الخصائص

باب في استعمال الحروف بعضها مكان بعض:
هذا باب يتلقاه الناس مغسولًا1 ساذجًا من الصنعة, وما أبعد الصواب عنه وأوقفه دونه.
__________
1 أي: هاربًا من الدقة، كأنه غسل منها، أو لتفاهته يستحق أن يغسل ويمحى. وانظر الأساس.

(2/308)


وذلك أنهم يقولون: إن "إلى " تكون بمعنى مع. ويحتجّون لذلك بقول الله سبحانه: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} 1 أي: مع الله, ويقولون: إن2 "في " تكون3 بمعنى "على"، ويحتجون بقوله عز اسمه: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 4 أي: عليها, ويقولون: تكون الباء بمعنى عن وعلى, ويحتجون5 بقولهم: رميت بالقوس أي: عنها وعليها, كقوله:
أرمي عليها وهي فرع أجمع6
وقال7 طفيل:
رمت عن قسي الماسخيّ رجالهم ... بأحسن ما يبتاع من نبل يثرب8
وأنشدني9 الشجري:
أرمى علي شريانة قذّاف ... تلحق ريش النبل بالأجواف10
__________
1 آية: 14، سورة الصف.
2 سقط في ش.
3 سقط في د، هـ، ز.
4 آية 71، سورة طه.
5 في د، هـ، ز: "بقوله".
6 هذا في الحديث عن قوس، وقوله: "فرع أجمع" أي: عملت من غصن ولم تعمل من شق عوده, وذلك أقوى لها. وبعده:
وهي ثلاث أذرع وإصبع
أي: هي تامة: انظر شرح الجواليقي لأدب الكاتب 353.
7 في د، هـ، ز: "قول".
8 قبله:
فما برحوا حتى رأوا في ديانه ... لواء كظل الطائر المنقلب
يقول: إنه أغار بقومه على عدوه، فرأى الأعداء لواء قومه في ديارهم. والماسخيّ: القواس. وقوله: "رجالهم", فالرواية في الديوان: "رجالنا". انظر الديوان 13.
9 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "أنشد".
10 الشريانة يريد بها قوسًا اتخذت من الشريان، وهو شجر من عضاه الجبال، تتخذ منه القسيّ. والقذاف: التي تبعد السهم, ويريد أن صهمها ينفذ في جوف المرميّ بها، حتى يختلط ريشها بالجوف.
وقوله: "أرمي" في د، هـ، ز "أرثني" وهي تحريف.

(2/309)


وغير ذلك مما يوردونه.
ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا, لكنا نقول: إنه يكون بمعناه1 في موضع دون موضع على حسب الأحوال2 الداعية إليه، والمسوغة3 له, فأما في كل موضع وعلى كل حال فلا، ألا ترى أنك4 إن أخذت بظاهر هذا القول غفلًا هكذا, لا مقيّدًا لزمك عليه أن تقول: سرت إلى زيد, وأنت تريد: معه, وأن تقول: زيد في الفرس, وأنت تريد: عليه, وزيد في عمرو, وأنت تريد: عليه في العداوة, وأن تقول: رويت الحديث بزيد, وأنت تريد: عنه, ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش. ولكن سنضع في ذلك رسمًا يعمل عليه, ويؤمن التزام الشناعة لمكانه.
اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر, وكان أحدهما يتعدَّى بحرف والآخر بآخر, فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذانًا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر, فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه. وذلك كقول الله -عز اسمه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 5 وأنت لا تقول: رفثت إلى المرأة, وإنما تقول: رفثت بها أو معها, لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء, وكنت تعدي أفضيت ب"إلى" كقولك: أفضيت إلى المرأة, جئت ب"إلى" مع الرفث إيذانًا وإشعارًا أنه بمعناه, كما صححوا عور وحول لمَّا كانا6 في معنى
__________
1 في د، هـ، ز: "معناه".
2 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "الحال".
3 سقط حرف الطف في د، ب، ز.
4 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "إذا".
5 آية 187، سورة البقرة.
6 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "كان".

(2/310)


اعورَّ وأحولَّ. وكما جاءوا بالمصدر فأجروه على غير فعله لما كان في معناه؛ نحو قوله:
وإن شئتم تعاودونا عوادًا1
لما كان التعاود أن يعاود بعضهم بعضًا, وعليه جاء قوله 2:
وليس بأن تتبعه اتباعًا3
ومنه قول الله سبحانه: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} 4 , وأصنع من هذا قول الهذلي 5:
ما إن يمسُّ الأرض إلا منكب ... منه وحرف الساق طيّ المحمَل
فهذا على فعل ليس من لفظ هذا الفعل الظاهر, ألا ترى أن معناه: طوى طيّ المحمل, فحمل المصدر على فعل دلَّ أول الكلام عليه, وهذا ظاهر.
وكذلك قول الله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} 6 أي: مع الله, وأنت لا تقول: سرت إلى زيد, أي: معه, لكنه إنما جاء7 {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} لما كان معناه: من ينضاف في نصرتي إلى الله, فجاز لذلك أن تأتي هنا إلى, وكذلك قوله -عز اسمه: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} 9 وأنت إنما تقول: هل لك في كذا, لكنه لما كان على10
__________
1 هذا عجز بيت صدره مع بيت قبله:
صرحت على بلادكم جيادي ... فأدت منكم كومًا جلادا
بها لم تشكروا المعروف عندي ... ... .... .....
وهذا من قصيدة لشقيق بن جزء في فرحة الأديب. وانظر آخر الاقتضاب.
2 أي: القطامي. وانظر الديوان، والخزانة 1/ 391.
3 هذا عجز بيت صدره:
وخير الأمير ما استقبلت منه
4 آية: 8 سورة المزمل.
5 هو أبو كبير، والبيت من قصيدة يقولها في تأبط شرًّا, وهي في الحماسة.
6 آية: 52، سورة آل عمران. آية: 14، سورة الصف.
7 في د، هـ، ز: "جاز".
8 كذ في ش، وفي د، هـ، ز: "كذلك".
9 آية: 18، سورة النازعات.
10 سقط في د، هـ، ز.

(2/311)


هذا دعاء منه صلى الله عليه وسلم صار تقديره: أدعوك وأرشدك إلى أن تزكَّى, وعليه قول الفرزدق:
كيف تراني قاليًا مجنِّي ... أضرب أمري ظهره للبطن
قد قتل الله زيادًا عنِّي1
لمَّا كان معنى قد قتله: قد صرفه، عدَّاه بعن.
ووجدت في اللغة من هذا الفنِّ شيئًا كثيرًا لا يكاد يحاط به, ولعله لو جمع أكثره "لا جميعه"2 لجاء كتابًا ضخمًا, وقد عرفت طريقه. فإذا مرَّ بك شيء منه فتقبله وأنس3 به, فإنه فصل من العربية لطيف حسن يدعو إلى الأنس بها والفقاهة فيها. وفيه أيضًا موضع يشهد على من4 أنكر أن يكون في اللغة لفظان بمعنى واحد حتى تكلَّف لذلك أن يوجد فرقًا بين قعد5 وجلس، وبين ذراع6 وساعد, ألا ترى أنه لما كان رفث بالمرأة في معنى أفضى إليها جاز أن يتبع الرفث الحرف الذي بابه الإفضاء وهو "إلى ". وكذلك لما كان "هل لك في كذا" بمعنى
__________
1 كان الفرزدق هرب من البصرة إلى المدينة واختفى فيها خوفًا من زياد بن أبيه لغضبة غضبها عليه، فلمَّا بلغه موت زياد وهو في المدينة ظهر وأنشد هذا الرجز إظهارًا للشماتة به وفرحًا بالسلامة منه. والمجنّ: الترس, وقاله كناية عن عدم الحاجة إليه. وكان موت زياد سنة 53هـ. وانظر شواهد المغني للبغدادي في آخر الكتاب.
2 سقط في ش.
3 في د، هـ، ز: "تأنس".
4 من هؤلاء ثعلب وابن فارس. وانظر المزهر 1/ 239.
5 فالقعود يكون عن قيام، والجلوس يكون عن حالة دونه، وذاك أن الجلوس مأخوذ من الجلس وهو المكان المرتفع, تقول: كان مضطجعًا ثم جلس. وانظر المزهر في مبحث الترادف.
6 فسَّر بعضهم الذراع بأنه الأسفل من الزندين، والساعد: الأعلى منهما، وانظر اللسان.

(2/312)


أدعوك إليه, جاز أن يقال: هل لك إلى أن تزكّى "كما يقال أدعوك إلى أن تزكّى"1 وقد قال رؤبة ما قطع به العذر ههنا قال:
بالٍ بأسماء البلى يسمَّى
فجعل للبلى -وهو معنى واحد- أسماء.
وقد قدمنا هذا "فيما مضى من صدر كتابنا"2.
ومما جاء من الحروف في موضع غيره على نحو مما3 ذكرنا قوله 4:
إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
أراد: عنِّى. ووجهه: أنها إذا رضيت عنه أحبته وأقبلت عليه, فلذلك استعمل "على" بمعنى "عن", وكان أبو علي يستحسن قول الكسائي في هذا؛ لأنه قال: لما كان "رضيت" ضد "سخطت" عدّى رضيت بعلى حملًا للشيء على نقيضه؛ كما يحمل على نظيره. وقد سلك سيبويه هذه5 الطريق في المصادر كثيرًا, فقال: قالوا كذا كما قالوا كذا, وأحدهما ضد الآخر. ونحو منه قول الآخر 6:
إذا ما امرؤ ولَّى علي بوده ... وأدبر لم يصدر بإدباره ودّي7
__________
1 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز. وثبت في ش.
2 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "في صدر ما مضى من كتابنا".
3 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "ما".
4 أي: القحيف العقبلي يمدح حكيم بن المسيب القشيري، وانظر الخزانة 4/ 247، والنوادر 176.
5 في د، هـ، ز: "هذا".
6 هو دوسر بن غسان اليربوعي. وانظر الاقتضاب للبطليوسي، وشرح أدب الكاتب للجواليقي 355.
7 بعده:
ولم أتعذر من خلال تسوءه ... كما كان يأتي مثلهنَّ على عمد
لم يصدر: لم يرجع: أي: إذا جفاني امرؤ لم أطلب ودَّه، ولست أودّ من لا يودني. وأسوءه كما يسوءني ولا أعتذر من ذلك.

