2 أي: في اسم الموصول.
3 سقط في ش.
4 في د، هـ، ز: "المعرفة". وانظر في هذا البحث الكتاب 2/ 104.
5 سقط في ش.
6 في د، هـ، ز: "على".
7 سقط في د، هـ، ز، وثبت في ش.
8 فأصلها هيهية، فقلبت الياء الأخيرة ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
9 هي قرن الحيوان، وتطلق على ما يمتنع به كالحصن.
10 هو وادي ينبع.
11 هو صوت الاستجابة، يدعو الرجل صاحبه فيقول: ياء, أي: أقبل واستجب،
فيقول صاحبه: يهياه أي: استجبت واستمعت.
(2/299)
تلؤم يهياهٍ بياهٍ وقد مضى ... من الليل
جَوْرٌ واسبطرَّتْ كواكبه1
وقال كُثيِّر:
وكيف ينال الحاجبية آلِفٌ ... بيليل ممساه وقد جاوزت2 رقدًا
فهيهاةُ من مضعَّف الياء بمنزلة المرمرة والقرقرة.
فكان قياسها إذا جمعت أن تقلب اللام ياء, فيقال: هيهيات كشوشيات3
وضوضيات؛ إلا أنهم حذفوا اللام؛ لأنها في آخر اسم غير متمكن ليخالف
آخرها آخر الأسماء المتمكنة؛ نحو: رَحَيَان ومَوْليَان. فعلى هذا قد4
يمكن أن يقال: إن الألف والتاء في هيهات عوض من لام الفعل في هيهاةٍ؛
لأن هذا ينبغي أن يكون اسمًا صيغ للجمع بمنزلة الذين وهؤلاء.
فإن قيل: وكيف ذاك وقد يجوز تنكيره في قولهم: هيهات هيهات, وهؤلاء
والذين لا يمكن تنكيرهما5؛ فقد صار إذًا هيهات بمنزلة قصاع وجفان
"وكرام وظراف"6.
قيل: ليس التنكير في هذا الاسم المبني على حدّه في غيره من المعرب, ألا
ترى أنه لو كانت هيهات من هيهاة بمنزلة أرطيات من أرطاة, وسعليات من
سعلاة, لما كانت إلّا نكرة, كما أن سعليات وأرطيات لا تكونان7 إلا
نكرتين.
__________
1 الحديث عن راع ضلّ صاحبه في الليل, فهو يتسمَّع الأصوات, أو يصبح
يدعو صاحبه عسى أن يرد عليه، وهو يتلوّم في ذلك أي: يتمكث، والجوز،
الوسط، واسبطرت: أي: امتدَّت للمغيب، وانظر الديوان 49.
2 في دبوا 2/ 174 هذا البيت في ثمانية أبيات على روي اللام، وفي "نخلا"
بدل "رقدا". ويبدو أن ما ها مغير عمَّا في الديوان، والحاجبية عزة التي
عرف بيا. وهذه النسبة إلى جدِّها الأعلى حاجب بن غفار من كنانة، وانظر
الخزانة 2/ 381.
3 جمع شوشاة وهو وصف, يقال: ناقة شوشاة, أي: سريعة، وامرأة شوشاة:
كثيرة الحديث.
4 سقط في ش.
5 في د، هـ، ز: "تنكيره".
6 ثبت ما بين القوسين في د، هـ، ز. وسقط في ش.
7 في د، هـ، ز: يكونان".
(2/300)
فإن قيل: ولم لا تكون سعليات معرفة إذا
جعلتها علمًا؛ كرجل أو امرأة سميتها بسعليات وأرطيات. وكذلك أنت في
هيهات إذا عرَّفتها فقد جعلتها علمًا على معنى البعد, كما أن غاق فيمن
لم ينون فقد جعل علمًا لمعنى الفراق, ومن نون فقال: غاقٍ غاقٍ, وهيهاة
هيهاة, هيهاتٍ هيهاتٍ, فكأنه قال: بعدًا بعدًا, فجعل التنوين علمًا
لهذا المعنى, كما جعل حذفه علمًا لذلك.
