الخصائص باب في نقض الأوضاع إذا ضامها 1 طارئ
عليها:
من ذلك لفظ الاستفهام؛ إذ ضامه معنى التعجب استحال خبرًا. وذلك قولك:
مررت برجل أي رجل. فأنت الآن مخبر بتناهي الرجل في الفضل، ولست
مستفهمًا. وكذلك مررت برجل إيما رجل؛ لأن ما زائدة. وإنما كان كذلك لأن
أصل الاستفهام الخبر والتعجب ضرب من الخبر. فكأن2 التعجب لما طرأ على
الاستفهام إنما أعاده3 إلى أصله: من الخبرية.
ومن ذلك لفظ الواجب، إذا لحقته همزة التقرير عاد نفيًا، وإذا لحقت لفظ
النفي عاد إيجابًا. وذلك كقول الله سبحانه: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ}
4 أي ما قلت لهم، وقوله: {آللهُ أَذِنَ لَكُمْ} 5 أي لم يأذن لكم. وأما
دخولها على النفي فكقوله -عز وجل: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ} 6 أي أنا
كذلك وقول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا7
أي أنتم كذلك. وإنما كان الإنكار كذلك لأن منكر الشيء إنما غرضه أن
يحيله إلى عكسه وضده، فلذلك8 استحال به الإيجاب نفيًا، والنفي إيجابًا.
ومن ذلك أن تصف العلم، فإذا أنت فعلت ذلك فقد أخرجته به9 عن حقيقة ما
وضع له، فأدخلته10 معنى لولا الصفة11 لم تدخله12 إياه. وذلك أن وضع
العلم أن يكون "مستغنيًا بلفظه"13 عن عدة من الصفات، فإذا أنت وصفته
فقد سلبته "الصفة له ما كان"14 في أصل وضعه مرادًا فيه: من الاستغناء
بلفظه عن كثير من صفاته. وقد ذكرنا هذا الموضع فيما مضى. فتأمل هذه
الطريق، حتى إذا ورد شيء منها عرفت مذهبه.
__________
1 في ط: "ضمها".
2 في ط: "وكأن".
3 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "عاده".
4 آية 16 سورة المائدة.
5 آية 59 سورة يونس.
6 آية 172 سورة الأعراف.
7 عجزه:
وأندى العالم بطون راح
8 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "فلهذا".
9 سقط في ش.
10 كذا في ش، وفي ط: "وأدخلته"، وفي د، هـ، ز: "أدخله".
11 في ط: "الصنعة".
12 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "يدخله".
13 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "مستغنها به" وفي ط: "مستغني به".
14 كذا في د، هـ، ز، وفي ش: "الصفة ما كان له".
(3/272)
باب في الاستخلاص من
الأعلام معاني الأوصاف:
من ذلك ما أنشدناه1 أبو علي -رحمه الله- من قول الشاعر:
أنا أبو المنهال بعض الأحيان ... ليس علي حسبي بضؤلان2
أنشدنيه -رحمه الله- ونحن في دار الملك. وسألني عما يتعلق به الظرف
الذي هو "بعض الأحيان" فخضنا3 فيه إلى أن برد في اليد من جهته أنه
يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون أراد: أنا مثل أبي المنهال، فيعمل في
الظرف على هذا معنى التشبيه، أي أشبه أبا المنهال في بعض الأحيان.
والآخر أن يكون قد عرف
__________
1 في د، هـ، ز: "أنشده".
2 "ليس على حسبي بضؤلان" أي بضئيل، أي أنا أقاوم بحقوق حسبي، ولا آتي
ما أعاب به، وفي نسخ الخصائص: "بصولان" وهو تصحيف. وانظر اللسان "ضأل"،
"وأين".
3 في ط: "فمخضنا".
(3/273)
من أبي المنهال هذا الغناء والنجدة فإذا
ذكر فكأنه1 قد ذكرا2، فيصير معناه إلى أنه كأنه قال: أنا المغني في بعض
الأحيان، أو أنا النجد3 في بعض تلك الأوقات. أفلا تراك كيف انتزعت من
العلم الذي هو "أبو المنهال" معنى الصفة والفعلية. ومنه قولهم في
الخبر. إنما سميت هانئًا لنهنأ4. وعليه جاء نابغة؛ لأنه نبغ فسمي بذلك.
فهذا5 -لعمري- صفة غلبت، فبقي عليها بعد التسمية بها بعض ما كانت تفيده
من معنى الفعل من قبل. وعليه مذهب6 الكتاب في ترك صرف أحمر إذا سمي به،
ثم نكر. وقد ذكرنا ذلك في غير موضع "إلا أنك"7 على الأحوال8 قد انتزعت
من العلم معنى الصفة. وقد مر بهذا الموضع الطائي الكبير فأحسن فيه
واستوفى معناه فقال:
فلا تحسبًا هندًا لها الغدر وحدها ... سجية نفسٍ كل غانية هند9
فقوله: "كل غانية هند" مثناه في معناه، وآخذ لأقصى مداه؛ ألا "ترى10
أنه" كأنه قال، كل غانية غادرة أو قاطعة "أو خائنة"11 أو نحو ذلك.
__________
1 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "فكأن".
2 في ط: "ذكر" هذا وقال البغدادي في شرح شواهد المغني في الشاهد الثامن
والسبعين بعد الستماة تعليقا على كلام أبي علي وابن جني: "ومقتضى
كلامهما أن أبا المنهال ليس صاحب الرجز وهو من رجز أورده له العلامة
ابن بري في أماليه على صحاح الجوهري في مادة "أين".
3 في ش: "المنجد"، والنجد بسكون الجيم وضمها وكسرها، وهو الشجاع الماضي
فيما يعجز غيره.
4 "لبنأ" أي لتعطي، يقال هنأة يهنوه ويهنئه أي أعطاه، يضر لمن عرف
بالإحسان، فيقال: اجر على عادتك ولا تقطعها، وانظر اللسان "هنا".
5 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "فهذه".
6 انظر الكتاب 2/ 4.
7 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "ألا تراك".
8 في هـ، ز: "مع".
9 من قصيدة لأبي تمام في مدح محمد بن الهيثم، وقوله: "سجية" يقرأ
بالرفع خبر "الغدر" وبالنصب على أن الخبر "لها" وسجية حال.
10 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "تراه".
11 سقط ما بين القوسين في ش.
(3/274)
ومنه قول الآخر:
إن الذئاب قد اخضرت براثنها ... والناس كلهم بكر إذا شبعوا1
أى إذا شبعوا تعادوا وتغادروا لأن بكرًا هكذا فعلها.
ونحو من هذا -وإن لم يكن الاسم2 المقول3 عليه علمًا- قول الآخر:
ما أمك اجتاحت المنايا ... كل فؤادٍ عليك أم
كأنه4 قال: كل فؤاد عليك حزين أو كئيب، إذ كانت الأم هكذا غالب أمرها
لا سيما مع المصيبة، وعند نزول الشدة.
ومثله في النكرة أيضًا قولهم: مررت برجل صوفٍ تكته، أي خشنة، ونظرت إلى
رجل خز قميصه أي ناعم، ومررت بقاع عرفجٍ كله أي جافٍ وخشن5. وإن جعلت
"كله" توكيدًا لما في "عرفج" من الضمير فالحال واحدة؛ لأنه لم يتضمن
الضمير إلا فيه من معنى الصفة.
ومن العلم أيضًا قوله:
أنا أبو بردة إذ جد الوهل6
أي أنا المغني7 والمجدي8 عند اشتداد الأمر.
وقريب منه قوله:
أنا أبوها حين تستبغي أبا9
أي أنا صاحبها10، وكافلها وقت حاجتها إلى ذلك.
ومثله وأحسن "صنعة11 منه":
لا ذعرت السوام في فلق الصبـ ... ـح مغيرًا ولا دعيت يزيدا12
أي لا دعيت الفاضل المغنى؛ هذا يريد13 وليس يتمدح بأن اسمه يزيد؛ لأن
يزيد ليس موضوعًا بعد النقل عن الفعلية إلا للعلمية. فإنما تمدح هنا
بما عرف من فضله وغنائه. وهو كثير. فإذا مر بك14 شيء منه فقد عرفتك
طريقه.
__________
1 نسبة في الأمالي 1/ 7 إلى رجل من تميم، وقال: "يريد أن الناس كلهم
إذا أخصبوا عدو لكم كبكر بن وائل"، وبراثن الذئاب مخالبها بمنزلة
الأصابع للإنسان، واخضرارها كناية عن اخضرار الأرض، وهذا كناية عن
الخصب.
2 سقط في ش.
3 في ط: "المعول".
4 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "فكأنه".
5 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "أو" والعرفج: شجر له ثمرة خشناء كالحسك.
6 هذا من رجز للأعرج المعنى أو لعمرو بن يثربي، قاله في وقعة الجمل،
وبعده:
خلقت غير زمل ولا وكل
ومنه الشطر المشهور:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل
وفي ش: "برزة" وهما روايتان، وانظر الحماسة بشرح التبريزي "التجارية"
1/ 280.
7 كذا في ش، وفي ز، ط: "المعنى".
8 سقط حرف العطف في ش، ط.
9 تستبغي أي تبغي وتطلب.
10 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "ضامنها".
11 كذا في ش، ط، وفي د، هـ: "منه صنعة".
12 السوام: الإبل الراعية وهو ليزيد بن مفزع الحميري.
وبعده:
يوم أعطى من المهانة ضيما ... والمنايا يرصدنني أن أحيدا
انظر تاريخ الطبري 6/ 191.
13 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز:"يزيد".
14 سقط في د، هـ، ز.
(3/275)
باب في أغلاط العرب:
كان أبو علي -رحمه الله- يرى1 وجه ذلك، ويقول: إنما دخل هذا النحو في
كلامهم2؛ لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها، ولا قوانين يعتصمون بها3.
وإنما تهجم4 بهم طباعهم على ما ينطقون به، فربما استهواهم الشيء
فزاغوا5 به6 عن القصد. هذا معنى قوله: وإن لم يكن صريح لفظه.
فمن ذلك ما أنشده أحمد بن يحيى:
غدا مالك يرمي نسائي كأنما ... نسائي لسهمي مالكٍ غرضان
فيا رب فاترك لي جهينة أعصرا ... فمالك موت بالقضاء دهاني7
__________
1 كذا في د، هـ، ز، ط، وفي ش: "يروي".
2 سقط هذا الحرف في د، هـ.
3 كذا في ش ط، وفي د، هـ، ز: "يستعصون" هـ، ز: "فراغوا".
4 كذا في ش، ط. وفي هـ، ز: "يهجم".
5 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "فراغوا".
6 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "فيه".
7 انظر ص81 من الجزء الثاني. وفي ز، ط: "جهيمة" في كان "جهينة".
(3/276)
هذا1 رجل مات نساؤه شيئًا فشيئًا فتظلم من
ملك الموت عليه السلام. وحقيقة لفظه غلط وفساد2. وذلك أن هذا الأعرابي
لما سمعهم يقولون: ملك الموت، وكثر ذلك في الكلام، سبق إليه أن هذه
اللفظة مركبة من ظاهر لفظها؛ فصارت عنده كأنها فعل؛ لأن ملكًا في اللفظ
"على صورة"3 فلك فبني منها فاعلًا، فقال: مالك موت، وغدا مالك. فصار في
ظاهر لفظه كأنه فاعل، وإنما مالك هنا على الحقيقة والتحصيل مافل، كما
أن ملكًا على التحقيق مفل، وأصله ملأك4، فألزمت همزته التخفيف، فصار
ملكًا. واللام فيه فاء، والهمزة عين، والكاف لام، هذا أصل تركيبه وهو
"ل أك"5 وعليه تصرفه، ومجيء الفعل "منه في الأمر الأكثر"6 قال:
ألكني إليها وخير الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر
وأصله: ألئكني7؛ فخففت همزته. وقال:
ألكني إليها عمرك الله يا فتى ... بآية ما جاءت إلينا تهاديا
وقال8:
ألكني إلى قومي السلام رسالة ... بآية ما كانوا ضعافًا ولا عزلا
"وقال يونس: ألك يألك"9.
__________
1 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "وهكذا".
2 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "قاصد".
3 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "في وزن".
4 كذا في ز، ط. وفي ش: "مألك".
5 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "ء ل ك".
6 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "في أكثر الأمر منه".
7 في ط بعده: "إليها".
8 أي عمرو بن شأس، وانظر اللسان "ألك"، وشواهد المغني للبغدادي في
الشاهد الواحد والستين بعد الستمائة والكتاب 1/ 101.