(2/313)


أي: عنِّي. ووجهه أنه إذا ولَّى عنه بوده فقد استهلكه عليه, كقولك. أهلكت عليّ مالي, وأفسدت علي ضيعتي. وجاز أن يستعمل "على" ههنا؛ لأنه أمر عليه لا له. وقد تقدم نحو هذا.
وأما قول الآخر:
شدّوا المطيّ على دليل دائب ... من أهل كاظمةٍ بسيف الأبحر1
فقالوا معناه: بدليل. وهو عندي أنا على حذف المضاف, أي: شدوا المطي على دلالة دليل, فحذف المضاف. وقوي حذفه هنا شيئًا؛ لأن لفظ الدليل يدل على الدلالة. وهو كقولك: سر على اسم الله. و" على " هذه عندي حال من الضمير في سر وشدوا2، وليست موصلة3 لهذين الفعلين، لكنها متعلقة بمحذوف4؛ حتى5 كأنه قال: "سر معتمدًا على اسم الله"6؛ ففي الظرف إذًا ضمير لتعلقه بالمحذوف. وقال 7:
بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوءم
أي: على سرحة "وجاز ذلك من حيث كان معلومًا أن ثيابه لا تكون في داخل سرحة"8؛ لأن السرحة لا تنشق فتستودع الثياب ولا غيرها, وهي بحالها سرحة.
__________
1 "بسيف" في ج: "فسيف"، وللسيف: ساحل البحر. وهذا البيت لعوف بن عطية بن الخرع، كما ذكره في الاقتضاب 449، وورد البيت غير معزو في اللسان "دلل".
2 كذا في ش, وهو يوافق ما في اللسان "دلل". وفي د، هـ، ز: "سار".
3 كذا في د، هـ، ز وفي ش، "مواصلة"، وفي اللسان: "موصولة".
4 كذا في نسخ الخصائص: وفي اللسان: "بفعل محذوف".
5 ثبت هذا الحرف في ش، وسقط في د، هـ، ز.
6 كذا في نسخ الخصائص, وفي اللسان: "شدوا المطي معتمد بن علي دليل دائب".
7 أي: عنترة في معلقته، والسرحة: شجرة فيها طول وإشراف، أي: أنه طويل الجسم. والنعال السبتية: المدبوغة بالقرظ. هي أجود النعال, وقوله: ليس بتوءم, أي: هو قوي لم يزاحمه أخ في بطن أمه فيكون ضعيفًا.
8 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز، وثبت في ش.

(2/314)


فهذا من طريق المعنى بمنزلة كون الفعلين أحدهما في معنى صاحبه على ما مضى. وليس كذلك قول الناس: فلان في الجبل؛ لأنه قد يمكن أن يكون في غارٍ من أغواره, أو لصب1 من لصابه، فلا يلزم أن يكون عليه, أي: عاليًا فيه.
وقال:
وخضخضن فينا البحر حتى قطعنه ... على كل حال من غمارٍ ومن وحل2
قالوا: أراد بنا, وقد يكون3 عندي على حذف المضاف, أي: في سيرنا، ومعناه: في سيرهن بنا.
ومثل قوله: "كأن ثيابه في سرحة ": قول امرأة4 من العرب:
هم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
لأنه معلوم أنه لا يصلب في داخل جذع5 النخلة وقلبها.
وأما قوله 6:
وهل يعمن من كان أحدث عهده ... ثلاثين شهرًا في ثلاثة أحوال
__________
1 هو شق في الجبل، أو هو مضيق فيه.
2 الغمار: جمع الغمر أو الغمرة؛ وهو الماء الكثير. وفي الانتضاب 437: هذا البيت لا أعلم قائله. وأحسبه يصف سفنًا، وفي شر الجواليق لأدب الكاتب 358: "أي: قطعن البحر بنا غمره وضحله، وضبط في اللسان بالقلم: "وحل" -بفتح الحاء وسكون اللام. وكذا في الاقتضاب. وضبط في ج بسكون الحاء.
3 في د، هـ، ز. "يجوز".
4 في اللسان "عبد" نسبته إلى سويد بن أبي كاهل, والعبدي: نسبة إلى عبد القيس، وقوله: "بأجدع" أي: بأنف أجدع، وانظر شواهد المغني للبغدادي 1/ 944، والكامل 6/ 244.
5 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "شق"
6- أي: امرئ القيس, وقبله مطلع القصيدة وهو:
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وقوله: "أحدث" كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "آخر".

(2/315)


فقالوا: أراد مع ثلاثة أحوال. وطريقه عندي أنه على حذف المضاف, يريد: ثلاثين شهرًا في عقب ثلاثة أحوال قبلها. وتفسيره: بعد ثلاثة أحوال, فالحرف إذًا على بابه؛ وإنما1 هنا حذف المضاف الذي قد شاع عند الخاص والعام. فأمَّا قوله 2:
يعثرن في حدِّ الظبات كأنما ... كُسِيَت برود بني تزيد الأذرع3
فإنه أراد: يعثر بالأرض في حد الظبات, أي: وهنّ في حد الظبات كقولك: خرج بثيابه, أي: وثيابه عليه, وصلّى في خفيه, أي: وخفاه عليه. وقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} 4 فالظرف إذًا متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من الضمير, أي: يعثرن كائنات في حد الظبات.
وأما قول بعض الأعراب 5:
نلوذ في أمّ لنا ما تغتصب ... من الغمام ترتدي وتنتقب6
__________
1 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "بانما".
2 أي: أبي ذؤيب الهذلي. والبيت هو السادس والثلاثون عن عينيته المشهورة إلى مطلعها:
أمن المنون وربما تترجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
وانظرها في أواخر المفضليات، وديوان الهذلين "طبعة دار الكتب" 1/ 10.
3 هذا في الحديث عن حمر الوحش التي أصابتهن سهام الصيد. والظبات أطراف السهام, يقول: إن قوائمهن تضمخن بالدم؛ فكأنها كسبت برودًا تزيدية. وهي منسوبة إلى تزيد بن عمران بن الحاف بن فصاعة. وهذه البرود فيها خطوط حمر، فشبه طرائق الدم في أذرع الحمر بتلك الطرائق.
4 آية: 79، سورة القصص.
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "العرب" وهو من طيئ. وانظر الاقتضاب 438، والجواليق 358.
6 "تغتصب" كذا في د، هـ، ز، ش. وهو بالبناء للمجهول؛ أي: هي منيعة على من أرادها. وفي ج: "تعتصب" بالبناء للفاعل, أي: تشد عليها العصابة، أي: ليست بامرأة، وإنما هي الحقيقة جبل.

(2/316)


فإنه1 يريد بأم 2 سلمى: أحد جبلي طيئ. وسماها أمّا لاعتصامهم بها وأويّهم إليها. واستعمل "في" موضع الباء, أي: نلوذ بها لأنهم إذا لاذوا بها فهم فيها لا محالة؛ إذ لا يلوذون ويعصمون3 بها إلّا وهم فيها؛ لأنهم إن4 كانوا بعداء عنها فليسوا لائذين بها, فكأنه قال: نسمك5 فيها6 ونتوقّل فيها. فلأجل ذلك ما استعمل "في" مكان الباء. فقس على هذا, فإنك لن تعدم إصابة بإذن الله ورشدًا.
باب في مضارعة الحروف للحركات والحركات للحروف:
وسبب ذلك أن الحركة حرف صغير, ألا ترى أن من متقدمي القوم من كان يسمٍّي الضمة الواو الصغيرة, والكسرة الياء الصغيرة, والفتحة الألف الصغيرة. ويؤكد ذلك عندك7 أنك متى أشبعت ومطلت الحركة أنشأت بعدها حرفًا من جنسها. وذلك قولك في إشباع حركات8 ضرب ونحوه: ضوريبا. ولهذا إذا احتاج الشاعر إلى إقامة الوزن مطل الحركة, "وأنشأ"9 عنها حرفًا من جنسها. وذلك قوله 10:
نفى الدراهيم تنقاد الصياريف11
__________
1 كذا في ش، وفي د، هـ، ر: "فإنما".
2 في القتضاب والجواليقي: "بالأمّ"، وفي اللسان "فيا": "بالأم لنا".
3 كذا في ش، وفي ز: "يعتصمون". ويقال: أعصم بالشيء واعتصم به: أمسك به.
4 في ش: "وإن".
5 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "تستمك", وسمك: صعد وارتفع، وكذلك استمسك, وفي اللسان "في": "تسمئل فيها, أي: نتوقل". وهو من قولهم: اسمألّ الظل: ارتفع.
6 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "أو".
7 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "عندي".
8 سقط في د، هـ، ز.
9 في د. هـ. ز: "فأنشأ".
10 أي: الفرؤدق. انظر الخزانة 2/ 255، والكامل 5/ 91.
11 صدره:
تنفى يداها الحصى في كل هاجرة
وهو في وصف ناقته، يصفها بسرعة السير في الهواجر، فيقول: إن يديها لشدة وقعها في الحصى تنقيانه, فيفرع بعضه بعضًا, ويسمع له صليل كصليل الدراهم إذا انتقدها الصيرفي فنفَى رديئها عن جيدها. انظر الخزانة في الموطن السابق، والكتاب 1/ 10.

(2/317)


وقوله -أنشدناه لابن هرمة:
وأنت من الغوائل حين ترمي ... ومن ذمّ الرجال بمنتزاح1
يريد: بمنتزح, وهو مفتعل من النزح2 وقوله:
وأنني حيث ما يسري الهوى بصري ... من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور3
فإذا ثبت أن هذه الحركات أبعاض للحروف4 ومن جنسها, وكانت متى أشبعت ومطلت تمَّت ووفت جرت5 مجرى الحروف, كما أن الحروف أنفسها قد تجد بعضها أتمَّ صوتًا من بعض, "وإن كانت كلها حروفًا يقع بعضها موقع بعض"6 في غالب الأمر.
فممَّا أجري من الحروف مجرى الحركات: الألف والياء والواو, إذا أعرب بهنّ في تلك الأسماء الستة: أخوك وأبوك ونحوهما, وفي التثنية والجمع على حد التثنية نحو: الزيدان والزيدون والزيدين.
ومنها النون إذا كانت علمًا للرفع في الأفعال الخمسة, وهي تفعلان ويفعلان وتفعلون ويفعلون وتفعلين. وقد حذفت7 أيضًا للجزم في لم8 يغزوا ولم يدع ولم يرم، ولم يخش. وحذفت أيضًا9 استخفافًا؛ كما تحذف الحركة لذلك. وذلك قوله:
فألقحت أخراهم طريق ألاهم ... كما قيل نجم قد خوى متتابع10
__________
1 انظر حاشية "6" ص43 من الجزء الأول.
2 في ج: "النزوح", وكلاهما معناه البعد.
3 "حيث ما يسري" كذا في ش. وفي د، هـ، "حوث ما يسري"، ويسري أي: يلقي من يريت الثوب عنى: ألقيته. ويروى "يشرب" بضم الياء, أي: يميل أو يحرك، وانظر الخزانة 1/ 95، واللسان "شرى" وص43 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
4 سقط حرف العطف في ش.
5 في د، هـ، ز: "جرى".
6 سقط ما بين القوسين في ش.
7 أي: الحروف الأربعة: الواو والياء الألف والنون.
8 في الأصول: "يغز" الأجود ما أثبت.
9 سقط في ش.
10 سقط الشطر الأخير في ش. انظر البيت في ص294، من هذا الجزء.

