المقتضب

 (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)

(هَذَا بَاب إِعْرَاب الْأَفْعَال المضارعة وَكَيف صَار الْإِعْرَاب فِيهَا دون سَائِر الْأَفْعَال؟)
علم أَن الْأَفْعَال إِنَّمَا دَخلهَا الْإِعْرَاب لمضارعتها الْأَسْمَاء وَلَوْلَا ذَلِك لم يجب أَن يعرب مِنْهَا شَيْء وَذَلِكَ أَن الْأَسْمَاء هِيَ المعربة وَمَا كَانَ غير الْأَسْمَاء فمآله لَهَا وَهِي الْأَفْعَال والحروف وَإِنَّمَا ضارع الْأَسْمَاء من الْأَفْعَال مَا دخلت عَلَيْهِ زَائِدَة من الزَّوَائِد الْأَرْبَع الَّتِي توجب الْفِعْل غير ماضي وَلكنه يصلح لوقتين لما أَنْت فِيهِ وَلما لم يَقع والزوائد الْألف وَهِي عَلامَة الْمُتَكَلّم وحقها أَن يُقَال همزَة وَالْيَاء وَهِي عَلامَة الْغَائِب وَالتَّاء وَهِي عَلامَة الْمُخَاطب وعلامة الْأُنْثَى الغائبة وَالنُّون وَهِي للمتكلم إِذا كَانَ مَعَه غَيره وَذَلِكَ قَوْلك أفعل أَنا وَتفعل أَنْت أَو هِيَ ونفعل نَحن وَيفْعل هُوَ وَإِنَّمَا قيل لَهَا مضارعة لِأَنَّهَا تقع مواقع الْأَسْمَاء فِي الْمَعْنى تَقول زيد يقوم وَزيد قَائِم فَيكون الْمَعْنى فيهمَا واحداَ كَمَا قَالَ عز وَجل {وَإِن رَبك ليحكم بَينهم} أَي الْحَاكِم

(2/1)


وَتقول زيد يَأْكُل فيصلح أَن يكون فِي حَال أكل وَأَن يَأْكُل فِيمَا يسْتَقْبل كَمَا تَقول زيد آكل أَي فِي حَال أكل وَزيد آكل غَدا وتلحقها الزَّوَائِد لِمَعْنى كَمَا تلْحق الْأَسْمَاء الْألف وَاللَّام للتعريف وَذَلِكَ قَوْلك سيفعل وسوف يفعل وتلحقها اللَّام فِي (إِن زيدا ليفعل) ُ فِي مَعْنَاهُ لفاعل فالأفعال ثَلَاثَة أَصْنَاف مِنْهَا هَذَا الْمُضَارع الَّذِي ذَكرْنَاهُ و (َفعَلَ) وَمَا كَانَ لمعناه لما مضى وقولك (أفعلْ) فِي الْأَمر وَهَذَانِ الصنفان لَا يقعان فِي مَعَاني الْأَسْمَاء وَلَا تلحقهما الزَّوَائِد كَمَا تلْحق الْأَسْمَاء فَأَما مَا كَانَ من ذَلِك على (فعَلَ) قلت حُرُوفه أَو كثرت إِذا أحَاط بِهِ معنى (فَعَلَ) نَحْو ضرب وَعلم وكرم وَحمد ودحرج وَانْطَلق واقتدر وكلم واستخرج واغدودن واعلوط وَقَاتل وتقاتل وكل مَا كَانَ فِي هَذَا الْمَعْنى وَكَذَلِكَ أَن بنيته بِنَاء مَا لم يسم فَاعله نَحْو ضرب ودحرج واستخرج فَهَذَا كُله مَبْنِيّ على الْفَتْح وَكَانَ حق كل مبْنى أَن يسكن آخِره فحرك آخر هَذَا لمضارعته المعربة وَذَلِكَ أَنه ينعَت بِهِ كَمَا ينعَت بهَا تَقول جَاءَنِي رجل ضربنا كَمَا تَقول هَذَا رجل يضربنا وضاربنا وَتَقَع موقع المضارعة فِي الْجَزَاء فِي قَوْلك إِن فعلت فعلتُ فَالْمَعْنى إِن تفعل أفعل فَلم يسكنوها

(2/2)


كَمَا لم يسكنوا من الْأَسْمَاء مَا ضارع المتمكن وَلَا مَا جعل من المتمكن فِي مَوضِع بِمَنْزِلَة غير المتمكن فالمضارع من الْأَسْمَاء من عل يَا فَتى لم يسكنوا اللَّام لِأَنَّهُ فِي النكرَة من عل يَا فَتى والمتمكن الَّذِي جعل فِي مَوضِع بِمَنْزِلَة غير المتمكن قَوْلهم إبدأ بِهَذَا أَولا وَيَا حكم وَأما الْأَفْعَال الَّتِي تقع لِلْأَمْرِ فَلَا تضارع المتمكن لِأَنَّهَا لَا تقع موقع الْمُضَارع وَلَا ينعَت بهَا فَلذَلِك سكن آخرهَا فَإِن قَالَ قَائِل هِيَ معربة مجزومة لِأَن مَعْنَاهَا الْأَمر أَلا ترى أَن قَوْلك أضْرب بِمَنْزِلَة قَوْلك ليضْرب زيد فِي الْأَمر فَقَوله ذَلِك يبطل من وُجُوه مِنْهَا قَوْلك صه ومه وقدك فِي مَوضِع الْأَمر وَكَذَلِكَ حذار ونزال وَنَحْوهمَا فقد يَقع الشَّيْء فِي معنى الشَّيْء وَلَيْسَ من جنسه وَمن الدَّلِيل على فَسَاد قَوْله أَن هَذِه الْأَفْعَال المضارعة فِي الْأَعْرَاب كالأسماء المتمكنة والأسماء إِذا دخلت عَلَيْهَا العوامل لم تغير أبنيتها إِنَّمَا تحدث فِيهَا الْأَعْرَاب وَكَذَلِكَ هَذِه الْأَفْعَال تلحقها العوامل فَتحدث لَهَا الْإِعْرَاب بالزوائد الَّتِي لحقتها وَهِي التَّاء والهمزة وَالنُّون وَالْيَاء اللواتي فِي يفعل وَتفعل ونفعل وأفعل

(2/3)


فَإِذا قلت (افعلْ) فِي الْأَمر لم تلحقها عَاملا وَلم تقررها على لَفظهَا أَلا ترى أَن الجوازم إِذا لحقتها لم تغير اللَّفْظ نَحْو قَوْلك لم يضْرب زيد وَإِن تذْهب أذهب وَكَذَلِكَ ليذْهب زيد وَلَا يذهب عبد الله فَإِنَّمَا يلْحقهَا الْعَامِل وحروف المضارعة فِيهَا وَأَنت إِذا قلت اذهبْ فَلَيْسَ فِيهَا عَامل وَلَا فِيهَا شَيْء من حُرُوف المضارعة فَإِن قَالَ قَائِل الْإِضْمَار يعْمل فِيهَا قيل هَذَا فَاسد من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الْفِعْل لَا يعْمل فِيهِ الْإِضْمَار إِلَّا أَن يعوض من الْعَامِل وَالثَّانِي أَنه لَو كَانَ ينجزم بجازم مُضْمر لَكَانَ حرف المضارعة فِيهِ الَّذِي بِهِ يجب الْإِعْرَاب لِأَن الْمُضمر كَالظَّاهِرِ أَلا ترى لَو أَنَّك أردْت إِضْمَار لم وَكَانَ هَذَا مِمَّا يجوز من قَوْلك لم يضْرب فحذفت لم لبقيت يضْرب على لَفظهَا وَمَعَهَا لم فَإِن قَالَ قَائِل فَلم بناه على مِقْدَار المضارعة نَحْو اضْرِب وَانْطَلق فقد كسرت كَمَا تَقول بِضَرْب وينطلق وَكَذَلِكَ أقتل كَمَا تَقول يقتل قيل إِنَّمَا لحقت هَذِه البنية لِأَنَّهُ لما لم يَقع وَكَذَلِكَ صُورَة مَا لم يَقع فَهَذَا احتجاج مغن وَفِيه مَا هُوَ أَكثر من هَذَا