9 كذا في ش، ز، وسقط ما بين القوسين في ط. وهو أولى؛ لأن مكانه عند
قوله بعد: "على أنه قد جاء عنهم ألك يألك" وفيه عني عنه، وفي ج: "لاك
يلبك"، يريد: لأك يلئك، وهذه صحيحة، يريد أن يؤنس حكى الثلاثي من "ل
أك".
(3/277)
فإذا كان كذلك فقول لبيد:
بألوكٍ فبذلنا ما سأل1
إنما هو عفول قدمت عينه على فائه. وعلى أنه قد جاء عنهم ألك يألك من
الرسالة إلا أنه قليل.
وعلى ما قلنا فقوله2:
أبلغ أبا دختنوس مألكةً ... غير الذي قد يقال ملكذب
"إنما هي"3 معفلة. وأصلها4 ملئكة فقلب، على ما مضى. وقد ذكرنا هذا
الموضع في شرح تصريف أبي عثمان رحمه الله.
فإن قلت: فمن أين لهذا الأعرابي -مع جفائه وغلظ5 طبعه- معرفة التصريف،
حتى بنى من "ظاهر لفظ"6 ملكٍ فاعلا، فقال: مالك.
قيل: هبه لا يعرف التصريف "أتراه لا"7 يحسن بطبعه وقوة نفسه ولطف حسه
هذا القدر، هذا ما لا يجب أن يعتقده عارف بهم، أو آلف لمذاهبهم8؛ لأنه
وإن لم يعلم حقيقة تصريفه بالصنعة9 فإنه يجده10 بالقوة، ألا ترى أن
أعرابيًا بايع أن يشرب علبة لبن ولا يتنحنح، فلما شرب بعضها كظه11
الأمر فقال: كبش أملح. فقيل له: ما هذا، تنحنحت. فقال: من تنحنح فلا
أفلح. أفلا تراه كيف
__________
1 صدره:
وغلام أرسلته أمه
2 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "قوله" وانظر في البيت ص312 من الجزء
الأول.
3 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "إنما هو". وفي ط: "إنها".
4 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "أصله".
5 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز:"غلوة".
6 كذا في ز، ط، وفي ش: "لفظ ظاهر"، وفي ش: "ظاهر".
7 كذا في ز، ط، وفي ش: "ألا تراه".
8 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "لمذهبهم".
9 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "فإنما".
10 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "يجدها" والتذكير للتصريف، والتأنيث
لحقيقته.
11 كذا في ش، وفي ز، ط: "كده". وفي هـ: "كثره". ويقال كظه أي غمه من
كثرة الأكل، حتى لا يطيق النفس.
(3/278)
استعان لنفسه ببحة1 الحاء، واستروح إلى
مسكة النفس بها وعللها2 بالصويت3 اللاحق "لها في الوقف"4 ونحن مع هذا
نعلم أن هذا الأعرابي لا يعلم أن في5 الكلام شيئًا يقال له حاء، فضلًا
عن أن يعلم أنها من الحروف المهموسة، وأن الصوت يلحقها في حال، سكونها
والوقف عليها ما لا يلحقها في حال حركتها أو6 إدراجها في حال سكونها،
في نحو بحر7، ودحر7؛ إلا أنه وإن لم يحسن شيئًا من هذه الأوصاف صنعة
ولا علمًا، فإنه يجدها طبعا8 ووهمًا. فكذلك الآخر: لما سمع ملكًا وطال
ذلك عليه أحس من ملك في اللفظ ما يحسه من حلك. فكما أنه يقال9: أسود
حالك قال هنا من لفظة10 ملك: مالك، وإن لم يدر أن مثال ملك فعل أو مفل،
ولا أن مالكًا هنا فاعل أو مافل. ولو بني من ملك على حقيقة الصنعة
فاعل11 لقيل: لائك كبائك وحائك.
وإنما مكنت القول في هذا الموضع ليقوى في نفسك قوة حس هؤلاء القوم12،
وأنهم قد يلاحظون بالمنة والطباع، ما لا نلاحظه نحن عن13 طول المباحثة
والسماع. فتأمله فإن14 الحاجة إلى مثله ظاهرة.
__________
1 كذا في ش، وفي ز، ط: "بحنة".
2 في ط: "تعللها، على صيغة المصدر".
3 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "بالتصويت". وفي ط: "بالصوت".
4 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "في الوقف لها".
5 كذا في ش، ط، وسقط هذا الحرف في د، هـ، ز.
6 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "ر".
7 في ط: "تحر". والدحر: الطرد والإبعاد.
8 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "طبيعة".
9 كذا في ش، في د، هـ، ز، ط: "يقول منه".
10 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "لفظ".
11 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "فاعلا".
12 سقط حرف العطف في ش.
13 كذا في ش، وفي د،، هـ. ز، ط: "على".
14 في د، هـ، ز بعده: "فيه".
(3/279)
ومن ذلك همزهم مصائب. وهو غلط منهم. وذلك
أنهم شبهوا مصيبة بصحيفة "فكما همزوا صحائف همزوا أيضًا مصائب وليست
ياء مصيبة زائدة كياء صحيفة"1 لأنها عين، ومنقلبة عن واو، هي2 العين
الأصلية. وأصلها مصوبة؛ لأنها اسم الفاعل من أصاب؛ كما أن أصل مقيمة
مقومة وأصل مريدة مرودة، فنقلت الكسرة من العين إلى الفاء، فانقلبت
الواو ياء، على ما ترى. وجمعها القياسي مصاوب. وقد جاء ذلك؛ قال:
يصاحب الشيطان من يصاحبه ... فهو أذي جمة مصاوبه
وقالوا في واحدتها3: مصيبة، ومصوبة، ومصابة. وكأن الذي استهوى في تشبيه
ياء مصيبة بياء صحيفة أنها وإن لم تكن زائدة فإنها ليست على التحصيل
بأصل، وإنما هي بدل من الأصل، والبدل من الأصل ليس أصلًا وقد عومل لذلك
معاملة الزائد حكى سيبويه4 عن أبي الخطاب أنهم يقولون في راية: راءة.
فهؤلاء همزوا بعد الألف وإن لم تكن زائدة وكانت بدلًا؛ كما يهمزون بعد
الألف الزائدة في فضاء وسقاء5. وعلة ذلك أن هذه الألف وإن لم تكن زائدة
فإنها بدل، والبدل مشبه للزائد. والتقاؤهما أن كل واحد6 منهما ليس
أصلًا.
ونحو منه ما حكوه في قولهم في زاي: زاء. وهذا أشد "وأشد"7 من راءة؛ لأن
الألف في راءة على كل حال بدل، وهي أشبه بالزائد وألف زاي ليست منقلبة
بل هي أصل؛ لأنها في حرف، فكان ينبغي ألا تشبه بالزائد8؛ إلا أنها
__________
1 سقط ما بين القوسين في ش.
2 في ش: "وهي".
3 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "واحدها".
4 انظر الكتاب 130.
5 في ط: "شقاء".
6 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "واحدة".
7 كذا في ط، وفي ش: "واشد" وهو تصحيف، وسقط هذا في د، هـ، ز.
8 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "بالزوائد".
(3/280)
وإن لم تكن منقلبة فإنها وقعت موقع
المنقلبة؛ لأن الألف هنا في الأسماء لا تكون أصلًا. فلما كان كذلك شبهت
ألف زاي1 لفظًا بألف باب ودار؛ كما أنهم لما احتاجوا إلى تصريف أخواتها
قالوا: قوفت قافا، ودولت دالا، وكوفت كافا، ونحو ذلك. وعلى هذا "أيضًا
قالوا"2 زويت زايا، وحكى: إنها زاي فزوها. فلما كان كذلك انجذب حكم زاي
إلى حكم راءة3.
وقد حكيت عنهم منارة ومنائر، ومزادة ومزائد. وكأن هذا أسهل من مصائب؛
لأن الألف أشبه بالزائد من الياء.
ومن البدل الجاري مجرى الزائد -عندي لا عند أبي علي- همزة وراء. ويجب
أن تكون مبدلة من حرف علة؛ لقولهم4: تواريت عنك، إلا أن اللام لما
أبدلت همزة أشبهت الزائدة التي5 في ضهيأة6، فكما أنك لو حقرت ضهيأة
لقلت: ضهيئة، فأقررت الهمزة، فكذلك7 قالوا في تحقير وراء: وريئة. ويؤكد
ذلك قول بعضهم فيها8: ورية؛ كما قالوا في صلاءة: صلية. فهذا ما أراه
أنا9 وأعتقده في "وراء" هذه. وأما أبو علي -رحمه الله- فكان يذهب إلى
أن لامها في الأصل همزة وأنها من تركيب "ورأ"، وأنها ليست من تركيب
"ورى". واستدل على ذلك بثبات الهمزة في التحقير، على ما ذكرنا. وهذا
-لعمري- وجه من القول، إلا أنك تدع معه الظاهر والقياس جميعًا. أما
الظاهر فلأنها10 في معنى11 تواريت12، وهذه اللام
__________
1 في ز: "زاء".
2 سقط ما بين القوسين في ش.
3 في ط: "راي".
4 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "لقولك".
5 سقط في ش.
6 هي التي لا تحيض.
7 كذا في د، هـ، ز، ط، وفي ش: "وكذلك".
8 كذا في د، هـ، ز، وفي ش وضع هذا بعد "يؤكد".
9 سقط في د، هـ، ز.
10 في ز: "فإنها".
11 في ز، ط: "من".
12 في ط: "واريت".
(3/281)
حرف علة، لا همزة وأن تكون ياء واجب1؛ لكون
الفاء واوًا. وأما القياس فما قدمناه: من تشبيه البدل بالزائد. فاعرف
ما رأيناه في هذا.
ومن أغلاطهم قولهم: حلأت السويق، ورثأت زوجي بأبيات، واستلأمت الحجر،
ولبأت بالحج، وقوله:
كمشترئٍ بالحمد أحمرة بترا
وأما مسيل فذهب بعضهم في قولهم في جمعه: أمسلة إلى أنه من باب الغلط.
وذلك لأنه2 أخذه من سال يسيل "فهو عندهم على مفعل كالمسير والمحيض"3
وهو4 عندنا غير غلط؛ لأنهم قد قالوا فيه: مسل، وهذا يشهد بكون الميم
فاء. فأمسلة ومسلان: أفعلة وفعلان، كأجربة وجربان. ولو كانت أمسلة
ومسلان من السيل لكان مثالهما: أمفلة ومفلان5 والعين منهما محذوفة، وهي
ياء السيل. وكذلك قال بعضهم في معين؛ لأنه أخذه من العين لأنه من ماء
العيون، فحمله على الغلط، لأنهم قد قالوا: قد6 سالت معنانه7، وإنما8 هو
عندنا من قولهم أمعن له بحقه، إذا طاع له به. وكذلك الماء إذا جرى من
العين فقد أمعن بنفسه، وطاع بها. ومنه الماعون؛ لأنه "ما من"9: العادة
المسامحة به والانقياد إلى فعله.
__________
1 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "أجدر".
2 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "أنه".
3 سقط ما بين القوسين في ش.
4 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "هذا".
5 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "مفلانا".
6 سقط هذا الحرف في د، هـ، ز، ط، يريد أن يعتشأ الغط قولهم: معناته
والميم فيه فاء، فتوهم ذلك في الماء فقيل: معين.
7 هي مجاري الماء في الوادي، فالضمير في "معنانه" يعود على الوادي،
ويقال أيضا: معنات للوادي لمسايله.
8 سقط في ش.
9 كذا في ط، وفي ش: "ما"، وفي ز: "من".
(3/282)
وأنشدني "أبو عبد الله الشجري"1 لنفسه من
قصيدة:
ترود ولا ترى فيها أريبا ... سوى ذي شجة فيها وحيد2
"كذا أنشدني هذه القصيدة مقيدة"3 فقلت له: ما معنى أريبا، فقال: من4
الريبة5. وأخبرنا أبو علي "عن الأصمعي أنه"6 كان يقول في قولهم للبحر:
المهرقان: إنه من قولهم: هرقت الماء. وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن
أحمد بن يحيى بقول "بلال بن"7 جرير:
إذا ضفتهم أو سآيلتهم ... وجدت بهم علة حاضره
أراد: ساءلتهم "فاعلتهم" من السؤال، ثم عن له أن يبدل الهمزة على قول
من قال: سايلتهم، فاضطرب عليه الموضع فجمع بين الهمزة والياء فقال:
سآيلتهم. فوزنه على هذا: فعاعلتهم. وإن جعلت الياء زائدة لا بدلا كان:
فعابلتهم. وفي هذا ما تراه فاعجب له.