(2/318)


"يريد أولاهم"1 ومضى ذكره, وقال رؤبة:
وصَّاني العجاج فيما وصني
يريد: فيما وصاني, وقال الله -عز اسمه: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 2 وقد تقدم نحو هذا. فنظير حذف هذه الحروف للتخفيف حذف الحركات أيضًا في نحو قوله:
وقد بدا هنك من المئزر3
وقوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب4
وقوله:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم5
وقوله:
ومن يتق فإن الله معه6
وقوله:
أو يرتبط بعض النفوس حمامها7
وقوله:
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيري ولا تعرفكم العرب8
أي: "ولا"9 تعرفكم, فأسكن مضطرًا.
__________
1 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز.
2 آية: 4، سورة الفجر.
3 انظر ص75 من الجزء الأول.
4 انظر ص75 من الجزء الأول.
5 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز. وانظر ص76 من الجزء الأول.
6 انظر ص307 من الجزء الأول.
7 انظر ص75 من الجزء الأول.
8 "فالأهواز" كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "والأهواز", وقوله: "ولا" في د، هـ، ز: "بلا", وانظر المرجع السابق.
9 في د، هـ، ز: "فلا".

(2/319)


ومن مضارعة الحرف للحركة أن الأحرف الثلاثة: الألف والياء والواو إذا أشبعن ومطلن أدين إلى حرف آخر غيرهنّ, إلا أنه شبيه بهن, وهو الهمزة, ألا تراك إذا مطلت الألف أدتك إلى الهمزة, فقلت: آء, وكذلك الياء في قولك: إيء, وكذلك الواو في قولك: أوء. فهذا كالحركة "إذا مطلتها"1 أدتك إلى صورة أخرى غير صورتها, وهي الألف والياء الواو في: منتزاح, والصياريف, أنظور. وهذا غريب في موضعه.
ومن ذلك أن تاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها إلّا مفتوحًا, نحو: حمزة وطلحة وقائمة, ولا يكون ساكنًا. فإن كانت الألف وحدها من بين سائر الحروف جازت. وذلك نحو: قطاة وحصاة وأرطاة وحبنطاة2. أفلا ترى إلى مساواتهم بين الفتحة والألف حتى كأنها هي هي3. وهذ يدل على أن أضعف الأحرف الثلاثة الألف دون أختيها؛ لأنها قد خصت هنا بمساواة الحركة دونها.
ومن ذلك قوله:
ينشب في المسعل واللهاء ... أنشب من مآشر حداء4
قالوا: أراد حدادًا, فلم يعدد الألف حاجزًا بين المثلين. كما لم يعدد5 الحركة في ذلك6 في نحو: أمليت الكتاب في7 أمللت.
ومن ذلك أنهم قد بينوا الحرف بالهاء, كما بينوا الحركة بها, "وذلك"8 نحو قولهم: وازيداه وواغلامهماه وواغلامهوه, وواغلامهموه وواغلامهيه،
__________
1 سقط ما بين القوسين في ش.
2 يقال امرأة حبنطاة: نصيرة دميمة غليظة البطن.
3 سقط في ش.
4 انظر ص223 في هذا الجزء.
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "يعتدد".
6 سقط في د، هـ، ز.
7 في د، هـ، ز: "ر".
8 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز.

(2/320)


ووانقطاع ظهرهيه. فهذا نحو من قولهم: أعطيتكه, ومررت بكَهْ, واغزُهْ ولا تدعُهْ. والهاء في كله لبيان الحركة لا ضمير.
ومن ذلك أقعد الثلاثة في المدّ لا يسوغ تحريكه, وهو الألف, فجرت لذلك مجرى الحركة, ألا ترى أن الحركة لا يمكن تحريكها. فهذا وجه أيضًا من المضارعة فيها.
وأما شبه الحركة بالحرف ففي1 نحو: تسميتك امرأة بهند وجُمْل, فلك2 فيهما3 مذهبان: الصرف وتركه, فإن تحرك الأوسط ثقل الاسم، فقلت في اسم4 امرأة سميتها بقدم بترك الصرف معرفة5 البتة؛ أفلا ترى كيف جرت الحركة مجرى الحرف في منع الصرف. وذلك كامرأة سميتها بسعاد وزينب. فجرت الحركة في قدم وكبد ونحوه مجرى ألف سعاد وياء زينب.
ومن ذلك أنك إذا أضفت إلى الرباعي المقصور أجزت إقرار6، الألف وقلبها واوًا, نحو: الإضافة إلى حُبْلَى , إن شئت قلت: حُبْلَى, وهو الوجه. وإن شئت: حبلوىّ. فإذا صرت إلى الخمسة حذفت الألف البتة أصلًا كانت أو زائدة. وذلك نحو4 قولك في حُبَارَى: حُبَارِيّ, وفي مصطفى: مصطفيّ, وكذلك إن تحرك الثاني من الرباعي حذفت ألفه البتة, وذلك قولك في جمزى: حمزيّ’ وفي بشكى بشكيّ, ألا ترى إلى الحركة كيف أوجبت الحذف كما أوجبه الحرف الزائد على الأربعة, فصارت حركة عين جَمَزَى في إيجابها الحذف بمنزلة ألف حُبَارَى, وياء خَيْزَلى7.
__________
1 سقط في د، هـ، ز.
2 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "ولك".
3 كذا في ز. وفي ش: "فيهما".
4 سقط في ش.
5 سقط في د، هـ، ز، وهو أسوغ.
6 في د، هـ، ز: "ألفه".
7 هي مشية في تثاقل.

(2/321)


ومن مشابهة الحركة للحرف أنك تفصل بها ولا تصل إلى الإدغام معها, كما تفصل بالحرف ولا تصل إلى الإدغام معه. وذلك قولك: وتد ويطد. فحجزت الحركة بين المتقاربين كما يحجز الحرف بينهما، نحو: شمليل1 وحَبَرْبَر2.
ومنها أنهم قد أجروا الحرف المتحرك مجرى الحرف المشدد, وذلك أنه إذا وقع رويًّا في الشعر المقيد سكن؛ كما أن الحرف المشدد إذا وقع رويًّا في الشعر المقيد خفف. فالمتحرك نحو قوله:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
فأسكن القاف وهي مجرورة. والمشدد نحو قوله:
أصحوت اليوم أم شاقتك هِرّ
فحذف إحدى3 الراءين كما حذف الحركة من قاف المخترق, وهذا إن شئت قلبته فقلت: إن الحرف أجري فيه مجرى الحركة, وجعلت الموضع في الحذف للحركة, ثم لحق بها فيه الحرف. وهو عندي أقيس.
ومنها استكراههم اختلاف4 التوجيه: أن يجمع5 مع الفتحة غيرها من أختيها6، نحو: جمعه7 بين المخترق وبين العقق8 والحمق. فكراهيتهم هذا نحو من امتناعهم من الجمع9 بين الألف مع الياء والواو ردفين.
__________
1 يقال: نافة شمبل: سريعة.
2 هو الجمل الصغير.
3 في د، هـ، ز: "أحد".
4 هو حركة ما قبل الروي المقيد.
5 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "تجمع".
6 في د، هـ، ز: "أختها", ويريد بأختيها الضمة والكسرة.
7 أي: رؤبة في أرجوزته التي أولها:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق.
8 كذا في ش، ج. وفي د، هـ، ز: "العنق", وقد ورد العقق في قوله:
سرا وقد أوّن تأوين المعقق
وورد العقق في قوله:
مأثرة العضدين مصلات العنق
وانظر الأرجوزة في الديوان، وفي الخزانة 1/ 38.
9 في د، هـ، ز: "جمع ما".

(2/322)


ومن ذلك عندي أن حرفي العلة: الياء والواو قد صحَّا في بعض المواضع للحركة بعدهما, كما يصحان1 لوقوع حرف اللين ساكنًا بعدهما. وذلك نحو: القود والحوكة والخونة والغيب والصيد وحول2 وروع3 و"إِنَّ بُيُوتَنَا عَوِرَةٌ"4 فيمن5 قرأ كذلك. فجرت الياء والواو هنا في الصحة لوقوع الحركة بعدهما مجراهما فيها لوقوع حرف اللين ساكنًا بعدهما, نحو: القواد والحواكة والخوانة والغياب والصياد وحويل ورويع, وإن بيوتنا عويرة.
وكذلك ما صحَّ من نحو قولهم: هيؤ الرجل من الهيئة, هو جارٍ مجرى صحَّة هيوء لو قيل. فاعرف ذلك مذهبًا في صحة ما صحَّ من هذا النحو لطيفًا غريبًا.
__________
1 كذا في ش وفي د، هـ، ز: "صحا".
2 هو وصف من الحول في العين كالأحول.
3 أي: فزع خائف، وفي ش: "عور" وهو خطأ، وفي هـ، ز: "روع"، وانظر أشباه السيوطي 1/ 173.
4 آية: 13، سورة الأحزاب.
5 هي قراءة إسماعيل بن سليمان عن ابن كثير وابن عباس وآخرين. النظر البحر 7/ 218.

(2/323)


باب محلّ "الحركات من الحروف" 1 أمعها أم قبلها أم بعدها:
أما مذهب سيبويه فإن الحركة تحدث بعد الحرف, وقال غيره: معه. وذهب غيرهما إلى أنها تحدث قبله.
قال أبو علي: وسبب هذا الخلاف لُطف الأمر وغموض الحال, فإذا2 كان هذا أمر يعرض للمحسوس الذي إليه تتحاكم النفوس فحسبك به لطفًا, وبالتوقف فيه لبسًا.
__________
1 في ش: "الحروف من الحركات".
2 كذا في ش: وفي د، هـ، ز: "وإذا".

(2/323)


فمِمَّا يشهد لسيبويه بأن الحركة حادثة بعد الحرف وجودنا إياها فاصلة بين المثلين مانعة من إدغام الأول في الآخر, نحو: الملل والضعف1 والمشش2؛ كما تفصل الألف بعدها بينهما, نحو: الملال والضفاف والمشاش. وهذا مفهوم. وكذلك شددت ومددت, فلن تخلو3 حركة الأول من أن تكون قبله أو معه أو بعده. فلو كانت في الرتبة قبله لما حجزت عن الإدغام, ألا ترى أن الحرف المحرَّك بها كان يكون على ذلك بعدها حاجزًا بينها وبين ما بعده من الحرف الآخر.
ونحو من ذلك قولهم: ميزان وميعاد, فقلب الواو ياء يدل على أن الكسرة لم تحدث قبل الميم؛ لأنها لو كانت حادثة قبلها لم تلِ4 الواو, فكان يحب أن يقال: موزان وموعاد, وذلك أنك إنما تقلب الواو ياء للكسرة التي تجاورها من قبلها, فإذا كان بينها وبينها حرف حاجز لم تلها, وإذا لم تلها لم يجب أن نقلبها للحرف الحاجز بينهما. وأيضًا فلو5 كانت قبل حرفها لبطل الإدغام في الكلام؛ لأن حركة الثاني كانت تكون قبله حاجزة بين المثلين. وهذا واضح.
فإذا بطل أن تكون الحركة حادثة قبل الحرف المتحرّك بها من حيث أرينا, وعلى ما أوضحنا وشرحنا, بقي سوى مذهب سيبويه أن يظن بها6 أنها تحدث مع الحرف نفسه لا قبله ولا بعده. وإذا فسد هذا لم يبق إلا ما ذهب إليه سيبويه.
والذي يُفسِد كونها حادثة مع الحرف البتَّة هو أنا لو أمرنا مذكرًا من الطيّ, ثم أتبعناه أمرًا آخر7 له من الوجل من غير حرف عطف, لا بل بمجيء الثاني تابعًا للأول البتة, لقلنا 8: اطوايجل. والأصل فيه: اطو اوجل, فقلبت الواو التي هي فاء الفعل
__________
1 من معانيه: كثرة العيال.
2 من معانيه: بياض يعتري الإبل في عيونها.
3 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "يخلو".
4 أي: لم تباشرها، والولي: الاتصال القرب من قبل ومن بعد، وإن اشتهر فيما يأت يبعد غيره.
5 كذا في ش، وي د، هـ، ز: "لو".
6 يادة في هـ.
7 سقط في د، هـ، ز، وضمير "له" للمذكر.
8 في د، هـ، ز: "لقلت".

