المقتضب (هَذَا بَاب حُرُوف التَّضْعِيف فى
الْأَفْعَال والمعتلة من ذَوَات الْيَاء وَالْوَاو فى النونين)
اعْلَم أَنَّك تلزمهمن فى النونين مَا تلْزم الْأَفْعَال الصَّحِيحَة
من بِنَاء الْفِعْل على الْفَتْح، تَقول: ردن يَا زيد وَلَا تَقول
ارددن على قَول من قَالَ: (ارْدُدْ) ، لِأَن الدَّال الثَّانِيَة
تلزمها الْحَرَكَة على مَا ذكرت لَك وَكَذَلِكَ تَقول: الْقَيْن زيدا،
وَهل تغزون / عمرا، وارمين خَالِدا، فتلزم الْفِعْلَيْنِ مَا يلْزم
سَائِر الْأَفْعَال
(3/26)
(هَذَا بَاب (أما) و (إِمَّا))
أما الْمَفْتُوحَة فَإِن فِيهَا معنى المجازاة وَذَلِكَ قَوْلك: أما
زيد فَلهُ دِرْهَم، وَأما زيد فأعطه درهما فالتقدير: مهما يكن من شئ
فأعط زيدا درهما، فلزمت الْفَاء الْجَواب، لما فِيهِ من معنى الْجَزَاء
وَهُوَ كَلَام مَعْنَاهُ التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير أَلا ترى أَنَّك
تَقول: أما زيدا فَاضْرب، فَإِن قدمت الْفِعْل لم يجز، لِأَن (أما) فى
معنى: مهما يكن من شئ، فَهَذَا لَا يتَّصل بِهِ فعل، وَإِنَّمَا حد
الْفِعْل أَن يكون بعد الْفَاء وَلَكِنَّك تقدم الِاسْم، ليسد مسد
الْمَحْذُوف الذى هَذَا مَعْنَاهُ، وَيعْمل فِيهِ مَا بعده وَجُمْلَة
هَذَا الْبَاب: أَن الْكَلَام بعد (أما) على حَالَته قبل أَن تدخل
إِلَّا أَنه لَا بدمن الْفَاء، لِأَنَّهَا جَوَاب الْجَزَاء، أَلا
ترَاهُ قَالَ - عز وَجل - {وَأما ثَمُود فهديناهم} / كَقَوْلِك: ثَمُود
هديناهم وَمن رأى أَن يَقُول: زيدا ضَربته نصب بِهَذَا فَقَالَ: أما
زيدا فَاضْرِبْهُ وَقَالَ: {فَأَما الْيَتِيم فَلَا تقهر} فعلى هَذَا
فقس هَذَا الْبَاب
(3/27)
وَأما (إِمَّا) الْمَكْسُورَة فَإِنَّهَا
تكون فى مَوضِع (أَو) ، وَذَلِكَ قَوْلك: ضربت إِمَّا زيدا، وَإِمَّا
عمرا، لِأَن الْمَعْنى: ضربت زيدا وعمرا، وَقَالَ الله عز وَجل:
{إِمَّا الْعَذَاب وَإِمَّا السَّاعَة} وَقَالَ: {إِنَّا هديناه
السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا} فَإِذا ذكرت (إِمَّا) فَلَا
بُد من تكريرها، وَإِذا ذكرت الْمَفْتُوحَة فَأَنت مُخَيّر: إِن شِئْت
وقفت عَلَيْهَا إِذا تمّ خَبَرهَا تَقول: أما زيد فقائم، وَأما قَوْله:
{أَمَّا مَنِ اسْتغنَى فَأَنْتَ لهُ تَصدَّى وَمَا عَلْيكَ أَلاَّ
يزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَك يسْعى وهُو يخْشَى فَأَنْتَ عنْهُ
تَلهَّى} فَإِن الْكَلَام مستغن من قبل التكرير، وَلَو قلت: ضربت
إِمَّا زيدا، وَسكت - لم يجز، لِأَن الْمَعْنى: هَذَا أَو هَذَا، أَلا
ترى أَن مَا بعد (إِمَّا) لَا يكون كلَاما مستغنيا وَزعم الْخَلِيل أَن
الْفَصْل بَين (إِمَّا) / و (أَو) أَنَّك إِذا قلت: ضربت زيدا أَو عمرا
فقد مضى صدر كلامك وَأَنت مُتَيَقن عِنْد السَّامع، ثمَّ حدث الشَّك
بِأَو فَإِذا قلت: ضربت إِمَّا زيدا فقد بنيت كلامك على الشَّك، وَزعم
أَن (إِمَّا) هَذِه إِنَّمَا هى (إِن) ضمت إِلَيْهَا (مَا) لهَذَا
الْمَعْنى، وَلَا يجوز حذف (مَا) مِنْهَا إِلَّا أَن يضْطَر إِلَى
ذَلِك شَاعِر، فَإِن اضْطر جَازَ الْحَذف، لِأَن ضَرُورَة الشّعْر ترد
الْأَشْيَاء إِلَى أُصُولهَا، قَالَ:
(لقد كذبتك نَفسك فاكذبنها ... فَإِن جزعا وَإِن إِجْمَال صَبر)
(3/28)
فَهَذَا لَا يكون إِلَّا على إِمَّا فَأَما
فى المجازاة إِذا قلت: إِن تأتينى آتِك، وَإِن تقم أقِم - فَإنَّك إِن
شِئْت زِدْت (مَا) ، كَمَا تزيدها فى سَائِر حُرُوف الْجَزَاء؛ نَحْو:
أَيْنَمَا تكن أكن، وَمَتى مَا تأتنى آتِك، لِأَنَّهَا: إِن تأتنى
آتِك، وَمَتى تقم أقِم فَتَقول على هَذَا - إِن شِئْت -: إِمَّا تأتنى
آتِك، وَإِمَّا تقم أقِم مَعَك وَقد مضى تَفْسِير هَذَا فى بَاب
الْجَزَاء
(3/29)
(هَذَا بَاب مذ، ومنذ)
أما (مذ) فَيَقَع الِاسْم بعْدهَا مَرْفُوعا على معنى، ومخفوضا على
معنى فَإِذا رفعت فهى اسْم مُبْتَدأ وَمَا بعْدهَا خَبره، غير أَنَّهَا
لَا تقع إِلَّا فى الِابْتِدَاء لقلَّة تمكنها وَأَنَّهَا لَا معنى
لَهَا فى غَيره، وَذَلِكَ قَوْلك: لم آته مذ يَوْمَانِ، وَأَنا أعرفهُ
ثَلَاثُونَ سنة، وكلمتك مذ خَمْسَة أَيَّام وَالْمعْنَى - إِذا قلت: لم
آته مذ يَوْمَانِ -: أَنَّك قلت: لم أره؟ ثمَّ خبرت بالمقدار والحقيقة
والغاية فكأنك قلت: مُدَّة ذَلِك يَوْمَانِ وَالتَّفْسِير: بينى وَبَين
رُؤْيَته هَذَا الْمِقْدَار، فَكل مَوضِع يرفع فِيهِ مَا بعْدهَا
فَهَذَا مَعْنَاهُ وَأما الْموضع الذى ينخفض مَا بعْدهَا فَأن تقع فى
معنى (فى) وَنَحْوهَا؛ فَيكون حرف خفض وَذَلِكَ قَوْلك: أَنْت عندى مذ
الْيَوْم، ومذ اللَّيْلَة، وَأَنا أَرَاك مذ الْيَوْم يَا فَتى، لِأَن
الْمَعْنى فى الْيَوْم وفى اللَّيْلَة وَلَيْسَ الْمَعْنى أَن بينى
وَبَين رؤيتك مَسَافَة، وَكَذَلِكَ: رَأَيْت زيدا مذ يَوْم الْجُمُعَة
يمدحك، وَأَنا / أَرَاك مذ سنة تَتَكَلَّم فى حَاجَة زيد؛ لِأَنَّك
تُرِيدُ أَنا فى حَال رؤيتك مذ سنة فَإِن أردْت: رَأَيْتُك مذ سنة، أى:
غَايَة الْمسَافَة إِلَى هَذِه الرُّؤْيَة سنة - رفعت؛ لِأَنَّك قلت:
رَأَيْتُك، ثمَّ قلت: بينى وَبَين ذَاك سنة، فَالْمَعْنى: أَنَّك
رَأَيْته، ثمَّ غبرت سنة لَا ترَاهُ وَإِذا قَالَ: أَنا أَرَاك مذ سنة،
فَإِنَّمَا الْمَعْنى أَنَّك فى حَال رُؤْيَة لم تنقض وَأَن أَولهَا مذ
سنة؛ فَلذَلِك قلت: أَرَاك؛ لِأَنَّك تخبر عَن حَال لم تَنْقَطِع
فَهَذَا شَرط (مذ) وتفسيرها
(3/30)
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا بالى أَقُول: لم
أرك مذ يَوْم الْجُمُعَة، وَقد رَآهُ يَوْم الْجُمُعَة؟ قيل: إِن النفى
إِنَّمَا وَقع على مَا بعد الْجُمُعَة، وَالتَّقْدِير: لم أرك مذ وَقت
رؤيتى لَك يَوْم الْجُمُعَة، فقد أثبت الرُّؤْيَة، وجعلتها الْحَد الذى
مِنْهُ لم أره فَهَذَا تَفْسِيرهَا ومجرى مَا كَانَ هَذَا لَفظه، واتصل
بِهِ مَعْنَاهُ فَأَما (مُنْذُ) فمعناها - جررت بهَا أَو رفعت - وَاحِد
وبابها الْجَرّ؛ لِأَنَّهَا فى الْأَزْمِنَة لابتداء الْغَايَة
بِمَنْزِلَة (من) فى سَائِر الْأَسْمَاء تَقول: لم أرك مُنْذُ يَوْم
الْجُمُعَة، أى: هَذَا ابْتِدَاء الْغَايَة؛ كَمَا تَقول: من عبد الله
إِلَى زيد، وَمن الْكُوفَة سرت فَإِن رفعت فعلى أَنَّك جعلت (مُنْذُ)
اسْما، وَذَهَبت إِلَى أَنَّهَا (مذ) فى الْحَقِيقَة وَذَلِكَ قَلِيل؛
لِأَنَّهَا فى الْأَزْمِنَة بِمَنْزِلَة (من) فى الْأَيَّام فَأَما
(مذ) فَدلَّ على أَنَّهَا اسْم: أَنَّهَا محذوفة من (مُنْذُ) الَّتِى
هى اسْم؛ لِأَن الْحَذف لَا يكون فى الْحُرُوف؛ إِنَّمَا يكون فى
الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال، نَحْو: يَد، وَدم، وَمَا أشبهه
(3/31)
(هَذَا بَاب التَّبْيِين والتمييز)
اعْلَم أَن التَّمْيِيز يعْمل فِيهِ الْفِعْل وَمَا يُشبههُ فى
تَقْدِيره؛ وَمَعْنَاهُ فى الانتصاب وَاحِد وَإِن اخْتلف عوامله
فَمَعْنَاه: أَن يأتى مَبْنِيا عَن نَوعه، وَذَلِكَ قَوْلك: عندى
عشرُون درهما، وَثَلَاثُونَ ثوبا لما قلت: عندى عشرُون، وَثَلَاثُونَ -
ذكرت عددا مُبْهما يَقع على كل مَعْدُود، فَلَمَّا قلت درهما عرفت الشئ
الذى إِلَيْهِ قصدت بِأَن ذكرت وَاحِدًا مِنْهُ يدل على / سائره، وَلم
يجز أَن تذكر جمعا؛ لِأَن الذى قبله قد تبين أَنه جمع، وَأَنه مِقْدَار
مِنْهُ مَعْلُوم وَلم يجز أَن يكون الْوَاحِد الدَّال على النَّوْع
معرفَة؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مَعْرُوفا كَانَ مَخْصُوصًا، وَإِذا
كَانَ منكورا كَانَ شَائِعا فى نَوعه فَأَما النصب فَإِنَّمَا كَانَ
فِيهِ؛ لِأَن النُّون منعت الْإِضَافَة، كَمَا تمنعها إِذا قلت:
هَؤُلَاءِ ضاربون زيدا وَلَوْلَا النُّون لأضفت فَقلت: هَؤُلَاءِ ضاربو
زيد؛ كَمَا تَقول: هَذِه عشرو زيد، إِلَّا أَن الضاربين وَمَا أشبهه
أَسمَاء مَأْخُوذَة من الْفِعْل تُضَاف كَمَا تُضَاف الْأَسْمَاء،