ومن أغلاطهم ما يتعايبون به في الألفاظ والمعاني من نحو قول ذي الرمة:
والجيد من أدمانةٍ عنود8
__________
1 كذا في ش، وفي ز، ط: "الشجري أبو عبد الله".
2 "وحيد" في ش: "وجيد" ويبدو أنه تصحيف، ويريد بذي الشجة الوتد، يريد
أن الوحوش تتردد في هذا القفر ولا ترى فيها ما يريبها من آثار الناس
إلا الوتد.
3 سقط ما بين القوسين في ش.
4 سقط هذا الحرف في د، هـ، ز.
5 في ج: "الربيئة".
6 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "أن الأصمعي".
7 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز.
8 "والجيد" في الديوان "والكشح" وقبله:
يا مي ذات المبسم البرود ... بعد الرقاد والحشا المخضود
والمقلتين وبياض الجيد
وتريد بالأدمانة ظبية بيضاء، والعنود التي ترهى وحدها، وأصله في النوق.
(3/283)
وقوله:
حتى إذا دومت في الأرض راجعه ... كبر ولو شاء نجي نفسه الهرب1
وسنذكر هذا ونحوه في باب سقطات العلماء؛ لما فيه من الصنعة. وكذلك2
غمز3 بعضهم على بعض في معانيهم؛ كقول بعضهم4 لكثير في قوله:
فما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهنًا ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها5
والله لو فعل هذا بأمة زنجية لطاب ريحها؛ ألا قلت كما قال سيدك6:
ألم ترأني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبًا وإن لم تطيب
وكقول بشار في قول كثير:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكف تلين
لقد قبح بذكره7 العصا في لفظ الغزل؛ هلا قال كما قلت:
وحوراء المدامع من معد ... كأن حديثها "قطع الجمان
إذا قامت لسبحتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران8
وكان الأصمعي يعيب الحطيئة ويتعقبه9، فقيل له في ذلك، فقال: وجدت شعره
كله جيدًا، فدلني على أنه كان يصنعه. وليس هكذا الشاعر المطبوع: إنما
الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه: جيده على رديئه. وهذا
باب في غاية السعة. وتقصيه يذهب بنا كل مذهب. وإنما ذكرت طريقة
"وسمته"10 لتأتم بذلك وتتحقق11 سعة طرقات12 القوم في13 القول. فاعرفه
بإذن الله تعالى.
__________
1 هذا في وصف ثور الوحش مع كلاب الصيد، فقوله: "دومت" أي الكلاب أي
دارت. وقوله: "راجعة" أي الثورة، يعني أنه هم بالهرب من الكلاب، ولكنه
أنف من الهرب فرجع إلى الكلاب.
2 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "لذلك".
3 كذا في د، هـ، ز، ط، وفي ش: "عثر".
4 في الموشح 150 أن الذي قال هذا لكثير امرأة، وفي ص151 أنها امرأة
لقيته في بعض طرق المدينة، وفي الأغاني "السلمي" 14/ 57 أن ناقد كثير
قطام الخارجية صاحبة عبد الرحمن بن ملجم.
5 في الموشح 51: "قال المبرد: الجثعات: ريحانة طيبة الريح برية،
والعزار: البهار البري، وهو حسن الصفرة طيب الريح، والمندل: العود،
وقوله: موهنا يقول: بعد هدء من الليل".
6 أي امرأة القيس، والبيت من قصيدة في ديوانه.
7 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "بذكر".
8 "قطع الجمان" كذا في ش، ويبدو أنه محرف عن "قطع الجنان" وفي ز، ط:
"تمر الجنان" والسبحة بضم السين: صلاة النافلة، وقد يكون بفتح السين
وهي المرأة من السبح بمعنى التصرف والاضطراب والسعي.
9 كذا في د، هـ، ز، ط، وفي ش: "يتعسفه".
10 سقط في ش.
11 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "تحقيق".
12 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "مضطربات".
13 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "و".
(3/284)
باب في سقطات
العلماء:
حكي عن الأصمعي أنه صحف قول الحطيئة:
وغررتني وزعمت أنـ ... ـك لابن في الصيف تامر1
فأنشده2:
... لاتني بالضيف تامر
أي تأمر بإنزاله وإكرامه. وتبعد هذه الحكاية "في نفسي"3 لفضل الأصمعي
وعلوه؛ وغير أني رأيت أصحابنا على القديم يسندونها إليه، ويحملونها
عليه.
__________
1 من قصيدة له في هجر الزبرقان بن بدر، أولها:
شاقتك أظعان لليـ ... ـلى يوم ناظرة بواكر
وناظرة: ماء لبني عبس، وبعد البيت الشاهد:
فلقد كذبت فما خشيـ ... ـت بأن تدور بك الدوائر
2 في ش بعده: "الأصمعي".
3 سقط ما بين القوسين في ش.
(3/285)
وحكي أن الفراء "صحف فقال"1 الجر: أصل
الجبل يريد الجراصل: الجبل.
وأخبرنا أبو صالح السليل بن أحمد، عن أبي عبد الله محمد بن العباس
اليزيدي عن الخليل بن أسد2 النوشجاني3، عن التوزي، قال قلت لأبي زيد
الأنصاري: أنتم تنشدون قول الأعشى:
بساباط حتى مات وهو محزرق4
وأبو عمرو الشيباني ينشدها: محرزق5، فقال: إنها نبطية وأم أبي عمرو
نبطية، فهو أعلم بها منا.
وذهب أبو عبيدة في قولهم: لي عن هذا الأمر مندوحة، أي متسع إلى أنه من
قولهم: انداح بطنه أي اتسع. وليس هذا من غلط أهل الصناعة. وذلك
__________
1 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "قال إن"، وعبارة القاموس: "والجر: أصل
الجبل، أو هو تصحيف للفراء، والصواب: الجراصل -كعلابط: الجبل" وقال
شارحه: "والعجب من المصنف حيث لم يذكر الجراصلي في كتابه هذا" بل ولا
تعرض له أحد من أئمة الغريب فإذا لا تصحيف كما لا يخفى".
2 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "أحمد".
3 كذا في ش، وفي ز: "النوشخاني". وفي ط: "البوشنجاني".
4 كذا في د، هـ، ز، ظ، وفي ش: "محرزق". وصدر البيت:
فذاك وما أنجى من الموت ربه
وفاعل "أنجى" ضمير اليحموم المذكور في في قوله قيل:
ويأمر لليحموم كل عشية ... بقت وتعليق فقد كاد يسنق
واليحموم فرس النعمان بن المنذر، كان اتخذه النوائب وعنى به، ويذكر
الأعشى أن هذا الجواد لم ربه وهو النعمان. فقد مات النعمان بساياط وهو
محرزق أي مضيق عليه محبوس، وكان كسرى سخط فحبسه في ساباط، وهي مدينة في
فارس، وأمر أن يلقى تحت أرجل الفيلة.
5 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "محزرق".
(3/286)
أن انداح: انفعل، وتركيبه1 من دوح،
ومندوحة: مفعولة، وهي من تركيب "ن د ح" والندح: جانب الجبل وطرفه، وهو
إلى السعة، وجمعه2 أنداح. أفلا ترى إلى هذين الأصلين: تباينًا،
وتباعدًا، فكيف يجوز أن يشتق أحدهما من صاحبه على بعد بينهما، وتعادي
وضعهما.
وذهب ابن الأعرابي في قولهم: يوم أرونان إلى أنه من الرنة. وذلك أنها
تكون مع البلاء3 والشدة. وقال4 أبو علي -رحمه الله: ليس هذا من غلط أهل
الصناعة، لأنه ليس في الكلام أفوعال، وأصحابنا يذهبون إلى أنه أفعلان
من الرونة وهي الشدة5 في الأمر.
وذهب أبو العباس أحمد بن يحيى في قولهم: أسكفة الباب إلى أنها من
قولهم: استكف أي اجتمع. وهذا أمر ظاهر الشناعة. وذلك أن أسكفة: أفعلة
والسين فيها فاء وتركيبه6 من "س ك ف؛ وأما استكف فسينه زائدة؛ لأنه
استفعل، وتركيبه من"7 ك ف ف. فأين هذان الأصلان حتى يجمعا ويدانى من
شملهما. ولو كانت أسكفة من استكف لكانت أسفعلة وهذا مثال لم يطرق فكرا
ولا شاعر8 -فيما علمناه- قلبا. وكذلك لو كانت مندوحة من انداح بطنه
-كما ذهب إليه أبو عبيدة- لكانت منفعلة. وهذا أيضًا في البعد والفحش
كأسفعلة. ومع هذا فقد وقع الإجماع على أن السين لا تزاد9 إلا في
استفعل، وما تصرف10 منه. وأسكفة ليس من الفعل في قبيل ولا دبير.
__________
1 سقط حرف العطف في د، هـ، ز.
2 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "الجمع".
3 في ش: "الغلاء"، والرنة: الصيحة الحزينة الشديدة.
4 سقط حرف العطف في د، هـ، ز، ط.
5 في ز، هـ: "شدة".
6 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "تركبها".
7 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز.
8 هو من شاعر المرأة: ضاجعها في ثوب واحد، يريد أن هذا المثال لم يصل
إلى القلب ولم يخطر به، وفي ط: "شاعرا"، وهو خطأ.
9 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "يزاد".
10 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "يصرف".
(3/287)
وذهب أحمد أيضًا في تنور إلى أنه تفعول من
النار -ونعوذ بالله من عدم التوفيق. هذا على سداد هذا الرجل وتميزه من
أكثر أصحابه- ولو كان تفعولًا من النار لوجب أن يقال1 فيه2: تنوور كما
أنك لو بنيته من القول لكان3: تقوولا4، ومن العود5: تعوودا6. وهذا في
نهاية الوضوح. وإنما تنور: فعول من لفظ "ت ن ر"، وهو أصل لم يستعمل إلا
في هذا الحرف، وبالزيادة7 كما ترى. ومثله مما يستعمل إلا بالزيادة
كثير. منه8 حوشب وكوكب "وشعلع"9 "وهزنبران"10 ودودري "ومنجنون"11 وهو
واسع جدًّا12. ويجوز في التنور أن يكون فعنولًا من "ت ن ر"؛ فقد حكى
أبو زيد في زرنوق: زرنوقا13.
ويقال: إن التنور لفظة اشترك فيها جميع اللغات من العرب وغيرهم. فإن
كان كذلك فهو طريف، إلا أنه على كل حال فعول أو فعنول؛ لأنه جنس، ولو
كان أعجميًا لا غير لجاز تمثيله "لكونه جنسًا ولاحقًا"14 بالعربي، فكيف
وهو أيضًا
__________
1 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "يقول".
2 كذا في ط، وسقط في ش، ز.
3 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "لقلت".
4 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "تقوول".
5 ضبط بفتح العين على ما في ظ، وفي ش بضم العين.
6 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "تعوود". وفي البحر 5/ 199 توجيه رأي
ثعلب إذ يقول: "وأصله تنوور" فهمزت الواو، ثم خففت، وشدد الحرف الذي
قبله كما قال:
رأيت عرابة اللوسي يسمو ... إلى الغايات منقع القرين
يريد: عرانة الأوسي.
7 سقط حرف العطف في ط.
8 في ط، د، هـ: "نحوه".
9 سقط في د، هـ، ز.
10 سقط في ش.
11 سقط في ش.
12 في ط: "آخذ في السعة".
13 كذا في د، هـ، ز، ط، وفي ش: "زرنوق".
14 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "لأنه جنس ولاحق".
(3/288)
عربي؛ لكونه في لغة العرب غير منقول إليها،
وإنما هو وفاق وقع ولو كان منقولًا "إلى اللغة العربية من غيرها"1 لوجب
أن يكون أيضًا وفاقًا بين جميع اللغات غيرها2. ومعلوم سعة اللغات "غير
العربية"3، فإن4 جاز أن يكون مشتركًا في جميع ما عدا العربية، جاز
أيضًا أن يكون وفاقًا وقع فيها. ويبعد في نفسي أن يكون5 في الأصل للغةٍ
واحدة، ثم نقل إلى جميع اللغات؛ لأنا لا نعرف له في ذلك نظيرا. وقد
يجوز أيضًا أن يكون وفاقًا وقع بين لغتين6 أو ثلاث أو نحو ذلك، ثم
انتشر بالنقل في جميعها. وما أقرب هذا في نفسي؛ لأنا لا نعرف شيئًا من
الكلام وقع الاتفاق7 عليه في كل لغة، وعند كل أمة: هذا كله إن كان في
جميع اللغات هكذا. وإن لم يكن كذلك كان الخطب فيه أيسر.