(2/324)


من الوجل ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. فلولا أن كسرة واو "اطو" في الرتبة بعدها, لما قلبت ياء1 واو "اوجل". وذلك أن الكسرة إنما تقلب الواو لمخالفتها إياها في جنس الصوت, فتجتذبها2 إلى ما هي بعضه ومن جنسه وهو الياء, وكما أن هناك كسرة في الواو فهناك أيضًا الواو, وهي وفق الواو الثانية لفظًا وحسًّا, وليست الكسرة على قول المخالف أدنى إلى الواو الثانية من الواو الأولى؛ لأنه يروم أن يثبتهما جميعًا في زمان واحد, ومعلوم أن الحرف أوفى صوتًا وأقوى جرسًا من الحركة, فإذا لم يقل لك: إنها أقوى من الكسرة التي فيها, فلا أقل من أن تكون في القوة والصوت مثلها. فإذا كان كذلك لزم ألا تنقلب3 الواو الثانية للكسرة قبلها؛ لأن بإزاء الكسرة المخالفة للواو "الثانية الواو"4 الأولى الموافقة للفظ الثانية. فإذا تأدَّى الأمر في المعادلة إلى هنا ترافعت الواو والكسرة أحكامهما, فكأن لا كسرة قبلها5 ولا واو. وإذا كان كذلك لم تجد أمرًا تقلب له الواو الثانية ياء, فكان يجب على هذا أن تخرج الواو الثانية من "اطو اوجل" صحيحة غير معتلة7، لترافع ما قبلها من الواو والكسرة وأحكامهما؛ وتكافؤهما فيما ذكرنا.
لا، بل دلَّ قلب الواو الثانية من "اطو اوجل" ياء حتى صارت "اطو ايجل" على أن الكسرة أدنى إليها من الواو قبلها, وإذا كانت أدنى إليها كانت بعد الواو المحركة بها لا محالة.
فهذا إسقاط قول من ذهب إلى أنها تحدث "مع الحرف وقول من ذهب إلى أنها تحدث"7 قبله8؛ ألا تراها لو كانت الكسرة في باب "اطو" قبل الواو لكانت
__________
1 سقط في ش.
2 في د، هـ، ز: "فتجذبها".
3 في د، هـ، ز: "تقلب".
4 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز.
5 في د، هـ، ز "قبلهما".
6 في الأشباه 1/ 167: "معلة".
7 سقط بين القوسين في ش. وثبت في د، هـ، ز.
8 في ش: "قبلها".

(2/325)


الواو الأولى حاجزة بينها وبين الثانية, كما كانت ميم ميزان تكون أيضًا حاجزة بينهما -على ما قدمنا, فإذا بطل1 هذان ثبت قول صاحب الكتاب, وسقطت عنه فضول المقال.
قال أبو علي: يقوّي قول من قال: إن الحركة تحدث مع الحرف أن النون الساكنة مخرجها مع حروف2 الفم من الأنف, والمتحركة مخرجها من الفم, فلو كانت حركة الحرف تحدث من بعده لوجب أن تكون النون المتحركة أيضًا من الأنف. وذلك أن الحركة إنما تحدث بعدها, فكان ينبغي عنها شيئًا، لسبقها هي الحركتها.
كذا قال -رحمه الله- ورأيته معنيًّا بهذا الدليل, وهو عندي ساقط عن سيبويه وغير لازم له.
وذلك3 "أنه لا ينكر"4 أن يؤثِّر الشيء فيما قبله من قبل وجوده؛ لأنه قد علم أن سيرد فيما بعد. وذلك كثير.
فمنه أن النون الساكنة إذا وقعت بعدها الباء قلبت النون ميمًا في اللفظ, وذلك نحو: عمبر وشمباء في عنبر وشنباء, فكما لا يشك في5 أن الباء في ذلك بعد النون وقد قلبت النون قبلها, فكذلك لا ينكر أن تكون حركة النون الحادثة بعدها تزيلها عن الأنف إلى الفم, بل إذا كانت الباء أبعد من6 النون قبلها7 من حركة النون فيها وقد أثَّرت على بُعْدها ما أثرته كانت حركة النون التي هي أقرب
__________
1 في د، هـ: "أبطل".
2 في د، هـ، ز: "حرف".
3 في د، هـ، ز: "وذلك الظاهر".
4 في د، هـ، ز: "لأنا لا ننكر".
5 سقط هذا الحرف في د، هـ، ز.
6 في د، هـ، ز: "عن".
7 في د، هـ، ز: "قبلهما".

(2/326)


إليها وأشدَّ التباسًا بها, أولى بأن تجذبها وتنقلها من الأنف إلى الفم. وهذا كما تراه واضح.
ومما غُيِّر متقدمًا لتوقّع ما يرد من بعده متأخرًا1 ضمَّهم همزة الوصل لتوقعهم الضمة بعدها؛ نحو: اقُتل2، ادخل, اُستضعف, اخُرج1، اُستخرج.
ومما يقوِّي عندي قول من قال: إن الحركة تحدث قبل الحرف, إجماع النحويين على قولهم2: إن الواو في يعدو ويزن ونحو ذلك, إنما حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة. يعنون: في يوعد ويوزن ونحوه2 "لو خرج على أصله"3. فقولهم: بين ياء وكسرة يدلُّ على أن الحركة عندهم قبل حرفها المحرك بها, ألا ترى أنه لو كانت الحركة بعد الحرف كانت4 الواو في يوعد بين فتحة وعين, وفي يوزن بين فتحة وزاي. فقولهم: بين ياء وكسرة يدل على أن الواو في نحو5: يوعد, عندهم بين الياء التي هي أدنى إليها من فتحتها, وكسرة العين التي هي أدنى إليها من العين بعدها. فتأمَّل ذلك.
وهذا وإن كان من الوضوح على ما تراه, فإنه لا يلزم من موضعين: أحدهما أنه لا يجب أن تكون فيه دلالة على اعتقاد القوم فيما نسبه هذا السائل إلى أنهم مريدوه ومعتقدوه, ألا ترى أنَّ مَنْ يقول: إن الحركة تحدث بعد الحرف, ومن يقول: إنها تحدث مع الحرف, قد أطلقوا جميعًا هذا القول الذي هو قولهم: إن الواو حذفت من يعد ونحوه لوقوعها بين ياء وكسرة, فلو كانوا يريدون ما عزوته إليهم وحملته عليهم, لكانوا مناقضين, وموافقين لمخالفهم, وهم لا يعلمون. وهذا أمر مثله لا ينسب إليهم ولا يظن بهم.
__________
1 سقط في ش.
2 سقط في د، هـ، ز.
3 سقط ما بين القوسين في ش.
4 في د، هـ، ز: "لكانت".
5 سقط في د، هـ، ز.

(2/327)


فإذا كان كذلك علمت أن غرض القوم فيه ليس ما قدّرته ولا ما تصوّرته, وإنما هو أن قبلها ياء وبعدها كسرة, وهما مستثقلتان. فأمَّا أن تماسّا الواو وتباشراها على ما فرضته وادعيته فلا. وهذا كثير في الكلام والاستعمال, ألا ترى أنك تقول: خرجنا فسرنا, فلما حصلنا بين بغداد والبصرة كان كذا. فهذا كما تراه قول1 صحيح معتاد, إلّا أنه قد يقوله من حصل يدير العاقول, فهو -لعمري- بين بغداد والبصرة, وإن كان أيضًا بين جرجرايا2 والمدائن, وهما أقرب إليه من بغداد والبصرة. وكذلك الواو في يوعد هي لعمري بين ياء وكسرة, وإن كان أقرب إليها منهما فتحة الياء والعين. وكذلك يقال أيضًا: هو3 من عمره ما بين الخمسين إلى الستين, فيقال ذلك فيمن له خمس وخمسون سنة4، فهي5 لعمري بين الخمسين والستين, إلّا أن الأدنى إليها الأربع والخمسون والست والخمسون. وهذا جلي غير مشكل. فهذا أحد الموضعين.
وأما الآخر فإن أكثر ما في هذا أن يكون حقيقة عند القوم, وأن يكونوا مريديه ومعتقديه, ولو أرادوه واعتقدوه6 وذهبوا إليه لما كان دليلًا على موضع الخلاف. وذلك أن هذا موضع إنما يتحاكم فيه إلى النفس والحسّ, ولا يرجع فيه إلى إجماع ولا إلى سابق سنة ولا قديم ملة, ألا ترى أنَّ إجماع النحويين في هذا ونحوه لا يكون حجة؛ لأن كل واحد منهم إنما يرُدُّك ويرجع بك فيه إلى "التأمل والطبع"7 لا إلى التبعية8 والشرع. هذا لو كان لا بُدَّ من أن يكونوا قد
__________
1 سقط في د، هـ، ز.
2 كذا في ز. وفي ش: جرجرى". وجرجرايا. مدينة بين بغداد وواسط.
3 كذا في الأصول. وقد يكون: "ممن".
4 سقط في د، هـ، ز.
5 في د، ز: "وهي".
6 سقط في ش.
7 في د، هـ، ز: "تأمّل الطبع".
8 كذا في أشباه السيوطي 1/ 168. وفي ش، د، هـ، ز: "التقية".

(2/328)


أرادوا ما عزاه السائل إليهم واعتقده لهم1. فهذا كلّه يشهد بصحة مذهب سيبويه في أن الحركة حادثة بعد حرفها المحرّك بها.
وقد2 كنا قلنا فيه قديمًا قولًا آخر مستقيمًا, وهو أن الحركة قد ثبت أنها بعض حرف. فالفتحة بعض الألف, والكسرة بعض الياء, والضمة بعض الواو. فكما أن الحرف لا يجامع حرفًا آخر فينشآن معًا في وقت واحد, فكذلك بعض الحرف لا يجوز أن ينشأ مع حرف آخر في وقت واحد؛ لأن حكم البعض في هذا جارٍ مجرى حكم الكل. ولا يجوز أن يتصوّر أن حرفًا من الحروف حدث بعضه مضامًّا3 لحرف وبقيته من بعده في غير ذلك الحرف, لا في زمان واحد ولا في زمانين. فهذا يفسد قول من قال: إن4 الحركة تحدث مع حرفها المتحرك5 بها أو قبله أيضًا, ألا ترى أن الحرف الناشئ عن الحركة لو ظهر لم يظهر إلّا بعد الحرف المحرّك بتلك الحركة, وإلا فلو كانت قبله لكانت الألف في نحو: ضارب, ليست تابعة للفتحة لاعتراض الضاد بينهما, والحس يمنعك ويحظر عليك أن تنسب إليه قبوله اعتراض معترض بين الفتحة والألف التابعة لها في2 نحو: ضارب وقائم, ونحو ذلك. وكذلك القول في الكسرة والياء, والضمة والواو إذا تبعتاهما. وهذا تناهٍ في البيان, والبروز إلى حكم العيان. فاعرفه. وفي بعض ما أوردناه "من هذا"6 كافٍ بمشيئة الله.
__________
1 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "واعتقدوه معتقدًا".
2 سقط في د، هـ، ز.
3 كذا في ش، ج وفي د، هـ، ز: "مضافًا".
4 في د، هـ، ز: "بأن".
5 في د، هـ، ز: "المحرّك".
6 سقط ما بين القوصين في د، هـ، ز.