فَإِذا منعت النُّون
(3/32)
الْإِضَافَة عملت هَذِه الْأَسْمَاء فِيمَا
بعْدهَا بِمَا فِيهَا من معنى الْفِعْل وَكَانَ الْمَنْصُوب مَفْعُولا
صَحِيحا؛ لِأَنَّهَا أَسمَاء الفاعلين فى الْحَقِيقَة وفيهَا كنايتهم
فَإِذا قلت: عشرُون رجلا فَإِنَّمَا انتصب بإدخالك النُّون مَا بعْدهَا
تَشْبِيها بذلك؛ كَمَا أَن قَوْلك: إِن زيدا منطلق وَلَعَلَّ زيدا
أَخُوك مشبه بِالْفِعْلِ فى اللَّفْظ، وَلَا يكون مِنْهُ (فعل) ، وَلَا
(يفعل) وَلَا شئ من أَمْثِلَة الْفِعْل؛ وكما أَن (كَانَ) فى وزن
الْفِعْل / وتصرفه، وَلَيْسَت فعلا على الْحَقِيقَة تَقول: ضرب زيدا
عمرا، فتخبر بِأَن فعلا وصل من زيد إِلَى عَمْرو فَإِذا قلت: كَانَ زيد
أَخَاك لم تخبر أَن زيدا أوصل إِلَى الْأَخ شَيْئا، وَلَكِن زعمت أَن
زيدا أخوة فِيمَا خلا من الدَّهْر والتشبيه يكون للفظ، وللتصرف،
وَالْمعْنَى فَأَما الْمَعْنى فتشبيهك (مَا) بليس و (لَيْسَ) فعل و
(مَا) حرف، وَالْمعْنَى وَاحِد فَهَذَا سَبِيل كل مَا كَانَت النُّون
فِيهِ عاملة من التَّبْيِين فَإِن قلت: هَل يجوز عندى عشرو رجل؟ فَإِن
ذَلِك غير جَائِز؛ لِأَن الْإِضَافَة تكون على جِهَة الْملك إِذا قلت:
عشرو زيد، فَلَو أدخلت التَّمْيِيز على هَذَا الْمُضَاف لالتبس على
السَّامع قصدك إِلَى تَعْرِيف النَّوْع بتعرفك إِيَّاه صَاحب
الْعشْرين، وَلم يكن إِلَى النصب سَبِيل؛ لِأَنَّهُ فى بَاب
الْإِضَافَة كَقَوْلِك: ثوب زيد، وَدِرْهَم عبد الله والتبيين فى بَابه
من النصب وَإِثْبَات النُّون؛ فَامْتنعَ من إِدْخَاله فى غير بَابه
مَخَافَة اللّبْس وَمِمَّا ينصب قَوْلك: هَذَا أفضلهم رجلا، وأفره
النَّاس عبدا / وَذَلِكَ أَنَّك كنت تَقول فى المصادر: أعجبنى ضرب زيد
عمرا، فتضيف إِلَى زيد الْمصدر؛ لِأَنَّهُ فعله، فتشغل الْإِضَافَة
بِالْفِعْلِ، فتنصب عمرا؛ لِأَنَّهُ مفعول وَلَوْلَا أَنَّك أضفت إِلَى
زيد لَكَانَ (عَمْرو) مخفوضا بِوُقُوع الْمُضَاف عَلَيْهِ؛ كَمَا
أَنَّك لَو لم تنون فى قَوْلك: ضاربون زيدا لحل (زيد) مَحل
التَّنْوِين، وانخفض بِالْإِضَافَة
(3/33)
فَلَمَّا كَانَ عشرُون رجلا بِمَنْزِلَة
ضاربين زيدا - كَانَ قَوْلك: لى مثله رجلا، وَأَنت أفرههم عبدا
بِمَنْزِلَة: أعجبنى ضرب زيد عمرا، وشتمك خَالِدا وكما امْتنعت من أَن
تَقول: عشرو دِرْهَم للفصل بَين التَّفْسِير وَالْملك إِذا قلت: عشرو
زيد - امْتنعت فى قَوْلك: أَنْت أفرههم عبدا من الْإِضَافَة؛ لِأَنَّك
إِذا قلت: أَنْت أفرههم عبدا فَإِنَّمَا عنيت مَالك العَبْد وَإِذا
قلت: أَنْت أفره عبد فى النَّاس فَإِنَّمَا عنيت العَبْد نَفسه، إِلَّا
انك إِذا قلت: أَنْت أفره العبيد فقد قَدمته عَلَيْهِم فى الْجُمْلَة
وَإِذا قلت: أفره عبد فى النَّاس، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنْت أفره من
كل عبد إِذا أفردوا عبدا عبدا؛ كَمَا تَقول: هَذَا خير اثْنَيْنِ / فى
النَّاس، إِذا كَانَ النَّاس اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَيجوز أَن تَقول -
وَهُوَ حسن جدا -: أَنْت افره النَّاس عبيدا، وأجود النَّاس دورا،
وَلَا يجوز عندى عشرُون دَرَاهِم يَا فَتى والفصل بَينهمَا: أَنَّك
إِذا قلت: (عشرُون) ، فقد أتيت على الْعدَد، فَلم يحْتَج إِلَّا إِلَى
ذكر مَا يدل على الْجِنْس، فَإِذا قلت: هُوَ أفره النَّاس عبدا - جَازَ
أَن تعنى عبدا وَاحِدًا، فَمن ثمَّ حسن، واختير - إِذا أردْت
الْجَمَاعَة - أَن تَقول: عبيدا قَالَ الله عز وَجل: {قُلْ هلْ
أُنَبَّئُكُم بِالأَخْسَرِين أَعْمالاً} ، وَقد يجوز أَن تَقول: أفره
النَّاس عبدا فتعنى جمَاعَة العبيد نَحْو التَّمْيِيز، وَالْجمع أبين
إِذا كَانَ الأول غير مخطور الْعدَد
(3/34)
وَمن التَّمْيِيز ويحه رجلا، وَالله دره
فَارِسًا، وحسبك بِهِ شجاعا، إِلَّا أَنه إِذا كَانَ فى الأول ذكر
مِنْهُ حسن أَن تدخل (من) توكيدا لذَلِك الذّكر، فَتَقول: ويحه من رجل،
وَللَّه دره من فَارس، وحسبك بِهِ من شُجَاع، وَلَا يجوز: عشرُون من /
دِرْهَم، وَلَا هُوَ أفرههم من عبد؛ لِأَنَّهُ لم يذكرهُ فى الأول
وَأَنا أرى قَوْله عز وَجل: {وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله} على
هَذَا؛ كَمَا تَقول: من جاءنى من طَوِيل أَعْطيته، وَمن جاءنى من قصير
منعته؛ لِأَنَّك قدمت ذكره بِقَوْلِك: (من)
(3/35)
وَاعْلَم أَن التَّبْيِين إِذا كَانَ
الْعَامِل فِيهِ فعلا جَازَ تَقْدِيمه؛ لتصرف الْفِعْل، فَقلت: تفقأت
شحما، وتصببت عرقا، فَإِن شِئْت قدمت، فَقلت: شحما تفقأت، وعرقا تصببت
وَهَذَا لَا يُجِيزهُ سِيبَوَيْهٍ؛ لِأَنَّهُ يرَاهُ كَقَوْلِك: عشرُون
درهما، وَهَذَا أفرههم عبدا، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَة ذَلِك؛ لِأَن
(عشْرين درهما) إِنَّمَا عمل فِي الدِّرْهَم مَا لم يُؤْخَذ من
الْفِعْل أَلا ترى أَنه يَقُول: هَذَا زيد قَائِما، وَلَا يُجِيز:
قَائِما هَذَا زيد؛ لِأَن الْعَامِل غير فعل وَتقول: رَاكِبًا جَاءَ
زيد؛ لِأَن الْعَامِل فعل؛ فَلذَلِك أجزنا تَقْدِيم التَّمْيِيز إِذا
كَانَ الْعَامِل فعلا وَهَذَا رأى أبي عُثْمَان المازنى
(3/36)
وَقَالَ الشَّاعِر، فَقدم التَّمْيِيز لما
كَانَ الْعَامِل فعلا:
(أتهجر ليلى للفراق حبيبها ... وَمَا كَانَ نفسا بالفراق تطيب)
وَاعْلَم أَن من التَّمْيِيز مَا يكون خفضا وَلَكِن يكون على معنى
أذكرهُ لَك: وَذَلِكَ قَوْلك:
(3/37)
كل رجل جاءنى فَلهُ دِرْهَم، فَهَذَا
شَائِع فى الرِّجَال وَلَكِن مَعْنَاهُ: كل الرِّجَال إِذا كَانُوا
رجلا رجلا، كَقَوْلِك: كل اثْنَيْنِ أتيانى فَلَهُمَا دِرْهَمَانِ وَمن
ذَلِك قَوْله: مائَة دِرْهَم، وَألف دِرْهَم وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ معنى
عشْرين درهما، وَلَكِنَّك أضفت إِلَى الْمُمَيز؛ لِأَن التَّنْوِين غير
لَازم، وَالنُّون فى عشْرين لَازِمَة؛ لِأَنَّهَا تثبت فى الْوَقْف،
وَتثبت مَعَ الْألف وللام، وَقد مضى تَفْسِير هَذَا فى بَاب الْعدَد
فَأَما قَوْلك: زيد الْحسن وَجها، والكريم أَبَا - فَإِنَّهُ خَارج فى
التَّقْدِير من بَاب الضَّارِب زيدا؛ لِأَنَّك تَقول: هُوَ الْحسن
الْوَجْه يَا فَتى، وَإِن كَانَ الْخَفْض أحسن، وَكَذَلِكَ: هُوَ حسن
الْوَجْه فَهَذَا لَا يكون فِيهِ إِلَّا النصب، لِأَن التَّنْوِين
مَانع، وَقد ذكرنَا هَذَا فى بَابه؛ فَلذَلِك لم / نذْكر استقصاءه فى
هَذَا الْموضع فَأَما قَوْلك: أَنْت أفره عبد فى النَّاس - فَإِنَّمَا
مَعْنَاهُ: أَنْت أحد هَؤُلَاءِ الَّذين فضلتهم وَلَا يُضَاف (أفعل)
إِلَى شئ إِلَّا وَهُوَ بعضه؛ كَقَوْلِك: الْخَلِيفَة أفضل بنى هَاشم
وَلَو قلت: الْخَلِيفَة أفضل بنى تَمِيم كَانَ محالا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
مِنْهُم، وَكَذَلِكَ: هَذَا خير ثوب فى الثِّيَاب إِذا عنيت ثوبا،
وَهَذَا خير مِنْك ثوبا إِذا عنيت رجلا، وَكَذَلِكَ تَقول: الْخَلِيفَة
أفضل من بنى تَمِيم؛ لِأَن (من) دخلت للتفضيل، وأخرجتهم من الْإِضَافَة
فَهَذَا وَجه ذَا وَلَو قلت: مَا أَنْت بِأَحْسَن وَجها منى، وَلَا
أفره عبدا - كَانَ جيدا فَإِن قصدت قصد الْوَجْه بِعَيْنِه قلت: هَذَا
أحسن وَجه رَأَيْته إِنَّمَا تعنى الْوُجُوه إِذا ميزت وَجها وَجها
فعلى هَذِه الْأُصُول فقس مَا ورد عَلَيْك من هَذَا إِن شَاءَ الله
(3/38)
(هَذَا بَاب التَّثْنِيَة على استنقصاها
صحيحها، ومعتلها)
أما مَا كَانَ صَحِيحا فَإنَّك إِذا أردْت تثنيته سلمت بناءه، وزدت
ألفا ونونا فى الرّفْع، وياء ونونا فى الْخَفْض، وَدخل النصب على
الْخَفْض؛ كَمَا ذكرت لَك فى أول الْكتاب؛ وَذَلِكَ قَوْلك فى الرّفْع:
زَيْدَانَ، وَعمْرَان وجعفران، وعطشانان، وعنكبوتان فَإِن كَانَ
الِاسْم ممدودا وَكَانَ منصرفا، وهمزته أَصْلِيَّة - فَهُوَ على هَذَا
تَقول فى تَثْنِيَة قراء: قراءان، وفى تَثْنِيَة خطاء: خطاءان، وفى