وروينا "هذه المواضع"8 عن أحمد بن يحيى. وروينا عنه أيضًا أنه قال:
التواطخ9 من الطيخ، وهو الفساد. وهذا -على إفحاشه- مما يجمل الظن به؛
لأنه من الوضوح بحيث لا يذهب على أصغر صغير من أهل هذا العلم. وإذا كان
كذلك وجب أن يحسن الظن به، ويقال إنه "أراد به"10: كأنه مقلوب11 منه.
هذا أوجه عندي من أن يحمل عليه12 هذا الفحش والتفاوت كله.
__________
1 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "من اللغة العربية إلى غيرها".
2 سقط في د، هـ، ز.
3 كذا في ش وفي ز: "في غير العربية" وسقط هذا في ط.
4 في ط: "وإذا".
5 كذا في د، هـ، ز، ط. وفي ش: "تكون".
6 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "اللغتين".
7 كذا في د، هـ، ز، ط، وفي ش: "إلا باتفاق".
8 كذا في ش، وفي ز، ط: "هذا الموضع".
9 يقال: تواطخ القوم الشيء: تداولوه بينهم، وكأن ثعلبا يرى أن الشيء
إذا تدوول كثر استعماله قبلي وفسد.
10 كذا في ط. وفي د، هـ، ز: "أراد". وسقط هذا في ش.
11 أي قدمت الياء على الطاء فهذا قلب مكاني، وصاحبه قلب إعلالي، وهو
قلب الياء واوا، وهذا كله لا تقضي به قاعدة صرفية.
12 في ط: "على".
(3/289)
ومن هذا ما يحكى عن خلف أنه قال: أخذت على
المفضل الضبي في مجلس واحد ثلاث سقطات: أنشد لامرئ القيس:
تمس بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب1
فقلت له: عافاك الله، إنما هو نمش: أي نمسح ومنه سمي منديل الغمر
مشوشا، وأنشد للمخبل السعدي:
وإذا ألم خيالها طرقت ... عيني فماء شئونها سجم2
فقلت: عافاك الله! إنما هو طرفت، وأنشد للأعشى:
ساعةً أكبر النهار كما شد ... د محيل لبونه إعتاما3
فقلت: عافاك الله، إنما هو مخيل بالخاء المعجمة "وهو الذي"4 رأى خال
السحابة، فأشفق منها على بهمه فشدها.
وأما ما تعقب به أبو العباس محمد بن يزيد كتاب سيبويه في المواضع التي
سماها مسائل الغلط، فقلما يلزم صاحب الكتاب منه إلا الشيء النزر. وهو
أيضًا -مع قلته- من كلام غير أبي العباس. وحدثنا أبو علي عن أبي بكر عن
أبي العباس أنه قال: إن هذا كتاب5 كنا6 عملناه في أوان7 الشبيبة
والحداثة، واعتذر أبو العباس منه.
__________
1 المضهب الذي لم يكمل نضجه.
2 من قصيدة مفضلية، وقبله مطلعها:
ذكر الرباب وذكرها سقم ... فصبا وليس لمن صها حلم
والشئون: مجاري الدمع. وسجم أي مسجوم، وهو من وضع المصدر موضع الوصف.
3 أكبر النهار أي حين ارتفع، يتحدث عن ثبات قومه للعدو ونكابتهم فيهم،
فيقول: قتلناهم أول النهار في ساعة قدر ما يشد المخيل أخلاف إبله.
والإعتام: الإبطاء. وانظر اللسان "كبر".
4 سقط ما بين القوسين في ش.
5 في ط: "الكتاب".
6 سقط في د، هـ، ز.
7 سقط في ش.
(3/290)
وأما كتاب العين ففيه من التخليط والخلل
والفساد ما لا يجوز أن يحمل على أصغر أتباع الخليل، فضلًا "عن1 نفسه"
ولا محالة أن "هذا تخليط لحق"2 هذا الكتاب من قبل غيره رحمه الله. وإن
كان للخليل فيه عمل فإنما هو أنه أومأ إلى عمل هذا الكتاب إيماء، ولم
يله بنفسه، ولا قرره، ولا حرره. ويدل على أنه قد3 كان نحا نحوه4 أني5
أجد فيه معاني غامضة، ونزوات للفكر لطيفة، وصنعة في بعض الأحوال
مستحكمة. وذاكرت به يومًا أبا علي -رحمه الله- فرأيته منكرًا له. فقلت
له: إن تصنيفه منساق متوجه، وليس فيه التعسف الذي في كتاب الجمهرة،
فقال: الآن إذا صنف إنسان لغة بالتركية تصنيفًا جيدًا أيؤخذ به في
العربية!، أو كلامًا هذا نحوه.
وأما كتاب الجمهرة ففيه أيضًا من اضطراب التصنيف وفساد التصريف ما أعذر
واضعه فيه6، لبعده عن معرفة هذا الأمر. ولما كتبته وقعت في متونه
وحواشيه جميعا من التنبيه على هذه المواضع ما استحييت من كثرته7. ثم
إنه لما طال علي أومأت إلى بعضه وأضربت8 البتة عن9 بعضه. وكان أبو علي
يقول: لما هممت بقراءة رسالة10 هذا الكتاب على محمد11 بن الحسن قال لي:
يا أبا علي: لا تقرأ هذا الموضع علي فأنت أعلم12 به مني. وكان قد ثبت
في نفس أبي علي
__________
1 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "عنه نفسه".
2 سقط ما بين القوسين في ز.
3 سقط هذا الحرف في ش.
4 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "ينحو".
5 كذا في ش، ط وفي د، هـ، ز: "أنني".
6 سقط في ش.
7 في ط: "كوثه".
8 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "ضربت".
9 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "على".
10 كأنه يريد برسالة الجمهرة مقدمتها، وفيها الكلام على مخارج الحروف
وتأليف الكلام، وخاتمتها وفيها النوادر والصيغ والأمثلة وقد كان
الفارسي مبرزا في هذه المباحث، ولا يريد قسم المفردات اللغوية.
11 هو ابن دريد صاحب الجمهرة.
12 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "أعرف".
(3/291)
على أبي العباس في تعاطيه الرد1 على سيبويه
ما كان لا يكاد يملك معه نفسه. ومعذورا كان "عندي في ذلك"2 لأنه أمر
وضع من أبي العباس، وقدح فيه، وغض كل الغض منه.
وذكر النضر عند الأصمعي فقال: قد كان يجيئني، وكان إذا أراد أن يقول:
ألف قال3؛ إلف.
ومن ذلك اختلاف الكسائي وأبي محمد اليزيدي عند أبي عبيد الله في
الشراء4 أممدود هو أم مقصور. فمدة اليزيدي وقصره الكسائي فتراضيا5 ببعض
"فصحاء العرب و"6 كانوا بالباب، فمدوه7 على قول اليزيدي. وعلى كل حال
فهو يمد ويقصر. وقولهم: أشرية دليل المد "كسقاء"8 وأسقية.
ومن ذلك ما رواه الأعمش9 في حديث عبد الله بن مسعود: أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة. وكان أبو عمرو بن
العلاء10 قاعدًا عنده بالكوفة11 فقال "الأعمش: يتخولنا، وقال أبو عمرو
يتخوننا"12 فقال الأعمش: وما
__________
1 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "للرد".
2 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "في ذلك عندي".
3 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "يقول" يريد أن النضر كان يكسر همزة ألف،
وما أثبت هو ما في ش، ج، وفي ز، ط "ألب" أي أنه كان يبدل من الفاء باء،
والنضر هو ابن شميل من أصحاب الخليل، وكانت وفاته سنة 203.
4 في ز: "الشرى".
5 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "فتراضوا".
6 كذا في ش، وفي ط:"فصحاء الأعراب" وفي د، هـ، ز: "الفصحاء".
7 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "فمده".
8 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "كأرشية".
9 هو سليمان بن مهران الكوفي كان يقرن بالزهري في الحجاز؛ وهو من أعلام
العلماء توفي سنة 148.
10 كذا في ز، وفي ط: "حاضرا"، وسقط في ش.
11 سقط في ش.
12 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "يتخونتا. فقال الأعمش: "يتخولنا، فقال أبو
عمرو: يتخوننا". وفي ط: "وهو يتخوننا. فقال الأعمش: يتخولنا".
(3/292)
يدريك؟ فقال أبو عمرو: إن شئت أن أعلمك أن
الله -عز وجل- لم1 يعلمك "حرفًا من العربية"2 أعلمتك. فسأل عنه الأعمش
فأخبر بمكانه من العلم. فكان بعد ذلك يدنيه، ويسأله عن الشيء إذا أشكل
عليه. هذا3 ما في الحكاية. وعلى ذلك فيتخولنا صحيحة. وأصحابنا
يثبتونها. ومنها -عندي4- قول البرجمي:
يساقط عنه روقه ضارياتها ... سقاط حديد القين أخول أخولا5
أي شيئًا بعد شيء. وهذا هو معنى قوله: يتخولنا بالموعظة، مخافة السآمة،
أي يفرقها ولا يتابعها.
ومن ذلك اجتماع الكميت مع نصيب، وقد استنشده نصيب من شعره، فأنشده
الكميت:
هل أنت عن طلب الأيفاع منقلب6
حتى إذا بلغ إلى قوله:
أم هل ظعائن بالعلياء نافعة ... وإن تكامل فيها الدل والشنب7
__________
1 كذا في ش، ط. وفي د، هـ، ز: "لا".
2 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "من العربية حرفا".
3 في د، هـ، ز بعده: "على".
4 كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "عندنا".
5 هذا في الحديث عن ثور وحشي يطرد كلاب الصيد عنه ويدفعها بروفة.
والروق: القرن. وانظر ص132 من الجزء الثاني.
6 عجزه:
أم كيف يحسن من ذي الشبية اللعب
7 جاء البيت في أمالي الرضى 2/ 254 هكذا:
وقد رأينا بها حورا منعمة ... رودا تكامل فيها الدل والشنب
(3/293)
عقد نصيب بيده واحدًا، فقال الكميت: ما
هذا؟ فقال أحصي خطأك. تباعدت في قولك: الدل والشنب؛ ألا قلت كما قال ذو
الرمة:
لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب
ثم أنشده:
أبت هذه النفس إلا ادكارا
حتى إذا بلغ إلى قوله:
كأن الغطامط من غليه ... أراجيز أسلم تهجو غفارا1
قال نصيب: ما هجت أسلم غفارًا قط. فوجم الكميت.
وسئل الكسائي في مجلس يونس عن أولقٍ: ما مثاله من الفعل؟ فقال: أفعل2.
فقال له يونس3: استحييت لك يا شيخ! والظاهر عندنا من أمر أولق أنه فوعل
من قولهم: ألق الرجل، فهو مألوق؛ أنشد أبو زيد:
تراقب عيناها القطيع كأنما ... يخالطها من مسه مس أولق4
وقد يجوز أن يكون: أفعل من ولق يلق إذا خف وأسرع؛ قال:
جاءت به عنس من الشأم تلق5
__________
1 الغطامط: صوت موج البحر. وفي اللسان: "غليها" وكأنه يتحدث عن قدر في
البيت قبله.
2 في د، هـ، ز بعده: "أفطل".
3 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "مروان" ومروان كأنه مروان بن سعيد
المهلبي أحد أصحاب الخليل، له ترجمة قصيرة في ياقوت.
4 هذا في وصف ناقة، والقطيع: السوط. وانظر ص10 من الجزء الأول.
5 انظر ص9 من الجزء الأول، ص299 من تهذيب الألفاظ.
(3/294)
أي تخف وتسرع، وهم يصفون الناقة -لسرعتها-
بالحدة والجنون؛ قال القطامي:
يتبعن سامية العينين تحسبها ... مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل1
والأولق: الحنون. ويجوز أيضًا2 أن يكون فوعلا من ولق هذه. وأصلها3 -على
هذا- وولق. فلما التقت الواوان في أول الكلمة همزوا الأولى منهما، على
العبرة في ذلك.
وسئل الكسائي أيضًا في مجلس يونس عن قولهم: لأضربن أيهم يقوم، لم لا
يقال: لأضربن أيهم4. فقال: أي هكذا خلقت.
ومن ذلك إنشاد الأصمعي لشعبة5 بن الحجاج قول فروة6 بن مسيك المرادي:
فما جبنوا أني أشد عليهم ... ولكن رأوا نارًا تحس وتسفع
فقال شعبة: ما هكذا أنشدنا سماك7 بن حرب. إنما أنشدنا: "تحش" بالشين
معجمة. قال الأصمعي: فقلت: تحس: تقتل من قول الله -تعالى: {إِذْ
تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ} 8 أي تقتلونهم، وتحش: توقد. فقال لي شعبة:
لو فرغت للزمتك.
