الخصائص باب في فرق بين
الحقيقة والمجاز:
الحقيقة: ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة, والمجاز: ما كان
بضد ذلك.
وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعانٍ ثلاثة, وهي: الاتساع
والتوكيد والتشبيه. فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة.
فمن ذلك قول1 النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفرس: "هو بحر" ,
فالمعاني الثلاثة موجودة فيه. أما الاتساع فلأنه زاد2 في أسماء الفرس
التي هي: فرس وطرف وجواد, ونحوها البحر, حتى إنه إن احتيج إليه في شعر
أو سجع أو اتساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء, لكن لا يفضي إلى ذلك
إلا بقرينة تسقط الشبهة. وذلك كأن يقول الشاعر:
علوت مطا جوادك يوم يوم ... وقد ثمد الجياد فكان بحرًا3
وكأن يقول الساجع: فرسك هذا إذا سما بغرته كان فجرًا, وإذا جرى إلى
غايته كان بحرًا, ونحو ذلك. ولو عَرِى الكلام من4 دليل يوضّح الحال لم
يقع عليه بحر؛ لما فيه من التعجرف في المقال من غير إيضاح ولا بيان.
ألا ترى أن لو5 قال رأيت بحرًا, وهو يريد الفرس لم يعلم بذلك غرضه, فلم
يجز قوله؛ لأنه إلباس وإلغاز على الناس.
__________
1 في كتاب الجهاد من صحيح البخاري: "عن أنس بن مالك قال: كان فزع
بالمدينة، فاستعار النبي -صلى الله عليه وسلم- فرسًا لنا يقال له
مندوب. فقال: ما رأينا من فزع، وإن وجدوه لبحرًا".
2 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "جاء".
3 يبدو أن هذا البيت من نظمه، ذكره مثالًا لما أراد. والمطا: الظهر.
وقوله: "يوم يوم" أي: يوم اليوم الذي تعرفه. وانظر في هذا سيبويه 2/
53, وقوله. "ثمد الجياد" أي: أعيين من قولهم: ماء مثمود: كثر عليه
الناس حتى ففى وفقد إلا أقله.
4 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "عن".
5 سقط هذا الحرف في ش.
(2/444)
وأما التشبيه فلأن جريه1 يجر ي في الكثرة
مجرى مائه.
أما التوكيد فلأنه شبه العرض بالجوهر, وهو أثبت في النفوس منه, والشبه
في العرض منتفية عنه؛ ألا ترى أن من2 الناس من دفع الأعراض وليس أحد
دفع الجواهر.
وكذلك قول الله سبحانه: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} 3 هذا هو
مجاز, وفيه الأوصاف الثلاثة.
أما السعة فلأنه كأنه زاد في أسماء الجهات والمحال اسمًا هو الرحمة.
وأما التشبيه فلأنه شبه4 الرحمة -وإن لم يصح دخولها- بما يجوز دخوله,
فلذلك وضعها موضعه.
وأما التوكيد فلأنه أخبر عن العرض بما يخبر به عن الجوهر, وهذا تعال5
بالغرض، وتفخيم منه؛ إذ صير6 إلى حيز ما يشاهد ويلمس ويعاين، ألا ترى
إلى قول بعضهم في الترغيب في الجميل: ولو رأيتم المعروف رجلًا لرأيتموه
حسنًا
__________
1 تراه عقد التشبيه بين جرى الفرس وماء البحر، والتشبيه في ظاهره بين
الفرس والبحر في كثرة ما يختص به كل منهما وسعته. فالفرس كثير الجري
والبحر كثير الماء. وفي فتح الباري في كتاب الهبة 5/ 53: "قال الأصمعي:
يقال للفرس بحر إذا كان واسع الجري، أو لأنّ جريه لا ينفد كا لا ينفد
ماء البحر".
2 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "في". وانظر في إنكار الأعراض الفصل لابن
حزم 5/ 66 من طبعة الموسوعات.
3 آية: 75 سورة الأنبياء.
4كأن يميل إلى أن في الكلام استعارة بالكناية, فشبه الرحمة بمكان، ودل
على ذلك بلازم المشبه به، وهو الإدخال، والمعروف أن في الآية تجوزًا
بالرحمة عن الجنة من إطلاق السبب على المسبب، وهذا مجاز مرسل.
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط: "تغال".
6 في ط: "أصير".
(2/445)
جميلًا وإنما يرغب فيه بأن ينبه عليه,
ويعظم من قدره, بأن يصوره في النفوس1 على أشرف أحواله، وأنوه2 صفاته.
وذلك بأن يتخيل شخصًا متجسمًا3 لا عرضًا متوهمًا. وعليه قوله 4:
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
"أي: فباديه إلى الخافي يسير"5 أي: فباديه مضمومًا إلى خافيه يسير.
وذلك أنه لما وصف الحب بالتغلغل فقد اتسع به6؛ ألا ترى أنه يجوز على
هذا أن تقول 7:
شكوت إليها حبها المتغلغلا ... فما زادها شكواي إلا تدللا8
فيصف بالمتغلغل9 ما ليس في أصل اللغة أن يوصف بالتغلغل, إنما وصف يخصّ
الجواهر لا الأحداث؛ ألا ترى أن المتغلغل في الشيء لا بُدَّ أن يتجاوز
مكانًا إلى آخر. وذلك تفريغ مكان وشغل مكان. وهذه أوصاف تخص في الحقيقة
الأعيان لا الأحداث. فهذا وجه الاتساع.
وأما التشبيه فلأنه شبَّه ما لا ينتقل ولا يزول بما يزول وينتقل, وأما
المبالغة والتوكيد فلأنه أخرجه عن ضعف العرضية إلى قوة الجوهرية.
__________
1 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "النفس".
2 ط: "أنزه".
3 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "مجسمًا". وفي ط: "بأن يتخيل جسمًا مصورًا،
وشخصًا متجسمًا".
4 أي: عبيد الله بن عبد لله بن عتبة بن مسعود. وانظر الحماسة
"التجارية" 3/ 298، والقالي 3/ 223، والأغاني 8/ 94. وفي المختار من
شعر بشار 154, نسبته إلى الحارث بن خالد المخزومي.
5 سقط ما بين القوسين في ش.
6 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "فيه".
7 كذا في د، هـ، ز. وفي ش، ط: "يقول".
8 الشطر الأخير في ش هكذا:
فما زادني شكواي إلا تذللًا.
9 في ط: "بالتغلغل".
(2/446)
وعليه "قول الآخر "1:
قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج ... ويوم النقا حتى قسرت الهوى قسرا2
وقول الآخر:
ذهوب بأعناق المئين عطاؤه ... عزوم على الأمر الذي هو فاعله3
وقول الآخر 4:
غمر الرداء إذا تبسَّم ضاحكًا ... غلقت لضحكته رقاب المال
وقوله 5:
ووجهٍ كأن الشمس حلت رداءها ... عليه نقيّ اللون لم يتخدد
جعل للشمس رداء وهو جوهر؛ لأنه أبلغ في6 النور الذي هو العرض, وهذه
الاستعارات كلها داخلة تحت7 المجاز.
__________
1 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "قوله".
2 بعده:
فإن خفت يومًا أن يلج بك الهوى ... فإن الهوى يكفيكه مثله صبرا
الظنابيب واحدها ظنبوب، وهو حرف العظم اليابس من الساق. وتقول، قرعت
ظنبوب البعير إذا ضربت ظنبوبه ليتنوخ لك فتركبه، وقيل من هذا: فرع
ظنابيب الشيء إذا ذلَّلَه. يذكر أنه ذلَّل الهوى في هذين اليومين. وذلك
بالتقائه بحبيبه، كما قال جرير:
ولما التقى الحبان ألقيت العصا ... ومات الهوى لما أصيبت مقاتله
وقد يكون تذليل الهوى بالصبر والتجلد للفراق، كما هو في البيت الثاني،
وورد البيتان في اللسان "ظنب".
3 ورد الشطر الثاني في قصيدة لزهير في رواية الأعلم.