(2/329)


باب الساكن 1 والمتحرّك:
أمَّا إمام ذلك فإن أوّل الكلمة لا يكون إلّا متحركًا, وينبغي لآخرها أن يكون ساكنًا. فأمَّا الإشمام2 فإنه للعين دون الأذن. ولكن رَوم3 الحركة يكاد الحرف يكون به متحركًا, ألا تراك تفصل به بين المذكر والمؤنث في قولك في الوقف: أنتَ وأنتِ, فلولا أن هناك صوتًا لما وجدت فصلًا.
فإن قلت: فقد نجد من الحروف4 ما يتبعه في الوقف صوت وهو مع ذلك ساكن, وهو الفاء والثاء والسين والصاد, ونحو ذلك تقول في الوقف: اِفْ: اِثْ اِسْ اِضْ.
قيل: هذا القدر من الصوت إنما هو متمِّم للحرف ومُوَفٍّ له في الوقف. فإذا وصلت ذهب أو كاد, وإنما لحقه في الوقف لأنّ الوقف يضعف الحرف, ألا تراك تحتاج إلى بيانه فيه بالهاء نحو: وا غلاماه ووا زيداه ووا غلامهوه ووا غلامهيهْ. وذلك أنك لما أردت تمكين الصوت وتوفيته ليمتدَّ ويقوى في السمع, وكان الوقف يضعف الحرف ألحقت الهاء ليقع الحرف قبلها5 حشوًا فيبين ولا يخفى.
ومع ذلك, فإن هذا الصوت اللاحق للفاء والسين ونحوهما, إنما هو بمنزلة الإطباق في الطاء, والتكرير في الراء, والتفشي في الشين, وقوة الاعتماد الذي في اللام.
__________
1 في د، هـ، ز: "في المتحرك والساكن".
2 الإشمام ضمّ الشفتين بعد تسكين الحرف الأخير في الوقف على المضموم.
3 رَوْم الحركة: الإشارة للحركة بصوت خفي.
4 هي حروف الهمس، وانظر ص58 من الجزء الأول.
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "بعدها".

(2/330)


فكما أنَّ سواكن هذه الأحرف إنما تكال في ميزان العروض الذي هو عيار الحسّ "وحاكم القسمة والوضع"1 بما تكال به الحروف السواكن غيرها, فكذلك هي أيضًا سواكن. بل إذا كانت الراء -لما فيها من التكرير- تجري مجرى الحرفين في الإمالة، ثم2 مع ذلك لا تعد في وزن الشعر إلّا حرفًا واحدًا, كانت هذه الأحرف التي إنما فيها تمام وتوفية لهذا أحجى بأن تعد حرفًا لا غير.
ولأبي علي -رحمه الله- مسألتان: طويلة قديمة, وقصيرة حديثة, كلتاهما في الكلام على الحرف المبتدأ أيمكن أن يكون ساكنًا أم لا. فقد غنينا بهما أن نتكلف نحن شيئًا من هذا الشرح في معناهما.
ثم3 من بعد ذلك أن المتحرّك على ضربين: حرف متحرك بحركة لازمة, وحرف متحرك بحركة غير لازمة. أمّا المتحرك بحركة لازمة فعلى ضربين أيضًا: مبتدأ, وغير مبتدأ. فالمبتدأ ما دام مبتدأ فهو متحرك لا محالة, نحو: ضاد ضرب, وميم مهدد. فإن اتَّصل أول الكلمة بشيء غيره فعلى قسمين: أحدهما أن يكون الأول معه كالجزء منه, والآخر أن يكون على أحكام المنفصل عنه.
الأوّل من هذين القسمين أيضًا على ضربين: أحدهما أن يقرّ الأول "على ما"4 كان عليه من تحريكه, والآخر أن يخلط5 في اللفظ به فيسكن على حدّ التخفيف في أمثاله من المتصل.
فالحرف الذي ينزل مع ما بعده كالجزء منه فاء العطف, وواوه ولام الابتداء, وهمزة الاستفهام.
__________
1 كذا في د، هـ، ز، ش. وفي ج: "حاكم الطبع".
2 في د، هـ، ز: "ثم الإدغام" ولم يظهر وجهها.
3 سقط في د، هـ، ز.
4 في د، هـ، ز: "عمَّا".
5 كذ في د، هـ، ز. وفي ش: "يختلط".

(2/331)


الأوّل من هذين كقولك: وَهُو الله, وقول ك: فهُوَ ما ترى, ولَهُو أفضل من عمرو, وأهِى عندك. فهذا الباقي1 على تحريكه كأن لا شيء قبله.
والقسم الثاني منهما قولك: وهْو الله, وقولك: "فهْوَ يوم القيامة من المحضَرين"2 ولهْو أفضل من عمرو، وقوله3:
وقمت للطيف مرتاعًا وأرَّقني ... فقلت أَهْي سَرَتْ أم عادني حُلُم
ووجه هذا أنَّ هذه الأحرف لمَّا كنَّ على حرف واحد وضعفن4 عن انفصالها, وكان ما بعدها على حرفين؛ الأول منهما مضموم أو مكسور, أشبهت في اللفظ ما كان على فَعُل أو فَعِل, فخفف أوائل هذه كما يخفَّف ثواني هذه5، فصارت "وَهُو" كعَضُد "وصار وَهْو كعَضْد"6 كما صارت "أهِي" كَعِلم، وصار "أَهْي" بمنزلة عَلْم. وأما قراءة أهل الكوفة "ثم ليقطع"7 فقبيح8 عندنا؛ لأن ثُمَّ" منفصلة يمكن الوقوف عليها, فلا تخلط بما بعدها فتصير معه كالجزء الواحد. لكن قوله: "فلينظر" حسن جميل؛ لأن الفاء حرف واحد, فيلطف عن انفصاله وقيامه برأسه.
وتقول على هذا: مررت برجل بطنه كَحْضَجْر9، تريد: كحِضَجْر, ثم تسكن الحاء الأولى10، لأن كَحِضَ بوزن عَلِم, فيجري هذا الصدر مجرى11 كلمة ثلاثية.
__________
1 في د، هـ، ز: "الباقي".
2 التلاوة في الآية: 61، من سورة القصص {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِين} .
3 انظر ص306 من الجزء الأول.
4 كذا في د، هـ، ز، وفي ش: "ضعفت".
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، "هذا".
6 سقط ما بن القوسين في ش.
7 أي: في قوله تعالى في الآية: 15، من سورة الحج: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظ} .
8 أي: فأمر قبيح.
9 الحضجر: السقاء الضخم.
10 سقط في د، هـ، ز، وثبت في ش. وسقوطه أولى.
11 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "بمنزلة".

(2/332)


وأما أوّل الكلمة إذا لم يخلط بما قبله فمتحرك لا محالة على ما كان عليه قبل اتصاله به. وذلك قولك 1: أحمد ضرب, وأخوك دخل, وغلامك خرج. فهذا2 حكم الحرف المبتدأ.
وأمّا المتحرك غير المبتدأ فعلى ضربين: حشو وطرف. فالحشو كراء ضرب, وتاء قتل, وجيم رجل, وميم جمل, ولام علم. وأما الطرف فنحو: ميم إبراهيم, ودال أحمد, وباء يضرب، وقاف يغرق.
فإن قلت: قد3 قدّمت أن هذا مما تلزم حركته, وأنت تقول في الوقف: إبراهيم وأحمد ويضرب ويغرق, فلا تلزم الحركة, قيل: "اعتراض الوقف لا يحفل به ولا يقع العمل عليه"4, وإنما المعتبر بحال الوصل ألّا تراك تقول في بعض الوقف: هذا بكر, ومررت ببكر, فتنقل حركة الإعراب إلى حشو الكلمة, ولولا أن هذا عارض جاء به الوقف لكنت ممن يدعي أن حركة الإعراب تقع قبل الآخر, وهذا خطأ بإجماع.
ولذلك أيضًا كانت الهاء في "قائمه" بدلًا عندنا من التاء في "قائمة" لمَّا كانت إنما تكون هاء في الوقف دون الوصل.
فإن قلت: ولم جرت الأشياء في الوصل على حقائقها دون الوقف؟
"قيل: لأن"5 حال الوصل أعلى رتبة من حال الوقف, وذلك أن الكلام إنما وضع للفائدة, والفائدة لا تُجْنَى من الكلمة الواحدة, وإنما تُجْنَى من الجمل ومدارج القول، فلذلك6 كان حال الوصل عندهم أشرف وأقوم وأعدل من حال الوقف.
__________
1 سقط في ش.
2 في د، هـ، ز: "وهذا".
3 في د، هـ، ز: "فقد".
4 في ز: "أعراض الوقف لا تحفل بها، ولا يقع العمل عليها".
5 في ز: "وذلك أن".
6 في هـ: "فكذلك".

(2/333)


ويدلك على أن حركة الآخر قد تعتد لازمة وإن كانت في الوقف مستهلكه أنك تقلب حرف اللين لها وللحركة قبله, فتقول: عصا, وقفا, وفتى1، ودعا, وغزا, ورمى, كما تقلبه وسطًا لحركته وحركة ما قبله نحو: دار, ونار, وعاب, وقال, وقام, وباع.
فإن قلت: فإن الجزم قد يدرك الفعل فيسكّن في الوصل نحو: لم يضرب أمس, واضرب غدًا, وما كان كذلك.
قيل: إن الجزم لمَّا كان ثانيًا للرفع وإعرابًا كالنصب في ذينك جرى الانتقال إليه عن الرفع مجرى الانتقال عن الرفع إلى النصب, وحمل الجزم في ذلك على النصب كما حمل النصب على الجزم في الحرف نحو: لن يقوما, وأريد أن تذهبوا, وتنطلقى. قال أبو علي: وقد كان ينبغي أن تثبت النون مع النصب لثبات الحركة في الواحد. فهذا2 فرق وعذر.
فهذه أحكام الحركة اللازمة.
وأمَّا غير اللازمة فعلى أضرب:
منها حركة التقاء الساكنين, نحو: قم الليل, واشدد الحبل. ومنها حركة الإعراب المنقولة إلى الساكن قبلها, نحو: هذا بَكُرْ, وهذا عَمُرْو, ومررت ببِكَرْ, ونظرت إلى عَمِرْو. وذلك أن هذا أحد أحداث الوقف فلم يكن به3 حفل. ومنها الحركة المنقولة لتخفيف الهمزة نحو قولك في مسألة: مَسَلة, وقولك في يلؤم: يَلُم, وفي يزئر: يَزِر, وقوله: {لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 4 فيمن سكن5 وخفف5. وعلى ذلك قول
__________
1 في ش: "قنى" والأولى أن يقرأ علا، فتكون ألفه عن ياء.
2 في هـ، ز: "هذا".
3 في هـ، ز: "فيه".
4 آية 3، سورة الإخلاص.
5 أي: سكَّن الفاء وخفَّف الهمزة بنقل حركتها على الفاء وحذفها، وهذه القراءة رواية عن نافع.