(2/4)


(هَذَا بَاب تَجْرِيد إِعْرَاب الْأَفْعَال)
اعْلَم أَن هَذِه الْأَفْعَال المضارعة ترْتَفع بوقوعها مواقع الْأَسْمَاء مَرْفُوعَة كَانَت الْأَسْمَاء أَو مَنْصُوبَة أَو مخفوضة فوقوعها مواقع الْأَسْمَاء هُوَ الَّذِي يرفعها وَلَا تنتصب إِذا كَانَت الْأَسْمَاء فِي مَوضِع نصب وَلَا تنخفض على كل حَال وَإِن كَانَت الْأَسْمَاء فِي مَوضِع خفض فلهَا الرّفْع لِأَن مَا يعْمل فِي الِاسْم لَا يعْمل فِي الْفِعْل فَهِيَ مَرْفُوعَة لما ذكرت لَك حَتَّى يدْخل عَلَيْهَا مَا ينصبها أَو يجزمها وَتلك عوامل لَهَا خَاصَّة لَا تدخل على الْأَسْمَاء كَمَا لَا تدخل عوامل الْأَسْمَاء عَلَيْهَا فَكل على حياله فَأَما مَا كَانَ مِنْهَا فِي مَوضِع رفع فقولك يقوم زيد يقوم فِي مَوضِع الْمُبْتَدَأ وَكَذَلِكَ زيد يقوم وَيقوم فِي مَوضِع الْخَبَر وَإِن زيدا يقوم يقوم فِي مَوضِع خير إِن وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي مَوضِع الْمَنْصُوب فنحو كَانَ زيد يقوم يَا فَتى وظننت زيدا يقوم وَمَا كَانَ فِي مَوضِع الْمَجْرُور فنحو مَرَرْت بِرَجُل يقوم ومررت بِرَجُل يقوم أَبوهُ فَإِذا أدخلت على هَذِه الْأَفْعَال السِّين أَو سَوف فقد منعتها بهَا من كل عَامل وسيأتيك هَذَا مُبينًا فِي هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله

(2/5)


(هَذَا بَاب الْحُرُوف الَّتِي تنصب الْأَفْعَال)
فَمن هَذِه الْحُرُوف أَن وَهِي وَالْفِعْل بِمَنْزِلَة مصدره إِلَّا أَنه مصدر لَا يَقع فِي الْحَال - إِنَّمَا يكون لما لم يَقع أَن وَقعت على الْمُضَارع وَلما مضى أَن وَقعت على ماضي فَأَما وُقُوعهَا على الْمُضَارع فنحو يسرني أَن تقوم الْمَعْنى يسرني قيامك لِأَن الْقيام لم يَقع والماضي يسرني أَن قُمْت فَأن هِيَ أمكن الْحُرُوف فِي نصب الْأَفْعَال وَكَانَ الْخَلِيل يَقُول لَا ينْتَصب فعل الْبَتَّةَ إِلَّا بِأَن مضمرة أَو مظهرة وَلَيْسَ القَوْل كَمَا قَالَ لما نذكرهُ إِن شَاءَ الله وَمن هَذِه الْحُرُوف لن وَهِي نفي قَوْلك سيفعل تَقول لن يقوم زيد وَلنْ يذهب عبد الله وَلَا تتصل بالقسم كَمَا لم يتَّصل بِهِ سيفعل وَمن هَذِه الْحُرُوف كي تَقول جِئْت كي تكرمني وكي يَسُرك زيد وَمِنْهَا إِذن تَقول إِذن يَضْرِبك زيد فَهَذِهِ تعْمل فِي الْأَفْعَال عمل عوامل الْأَسْمَاء فِي الْأَسْمَاء إِذا قلت ضربت زيدا وأشتم عمرا - وَأعلم أَن هَا هُنَا حروفا تنتصب بعْدهَا الْأَفْعَال وَلَيْسَت الناصبة وَإِنَّمَا أَن بعْدهَا مضمرة فالفعل منتصب ب أَن وَهَذِه الْحُرُوف عوض مِنْهَا ودالة عَلَيْهَا

(2/6)


فَمن هَذِه الْحُرُوف الْفَاء وَالْوَاو وأو وَحَتَّى وَاللَّام الْمَكْسُورَة _ فَأَما اللَّام فلهَا موضعان أَحدهمَا نفي وَالْآخر إِيجَاب وَذَلِكَ قَوْله جئْتُك لأكرمك وَقَوله عز وَجل {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} فَهَذَا مَوضِع الْإِيجَاب وَمَوْضِع النَّفْي مَا كَانَ زيد ليقوم وَكَذَلِكَ قَوْله تبَارك وَتَعَالَى {مَا كَانَ الله ليذر الْمُؤمنِينَ} (وَمَا كانَ اللهُ لِيُعَذِبّهُمْ وأنتَ فِيهِم} فَأن بعد هَذِه اللَّام مضمرة وَذَلِكَ لِأَن اللَّام من عوامل الْأَسْمَاء وعوامل الْأَسْمَاء لَا تعْمل فِي الْأَفْعَال فَأن بعْدهَا مضمرة فَإِذا أضمرت أَن نصبت بهَا الْفِعْل وَدخلت عَلَيْهَا اللَّام لِأَن أَن وَالْفِعْل أسم وَاحِد كَمَا أَنَّهَا وَالْفِعْل مصدر فَالْمَعْنى جِئْت لِأَن أكرمك أَي جِئْت لإكرامك كَقَوْلِك جِئْت لزيد فَإِن قلت مَا كنت لأضربك فَمَعْنَاه مَا كنت لهَذَا الْفِعْل _ وَأما الْفَاء وأو ففيهما معَان تفسر على حيالها بعد فراغنا من هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله وَكَذَا حَتَّى وَإِذن وَكَانَ الْخَلِيل يَقُول إنَّ أنْ بعد إِذن مضمرة

(2/7)


وَكَذَلِكَ لن وَإِنَّمَا هِيَ لَا أَن وَلَكِنَّك حذفت الْألف من لَا والهمزة من أَن وجعلتهما حرفا وَاحِدًا وَلَيْسَ القَوْل عِنْدِي كَمَا قَالَ وَذَلِكَ قَالَ الْخَلِيل لفسد هَذَا الْكَلَام لِأَن زيدا كَانَ ينْتَصب بِمَا فِي صلَة أَن وَلَكِن لن حرف بِمَنْزِلَة أَن

(2/8)


وَأما كي فَفِيهَا قَولَانِ أما من أَدخل اللَّام فَقَالَ لكَي تقوم يَا فَتى فَهِيَ عِنْده وَالْفِعْل مصدر كَمَا كَانَ ذَلِك فِي أَن وَأما من لم يدْخل عَلَيْهَا اللَّام فَقَالَ كيمه كَمَا تَقول لمه وَأَن عِنْده بعْدهَا مضمرة لِأَنَّهَا من عوامل الْأَسْمَاء كاللام

(2/9)


(هَذَا بَاب إِذن)
أعلم أَن إِذن فِي عوامل الْأَفْعَال كظننت فِي عوامل الْأَسْمَاء لِأَنَّهَا تعْمل وتلغى كظننت أَلا ترى أَنَّك تَقول ظَنَنْت زيدا قَائِما وَزيد ظَنَنْت قَائِم إِذا أردْت زيد قَائِم فِي ظَنِّي وَكَذَلِكَ إِذن إِذا أعْتَمد الْكَلَام عَلَيْهَا نصب بهَا وَإِذا كَانَت بَين كلامين أَحدهمَا فِي الآخر عَامل أُلغيت وَلَا يجوز أَن تعْمل فِي هَذَا الْموضع كَمَا تعْمل ظَنَنْت إِذا قلت زيدا ظَنَنْت قَائِما لِأَن عوامل الْأَفْعَال لَا يجوز فِيهَا التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير لِأَنَّهَا لَا تتصرف فَأَما الْموضع الَّذِي تكون فِيهِ مبتدأه وَذَلِكَ قَوْلك إِذا قَالَ لَك قَائِل أَنا أكرمك قلت إِذن أجزيك وَكَذَلِكَ إِن قَالَ انْطلق زيد قلت إِذن ينْطَلق عَمْرو وَمثله قَول الضبيّ
(اُردُدْ حِماركَ لَا تُنْزَعْ سَوِيَّتُهُ ... إِذن يُرَدَّ وقَيدُ العيْرِ مكروبُ)