وصدره فيها:
فأعرضن منه من كريم عرزا
والشعر في مدح حصن بن حذيفة الفزاري, وذهاب عطائه بأعناق اللئين أن
يهبها ويمنحها العفاة. وانظر شرح ديوان زهير "طبعة دار الكتب" 141.
4 هو كثير. والبيت من قصيدة له، كما في معاهد التنصيص 2/ 149، ولم يورد
شيئًا من القصيدة، ولم أرها في الديوان المطبوع.
5 هو طرفة في معلقته. و"حلت رداءها" أي: خلعته وألبسته إياه. و"يتحدد":
"يضطرب" مشتق من الحد لأنه يضطرب عند الأكل.
6 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "من".
7 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "في حكم".
(2/447)
فأما قولهم: ملكتُ عبدًا ودخلت دارًا وبنيت
حمامًا فحقيقي هو ونحوه, لا استعارة فيه ولا مجاز في هذه المفعولات,
لكن في الأفعال الواصلة إليها مجاز. وسنذكره. ولكن لو قال: بنيت لك في
قلبي بيتًا, أو ملكت من الجود عبدًا خالصًا, أو أحللتك من رأيي وثقتي1
دار صدق؛ لكان ذلك مجازًا واستعارة لما فيه من الاتساع والتوكيد
والتشبيه على ما مضى.
ومن المجاز كثير من باب الشجاعة في اللغة: من الحذوف2، والزيادات3،
والتقديم والتأخير , والحمل على المعنى, والتحريف.
ألا ترى أنك إذا قلت: بنو4 فلان يطؤهم الطريق, ففيه من السعة إخبارك
عمَّا لا يصح وطؤه بما صح وطؤه. فتقول على هذا: أخذنا على الطريق
الواطئ لبني فلان, ومررنا بقوم موطوئين بالطريق, ويا طريق طأ بنا بني
فلان, أي أدّنا إليهم. وتقول: بني فلان بيته على سنن المارة رغبة في
طئة الطريق بأضيافه له. أفلا ترى إلى وجه الاتساع عن هذا المجاز.
ووجه التشبيه إخبارك عن الطريق بما تخبر به عن سالكيه, فشبهته5 بهم إذ
كان هو المؤدي لهم, فكأنه هم.
وأما التوكيد6 فلأنك إذا أخبرت عنه بوطئه إياهم كان أبلغ من وطء سالكيه
لهم, وذلك أن الطريق مقيم ملازم, فأفعاله مقيمة معه, وثابتة بثباته.
وليس كذلك أهل الطريق؛ لأنهم قد يحضرون فيه ويغيبون عنه, فأفعالهم
أيضًا كذلك
__________
1 في ط: "نفس".
2 كذا في ط، ج، وفي د، ز: "المحذوف", ويبدو أنه محرَّف عمَّا أثبت. وفي
ش: "الحذف".
3 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "الزيادة".
4 انظر الكتاب 1/ 159.
5 تراه يميل إلى الاستعارة بالكناية، فهو يشبه الطريق بقوم سائرين،
وجعل الوطء دليل ذلك التشبيه.
6 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "توكيد".
(2/448)
حاضرة وقتًا وغائبة آخر. فأين هذا مما
أفعاله ثابتة مستمرة. ولما كان هذا كلامًا الغرض فيه المدح والثناء
اختاروا له أقوى اللفظين؛ لأنه يفيد أقوى المعنيين.
وكذلك قوله1 سبحانه: {وَاسْأَلِ 2 الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
3} فيه3 المعاني الثلاثة. أما الاتساع فلأنه استعمل لفظ السؤال مع ما
لا يصح في الحقيقة سؤاله, وهذا نحو ما مضى, ألا تراك تقول: وكم من قرية
مسئولة, وتقول: القرى وتسآلك؛ كقولك: أنت وشأنك. فهذا ونحوه اتساع.
وأما التشبيه فلأنها شبهت بما يصح سؤاله لما كان بها ومؤلفًا4 لها.
وأما التوكيد فلأنه في ظاهر اللفظ إحالة بالسؤال "على من"5 ليس من
عادته الإجابة. فكأنهم تضمنوا لأبيهم -عليه السلام- أنه إن سأل
الجمادات والجبال أنبأته بصحة قولهم, وهذا تناهٍ في تصحيح الخبر. أي:
لو سألتها لأنطقها الله بصدقنا, فكيف لو سألت مَن مِن عادته الجواب.
وكيف تصرَّفت الحال فالاتساع فاشٍ في جميع أجناس شجاعة العربية.
__________
1 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش. "في قوله".
2 آية: 82، سورة يوسف.
3 سقط في ش.
4 هو وصف من قولهم: آلف المكان: ألفه وأحبه.
5 في ش: "عمن".
(2/449)
باب في أن 1 المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة:
اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة. وذلك عامة الأفعال نحو:
قام زيد, وقعد عمرو, وانطلق بشر, وجاء الصيف, وانهزم2 الشتاء. ألا ترى
أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية, فقولك: قام زيد, معناه 3: كان منه
القيام, أي: هذا
__________
1 سقط هذا الحرف في ش.
2 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط "انصرف".
3 كذا في د، هـ، ز، ط وسقط في ش.
(2/449)
الجنس من الفعل, ومعلوم أنه لم يكن منه
جميع القيام, وكيف1 يكون ذلك وهو جنس, والجنس يطبق2 جميع الماضي وجميع
الحاضر وجميع الآتي, الكائنات من كل من وجد منه القيام. ومعلوم3 أنه لا
يجتمع لإنسان واحد "في وقت واحد"4, ولا في مائة ألف سنة مضاعفة القيام
كله الداخل تحت الوهم, هذا محال عند كل ذي لب. فإذا كان كذلك علمت أن
"قام زيد" مجاز لا حقيقة, وإنما هو على وضع الكل موضع البعض للاتساع
والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير. ويدل على انتظام ذلك لجميع جنسه أنك
تعلمه في جميع أجزاء ذلك الفعل فتقول: قمت قومة, وقومتين, ومائة قومة,
وقيامًا حسنًا, وقيامًا قبيحًا. فأعمالك إياه في جميع أجزائه يدل على
أنه موضوع عندهم على صلاحه لتناول جميعها. وإنما يعمل الفعل من المصادر
فيما فيه عليه دليل؛ ألا تراك لا تقول: قمت جلوسًا, ولا ذهبت مجيئًا,
ولا نحو ذلك لما لم تكن فيه دلالة عليه, ألا ترى إلى قوله:
لعمري لقد أحببتك الحب كله ... وزدتك حبًا لم يكن قبل يعرف5
"فانتظامه6 لجميعه يدل على وضعه على اغتراقه واستيعابه"7 وكذلك قول
الآخر:
فقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظنّ أن لا تلاقيا8
__________
1 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "فكيف".
2 أي: يعم. يقال: طبق الغيث الأرض: عمهد, والمعروف أن الجنس يتناول
القليل والكثير والواحد والتعدد، وهو إنما يطبق جميع أفراده بالصلاحية،
وسيذكر بعد أن عمل الفعل في اسم المرة وغيره يدل على صلاحته لتناول
جميعها. وعلى هذا فإذا أريد منه به بعض أفراده كان حقيقة لا مجازًا.
3 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "فمعلوم".
4 ثبت ما بين القوسين في ش، ط, وسقط في د، هـ، ز.
5 سقط الشطر الثاني في ش.
6 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز. وثبت في ش، ط.
7 كذا في ط، وفي ش: "فاستيعابه", وقوله: "لجميعه" في ط: "بجميعه".
8 "فقد كذا في د، ز، ش، ط. وفي هـ: "وقد", وهو من قصيدة للمجنون.