(2/334)


الله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} 1 أصله: لكن أنا, ثم خفف فصار "لكنَ نَا"2, ثم أجرى غير اللازم مجرى اللازم, فأسكن الأوَّل وأدغم في الثاني, فصار لكنَّا.
ومن التقاء الساكنين أيضًا قوله:
وذي ولد لم يلده أبوان3
لأنه أراد: لم يلده, فأسكن اللام استثقالًا للكسرة, وكانت الدال ساكنة فحركها لالتقاء الساكنين. وعليه قولك الآخر:
ولكنني لم أجْدَ من ذلكم بدّا4
أي: لم أجِدْ, فأسكن الجيم وحرَّك الدال على ما مضى.
ومن ذلك حركات الإتباع, نحو قوله:
ضربًا أليما بِسبْت يَلْعَجُ الجلدا6
وقوله 7:
مشتبه الأعلام لمَّاع الخَفَقْ8
__________
1 آية 38، سورة الكهف.
2 رسم في الأصول "لكننا", والأقرب ما أثبته.
3 صدره:
عجبت لمولود وليس له أب
وهو ينسب إلى رجل من أزد السراة، وأراد بالمولود الذي ليس له أب عيسى -عليه الصلاة والسلام، وبذي الولد الذي لم يلده أبوان آدم -عليه السلام. انظر الخزانة 1/ 397، والكتاب 1/ 341، 2/ 258.
4 في التاج "وجد" البيت هكذا:
فو الله لولا بغضكم ما سببتكم ... ولكنني لم أجد من سبكم بدّا
وفيه عن القزاز أن "جد" بكسر الدال، ومقتضى ما في الكتاب 2/ 258 فتح الدال، كما ضبطته.
5 أي: عبد مناف بن ربع الهذلي. وانظر اللسان "جلد", وديوان الهذليين طبعة دار الكتب 2/ 38، والخزانة 3/ 174، والنوادر 30.
6 صدره:
إذا تجارب نوح قامتا معه
والسبت: الجلد المدبوغ يتخذ منه النعال، ولعجه: آلمه.
7 هو رؤبة، وانظر الخزانة 1/ 38.
8 قبله مطلع الأرجوزة:
وقانم الأعماق خاوي المخترق
والأعلام الجبال يهتدى بها، وقوله: "لماع الخفق" أي: يلمع عند خفق السراب، وهو اضطرابه وتحركه.
وانظر ص322 من هذا الجزء.

(2/335)


وقوله1:
. . . . . . . . . لم يُنْظَرْ به الحشكُ
وقوله 2:
ماء بشرقيّ سلمى فَيْدُ أو رَكَكُ3
وقوله:
قضين حجّا وحاجات على عجل ... ثم استدرن إلينا ليلة النفر4
وقوله:
وحامل المِيَن بعد المِيَن والألَفِ5
__________
1 أي: زهير, والبيت بتمامه:
كما استغاث بسيّء فز غيطلة ... خاف العيون فلم ينظر به الحشك
والفز: ولد البقرة، والغيطلة: البقرة الوحشية، والسيء، ما استوى من الأرض. والحشد: احتماع اللبن في الضرع، ويرى بعض اللغويين أن التحريك فيه ضرورة, وهو في وصف فرص فرّت من غلام واستغاثت منه بما خاضته، كما استغاث هذا الفزّ.
2 أي: زهيرًا أيضًا في القصيدة التي منها الشعر السابق.
3 صدره:
ثم استمروا وقالوا إن موعدكم
وفيد ورك: ماءان بالبادية، ويرى أنه سأل الأصمعي أعرابها بالموضع الذي ذكره زهير: هل تعرف رككًا؟ فقال الأعرابي: قد كان هنا ماء يسمَّى ركا. وانظر تصريف المازني بشرحه المتصف 601 من التيمورية. والإتباع في هذا وما بعده في موافقة الحرف ما قبله في الحركة.
4 يشبه أن يكون هذا من شعر عمر بن أبي ربيعة، ولم أقف عليه في ديوانه, وله بيت من بحر آخر فيه تحريك النفر -والمراد: النفر من منى- وهو:
قد هاج حزني وعادني ذكرى ... يوم التقينا عشية النفر
5 صدره:
وكان حاملكم منا ورائدكم
و"المين" يريد: المئين, فحذف الهمزة, وترى المؤلف جعل الألف مفردًا، حركت اللام بحركة الهمزة. وفي اللسان "ألف ومأى" أنه أراد: الآلاف, فحذف الألف بعد الهمزة والألف بعد اللام للضرورة, وعليه فلا اتباع.

(2/336)


وأما قول الآخر:
علّمنا أخوالنا بنو عِجِلْ ... الشغزبي واعتقالًا بالرجِلْ1
فيكون إتباعًا ويكون نقلًا. وقول طرفة:
. . . . . . . . . ورادًا وشقر2
ينبغي أن يكون إتباعًا, يدلك على ذلك أنه تكسير أشقر وشقراء, وهذا قد يجيء فيه المعتل اللام "نحو: قُنْو3 وعُشْو وظُمْى وعُمْى, ولو كان أصله فُعُلا لما جاء في المعتل4"؛ ألا ترى أن ما كان من تكسير فَعِيل وفَعُول وفَعالِ وفِعالٍ, مما لامه معتلة لا يأتي على فُعُل. فلذلك لم يقولوا في كِساءِ: كُسْوٌ, ولا في رِداء: رُدْيٌ, ولا في5 صبيّ: صُبْوٌ, ولا نحو ذلك؛ لأن أصله فُعُل. وهي اللغة الحجازية القويّة. وقد جاء شيء من ذلك شاذًّا, وهو ما6 حكاه من قولهم: ثنيّ وثُنٍ. وأنشد الفراء:
فلو ترى فيهن سر العتق ... بين كماتيّ وحوّ بلق7
"فهذا جمع فلوّ"8 وكلا ذينك شاذّ.
__________
1 في العيني على هامش الخزانة 4/ 567 أن أبا عمرو سمع أبا سرار الغنوي ينشد هذا البيت. وانظر النوادر 30. والثغزبي: ضرب من المصارعة.
2 قبله مع تمام بينه:
نمسك الخيل على مكروهها ... حين لا يمسكها إلا الصبر
حين نادى الحي لما فزعوا ... ودعا الداعي وقد لجّ الذعر
أيها الفتيان في مجلسنا ... جرّدوا منها وروادًا وشقر
وترى الحديث عن الخيل. والوراد جمع المورد، وهو الأحمر كلون الورد, وقوله: "جردوا" أي: ألقوا عنها الجلال وأسرجوها؛ ليركبها الفرسان. وانظر الديوان 70.
3 جمع أقنى وقنوا: وصفان من قنا الأنف، وهو ارتفاع أعلاه واحد يداب وسطه.
4 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز.
5 سقط في ش.
6 كأنه يريد سيبويه, وفي الكتاب 2/ 208: "ومثل ذل من بنات الياء ثني وثن".
7 الفلق جمع الفلق, والفلو: المهر الصغير. والكماني جمع الأكمت في معنى الكميت وإن لم يلفظ بلواحد، وهو الأحمر، والعتق: كرم الأصل، والحق: العمودة.
8 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز.

(2/337)


ومثله ما أنشده أيضًا في قول الشاعر:
أسلمتموها فباتت غير طاهرة ... منى الرجال على الفخذين كالموم1
فكسر مِنيّا على مُنْى, ولا يقاس عليه. وإنما ذكرناه لئلّا يجيء به جاءٍ فترى أنه كسر للباب.
ومن حركات2 الإتباع قولهم: أنا أجوءك وانبؤك, وهو مُنْحُدُر من الجبل, ومِنْتن ومِغِيرة, ونحو "من ذلك"3 باب شِعير ورِغيف, وبِعير والزِئير, والجنة لمن خاف وعيد الله. وشبهت4 القاف بالخاء لقربها منها فيما حكاه أبو الحسن من قولهم: النِقِيذ كما شبِّهت الخاء5 والغين بحروف الفم حتى أخفيت النون معهما في بعض اللغات, كما تخفى مع حروف الفم. وهذا في فَعيل مما عينه حلقية مطّرد. وكذلك، فَعِل نحو: نَغِر6 ومِحك جئز7 وضحك، و {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} 8. وقريب من ذلك الحمدُ للهُ, والحمدِ للهِ, وقِتِّلوا وفِتِّحوا, وقوله 9:
تدافُعَ الشِيبِ ولم تِقِتّل10
__________
1 من أبيات لحسان يهجو بها بني المغيرة بن مخزوم, وقبله:
هلا منعتم من المخزانة أمكم ... عند الثنية من عمرو بن يحموم
ورواية الديوان: "ماء الرجال" والموم: الشمع.
2 انظر في هذا الأمثلة الكتاب 2/ 255 وما بعدها. وانظر أيضًا ص145 من هذا الجزء.
3 كذا في ز،. وفي ش: "قولك".
4 انظر ص366 من الجزء الأول.
5 في ش: "الحاء".
6 يقال: رجل نغر: يغلي صدره من الغيرة، وفي الكتاب 2/ 255: "غير نعر" والنعر: الذي تدخل النعر - على وزن لمزة- في أنفه, وهي ذباب أزرق العين.
7 يقال: جئز بالماء - من باب فرح- فهو جئز: غصّ به.
8 آية 58 سورة النساء.
9 أي: أبا النجم. وانظر الخزانة 1/ 401, والفوائد الأدبية 66.
10 من أرجوزته الطويلة, وقبله في وصف الإبل:
تثير أيديها عجاج القسطل ... إذ عصبت بالعطن المغربل
عصبت: دارت وأحاطت. والعطن: مبرك الأبل عند الماء. والمغربل لكثيرة الحركة عنده، وقوله: "تدافع الشيب" أي أن هذه الإبل تتزاحم كما يتزاحم الشيوخ, وهم لحلمهم يتجنبون القتال. فلذلك قال: "ولم تقتل"، وأصله: لم تقتتل.