(2/10)


والموضع الَّذِي لَا تكون فِيهِ عاملة الْبَتَّةَ قَوْلك إِن تأتنى إِذن آتِك لِأَنَّهَا دَاخِلَة بَين عَامل ومعمول فِيهِ وَكَذَلِكَ أَنا إِذن أكرمك وَكَذَلِكَ أَن كَانَت فِي الْقسم بَين الْمقسم بِهِ والمقسم عَلَيْهِ نَحْو قَوْلك وَالله إِذن لَا أكرمك لِأَن الْكَلَام مُعْتَمد على الْقسم فَإِن قدمتها كَانَ الْكَلَام مُعْتَمد عَلَيْهَا فَكَانَ الْقسم لَغوا نَحْو إِذن وَالله أضربك لِأَنَّك تُرِيدُ إِذن أضربك وَالله فَالَّذِي تلغيه لَا يكون مقدما إِنَّمَا يكون فِي أَضْعَاف الْكَلَام أَلا ترى إِنَّك لَا تَقول ظَنَنْت زيد منطلق لِأَنَّك إِذا قدمت الظَّن فَإِنَّمَا تبني كلامك على الشَّك وَإِنَّمَا جَازَ أَن تفصل بالقسم بَين إِذن وَمَا عملت فِيهِ من بَين سَائِر حُرُوف الْأَفْعَال لتصرفها وَأَنَّهَا تسْتَعْمل وتلغى وَتدْخل للابتداء وَلذَلِك شبهت بظننت من عوامل الْأَسْمَاء _ وَأعلم أَنَّهَا إِذا وَقعت بعد وَاو أَو فَاء صلح الإعمال فِيهَا والإلغاء لما أذكرهُ لَك وَذَلِكَ قَوْلك إِن تأتني آتِك وَإِذن أكرمك أَن شِئْت رفعت وَإِن شِئْت نصيب وَإِن شِئْت جزمت

(2/11)


أما الْجَزْم فعلى الْعَطف على آتِك وإلغاء إِذن وَالنّصب على إِعْمَال إِذن وَالرَّفْع على قَوْلك وَأَنا أكرمك ثمَّ أدخلت إِذن بَين الِابْتِدَاء وَالْفِعْل فَلم تعْمل شَيْئا وَهَذِه الْآيَة فِي مصحف ابْن مَسْعُود {وَإذَنْ لاَ يَلبَثوا خَلفَكَ} الْفِعْل فِيهَا مَنْصُوب بِإِذن وَالتَّقْدِير وَالله أعلم الِاتِّصَال بِإِذن وَإِن رفع فعلى أَن الثَّانِي مَحْمُول على الأول كَمَا قَالَ الله عز وَجل {فَإِذا لَا يُؤْتونَ النَّاس نقيرا} أَي فهم إِذن كَذَلِك فالفاء وَالْوَاو يصلح بعدهمَا هَذَا الْإِضْمَار على مَا وصفت لَك من التَّقْدِير وان تَنْقَطِع إِذن بعْدهَا مِمَّا قبلهمَا ثمَّ يدخلَانِ للْعَطْف بعد أَن عملت إِذن وَنَظِير ذَلِك قَوْلك إِن تعطني أشكرك وَإِذن أَدْعُو الله لَك كَأَنَّهُ قَالَ إِذن أَدْعُو الله لَك ثمَّ عطف هَذِه الْجُمْلَة على مَا قبلهَا لِأَن الَّذِي قبلهَا كَلَام مستغن

(2/12)


وَقد يجوز أَن تَقول إِذن أكرمك إِذا أخْبرت أَنَّك فِي حَال إكرام لِأَنَّهَا إِذا كَانَت للْحَال خرجت من حُرُوف النصب لإن حُرُوف النصب إِنَّمَا معناهنَّ مَا لم يَقع فَهَذِهِ حَال إِذن إِلَى أَن نفرد بَابا لمسائلها إِن شَاءَ الله

(2/13)


(هَذَا بَاب الْفَاء وَمَا يتنصب بعْدهَا وَمَا يكون مَعْطُوفًا بهَا على مَا قبله)
أعلم أَن الْفَاء عاطفة فِي الْفِعْل كَمَا تعطف فِي الْأَسْمَاء تَقول أَنْت تَأتِينِي فتكرمني وَأَنا أزورك فَأحْسن إِلَيْك كَمَا تَقول أَنا آتِيك ثمَّ أكرمك وَأَنا أزورك وَأحسن إِلَيْك هَذَا إِذا كَانَ الثَّانِي دَاخِلا فِيمَا يدْخل فِيهِ الأول كَمَا تكون الْأَسْمَاء فِي قَوْلك رَأَيْت زيدا فعمرا وأتيت الْكُوفَة فالبصرة فَإِن خَالف الأول الثَّانِي لم يجز أَن يحمل عَلَيْهِ فَحمل الأول على مَعْنَاهُ فانتصب الثَّانِي بإضمار إِن وَذَلِكَ قَوْلك مَا تَأتِينِي فتكرمني وَمَا أزورك فتحدثني إِن أَرَادَ مَا أزورك وَمَا تُحَدِّثنِي كَانَ الرّفْع لاغير لِأَن الثَّانِي مَعْطُوف على الأول وَإِن أَرَادَ مَا أزورك فَكيف تُحَدِّثنِي وَمَا أزورك إِلَّا لم تُحَدِّثنِي على معنى كلما زرتك لم تُحَدِّثنِي كَانَ النصب لِأَن الثَّانِي على خلاف الأول وتمثيل نَصبه أَن يكون الْمَعْنى مَا تكون مني زِيَارَة فَيكون حَدِيث مِنْك فَلَمَّا ذهبت بِالْأولِ إِلَى الِاسْم أضمرت أَن إِذْ كنت قد عطفت اسْما على اسْم لِأَن أَن وَمَا عملت فِيهِ اسْم فَالْمَعْنى لم تكن زِيَارَة فإكرام وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ غير وَاجِب وَهُوَ الْأَمر وَالنَّهْي والاستفهام فَالْأَمْر ائْتِنِي فأكرمك وزرني فأعطيك كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(يَا ناقُ سيري عَنَقاً فَسيحاَ ... إِلَى سُليْمانَ فَتَسْتَريحا)

(2/14)


وَالنَّهْي مثل لَا تَأتِينِي فأكرمك كَقَوْلِه عز وَجل {لَا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بِعَذَاب} وَكَقَوْلِه عز وَجل {وَلَا تطغوا فِيهِ فَيحل عَلَيْكُم غَضَبي} والاستفهام أتأتيني فأعطيك لِأَنَّهُ أستفهم عَن الْإِتْيَان وَلم يستفهم عَن الْإِعْطَاء وَإِنَّمَا يكون إِضْمَار أَن إِذا خَالف الأول الثَّانِي لَو قلت لَا تقم فَتضْرب زيدا لجزمت إِذا أردْت لَا تقم وَلَا تضرب زيدا فَإِذا أردْت لَا تقم فَتضْرب زيدا إِي فَإنَّك إِن قُمْت ضَربته لم يكن إِلَّا النصب لِأَنَّك لم ترد ب تضرب النَّهْي فَصَارَ الْمَعْنى لَا يكن مِنْك قيام فَيكون مِنْك ضرب لزيد وَذَلِكَ أتأتيني فأكرمك الْمَعْنى أَيكُون هَذَا مِنْك فَإِنَّهُ مَتى كَانَ مِنْك كَانَ مني إكرام

(2/15)