الْخَفْض وَالنّصب: خطاءين، وزيدين، وعمرين، وقراءين وَقد يكون قراوان
على بعد، لعِلَّة أذكرها إِن شَاءَ الله وَإِن كَانَ ممدودا منصرفا
وهمزته بدل من يَاء أَو وَاو، فَكَذَلِك تَقول: رداءان، وكساءان،
وغطاءان وَالْقلب إِلَى الْوَاو فى هَذَا يجوز، وَلَيْسَ بجيد، وَهُوَ
أحسن مِنْهُ فِيمَا كَانَت همزته أصلا، وَذَلِكَ قَوْلك: كساوان
وغطاوان وَإِن كَانَ الْمَمْدُود إِنَّمَا مدَّته للتأنيث لم يكن فى
التَّثْنِيَة إِلَّا بِالْوَاو، نَحْو قَوْلك: حمروان، وخنفساوان،
وصحراوان، وَرَأَيْت خنفساوين، وصحراوين
(3/39)
وَإِن كَانَ الْمثنى مَقْصُورا فَكَانَ على
ثَلَاثَة أحرف نظرت فى أَصله: فَإِن كَانَ من الْوَاو / أظهرت الْوَاو،
وَإِن كَانَ من الْيَاء أظهرت الْيَاء، وَذَلِكَ قَوْلك فى تَثْنِيَة
قفا: قفوان وعصا: عصوان، وَرَأَيْت قفوين، وعصوين وَأما مَا كَانَ من
الْيَاء فقولك فى رحى: رحيان، وحصى: حصيان وَإِنَّمَا فعلت ذَلِك؛
لِأَن ألف التَّثْنِيَة تلْحق الْألف الَّتِى كَانَت فى مَوضِع
اللَّام، وَكَذَلِكَ يَاء التَّثْنِيَة، وهما ساكنان، فَلَا يجوز أَن
يلتقيا؛ فَلَا بُد من حذف أَو تَحْرِيك؛ فَلَو حذفت لذهبت اللَّام،
فحركت، فَرددت كل حيّز إِلَى أَصله؛ كَمَا كنت فَاعِلا ذَلِك إِذا ثنيت
الْفَاعِل فى الْفِعْل، وَذَلِكَ قَوْلك: غزا الرجل، ودعا، ثمَّ تَقول:
غزوا، ودعوا؛ لِأَنَّك لَو حذفت لالتقاء الساكنيين لبقى الِاثْنَان على
لفظ الْوَاحِد وَتقول: رمى، وَقضى، فَإِذا ثنيت قلت: رميا، وقضيا
فَكَذَلِك هَذَا الْمَقْصُور فى التَّثْنِيَة فَإِن كَانَ الْمَقْصُور
على أَرْبَعَة أحرف فَصَاعِدا كَانَت تثنيته بِالْيَاءِ من أى أصل
كَانَ، وَقد مضى تَفْسِير هَذَا وَكَذَلِكَ إِن كَانَت أَلفه زَائِدَة
للتأنيث أَو للإلحاق نقُول: ملهيان، ومغزيان، وحباريان، وحبنطيان؛
كَمَا تَقول فى الْفِعْل: أغزيا، وغازيا، وراميا، واستغزيا، واستحييا،
وَنَحْوه؛ فعلى هَذَا مجْرى جَمِيع الْمَقْصُور وَاعْلَم أَن
التَّثْنِيَة لَا تخطئ الْوَاحِد فَإِذا قيل لَك: ثنه - وَجب عَلَيْك
أَن تأتى بِالْوَاحِدِ، ثمَّ تزيد فى الرّفْع ألفا ونونا، وفى الْخَفْض
وَالنّصب يَاء ونونا فَأَما قَوْلهم: جَاءَ ينفض مذرويه؛ فَإِنَّمَا
ظَهرت فِيهِ الْوَاو؛ لِأَنَّهُ لَا يفرد لَهُ وَاحِد وَكَذَلِكَ:
عقلته بثنايين وَلَو كَانَ يفرد لَهُ وَاحِد لَكَانَ: عقلته بثنائين؛
لِأَن الْوَاحِد ثَنَاء فَاعْلَم، وَكنت تَقول: مذريان؛ كَمَا تَقول:
ملهيان، وَلكنه بِمَنْزِلَة قَوْلك: الشقاوة، والعباية بنيت على هَذَا
التَّأْنِيث، وَصَارَت الْهَاء حرف الْإِعْرَاب، فظهرت الْوَاو
وَالْيَاء
(3/40)
وَلَو بنيته على التَّذْكِير لم يكن إِلَّا
صلاءة، وعباءة؛ كَمَا تَقول: امْرَأَة غزاءة؛ لِأَنَّك جِئْت إِلَى
غزاء / - وَقد انقلبت الْوَاو فِيهِ همزَة - فأنثته على تذكيره، وَلَو
كنت بنيته على التَّأْنِيث لكَانَتْ الْهَاء مظهرة للياء وللواو قبلهَا
فَأَما قَوْلهم: (خصيان فَإِنَّمَا بنوه على قَوْلهم: خصى فَاعْلَم،
وَمن ثنى على قَوْلهم: خصية لم يقل إِلَّا: خصيتان وَكَذَلِكَ
يَقُولُونَ: ألية وألى فى معنى فَمن قَالَ: ألية قَالَ: أليتان، وَمن
قَالَ: ألى قَالَ: أليان قَالَ الراجز:
(تَرتج ألياه ارتجاج الوطب ... )
(3/41)
(هَذَا بَاب الإمالة)
وَهُوَ أَن تنجو بِالْألف نَحْو الْيَاء، وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا
لعِلَّة تَدْعُو إِلَيْهِ اعْلَم أَن كل ألف زَائِدَة أَو أَصْلِيَّة
فنصبها جَائِز وَلَيْسَ كل ألف تمال لعِلَّة إِلَّا نَحن ذاكروها إِن
شَاءَ الله فمما يمال مَا كَانَ أَلفه زَائِدَة فى فَاعل، وَذَلِكَ
نَحْو قَوْلك: / رجل عَابِد، وعالم، وَسَالم؛ فَإِنَّمَا أملت الْألف،
للكسرة اللَّازِمَة لما بعْدهَا، وَهُوَ مَوضِع الْعين من فَاعل، وَإِن
نصبت فى كل هَذَا فجيد بَالغ على الأَصْل وَذَلِكَ قَوْلك: عَالم وعابد
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَت قبلهَا كسرة أَو يَاء، نَحْو قَوْلك: عباد،
وجبال، وحبال كل هَذَا إمالته جَائِزَة فَأَما عِيَال فالإمالة لَهُ
ألزم؛ لِأَن مَعَ الكسرة يَاء فَكل مَا كَانَت الْيَاء أقرب إِلَى
أَلفه أَو الكسرة فالإماله لَهُ ألزم، وَالنّصب فِيهِ جَائِز وكل مَا
كثرت فِيهِ الياءات أَو الكسرات فالإمالة فِيهِ أحسن من النصب وَاعْلَم
أَنه مَا كَانَ من فعل فإمالة أَلفه جَائِزَة حَسَنَة، وَذَلِكَ نَحْو:
صَار بمَكَان كَذَا، وَبَاعَ زيد مَالا؛ فَإِنَّمَا أملت؛ لتدل على أَن
أصل الْعين الْكسر؛ لِأَنَّهُ من بِعْت، وصرت وَالْعين أَصْلهَا الْكسر
وألفها / منقلبة من وَاو
(3/42)
إِلَّا أَنه فِيمَا كَانَت أَلفه منقلبة من
يَاء أحسن فَأَما الْوَاو فَهُوَ فِيهَا جيد، وَلَيْسَ كحسنه فى
الْيَاء؛ لِأَن فِيهِ علتين، وَإِنَّمَا فى ذَوَات الْوَاو عِلّة
وَاحِدَة، وَهُوَ أَنه من (فعل) ، وَذَلِكَ قَوْلك: خَافَ زيد كَذَا،
وَمَات زيد فى قَول من قَالَ: مت على وزن خفت وَمن قَالَ: مت لم تجز
الإمالة فى قَوْله وَقد قَرَأَ الْقُرَّاء: {ذَلِك لمن خَافَ مقَامي}
وَاعْلَم أَن الْألف إِذا كَانَت منقلبة من يَاء فى اسْم أَو فعل،
فإمالتها حَسَنَة، وَأحسن ذَلِك أَن تكون فى مَوضِع اللَّام وسنفسر لم
ذَلِك إِن شَاءَ الله؟ وَذَلِكَ قَوْلك: رمى، وسعى، وَقضى؛ وَذَلِكَ
لِأَن الْألف هى الَّتِى يُوقف عَلَيْهَا والإمالة أبين، وهى الَّتِى
تنْتَقل على الثَّلَاثَة فَتكون رَابِعَة، وخامسة، وَأكْثر فَإِذا
كَانَت كَذَلِك رجعت ذَوَات الْوَاو إِلَى الْيَاء؛ نَحْو: مغزيان،
وملهيان، وقولك فى الْفِعْل: أغزيت وَقد فسرنا هَذَا فى بَابه / مستقصى
فَلَمَّا كَانَت الْيَاء أمكن كَانَت الإمالة أثبت
(3/43)
فَأَما مَا كَانَ من ذَوَات الْوَاو على
ثَلَاثَة أحرف فَإِن الإمالة فِيهِ قبيحة؛ نَحْو: دَعَا، وغزا، وَعدا
وَقد يجوز على بعد؛ لِأَن هَذِه الْألف هى الَّتِى تمال فى أغزى،
وَنَحْوه فَأَما الْأَسْمَاء فَلَا يجوز فِيهَا الإمالة إِذا كَانَت
على ثَلَاثَة أحرف؛ لِأَنَّهَا لَا تنْتَقل انْتِقَال الْأَفْعَال؛
لِأَن الْأَفْعَال تكون على فعل، وأفعل، وَنَحْوه، والأسماء لَا تتصرف
وَذَلِكَ قَوْلك: قفا، وعصا لَا يكون فيهمَا، وَلَا فى بابهما إمالة؛
لِأَنَّهُمَا من الْوَاو وَلَكِن رحى، وحصى، وَنوى هَذَا كُله تصلح
إمالته وَلَا تصلح الإمالة فِيمَا أَلفه فى مَوضِع الْعين إِذا كَانَت
واوا؛ نَحْو: قَالَ، وَطَالَ، وجال؛ لِأَنَّهَا من وَاو، وَلَيْسَت
بِفعل كخفت؛ لِأَنَّك تَقول: قلت، وطلت، وجلت
(3/44)
(هَذَا بَاب مَا كَانَ على أَرْبَعَة أحرف
أَصْلِيَّة أَو زَائِدَة)
/ اعْلَم أَن مَا كَانَت أَلفه من ذَلِك طرفا فالإمالة فِيهِ جَائِزَة،
وهى الَّتِى نَخْتَار؛ وَذَلِكَ أَنه لَا يَخْلُو من أحد ثَلَاثَة
أوجه: إِمَّا أَن تكون أَلفه منقلبة من يَاء؛ نَحْو: مرمى، ومسعى؛
لِأَنَّهُ من سعيت، ورميت وملهى، ومغزى من غزوت ولهوت، فَإِنَّهَا إِذا
كَانَت كَذَا ترجع إِلَى الْيَاء فى قَوْلك: ملهيان، ومغزيان، وَكلما
ازدادت الْحُرُوف كَثْرَة كَانَت من الْوَاو أبعد، وَقد فسرنا لم ذَلِك
فى التصريف فى بَاب أغزيت، واستغريت؟ أَو تكون الْألف زَائِدَة للتأنيث
فَحق الزَّوَائِد أَن تحمل على الْأُصُول، فَإِذا كَانَت ذَوَات
الْوَاو ترجع إِلَى الْيَاء فالزائد أولى؛ وَذَلِكَ قَوْلك فى حُبْلَى:
حبليان، وحبليات، وَكَذَلِكَ سكرى وشكاعى ونحره فَأَما الملحقة فنحو:
حبنطى، وأرطى، ومغزى تَقول: أرطيان، ومغزيان، وحينطيان فَكل هَذَا يرجع
إِلَى الْيَاء فَكَذَلِك فافعل بِهِ إِذا كَانَت الْألف رَابِعَة
مَقْصُورَة أَو على أَكثر من ذَلِك، اسْما كَانَ أَو فعلا
(3/45)
(هَذَا بَاب الْحُرُوف الَّتِى تمنع
الإمالة)
وهى حُرُوف الاستعلاء، وهى سَبْعَة أحرف: الصَّاد، وَالضَّاد، والطاء،
والظاء، وَالْقَاف، وَالْخَاء، والغين وَذَلِكَ أَنَّهَا حُرُوف