(2/338)


وقوله 1:
لا حِطِّبَ القومَ ولا القوم سقى2
ومن غير اللازم ما أحدثته همزة التذكّر نحو: أَلِيَ وقَدِيَ. فإذا وصلت سقطت؛ نحو: الخليل, وقد قام. ومن قرأ: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} 3 قال في التذكير: اشترووا, ومن قرأ: "اشتروِا الضلالة" قال في التذكر: اشتروِى, ومن قرأ4: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} قال في التذكر: اشتَرَوْا, ومن قال: "اشترو5 الضلالة" قال في التذكر: اشتَرَوا.
فهذه طريق هذه الحركات في الكلام.
وأما الساكن فعلى ضربين: ساكن يمكن تحريكه, وساكن لا يمكن تحريكه.
الأول منهما جميع الحروف إلّا الألف الساكنة المدّة, والثاني هو هذه6 الألف, نحو: ألف كتاب وحساب وباع وقام.
والحرف الساكن الممكن تحريكه على ضربين: أحدهما ما يبنى على السكون, والآخر ما كان متحركًا ثم أسكن.
الأول منها يجيء أولًا وحشوًا وطرفًا.
فالأول ما لحقته في الابتداء همزة الوصل, وتكون في الفعل نحو انطلق واستخرج واغدودن, وفي الأسماء العشرة: ابن7 وابنة وامرئ وامرأة واثنين
__________
1 أي: الشماخ. وانظر اللسان "حطب" والديوان 107.
2 قبله:
خب جروز وإذا جاع بكى
الخبّ: اللئيم. والجروز: الأكول، ويقال: احتطب للقوم: جمع لهم الخطب، وقد عدَّى الفعل هنا، وقد ورد في اللسان: "حطب القوم" من الثلاثي.
3 آية: 16، سورة البقرة.
4 كذا في ش. وفي د، ز: "قال".
5 حذفت ألف: اشتروا هنا للدلالة على حذفه في النطق.
6 في د، هـ، ز: "هذا".
7 في د، هـ، ز: "نحو: ابن".

(2/339)


واثنتين "واسم واست"1 وابنم وايمن. وفي المصادر؛ نحو: انطلاق واستخراج واغديدان, وما كان مثله. وفي الحروف2 في لام التعريف؛ نحو: الغلام والخليل.
فهذا حال الحرف الساكن إذا كان أولًا.
وأما كونه حشوًا فككاف بكر, وعين جعفر, ودال يدلف. وكونه أخِرًا في نحو: دال قد, ولام هل. فهذه الحروف الممكن تحريكها؛ "إلّا أنها"3 مبنية على السكون.
وأمَّا ما كان متحركًا ثم أسكن فعلى ضربين: متصل ومنفصل, فالمتصل: ما كان ثلاثيًّا مضموم الثاني أو مكسوره, فلك فيه الإسكان تخفيفًا. وذلك كقولك4 في عَلم: قد عَلْمَ, وفي ظُرف: قد ظَرْف, وفي رَجُل رَجْل, وفي كِبد: كبْد. وسمعت الشجري وذكر طعنة في كتف فقال: الكتفية, وأنشد البغداديون:
رَجْلان من ضَبَّة أخبرانا ... إنا رأينا رجلًا عُريانا5
وقد سمع شيء من هذا الإسكان في المفتوح؛ قال الشاعر6:
وما كل مبتاع ولو سلف صفقه ... يراجع ما قد فاته برداد7
وقد8 جاء هذا فيما كان على أكثر من ثلاثة أحرف9؛ قال العجاج:
فبات منتصبًا وما تكردسا
__________
1 سقط ما بين القوسين في ز.
2 كذا في د، هـ، ز، وفي ش: "الخرف".
3 كذا في ز، وفي ش: "لأنها".
4 في د، هـ، ز: "قولك".
5 تكلم على هذا الرجز البغدادي في شرح شواهد المغني 2/ 659، ولم يعزه.
6 سقط في ش، والشاعر هو الأخطل. وانظر شرح شواهد الشافية 18.
7 سلف صفقه: وجب بيعه. "يراجع" كذا في ش. وفي ز: "يراجع" وهما روايتان، والرداد -بفتح الراء وكسرها- اسم من الاستراداد، وانظر الديوان 137.
8 في د، هـ، ز قبل هذا بعد البيت: "وقد ذكرته في كتابي في شرح تصريف المازني، وقال الآخر".
9 سقط في د، هـ، ز.

(2/340)


وحكى صاحب الكتاب: أراك منتفخًا, وقالوا في قول العجاج:
بسَبْحل الدَّفَّين عيسجور1
أراد: سِبَحْل, فأسكن الباء وحرَّك الحاء وغيَّر حركة السين, وقال أبو عثمان في قول الشاعر:
هل عرفت الدار أم أنكرتها ... بين تبراك فشسى عَبَقُرْ2
أراد: عبْقَر, فغيَّر كما ترى إلّا أنه حرَّك الساكن, وقال غيره: أراد: عَبَيقُر, فحذف الياء كما حذفت من عَرَنْقُصان3 حتى صارت عَرَقُصانا, وكذلك قوله:
لم يلده أبوان, قد جاء فيه التحريك والتسكين جميعًا. وكذلك قوله:
ولكنني لم أجد من ذلكم بدًّا
وقد مضيا آنفًا.
وأمَّا المنفصل, فإنه شُبِّه بالمتصل, وذلك قراءة بعضهم "فَإِذَا هِيَ تَلْقَّفُ"5 "فَلَاتَّتَنَاجَوْا"6 فهذا مشبه بداية وخدب. وعليه قراءة بعضهم "إِنَّهُ مَنْ يَتَّقْ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ"7 وذلك أن قوله "يتَقِ وَ"8 بوزن عَلِمَ فأسكن، كما يقال: عَلْم, وأنشدوا:
ومن يَتَّقْ فإن الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغاد9
__________
1 هذا في وصف ناقة. ردناها: جانباها. وسبحل الفين: عظيمتهما، والعيسجور: الكريمة النسب.
2 انظر ص282 من الجزء الأول.
3 في الأصول: "عربقصان" والأنسب بعرقصان ما أثبت، فإن المعروف فيه فتح العين والراء, وذلك وارد في عرنقصان بالنون، فأمَّا بالياء فعلى صيغة المصغّر وهو نبات. وانظر اللسان في المادة.
4 في د، هـ، ز: "كذلك".
5 انظر في هذه القراءة ص95 من الجزء الأول.
6 آية: 9، سورة المجادلة. وهذه قراءة ابن محيصن.
7 آية: 90، سورة يوسف. وهذه القراءة لم أقف عليها في هذه الآية، وإنما قرأ حفص: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} في الآية 2 من سورة النور بسكون القاف.
8 هو "تق" من: يتق، و, او العطف من قوله. "ويصبر".
9 انظر ص307 من الجزء الأول.

(2/341)


لأن "يَتقِ ف " بوزن عَلِم, وأنشد أبو زيد:
قالت سليمى اشتر لنا سويقًا1
لأن "تَراَ " كعلم, ومنها:
فاحذَرْ ولا تكتَرْ كرِيّا أعوجا2
وأما {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} و {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} فرواها القراء3 عن أبي عمرو بالإسكان, ورواها سيبويه بالاختلاس, وإن لم يكن كان أزكى فقد كان أذكى, ولا كان بحمد الله مُزَنّا برِيبة, ولا مغموزًا في رواية. لكن5 قوله:
فاليوم أشربْ غير مستحْقِب
وقوله:
وقد بدا هَنْكِ من المئزر
وقوله:
سيروا بني العمِّ فالأهوازُ منزلُكم ... ونهر تيرى ولا تعرفكم العربُ
فمسكّن كله, والوزن شاهد ومصدقه.
__________
1 بعده:
وهات برّ البخس أو دقيقا
البخص: الذي يزرع بماء السماء, وهذا من رجز ينسب للعذافر الكندي، وانظر شواهد الشافية 226.
2 بعده:
علجا إذا ساق بنا عفنججا
وفي شواهد الشافية 225: "أهوجا" في موضع "أعوجا" والعفنجج: الضخم الأحمق.
3 انظر ص73 من الجزء الأول.
4 سقط في ش: والحديث عن سيبويه.
5 انظر في هذا وما بعده ص75 من الجزء الأول.

(2/342)


وأمَّا دفع أبي العباس ذلك فمدفوع وغير ذي مرجوع إليه1. وقد قال أبو علي في ذلك في عدة أماكن من كلامه وقلنا نحن "معه ما"2 أيّده وشدّ منه. وكذلك قراءة من قرأ: "بَلَى وَرُسْلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ"3 وعلى ذلك قال الراعي:
تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسبا ... وابنا نزار فأنتم بَيْضة البلد
فإنه أسكن المفتوح, وقد روى "لا تعرفْ لكم" فإذا كان كذلك4 فهو أسهل؛ لاستثقال الضمة. وأما قوله:
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرَتَبْط بعض النفوس حمامها5
فقد قيل فيه: إنه يريد: أو يرتبط على معنى "لألزمنه أو يعطيني حقي", وقد يمكن عندي أن يكون "يرتبط" معطوفًا على "أرضها", أي ما دمت حيًّا فإني لا أقيم, والأول أقوى معنى.
وأما قول أبي دواد:
فأبلوني بليَّتَكم لعلي ... أُصالُحكم وأستدرِجْ نَوَيّا6
فقد يمكن أن يكون أسكن المضموم تخفيفًا واضطرارًا, ويمكن أيضًا أن يكون معطوفًا على موضع لعل7؛ لأنه "مجزوم جواب الأمر"8، كقولك: زرني فلن أضيعك9 حقك وأعطك ألفًا؛ أي: زرني أعرف حقك وأعطِك ألفًا.
وقد كثر إسكان الياء في موضع النصب كقوله:
يا دار هند عفت إلّا أثافيها
__________
1 ثبت في ز. وسقط في ش.
2 في د، هـ، ز: "فيه بما".
3 آية: 80، سورة الزخرف، وتسكين السين قراءة أبي عمرو.
4 في د، هـ، ز: "كذا".
5 انظر ص75 من الجزء الأول.
6 انظر ص177 من الجزء الأول.
7 كذا في ش، وفي ز، ج: "لعل".
8 كذا في ش، ز، وفي ج: "في محل جزم على جواب الأمر".
9 في د، هـ، ز: "أضبع".

(2/343)


وهو كثير جدًّا, وشبّهت الواو في ذلك بالياء كما شبهت الياء بالألف, قال الأخطل:
إذا شئت أن تلهو ببعض حديثها ... نزلن وأنزلن القطين المولّدا1
وقال الآخر 2:
فما سوَّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب2
وقول الآخر 4:
وأن يعرين إن كسى الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف5
__________
1 هذا في الحديث عن نسوة يشبب بهنّ, والقطين: الخدم والأتباع. يقول: إذا أردت الاستمتاع بحديثهن وهنّ سائرات في هوادجهن نزلن، ونزل معهنّ الخدم. وفي رواية الديوان 91، والخزانة 3/ 529: "رفعن" في مكان "نزلن", أي: رفعن في السير وعجلن، أو رفعن السجف.
2 هو عامر بن الطفيل. وانظر الخزانة 3/ 527، والكامل 2/ 176.
3 "فما" كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "وما" وهما روايتان. وانظر الخزانة في الموطن السابق.
4 كذا في ز، وفي ش: "قول".
5 انظر ص294 من هذا الجزء.