(2/450)
فقوله: "كل الظن" يدل على صحة ما ذهبنا
إليه. قال لي أبو علي: قولنا: قام زيد, بمنزلة قولنا: خرجت فإذا الأسد,
ومعناه أن قولهم: خرجت فإذا الأسد تعريفه هنا تعريف الجنس كقولك: الأسد
أشد من الذئب, وأنت لا تريد أنك "خرجت وجميع الأسد"1 التي2 يتناولها
الوهم على الباب. هذا محال واعتقاده اختلال3. وإنما أردت: خرجت فإذا
واحد من هذا الجنس بالباب, فوضعت لفظ الجماعة على الواحد مجازًا لما
فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه. أما الاتساع فإنك4 وضعت اللفظ
المعتاد للجماعة على الواحد. وأما التوكيد فلأنك عظمت قدر ذلك الواحد،
بأن جئت بلفظه على اللفظ المعتاد للجماعة, وأما التشبيه فلأنّك عظّمت
قدر ذلك الواحد بالجماعة؛ لأن كل واحد منها مثله في كونه أسدًا.
وإذا كان كذلك فمثله قعد جعفر, وانطلق محمد, وجاء الليل, وانصرم
النهار. وكذلك أفعال القديم سبحانه؛ نحو5: خلق الله السماء والأرض,
وما6 كان مثله, ألا ترى -أنه عزَّ اسمه- لم يكن منه بذلك خلق أفعالنا,
ولو كان حقيقة لا مجازًا لكان خالقًا للكفر والعدوان وغيرهما7 من
أفعالنا -عز وعلا. وكذلك علم الله قيام زيد مجاز8 أيضًا؛ لأنه لست
الحال التي علم عليها قيام زيد هي الحال التي علم عليها قعود عمرو.
ولسنا نثبت له سبحانه علمًا؛ لأنه عالم بنفسه9, إلا أنَّا مع ذلك نعلم
__________
1 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "مررت بجميع الأسد".
2 كذا في ش. وفي ط، ز: "الذي".
3 في ز: "اعتلال".
4 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش، "فأن".
5 سقط في ش.
6 سقط في د، هـ، ز. وثبت في ش، ط.
7 كذا في ز. وفي ش، ط: "غيرها". وقد جرى في هذا على رأي أصحابه
المعتزلة. وأهل السنة لا يرون شيئًا في خلق الكفر والعدوان، ولا يخرج
شيء عن خلقه وقدرته.
8 في ش: "مجازًا".
9 كذا في ز. وفي ش، ط: "لنفسه". وتراه يتبع في نفي صفة العلم عن الله
سبحانه مذهب المعتزلة، وأهل السنة بخلاف ذلك.
(2/451)
أنه ليست1 حال علمه بقيام2 زيد هي حال علمه
بجلوس عمرو ونحو ذلك. وكذلك قولك: ضربت عمرًا مجاز أيضًا من غير جهة
التجوّز في الفعل -وذلك أنك إنما فعلت بعض الضرب لا جميعه- ولكن من جهة
أخرى؛ وهو أنك إنما ضربت بعضه لا جميعه, ألا تراك تقول: ضربت زيدًا,
ولعلك إنما ضربت يده أو إصبعه, أو ناحية من نواحي جسده, ولهذا إذا
احتاط الإنسان واستظهر جاء ببدل البعض فقال: ضربت زيدًا وجهه أو رأسه.
نعم, ثم إنه مع ذلك متجوز, ألا "تراه قد يقول "3: ضربت زيدًا رأسه4،
فيبدل للاحتياط, وهو إنما ضرب ناحية من رأسه لا رأسه كله. ولهذا ما
يحتاط بعضهم في نحو هذا فيقول: ضربت زيدًا جانب وجهه الأيمن, أو ضربته
أعلى رأسه الأسمق5؛ لأن أعلى رأسه قد تختلف أحواله فيكون بعضه أرفع من
بعض.
وبعد فإذا عرف التوكيد لم وقع في الكلام -نحو: نفسه وعينه وأجمع وكله
وكلهم وكليهما, وما أشبه ذلك- عرفت منه "حال سعة"6 المجاز في هذا
الكلام, ألا تراك قد7 تقول: قطع الأمير اللص, ويكون القطع له بأمره8 لا
بيده, فإذا قلت: قطع الأمير نفسه اللص, رفعت المجاز من جهة الفعل وصرت
إلى الحقيقة, لكن يبقى عليك التجوز من مكان آخر وهو قولك: اللص, وإنما
لعله قطع يده أو رجله، فإذا9 احتطت قلت: قطع الأمير نفسه يد اللص أو
رجله. وكذلك
__________
1 في ش: "ليست له".
2 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "بقعود".
3 كذا في ش. وفي ط: "ترى كيف تقول" وفي ز: "تراه كيف تقول".
4 سقط في ش.
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط: "الأسمي".
6 كذلك في ش، ز. وفي ط: "سعة حال".
7 سقط في ش، ط، وثبت في د، هـ، ز.
8 في ش: "وبأمره".
9 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "وإذا".
(2/452)
جاء الجيش أجمع, ولولا أنه قد كان يمكن أن
يكون إنما جاء بعضه1 -وإن أطلقت المجيء على جميعه- لما كان لقولك: أجمع
معنى.
فوقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليل على شياع المجاز فيها واشتماله
عليها, حتى إن أهل العربية أفردوا له بابًا لعنايتهم به، وكونه مما2 لا
يضاع ولا يهمل مثله, كما أفردوا لكل معنى أهمهم بابًا؛ كالصفة والعطف
والإضافة والنداء والندبة والقسم والجزاء, ونحو ذلك.
وبينت منذ قريب لبعض منتحلي هذه الصناعة هذا الموضع -أعني: ما في3 ضربت
زيدًا, وخلق الله, ونحو ذلك- فلم يفهمه إلّا بعد أن بات4 عليه, وراض
نفسه فيه, واطلع في الموضع الذي أومأت له إليه, فحينئذ ما تصوره, وجرى
على مذهبه في أن لم يشكره.
واعلم أن جميع ما أوردناه في سعة المجاز عندهم واستمراره على ألسنتهم
دفع أبي الحسن القياس على حذف المضاف, وإن لم يكن حقيقة. أولا5 يعلم
أبو الحسن كثرة المجاز غيره, وسعة استعماله وانتشار مواقعه, كقام أخوك,
وجاء الجيش, وضربت زيدًا, ونحو ذلك, وكل ذلك مجاز "لا حقيقة"6 "وهو على
غاية الانقياد والاطراد. وكذلك أيضًا حذف المضاف مجاز لا حقيقة"7 وهو
مع ذلك مستعمل8.
__________
1 في ز، ط: "جاءك".
2 كذا في د، هـ، ط. وفي ش: "فيما".
3 سقط في هذا الحرف في د، هـ، ز. وثبت في ش، ط.
4 كذا في ش. وفي ط: "ثاب".
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط: "أفلا".
6 سقط ما بين القوسين في ش، ط. وثبت في د، هـ، ز.
7 ثبت ما بين القوسين في ش، ط، وسقط في د، هـ، ز.
8 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "مجاز مستعمل".
(2/453)
فإن احتج أبو الحسن بكثرة هذه المواضع؛
نحو: قام زيد, وانطلق محمد, وجاء القوم, ونحو ذلك, قيل له: وكذلك حذف
المضاف قد كثر؛ حتى إن في القرآن -وهو أفصح الكلام- منه أكثر من مائة
موضع، بل ثلاثمائة موضع1، وفي الشعر منه ما لا أحصيه.
فإن قيل: يجيء من هذا أن تقول: ضربت زيدًا, وإنما ضربت غلامه وولده.
قيل: هذا الذي شنَّعت به بعينه جائز؛ ألا تراك تقول: إنما ضربت زيدًا
بضربك غلامه, وأهنته بإهانتك ولده. وهذا باب إنما يصلحه ويفسده المعرفة
به. فإن فهم عنك في قولك: ضربت زيدًا, أنك إنما أردت بذلك: ضربت غلامه
أو أخاه أو نحو ذلك جاز, وإن لم يفهم عنك لم يجز, كما أنك إن فهم عنك2
بقولك: أكلت الطعام, أنك أكلت بعضه, لم تحتج إلى البدل, وإن3لم يفهم
عنك وأردت إفهام المخاطب إياه لم تجد بدًّا من البيان, وأن تقول: بعضه
أو نصفه أو نحو ذلك. ألا ترى أن الشاعر لما فهم عنه ما "أراد4 بقوله"
قال 5:
صبَّحن من كاظمة الخُصِّ الخرب ... يحملن عباس بن عبد المطلب6
__________
1 سقط في ز.