(هَذَا بَاب مسَائِل هَذَا الْبَاب وَمَا يكون فِيهِ مَعْطُوفًا أَو مُبْتَدأ مَرْفُوعا وَمَا لَا يجوز فِيهِ إِلَّا النصب إِلَّا أَن يضْطَر شَاعِر)
تَقول مَا تَأتِينِي فتحدثني فالنصب يشْتَمل على مَعْنيين يجمعهما أَن الثَّانِي مُخَالف للْأولِ فأحد الْمَعْنيين مَا تَأتِينِي إِلَّا لم تُحَدِّثنِي أَي قد يكون مِنْك إتْيَان وَلَكِن لست تُحَدِّثنِي وَالْمعْنَى الثَّانِي لَا يكون مِنْك إتْيَان وَلَا حَدِيث فاعتباره مَا تَأتِينِي مُحدثا وَكلما أتيتني لم تُحَدِّثنِي وَالْوَجْه الآخر مَا تَأتِينِي فَكيف تُحَدِّثنِي أَي لَو أتيتني لحدثتني وَأما الرّفْع فعلى وَجْهَيْن أَحدهمَا مَا تَأتِينِي وَمَا تُحَدِّثنِي وَالْآخر شريك للْأولِ دَاخل مَعَه فِي النَّفْي

(2/16)


وَالْوَجْه الثَّانِي أَن تَقول مَا تَأتِينِي فتحدثني أَي مَا تَأتِينِي وَأَنت تُحَدِّثنِي وتكرمني وَكَذَلِكَ مَا تُعْطِينِي فأشكرك أَي مَا تُعْطِينِي وَأَنا أشكرك على حَال وَمثل ذَلِك فِي الْجَزْم ألم أعطك فتشكرني جزم تشكرني بلم ودخلا مَعًا فِي الِاسْتِفْهَام وَالرَّفْع على قَوْلك فَأَنت تشكرني وَلَو قلت مَا أَنْت بصاحبي فأكرمك لَكَانَ النصب على قَوْلك فَكيف أكرمك وَلم يجز الرّفْع على الشّركَة لِأَن الأول اسْم فَلَا يُشْرك الْفِعْل مَعَه وَلَكِن لَو حَملته على فَأَنا أكرمك على حَال ثمَّ تعطف جملَة على جملَة لجَاز وعَلى هَذَا قَوْله
(فَمَا أنتَ مِنْ قَيْسٍ فَتَنْبَحَ دُونها ... وَلَا مِنْ تَميمِ فِي الرءُوسِ الأعاظِمِ)
وَلَو رفع على أَنْت تنبَحُ على حَال جَازَ

(2/17)


وَأما قَول الله عز وَجل {لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُتوا} فَهُوَ على قَوْلك لَا تَأتِينِي فأعطيك أَي لَو أتيتني لأعطيتك وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي أحد الْوَجْهَيْنِ من قَوْلك مَا تَأتِينِي فتحدثني إِذا أردْت لَو أتيتني لحدثتني وَتقول كَأَنَّك لم تأتنا فتحدثنا إِذا أردْت الْوَجْه فِي قَوْلك مُحدثا وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي مَا تَأتِينِي فتحدثني أَي كلما أتيتني لم تُحَدِّثنِي فَهُوَ مَا تَأتِينِي مُحدثا أَي قد يكون مِنْك إتْيَان وَلَا حَدِيث كَمَا قَالَ
(كأنَّكَ لَمْ تذْبَحَ لأهلِكَ نَعْجَةً ... فيُصْبِحَ مُلْقى بالفِناءِ إهابُها)
وَأما قَوْله عز وَجل {فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} النصب هَا هُنَا محَال لِأَنَّهُ لم يَجْعَل فَيكون جَوَابا هَذَا خلاف الْمَعْنى لِأَنَّهُ لَيْسَ هَهُنَا شَرط إِنَّمَا الْمَعْنى فَإِنَّهُ يَقُول لَهُ كن فيكونُ وكُنْ حِكَايَة وَأما قَوْله عز وَجل {أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} فالنصب وَالرَّفْع فَأَما النصب فعلى أَن تَقول فيكونَ يَا فَتى وَالرَّفْع على هُوَ يَقُول فَيكون

(2/18)


وَأما قَول الشَّاعِر
(وَمَا أَنا للشيءِ الَّذِي ليسَ نافِعي ... ويَغضَبُ صَاحِبي بِقَؤولِ} فَإِن الرّفْع الْوَجْه لِأَن يغْضب فِي صلَة الَّذِي لِأَن مَعْنَاهُ الَّذِي يغْضب مِنْهُ صَاحِبي وَكَانَ سِيبَوَيْهٍ يقدم النصب ويثنى بِالرَّفْع وَلَيْسَ القَوْل عِنْدِي كَمَا قَالَ لِأَن الْمَعْنى الَّذِي يَصح عَلَيْهِ الْكَلَام إِنَّمَا يكون بِأَن يَقع يغْضب فِي الصِّلَة كَمَا ذكرت لَك وَمن أجَاز النصب فَإِنَّمَا يَجْعَل يغْضب مَعْطُوفًا على الشَّيْء وَذَلِكَ جَائِز وَلكنه بعيد وَإِنَّمَا جَازَ لِأَن الشَّيْء منعوت فَكَانَ تَقْدِيره وَمَا أَنا للشَّيْء الَّذِي هَذِه حَاله وَلِأَن يغْضب صَاحِبي وَهُوَ كَلَام مَحْمُول على مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَقُول الْغَضَب إِنَّمَا يَقُول مَا يُوجب الْغَضَب وَمثل هَذَا يجوز

(2/19)


تَقول إِنَّمَا جَاءَ بِهِ طَعَام زيد وَالْمعْنَى إِنَّمَا جِئْت من أَجله وَكَذَلِكَ قَوْلك إِنَّمَا شِفَاء زيد السَّيْف وَإِنَّمَا تحيته الشتم أَي هَذَا الَّذِي أَقَامَهُ مقَام التَّحِيَّة ومقام الشِّفَاء كَمَا قَالَ
(وخيْلٍ قَدَ دُلَفْتُ لَهَا بخيلٍ ... تحيّةُ بَينهُم ضرْبٌ وَجيعُ)
فَهَذَا كَلَام مَفْهُوم وَتَحْقِيق لَفظه مَا ذكرت لَك وَأما قَول الله عز وَجل {ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة} فَهَذَا هُوَ الْوَجْه لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَاب لِأَن الْمَعْنى فِي قَوْله {ألم تَرَ} إِنَّمَا هُوَ انتبه وَانْظُر أنزل الله من السَّمَاء مَاء فَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَيْسَ كَقَوْلِك ألم تأتِ زيدا فيكرمك لِأَن الْإِكْرَام يَقع بالإتيان وَلَيْسَ اخضرار الأَرْض وَاقعا من أجل رؤيتك وَكَذَلِكَ قَوْله عز وَجل {وَمَا يعلمَانِ من أحد حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفر فيتعلمون} لِأَنَّهُ لم يَجْعَل سَبَب تعليمهم قَوْله {لَا تكفر} كَمَا تَقول لَا تَأتِينِي فأضربك لِأَنَّهُ يَقُول إِنَّك إِن أتيتني ضربتك وَقَوله {فَلَا تكفر} حِكَايَة عَنْهُم وَقَوله {فيتعلمون} لَيْسَ مُتَّصِلا بِهِ وَلَو كَانَ كَذَلِك كَانَ لَا تكفر فَتَتَعَلَّمُ يَا فَتى وَلَكِن هُوَ مَحْمُول على قَوْله {يعلمُونَ النَّاس السحر} فيتعلمون مِنْهُم لَا يَصح الْمَعْنى إِلَّا على هَذَا أَو على الْقطع أَي مِنْهُم يتعلمون

(2/20)


وَأما قَول النَّابِغَة
(فَلَا زالَ قَبْرٌ بَيْنَ بُصرى وجاسِمٍ ... عليهِ منَ الوَسْمِيِّ سُحٌ ووابِلٌ)

(فَيُنْبِتُ حَوذانا وعَوفا مُنَوِّرا ... سأُتبِعُهُ مِنْ خَيْرِ مَا قالَ قائلُ)
فَإِن الرّفْع الْوَجْه لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَاب إِنَّمَا هُوَ فَذَاك يُنبت حوذانا وَلَو جعله جَوَابا لقَوْله
(فَلَا زالَ)
كَانَ وَجها جيدا وَتقول لَا تمددها فتشققها على الْعَطف فَإِن أردْت الْجَواب قلت فتشُّقها على مَا فسرت لَك وَتقول أَيْن بَيْتك فأزورك فَإِن أردْت أَن تَجْعَلهُ جَوَابا نصبت وَإِن أردْت أَن تجْعَل الزِّيَارَة وَاقعَة على حَال قلت أَيْن بَيْتك فَأَنا أزورك على حَال