__________
1 انظر ص11 من الجزء الأول.
2 سقط في ش.
3 في د، هـ: "أصله".
4 "لأضربن أيهم" كذا في الأصول، وضبط فيها "أيهم" هنا بالنصب "وأيهم"
الأولى بالرفع. ويبدو أن الأصل: "ضربت أيهم" فإن المنقول عن الكسائي
أنه لا يرى أن يعمل في أي الموصولة الماضي، وأنه قال مقالته: "أي كذا
خلقت" لما سئل عن هذا، أو الأصل: لأضربن أيهم قام" فإنه يمنع هذا أيضا.
5 هو الحافظ أحد أئمة الإسلام، مات سنة 160 كما في الخلاصة.
6 في اللسان "حسن" نسبته إلى أوس، يعني ابن حجر. وهو من قصيدة الأوس في
ديوانه، وقبله:
تكنفنا الأعداء من كل جانب ... لينتزعوا عرقاتنا ثم يرتعوا
7 هو أحد أعلام الحديث من التابعين مات سنة 123.
8 آية 152 سورة آل عمران.
(3/295)
وأنشد رجل من أهل المدينة أبا عمرو بن
العلاء قول ابن قيس الرقيات1:
إن الحوادث بالمدينة قد ... أوجعنني وقرعن مروتيه
فانتهره أبو عمرو، فقال: ما لنا ولهذا الشعر الرخو! إن هذه الهاء لم
توجد2 في شيء من الكلام إلا أرخته. فقال له المديني: قاتلك الله! ما
أجهلك بكلام العرب! قال الله -عز وجل- في كتابه: {مَا أَغْنَى عَنِّي
مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} 3 وقال: {يَا لَيْتَنِي لَمْ
أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ} 4، 5 فانكسر أبو عمرو
انكسارًا شديدًا. قال أبو هفان: وأنشد هذا الشعر عبد الملك بن مروان،
فقال: أحسنت يابن قيس، لولا أنك خنثت قافيته6. فقال يا أمير المؤمنين
ما عدوت قول الله -عز وجل- في كتابه {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} فقال له عبد الملك: أنت في هذه7 أشعر منك
في شعرك.
قال أبو حاتم: قلت للأصمعي: أتجيز: إنك لتبرق لي وترعد؟ فقال: لا8،
إنما هو تبرق وترعد. فقلت له: فقد قال الكميت:
أبرق وأرعد يا يزيـ ... ـد فما وعيدك لي بضائر
__________
1 زيادة في ط. وبيت قيس من قصيدة في ديوانه يقولها في رثاء من مات من
أهله في وقعت الحرة. وقبله:
ذهب الصبا وتركت غينيه ... ورأى الغواني شيب لمتيه
وهجرتني وهجرتهن وقد ... غنيت كرائمها يطفن بيه
إذ لمتي سوداء ليس بها ... وضح ولم أفجع بإخوتيه
الحاملين لواء قومهم ... والذائدين وراء عورتيه
2 د، هـ: "تدخل".
3 آيتا 28، 29 سورة الحاقة.
4 آيتا 25، 26 سورة الحاقة.
5 في ط بعده: "وتعسه".
6 في د، هـ، ط: "قوافيه".
7 في د، هـ، ط: "هذا".
8 سقط في ش.
(3/296)
فقال: هذا جرمقاني1 من أهل الموصل، ولا آخذ
بلغته. فسألت عنها أبا زيد الأنصاري، فأجازها. فنحن كذلك إذ وقف علينا
أعرابي محرم، فأخذنا نسأله. فقال "أبو زيد"2: لستم تحسنون أن تسألوه،
ثم قال له3: كيف تقول: إنك لتبرق لي وترعد؟. فقال له الأعرابي: أفي
الجخيف تعني؟ أي التهدد. فقال: نعم. فقال الأعرابي: إنك لتبرق لي
وترعد. فعدت إلى الأصمعي، فأخبرته فأنشدني:
إذا جاوزت من ذات عرق ثنيةً ... فقل لأبي قابوس: ما شئت فارعد
ثم قال لي: هكذا4 كلام العرب.
وقال أبوحاتم أيضًا: قرأت على الأصمعي رجز العجاج، حتى وصلت5 إلى قوله:
جأبًا ترى بليته مسحجا6
فقال: ... تليله، فقلت: بليته. فقال: تليله مسحجا، فقلت له7: أخبرني به
من سمعه من فلق في رؤبة، أعني أبا زيد الأنصاري، فقال: هذا لا يكون
"فقلت: جعل "مسحجا" مصدرًا أي تسحيجًا. فقال: هذا لا يكون"8. فقلت: قال
جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي9
أي تسريحي. فكأنه توقف. فقلت: قد قال الله -تعالى: {وَمَزَّقْنَاهُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ} 10، فأمسك.
__________
1 هو واحد الجرامقة، وهم قوم بالموصل أصلهم من العجم.
2 زيادة في ط.
3 زيادة في د، هـ.
4 في د، هـ، ط: "هذا".
5 في د، هـ: "إذا وصلت".
6 انظر ص367 من الجزء الأول.
7 سقط في ش.
8 سقط ما بين القوسين في ش.
9 انظر 368 من الجزء الأول.
10 آية 19 سورة سبأ.
(3/297)
ومن ذلك إنكار أبي حاتم على عمارة بن عقيل
جمعه الريح على أرياح. قال: فقلت "له فيه"1: إنما هي أرواح. فقال: قد
قال -عز وجل: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} 2 وإنما الأرواح
جمع روح. فعلمت بذلك أنه "ممن لا"3 يجب أن يؤخذ عنه.
وقال أبو حاتم: كان الأصمعي ينكر زوجة؛ ويقول: إنما هي زوج. ويحتج بقول
الله -تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} 4 قال: فأنشدته قول ذي
الرمة:
أذو زوجة في المصر أم ذو خصومة ... أراك لها بالبصرة العام ثاويا5
فقال: ذو الرمة طالما أكل المالح والبقل في حوانيت البقالين. قال: وقد
قرأنا عليه "من قبل"6 لأفصح الناس فلم ينكره:
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي ... والطامعون إلي ثم تصدعوا7
وقال آخر8:
من منزلي قد أخرجتني زوجتي ... تهر في وجهي هرير الكلبة9
__________
1 سقط ما بين القوسين في ش.
2 آية 22 سورة الحجر.
3 في د، هـ: "ليس".
4 آية 37 سورة الأحزاب.
5 من قصيدة له في مدح بلال بن أبي بردة، وهذا قول العجوز المذكورة في
قوله قيل:
تقول عجوز مدرجي متروحا ... على بابها من عند أهلي وغاديا
يقول: إنه ترك البادية وأقام بالبصرة، وهي ما عناه بالمصر، فكان يمر في
طريقه على عجوز، فقالت له وقد علمت أنه ليس من البصرة: هل لك زوجة أو
أنت ذو خصومة فلك قضية عند الحاكم؟ وانظر الديوان والكامل بشرح المرصفي
4/ 183.
6 سقط ما بين القوسين في ش.
7 من قصيدة مفضلية لعبدة بن الطبيب، وقبله:
ولقد علمت بأن قصري حفرة ... عبراء يحملني إليها شرجع
قصري أي آخر أمري، والحفرة القبر، والشرجع: الدعش، والشجو: الحزن،
يقول: إن خاصته وأحياءه يبكون عليه مدة إذا مات، ثم يتفرقون لشأنهم
وينسونه، وانظر شرح المفضليات لابن الأنباري 301.
8 في د، هـ، ط: "الآخر".
9 في مجالس ابن خنزابة بعد هذا البيت: "وإنما لج الأصمعي لأنه كان
مولعا بأجود اللغات، ويرد ما ليس بالقوي، وذلك الوجه أجود الوجهين".
(3/298)
وقد1 كان يعاب ذو الرمة بقوله:
حتى إذا دومت في الأرض راجعه ... كبر، ولو شاء نجى نفسه الهرب2
فقيل: إنما يقال: دوى في الأرض، ودوم في السماء.
وعيب أيضًا في قوله:
والجيد من أدمانة عنود3
فقيل: إنما يقال4: أدماء وآدم. والأدمان جمع؛ كأحمر وحمران، وأنت لا
تقول: حمرانة ولا صفرانة. وكان أبو علي يقول: بنى من هذا الأصل فعلانة؛
كخمصانة.
وهذا ونحوه مما يعتد في أغلاط العرب؛ إلا أنه لما كان من أغلاط هذه
الطائفة القريبة العهد، جاز أن نذكره في سقطات العلماء. ويحكى أن أبا
عمرو رأى ذا الرمة في دكان طحان بالبصرة يكتب، قال: فقلت: ما هذا يا ذا
الرمة! فقال: اكتم علي يا أبا عمرو. ولما قال أيضا:
كأنما عينها منها وقد ضمرت ... وضمها السير في بعض الأضى ميم5
فقيل6 له: من أين عرفت الميم؟ فقال: والله ما أعرفها؛ إلا أني رأيت
معلمًا خرج إلى البادية فكتب حرفًا، فسألته عنه، فقال: هذا7 الميم؛
فشبهت به عين الناقة. وقد أنشدوا:
كما بينت كاف تلوح وميمها8
__________
1 سقط في ش، ط.
2 انظر ص284 من هذا الجزء.
3 انظر ص283 من هذا الجزء.
4 في د، هـ، ط: "هي".
5 هذا في وصف ناقته المذكورة قبل في قوله:
هل تدنينك من خرقاء ناجية ... وجفاء ينجاب عنها الليل علكوم
العلكوم: القوية الصلبة من الإبل، والأضى جمع الأضاة، وهو الغدير
والمستنقع، يقول: إن عينها إذا جهدها السير غارت ونحفت فإذا وردت ماء
الأضى ورأى الناظر خيالها فيه بدت عينها كحرف الميم.
6 في ط: "قيل"ز
7 في ط: "هذه".
8 صدره:
أهاجتك آيات أبان قديمها
والشعر للراعي، وانظر الكتاب 2/ 31.
(3/299)
وقد قال أبو النجم:
أقبلت من عند زياد كالخرف ... تخط رجلاي بخط مختلف
تكتبان في الطريق لام ألف1
وحكى أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد بن يحيى عن سلمة
قال: حضر الأصمعي وأبو عمرو الشيباني عند أبي السمراء فأنشده2 الأصمعي:
بضرب كآذان الفراء فضوله ... وطعنٍ كتشهاق العفا هم بالنهق3
ثم ضرب بيده إلى فرو كان بقربه، يوهم أن الشاعر أراد فروًا. فقال أبو
عمرو: أراد الفرو4. فقال الأصمعي: هكذا راويتكم5!.
ويحكى عن رؤبة في توجهه إلى قتيبة بن مسلم أنه قال: جاءني رجلان، فجلسا
إلي وأنا أنشد شيئًا من شعري، فهمسا6 بينهما، فتفقت7 عليهما، فهمدا.
__________
1 زياد صديق له كان يسقيه الشراب فينصرف من عنده مملا كالحرف، وهو الذي
فسد عقله لكبر "وقوله: تكتبان لام ألف أي لاما وألفا، أي تارة يمشي
معوجا فتخط رجلاه خطا شبيها باللام، وتارة يمشي مستقيما فتخط رجلاه خطا
شبيها بالألف، وانظر الخزانة في الشاهد السابع.
2 في د، هـ: "فأنشد".
3 كأن هذا البيت مركب من بيتين أولهما لأبي الطمحان القيني وهو:
بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كتشهاق العفا هم بالنهق
والثاني لمالك بن زغبة الباهلي، وهو:
بضرب كآذان الفراء فضوله ... وطعن كإيزاغ المخاض تبورها
وقد ورد الأول في اللسان "عفا" والآخر في اللسان "فرأ" والفراء جمع
الفراء، وهو حمار الوحش. والعفا ولد حمار الوحش، وانظر الجواليقي على
أدب الكاتب 397.
4 في ش: "الفراء".
5 كذا في ط، هـ، وفي ش: "رأيتكم" وهو تحريف.
6 في الموشح: "فتغامزا".
7 كذا في الأصول، ولم يتوجه لي معناها، ويبدو أنها محرفة عن "فتقبعت"
وهو ما جاء في الموشح 192، والتقبع من القبع، وهو في الأصل صوت يردده
الفرص من منخريه إلى حلقه، ويكون عند رؤيته شيئا يكرهه أو يتقيه، يريد
أنه أظهر لهما الكراهة، وقد يكون الأصل: فنفت عليهما أي غضبت، من
النفت.