2 سقط في ش. وثبت في د، هـ، ز، ط.
3 في ز: "لو".
4 كذا في ش, وفي ط "له أراد". وفي د، هـ، ز: "أراد".
5 كذا. والأولى حذفها.
6 كاظمة: موضع قريب من البصرة فيه آبار كثيرة. والحديث عن إيل. وانظر
الكامل 7/ 132، والجمهرة 3/ 503.
(2/454)
وإنما أراد: عبد الله بن عباس, ولو لم يكن
على الثقة بفهم ذلك لم يجد بدًّا من البيان. وعلى ذلك قول الآخر 1:
عليم بما أعيا النطاسي حذيما
أراد: ابن حذيم.
ويدلك على لحاق المجاز بالحقيقة عندهم وسلوكه طريقته في أنفسهم أن
العرب قد وكدته كما وكَّدت الحقيقة, وذلك قول الفرزدق:
عشيَّة سال المربدان كلاهما ... سحابة موت بالسيوف الصوارم2
وإنما هو مربد واحد, فثناه مجازًا لما يتصل به من مجاوره, ثم إنه مع
ذلك وكَّده وإن كان مجازًا. وقد يجوز أن يكون سمَّى كل واحد من جانبيه
مربدًا.
وقال الآخر:
__________
1 هو أوس بن حجر, وصدر البيت وقد جاء في ز:
فهل لكم فيها إليّ فإنني
وكان جاور في قوم غير قومه فاقتسموا معزاه، فهجاهم، وعرض عليهم أن
يردوا إليه ماله فيخرجهم من مخزاة فعلتهم، فإنه كفيل بذلك طبيب به.
وابن حذيم متطبب عند العرب. ويقول بعد هذا:
فأخرجكم من ثوب شمطاء عارك ... مشهرة بلت أسافله دما
فقوله: "فهل كلم فيها إلي" أي: في رد غنمي إلي, هذا وقد ذكر ابن السكيت
في شرح ديوان أوس أن حذيمًا من تيم الرباب، وكان متطببًا عالمًا، وتبعه
صاحب القاموس، وعليه فلا شاهد فيه. وانظر الخزانة 2/ 232.
2 من قصيدة له في هجاء جرير والتعريض بالبعيث, وقبله:
ومنا الذي أعطى يديه رهينة ... لفاري نزار يوم ضرب الجماجم
كفى كل أنثى ما تخلف على ابنها ... وهن قيام رافعات المعاصم
غارا نزار تميم وبكر، وهو تثنية غار، وهو الجمع الكثير من الناس, ويريد
بالذي أعطى يديه رهينة عبد الله بن سفيان التميمي في قصة طويلة جرت بعد
موت يزيد بن معاوية, بسطها أبو عبيدة في النقائض 720 طبع أوربا.
والمربدان أراد به المربد، وهو موضع بالبصرة, والمربد -في الأصل-
الموضع يحبس فيه الإبل وغيرها. وقوله: "سحابة" في ز: "عجاجة".
(2/455)
إذا البيضة الصمَّاء عضت صفيحة ...
بحربائها صاحت صياحًا وصلَّت1
فأكد "صاحت" وهو مجاز بقوله: صياحًا.
وأما2 قول الله -عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 3 فليس
من باب المجاز "في الكلام"4, بل هو حقيقة, قال أبو الحسن 5: خلق الله
لموسى6 كلامًا في الشجرة, فكلَّم به موسى, وإذا أحثَّه كان متكلمًا به.
فأمَّا أن يحدثه في شجرة أو فم أو غيرهما, فهو شيء آخر, لكن الكلام
واقع, ألا ترى أن المتكلم منا إنما يستحق هذه الصفة بكونه متكلمًا لا
غير لا؛ لأنه أحدثه في آلة نظقه, وإن كان لا يكون متكلمًا حتى يحرك به
آلات نطقه.
فإن قلت: أرأيت لو أن أحدنا عمل آلة مصوِّتة وحركها واحتذى بأصواتها
أصوات الحروف المقطعة المسموعة في كلامنا, أكنت تسميه متكلمًا؟ وتسمي
تلك الأصوات كلامًا؟
فجوابه ألا7 تكون تلك الأصوات كلامًا, ولا ذلك المصوِّت لها متكلمًا,
وذلك أنه ليس في قوة8 البشر أن يوردوه بالآلات التي يصنعونها على سمت
الحروف
__________
1 البيضة: الخوذة توضع على الرأس لتقيها السلاح. والحرباء: مسمار
الدرع، وصليل الحرباء: صوته, وذلك أن يضرب الدرع بالسيف فلا تنفذ فيه
الضربة وترتد فيكون لذلك صوت. وقد جعل الحرباء كما ترى للبيضة.
والصفيحة: السيف العريض.
2 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط: "فأمَّا".
3 آية: 164، سورة النساء.
4 كذا في ز، ط. وسقط في ش.
5 هذا على أصل المعتزلة الذين ينكرون الكلام النفسي لله سبحانه, ويذكر
المؤلف أن نسبة الكلام إلى الله سبحانه على هذا الرأي حقيقة لا مجاز.
يرده أن الجاري في العربية نسبة الفعل إلى من يظهر منه، فلو كان الكلام
في الشجرة لكانت أحق بنسبة الكلام إليها على سبيل الحقيقة.
6 سقط في ش. وثبت في د، هـ، ز، ط.
7 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط، "لا".
8 في ز، ط: "قدرة".
(2/456)
المنطوق بها وصورتها "في النفس"1؛ لعجزهم
عن ذلك. وإنما يأتون بأصوات فيها الشبه اليسير من حروفنا2؛ فلا يستحق
لذلك أن تكون3 كلامًا، ولا أن يكون الناطق بها متكلمًا, كما أن الذي
يصور الحيوان تجسيمًا أو ترقيمًا لا يسمَّى خالقًا للحيوان, وإنما يقال
مصور وحاكٍ ومشبِّه. وأما القديم سبحانه فإنه قادر على إحداث الكلام
على صورته الحقيقية وأصواته الحيوانية في الشجرة والهواء وما أحب
سبحانه وشاء. فهذا فرق.
فإن قلت: فقد أحال سيبويه4 قولنا: أشرب ماء البحر, وهذا منه حظر للمجاز
الذي أنت مدَّع شياعه وانتشاره.
قيل: إنما أحال ذلك على أن المتكلم يريد به الحقيقة, وهذا5 مستقيم إذ6
الإنسان الواحد لا يشرب جميع ماء البحر, فأما إن أراد به بضعه ثم أطلق
هناك اللفظ يريد به جميعه, فلا محالة من جوازه, ألا ترى إلى "قول
الأسود7 بن يعفر":
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد8
"فلم يحصل"9 هنا جميعه؛ لأنه قد يمكن أن يكون بعض مائه مختلجًا قبل
وصوله إلى أرضهم "بشرب10 أو بسقي" زرع ونحوه, فسيبويه إذًا إنما وضع
هذه اللفظة
__________
1 سقط ما بين القوسين في ش، وثبت في د، هـ، ز، ط.
2 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "حروفها".
3 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "يكون".
4 انظر الكتاب 1/ 8. وعبارته: "وأما المحال الكذب, فأن تقول: سوف أشرب
ماء البحر أمس.
5 أي: الحكم بإحالة شرب ماء البحر على سبيل الحقيقة مستقيم وقد يكون
الأصل: "وهذا غير مستقيم" أي: شرب ماء البحر على سبيل الحقيقة.
6 في ط: "لأن".
7 كذا في ز. وفي ش، ط: "قوله".