(2/21)


وَتقول فِي الْجَزَاء من يأتني فيكرمني أعْطه لَا يكون إِلَّا ذَلِك لِأَن الْكَلَام مَعْطُوف على مَا قبله فَإِن قلت من يأتني آته فَأكْرمه كَانَ الْجَزْم الْوَجْه وَالرَّفْع جَائِز على الْقطع على قَوْلك فَأَنا أكْرمه وَيجوز النصب وَإِن كَانَ قبيحا لِأَن الأول لَيْسَ بِوَاجِب إِلَّا بِوُقُوع غَيره وَقد قرئَ هَذَا الْحَرْف على ثَلَاثَة اضْرِب {يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله فَيغْفر لمن يَشَاء} بِالْجَزْمِ وَالرَّفْع وَالنّصب وينشد هَذَا الْبَيْت رفعا ونصبا لِأَن الْجَزْم يكسر الشّعْر وَإِن كَانَ الْوَجْه وَهُوَ قَوْله
(ومنْ يَغْتَرِبْ عَنْ قومهِ لَا يَزَلْ يَرى ... مصارِعَ مَظلومٍ مَجَرَّا ومَسحَبا)

(وتُدْفَنْ مِنهُ الصالحاتُ وَإِن يُسِيءُ ... يكَنْ مَا أساءَ النارِ فِي رأسِ كَبْكَبَا)

(2/22)


وَالْوَاو الْفَاء فِي هَذَا سَوَاء فَأَما قَوْله
(فقلتُ لهُ قرّبْ وَلَا تَجْهدَنَّهُ ... فَيَذِرُكَ مِنْ أُخْرَى القطاةِ فَتَزْلَقَ)
فَإِنَّمَا هُوَ على الْعَطف فَدخل كُله فِي النَّفْي أَرَادَ وَلَا يدنك وَلَا تزلقّن وَتقول أَلا تأتني فتكرمني أقعد عَنْك فالجزم الْوَجْه فِي فتكرمني وَالنّصب يجوز من أجل النَّفْي لِأَن مَعْنَاهُ إِلَّا تأتني مكرما كَمَا قَالَ مَا تَأتِينِي فتحدثني أَي مَا تَأتِينِي مُحدثا وعَلى هَذَا ينشد هَذَا الْبَيْت
(ومنْ لَا يُقدِّم رِجْلَهُ مُطْمئنَّةً ... فَيُثبِتَها فِي مُستَوى الأرضِ يَزَلِقِ)
وَأعلم أَن الشَّاعِر إِذا اضْطر جَازَ لَهُ أَن ينصب فِي الْوَاجِب وَالنّصب فِي إِضْمَار أَن يذهب بِالْأولِ إِلَى الِاسْم على الْمَعْنى فَيَقُول أَنْت تَأتِينِي فتكرمني تُرِيدُ أَنْت يكون مِنْك إتْيَان فإكرام فَهَذَا لَا يجوز فِي الْكَلَام وَإِنَّمَا يجوز فِي الشّعْر للضَّرُورَة كَمَا يجوز صرف مَا لَا ينْصَرف وتضعيف مَا لَا يضعف فِي الْكَلَام قَالَ

(2/23)


(سأتركُ مَنزلي لبني تَميمٍ ... وألحقُ بالعراقٍ فأستَريحا)
وَقَالَ الشَّاعِر
(لنا هَضبَةٌ لَا يَنزِلُ الذلَّ وسطَها ... ويأوى إِلَيْهَا المُستَجيرُ فيُعصما)
هَذَا إنشاد بَعضهم وَهُوَ فِي الرداءة على مَا ذكرت لَك وَأَكْثَرهم ينشد
(لِيُعصَما)
وَهُوَ الْوَجْه الْجيد

(2/24)


(هَذَا بَاب الْوَاو)
أعلم أَن الْوَاو فِي الْخَبَر بِمَنْزِلَة الْفَاء وَكَذَلِكَ كل مَوضِع يعْطف فِيهِ مَا بعْدهَا على مَا قبلهَا فَيدْخل فِيمَا دخل فِيهِ وَذَلِكَ قَوْلك أَنْت تَأتِينِي وتكرمني وَأَنا أزورك وَأُعْطِيك وَلم آتِك وأكرمك وَهل يذهب زيد وَيَجِيء عَمْرو إِذا استفهمت عَنْهُمَا جَمِيعًا وَكَذَلِكَ إين يذهب عَمْرو وينطلق عبد الله وَلَا تضربن زيدا وتشتم عمرا لِأَن النَّهْي عَنْهُمَا جَمِيعًا فَإِن جعلت الثَّانِي جَوَابا فَلَيْسَ لَهُ فِي جَمِيع الْكَلَام إِلَّا معنى وَاحِد وَهُوَ الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ وَذَلِكَ قَوْلك لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن أَي لَا يكون مِنْك جمع بَين هذَيْن فَإِن نَهَاهُ عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا على حَال قَالَ لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن لِأَنَّهُ أَرَادَ لَا تَأْكُل السّمك على حَال وَلَا تشرب اللَّبن على حَال فتمثيله فِي الْوَجْه الأول لَا يكن مِنْك أكل للسمك وَأَن تشرب اللَّبن وعَلى هَذَا القَوْل لَا يسعني شَيْء ويعجز عَنْك لَا معنى للرفع فِي يعجز لِأَنَّهُ لَيْسَ يخبر

(2/25)


أَن الْأَشْيَاء كلهَا لَا تسعه وان الْأَشْيَاء كلهَا لَا تعجز عَنهُ كَمَا قَالَ
(لَا تَنهَ عَنْ خُلُقٍ وتأتيَ مِثلَهُ ... عارٌ عَليكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ)
أَي لَا يجْتَمع أَن تنْهى وَتَأْتِي مثله وَلَو جزم كَانَ الْمَعْنى فَاسِدا وَلَو قلت بِالْفَاءِ لَا يسعني شَيْء فيعجز عَنْك كَانَ جيدا لِأَن مَعْنَاهُ لَا يسعني شَيْء إِلَّا لم يعجز عَنْك وَلَا يسعني عَاجِزا عَنْك هَذَا تَمْثِيل هَذَا كَمَا قلت لَك فِي مَا تَأتِينِي فتحدثني أَي إِلَّا لم تُحَدِّثنِي وَمَا تَأتِينِي مُحدثا فَمَعْنَى الْوَاو الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ ونصبها على إِضْمَار أَن كَمَا كَانَ فِي الْفَاء وتنصب فِي كل مَوضِع تنصب فِيهِ الْفَاء أَلا ترى أَن قَوْلك زُرني وأزورك إِنَّمَا هُوَ لتكن مِنْك زِيَارَة وزيارة مني وَلَو أَرَادَ الْأَمر فِي الثَّانِي لقَالَ زرني ولأزرك حَتَّى يكون الْأَمر جَارِيا عَلَيْهِمَا والنحويون ينشدون هَذَا الْبَيْت على ضَرْبَيْنِ وَهُوَ قَول الشَّاعِر
(لقد كانَ فِي حَولٍ ثَواءٍ ثَويْتُه ... تُقضَّى لُباناتٌ ويُسْأمُ سائمُ)
فيرفع يسأم لِأَنَّهُ عطفه على فعل وَهُوَ تُقضى فَلَا يكون إِلَّا رفعا وَمن قَالَ تَقضِّي لُبانات قَالَ ويسأمَ سائمُ لِأَن تَقَضِّى اسْم فَلم يجز أَن تعطف عَلَيْهِ

(2/26)