(3/300)
ثم سألت عنهما، فقيل لي: الطرماح والكميت.
فرأيتهما ظريفين، فأنست بهما. ثم كانا يأتياني، فيأخذان الشيء بعد
الشيء من شعري، فيودعانه أشعارهما.
وقد كان قدماء أصحابنا يتعقبون رؤبة وأباه، ويقولون: تهضما اللغة،
وولداها وتصرفا فيها، غير تصرف الأقحاح فيها. وذلك لإيغالهما في الرجز،
وهو مما يضطر إلى كثير من التفريع والتوليد: لقصره1، ومسابقة قوافيه.
وأخبرنا أبو صالح السليل بن أحمد بإسناده عن الأصمعي قال: قال لي2
الخليل: جاءنا رجل فأنشدنا:
ترافع العز بنا فارفنعما3
فقلنا4: هذا لا يكون. فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول:
تقاعس العز بنا فاقعنسسا
فهذا ونحوه يدلك على منافرة القوم لهما، وتعقبهم5 إياهما، وقد ذكرنا
هذه الحكاية فيما مضى6 من هذا الكتاب، وقلنا في معناها: ما7 وجب8 هناك.
وحكى الأصمعي قال: دخلت على حماد9 بن سلمة وأنا حدث، فقال لي: كيف تنشد
قول الحطيئة: "أولئك قوم إن بنوا أحسنوا ماذا. فقلت"10:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البني ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
__________
1 في ط: "لقصر وزنه".
2 سقط في ش.
3 انظر ص362 من الجزء الأول.
4 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "فقلت".
5 في د، هـ، ط: "تتبعهم".
6 انظر ص261 من الجزء الأول.
7 في د، هـ، ط: "بما".
8 في ط: "يجب".
9 هو بصرى من كبار المحدثين. مات سنة 167هـ.
10 سقط ما بين القوسين في ش.
(3/301)
فقال: يا بنى، أحسنوا البنا. يقال: بنى،
يبنى بناء في العمران، وبنا يبنوُ1 بنًا، في الشرف. هكذا هذه الحكاية،
رويناها عن بعض أصحابنا. وأما الجماعة فعندها أن الواحد من ذلك: بنية
وبنية؛ فالجمع على ذلك: البُنَى، والبِنَى.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن القاسم الذهبى بإسناده عن أبي عثمان
أنه كان عند أبي عبيدة، فجاءه رجل، فسأله، فقال له: كيف تأمر من قولنا:
عنيت بحاجتك؟ فقال له أبو عبيدة: أعن بحاجتى. فأومأت إلى الرجل: أى ليس
كذلك. فلما خلونا قلت له: إنما يقال: لتعن بحاجتى. قال: فقال لى أبو
عبيدة: لا تدخل إلي. فقلت: لم؟ فقال: لأنك كنت مع رجل خوزى2، سرق منى
عاما3 أول قطيفة لى. فقلت: لا والله ما الأمر كذلك: ولكنك سمعتنى أقول
ما سمعت، أو كلاما هذا معناه.
وحدثنا أبو بكر محمد بن علي المراغي قال: حضر الفراء أبا عمر الجرمي،
فأكثر سؤاله إياه. قال: فقيل لأبي عمر: قد أطال سؤالك؛ أفلا تسأله!
فقال له أبو عمر: يا أبا زكرياء، ما4 الأصل في قم؟ فقال: اقوم. قال:
فصنعوا ماذا؟ قال: استثقلوا الضمة على الواو، فأسكنوها، ونقلوها إلى
القاف. فقال له أبو عمر: "هذا خطأ"5: الواو إذا اسكن ما قبلها جرت مجرى
الصحيح، ولم تستثقل الحركات فيها. ويدل على صحة قول أبي عمر إسكانهم
إياها وهى مفتوحة في نحو يخاف وينام؛ ألا ترى أن أصلهما6: يخوف، وينوم:
وإنما إعلال7 المضارع هنا محمول على إعلال7 الماضى. وهذا مشروح في
موضعه.
__________
1 في ش: "يبنى".
2 أي من الخوز وهم سكان خوزستان في بلاد فارس.
3 في اللسان "عنا": "عام".
4 في ط: "كيف".
5 في ط: "قد أخطأت".
6 كذا في ط. وفي ش: "أصلها".
7 في ط: "اعتلال".
(3/302)
ومن ذلك حكاية أبي عمر1 مع الأصمعى وقد
سمعه يقول: أنا أعلم الناس بالنحو، فقال له الأصمعى: "يا أبا عمر"2 كيف
تنشد "قول الشاعر"3:
قد كن يخبأن الوجوه تسترا ... فالآن حين بدأن للنظار
بدأن أو بدين؟ فقال أبو عمر: بدأن. فقال الأصمعى: يا أبا عمر، أنت أعلم
الناس بالنحو! -يمازحه- إنما هو بدون، أى ظهرن. فيقال: إن أبا عمر تغفل
الأصمعى، فجاءه يوما وهو في مجلسه، فقال له أبو عمر: كيف تحقر مختارا؟
فقال الأصمعى: مخيتير. فقال له أبو عمر: أخطأت؛ إنما هو مخير أو مخيير،
تحذف التاء؛ لأنها زائدة.
حدثني أبو علي قال: اجتمعت مع أبي بكر4 بن الخياط عند أبي العباس
المعمرى بنهر معقل، في حديث حدثنيه طويل. فسألته عن العامل في "إذا" من
قوله -سبحانه: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا
مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 5 قال:
فسلك فيها مسلك6 الكوفيين. فكلمته إلى أن أمسك. وسألته عن غيرها، وعن
غيرها؛ وافترقنا. فلما كان الغد7 اجتمعت معه عند أبي العباس،
__________
1 هو الجرمي.
2 سقط ما بين القوسين في ش.
3 ثبت ما بيو القوسين في ط، والشاعر هو الربيع بن زياد في قصيدة يرثي
بها مالك بن زهير العبسي. وقبله:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار
ويقول التبريزي في شرح البيت: "أي كانت نساؤنا يخبأن وجوههن عفة وحياء،
فالآن ظهرن للناظرين لا يعقلن من الحزن" وانظر شرح التبريزي للحماسة
"التجارية" 3/ 38.
4 هو محمد بن أحمد مات سنة 320.
5 آية 7 سورة سبأ.
6 كذا في ش، وفي د، هـ، ط: "مذهب". وكأن مذهب الكوفيين أن "إذا" متعلقة
بقوله: {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهذا لا يجيزه البصريون لأن ما بعد "إن"
لا يعمل فيما قبلها عندهم. وإنما "إذا" عندهم متعلقة بفعل محذوف أي
تبعثون، وهي جملة اعتراضية بين "ينبئكم" ومعموله: {إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ} .
7 في ط: "من الغد".
(3/303)
وقد أحضر جماعة من أصحابه فسألونى فلم أر
فيهم طائلا. فلما انقضى سؤالهم قلت لأكبرهم: كيف تبنى من سفرجل مثل
عنكبوت فقال: سفرروت1. فلما سمعت ذلم قمت في المسجد قائما، وصفقت بين
الجماعة: سفرروت! سفرروت! فالتفت إليهم أبو بكر فقال: لا أحسن الله
جزاءكم! ولا أكثر في الناس مثلكم! وافترقنا فكان آخر العهد به2.
قال أبو حاتم: قرأ الأخفش: -يعنى أبا الحسن: "وقولوا للناس حسنى"3
فقلت: هذا لا يجوز؛ لأن "حسنى" مثل فعلى4، وهذا لا يجوز إلا بالألف
واللام. قال: فسكت. قال أبو الفتح: هذا عندى غير لازم لأبي الحسن؛ لأن
"حسنى" هنا5 غير صفة؛ وإنما هو مصدر بمنزلة الحسن؛ كقراءة غيره: "قولوا
للناس حسنا" ومثله في الفعل والفعلى: الذكر والذكرى، وكلاهما مصدر. ومن
الأول البؤس والبؤسى. والنعم والنعمى. ولذلك نظائر.
وروينا -فيما أظن- عن محمد بن سلام الجمحى قال: قال لى يونس ابن حبيب:
كان عيسى بن عمر يتحدث في مجلس فيه أبو عمر بن العلاء. فقال عيسى في
حديثه: ضربه فحشت6 يده. فقال أبو عمرو: ما تقول يا أبا عمر! فقال عيسى:
فحشت يده. فقال أبو عمرو: فحشت يده7. قال يونس: التي رده عنها جيدة.
يقال حشت يده -بالضم، وحشت يده -بالفتح، وأحشت. وقال يونس: وكانا إذا
اجتمعا في مجلس لم يتكلم أبو عمرو مع عيسى؛ لحسن إنشاده وفصاحته.
__________
1 وهذا خطأ، وإنما هو سفرجوت.
2 في ط: "بهم".
3 آية 83 سورة البقرة، وهذا القراءة تعزى إلى الحسن البصري.
4 في د، هـ: "فضل".
5 كذا في ش، وفي د، هـ: "ليس" وفي ط: "ليست".
6 أي يبست، وأكثر ما يكون ذلك في الشلل.
7 سقط في ش.
(3/304)
الزيادى عن الأصمعى قال: حضر الفرزدق1 مجلس
ابن أبي إسحاق، فقال له: كيف تنشد هذا البيت:
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر2
فقال الفرزدق: كذا أنشد. فقال ابن أبي إسحاق: ما كان عليك لو قلت:
فعولين! فقال الفرزدق: لو شئت أن تسبح لسبحت. ونهض فلم يعرف أحد في
المجلس ما أراد بقوله: لو شئت أن تسبح لسبحت، أى لو نصب لأخبر أن الله
خلقهما وأمرهما أن تفعلا ذلك، وإنما أراد: أنهما تفعلان بالألباب ما
تفعل الخمر "قال أبو الفتح: كان هنا تامة غير محتاجة إلى الخبر، فكأنه
قال: وعينان قال الله: احدثا فحدثتا، أو اخرجا إلى الوجود فخرجتا"3.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال: سأل رجل سيبويه عن
قول الشاعر4:
يا صاح يا ذا الضامر العنس
فرفع سيبويه "الضامر" فقال له الرجل: إن فيها:
والرحل "ذي الأقتاد"5 والحلس
__________
1 وفي مجالس كاتب ابن حتزاية كتب في الهامش على هذا البيت: "حاشية: هذا
البيت لذي الرمة، وسؤال الفرزدق عنه غلط فيما أحسب، وهذا لا بعد فيه"
فقد كان ذو الرمة والفرزدق متعاصرين، وكان ذو الرمة معروفا بالشعر في
زمن الفرزدق.
2 قبله:
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
3 ثبت ما بين القوسين في د، هـ، ط. وسقط في ش. وفي ابن حنزاية أنه يجوز
نصب فعولين على القطع أي الحال من فاعل "كانتا" على تمامها.
4 هو خالد بن المهاجر في رواية الأغاني. وانظر الخزانة في الشاهد
العشرين بعد المائة.
5 كذا في ش، وفي د، هـ، ط: "والأقتاب"، يريد أن عجز البيت يقضي أن تكون
"ذا" في الصدر بمعنى صاحب فيجر "الضامر" بالإضافة، وتكون "ذا" إشارية
فيرفع "الضأمر".
(3/305)
فقال سيبويه1: من هذا هربت. وصعد فى
الدرجة. فقال أبو الفتح: هذا عندنا2 محمول على معناه دون لفظه. وإنما
أراد: ياذا العنس الضامر، والرحل "ذى الاقتاد" فحمله على معناه، "دون
لفظه"2.
قال أبو العباس: حدثني أبو عثمان قال: جلست في حلقة الفراء، فسمعته
يقول لأصحابه: لا يجوز حذف لام الأمر إلا في شعر. وأنشد:
من كان لا يزعم أني شاعر ... فيدن مني تنهه المزاجر3
قال: فقلت له: لم جاز في الشعر ولم يجز في الكلام؟ فقال: لأن الشعر
يضطر فيه الشاعر، فيحذف. قال: فقلت: وما الذى اضطره هنا، وهو يمكنه أن
يقول: فليدن منى؟ قال: فسأل عنى، فقيل له: المازنى، فأوسع لى. قال أبو
الفتح: قد كان يمكن الفراء أن يقول له: إن العرب قد تلزم4 الضرورة في
الشعر في حال السعة، أنسًا بها "واعتيادًا5 لها"، وإعدادًا لها لذلك
عند وقت الحاجة إليها؛ ألا ترى إلى قوله6:
قد أصبحت أم الخيار تدعى ... عليّ ذنبا كله لم أصنع
__________
1 الذي في الخزانة عن الأخفش: "بلغني أن رجلا صاح بسيبويه في منزله
وقال: كيف تنشد هذا البيت؟ فأنشده إياه مرفوعا. فقال الرجل:
والرحل والأقتاب والحلس
فتركه سيبويه وصعد إلى منزله، فقال له: أين لي علام عطف؟ فقال سيبويه:
فلم صعدت الغرفة! إني قررت من ذلك. ويتبين من هذا أن قوله: "من هنا
هربت" بعد صعوده في الدرجة؛ لا كما هنا. هذا، وفي مجالس ابن حنزاية أن
السائل سلمة بن عياش، والمسئول أبو عمرو بن العلاء.