8 من قصيدة مفضلية. وأنقرة هنا موضع بالحيرة، وهي غير أنقرة التي في
بلاد الروم، والتي هي الآن قصبة الدولة التركية. والأطواد: الجبال.
9 في ط: "وإن لم يحصل".
10 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط: "شرب أو لسقيا".
(2/457)
في هذا الموضع على أصل "وضعها في اللغة"1
من العموم, واجتنب المستعمل فيه من الخصوص.
ومثل2 توكيد المجاز فيما مضى قولنا: قام زيد قيامًا, وجلس عمرو جلوسًا,
وذهب سعيد3 ذهابًا، "ونحو ذلك4؛ لأن" قولنا: قام زيد ونحو ذلك قد
قدَّمنا الدليل على أنه مجاز, وهو مع ذلك مؤكَّد بالمصدر. فهذا5 توكيد
المجاز كما ترى, وكذلك أيضًا يكون قوله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ
مُوسَى تَكْلِيمًا} ومن هذا الوجه مجازًا على ما مضى.
ومن التوكيد في المجاز قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 6
ولم تؤت لِحْيَة ولا ذكرًا. ووجه هذا عندي أن يكون مما حذفت صفته حتى
كأنه قال: وأوتيت من كل شيء تؤتاه المرأة الملكة7؛ ألا ترى "أنها8 لو"
أوتيت لحية وذكرًا لم تكن امرأة أصلًا9، ولما قيل فيها: أوتيت, ولقيل
أوتي. ومثله قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 10 وهو سبحانه
شيء. وهذا11 مما يستثنيه12 العقل ببديهته, ولا يحوج إلى التشاغل
باستثنائه13؛ ألا ترى أن الشيء كائنًا ما كان لا يخلق نفسه, كما أن
المرأة لا تؤتي لحية ولا ذكرًا.
__________
1 في ز، ط: "وضع اللغة".
2 كذا في ش، ز، ط. وفي ج: "من".
3 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "سعد".
4 في ز، ط: "وذلك أن".
5 في ط: "وهو".
6 آية: 23، سورة النمل.
7 في ز: "المليكة".
8 كذا في ش، ط. وفي ز: "لو أنها".
9 سقط في د، هـ، ز. وثبت في ش، ط.
10 ورد في عدة آيات. من ذلك آية 116، سورة الرعد.
11 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط: "فهذا".
12 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "يستثبته".
13 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "باستثباته".
(2/458)
فأما1 قوله سبحانه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ} 2 فحقيقة لا مجاز. وذلك3 أنه سبحانه ليس عالمًا بعلم؛
فهو إذًا العليم الذي4 فوق ذوي العلوم أجمعين. ولذلك5 لم يقل: وفوق كل
عالم عليم؛ لأنه عزَّ اسمه عالم ولا عالم فوقه.
فإن قلت: فليس في شيء مما أوردته6 من قولك: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ} و {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 7 {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ} اللفظ المعتاد للتوكيد.
قيل: هو وإن لم يأت تابعًا على سمت التوكيد فإنه بمعنى التوكيد البتة,
ألا ترى أنك8 إذا قلت: عممت بالضرب جميع القوم, ففائدته فائدة قولك:
ضربت القوم كلهم. فإذا كان المعنيان واحدًا كان ما وراء ذلك غير
معتَدٍّ به ولغوًا.
__________
1 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط: "وأمَّا".
2 آية: 76، سورة يوسف.
3 يريد المؤلف أن الله سبحانه لا يشمله ذو العلم، فهو غير داخل في
مدلول الآية. وبنى كلامه على أصل المعتزلة أنه عالم بذاته، وليس له صفة
العلم. وفاته أن اللسان العربي لا يعرف العالم إلّا لذي العلم، كما لا
يعرف القائم إلا لذي القيام، وكان خيرًا له أن ينأى عن هذه المسائل
الكلامية.
4 سقط في ز.
5 في ط: "وذلك أنه".
6 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "في".
7 سقط ما بين القوسين في ش.
8 سقط في ش.
(2/459)
باب في إقرار الألفاظ على أوضاعها الأول,
ما لم يَدْعُ داعٍ إلى الترك 1 والتحول:
من ذلك2 "أو" إنما أصل وضعها أن تكون لأحد الشيئين أين كانت وكيف3
تصرفت, فهي عندنا على ذلك وإن كان بعضهم قد خفي عليه هذا من حالها في
بعض الأحوال, حتى دعاه إلى أن4 نقلها عن أصل بابها, وذلك أن الفراء
قال: إنها قد تأتي بمعنى بل, وأنشد بيت ذي الرمة:
__________
1 في ط: "نزوله".
2 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "وإنما".
3 في ط: "أين".
4 سقط هذا الحرف في ط، ش.
(2/459)
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ...
وصورتها أو أنت في العين أملح1
وقال: معناه: بل أنت في العين أملح. وإذا أرينا أنها في موضعها وعلى2
بابها -بل إذا كانت هنا على بابها كانت أحسن معنًى وأعلى مذهبًا- فقد
وفَّينا ما3 علينا.
وذلك أنها على بابها من الشك, ألا ترى أنه لو أراد بها معنى بل فقال:
بل أنت في العين "أملح لم يف بمعنى أو في الشك؛ لأنه إذا قطع بيقين
أنها في العين أملح"4 كان في ذلك سرف منه ودعاء إلى التهمة في الإفراط
له، وإذا أخرج الكلام مخرج الشك كان في صورة المقتصد غير المتحامل ولا
المتعجرف. فكان5 أعذب للفظه، وأقرب إلى تقبُّل قوله, ألا تراه نفسه
أيضًا6 قال:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أَمْ أُمّ سالم7
__________
1 قرن الشمس: أعلاها. وقوله: "وصورتها" بالجر عطف على "قرن"، ويقول
البغدادي في الخزانة 4/ 424: "والبيت نسبه ابن جني إلى ذي الرمة، ولم
أجده في ديوانه", ولذي الرمة قصيدة طويلة على روي البيت، مطلعها:
أمنزلتي ميّ سلام عليكما
على النأي والنائي يود وينصح
وانظر معاني القرآن 10/ 72، والإنصاف 198.
2 سقطت واو العطف في ز.
3 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "بما".
4 سقط ما بين القوسين في ش، وثبت في د، هـ، ز، ط.
5 كذا في ش،، ط. وفي د، هـ، ز: "وكان".
6 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "كيف".
7 قبله:
أقول لدهناوية عوهج جرت ... لنا بين أعلى عرفة بالصرائم
العوهج: الطويلة العتق، وأراد بها ظبية, والدهناوية نسبة إلى الدهناء،
وهي رمال في نجد، الرعساء، رملة وجلاجل -بالضم- موضع، ومن اللغويين من
يرويه بفتح الجيم. وانظر الأمالي 2/ 61، والكامل 6/ 181، وسيبويه 2/
168، وأمالي ابن الشجري 1/ 321.
(2/460)
فكما1 لا يشك2 في3 أن كلامه ههنا خرج مخرج
الشك لما فيه من عذوبته وظرف مذهبه, فكذلك ينبغي أن يكون قوله: أو أنت
في العين أملح "أو" فيه باقية في موضعها وعلى شكلها.
وبعد فهذا مذهب الشعراء: أن يظهروا في هذا ونحوه شكًّا وتخالجًا4 ليروا
قوة الشبه واستتكام الشبهة, ولا يقطعوا قطع اليقين البتة فينسبوا بذلك
إلى الإفراط وغلوّ الأشطاط, وإن كانوا هم ومن بحضرتهم5 ومن يقرأ من6
بعد أشعارهم يعلمون أن لا حيرة هناك ولا شبهة, ولكن "كذا خرج"7 الكلام
على الإحاطة بمحصول الحال.
وقال أيضًا:
ذكرتك أن مرت بنا أم شادن ... أمام المطايا تشرئب وتسنح8
وقال الآخر 9:
أقول لظبي يرتعي وسط روضة ... أأنت أخو ليلى فقال يقال
وما أحسن ما جاء به الطائي الصغير "في قوله"10:
عارضننا أصلًا فقلنا الربرب ... حتى أضاء الأقحوان الأشنب11
__________
1 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "فيما".