(2/344)


باب في مراجعة الأصل الأقرب دون الأبعد:
هذا موضع1 قلَّما وقع تفصيله, وهو معنًى يجب أن ينبه عليه، ويحرر2 القول فيه. ومن ذلك قولهم في ضمة الذال من قولك: ما رأيته مذ اليوم؛ لأنهم يقولون في ذلك: إنهم لما حركوها لالتقاء الساكنين لم يكسروها, لكنهم ضموها؛ لأن أصلها الضم في منذ. وهو3 هكذا لعمري, لكنه الأصل الأقرب؛ ألا ترى أن أوّل حال هذه الذال أن تكون ساكنة، وأنها إنما ضمّت لالتقاء الساكنين إتباعًا لضمة
__________
1 في د، هـ، ز: "معنى", وفي الأشباه: "موضع بحث".
2 كذا في ز. وفي ش: "يتحرز" وهو تحريف عن "يتحرر".
3 سقط في ش.

(2/344)


الميم. فهذا1 على الحقيقة هو الأصل الأول. فأما ضمّ ذال منذ فإنما هو في الرتبة بعد سكونها الأول المقدر. ويدلّك2 على أن حركتها إنما هي لالتقاء الساكنين أنه لما زال التقاؤهما سكنت الذال فلي مذ. وهذا واضح. فضمَّتك الذال إذًا من قولهم: مذُ اليوم, ومذُ الليلة, إنما هو ردٌّ إلى الأصل الأقرب الذي هو "مُنْذُ", دون الأبعد المقدَّر الذي هو سكون الذال في "مُنْذُ" قبل أن يحرك فيما بعده.
ولا يستنكر3 الاعتداد بما لم يخرج إلى اللفظ؛ لأن الدليل إذا قام على شيء كان في حكم الملفوظ به, وإن لم يجر على ألسنتهم استعماله, ألا ترى إلى قول سيبويه في سودد 4: إنه إنما ظهر تضعيفه لأنه ملحق بما لم يجئ. هذا وقد علمنا أن الإلحاق إنما هو صناعة لفظية, ومع هذا فلم يظهر ذاك الذي قدره ملحقًا هذا به, فلولا أن ما يقوم الدليل عليه مما لم يظهر إلى النطق به5 بمنزلة الملفوظ به لما ألحقوا سُرْدَدا وسُودَدا6 بما لم يفوهوا7 به، ولا تجشموا استعماله.
ومن ذلك قولهم: بعت وقلت, فهذه معاملة على الأصل الأقرب دون الأبعد، ألا ترى أن أصلهما فعل بفتح8 العين: بَيعَ وقَوَل, ثم نقلا فَعَل إلى فِعْل
__________
1 في د، هـ، ز: "وهو".
2 في د، هـ، ز: "يدل".
3 في د، هـ، ز: "تستنكر".
4 كذا في ش، وفي ز: "سردد", وسردد: موضع. وابن جني يريد أن سوددا -بفتح الدال الأولى- ملحق؛ إذ لولا هذا لجرى فيه الإدغام، ولا يثبت البصر يرون من أوزان الرباعي فعللا -بفتح اللام الأولى- حتى يلحق به, فمن ثَمَّ جعل ابن جني سيبويه إذ يقول بالإلحاق في نحو: سودد, يقول بالإلحاق بما لم يستعمل, وسيبويه في الكتاب 2/ 401 يجعل فعددا -ومثله سودد- ملحقًا بجندب وعنصل، وهما مزيدان. ومعنى هذا أن الإلحاق عند سيبويه يجوز أن يكون بالمزيد، وعلى هذا يكون سودد ملحقًا بما جاء واستعمل.
5 سقط في د، هـ، ز.
6 سقط في د، هـ، ز.
7 في د، هـ، ز: "يتفوّهوا".
8 في د، هـ، ز: "بفتحة".

(2/345)


وفَعُل ثم قلبت الواو والياء في فعلت ألفًا1، فالتقى ساكنان: العين المعتلة المقلوبة ألفًا ولام الفعل, فحذفت العين لالتقائهما, فصار التقدير: قَلْت وبَعْت, ثم نقلت الضمة والكسرة إلى الفاء؛ لأن أصلهما قبل القلب فَعُلت وفَعِلت, فصار بِعت وقُلْت. فهذا2 -لعمري- مراجعة أصل، إلا أنه ذلك3 الأصل الأقرب لا الأبعد؛ ألا ترى أن أوّل4 أحوال هذه العين في صيغة5 المثال إنما هو فتحة العين التي أبدلت منها الضمة والكسرة. وهذا واضح.
ومن ذلك قولهم في مطايا وعطايا: إنهما لما أصارتهما الصنعة إلى مطاءا وعطاءا أبدلوا الهمزة على أصل ما في الواحد "من اللام"6 وهو الياء في مِطيّة وعطيّة, ولعمري إن لاميها ياءان, إلا أنك تعلم أن أصل7 هاتين الياءين واوان؛ كأنهما "في الأصل"8 مِطيَوة وعَطيَوة؛ لأنهما من مطوت وعطوت, أفلا تراك لم تراجع أصل الياء فيهما, وإنما لاحظت ما معك في9 مطية وعطية من الياء, دون أصلهما الذي هو الواو.
أفلا ترى إلى هذه المعاملة كيف هي مع الظاهر الأقرب إليك دون الأول الأبعد عنك. ففي هذا تقوية لإعمال الثاني من الفعلين؛ لأنه هو الأقرب إليك دون الأبعد عنك. فاعرف هذا.
وليس كذلك صرف ما لا ينصرف, ولا إظهار التضعيف؛ لأن هذا هو الأصل الأول على الحقيقة, وليس وراءه أصل, هذا أدنى إليك منه كما كان فيما
__________
1 سقط في د، هـ، ز.
2 في د، هـ: "وهذا".
3 في د، هـ، ز: "مع ذلك".
4 سقط في ش.
5 في د، هـ، ز: "صنعة".
6 سقط في ش.
7 سقط في د، هـ، ز.
8 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز.
9 في د، هـ، ز: "من".

(2/346)


أريته1 قبل. فاعرف بهذا ونحوه حال ما يرد عليك مما هو مردود إلى أول وراءه2 ما هو أسبق رتبة منه, وبين ما يرد إلى أول ليست وراءه "رتبة متقدمة"3 له.
__________
1 في د، هـ، ز: "أريناه".
2 كذا في ز. وفي ش: "دونه".
3 في ش: "مقدمة".

(2/347)


باب في مراجعة أصل واستئناف فرع:
اعلم أن كل حرف غير منقلب احتجت إلى قلبه فإنك حينئذ ترتجل له فرعًا ولست1 تراجع به أصلًا.
من ذلك الألفات غير2 المنقلبة الواقعة أطرافًا3 للإلحاق أو للتأنيث أو لغيرهما من الصيغة لا غير.
فالتي للإلحاق كألِف أرطى فيمن قال: مأروط4 وحبنطي ودَلَنظى, والتي للتأنيث كألف سكرى وغَضْبَى وجُمَادى, والتي للصيغة لا غير كألف ضَبَغْطَرى وقَبَعْثَرى وزِبَعْرًى. فمتى احتجت إلى تحريك واحدة من هذه الألفات للتثنية أو الجمع قلبتها ياء فقلت: أَرطَيانٍ وحَبَنْطَيانٍ وسكريان وجُمَادَيات وحُبَارَيات وضَبَغْطَرَيان وقبعثريان, فهذه الياء فرع مرتجل، وليست5 مراجعًا بها أصل6؛ ألا ترى أنه ليس واحدة منها منقلبة أصلًا لا عن ياء ولا غيرها.
وليست كذلك الألف المنقلبة كألف مغزى ومَدْعى؛ لأن هذه منقلبة عن ياء منقلبة عن واو في غزوت ودعوت وأصلهما7 مَغْزَوٌ، ومدْعَوٌ, فلما وقعت الواو
__________
1 في ش: "مقدمة".
2 في د، هـ، ز: "لست" بدون حرف العطف.
3 في ز: "الغير".
4 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "طرفا".
5 يقال: أديم مأروط؛ أي مدبوغ بورق الأرطي، وهو شجر، ووزن أوطي على هذا فعلي؛ إذ كان الهمزة الأولية أصلية, ومن العرب من يقول: أديم مرطي؛ فوزن أرطي على هذا أفعل, فتكون الألف أصلية.
6 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "لست.... أصلًا".
7 في د، هـ، ز: "فأصلهما".

(2/347)


رابعة هكذا قلبت ياء, فصارت مَغْزَيٌ ومَدْعَيٌ, ثم قلبت الياء ألفًا فصارت مَدْعًى ومَغْزًى, فلمَّا احتجت إلى تحريك هذه الألف "راجعت بها الأصل"1 الأقرب وهو الياء, فصارتا ياء في قولك: مغزيان ومدعيان.
وقد يكون الحرف منقلبًا فيضطرّ إلى قلبه, فلا تردَّه إلى أصله الذي كان منقلبًا عنه, وذلك قولك في حمراء: حمراوي وحمراوات2. وكذلك صفراوي وصفراوات2. فتقلب الهمزة واوًا, وإن كانت منقلبة عن ألف التأنيث، كالتي في نحو3: بشرى وسكرى. وكذلك أيضًا إذا نسبت إلى شقاوة فقلت: شقاوي. فهذه الواو في "شقاوي" بدل من همزة مقدرة, كأنك لما حذفت الهاء فصارت الواو طرفًا أبدلتها همزة, فصارت في التقدير إلى شقاء, فأبدلت الهمزة واوًا فصار "شقاوي". قالوا إذًا في "شقاوي" غير الواو في "شقاوة". ولهذا نظائر في العربية كثيرة.
ومنها قولهم في الإضافة إلى عدوة: عدوي. وذلك أنك لما حذفت الهاء حذفت له4 واو فَعُولة؛ كما حذفت لحذف تاء حنيفة ياءها, فصارت في التقدير إلى "عَدُوٍ" فأبدلت من الضمة كسرة, ومن الواو ياء فصارت إلى "عَدِيٍ"5 فجرت في ذلك مجرى عَم, فأبدلت من الكسرة فتحة, ومن الياء ألفًا, فصارت إلى "عَدًا" كهُدًى. فأبدلت من الألف واوًا لوقوع ياءي الإضافة بعدها, فصارت إلى6 "عَدَوِيّ"
__________
1 في د، هـ، ز: "رجعت بها إلى الأصل".
2 أي: في جمع حمراء وصفراء. وحمراء وصفراء وصفين لا يجمعان بالألف والياء عند جمهور النحويين, فإن كانتا علمين جاز جمعهما هذا الجمع بلا خلاف.
3 سقط في ش.
4 في د، هـ، ز: "لها".
5 في الأصول عدا ط، "عد" والأجود ما أثبت.
6 سقط هذا الحرف في ش، ز.

(2/348)


كهُدَويّ. فالواو إذًا1 في عَدَوِيّ ليست بالواو في عدُوَّة, وإنما هي بدل من ألف بدلٍ من ياء بدلٍ من الواو الثانية في عَدُوّة. فاعرفه.
__________
1 سقط في ش.

(2/349)