2 سقط في ش. ويريد ابن جني في الجواب عن سيبويه أن الشاعر لما قال: يا
هذا الضامر العنس كأنه قال: يا هذا الضامر عنسه، وإذا كان عنسه ضامرا
كان ذا عنس ضامر، فكأنه في المعنى: يا ذا الضامر العنس أي يا صاحب
الضامر العنس، فساغ له أن يعطف عليه: والرحل ...
3 هذا البيت أورده الفراء في معاني القرآن 1/ 160، ولم ينسبه.
4 كذا في ش. وفي د، هـ، ط: "تلتزم".
5 سقط ما بين القوسين في ش.
6 أي أبي النجم. وانظر الكتاب 1/ 44، والخزانة في الشاهد 56.
(3/306)
فرفع للضرورة ولو نصب لما كسر الوزن. وله
نظائر. فكذلك قال: "فيدن منى" وهو قادر على أن يقول: "فليدن منى"؛ لما1
ذكرت.
والمحفوظ في هذا قول أبي عمرو لأبي خيرة وقد قال: استأصل الله عرقاتهم2
-بنصب3 التا- هيهات، أبا خيرة لان جلدك! ثم رواها أبو عمرو فيما بعد.
وأجاز أيضًا أبو خيرة: حفرت إراتك، جمع إرة4. وعلى نحوه إنشاد
الكوفيين:
ألا يزجر الشيخ الغيور بناته5
وإنشادهم أيضًا:
فلما جلاها بالإيام تحيزت ... ثباتًا عليها ذلها واكتئابها6
وأصحابنا لا يرون فتح هذه التاء في موضع النصب. وأما7 عرقاتهم فواحدة؛
كسعلاة. وكذلك إراة: علفة، وأصلها وئرة: فعلة، فقلبت الفاء إلى موضع
اللام، فصار: "إروة، ثم قلبت الواو ألفا فصار"8 إراة؛ مثل الحادى،
وأصله: الواحد، فقلبت الفاء إلى موضع اللام، فصار وزنه على اللفظ:
عالفا ومثله قول القطامى:
ولا تقضى بواقي دينها الطادي9
أصله: الواطد، ثم قلب إلى عالف. وأنا ثباة ففعلة من الثبة، وأما بناته
ففعلة، كقناة كما أن ثباة وسمعت لغاتهم إنما "هي واحدة"10؛ كرطبة.
__________
1 في د، هـ: "على ما".
2 انظر ص385 من الجزء الأول.
3 كذا في ش. وفي ط: "فنصب".
4 هي موقد النار.
5 في ش: "ينشد" في مكان "يزجر".
6 هذا من شعر لأبي ذؤيب الهذلي في وصف النحل والرجل المشنار لعسلها،
والإيام: الدخان. يقول: إن النحل لجأت إلى خلاياها، فدخن عليها فخرجت
وبرزت، وهنا تحيزت وتضامت جماعات يبدو عليها الذل والاكتئاب، فقد تمكن
منها المشنار. وانظر ديوان الهذليين "طبعة دار الكتب" 1/ 79.
7 في د، هـ: "فأما".
8 سقط ما بين القوسين في ش.
9 انظر ص80 من الجزء الثاني.
10 كذا في ش، وفي د، هـ، ط: "هما واحد".
(3/307)
هذا كله إن كان مارووه -من فتح هذه التاء-
صحيحا ومسموعا من فصيح يؤخذ بلغته ولم يجز أصحابنا فتح هذه التاء في
الجماعة، إلا شيئا قاسه أبو عثمان، فقال: أقول: لا مسلمات لك -بفتح
التاء- قال: لأن الفتحة الآن ليست لـ"مسلمات" وحدها، وإنما لها ولـ"لا"
قبلها. وإنما يمتنع1 من فتح هذه التاء ما دامت الحركة في آخرها لها
وحدها. فإذا2 كانت لها ولغيرها فقد زال طريق ذلك3 الحظر الذي كان
عليها. وتقول على هذا: لا سمات بإبلك -بفتح4 التاء- على ما مضى. وغيره
يقول: لا سمات بها -بكسر5 التاء- على كل حال. وفي هذا مسألة لأبي على
-رحمه الله- طويلة حسنة.
وقال الرياشي: سمعت أبا زيد يقول: قال المنتجمع: أعمى على المريض، وقال
أبو خيرة: غمى عليه. فأرسلوا إلى أم أبى خيرة، فقالت: غمى على المريض.
فقال لها المنتجع: أفسدك ابنك. وكان وراقا.
وقال أبو زيد: قال منتجع: كمء واحدة وكمأة للجميع. وقال أبو خيرة: كمأة
واحدة، وكمء للجميع؛ مثل تمرة وتمر، قال: فمر بهما رؤبة، فسألوه، فقال
كما قال منتجع6. وقال أبو زيد: قد يقال: كمأة وكمء كما قال أبو خيرة.
وأخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحجاج عن أبي علي بن بشر بن موسى
الأسدى عن الأصمعى، قال: اختلف رجلان، فقال أحدهما: الصقر، وقال الآخر:
السقر. فتراضيا بأول وارد يرد عليهما، فإذا رجل قد أقبل، فسألاه فقال:
ليس كما قلت أنت ولا "كما قلت أنت"7؛ إنما هو الزقر.
__________
1 في ط: "يمنع".
2 كذا في ش وفي د، هـ، ط: "فأما إذا".
3 ثبت في ط.
4 في ط: "فيفتح".
5 في ط: "فيكسر".
6 في د، هـ: "أبو خيرة". وفي مجالس كاتب ابن حنزاية بعده: "وقال
الأصمعي كما قال أبو خيرة".
7 في ط: "ما قال هو".
(3/308)
وقال الرياشي: حدثني الأصمعى، قال: ناظرني
المفضل عند عيسى بن جعفر، فأنشد بيت أوس:
وذات هدم عارٍ نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جذعا1
فقلت: هذا تصحيف؛ لا يوصف التولب بالإجذاع، وإنما هو: جدعا، وهو السىء
الغذاء. قال: فجعل المفضل يشغب، فقلت له: تكلم كلام النمل وأصب. لو
نفخت في شبور2 يهودى ما نفعك شيئا.
ومن ذلك إنكار الأصمعى على ابن الأعرابى ما كان رواه ابن الأعرابى لبعض
ولد سعيد بن سلم بحضرة سعيد بن سلم لبعض بنى كلاب:
سمين الضواحى، لم تؤرقه ليلة ... وأنعم أبكار الهموم3 وعونها
__________
1 قبله:
ليبكك الشرب والمدامة والـ ... ـفتيان طرا وطامع طمعا
والهدم: الثوب المرقع البالي، والنواشر: عروق ظاهر الكف أو عصب الذراع
والتولب: الصغير من حمر الوحش، استعاره للصبي، وتصمت: تسكت وتعلل،
يقول: ليس لها لبن من الضر وشدة الزمان، فهي تعلله بالماء وانظر
الأمالي 3/ 35.
2 هو البوق وفي محيط المحيط أنه معرب شوفر بالعبرية.
3 في ط: "الخطوب" في مكان "الهموم" وفي د، هـ: "المعاني" وقبله:
رأت نضو أسفار أميمة قاعدا ... على نضو أسفار فجن جنونها
فقالت من أي الناس أنت ومن تكن ... فإنك راعي صرمة لا تزيتها
فقلت لها ليس الشحوب على الفتى ... يعار ولا خير الرجال سمينها
عليك براعي ثلة مسلحبة ... بروح عليها محضها وحقينها
والثلة: قطيع الغنم. ومسلحبة: منبطة وممدة. والمحض: اللبن الخالص.
والحقين: اللبن يجعل في السقاء ليخرج زبدته. والضواحي: ما ظهر فيه
وبدا، وأبكار الهموم ما يبدأ منها، والعون جمع عوان، وهي التي تنجب بعد
بطنها البكر، يريد الهموم التي استمرت وبقيت عنده، وانظر مجالس كاتب
ابن حنزاية، واللسان "ضحا"، ولم ينسب هذا الشعر، ويقول المعلق على
معاني ابن قتيبة 560: أحسبه للمخبل السعدي.
(3/309)
فرفع ابن الأعرابي "ليلة"، ونصبها الأصمعى،
وقال: إنما أراد: لم تؤرقه أبكار الهموم1 وعونها ليلةً، وأنعم أي زاد2
على ذلك. فأحضر ابن الأعرابي، وسئل عن ذلك فرفع "ليلة" فقال الأصمعى
لسعيد: من لم يحسن هذا القدر فليس بموضع لتأديب ولدك، فنحاه سعيد، فكان
ذلك سبب طعن ابن الأعرابي على الأصمعى.
محمد بن يزيد قال: حدثني أبو محمد التوزى عن أبى عمرو الشيبانى قال:
كنا بالرقة، فأنشد الأصمعي:
عننًا باطلا وظلما كما تعـ ... ـنز عن حجرة الربيض الظباء3
فقلت: يا سبحان الله، تعتر من العتيرة. فقال الأصمعى: تعنز أى تطعن
بعنزة4. فقلت: لو نفخت في شبور اليهودى، وصحت إلى التنادى5، ما كان إلا
تعتر، ولا ترويه بعد اليوم إلا تعتر. قال أبو العباس قال لى التوزى،
قال لى أبو عمرو: فقال: والله لا أعود بعده6 إلى تعنز.
__________
1 كذا في ش، وفي ط: "الخطوب". وفي د، هـ: "المعاني".
2 أي زاد هذا الرجل الذي يصفه على هذه الأوصاف.
3 من معلقة الحارث بن حلزة، وقبله:
واعلموا أنها وإياكمو فيـ ... ـما اشترطنا يوم اختلفنا سواء
والعنن: الاعتراض والعنز: الذبح. والحجرة: الناحية، أو هي الحظيرة تتخذ
للغنم، والربيض: العنم. يقول: إنكم تتعرضون لنا تعرضا باطلا وتظلموننا
ظلما، وتأخذوننا بذنوب غيرنا، كما تذبح الظباء عن الغنم، وكان من أمر
الجاهلية إن ينذر الرجل لصنمه أن يذبح من غنمه، فإذا جاء وقت الوفاء
بالنذر ضن بالغنم وذبح مكانها من الظباء.
4 هي رمح صغير.
5 كأنه يريد: إلى يوم التمادي، وهو يوم القيامة، ويقول الزمخشري في
تفسير التنادي في سورة غافر: "التنادي: ما حكى الله تعالى في سورة
الأعراف من قوله: ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار، ونادى أصحاب النار
أصحاب الجنة، ويجوز أن يكون تصايحهم بالويل والثبور".
6 في ط: "بعدها".
(3/310)
وأنشد الأصمعى أبا توبة ميمون بن حفص1 مؤدب
عمرو بن سعيد بن سلم بحضرة سعيد:
واحدةٌ أعضلكم شأنها ... فكيف لو قمت على أربع! 2
قال: ونهض الأصمعى فدار على أربع، يلبس بذلك على أبي توبة. فأجابه أبو
توبة بما يشاكل فعل الأصمعى. فضحك سعيد، وقال "لأبي توبة"3: ألم أنهك
عن مجاراته في المعانى هذه صناعته.
وروى أبو زيد: ما يعوز4 له شيء إلا أخذه، فأنكرها الأصمعى، وقال: إنما
هو "يعور" -بالراء- وهو كما قال الأصمعى.
وقال الأثرم على5 بن المغيرة: مثقل استعان بدفيه6، ويعقوب بن السكيت
حاضر. فقال يعقوب: هذا تصحيف؛ إنما هو: مثقل7 استعان بذقنه. فقال
الأثرم: إنه يريد الرياسة بسرعة، ودخل بيته هذا في حديث لهما.
وقال أبو الحسن لأبي حاتم، ما صنعت في كتاب المذكر والمؤنث؟ قال: قلت8:
قد صنعت فيه شيئا. قال: فما تقول في الفردوس؟ قال9: ذكر. قال فإن الله
-عز وجل- يقول: {الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 10 قال: قلت:
__________
1 كذا في نسخ الخصائص وإنباه الرواة، وفي معجم الأدباء وبقية الوعادة
401: "جعفر".