اتَّصَلت من اللِّسَان بالحنك الْأَعْلَى، وَإِنَّمَا معنى الإمالة:
أَن تقرب الْحَرْف مِمَّا يشاكله من كسرة أَو يَاء فَإِن كَانَ الذى
يشاكل الْحَرْف غير ذَلِك ملت بالحرف إِلَيْهِ، فَهَذِهِ الْحُرُوف
منفتحة المخارج؛ فَلذَلِك وَجب الْفَتْح تَقول: هَذَا عَابِد، وعالم،
وعاند فَإِذا جَاءَت هَذِه الْحُرُوف عينات وَلَا مَاتَ فى (فَاعل)
منعت الإمالة لما فِيهَا " فَقلت: هَذَا ناقد، وَلم يجز ناقد من أجل
الْقَاف، وَكَذَلِكَ ضَابِط، وضاغط فَإِن كَانَت هَذِه الْحُرُوف فى
مَوضِع الفاءات من فَاعل منعت الإمالة لقربها، وهى بعد الْألف أمنع؛
لِئَلَّا يتَصَعَّد الْمُتَكَلّم بعد الانحدار وَذَلِكَ قَوْلك: هَذَا
قَاسم، وَصَالح، وطالع، وَلَا تجوز الإمالة فى شئ من ذَلِك فَإِن كَانَ
الْحَرْف المستعلى بَينه وَبَين الْألف / حرف، والمستعلى مُتَقَدم
مكسور - فَإِن الإمالة
(3/46)
حَسَنَة وَذَلِكَ قَوْلك: صفاف، وقفاف؛
لِأَن الكسرة أدنى إِلَى الْألف من المستعلى، وَالنّصب هَا هُنَا حسن
جدا، والإمالة أحسن لما ذكرت لَك، وَحسن النصب من أجل المستعلى وَلَو
كَانَ المستعلى بعد حرف مكسور لم تجز الإمالة فِيهِ؛ لِأَن المستعلى
أقرب إِلَى الْألف فَهُوَ مَفْتُوح وَذَلِكَ قَوْلك: رِقَاب، وحقاف،
وَكَذَلِكَ رصاص فِيمَن كسر الرَّاء، لَا يكون إِلَّا النصب فَإِن
كَانَ المستعلى فى كلمة مَعَ الْألف وَكَانَ بعْدهَا بِحرف أَو حرفين
لم تكن إمالة وَذَلِكَ قَوْلك مساليخ، وصناديق فَإِن قلت: فَمَا قبل
المستعلى مكسور، فَهَلا كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَة قفاف وصفاف؟ فَمن أجل
أَن المستعلى إِنَّمَا انحدرت عَنهُ، وَأَنت هَاهُنَا لَو كسرت كنت
مصعدا إِلَيْهِ وَاعْلَم أَنَّك تَقول: مَرَرْت بِمَال لَك، مَرَرْت
بِبَاب لَك، وَلَيْسَ بالْحسنِ؛ لِأَن الْأَلفَيْنِ منقلبتان من / وَاو
ين، من: مولت، وبوبت، وَلَيْسَت الْحَرَكَة بلازمة إِنَّمَا تحذف فى
الْخَفْض فى الْوَصْل، وَلَا تكون فى الْوَقْف، وَلَا فى غير الْخَفْض،
فَلَيْسَتْ كعين (فَاعل) ؛ لِأَن الكسرة لَازِمَة لَهَا، وَالْألف
زَائِدَة وَلَكِن لَو قلت: هَذَا نَاب، وَهَذَا عَابَ لصلحت الإمالة؛
لِأَن الْأَلفَيْنِ منقلبتان من يَاء؛ لِأَنَّهُ من الْعَيْب، وَمن
قَوْلك: نيبت فى الْأَمر، وناب وأنياب، وَالنّصب أحسن؛ لِأَن اللَّفْظ
أولى وَلَيْسَ فى اللَّفْظ كسرة، وَإِنَّمَا صلحت الإمالة؛ لِأَن
الْألف يَاء فى الْمَعْنى فجملة الْبَاب: أَنه كل مَا كَانَ فى
الْيَاء، أَو الكسرة فِيهِ أثبت - فالإمالة لَهُ ألزم، إِلَّا أَن
يمْنَع مَانع من المستعلية
(3/47)
(هَذَا بَاب الرَّاء فى الإمالة)
اعْلَم أَن الرَّاء مكررة فى اللِّسَان، ينبو فِيهَا بَين أَولهَا
وَآخِرهَا نبوة، فَكَأَنَّهَا حرفان فَإِذا جَاءَت بعد الْألف
مَكْسُورَة مَالَتْ الْألف من أجلهَا وَذَلِكَ قَوْلك: هَذَا عَارِم،
وعارف فَكَانَت الإمالة هَاهُنَا ألزم مِنْهَا فى عَابِد، وَنَحْوه
فَإِن وَقع / قبل الْألف حرف من المستعلية، وَبعد الْألف الرَّاء
الْمَكْسُورَة - حسنت الإمالة الَّتِى كَانَت تمْتَنع فى قَاسم
وَنَحْوه؛ من أجل الرَّاء، وَذَلِكَ قَوْلك: هَذَا قَارب، وَكَذَلِكَ
إِن كَانَ بَين الرَّاء وَبَين الْألف حرف مكسور إِذا كَانَت
مَكْسُورَة تَقول: مَرَرْت بِقَادِر يَا فَتى، وَترك الإمالة أحسن؛
لقرب المستعلية من الْألف، وتراخى الرَّاء عَنْهَا، وينشد هَذَا
الْبَيْت على الإمالة، وَالنّصب أحسن لما ذكرت لَك وَهُوَ:
(عَسى الله يغنى عَن بِلَاد ابْن قَادر ... بمنهمر جون الربَاب سكوب)
(3/48)
فَإِن لم يكن قبل الْألف حرف من المستعلية،
وَكَانَت بعْدهَا الرَّاء على مَا وصفت لَك اختير إمالة الْألف
وَذَلِكَ قَوْلك: من الْكَافرين وَإِن قلت: من الْكَافِر يَا فَتى -
فالإمالة حَسَنَة، وَلَيْسَ كحسنها فى الْكَافرين؛ لِأَن الْكسر فى
الْكَافرين لَازم للراء وَبعدهَا يَاء، و (الْكَافِر) لَا يَاء فِيهِ،
وَلَيْسَت الكسرة بلازمة للراء إِلَّا فى الْخَفْض، هى / فى
الْجَمَاعَة تلْزم فى الْخَفْض وَالنّصب وَالْوَقْف والإدراج، وَلَا
تكون فى الْكَافِر فى الْوَقْف فَإِن قلت: جاءنى الْكَافِر، فَاعْلَم -
اسْتَوَت الإمالة وَالنّصب فَأَما الإمالة فَمن جِهَة كسرة الْفَاء
وَأما النصب فَإِن الرَّاء بعْدهَا كحرفين مضمومين، وَكَذَلِكَ هى فى
النصب إِذا قلت: رَأَيْت الْكَافِر يَا فَتى وَلَو قلت: فلَان باسط
يَده، أَو ناعق يَا فَتى - لم تصلح الإمالة من أجل المستعليين؛ لِأَن
الرَّاء - وَإِن كَانَ قبلهَا التكرير - لَا تحل مَحل المستعلية وَلَو
قلت: هَذَا قرَاب سَيْفك لصلحت الإمالة وَإِن كَانَت الرَّاء
مَفْتُوحَة؛ لِأَنَّهَا فى الْحَقِيقَة فى وزن حرف وَاعْلَم أَن بنى
تَمِيم يختارون فِيمَا كَانَ على وزن (فعال) من الْمُؤَنَّث إِذا سمى
بِهِ أَن يكون بِمَنْزِلَة سَائِر مَالا ينْصَرف، فَيَقُولُونَ: هَذِه
حذام، ومررت بحذام يَا فَتى، وَرَأَيْت حذام وَأهل الْحجاز يَقُولُونَ:
هَذِه حذام، ومررت بحذام وَقد بَينا ذَلِك فِيمَا ينْصَرف وَمَا لَا
ينْصَرف فَإِذا كَانَ اسْم من هَذِه الْأَسْمَاء / فى آخِره الرَّاء
اخْتَارَتْ بَنو تَمِيم مَذْهَب أهل الْحجاز؛ ليميلوا الْألف؛ لِأَن
إجناحها أخف عَلَيْهِم، وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ إِلَّا أَن يكسروا
الرَّاء فَيَقُولُونَ: هَذِه
(3/49)
حضار فَاعْلَم، وطلعت حضار - (وَالْوَزْن)
، ومررت بسفار يَا فَتى وينشدون هَذَا الْبَيْت للفرزدق:
(مَتى مَا ترد يَوْمًا سفار تَجِد بهَا ... أديهم يرْمى المستجيز
المعورا)
وَمِنْهُم من يمضى على لغته فى الرَّاء؛ كَمَا يفعل فى غَيرهَا قَالَ
الشَّاعِر:
(وَمر دهر على وبار ... فَهَلَكت عنْوَة وبار)
والقوافى مَرْفُوعَة وَمِمَّا تمال أَلفه مَا كَانَ قبلهَا فَتْحة وفى
ذَلِك الْحَرْف يَاء وَذَلِكَ قَوْلك: نعم الله بك عينا، وَرَأَيْت
زينا، فالإمالة فى هَذَا حَسَنَة فى الْوَقْف من أجل الْيَاء فَأَما
إِذا وصلت فَلَا إمالة فِيهِ من أجل أَن الْألف تذْهب، وَيصير
مَكَانهَا التَّنْوِين وَلَو قلت: هَذَا عمرَان لكَانَتْ الإمالة
حَسَنَة من أجل كسرة الْعين
(3/50)
فَإِن كَانَ مَكَان الرَّاء حرف من
المستعلية / لم تصلح الإمالة؛ لِأَن المستعلى أقرب إِلَى الْألف وَهُوَ
مَفْتُوح فَإِن قلت: فهذان مسلمان، فَأَمْلَتْ من أجل كسرة اللَّام
صلح، ويزيده حسنا علمك بِأَن النُّون مَكْسُورَة فى الْوَصْل، فَإِن
قلت: مصلحان، أَو مكرمان - لم تحسن الإمالة؛ لِأَنَّهُ لَا كسر وَلَا
يَاء فَإِن وصلت حسنت وهى بعيدَة؛ لِأَن النُّون لَا تلزمها الْحَرَكَة
فى الْوَقْف؛ كَمَا أَنَّك لَو قلت: رَأَيْت عنبا لم تكن إمالة؛
لِأَنَّهُ لَا كسرة وَلَا يَاء وَتقول: نَعُوذ بِاللَّه من النَّار،
للتكرير الذى فى الرَّاء؛ لِأَن الْحَرَكَة تلْحق فى الْوَصْل فَإِن
قلت: وعد الْكَافِرُونَ النَّار، إوقلت: أحرقته النَّار - لم تكن إمالة
لما ذكرت لَك فَأَما قَوْلهم: هَذَا رجل حجاج فَلم تجز الإمالة؛
لِأَنَّهُ لَا شئ يُوجِبهَا، ثمَّ قَالُوا فى الِاسْم الْحجَّاج
فَإِنَّمَا أمالوا للفصل بَين الْمعرفَة والنكرة، وَالِاسْم والنعت؛
لِأَن الإمالة أَكثر، وَلَيْسَ بالْحسنِ النصب أحسن وأقيس
(3/51)
(هَذَا بَاب مَا يمال / وَينصب من
الْأَسْمَاء غير المتمكنة، والحروف)
اعْلَم أَنهم قَالُوا: ذَا عبد الله، وَهَذَا عبد الله، وَقَالُوا فى
التهجى: بَاء، وتاء، وَرَاء؛ ليدلوا على أَنَّهَا أَسمَاء فَلَو ألزمت
النصب لَا لتبست بالحروف؛ لِأَن الْحُرُوف لَا تصلح فِيهَا الإمالة
فَإِن قلت: فَهَلا فعلوا ذَلِك فى (مَا) الَّتِى هى اسْم لمضارعتها
للحروف؛ لِأَنَّهَا لَا تكون اسْما إِلَّا بصلَة، إِلَّا فى
الِاسْتِفْهَام أَو الْجَزَاء، فهى فى هذَيْن مضارعة للحروف الَّتِى هى
للاستفهام وَالْجَزَاء فَأَما فى النفى فهى حرف وَلَيْسَ باسم،