2 في ط: "تشك".
3 سقط هذا الحرف في د، هـ، ز.
4 أي: ترددًا، يقال: تخالجته الهموم, أي: تنازعته فنفت عنه الطمأنينة،
فكان مضطربًا مترددًا.
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "يحضرهم" وفي ط: "يحضر منهم".
6 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "فيما", وسقط كلاهما في ط.
7 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "هذا مخرج".
8 الشادن: ولد الظبية حين يقوى ويشتد, ويقال: اشرأبَّ إذا رفع رأسه.
وتسنح: تمر من اليمين. وقوله: "أن" يروي: "إذا". وانظر الديان 80،
والكامل 6/ 91.
9 هو المجنون.
10 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "فقال".
11 "أضاء" كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "استبان". وهو من قصيدة له في
مدح إسحق بن إبراهيم. انظر الديوان "الجوائب" 1/ 62.
(2/461)
وقال الآخر 1:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... سوى أنّ عظم الساق منكِ دقيق
وذهب قُطْرُب إلى أن "أو" قد تكون بمعنى الواو, وأنشد بيت النابغة:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد2
فقال: معناه: ونصفه. ولعمري إن كذا معناه. وكيف لا يكون كذلك, ولا
بُدَّ منه وقد كثرت فيه الرواية أيضًا بالواو: ونصفه. لكن هناك مذهب
يمكن معه أن يبقى الحرف على أصل وضعه: من كون لا شَكَّ فيه, وهو أن
يكون تقديره: ليتما هذا الحمام لنا "إلى حمامتنا"3 أو هو ونصفه. فحذف
المعطوف عليها وحرف العطف, على ما قدمناه في قوله عز وجل: {فَقُلْنَا
اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ
عَيْنًا} 4 أي5 فضرب فانفجرت. وعليه قول6 الآخر:
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث ... إلى ذا كما ما غيبتني غيابيا
أي: شهرين أو شهرين ونصف ثالث, ألا تراك لا تقول مبتدئًا: لبثت نصف
ثالث؛ لأن ثالثًا من الأسماء المضمنة7 بما معها. ودعانا إلى هذا
التأوّل8 السعي في9 إقرار "هذه" اللفظة على أول أحوالها.
__________
1 هو مجنون بني عامرن يخاطب ظبية صيدت فأعطى الصائد مكانها شاة
وأطلقها. وانظر الكامل 7/ 39 والخزانة 4/ 595.
2 من قصيدة له، يعتذر فيها للنعمان بن المنذر مما رمي به عنده، ويرجوه
أن يكون حكيمًا نافذ البصر كزرقاء اليمامة, وكانت رأت حمامًا مرَّ بين
جبلين فخزرته ستارستين، فقالت: ليت هذا الحمام ونصفه يكون لي مضافًا
إلى حماميّ لتكمل المائة، فلما عد الحمام من كثب ألفوها صادقة، فضرب
بها المثل في صدق البصر. وقولها: فقد أي فقط، وقد هنا اسم فعل، والكسر
للروي. وقد يكون الأصل: فقدي بياء المتكلم, أي: يكفيني، ولم أر رسمها
بالياء. وانظر الخزانة 4/ 297.
3 سقط في ش، ما بين القوسين.
4 آية: 60 سورة البقرة.
5 سقط في د، هـ، ز.
6 أي: ابن أحمر. وانظر أمالي ابن الشجري 2/ 317.
7 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "المنضمة".
8 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "التأويل".
9 كذا في ش، ط وفي د، هـ، ز: "إلى".
(2/462)
فأما قول الله سبحانه: {وَأَرْسَلْنَاهُ
إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} 1 فلا يكون فيه "أو" على مذهب
الفراء بمعنى بل, ولا على2 مذهب قطرب في أنها بمعنى الواو.
لكنها عندنا على بابها في كونها شكًّا. وذلك أن هذا كلام خرج حكاية من
الله -عز وجل- لقول المخلوقين. وتأويله عند أهل النظر: وأرسلناه إلى
جمع لو رأيتموهم لقلتم أنتم فيهم: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون.
ومثله مما مخرجه منه تعالى على3 الحكاية قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وإنما هو في الحقيقة الذليل المهان لكن معناه:
ذق إنك أنت الذي كان يقال له: العزيز الكريم. ومثله قوله -عز وجل:
{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ
عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} 5 أي: يا أيها الساحر عندهم لا
عندنا؛ وكيف6 يكون ساحرًا عندهم وهم به مهتدون, وكذلك قوله: {أَيْنَ
شُرَكَائِيَ} 7 أي: شركائي عندكم. وأنشدنا أبو علي لبعض اليمانية8 يهجو
جريرًا:
أبلغ كليبًا وأبلغ عنك شاعرها ... أني الأغرّ وأني زهرة اليمن
قال: فأجابه جرير فقال:
ألم تكن في وسوم قد وسمت بها ... من حان موعظة يا زهرة اليمن 9
فسماه زهرة اليمن10 متابعة له وحكاية للفظه, وقد تقدَّم القول على هذا
الموضع.
__________
1 آية: 147 سورة الصافات.
2 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "بمعنى".
3 سقط هذا الحرف في ش.
4 آية: 49، سورة الدخان.
5 آية 49 سورة الزخرف.
6 كذا في ش، ب. وفي د، هـ، ز: "فكيف".
7 ورد في عدة آيات؛ من ذلك آية 27، سورة النحل وآية 52 سورة الكهف.
8 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "أهل اليمن".
9 الوسوم جمع وسم، وهو أثر الكي يريد أذى هجائه, وحان: أي هلك.
10 سقط في د، هـ، ز.
(2/463)
ومن ذلك ما يدعيه الكوفيون من زيادة واو
العطف؛ نحو قول الله -عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وفُتِحَتْ
أَبْوَابُهَا} 1 "قالوا: هنا زائدة مخرجة عن العطف, والتقدير عندهم
فيها: حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها"2. وزيادة الواو أمر3 لا يثبته
البصريون, لكنه عندنا على حذف الجواب, أي: حتى إذا جاءوها وفتحت
أبوابها وقال لهم خزنتها كذا وكذا صدقوا وعدهم وطابت نفوسهم, ونحو ذلك
مما يقال في مثل هذا.
وأجاز أبو الحسن زيادة الواو في خبر كان؛ نحو قولهم: كان ولا مال له,
أي: كان لا مال له. ووجه جوازه عندي شبه خبر كان بالحال، فجرى مجرى4
قولهم: جاءني ولا ثوب عليه, أي: جاءني عاريًا.
فأما "هل " فقد أخرجت عن بابها إلى معنى قد, نحو قول الله سبحانه:
{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} 5 قالوا: معناه:
قد أتى عليه ذلك. وقد يمكن عندي أن تكون مبقاة في هذا الموضع على بابها
من الاستفهام، فكأنه قال -والله أعلم: هل أتى على الإنسان هذا؟ فلا
بُدَّ في جوابه من "نعم" ملفوظًا بها أو مقدرة، أي:6 فكما أن ذلك كذلك
فينبغي للإنسان أن يحتقر نفسه، ولا يبأى7 بما فتح له. وهذا كقولك لمن
تريد الاحتجاج عليه: بالله هل سألتني فأعطيتك! أم هل زرتني فأكرمتك! ,
أي:6 فكما أن ذلك كذلك فيجب أن تعرف حقي عليك وإحساني إليك. ويؤكد هذا
عندك قوله تعالى: {إِنَّا 8 خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ
أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّا
هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} 8 أفلا تراه -عز اسمه- كيف عدد عليه أياديه
وألطافه له.
__________
1 آية: 73، سورة الزمر.
2 ثبت ما بين القوسين في ش، ط. وسقط في د، هـ، ز.
3 سقط في د، هـ، ز.
4 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط: "نحوًا من".
5 آية: 1، سورة الإنسان.
6 ثبت هذا الحرف في ش، ط، وسقط في د، هـ، ز.