قيل: أما على التحصيل فلا تصح هناك حقيقة معنى العلمية. وكيف يصح ذاك
وإنما هذه أسماء1 سمي بها الفعل في الخبر, نحو: شتان وسرعان وأف
وأوتاه, وسنذكر ذلك في بابه. وإذا كانت أسماء للأفعال والأفعال أقعد
شيء في التنكير وأبعده عن التعريف, علمت أنه تعليق لفظ متأول2 فيه
التعريف على معنى لا يضامه إلا التنكير. فلهذا قلنا: إن تعريف باب
هيهات لا يعتدّ تعريفًا. وكذلك غاق وإن لم يكن اسم فعل, فإنه على سمته,
ألا تراه صوتًا بمنزلة حاء وعاء وهاء, وتعرّف الأصوات من جنس تعرّف
الأسماء المسماة "بها الأفعال"3.
فإن قيل: ألا تعلم أن معك من الأسماء ما تكون4 فائدة معرفته كفائدة
نكرته البتة. وذلك قولهم: غدوة هي في معنى غداة, إلا أن غُدوة معرفة,
وغَداة نكرة. وكذلك أسَد وأُسامة وثعلب وثُعالة وذئب وذُؤالة وأبو
جَعْدة وأبو مُعْطة. فقد تجد هذا التعريف المساوي5 لمعنى التنكير
فاشيًا في3 غير ما ذكرته, ثم لم يمنع ذلك أسامة وثعالة وذؤالة وأبا
جعدة وأبا معطة6 ونحو ذلك أن تُعدّ في الأعلام, وإن لم يخص الواجد من
جنسه, فكذلك لم لا يكون هيهات كما ذكرنا؟
__________
1 في د، هـ، ز: "هي".
2 في ش "يتأول".
3 سقط في ش.
4 في د، هـ، ز: "يكون".
5 في د، هـ، ز: "المساوق".
6 أبو جعده وأبو معطة كنيتان للذئب, وسمي بالثاني لتمعط شعره, أي:
انجراده عنه وسقوطه.
(2/301)
قيل: هذه الأعلام وإن كانت معنياتها نكرات
فقد يمكن في كل واحد منها أن يكون معرفة صحيحة كقولك: فرقت ذلك الأسد
الذي فرقته, وتبركت1 بالثعلب الذي تبركت1 به، وخسأت الذئب الذي خسأته.
فأما الفعل فمِمَّا لا يمكن تعريفه على وجه, فلذلك لم يعتد2 التعريف
الواقع عليه لفظًا سمه خاصة ولا تعريفًا.
وأيضًا فإن هذه الأصوات عندنا في حكم الحروف, فالفعل إذًا أقرب إليها,
ومعترض بين الأسماء3، وبينها, أوَلا ترى أن البناء الذي سرى في باب: صه
ومه وحيهلا ورويدًا وإيه وأيها وهلمّ, ونحو ذلك من باب: نزال ودراك
ونظار ومناع, إنما أتاها من قبل تضمن هذه الأسماء معنى لام الأمر؛ لأن
أصل ما صَهْ اسم له -وهو اسكت- لتسكت؛ كقراءة4 النبي -صلى الله عليه
وسلم: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} 5 وكذلك مَهْ هو اسم اكفُفْ, والأصل
لتكفف. وكذلك نزال هو اسم انزل, والأصل: لتنزل. فلما كان معنى اللام
عائرًا6 في هذا الشق وسائرًا في أنحائه, ومتصورًا في جميع جهاته دخله
البناء من حيث تضمَّن هذا المعنى, كما دخل أين وكيف لتضمَّنهما7 معنى
حرف الاستفهام, وأمس لتضمنه معنى حرف التعريف, ومن لتضمنه معنى حرف
الشرط, وسوى ذلك. فأما أفّ وهيهات وبابهما مما هو اسم للفعل فمحمول في8
ذلك على أفعال الأمر. " وكأنَّ"9 الموضع في ذلك إنما هو لصهْ ومه ورويد
ونحو ذلك, ثم حمل عليه باب أفّ وشتان ووشكان "من حيث"10 كان اسمًا سمي
به الفعل.
__________
1 في د، هـ، ز: "تباركت".
2 في د، هـ، ز: "يعتد ذا" وكأن الأصل: "يعتدد" فحول إلى ما ترى. وهذا
كما في الأشباه.