وَكَذَلِكَ هى زَائِدَة فى قَوْلك (فَبِمَا نَقْضِهِمِ مِيْثَاقَهُمْ)
وَنَحْوه فَأَما (إِمَّا) ، و (حَتَّى) ، وَسَائِر الْحُرُوف الَّتِى
لَيست بأسماء - فَإِن الإمالة فِيهِ خطأ وَلَكِن (مَتى) تمال؛
لِأَنَّهَا اسْم، وَإِنَّمَا هى من أَسمَاء الزَّمَان، وَلَا يستفهم
بهَا إِلَّا عَن وَقت
(3/52)
فَأَما (عَسى) فإمالتها جَيِّدَة؛
لِأَنَّهَا فعل، وألفها منقلبة من يَاء تَقول: عَسَيْت؛ كَمَا تَقول:
رمى ورميت فَأَما (على) ، و (إِلَى) فَلَا تصلح إمالتهما؛ لِأَن (على)
من عَلَوْت، وهى اسْم، يدلك على ذَلِك قَوْلهم: جِئْت من عَلَيْهِ، أى:
من فَوْقه قَالَ الشَّاعِر:
(غَدَتْ من عَلَيْهِ تنفض الطل بَعْدَمَا ... رَأَتْ حَاجِب الشَّمْس
اسْتَوَى فترفعا)
وَقَالَ الآخر:
(غَدَتْ من عَلَيْهِ بَعْدَمَا تمّ خمسها ... تصل وَعَن قيض ببيداء
مجهل)
(3/53)
صفحة فارغة
(3/54)
(هَذَا بَاب كم)
اعْلَم أَن (كم) اسْم يَقع على الْعدَد، وَلها موضعان: تكون خَبرا،
وَتَكون استفهاما فمجراها مجْرى عدد منون وَذَلِكَ قَوْلك: كم رجلا
عنْدك؟ وَكم غُلَاما لَك؟ تُرِيدُ: أعشرون غُلَاما أم ثَلَاثُونَ،
وَمَا أشبه ذَلِك؛ كَمَا أَنَّك إِذا قلت: أَيْن عبد الله؟ فَمَعْنَاه:
أفى مَوضِع كَذَا أَو فى مَوضِع كَذَا؟ وَإِذا قلت: مَتى تخرج؟
فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أوقت كَذَا أم وَقت كَذَا؟ إِلَّا أَنه يجوز لَك
فى (كم) أَن تفصل بَينهَا وَبَين مَا علمت فِيهِ بالظرف فَتَقول: كم
لَك غُلَاما؟ وَكم عنْدك جَارِيَة؟ وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك فِيهَا؛
لِأَنَّهُ جعل عوضا لما منعته من التَّمَكُّن وَأما (عشرُون)
وَنَحْوهَا فَلَا يجوز أَن تَقول فِيهَا: عشرُون لَك جَارِيَة، وَلَا
خَمْسَة عسر لَك فلاما إِلَّا أَن يضْطَر شَاعِر؛ كَمَا قَالَ حِين
اضْطر:
(على أننى بعد مَا قد مضى ... ثَلَاثُونَ للهجر حولا كميلا)
(3/55)
وَقَالَ الآخر:
(فى خمس عشرَة من جُمَادَى لَيْلَة ... لَا أَسْتَطِيع على الْفراش
رقادى)
وَتقول: كم دِرْهَم لَك؟ لِأَن التَّمْيِيز على غَيره فَكَأَن
التَّقْدِير: كم دانقا دِرْهَم لَك، وَكم قيراطا، وَمَا أشبه ذَلِك؟
كَمَا أَنَّك إِذا قلت: كم غلمانك؟ فَإِنَّمَا الْمَعْنى: كم غُلَاما
غلمانك؟ وَلَا يكون فى قَوْلك: كم غلمانك؟ إِلَّا الرّفْع؛ لِأَنَّهُ
معرفَة، وَلَا يكون التَّمْيِيز بالمعرفة فَإِذا قلت: كم غلمانك؟
فتقديره من الْعدَد الْوَاضِح: أعشرون غُلَاما غلمانك؟ فَإِن قلت:
أعشرون غلمانك؟ فَذَلِك مَعْنَاهُ، لِأَن مَا أظهرت دَلِيل على مَا
حذفت وَتقول: بكم ثَوْبك مصبوغ؟ ؛ لِأَن التَّقْدِير: بكم منا ثَوْبك
مصبوغ؟ أَو بكم درهما؟ وَتقول: على كم جذعا بَيْتك مبْنى؟ إِذا جعلت
(على كم) ظرفا لمبنى رفعت الْبَيْت بِالِابْتِدَاءِ، وَجعلت (المبنى)
خَبرا عَنهُ، وَجعلت (على كم) ظرفا لمبنى فَهَذَا على قَول من قَالَ:
فى الدَّار زيد قَائِم، وَمن قَالَ: فى الدَّار زيد قَائِما، فَجعل (فى
الدَّار) خَبرا - قَالَ: على كم جذعا بَيْتك مَبْنِيا؟ / إِذا نصب
مَبْنِيا جعل (على كم) ظرفا للبيت؛ لِأَنَّهُ لَو قَالَ لَك على
الْمَذْهَب: على كم جذعا بَيْتك؟ لاكتفى؛ كَمَا أَنه لَو قَالَ: فى
الدَّار لاكتفى وَلَو قَالَ: بكم رجل زيد مَأْخُوذ؟ لم يجز إِلَّا
الرّفْع فى مَأْخُوذ؛ كَمَا تَقول: بِعَبْد الله زيد مَأْخُوذ؛ لِأَن
الظّرْف هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ مُعَلّق بالْخبر والبصريون يجيرون على
قبح: على كم جذع، وبكم رجل؟ يجْعَلُونَ مَا دخل على (كم) من حُرُوف
الْخَفْض دَلِيلا على (من) ، ويحذفونها، ويريدون: على كم من جذع، وبكم
من
(3/56)
رجل؟ فَإِذا لم يدخلهَا حرف الْخَفْض فَلَا
اخْتِلَاف فى أَنه لَا يجوز الْإِضْمَار وَلَيْسَ إِضْمَار (من) مَعَ
حُرُوف الْخَفْض بِحسن وَلَا قوى، وَإِنَّمَا إِجَازَته على بعد وَمَا
ذكرت لَك حجَّة من أجَازه فَهَذِهِ (كم) الَّتِى تكون للاستفهام فَأَما
(كم) الَّتِى تقع خَبرا فمعناها: معنى (رب) إِلَّا أَنَّهَا اسْم، و
(رب) حرف وَذَلِكَ قَوْلك: كم رجل قد رَأَيْته أفضل من زيد إِن جعلت
(قد رَأَيْته) الْخَبَر، وَإِن جعلت (قد رَأَيْته) من نعت الرجل قلت:
أفضل من زيد / رفعت (أفضل) ؛ لِأَنَّك جعلت (أفضل) خَبرا عَن (كم) ؛
لِأَن (كم) اسْم مُبْتَدأ فَأَما (رب) إِذا قلت: رب رجل أفضل مِنْك
فَلَا يكون لَهُ الْخَبَر؛ لِأَنَّهَا حرف خفض و (كم) لَا تكون إِلَّا
اسْما أَلا ترى أَن حُرُوف الْخَفْض تدخل عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا تكون
فاعلة ومفعولة تَقول: كم رجل ضربك - فهى هَاهُنَا فاعلة فَإِذا قلت: كم
رجل قد رَأَيْت - فهى مفعولة، وَكَذَلِكَ لَو قلت: كم رجل قد رَأَيْته
لكَانَتْ مَرْفُوعَة؛ لِأَنَّهَا ابْتِدَاء؛ لشغلك الْفِعْل عَنْهَا،
وَكَذَلِكَ تَقول: إِلَى كم رجل قد ذهبت فَلم أره
(3/57)
وَاعْلَم أَن هَذَا الْبَيْت ينشد على
ثَلَاثَة أوجه، وَهُوَ:
(كم عمَّة لَك يَا جرير وَخَالَة ... فدعاء قد حابت على عشارى)
فَإِذا قلت: كم عمَّة فعلى معنى: رب عمَّة وَإِذا قلت: كم عمَّة؟ فعلى
الِاسْتِفْهَام وَإِن قلت: كم عمَّة أوقعت (كم) على الزَّمَان فَقلت:
كم يَوْمًا عمَّة لَك وخاله قد حلبت على عشارى، وَكم مرّة، وَنَحْو
ذَلِك فَإِذا قلت: كم عمَّة فلست تقصد إِلَى وَاحِدَة / وَكَذَلِكَ
إِذا نصبت، وَإِن رفعت لم تكن إِلَّا وَاحِدَة؛ لِأَن التَّمْيِيز يَقع
وَاحِدَة فى مَوضِع الْجَمِيع، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فى معنى (رب) ؛
لِأَنَّك
(3/58)
إِذا قلت: رب رجل رَأَيْته لم تعن
وَاحِدًا، وَإِذا قلت: كم رجلا عنْدك؟ فَإِنَّمَا تسْأَل: أعشرون أم
ثَلَاثُونَ أَو نَحْو ذَلِك؟ فَإِذا قلت: كم دِرْهَم عنْدك؟ فَإِنَّمَا
تعنى: كم دانقا هَذَا الدِّرْهَم الذى أَسأَلك عَنهُ؟ فالدرهم وَاحِد
مَقْصُود قَصده بِعَيْنِه؛ لِأَنَّهُ خبر، وَلَيْسَ بتمييز،
وَكَذَلِكَ: كم جاءنى صَاحبك؟ إِنَّمَا تُرِيدُ: كم مرّة جاءنى صَاحبك
فَإِن قلت: مَا بَال المستفهم بهَا ينْتَصب مَا بعْدهَا والتى فى معنى
(رب) ينخفض بهَا مَا بعْدهَا وَكِلَاهُمَا للعدد؟ فَإِن فى هَذَا
قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَن الَّتِى للْخَبَر لما ضارعت (ب) فى
مَعْنَاهَا اختير فِيهَا ترك التَّنْوِين؛ ليَكُون مَا بعْدهَا
بمنزلتها بعد (رب) ، وَتَكون تشبه من الْعدَد ثَلَاثَة أَثوَاب،
وَمِائَة دِرْهَم، فَتكون غير
(3/59)
خَارِجَة من الْعدَد، وَقد أصبت بهَا مَا
ضارعته؛ كَمَا أَن الْمُضَاف إِلَيْهِ إِنَّمَا خص بالخفض؛ لِأَنَّهُ
على / معنى اللَّام أَلا ترى أَن قَوْلك: هَذَا غُلَام زيد إِنَّمَا
مَعْنَاهُ: هَذَا غُلَام لزيد، وَقد يجوز أَن تكون منونة فى الْخَبَر،
فينتصب مَا بعْدهَا فَتَقول: كم رجلا قد أتانى إِلَّا أَن الأجود مَا
ذكرنَا؛ ليَكُون بَينهَا وَبَين المستفهم بهَا فصل فَإِن فصلت بَينهَا
وَبَين مَا تعْمل فِيهِ بشئ اختير التَّنْوِين؛ لِأَن الْخَافِض لَا
يعْمل فِيمَا فصل مِنْهُ، والناصب والرافع يعملان فى ذَلِك الْموضع
وَذَلِكَ قَوْلك: كم يَوْم الْجُمُعَة رجلا قد أتانى، وَكم عنْدك رجلا
قد لَقيته، ويختار النصب فى قَوْله:
(كم نالنى مِنْهُم فضلا على عدم ... إِذْ لَا أكاد من الإقتار أحتمل)
(3/60)
وَقد زعم قوم أَنَّهَا على كل حَال منونة،
وَأَن مَا انخفض بعْدهَا ينخفض على إِضْمَار (من) وَهَذَا بعيد؛ لِأَن
الْخَافِض لَا يضمر؛ إِذْ كَانَ وَمَا بعده بمنزل شئ وَاحِد، وَقد
ذَكرْنَاهُ بحججه موكدا وَمن فصل للضَّرُورَة بَين الْخَافِض والمخفوض
فعل مثل ذَلِك فى (كم) فى الْخَبَر وَذَلِكَ قَوْله:
(كم بحود مقرف نَالَ الْعلَا ... وشريف بخله قد وَضعه)
(3/61)
/ وَقَالَ الآخر:
(كم فى بنى سعد بن بكر سيد ... ضخم الدسيعة ماجد نفاع)
والقوافى مجرورة وَقَالَ الاخر:
(كم قد فاتنى بَطل كمى ... وياسر فتية سمح هضوم)
وَلَا يجوز أَن تفصل بَين الْخَافِض والمخفوض فى الضَّرُورَة إِلَّا
بحشو كالظروف وَمَا أشبههَا مِمَّا لَا يعْمل فِيهِ الْخَافِض؛ كَمَا
تَقول: إِن الْيَوْم زيدا منطلق وَلَو كَانَ مَكَان (الْيَوْم) مَا
تعْمل فِيهِ (إِن) لم يَقع إِلَى جَانبهَا إِلَّا مَعْمُولا فِيهِ
وَلَوْلَا أَن هَذِه القوافى مخفوض لاختير فى هذَيْن الْبَيْتَيْنِ
الرّفْع، وتوقع (كم) على مرار من الدَّهْر، فَتكون (كم) ظرفا
مَنْصُوبًا؛ لِأَن (كم) اسْم الْعدَد، فهى واقعه على كل مَعْدُود
وَتقول: كم رجلا جَاءَك؟ فَإِنَّمَا تسْأَل بهَا عَن عدد الرِّجَال
وَتقول: كم يَوْمًا لقِيت زيدا؟ فتنصبها؛ لِأَنَّهَا وَاقعَة على عدد
الْأَيَّام واللقاء الْعَامِل فِيهَا، فَكَذَا كل مُبْهَم وَلَو قلت:
كم يَوْمًا لقِيت فِيهِ زيدا؟ لكَانَتْ (كم) فى مَوضِع رفع، كَأَنَّك
قلت: أعشرون يَوْمًا لقِيت فِيهَا زيدا؟ إِلَّا أَن (كم) فى هَذَا
الْموضع اسْتِفْهَام / فهى فى أَنَّهَا اسْم وَأَنَّهَا الْحَرْف
(3/62)
المستفهم بِهِ بِمَنْزِلَة (من) ، و (مَا)
، و (أَيْن) ، و (مَتى) ، و (كَيفَ) وَإِن كَانَت الْمعَانى
مُخْتَلفَة؛ لِأَن (من) إِنَّمَا هى لما يعقل خَاصَّة حَيْثُ وَقعت: من
الْخَبَر، أَو اسْتِفْهَام، أَو جَزَاء، أَو نكرَة و (مَا) لذات غير
الْآدَمِيّين، ولصفات الْآدَمِيّين و (أَيْن) للمكان، و (مَتى) للزمان،
و (كَيفَ) للْحَال، و (كم) للعدد، فهى دَاخِلَة على جَمِيع هَذَا إِذا
سَأَلت عَن عدد نوع مِنْهَا؛ نَحْو: كم مَكَانا قُمْت؟ وَكم يَوْمًا
صمت؟ وَكم حَالا تصرفت عَلَيْهَا؟ وَنَحْو ذَلِك
(3/63)
(هَذَا بَاب مسَائِل (كم) فى الْخَبَر
والاستفهام)
تَقول: كم ثَلَاثَة سِتَّة إِلَّا ثلاثتان نصبت ثَلَاثَة؛ لِأَنَّهَا
تَمْيِيز، و (سِتَّة) خبر (كم) ، و (ثلاثتان) بدل من (كم) فالتقدير: أى
شئ من الْعدَد سِتَّة إِلَّا ثلاثتان؟ وَلَو قلت: كم لَك دِرْهَم؟
وَأَنت تُرِيدُ: كم دانقا دِرْهَم؟ لم يكن الدِّرْهَم إِلَّا رفعا،
وَلم ترد بِهِ إِلَّا وَاحِدًا وَلَو قلت: كم لَك درهما؟ لَكَانَ (لَك)
خَبرا، وَكَانَ الدِّرْهَم فى مَوضِع جمَاعَة /، لِأَنَّك تُرِيدُ: كم
من دِرْهَم لَك؟
(3/64)
وَتقول: كم دَنَانِير عنْدك؟ وَلَا يجوز
النصب فى تمييزها بِجَمَاعَة؛ كَمَا لَا تَقول: إِلَّا عشرُون درهما،
وَلَا يجوز عشرُون دَرَاهِم فَإِن ذكرت (كم) الَّتِى تقع فى الْخَبَر
جَازَ أَن تَقول: كم غلْمَان قد رَأَيْت، وَكم أَثوَاب قد لبست؛
لِأَنَّهَا بمنزله ثَلَاثَة أَثوَاب وَنَحْوه من الْعدَد، وَلِأَنَّهَا
مضارعة (رب) وهما يقعان على الْجَمَاعَة، ووقوعها على الْوَاحِد فى
معنى الْجَمَاعَة لمضارعتها (رب) وتشبه من الْعدَد مائَة دِرْهَم،
وَألف دِرْهَم وَاعْلَم أَن (كم) لَا بُد لَهَا من الْخَبَر،
لِأَنَّهَا اسْم فهى مُخَالفَة لرب فى هَذَا، مُوَافقَة لَهَا فى
الْمَعْنى تَقول: كم رجل قد رَأَيْت أفضل مِنْك، و (رب) إِنَّمَا تضيف
بهَا إِلَى مَا وَقعت عَلَيْهِ مَا بعده؛ نَحْو: رب رجل فى الدَّار،
وَرب رجل قد كلته فَهَذَا مَعْنَاهَا وَلَو قلت: كم رجل قد أتانى لَا
رجل، وَلَا رجلَانِ - كَانَ جيدا، لِأَنَّك تعطف على (كم) وَلَا يجوز
مثل هَذَا فى بَاب (رب) ؛ لِأَنَّهَا حرف فَأَما قَوْله:
(3/65)
(إِن يَقْتُلُوك فَإِن قَتلك لم يكن ...
عارا عَلَيْك، وَرب قتل عَار)
/ فعلى إِضْمَار (هُوَ) لَا يكون إِلَّا على ذَلِك فَهَذَا إنشاد
بَعضهم، وَأَكْثَرهم ينشده
(وَبَعض قتل عَار ... )
فَأَما قَوْله: كم من رجل قد رَأَيْته؟ فَتدخل (من) وَأَنت لَا تَقول:
عشرُون من رجل؛ فَإِنَّمَا ذَلِك لِأَن (كم) اسْتِفْهَام والاستفهام
يدْخل فِيمَا وَقع عَلَيْهِ (من) توكيدا وإعلاما أَنه وَاحِد فِي معنى
الْجَمِيع وَذَلِكَ: هَل أَتَاك من أحد؟ كَمَا تَقول فى المنفى: مَا
أتانى من رجل وَلَو قلت: مَا أتانى رجل، وَهل أتانى رجل - لجَاز أَن
تعنى وَاحِدًا؛ وَالدَّلِيل على ذَلِك وُقُوع الْمعرفَة فى هَذَا
الْموضع؛ نَحْو: مَا أتانى زيد، وَهل أَتَاك زيد؟ وَمعنى قَوْلك:
عشرُون درهما: إِنَّمَا هُوَ عشرُون من الدَّرَاهِم؛ لِأَن (عشرُون)
وَمَا أشبهه اسْم عدد فَإِذا قلت: هَذَا الْعدَد، فَمَعْنَاه: من ذَا
النَّوْع فَلَمَّا قلت: درهما، جِئْت بِوَاحِد يدل على النَّوْع،
لاستغنائك عَن ذكر الْعدَد، فَلَمَّا اجْتمع فى (كم) الِاسْتِفْهَام
وَأَنَّهَا تقع سؤالا عَن وَاحِد؛ كَمَا تقع سؤالا عَن جمع، وَلَا تخص
عددا دون عدد لإبهامها، وَلِأَنَّهَا لَو خصت لم تكن استفهاما؛
لِأَنَّهَا كَانَت تكون مَعْلُومَة عِنْد السَّائِل - دخلت (من) على
الأَصْل، وَدخلت فى الَّتِى هى خبر؛ لِأَنَّهَا فى الْعدَد / والإبهام
كهذه
(3/66)
وَاعْلَم أَن كل تَمْيِيز لَيْسَ فِيهِ ذكر
للمقصود فَإِن (من) لَا تدخله إِذا كَانَ مُفردا؛ لِأَنَّك لَو أدخلتها
لوَجَبَ الْجمع؛ وَذَلِكَ قَوْلك: عشرُون درهما، وَمِائَة دِرْهَم، وكل
رجل جاءنى فَلهُ دِرْهَم، وَهُوَ خير مِنْك عبدا، وأفره مِنْك دَابَّة،
وعندى ملْء قدح عسلا، وعَلى التمرة مثلهَا زبدا إِلَّا أَن تَقول:
عشرُون من الدَّرَاهِم، وَهُوَ خير مِنْك من الغلمان، وَعَلَيْهَا
مثلهَا من الزّبد فَإِن كَانَ فِيهَا ذكر الأول دخلت (من) فى
الْمَخْصُوص فَقلت: ويحه رجلا، وويحه من رجل: وَللَّه دره فَارِسًا،
وَمن فَارس، وحسبك بِهِ رجلا، وَمن رجل وَلَا يكون هَذَا فى الْمُضمر
الذى يقدم على شريطة التَّفْسِير؛ لِأَنَّهُ مُجمل، نَحْو: ربه رجلا قد
رَأَيْته، وَنعم رجلا عبد الله، وَقد مضى بَابهَا مُفَسرًا
(3/67)
(هَذَا بَاب الْأَفْعَال الَّتِى تسمى
أَفعَال المقاربة وهى مُخْتَلفَة الْمذَاهب وَالتَّقْدِير، مجتمعة فى
المقاربة)
فَمن تِلْكَ الْأَفْعَال (عَسى) وهى لمقاربة الْفِعْل، وَقد تكون
إِيجَابا، وَنحن نذْكر بعد فراغنا مِنْهَا شَيْئا إِن شَاءَ الله
اعْلَم (أَنه) لَا بُد لَهَا من فَاعل؛ لِأَنَّهُ لَا / يكون فعل
إِلَّا وَله فَاعل وخبرها مصدر؛ لِأَنَّهَا لمقاربته والمصدر اسْم
الْفِعْل وَذَلِكَ قَوْلك: عَسى زيد أَن ينْطَلق، وعسيت أَن أقوم، أى:
دَنَوْت من ذَلِك، وقاربته بِالنِّيَّةِ و (أَن أقوم) فى معنى الْقيام
(3/68)
وَلَا تقل: عَسَيْت الْقيام، وَإِنَّمَا
ذَلِك لِأَن الْقيام مصدر،، لَا دَلِيل فِيهِ يخص وقتا من وَقت، و (أَن
أقوم) مصدر لقِيَام لم يَقع؛ فَمن ثمَّ لم يَقع الْقيام بعْدهَا،
وَوَقع الْمُسْتَقْبل قَالَ الله عز وَجل {فَعَسَى الله أَن يَأْتِي
بِالْفَتْح} وَقَالَ: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا من المهتدين}
وَلَو احْتَاجَ شَاعِر إِلَى الْفِعْل فَوَضعه فى مَوضِع الْمصدر
جَازَ؛ لِأَنَّهُ دَال عَلَيْهِ فَمن ذَلِك قَوْله:
(عَسى الله يغنى عَن بِلَاد ابْن قَادر ... بمنهمر جون الربَاب سكوب)
(3/69)
وَقَالَ الاخر:
(عَسى الكرب الذى أمسيت فِيهِ ... يكون وَرَاءه فرج قريب)
وَأما قَوْلهم فى الْمثل: (عَسى الغوير أبؤسا) فَإِنَّمَا كَانَ
التَّقْدِير: عَسى الغوير أَن يكون أبوسا؛ لِأَن (عَسى) إِنَّمَا
خَبَرهَا الْفِعْل مَعَ (أَن) أَو الْفِعْل / مُجَردا، وَلَكِن لما وضع
الْقَائِل الِاسْم فى مَوضِع الْفِعْل كَانَ حَقه النصب؛ لِأَن (عَسى)
فعل، وَاسْمهَا فاعلها، وخبرها مفعولها؛ أَلا ترى أَنَّك تَقول: كَانَ
زيد ينْطَلق فموضعه نصب فَإِن قلت: مُنْطَلقًا لم يكن إِلَّا نصبا
فَأَما قَوْلهم: عَسى أَن يقوم زيد، وَعَسَى أَن يقوم أَبوك، وَعَسَى
أَن تقوم جواريك فقولك: (أَن يقوم) رفع؛ لِأَنَّهُ فَاعل عَسى فَعَسَى
فعل ومجازها مَا ذكرت لَك
(3/70)
فَأَما قَول سِيبَوَيْهٍ: إِنَّهَا تقع فى
بعض الْمَوَاضِع بِمَنْزِلَة (لَعَلَّ) مَعَ الْمُضمر فَتَقول: عساك
وعسانى - فَهُوَ غلط مِنْهُ؛ لِأَن الْأَفْعَال لَا تعْمل فى الْمُضمر
إِلَّا كَمَا تعْمل فى الْمظهر فَأَما قَوْله:
(تَقول بنتى: قد أَنى إناكا ... يَا أبتى علك أَو عساكا)
(3/71)
وَقَالَ آخر:
(ولى نفس أَقُول لَهَا إِذا مَا ... تخالفنى: لعلى أَو عسانى)
فَأَما تَقْدِيره عندنَا: أَن الْمَفْعُول مقدم، وَالْفَاعِل مُضْمر،
كَأَنَّهُ قَالَ: عساك الْخَيْر أَو الشَّرّ، وَكَذَلِكَ: عسانى
الحَدِيث، وَلكنه حذف؛ لعلم الْمُخَاطب بِهِ، وَجعل الْخَبَر اسْما على
قَوْلهم: (عَسى الغوير / أبؤسا)
(3/72)
وَكَذَلِكَ قَول الْأَخْفَش: وَافق ضمير
الْخَفْض ضمير الرّفْع فى (لولاى) ، فَلَيْسَ هَذَا القَوْل بشئ، وَلَا
قَول: أَنا كَأَنْت، وَلَا أَنْت كأنا - بشئ، وَلَا يجوز هَذَا،
إِنَّمَا يتَّفق ضمير النصب، وَضمير الْخَفْض كاستوائهما فى
التَّثْنِيَة وَالْجمع، وفى حمل المخفوض الذى لَا يجرى على لفظ النصب؛
مثل قَوْلك: مَرَرْت بعمر اسْتَوَى فِيهِ الْخَفْض، وَالنّصب وأدخلت
الْخَفْض على النصب، كَمَا أدخلت النصب على الْخَفْض، فهذان متواخيان
وَالرَّفْع بَائِن مِنْهُمَا وَأما (لَوْلَا) فَنَذْكُر أمرهَا فى
بَابهَا إِن شَاءَ الله وَمن هَذِه الْحُرُوف (لَعَلَّ) تَقول: لَعَلَّ
زيدا يقوم و (لَعَلَّ) حرف جَاءَ لِمَعْنى مشبه بِالْفِعْلِ كَأَن
مَعْنَاهُ التوقيع لمحبوب أَو مَكْرُوه وَأَصله (عل) وَاللَّام
زَائِدَة فَإِذا قلت: لَعَلَّ زيدا يأتينا بِخَير، وَلَعَلَّ عمرا
يزورنا - فَإِنَّمَا مجَاز هَذَا الْكَلَام من الْقَائِل، أَنه لَا
يَأْمَن أَن يكون هَذَا كَذَا وَالْخَبَر يكون اسْما؛ لِأَنَّهَا
بِمَنْزِلَة (إِن) ، وَيكون فعلا، وظرفا؛ كَمَا يكون فى (إِن) تَقول:
لَعَلَّ زيدا صديق لَك، وَلَعَلَّ زيدا فى الدَّار، وَلَعَلَّ زيدا إِن
أَتَيْته أَعْطَاك
(3/73)
إِذا ذكرت الْفِعْل فَهُوَ بِغَيْر (أَن)
أحسن؛ لِأَنَّهُ خبر ابْتِدَاء، وَقَالَ الله عز وَجل /: (لعَلّ اللهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} وَقَالَ: {فَقُوْلاَ لَهُ قَوْلاً
لَيَّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخشَى} فَإِن قَالَ الْقَائِل فى
الشّعْر: لَعَلَّ زيدا أَن يقوم - جَازَ؛ لِأَن الْمصدر يدل على
الْفِعْل، فمجاز الْمصدر هَاهُنَا كمجاز الْفِعْل فى بَاب (عَسى) قَالَ
الشَّاعِر:
(لَعَلَّك يَوْمًا أَن تلم ملمة ... عَلَيْك من اللائى يدعنك أجدعا)
وَمن هَذِه الْحُرُوف (كَاد) ، وهى للمقاربة، وهى فعل تَقول: (كَاد
الْعَرُوس يكون أَمِيرا) ، و (كَاد النعام يطير)
(3/74)
فَأَما قَول الله عز وَجل: {إِذا أخرج يَده
لم يكد يَرَاهَا} فَمَعْنَاه - وَالله أعلم -: لم يرهَا، وَلم يكد، أى:
لم يدن من رؤيتها وَكَذَلِكَ: {من بعد مَا كَاد يزِيغ قُلُوب فريق
مِنْهُم} فَلَا تذكر خَبَرهَا إِلَّا فعلا، لِأَنَّهَا لمقاربة
الْفِعْل فى ذَاته فهى بِمَنْزِلَة قَوْلك: جعل يَقُول، وَأخذ يَقُول،
وكرب يَقُول، إِلَّا أَن يضْطَر شَاعِر، فَإِن اضْطر جَازَ لَهُ فِيهَا
مَا جَازَ فى (لَعَلَّ) قَالَ الشَّاعِر:
(قد كَاد من طول البلى أَن يمصحا ... )
(3/75)
(هَذَا بَاب الْمُبْتَدَأ الْمَحْذُوف /
الْخَبَر اسْتغْنَاء عَنهُ وَهُوَ بَاب (لَوْلَا))
اعْلَم أَن الِاسْم الذى بعد (لَوْلَا) يرْتَفع بِالِابْتِدَاءِ،
وَخَبره مَحْذُوف لما يدل عَلَيْهِ وَذَلِكَ قَوْلك: لَوْلَا عبد الله
لأكرمتك ف (عبد الله) ارْتَفع بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره مَحْذُوف
وَالتَّقْدِير لَوْلَا عبد الله بالحضرة، أَو لسَبَب كَذَا لأكرمتك
فقولك: (لأكرمتك) ، خبر مُعَلّق بِحَدِيث (لَوْلَا) و (لَوْلَا) حرف
يُوجب امْتنَاع الْفِعْل لَو وُقُوع اسْم تَقول: لَوْلَا زيد لَكَانَ
كَذَا وَكَذَا فَقَوله: لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، إِنَّمَا هُوَ لشئ لم
يكن من أجل مَا قبله وَلَوْلَا إِنَّمَا هِيَ لَو وَلَا جعلتا شَيْئا
وَاحِدًا وأوقعتا على هَذَا الْمَعْنى فَإِن حذفت لَا من قَوْلك
لَوْلَا انْقَلب الْمَعْنى فَصَارَ الشَّيْء فِي لَو يجب لوُقُوع مَا
قبله وَذَلِكَ قَوْلك لَو جَاءَنِي زيد لأعطيتك وَلَو كَانَ زيد لحرمك
(3/76)
و (لَوْلَا) فى الأَصْل لَا تقع إِلَّا على
اسْم و (لَو) لَا تقع إِلَّا على فعل فَإِن قدمت الِاسْم قبل الْفِعْل
فِيهَا كَانَ على فعل مُضْمر، وَذَلِكَ كَقَوْلِه عز وَجل: {قل لَو
أَنْتُم تَمْلِكُونَ خَزَائِن رَحْمَة رَبِّي} إِنَّمَا (أَنْتُم) رفع
بِفعل يفسره مَا بعده وَكَذَلِكَ
(فَلَو غير أخوالى أَرَادوا نقيصتى ... جعلت لَهُم فَوق العرانين
ميسما)
وَمثل ذَلِك قَول الْعَرَب: (لَو ذَات سوار لطمتنى) إِنَّمَا أَرَادَ:
لَو لطمتنى ذَات سوار، وَالصَّحِيح من روايتهم: (لَو غير ذَات سوار
لطمتنى) وَفِيه خبر لحاتم
(3/77)
وَقَالَ الشَّاعِر
(لَو غَيْركُمْ علق الزبير بحبله ... أدّى الْجوَار إِلَى بنى
الْعَوام)
(فغيركم) يخْتَار فِيهَا النصب؛ لِأَن سَببهَا فى مَوضِع نصب
وَقَوْلهمْ: لَو أَنَّك جِئْت لأكرمتك، وَقد مر تَفْسِيره فى بَاب
(إِن) و (أَن)
(3/78)
(هَذَا بَاب الْمَقْصُور والممدود)
فَأَما الْمَقْصُور فَكل وَاو أَو يَاء وَقعت بعد فَتحه وَذَلِكَ؛
نَحْو: مغزى؛ لِأَنَّهُ (مفعل) فَلَمَّا كَانَت الْوَاو بعد فَتْحة،
وَكَانَت فى مَوضِع حَرَكَة انقلبت ألفا؛ كَمَا تَقول: غزا، وَرمى
فتقلب (الْوَاو) وَالْيَاء ألفا، وَلَا تنْقَلب وَاحِدَة مِنْهُمَا فى
هَذَا الْموضع / إِلَّا وَالْفَتْح قبلهَا إِذا كَانَت فى مَوضِع
حَرَكَة فَإِن كَانَت سَاكِنة الأَصْل وَقبلهَا فَتْحة لم تنْقَلب
وَذَلِكَ؛ نَحْو: قَول، وَبيع، وَلَا تنْقَلب ألفا؛ لأجل سكونها فَإِذا
أردْت أَن تعرف الْمَقْصُور من الْمَمْدُود فَانْظُر إِلَى نَظِير
الْحَرْف من غير المعتل فَإِن كَانَ آخِره متحركا قبله فَتْحة علمت أَن
نَظِيره مَقْصُور فَمن ذَلِك: معطى، ومغزى؛ لِأَنَّهُ مفعل فَهُوَ
بِمَنْزِلَة مخرج ومكرم، وَكَذَلِكَ: مستعطى، ومستغزى؛ لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَة مستخرج فعلى هَذَا فقس جَمِيع مَا ورد عَلَيْك وَمن
الْمَقْصُور أَن ترى الْفِعْل على (فعل يفعل) ، وَالْفَاعِل على فعل،
وَذَلِكَ قَوْلك: فرق يفرق فرقا، وحذر يحذر حذرا، وبطر يبطر بطرا
وَهُوَ بطر، وحذر
(3/79)
وَنَظِير هَذَا من المعتل: هوى يهوى هوى؛
لِأَن الْمصدر يَقع على فعل؛ أَلا ترى أَنَّك تَقول: الْفرق، والحذر،
والبطر وَهُوَ بِمَنْزِلَة هوى يهوى وَهُوَ هُوَ، وطوى يطوى طوى وَهُوَ
طوى
وَمَا كَانَ مصدر لفعل يفعل الَّذِي الِاسْم مِنْهُ أفعل أَو فعلان
فَهُوَ كَذَلِك أما مَا كَانَ الِاسْم مِنْهُ (أفعل) فَهُوَ أعمى /؛
لِأَنَّك تَقول: عمى الرجل فَهُوَ أعمى، والعشى؛ لِأَنَّك تَقول: عشى
الرجل وَهُوَ أعشى، وَكَذَلِكَ القنا من قِنَا الْأنف، لِأَن الرجل
أقنى وَأما (فعلان) فنحو الصدى، والطوى؛ لِأَنَّك تَقول: صدى الرجل
فَهُوَ صديان، وطوى فَهُوَ طيان فنظير ذَلِك: عَطش فَهُوَ عطشان،
والمصدر هُوَ الْعَطش، وظمى فَهُوَ ظمآن والمصدر الظمأ، وعله فَهُوَ
علهان والمصدر العله
(3/80)
وَنَظِير الأول: عور فَهُوَ أَعور، والمصدر
العور وَكَذَلِكَ الْحول، والشتر، والصلع، وَنَحْو ذَلِك وَمن
الْمَقْصُور كل اسْم جمعه (أَفعَال) مِمَّا أَوله مَفْتُوح، أَو مضموم،
أَو مكسور وَذَلِكَ نَحْو قَوْلك: أقفاء، وأرجاء يَا فَتى؛ لِأَن
الْجمع إِذا كَانَ على (أَفعَال) وَجب أَن يكون واحده من المفتوح على
فعل؛ نَحْو: جمل، وأجمال وقتب وأقتاب، وصنم وأصنام فَإِن كَانَ مكسورا
فنحو قَوْلك فى معى: أمعاء؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة ضلع وأضلاع وَقد
وَجب أَن يكون وَاحِد الأمعاء معى مَقْصُور فَأَما (ندى) فَهُوَ فعل،
وَجمعه الصَّحِيح أنداء فَاعْلَم؛ وعَلى ذَلِك قَالَ الشَّاعِر:
(/ إِذا سقط الأنداء صينت وأشعرت ... حبيرا وَلم تدرج عَلَيْهَا
المعاوز)
فَأَما قَول مرّة بن محكان:
(فى لَيْلَة من جُمَادَى ذَات أندية ... مَا يبصر الْكَلْب من ظلمائها