7 يفخر.
8 آيتا 2، 3، سورة الإنسان.
(2/464)
فإن قلت: فما تصنع بقول الشاعر 1:
سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم
ألا ترى إلى دخول همزة الاستفهام على هل, ولو كانت على ما فيها من
الاستفهام لم تلاق همزته لاستحالة اجتماع حرفين لمعنى واحد, وهذا يدل
على خروجها2 عن الاستفهام إلى معنى الخبر.
قيل: هذا قول يمكن أن يقوله صاحب هذا المذهب.
ومثله خروج الهمزة عن الاستفهام إلى التقرير, ألا ترى أن التقرير ضرب
من الخبر، وذلك ضد3 الاستفهام, ويدل على أنه قد فارق الاستفهام امتناع
النصب بالفاء "في جوابه"4 والجزم بغير الفاء في جوابه, ألا تراك لا
تقول: ألست صاحبنا فنكرمك؛ كما تقول: لست صاحبنا5 فنكرمك, ولا تقول في
التقرير: أأنت في الجيش أثبت اسمك. كما تقول: ما اسمك أذكرك, أي: إن
أعرفه أذكرك. ولأجل ما ذكرنا من حديث همزة التقرير ما صارت تنقل النفي
إلى الإثبات والإثبات إلى النفي, وذلك كقوله 6:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
__________
1 هو زيد الخبل الطائي. والبيت في أبيات خمسة قالها في إغارته على بني
يربوع. وبشدتنا، أي عنها. والشدة الحملة, والقف: جبل ليس بعال في
السماء. وانظر شواهد المغني للبغدادي 2/ 527، والخزانة 4/ 506.
2 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "من".
3 في ز: "بضد".
4 سقط ما بين القوسين في ش، ط. وثيت في د، هـ، ز.
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط: "بصاحبنا".
6 أي: جرير من قصيدته في مدح عبد الملك بن مروان ومطلعها:
أتصحو بل فؤادك غير صاح ... عشية هم صحبك بالرواح
(2/465)
أي: "أنتم كذاكم"1 وكقول الله -عز وجل:
{آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} 2 و {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} 3 أي: لم
يأذن لكم، ولم تقل4 للناس: اتخذوني وأمي إلهين, ولو كانت استفهامًا
محضًا لأقرت الإثبات على إثباته والنفي على نفيه. فإذا دخلت5 على
الموجب نفته "وإذا دخلت على النفي نفته"6 و"نفي النفي عائد"7 به إلى
الإثبات. ولذلك لم يجيزوا ما زال زيد إلّا قائمًا لما آل به المعنى "من
النفي" إلى: ثبت زيد إلّا قائمًا. فكما لا يقال هذا فكذلك لا يقال ذلك.
فاعرفه.
ويدل8 على صحة معنى التناكر في همزة التقرير أنها قد أخلصت للإنكار في
نحو قولهم في جواب قوله9 ضربت عمر: أعمراه! ومررت بإبراهيم:
أإبراهيماه. ورأيت جعفرًا: "أجعفرنيه10، وأجعفرًا إنيه! ". وهذا واضح.
واعلم أنه ليس شيء يخرج عن بابه إلى غيره إلّا لأمر قد كان وهو على
بابه ملاحظًا له, وعلى صدد من الهجوم عليه.
وذلك أن المستفهِم عن الشي قد يكون عارفًا به مع استفهامه في الظاهر
عنه, لكن غرضه في الاستفهام عنه أشياء. منها11 أن يرى المسئول أنه خفي
عليه ليسمع جوابه عنه, ومنها أن يتعرف حال المسئول هل هو عارف بما
السائل عارف به. ومنها أن يرى الحاضر غيرهما أنه بصورة السائل المسترشد
لما له في ذلك من
__________
1 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "أنت كذلك".
2 آية: 59، سورة يونس.
3 آية: 116، سورة المائدة.
4 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "يقل".
5 أي: همزة التقرير.
6 سقط ما بين القوسين في ش.
7 كذا في د، هـ، ز، وفي ش: "بقي النفي عائدًا".
8 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط: "يدلك".
9 سقط في د، هـ، ز، ط. وثبت في ش.
10 في ز، ": "أجعفراء".
11 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "ومنها".
(2/466)
الغرض. ومنها أن يعد ذلك لما بعده مما
يتوقعه، حتى إن1 حلف بعد أنه قد2 سأله عنه حلف صادقًا فأوضح بذلك
عذرًا. و"لغير ذلك"3 من المعاني التي يسأل السائل عمَّا يعرفه لأجلها
وبسببها.
فلمّا كان السائل في جميع هذه الأحوال قد يسأل4 عمَّا هو عارفه5، أخذ
بذلك طرفًا من الإيجاب لا السؤال عن مجهول6 الحال. وإذا كان ذلك كذلك
جاز لأجله أن يجرّد في بعض الأحوال ذلك الحرف لصريح ذلك المعنى. فمن
هنا جاز أن تقع "هل" في بعض الأحوال موضع "قد"؛ كما جاز لأو أن تقع في
"بعض الأحوال موقع"7 الواو؛ نحو قوله:
وكان سيان ألا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبَّرت السوح8
جاز لك لما كنت تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين، فيكون9 مع ذلك متى
جالسهما جميعًا كان في ذلك مطيعًا, فمن هنا جاز أن يخرد في البيت ونحوه
إلى معنى الواو.
وكل10 حرف فيما بعد يأتيك قد أخرج عن بابه إلى باب آخر فلا بُدَّ أن
يكون قبل إخراجه إليه قد كان يرائيه ويلتفت إلى الشق الذي هو فيه.
فاعرف ذلك وقسه, فإنك إذا فعلته11 لم تجد الأمر إلا كما ذكرته, وعلى ما
شرحته.
__________
1 في ط: "وإذا".
2 ثبت في ش، وسقط في د، هـ، ز، ط.
3 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "لغيره".
4 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "يسلم", وكأنه محرف عن "يستفهم".
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "عارف بوقوعه". وفي ط: "عارف به لوقوعه".
6 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط: "المجهول".
7 كذا في ش، ط وفي د، هـ، ز: "بعض مواقع".
8 انظر ص349، من الجزء الأول, وقوله: "وكان" كذا في ش، ط. وفي د، هـ،
ز: "فكان" وفي ز: "اعفرت" بدل "اغبرت".
9 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "فتكون".
10 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "فكل".
11 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "فعلت ذلك".
(2/467)
باب في إيراد المعنى
المراد بغير اللفظ المعتاد:
اعلم أن هذا موضع1 قد استعملته العرب واتبعتها فيه العلماء. والسبب في
هذا الاتساع أن المعنى المراد مفاد من الموضعين جميعًا, فلمَّا آذنَّا
به وأديا إليه سامحوا أنفسهم في العبارة عنه؛ إذ المعاني عندهم أشرف من
الألفاظ, وسنفرد لذلك بابًا.
فمن ذلك ما حكاه أبو الحسن: أنه سأل أعرابيًّا عن تحقير الحُبارى فقال:
حبرور. وهذا2 جواب من قصد الغرض ولم يحفل باللفظ؛ إذ لم يفهم غرض أبي
الحسن, فجاء بالحبرور لأنه فرخ الحبارى. وذلك أن هذا الأعرابي تلقَّى
سؤال أبي الحسن بما هو الغرض عند الكافة في مثله, ولم يحفل بصناعة
الإعراب التي إنما هي لفظية ولقوم مخصوصين، من بين أهل الدنيا أجمعين.
ونحو من ذلك أني سألت الشجري فقلت: كيف تجمع المحرنجم, فقال: وأيش فرقه
حتى أجمعه! وسألته يومًا فقلت 3: كيف تحقر الدمكمك4؟ فقال: شخيت4. فجاء
بالمعنى الذي يعرفه هو، ولم يراع مذهب الصناعة.