3 في د، هـ، ز: "الاسم".
4 يعني بقراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أن المحدثين نقلوها عنه،
ولم يدونها القراء من طرفهم, وهذا اصطلاح للمفسرين. انظر شهاب البيضاوي
6/ 327.
5 آية: 58 سورة يونس.
6 أي: مترددًا, ومن أمثالهم: كلب عائر خير من كلب رابض.
7 في د، هـ، ز: "لنضمنها".
8 سقط هذا الحرف في ش.
9 في د، هـ، ز: "فكأن".
10 في د، هـ، ز: "وحيث".
(2/302)
وإذا جاز لأحمد وهو اسم معرفة1 علم أن يشبه
ب"أركب" وهو فعل نكرة, كان أن يشبه اسم سمِّي به الفعل في الخبر باسم
سمِّي به الفعل في الأمر أولى؛ ألا ترى أن كل واحد منهما اسم, وأن
المسمَّى به أيضًا فعل. ومع ذا فقد تجد لفظ الأمر في معنى الخبر نحو
قول الله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} 2 وقوله عز اسمه: {قُلْ
مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} 3
أي: فليمدنَّ. ووقع أيضًا لفظ الخبر في معنى الأمر نحو قوله سبحانه:
{لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} 4, وقولهم: هذا الهلال. معناه:
انظر إليه. ونظائره كثيرة.
فلمَّا كان أفّ كصه في كونه اسمًا للفعل5 كما أنَّ صه كذلك, ولم يكن
بينهما إلّا أن هذا اسم لفعل مأمور به, وهذا اسم لفعل مخبر به6، وكان
كل واحد من لفظ الأمر والخبر قد7 يقع موقع صاحبه, صار كأن8 كل واحد
منها هو صاحبه, فكأن لا خلاف هناك في لفظ ولا معنى. وما كان على بعض
هذه القربى والشبكة ألحق بحكم ما حمل عليه, فكيف بما ثبتت فيه ووقّت
عليه واطمأنت به. فاعرف ذلك.
ومما حذفت لامه وجعل الزائد عوضًا منها فرزدق وفريزيد9 وسفرجل وسفيريج.
وهذا10 باب واسع.
__________
1 زيادة في د، هـ، ز.
2 آية: 28، سورة مريم.
3 آية: 75، سورة مريم.
4 آية 223 سورة البقرة، وهو يريد قراءة "تضار" يرفع الراء مشدَّدة, وهي
قراءة بن كثير وأبي عمرو ويعقوب وأبان عن عاصم. وانظر البحر 2/ 214.
5 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "الفعل".
6 في د، هـ، ز: "عنه".
7 سقط في ش.
8 سقط في د، هـ، ز.
9 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "فريزيق" وكلاهما صحيح.
10 في د، ز: "هو".
(2/303)
فهذا طرف من القول على ما زيد من الحروف
عوضًا من حرف أصلي محذوف, وأما الحرف الزائد عوضًا من حرف زائد فكثير.
منه التاء في فرازنة وزنادقة وجحاجحة. لحقت عوضًا من ياء المد في
زناديق وفرازين وجحاجيح.
ومن ذلك ما لحقته ياء المد عوضًا من حرف زائد حذف منه نحو قولهم في
تكسير مدحرج وتحقيره: دحاريج ودحيريج, فالياء عوض من ميمه. وكذلك
جحافيل وجحيفيل , الياء عوض من نونه1, وكذلك مغاسيل ومغيسيل , الياء
عوض من تائه2. وكذلك زعافير3، الياء عوض من ألفه ونونه.
وكذلك الهاء في تَفْعِلة في المصادر عوض من ياء تفعيل أو ألف فعال.
وذلك نحو: سليته تسلية, وربيته تربية 4: الهاء بدل من ياء تفعيل في
تسلَّى وتربَّى, أو ألف سلاء ورباء. أنشد أبو زيد:
باتت تنزَّى دلوها تنزيًا ... كما تنزى شهلة صبيًّا5
ومن ذلك تاء الفعللة في الرباعي نحو: الهملجة6 والسرهفة؛ كأنها عوض من
ألف فعلال نحو: الهملاج والسرهاف, قال العجاج:
سرهفته ما شئت من سرهاف7
__________
1 أي: نون جحنفل. وهو الغليظ الشفة.