فعلا فاضمر أَن ليجري الْمصدر على الْمصدر فَصَارَ تقضِّى لبانات وان يسأمَ سائم أَي وسآمة سائم وعَلى هَذَا ينشد هَذَا الْبَيْت
(لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقرَّ عَيني ... أحبُ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُفُوفِ)
أَي وَإِن تقر عَيْني فَأَما قَوْله
(ألمْ أكُ جارَكَم ويكونَ بيني ... وبينَكُمْ المَودّةُ والإخاءُ)
فَإِنَّهُ أَرَادَ ألم يجْتَمع كَون هَذَا مِنْكُم وَكَون هَذَا مني وَلَو أَرَادَ الْإِفْرَاد فيهمَا لم يكن إِلَّا مَجْزُومًا كَأَنَّهُ قَالَ ألم يكن بيني وَبَيْنكُم وَالْآيَة تقْرَأ على وَجْهَيْن {وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين} على مَا ذكرت لَك

(2/27)


(هَذَا بَاب أَو)
وَهِي تكون للْعَطْف فتجري مَا بعْدهَا على مَا قبلهَا كَمَا كَانَ ذَلِك فِي الِاسْم إِذا قلت ضربت زيدا أَو عمرا وَيكون مضمرا بعْدهَا أَن إِذا كَانَ الْمَعْنى إِلَّا أَن يكون وَحَتَّى يكون وَذَلِكَ قَوْلك أَنْت تضرب زيدا أَو تكرم عمرا على الْعَطف وَقَالَ الله عز وَجل {ستدعون إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد تقاتلونهم أَو يسلمُونَ} أَي يكون هَذَا أَو يكون هَذَا فَأَما الْموضع الَّذِي تنصب فِيهِ بإضمار أَن فقولك لألزَمَنّكَ أَو تُقضيني أَي إِلَّا أَن تقضيني وَحَتَّى تقضيني وَفِي مصحف أبيّ {تُقاتِلونَهُمْ أَو يُسْلِموا} على معنى إِلَّا أَن يسلمُوا وَحَتَّى يسلمُوا وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس
(فَقلت لَهُ لاتَبكِ عَينُكَ إِنَّمَا ... نُحاوِلُ مُلْكاً أَو نَموتَ فَنُعذرا)

(2/28)


أَي إِلَّا أَن نموت وَقَالَ زيدا الْأَعْجَم
(وكُنتُ إِذا غَمزتُ فتاةَ قومٍ ... كسرتُ كعوبَها أَو تستَقيما)
وَيُقَال أتجلس أَو تقوم يَا فَتى فَالْمَعْنى أَيكُون مِنْك وَاحِد من الْأَمريْنِ وَتقول هَل تكلمُنا أَو تنبسطُ إِلَيْنَا لَا معنى للنصب هَا هُنَا قَالَ الله عز وَجل {هَل يسمعونكم إِذْ تدعون أَو ينفعونكم أَو يضرون} فجملة هَذَا أَن كل مَوضِع تصلح فِيهِ حَتَّى وَإِلَّا أَن فالنصب فِيهِ جَائِز جيد إِذا أردْت هَذَا الْمَعْنى والعطف على مَا قبله مُسْتَعْمل فِي كل مَوضِع

(2/29)


(هَذَا بَاب أنْ)
اعْلَم أَن أنْ وَالْفِعْل بِمَنْزِلَة الْمصدر وَهِي تقع على الْأَفْعَال المضارعة فتنصبها وَهِي صلَاتهَا وَلَا تقع مَعَ الْفِعْل حَالا لِأَنَّهَا لما لَا يَقع فِي الْحَال وَلَكِن لما يسْتَقْبل فَإِن وَقعت على الْمَاضِي نَحْو سرني أَن قُمْت وساءني أَن خرجت كَانَ جيدا قَالَ الله عز وَجل {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي} أَي لِأَن كَانَ هَذَا فِيمَا مضى فَهَذَا كُله لَا يلْحق الْحَال لِأَن الْحَال لما أَنْت فِيهِ وَاعْلَم أَن هَذِه لَا تلْحق بعد كل فعل إِنَّمَا تلْحق إِذا كَانَت لما لم يَقع بعد مَا يكون توقعاً لَا يَقِينا لِأَن الْيَقِين ثَابت وَذَلِكَ قَوْلك ارجوا أَن تقوم يَا فَتى وأخاف أَن تذهبَ يَا فَتى كَمَا قَالَ عز وَجل {نخشى أَن تصيبنا دَائِرَة} وَلَو قلت أعلم أَن تقوم يَا فَتى لم يجز لِأَن هَذَا شَيْء ثَابت فِي علمك فَهَذَا من مَوَاضِع أَن الثَّقِيلَة نَحْو اعْلَم أَنَّك تقوم يَا فَتى

(2/30)


وَتقول أَظُنك أَنَّك ستقوم لِأَنَّهُ شَيْء قد اسْتَقر فِي ظَنك كَمَا اسْتَقر الآخر فِي علمك كَمَا قَالَ الله تبَارك اسْمه {الَّذين يظنون أَنهم ملاقو رَبهم} فَإِن قيل إنَّ يظنُّونَ هَا هُنَا يوقنون فَهَكَذَا هُوَ وَلكنهَا فِي الثَّبَات فِي الظَّن وَفِي أَعمالهَا على الْوَجْه الآخر إِلَّا أَنَّهَا إِذا أُرِيد بهَا الْعلم لم تكن إِلَّا مثقلة فَإِن أُرِيد بهَا الشَّك جَازَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا والتثقيل فِي الشَّك أَكثر اسْتِعْمَالا لثباته فِي الظَّن كثبات الْأُخْرَى فِي الْعلم فَأَما الْوَجْه الَّذِي يجوز فِيهِ الْخَفِيفَة فَإِنَّهُ متوقع غير ثَابت الْمعرفَة قَالَ الله عز وَجل {تظن أَن يفعل بهَا فاقرة} وَأما {إِن ظنا أَن يُقِيمَا حُدُود الله} وَقَوْلهمْ مَعْنَاهُ أيقنا فَإِنَّمَا هُوَ شَيْء متوقع الْأَغْلَب فِيهِ ذَا إِلَّا أَنه علم ثَابت أَلا ترَاهُ قَالَ {فظنوا أَنهم مواقعوها} لما كَانَ أيقنوا - وَاعْلَم أَن لَا إِذا دخلت على أنْ جَازَ أَن تُرِيدُ بأنْ الثَّقِيلَة وَأَن تُرِيدُ الْخَفِيفَة فَإِن أردْت الثَّقِيلَة رفعت مَا بعْدهَا لِأَنَّهُ لَا يحذف مِنْهَا التثقيل إِلَّا مَعَ الْإِضْمَار وَهَذَا يبين لَك فِي بَاب إنَّ وأنَّ وَإِنَّمَا تقع الْخَفِيفَة والثقيلة على مَا قبلهَا من الْأَفْعَال وَلَا يجوز الْإِضْمَار إِلَّا أَن تأتى بعوض والعوض لَا أَو السِّين أَو سَوف أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا يلْحق الْأَفْعَال فَأَما لَا وَحدهَا فَإِنَّهُ يجوز أَن تُرِيدُ ب أَن الَّتِي قبلهَا الْخَفِيفَة وتنصب مَا بعْدهَا لِأَن

(2/31)


لَا لَا تفصل بَين الْعَامِل الْمَعْمُول فِيهِ تَقول مَرَرْت بِرَجُل لَا قَائِم وَلَا قَاعد كَمَا تَقول مَرَرْت بِرَجُل قَائِم وقاعد وَذَلِكَ قَوْلك أَخَاف أَلا تذْهب يَا فَتى وأظن أَلا تقوم يَا فَتى كَمَا قَالَ {إِلَّا أنْ يَخافا أنْ لَا يُقيما حُدودَ اللهِ} وَفِي ظَنَنْت وبابها تكون الْخَفِيفَة والثقيلة كَمَا وصف لَك قَالَ الله عز وَجل {وَحَسِبوا أنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} {وانْ لَا يكونُ} فالرفع على أَنَّهَا لَا تكون فتْنَة وَكَذَلِكَ {أفَلا يَرَون أنْ لَا يَرجِعُ إليهِمْ قَولاً} أَي إِنَّه لَا يرجع إِلَيْهِم قولا {لَا يرَوْنَ} فِي الْمَعْنى يعلمُونَ فَهُوَ وَاقع ثَابت فَأَما السِّين وسوف فَلَا يكون قبلهَا إِلَّا المثقلة تَقول علمت أَن سيقومون وظننت أَن سيذهبون وان سَوف تقومون كَمَا قَالَ {عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنكُمْ مَرضى} وَلَا يجوز أَن تلغى من الْعَمَل كَمَا وصفت لَك وَلَا يجوز ذَلِك فِي السِّين وسوف لِأَنَّهُمَا لَا يلحقان على معنى لَا فَإِنَّمَا الْكَلَام بعد لَا على قدر الْفَصْل قَالَ {لِئلا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتَابِ أنْ لَا يَقدِرونَ} فَيعلم مَنْصُوبَة وَلَا يكون إِلَّا ذَلِك لِأَن لَا زَائِدَة وَإِنَّمَا هُوَ لِأَن يعلم وَقَوله {أنْ لَا يَقْدِرونَ} إِنَّمَا هُوَ أَنهم لَا يقدرُونَ وَهِي فِي بعض الْمَصَاحِف {أنَّهم لَا يقدرونَ}