2 في د، هـ، ط: "أمرها" في مكان "شأنها". ومعنى البيت: أنه تزوج امرأة
واحدة، فيقول له: قد شق عليك أن تزوجت واحدة، فكيف لو تزوجت أربعا.
3 ثبت ما بين القوسين في ط.
4 أي يظهر.
5 في د، هـ، ز: "ابن علي".
6 متى دف، وهو الخنب.
7 سقط في ش، ويقال هذا المثل لمن يستعين بمن هو أذل منه وأعجز. وأصله
أن البعير يحمل عليه الحمل الثقيل فلا يقدر على النهوض، فيعتمد بذقنه
على الأرض ويمد عنقه فلا يكون له في ذلك راحة.
8 كذا في د، هـ، ط. وسقط في ش.
9 في ط: "قلت".
10 آية 11 سورة المؤمنين.
(3/311)
ذهب إلى الجنة فأنث. قال أبو حاتم: فقال لى
التوزى: يا عاقل1! أما سمعت قول الناس: أسألك الفردوس الأعلى، "فقلت يا
نائم: الأعلى هنا"2 أفعل لا فعلى! قال أبو الفتح: لا وجه لذكره هنا؛
لأن الأعلى لا يكون أبدا فعلى.
أبو عثمان قال: قال لى أبو عبيدة: ما أكذب النحويين! يقولون: إن هاء
التأنيث، لا تدخل على ألف التأنيث وسمعت رؤبة ينشد:
فكر في علقى وفي مكور3
فقلت له: واحد العلقى؟ فقال: علقاة. قال أبو عثمان: فلم أفسر له؛ لأنه
كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا. وقد ذكرنا نحو هذا فيما قبل، أو شرحناه.
قال أبو الفتح: قد أتينا في هذا الباب من هذا الشأن على أكثر مما
يحتمله هذا الكتاب، تأنيسا به، وبسطا للنفس بقراءته. وفيه أضعاف هذا؛
إلا أن في هذا كافيا من غيره بعون الله.
__________
1 كذا في ش، وفي د، هـ، ط: "غافل"، وكأن التؤزي يرد على أبي حاتم بهذه
الآية ويرى أن الوصف بالأعلى يفيد تأنيث الفردوس إذ توهم أنها كالغضبى،
فرد عليه أبو حاتم بأن الأعلى أفعل لافعلى.
2 سقط ما بين القوسين في ش.
3 انظر ص273 من الجزء الأول وفي مجالس كاتب ابن حنزاية بعد إبراد
القصة: "وحق ذا أن يكون علقى جمعا موضوعا على غير علقاة، ولكن كالشاء
من شاة".
(3/312)
باب في صدق النقلة وثقة الرواة والحملة:
هذا موضع من هذا الأمر، لا يعرف صحته إلا من تصور أحوال السلف فيه1
تصورهم2، ورآهم من الوفور والجلالة بأعيانهم، واعتقد في هذا العلم
الكريم ما يجب اعتقاده له3، وعلم أنه لم يوفق لاختراعه4، وابتداء
قوانينه وأوضاعه، إلا البر عند الله سبحانه، الحظيظ5 بما نوه به، وأعلى
شأنه. أو لا يعلم أن أمير المؤمنين عليا -رضي الله عنه- هو البادئه
والمنبه عليه والمنشئه والمرشد6 إليه. ثم تحقق7 ابن عباس، رضي الله عنه
به، واكتفال أبي الأسود -رحمه الله- إياه. هذا، بعد تنبيه رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- عليه، وحضه على الأخذ بالحظ منه، ثم تتالى السلف
-رحمهم الله- عليه، واقتفائهم -آخرا على8 أول- طريقه. ويكفى من9 بعد ما
تعرف10 حاله، ويتشاهد11 به من عفة أبي عمرو بن العلاء ومن كان معه،
ومجاورا زمانه. حدثنا بعض أصحابنا -يرفعه- قال: قال أبو عمرو بن العلاء
-رحمه الله: مازدت في شعر العرب إلا بيتا واحدا. يعنى مايرويه للأعشى
من قوله:
وأنكرتنى وما كان الذى نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
أفلا ترى إلى هذا البدر الطالع12 الباهر، والبحر الزاخر الذي هو أبو
العلماء وكهفهم، وبدء13 الرواة وسيفهم، كيف تخلصه من تبعات هذا العلم
وتحرجه، وتراجعه فيه إلى الله وتحوبه، حتى أنه لما زاد فيه -على سعته
وانبثاقه، وتراميه وانتشاره- بيتا واحدا، وفقه الله للاعتراف به، "وجعل
ذلك"14 عنوانا على توفيق ذويه وأهليه.
__________
1 زيادة في د، هـ.
2 في ط: "بصورهم".
3 زيادة في ز، ط.
4 في ط: "لاختياره واختراعه".
5 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "الحفيظ: المحظوظ".
6 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "المشير".
7 يقرأ بالنصب عطفا على محل "أن أمير المؤمنين ... " وبالرفع، أي هناك
تحقق ...
8 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "عن".
9 سقط في ش.
10 في ط: "تعرف".
11 أي يشهد الناس بعضهم لبعض به.
12 سقط في ش، ط.
13 كذا في ط، وفي ش، ز: "يد"، والبدء: السيد.
14 ثبت ما بين القوسين في ط.
(3/313)
وهذا الأصمعى -وهو صناجة1 الرواة والنقلة،
وإليه محط2 الأعباء والثقلة، ومنه تجنى الفقر والملح، وهو ريحانة كل
مغتبق ومصطبح- كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره -وهو حدث- لأخذ قراءة
نافع عنه. ومعلوم "كم3 قدر ما" حذف من اللغة، فلم يثبته؛ لأنه لم يقو
عنده؛ إذ لم يسمعه. وقد ذكرنا في الباب الذي هذا4 يليه طرفا منه.
فأما إسفاف من لا علم له، وقول من لا مسكة به: إن الأصمعى كان يزيد في
كلام العرب، ويفعل كذا، ويقول كذا، فكلام معفو عنه، غير معبوء به ولا
منقوم من مثله، حتى كأنه لم يتأد إليه توقفه عن تفسير القرآن وحديث
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحوبه من5 الكلام في الأنواء.
ويكفيك من ذا خشنة6 أبي زيد وأبي عبيدة. وهذا أبو حاتم بالأمس، وما كان
عليه من الجد والانهماك، والعصمة والاستمساك.
وقال لنا أبو علي -رحمه الله- يكاد يعرف7 صدق أبى الحسن ضرورة. وذلك
أنه كان مع الخليل في بلد واحد "فلم يحك عنه حرفا واحدا"8.
هذا إلى ما يعرف عن عقل الكسائي وعفته، وظلفه9، ونزاهته؛ حتى إن الرشيد
كان يجلسه ومحمد بن الحسن على كرسيين بحضرته، ويأمرهما ألا ينزعجا10
لنهضته.
__________
1 هو الذي يضرب بالصنج؛ وهو آلة ذات أوتار يضرب بها ويقال ذلك للماهر
المجيد. وكان الأعشى يقال له صناجة العرب لجودة شعره.
2 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "تتحط" والأعباء جمع العبء، وهو الحمل،
والثقلة: الأمتعة والأثقال.
3 كذا في ط، وفي ش: "قدركم" وفي ز: "قدوما".
4 كذا في ط، وفي ش، ز: "قبل هذا".
5 في ز: "في".
6 في ط: "حسنة" والخشة: الخشونة والصلابة.
7 في ز: "يعلم".
8 سقط ما بين القوسين في ش.
9 الظلف: النزاهة.
10 في ط: "ينزعج أحد منهما".
(3/314)
وحكى أبو الفضل الرياشي قال: جئت أبا زيد
لأقرأ عليه كتابه في النبات، فقال: لا تقرأه علي؛ فإني قد أنسيته.
وحسبنا من هذا حديث سيبويه، وقد حطب1 بكتابه -وهو2 ألف ورقة- علما
مبتكرا ووضعا3 متجاوزا لما يسمع ويرى، قلما تسند إليه حكاية، أو توصل
به رواية، إلا الشاذ الفذ الذي لا حفل به ولا قدر. فلولا تحفظ من يليه،
ولزومه طريق ما يعنيه، لكثرت الحكايات4 عنه، ونيطت أسبابها به، لكن
أخلد كل إنسان منهم إلى عصمته، وأدرع جلباب ثقته، وحمى جانبه من صدقه
وأمانته، ما أريد من صون هذا العلم الشريف "له به"5.
فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين، والمتحلين به في
المصرين، كثيرا ما يهجن6 بعضهم بعضا، ولا7 يترك له في8 ذلك سماء ولا
أرضا.
قيل له: هذا أول دليل على كرم هذا الأمر، ونزاهة هذا العلم؛ ألا ترى
أنه إذا سبقت إلى أحدهم ظنة، أو توجهت نحوه شبهة، سب بها، وبرئ إلى
الله منه لمكانها. ولعل أكثر من يرمى بسقطة في رواية أو غمز في حكاية
محمى جانب الصدق فيها برئ عند ذكره9 من تبعتها؛ لكن أخذت عليه، إما
لاعتنان شبهة عرضت له أو لمن أخذ عنه، وإما لأن ثالبه ومتعيبه مقصر عن
مغزاه، مغضوض
__________
1 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "خطب" وحطب: جمع.
2 سقط في ش.
3 في ش: "وصفا".
4 كذا في ش، وفي د، هـ، ز، ط: "المحكيات".
5 كذا في ش، وفي ط: "للثقة به". وفي د، هـ، ز: "للتنزيه".
6 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "يمتحن".
7 كذا في ط، وفي ش: "فلم" وفي د، هـ، ز: "فلا".
8 في ط: "من".
9 ثبت في ط.
(3/315)
الطرف دون مداه. وقد تعرض الشبه للفريقين
"وتعترض على كلتا الطريقتين"1. فلولا أن هذا العلم في نفوس أهله،
والمتفيئين بظله، كريم الطرفين، جدد2 السمتين، لما تسابوا بالهجنة فيه،
ولا تنابزوا بالألقاب في تحصين فروجه ونواحيه، ليطووا ثوبه على أعدل
غروره3 ومطاويه.
نعم، وإذا كانت هذه المناقضات4 والمثقافات5 موجودة بين السلف القديم،
ومن باء فيه بالمنصب والشرف العميم، ممن هم سرج الأنام، والمؤتم بهديهم
في الحلال، والحرام ثم لم يكن ذلك قادحا فيما تنازعوا فيه، ولا غاضا
منه، ولا عائدا بطرف من أطراف التبعة عليه، جاز مثل ذلك أيضا في علم
العرب، الذي لا يخلص جميعه للدين خلوص الكلام والفقه له: ولا يكاد يعدم
أهله الأنق به، والارتياح لمحاسنه. ولله أبو العباس أحمد بن يحيى،
وتقدمه في نفوس أصحاب الحديث ثقةً وأمانة، وعصمة وحصانة. وهم عيار هذا
الشان، وأساس هذا البنيان.
وهذا أبو علي رحمه الله، كأنه بعد معنا، ولم تبن به الحال عنا، كان من
تحو به وتأنيه6، وتحرجه كثير التوقف فيما يحكيه، دائم الاستظهار لإيراد
ما يرويه. فكان تارة يقول، أنشدت لجرير فيما أحسب، وأخرى: قال لي أبو
بكر7 فيما أظن، وأخرى8: في غالب ظني كذا، وأرى أني قد سمعت كذا.
هذا جزء من جملة، وغصن من دوحة، وقطرة من بحر، مما يقال في هذا الأمر.
وإنما أنسنا بذكره، ووكلنا الحال فيه، إلى تحقيق ما يضاهيه.
__________
1 كذا في د، هـ، ز. وفي ط: "الطائفتين" في مكان: "الطريقتين". وسقط ما
بين القوسين في ش.
2 كذا في ش، ط، وفي د، هـ، ز: "حدد" "وجدد السمتين: مستويهما، من الحدد
للأرض المستوية، والسمت: الطريق وهيئة أهل الخير.
3 جمع غر -بفتح الغين- وغرور الثوب: سكاسره أي حيث يتئتي وينكسر.
4 كذا في ش، وفي ط: "المنافمات".
5 أي المخاصمات: وهو من قولهم: ثاقب الرجل: غالبه في الثقف وهو الحذق
والفطنة.
6 كذا في ش، وفي ط: "تأبيه".
7 يريد ابن السراج.
8 في ط: "أخبرني".
(3/316)
|