2 أي: تاء مغتسل، بفتح التاء وهو موضع الاغتسال.
3 أي: في جمع زعفران.
4 في د، ز بعد هذا "ورثيته ترثية".
5 الشهلة: العجوز. وفي شرح شواهد الشافية 67: "وهذا الشعر مشهور في كتب
اللغة وغيرها. ولم يذكر أحد تتمته ولا قائلة".
6 هي حسن سير الدابة في سرعة.
7 يقال: "سرهفة: أحسن غذاءه، وهذا من أرجوزة في الحديث عن ابنه رؤبة.
وانظر الخزانة 1/ 249، والديوان، والسمط 788.
(2/304)
وكذلك ما لحق بالرباعي من نحو: الحوقلة
والبيطرة والجهورة والسلقاة. كأنها عوض من ألف حيقال وبيطار وجهوار
وسلقاء.
ومن ذلك قول التغلبي 1:
متى كنَّا لأمك مقتوينا2
والواحد مقتويّ وهو منسوب إلى مقتي وهو مفعل من القَتْو وهو الخدمة؛
قال:
إني امرؤ من بني خزيمة لا ... أحسن قتو الملوك والحفدا3
فكان4 قياسه إذا جمع أن يقال: مقتويون ومقتويين, كما أنه إذا جمع بصري
وكوفي قيل: كوفيون وبصريون, ونحو ذلك, إلا إنه جعل علم الجمع معاقبًا
لياءي الإضافة, فصحت اللام لنية الإضافة, كما تصح معها. ولولا ذلك لوجب
حذفها لالتقاء الساكنين, وأن يقال: مقْتَوْن ومقْتَيْن, كما يقال: هم
الأعلَوْن وهم المصطَفَوْن, قال الله سبحانه: {وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ} 5 وقال عز اسمه:
__________
1 أي: عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة.
2 صدره:
تهدنا وأوعدنا رويدًا
وهو من معلقته.
3 الحفد: الخدمة، ويكون أيضًا لضرب من السير. وفي رواية اللسان "قتو":
"الخببا" بدل "الحفدا", والحفد أصله السكون فحرك للوزن، كما قال رؤبة:
وقائم الأعماق خاوي المحترق ... مشتبه الأعماق لماع الخفق
فالخفق أصله الخفْق بالسكون فحرك لاستقامة الشعر. وانظر الجمهرة 2-27،
وقد تقدَّم هذا في ص106 من هذا الجزء.
4 في د، هـ، ز: "وكان".
5 آية: 139، سورة آل عمران.
(2/305)
{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} 1 فقد ترى إلى تعويض2 علم الجمع من
ياءي3 الإضافة والجميع زائد.
وقال سيبويه4 في ميم فاعلته مفاعلة: إنها عوض من ألف فاعلته, وتتبَّع
ذلك محمد بن يزيد فقال: ألف فاعلت5 موجودة في المفاعلة, فكيف يعوض من
حرف هو6 موجود غير معدوم. وقد ذكرنا ما في هذا ووجه سقوطه عن6 سيبويه
في موضع غير هذا7. لكن الألف في المفاعل بلا هاء هي ألف فاعلته لا
محالة, "وذلك"8 نحو: قاتلته مقاتلًا وضاربته مضاربًا قال:
أقاتل حتّى لا أرى لي مقاتلًا ... وأنجو إذا لم ينج إلّا المكيس9
وقال:
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلًا ... وأنجو إذا غم الجبان من الكرب10
__________
1 آية: 47، سورة ص.
2 في د، هـ، ز، بعده زيادة: "ياء".
3 في د، هـ، ز: "ياء".
4 الكتاب 2/ 243 وانظر هامش سيبويه في الموطن السابق.
5 في د، هـ، ز: "فاعلته".
6 في د، هـ، ز: "وهو".
7 في د، هـ، ز: "عند".
8 عقب السيوطي في الأشباه ج1 ص129، بقوله: "يعني في كتاب التعاقب" وفيه
أن أبا علي رد قول المبرد في الجزء السنين من التذكرة، وحاصله أن الألف
ذهبت وهذه غيرها، وفي زيادة لحقت المصدر؛ كما تلحق المصادر أصناف
زيادتها بين ألف الإفعال وياء التفعيل.