(2/32)


(هَذَا بَاب الْفِعْل بعد أَن وَانْقِطَاع الآخر من الأول)
أعلم أَنَّك إِذا أرت بِالثَّانِي مَا أردْت بِالْأولِ من الإجراء على الْحَرْف لم يكن إِلَّا منسوقا عَلَيْهِ تَقول أُرِيد أَن تقوم فَتضْرب زيد وَأُرِيد أَن تَأتِينِي وتكرمني وَأُرِيد أَن تجْلِس ثمَّ تَتَحَدَّث يَا فَتى فَإِن كَانَ الثَّانِي خَارِجا عَن معنى الأول كَانَ مَقْطُوعًا مستأنفاً وَذَلِكَ قَوْلك أُرِيد أَن تَأتِينِي فتقعد عني وَأُرِيد أَن تكرم زيدا فتهينه فَالْمَعْنى أَنه لم يرد الإهانة إِنَّمَا أَرَادَ الْإِكْرَام فَكَأَنَّهُ فِي التَّمْثِيل أُرِيد أَن تكرم زيدا فَإِذا أَنْت تُهينه وَأُرِيد أَن تَأتِينِي فَإِذا أَنْت تقعد عني كَمَا قَالَ
(والشِعْرُ لَا يَضْبِطُهُ مِنْ يظلِمهُ ... )

(إِذا أرتقى فيهِ الَّذِي لَا يعْلَمُهُ ... )

(زَلّتْ بِهِ إِلَى الحَضيضِ قَدَمَهُ ... )

(يُريدُ أَن يُعرِبَهُ فَيُعجِمَهُ ... )

(2/33)


أَي فَإِذا هُوَ يعجمه أَي فَإِذا هُوَ هَذِه حَاله فعلى هَذَا يجْرِي فِي هَذَا الْبَاب وَلَو قَالَ قَائِل أُرِيد أَن تَأتِينِي وَأَنت تكرمني أَي أُرِيد أَن تَأتِينِي وَهَذِه حالك لجَاز وَتقول أُرِيد أَن تَتَكَلَّم بِخَير أَو تسكت يَا فَتى فالنصب على وَجْهَيْن أَحدهمَا أُرِيد ذَا أَو ذَا وَالْوَجْه الآخر أَن يكون حَتَّى تسكت كَمَا تَقول لَأَجْلِسَن مَعَك أَو تَنْصَرِف يَا فَتى على قَوْلك حَتَّى تَنْصَرِف فَأَما قَوْله عز وَجل {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب أَو يُرْسل رَسُولا} فَإِن النَّحْوِيين يَزْعمُونَ أَن الْكَلَام لَيْسَ مَحْمُولا على أَن يكلمهُ الله وَلَو كَانَ يُرْسل مَحْمُولا على ذَلِك لبطل الْمَعْنى لِأَنَّهُ كَانَ يكون مَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله أَو يُرْسل أَي مَا كَانَ لبشر أَن يُرْسل الله إِلَيْهِ رَسُولا فَهَذَا لَا يكون وَلَكِن الْمَعْنى وَالله أعلم مَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَي إِلَّا أَن يُوحى أَو يُرْسل فَهُوَ مَحْمُول على قَوْله وَحيا أَي إِلَّا وَحيا أَو إرْسَالًا وَأهل الْمَدِينَة يقرؤن أَو يُرْسل رَسُولا يُرِيدُونَ أَو هُوَ يُرْسل رَسُولا أَي فَهَذَا كَلَامه إيَّاهُم على مَا يُؤَدِّيه الْوَحْي وَالرَّسُول

(2/34)


وَأم قَوْله {لنبين لكم ونقر فِي الْأَرْحَام} على مَا قبله وتمثيله وَنحن نقر فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء وَأما قَوْله {وَلَا يَأْمُركُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَة} فَيقْرَأ رفعا ونصبا فَأَما النصب فعلى قَوْله {مَا كَانَ لبشر أَن يؤتيه الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة ثمَّ يَقُول للنَّاس} أَي مَا كَانَ لَهُ أَن يَقُول للنَّاس وَلَا أَن يَأْمُركُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَة وَمن قَرَأَ {يَأْمُركُمْ} فَإِنَّمَا أَرَادَ وَلَا يَأْمُركُمْ الله وقطعه من الأول فالمعنيان جَمِيعًا جيدان يرجعان إِلَى شَيْء وَاحِد إِذا حصلا وَلَو قَالَ قَائِل أُرِيد أَن تَأتِينِي ثمَّ تحسن إِلَيّ لَكَانَ مَعْنَاهُ أُرِيد إتيانك ثمَّ قد اسْتَقر عِنْدِي أَنَّك تحسن إِلَيّ أَي فَهَذَا مِنْك مَعْلُوم عِنْدِي وَالتَّقْدِير فِي الْعَرَبيَّة أُرِيد أَن تَأتِينِي ثمَّ أَنْت تحسن إِلَيّ - _ وَتقول أَمرته أَن يقوم يَا فَتى فَالْمَعْنى أَمرته بِأَن يقوم إِلَّا أَنَّك حذفت حرف الْخَفْض وحذفه مَعَ أَن جيد

(2/35)


وَإِن كَانَ الْمصدر على وَجهه جَازَ الْحَذف وَلم يكن كحسنه مَعَ أَن لِأَنَّهَا وصلتها اسْم فقد صَار الْحَرْف وَالْفِعْل وَالْفَاعِل اسْما وَإِن اتَّصل بِهِ شَيْء صَار مَعَه فِي الصِّلَة فَإِذا طَال الْكَلَام احْتمل الْحَذف فَأم الْمصدر غير أَن فنحو أَمرتك الْخَيْر يَا فَتى كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(أَمرتك الخيرَ فافعَلْ مَا أُمِرْتَ بهِ ... فقدْ تركتُكَ وَذَا مالٍ وَذَا ونَشَبِ)
فَهَذَا يصلح على الْمجَاز فَأَما أَن فَالْأَحْسَن مِنْهَا الْحَذف كَمَا قَالَ الله عز وَجل {وقّضى رَبُكَ أنْ لَا تَعبُدوا إِلَّا إيّاه} وَمعنى قضى هَا هُنَا أَمر وَأما قَوْله {وَأمرت لِأَن أكون} فَإِنَّمَا حمل الْفِعْل على الْمصدر فَالْمَعْنى وَالله اعْلَم أوقع إِلَى هَذَا الْأَمر لذا

(2/36)


وَهَذِه اللَّام تدخل على الْمَفْعُول فَلَا تغير مَعْنَاهُ لِأَنَّهَا لَام إِضَافَة وَالْفِعْل مَعهَا يجْرِي مجْرى مصدره كَمَا يجْرِي الْمصدر مجْرَاه فِي الرّفْع وَالنّصب لما بعده لِأَن الْمصدر اسْم الْفِعْل قَالَ الله عز وَجل {إِن كُنْتُم للرؤيا تعبرون} وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين فِي قَوْله {قل عَسى أَن يكون ردف لكم} مَعْنَاهُ رِدفَكُمْ وَتقول لزيد ضربت ولعمرو أكرمت إِذا قدمت الْمَفْعُول لتشغل اللَّام مَا وَقعت عَلَيْهِ فَإِن أَخَّرته فَالْأَحْسَن أَلا تدْخلهَا إِلَّا أَن يكون الْمَعْنى مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فَيكون حسنا وحذفه أحسن لِأَن جَمِيع الْقُرْآن عَلَيْهِ