ونحو من هذا ما يحكى عن أبي السّمال5 أنه كان يقرأ: "فحاسوا خلال
الديار"، فيقال له: إنما هو فجاسوا, فيقول: جاسوا وحاسوا واحد6. وكان
أبو مهدية إذا أراد الأذان قال: الله أكبر مرتين7، أشهد أن لا إله ِإلا
الله مرتين, ثم كذلك إلى آخره. فإذا قيل له: ليست السنة كذلك, إنما هي:
الله أكبر الله أكبر، أشهد
__________
1 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "الموضع".
2 كذا في ش. وفي د، هـ، ط: "فهذا".
3 زيادة في ط.
4 الدمكمك من الرجال والإبل: القوي الشديد, والشخيت: النحيف الجسم
الضئيل.
5 هو قعنب العدوي القارئ, وهو من أصحاب القراءات الشاذة, وقراءة العامة
"فجاسوا" في الآية 5 من سورة الإسراء.
6 إذا الجوس والحوس تردد الجيش الفارة.
7 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "مرة".
(2/468)
أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا
الله إلى آخره, فيقول: قد عرفتم أن المعنى واحد والتكرار عي. وحكى عيسى
بن عمر، "سمعت ذا الرمة ينشد "1:
وظاهر لها من يابس الشخت واستعن ... عليها الصبا واجعل يديك لها سترا2
فقلت: أنشدتني: من بائس, فقال "يابس وبائس"3 واحد. وأخبرنا أبو بكر
محمد بن الحسن عن العباس أحمد بن يحيى قال "أنشدني ابن الأعرابي "4:
وموضع زَبْن لا أريد مبيته ... كأني به من شدة الروع آنس5
فقال له شيخ من أصحابه: ليس هكذا أنشدتنا, إنما أنشدتنا: وموضع ضيق.
فقال: سبحان6 الله! تصحبنا منذ كذا وكذا, ولا تعلم أن الزبن والضيق
واحد, وقد قال الله سبحانه وهو أكرم قيلًا: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ
ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى} 7 وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: " نزل القرآن على
سبع لغات كلها شافٍ كاف ".
__________
1 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط. "سألت ذي الرمة عن قوله".
2 في ط: "فظاهر" وفيها. وفي د، هـ، ط: "احتبس" في مكان "استعن", وفي د،
هـ، ز: "أقتت لها قيته قدرًا" في مكان: "أجعل يديك لها سترًا". والبيت
في وصف النار، والشخت: الدقيق. والمراد الحطب، أي: ضع لها من دقيق
الخطب، واسترها بيدك. وللبيت رواية أخرى في اللسان "قوت". وانظر
الديوان 176، وموافقات الشاطبي في الأصول 2/ 54 من طبعة السلفية.
3 كذا في ش. وفي ز: "من يائس ومن يابش"، وفي ط: "ومن بائس ويائس".
4 كذا في ش، ط، وفي ط. وفي هـ، ز: "أنشد ابن الأعرابي". وفي د: "قال
ابن الأعرابي".
5 من قصيدة للمرقش الأكبر في المفضليات. وبعده:
لتبصر عيني إن رآتني مكانها ... وفي النفس إن خلى الطريق الكوادس
وقوله: "مكائها" أي: مكان أسماء محبوبته، وقد سبق ذكرها في شعره، يقول:
إنه نزل منزل الضيق وتحمّل وعثاء الطريق ليبصر مكانها.
6 كذا في ش. وفي د، هـ، ط، ز: "يا سبحان".
7 آية: 110، سورة الإسراء.
(2/469)
وهذا ونحوه -عندنا1- هو الذي أدَّى إلينا
أشعارهم وحكاياتهم بألفاظ مختلفة، على معانٍ متفقة. وكان أحدهم إذا
أورد المعنى المقصود بغير لفظه المعهود كأنه لم يأت إلا به، "ولا عدل"2
عنه إلى غيره؛ إذ الغرض فيهما واحد, وكل واحد منهما لصاحبه مرافد. وكان
أبو علي -رحمه الله- إذا عبر عن معنى بلفظ3 ما فلم يفهمه القارئ عليه,
وأعاد ذلك المعنى عينه بلفظ غيره ففهمه يقول: هذا إذا رأى ابنه في قميص
أحمر عرفه, فإن رآه في قميص كحلي لم يعرفه.
فأما الحكاية عن الحسن -رضي الله عنه- وقد سأله رجل عن مسألة, ثم أعاد
السؤال, فقال له الحسن: لبَّكت عليَّ. أي: خلطت, فتأويله عندنا أنه
أفسد المعنى الأول بشيء جاء به في القول4 الثاني. فأما أن يكون الحسن
تناكر الأمر لاختلاف اللفظين "مع اتفاق"5 المعنيين فمعاذ الله, و"حاشى
أبا سعيد"6. ويشبه أن يكون الرجل لما أعاد سؤاله بلفظ ثانٍ قدَّر أنه
بمعنى اللفظ الأول ولم يحسن7 ما فهمه الحسن8 -رضي الله عنه- كالذي
يعترف عند القاضي بما يدعي عليه, وعنده أنه مقيم على إنكاره إياه.
ولهذا نظائر. ويحكى أن قومًا ترافعوا إلى الشعبي في رجل بخص عين رجل
فشرقت بالدم، فأفتى في ذلك بأن أنشد بيت الراعي:
لها أمرها حتى إذا ما تبوأت ... بأخفافها مأوًى تبوأ مضجعا9
__________
1 سقط في ط.
2 في ط: "لم يعدل".
3 ثبت في ش، ط. وسقط في د، هـ، ز.
4 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "المعنى".
5 في ط: "الاتفاق".
6 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "حاش أبي سعيد"، وط: حاشا لله أبا سعيد".
أبو سعيد كنية الحسن البصري.
7 في ش: "يحسس".
8 سقط في ش.
9 "أمرها" كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "مالها"، وفي ز، ط: "مرعى" بدل
"مأوى", وانظر ص180 من هذا الجزء.
(2/470)
لم يزدهم على هذا. وتفسيره أن هذه العين
ينتظر بها أن يستقرَّ أمرها على صورة معروفة محصلة، ثم حينئذ1 يحكم في
بابها بما توجبه الحال من أمرها. فانصرف القوم بالفتوى، وهم عارفون
بغرضه فيها.
وأما2 اتباع العلماء العرب في هذا النحو فكقول سيبويه: ومن العرب من3
يقول: لب4 فيجرّه كجرّ أمس وغاق، ألا ترى أنه ليس في واحد من الثلاثة
جر؛ إذ الجر إعراب لا بناء وهذا الكلم كلها مبنية "لا معربة"5 فاستعمل
لفظ الجر على معنى الكسر، كما يقولون6 في المنادى المفرد المضموم: إنه
مرفوع, وكما يعبرون بالفتح عن النصب, وبالنصب عن الفتح وبالجزم عن
الوقف "وبالوقف عن الجزم"7 كل ذلك لأنه أمر قد عُرِفَ غرضه والمعنى
المعني به.
وإذا جاز أن يكون في أصول هذه اللغة المقررة اختلاف اللفظين8 والمعنى
واحد, كان جميع ما نحن فيه جائزًا سائغًا ومأنوسًا به متقبلًا.
__________
1 ثبت في ش، ط. وسقط في د، هـ، ز.
2 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "فأمَّا".
3 ثبت هذا اللفظ في ش، ط. وسقط في د، هـ، ز.
4 كذا في د، هـ، ز. وفي ط: "لب لب" وفي ش: "أو" وعبارة سيبويه في
الكتاب 1/ 176: "ومن العرب من يقول: لب" فيجريه مجرى أمس وفاق"، وترى
أن هذه العبارة ليس فيما ما نقله المؤلف، وهو "فيجره كجره كجر أمس
وغاق". وقد يكون هذا في نسخة المؤلف، أو تصحف عليه نص الكتاب. ولب في
معنى لبيك.
5 ثبت ما بين القوسين في ش، ط. وسقط في د، هـ، ز.
6 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "يقول".
7 سقط ما بين القوسين في ش.
8 كذا في ش. وفي د، هـ، ز، ط: "اللفظ".
(2/471)
|