9 سقط ما بين القوسين في د، هـ.
10 انظر ص368، من الجزء الأول من هذا الكتاب.
(2/306)
فأما أقمت إقامة, وأردت إرادة "ونحو ذلك"1
فإن الهاء فيه على مذهب الخليل وسيبويه عوض من ألف إفعال الزائدة. وهي
في قول أبي الحسن عوض من عين إفعال, على مذهبهما في باب مفعول من2 نحو:
مبيع ومقول. والخلاف في ذلك قد عرف وأحيط بحال المذهبين فيه, فتركناه
لذلك.
ومن ذلك الألف في يمانٍ وتهامٍ وشئامٍ: هي عوض من إحدى ياءي الإضافة في
يمنيّ وتهاميّ وشأميّ. وكذلك ألف ثمان3. قلت لأبي علي: لم زعمتها للنسب
فقال: لأنها ليست بجمع مكسر فتكون كصحارٍ. قلت له 4: نعم ولو لم تكن
للنسب4 للزمتها الهاء البتة؛ نحو: عباقية5 وكراهية وسباهية6. فقال: نعم
هو كذلك.
ومن ذلك أنَّ7 ياء التفعيل بدل من ألف الفعال, كما أن التاء في أوله
عوض من إحدى عينيه.
ففي هذا كاف بإذن الله.
وقد أوقع هذا التعاوض في الحروف المنفصلة عن الكلم غير المصوغة فيها
الممزوجة بأنفس صيغها. وذلك قول الراجز -على مذهب الخليل:
إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يومًا على من يتَّكل8
__________
1 في د، هـ، ز: "نحوه".
2 سقط في د، هـ، ز.
3 في ش: "يمان" وهو تحريف.
4 سقط في د، هـ، ز.
5 من معانيها شجر له شوك يؤذي من علق به.
6 يقال: رجل سباهية: متكبر.
7 سقط في ش.
8 انظر الكتاب 1/ 443.
(2/307)
أي: من يتكل عليه. فحذف "عليه" هذه, وزاد
"على" متقدّمة, ألا ترى أنه يعتمل1 إن لم يجد من يتكل عليه. وندع ذكر
قول غيره ههنا. وكذلك قول الآخر 2:
أولى فأولى يا امرأ القيس بعدما ... خصفن بآثار المطيّ الحوافرا
أي: خصفن بالحوافر آثار المطيّ, يعني: آثار أخفافها. فحذف الباء من
"الحوافر", وزاد أخرى عوضًا منها في "آثار المطي".
هذا على قول من لم يعتقد القلب, وهو أمثل, فما وجدت مندوحة عن القلب لم
ترتكبه.
وقياس هذا الحذف والتعويض قولهم: بأيهم تضرب أمرر, أي: أيهم تضرب أمرر
به.
__________
1 هذا ما فهمه ابن جني في كلام سيبويه. وفهم الناس قديمًا فيه أنه: إن
لم يجد على من يتكل عليه؛ نحو بمن تمرّ أمر به، فحذف "عليه", وقد اعترض
على سيبويه في هذا أن "يجد" لا يتعدَّى بالحرف "على"؛ إذ هو متعدٍّ
بنفسه. وانظر الخزانة 4/ 252.
2 هو مقاس العائذيّ, والبيت من قصيدة مفضَّلية يتوعَّد فيها أمرأ القيس
بن بحر بن زهير بن جناب الكلبي، فقوله: "أولى فأولى" توعّد. وقوله:
"خصفن" أي: الخيل, أي: تبعت الإبل - وهي المعنى بالمطي. وذلك على أن
الإبل تسبق الخيل، وذلك ما كانوا يفعلون, ومن معاني الخصف الخرؤ
والستر, فكأن السائر خلف آخر يستر أثره ويخصفه. وقد فسّر البيت على
نسبة الخصف إلى الإبل, أي: إن الإبل تتبع الخيل. ويبدو أنه على هذا لا
حذف ولا قلب. وانظر اللسان "خصف" وشرح المفضليات.
(2/308)
|