(2/37)


(هَذَا بَاب حَتَّى)
اعْلَم أَن الْفِعْل ينصب بعْدهَا بإضمار أَن وَذَلِكَ لِأَن حَتَّى من عوامل الْأَسْمَاء الخافضة لَهَا تَقول ضربت الْقَوْم حَتَّى زيدٍ وَدخلت الْبِلَاد حَتَّى الكوفةِ وأكلتُ السمكةَ حَتَّى رأسِها أَي لم ابق مِنْهَا شَيْئا فعملها الْخَفْض وَتدْخل الثَّانِي فِيمَا دخل فِيهِ الأول من الْمَعْنى لِأَن مَعْنَاهَا إِذا خفضت كمعناها إِذا نسق بهَا فَلذَلِك خَالَفت إِلَى قَالَ الله عز وَجل {يسلامٌ هِيَ حتّى مَطلَعِ الفَجْرِ} فَإِذا وَقعت عوامل الْأَسْمَاء على الْأَفْعَال لم يستقم وَصلهَا بهَا إِلَّا على إِضْمَار أَن لِأَن أَن وَالْفِعْل اسْم مصدر فَتكون وَاقعَة على الْأَسْمَاء وَذَلِكَ قَوْلك أَنا أَسِير حَتَّى تمنعني وَأَنا اقف حَتَّى تطلع الشمسُ فَإِذا نصبت بهَا على مَا وصفت لَك كَانَ ذَلِك على أحد مَعْنيين على كي وعَلى إِلَى أَن لِأَن حَتَّى بِمَنْزِلَة إِلَى فإمَّا الَّتِي بِمَعْنى إِلَى أَن فقولك أَنا أَسِير حَتَّى تطلع الشَّمْس وَأَنا أَنَام حَتَّى يسمعَ الْأَذَان وَأما الْوَجْه الَّذِي تكون فِيهِ بِمَنْزِلَة كي فقولك أطع الله حَتَّى يُدخلك الْجنَّة وَأَنا أكلم زيدا حَتَّى يأمرَ لي بِشَيْء فَكل مَا اعتوره وَاحِد من هذَيْن الْمَعْنيين فالنصب لَهُ لَازم على مَا ذكرت لَك

(2/38)


وَاعْلَم أَن حَتَّى يرْتَفع الْفِعْل بعْدهَا وَهِي حَتَّى الَّتِي تقع فِي الِاسْم ناسقة نَحْو ضربت الْقَوْم حَتَّى زيدا ضَربته ومررت بالقوم حَتَّى زيد مَرَرْت بِهِ وَجَاءَنِي الْقَوْم حَتَّى زيدٌ جَاءَنِي وَقد مضى تَفْسِير هَذَا فِي بَاب الْأَسْمَاء فالتي تنسق ثمَّ هَا هُنَا كَمَا كَانَ ذَلِك فِي الْوَاو وَالْفَاء وَثمّ وَجَمِيع حُرُوف الْعَطف فالرفع يَقع بعْدهَا على وَجْهَيْن يرجعان إِلَى وَجه وَاحِد وَإِن اخْتلف موضعاهما وَذَلِكَ قَوْلك سرت حَتَّى أدخلها أَي كَانَ مني سير فدخول فَأَنت تخبر أَنَّك فِي حَال دُخُول اتَّصل بِهِ سيرك كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(فإنَّ المُندَّى رٍ حلةٌ فَرُكوبُ ... )

(2/39)


فَلَيْسَ فِي هَذَا معنى كي وَلَا إِلَى أَن إِنَّمَا خبرت بِأَن هَذَا كَذَا وَقع مِنْك وَالْوَجْه الْأُخَر أَن يكون السَّبَب مُتَقَدما غير مُتَّصِل بِمَا تخبر عَنهُ ثمَّ يكون مُؤديا إِلَى هَذَا كَقَوْلِك مرض حَتَّى لَا يرجونه أَي هُوَ الْآن كَذَاك فَهُوَ مُنْقَطع من الأول ووجوده إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَال كَمَا ذكرت لَك فِيمَا قبله فَذَلِك قولي يرجعان إِلَى شَيْء وَاحِد وَمثل ذَلِك مرض حَتَّى يمر بِهِ الطَّائِر فيرحمه أَي هُوَ الْآن كَذَاك فَمثل النصب قَوْله
(سَريْتُ بِهِمْ حتّى تكِلَّ مطِيّهُم ... وحتّى الجيادُ مَا يُقدْنَ بأرسانِ)
أَي إِلَى أَن وَمثل الرّفْع تَمام الْبَيْت وَهُوَ
(حَتَّى الجيادُ)
وَنَظِير الرّفْع فِي الْأَسْمَاء قَوْله

(2/40)


(فيا عجبا حتّى كُلِيبٌ تَسُبُني ... كأنَّ أَبَاهَا نَهْشَلٌ أَو مُجاشِعُ)
أَي وَحَتَّى كُلَيْب هَذِه حَالهَا كَمَا أَن نَظِير النصب ضربت الْقَوْم حَتَّى زيدٍ فِي الْأَسْمَاء لِأَن الْمَعْنى ضربت الْقَوْم حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى هَذَا الْموضع

(2/41)


(هَذَا بَاب مسَائِل حتّى فِي الْبَابَيْنِ النصب وَالرَّفْع)
تَقول سرت حَتَّى ادخلَها وتطلعَ الشمسُ إِذا أردْت معنى إِلَى أَن ادخلها فَإِن أردْت وَجه الرّفْع لم يجز فِي قَوْلك حَتَّى تطلع الشَّمْس لِأَن طُلُوع الشَّمْس لم يُؤده فعلك وَالصَّوَاب أَن تَقول إِذا أردْت الرّفْع سرت حَتَّى ادخلها وَحَتَّى تطلع الشَّمْس لِأَن الدُّخُول كَانَ بعلمك وطلوع الشَّمْس لَا يكون بعملك فَالْمَعْنى سرت حَتَّى أَنا فِي حَال دُخُول وَكَانَ ذَلِك السّير إِلَى أَن تطلع الشَّمْس وَتقول سرت حَتَّى تطلَع الشَّمْس وَحَتَّى أدخلُها وَإِن شِئْت ادخلَها وَلَو قلت مَا سرت حَتَّى ادخلها لم يجز لِأَنَّك لم تخبر بِشَيْء يكون مَعَه الدُّخُول فَإِن قلت أَقُول مَا سرت حَتَّى أدخلها أَي مَا سرت وَأَنا السَّاعَة أدخلها قيل لَيْسَ

(2/42)


هَذَا معنى حَتَّى إِنَّمَا مَعْنَاهَا أَن يتَّصل مَا بعْدهَا بِمَا قبلهَا كَمَا تَقول أكلتُ السَّمَكَة حَتَّى رأسَها فالرأس قد دخل فِي الْأكل لِأَن مَعْنَاهَا عاملة وَمَعْنَاهَا عاطفة وَاحِد وَإِن اخْتلف اللفظان وَأما قَوْله عز وَجل {وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول} فَإِنَّهَا تقْرَأ بِالنّصب وَالرَّفْع فالرفع على قَوْله فَإِذا الرَّسُول فِي حَال قَول وَالنّصب على معنى إِلَى أَن يَقُول الرَّسُول وَلَو قلت كَانَ سيري حَتَّى أدخلَها لم يجز إِلَّا النصب لِأَن حَتَّى فِي مَوضِع خبر كَأَنَّك قلت كَانَ سيري إِلَى هَذَا الْفِعْل وَلَو قلت كَانَ سيري سيرا متعبا حَتَّى أدخلُها جَازَ الرّفْع وَالنّصب لِأَن الْخَبَر قَوْلك سيرا متعبا وَكَذَلِكَ كَانَ سيري أمس حَتَّى ادخلَها إِن جعلت الْخَبَر حَتَّى وَمَا بعْدهَا لم يكن إِلَّا النصب وَإِن جعلت الْخَبَر فِي قَوْلك أمس كَانَ النصب وَالرَّفْع على مَا وصفت

(2/43)