الطنبا)
(3/81)
فقد قيل فى تَفْسِيره قَولَانِ: قَالَ
بَعضهم: هُوَ جمع على غير وَاحِد، مجازه مجَاز الِاسْم الْمَوْضُوع على
غير الْجمع، نَحْو: ملامح، ومذاكير، وليالى؛ لِأَن لَيْلَة: فعلة،
وَلَا تجمع على ليالى، ولمحة وَذكر لَا يجمعان على مفاعل ومفاعيل
وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا أَرَادَ جمع ندى، أى: ندى الْقَوْم الذى
يُقِيمُونَ فِيهِ، فيضيفون ويفخرون؛ كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(يَوْمَانِ يَوْم مقامات وأندية ... وَيَوْم سير إِلَى الْأَعْدَاء
تأويب)
فَإِنَّمَا تستدل على الْمَقْصُور بنظائره
(3/82)
وَمن الْمَقْصُور مَا كَانَ جمعا لفعله أَو
فعله؛ نَحْو: رقية ورقى، ولحية ولحى، ورشوة ورشى، ومدية ومدى وَقد
قَالُوا: مدية ومدى؛ لِأَن نَظِيره من غير المعتل: كسرة وَكسر، وَقطعَة
وَقطع، وظلمة وظلم فَإِنَّمَا تستدل على الْمَقْصُور بِهَذَا وَمَا
أشبهه وَمن الْمَقْصُور كل مَا كَانَ مؤنثا لفعلان؛ نَحْو: غَضْبَان /،
وعطشان، وسكران؛ لِأَن مؤنثه سكرى، وغضبى، وعطشى وَمِنْه مَا كَانَ
جمعا لفعلى؛ لِأَنَّهُ يَقع على مِثَال (فعل) ، وَذَلِكَ قَوْلك:
الدُّنْيَا والدنا، والقصيا والقصى وَمِنْه مَا كَانَ مؤنثا فى (أفعل)
الذى مَعَه من كَذَا؛ لِأَنَّهُ يكون على مِثَال (فعلى) وَذَلِكَ
(3/83)
قَوْلك: هَذَا الْأَكْبَر، وَهَذِه
الْكُبْرَى، والأصغر وَالصُّغْرَى وَالْأول وَالْأولَى؛ لِأَنَّك
تَقول: هَذَا أَصْغَر مِنْك، وَهَذَا أكبر مِنْك، وَهَذَا أول مِنْك
وَمن الْمَقْصُور مَا لَا يُقَال لَهُ: قصر لكذا؛ كَمَا لَا يُقَال:
إِنَّمَا سميت قدم لكذا، وقذال لكذا وَلَكِنَّك تستدل على قصره بِمَا
هُوَ على خِلَافه بنجو مَا ذَكرْنَاهُ فَأَما الْمَمْدُود فَإِنَّهُ
يَاء أَو وَاو تقع بعد ألف زَائِدَة، أَو تقع أَلفَانِ للتأنيث فتبدل
الثَّانِيَة همزَة؛ لِأَنَّهُ إِذا الْتَقت أَلفَانِ فَلَا بُد من حذف
أَو تَحْرِيك؛ لِئَلَّا يلتقى ساكنان، فالحذف لَو وَقع هَاهُنَا لعاد
الْمَمْدُود مَقْصُورا، فحرك لما ذكرت لَك فَأَما مَا كَانَ غير مؤنث،
فهمزته أَصْلِيَّة أَو منقلبة / من يَاء أَو وَاو بعد ألف زَائِدَة
فَمن ذَلِك مَا بنيته على (فعال) ؛ نَحْو: شراب، وقتال، وَحسان، وكرام؛
لِأَن مَوضِع اللَّام بعد ألف زَائِدَة فَإِن كَانَ من ذَوَات الْوَاو
وَالْيَاء، أَو مَا همزته أَصْلِيَّة؛ نَحْو: سقاء، وغزاء يَا فَتى؛
لِأَنَّهُ من سقيت وغزوت، وقولك: قراء يَا فَتى؛ لِأَنَّهُ من قَرَأت،
فَهَذَا كَهَذا وَمِمَّا يعلم مِنْهُ أَنه مَمْدُود مَا كَانَ من هَذَا
الْبَاب مصدرا لأفعلت؛ لِأَنَّهَا تأتى على وزن الإفعال؛ نَحْو:
أَخْطَأت إخطاء، وَأَقْرَأْته إقراء هَذَا مِمَّا همزته أَصْلِيَّة
(3/84)
وَمن ذَوَات الْيَاء الْوَاو: أَعْطيته
إِعْطَاء، وأغزيته إغزاء وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ مصدرا لاستفعلت؛
نَحْو: استقصيت استقصاء، واستدنيت استدناء لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة
الاستخراج، والاستضراب وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ مصدرا لِقَوْلِك:
انفعل، وافتعل؛ لِأَنَّهُ يأتى بِمَنْزِلَة الانطلاق والاقتدار؛ لِأَن
مَا قبل اللَّام ألف زَائِدَة؛ نَحْو: اختفى اختفاء، وانقضى انْقِضَاء
وكل مَا لم نسمه فقسه على نَظِيره من الصَّحِيح وكل جمع من هَذَا
الْبَاب على (أَفعلهُ) فواحده مَمْدُود نَحْو: رِدَاء وأردية، وَكسَاء
/ وأكسية، وإناء وآنية، ووعاء وأوعية؛ لِأَن نَظِيره حمَار وأحمرة،
وقبال وأقبلة وَمن الْمَمْدُود مَا كَانَ جمعا لفعله من ذَوَات الْوَاو
وَالْيَاء، وَذَلِكَ نَحْو: فَرْوَة وفراء وَمن قَالَ: جروة قَالَ:
جراء فَاعْلَم، وَكَذَلِكَ كوَّة وكواء
(3/85)
فَأَما قَرْيَة وقرى فَلَيْسَ من هَذَا
الْبَاب؛ لِأَن قرى (فعل) وَلَيْسَ على فعلة وفعال؛ لِأَن (فعالا) فى
فعلة هُوَ الْبَاب؛ نَحْو: صَحْفَة وصحاف؛ وقصعة وقصاع، وجفنة وجفان
وَمن الْمَمْدُود كل مصدر مضموم الأول فى معنى الصَّوْت فَمن ذَلِك
الدُّعَاء، والعواء، والرغاء هَذَا الْمَمْدُود؛ لِأَن نَظِيره من غير
المعتل النباح، والصراخ والشحاج فَأَما الْبكاء، فَإِنَّهُ يمد وَيقصر
فَمن مد فَإِنَّمَا أخرجه مخرج الصَّوْت، وَمن قصره أخرجه مخرج الْحزن
وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ فى معنى الْحَرَكَة على هَذَا الْوَزْن؛
لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة النقار، والنفاض وقلما تَجِد الْمصدر مضموم
الأول مَقْصُورا؛ لِأَن (فعلا) قَلما يَقع فى المصادر
(3/86)
وَاعْلَم أَن من الْمَمْدُود مَالا يُقَال
لَهُ: مد لكذا؛ كَمَا لَا تَقول: / وَقع حمَار لكذا إِلَّا أَنَّك
تستدل بالنظائر وَاعْلَم أَن كل مَمْدُود تثنيه وَكَانَ منصرفا - فَإِن
إِقْرَار الْهمزَة فِيهِ أَجود، نَحْو: كساءان، ورداءان، وَقد يجوز أَن
تبدل الْوَاو من الْهمزَة فَتَقول: كساوان، ورداوان، وَلَيْسَ بالجيد
فَإِن قلت: قراوان فَهُوَ أقبح؛ لِأَن الْهمزَة أصل، وَلَيْسَت منقلبة
من يَاء أَو وَاو، وَهَذَا جَائِز فَإِن كَانَ مُلْحقًا كَانَ أحسن،
على أَن الْهمزَة أَجود وَذَلِكَ: علباوان، وحرباوان؛ لِأَن الْهمزَة
ملحقه، وَلَيْسَت بِأَصْل، وَلَا منقلبة من شئ من الأَصْل وَكَذَلِكَ
النّسَب: من قَالَ كسَاء ان قَالَ: كسائى، وَمن قَالَ: كساوان قَالَ:
كساوى فَإِن كَانَت الْهمزَة للتأنيث لم يكن إِلَّا بِالْوَاو؛ نَحْو:
حمراوان، وحمراوى والمقصور إِذا كَانَ على ثَلَاثَة أحرف ردَّتْ
الْوَاو وَالْيَاء فى التَّثْنِيَة، تَقول: قفوان فَإِن كَانَ من
ذَوَات الْيَاء قلت: رحيان، فَردَّتْ الْيَاء فَإِن زَاد على
الثَّلَاثَة شَيْئا - منصرفا كَانَ أَو غير منصرف - لم تقل فى تثنيته
إِلَّا بِالْيَاءِ؛ نَحْو: حبليان، ومغزيان، وحباريان وَكَذَلِكَ
الْجمع بِالتَّاءِ نَحْو: حباريات، وحبليات فَأَما فى النّسَب فَمَا
كَانَ مِنْهُ على ثَلَاثَة انقلبت / أَلفه واوا من أى الْبَابَيْنِ
كَانَ؛ نَحْو: رحوى، وقفوى فَإِن زَاد فَلهُ حكم نذكرهُ فى بَاب
النِّسْبَة إِن شَاءَ الله وَنَذْكُر بعد هَذَا مجَاز وُقُوع
الْمَمْدُود والمقصور، ليعلم مَا سَبِيل الْمَدّ وَالْقصر فيهمَا إِن
شَاءَ الله؟ أما الْمَقْصُور فَإِنَّمَا هُوَ على أحد أَمريْن:
(3/87)
إِمَّا أَن يكون اسْما أَلفه غير زَائِدَة؛
نَحْو: قفا، وعصا، وملهى، ومرمى، ومستعطى، فَهَذَا كُله انقلبت ياوه
أَو واوه ألفا لما ذكرت لَك وَإِمَّا أَن تكون أَلفه زَائِدَة لإلحاق
أَو تَأْنِيث: فالإلحاق؛ نَحْو: حنبطى، وعفرتى، وأرطى والتأنيث نَحْو:
حُبْلَى، وبشرى، وقرقرى فَهَذِهِ صِيغ وَقعت كَمَا تقع الْأَسْمَاء
الَّتِى لَا يُقَال لَهَا مَقْصُورَة وَلَا ممدودة فَمَا كَانَ مثل قفا
وعصا، فنحو جمل وَمثل مغزى، وملهى، مخرج، ومدخل وَمَا كَانَ نَحْو:
حبنطى فلامه أصل؛ لِأَن ألف حبنطى مُلْحقَة بِهِ؛ نَحْو: جحنفل، وَمَا
أشبهه، وكأرطى الذى هُوَ فعلى، / فألفه مُلْحقَة بِجَعْفَر وسلهب،
فألفات هَذَا الضَّرْب أَصْلِيَّة، وَتلك مُلْحقَة بهَا وَأما
الْمَمْدُود فَلَا يكون إِلَّا وَقبل آخِره ألف زادة، وَيَقَع بعْدهَا
ألف مبدلة من يَاء أَو وَاو، للتأنيث أَو للإلحاق فَأَما سقاء وغزاء،
فبمنزلة ضراب وقتال وَأما الملحقة فنحو: حرباء، وعلباء وفعلاء -
فَاعْلَم - تلْحق بسرادح، وشملال وفعلاء تلْحق؛ نَحْو: قوباء فَاعْلَم
فِيمَن أسكن الْوَاو، وَهُوَ بِمَنْزِلَة فسطاط وَأما مَا كَانَ
للتأنيث فنحو: حَمْرَاء، وصفراء، وخنفساء إِنَّمَا هى زَائِدَة بعد
زَائِدَة فَهَذَا تَأْوِيل الْمَقْصُور والممدود
(3/88)
(هَذَا بَاب الِابْتِدَاء وَهُوَ الذى
يُسَمِّيه النحويون (الْألف وَاللَّام))
اعْلَم أَن هَذَا الْبَاب عِبْرَة لكل كَلَام، وَهُوَ خبر، وَالْخَبَر
مَا جَازَ على قَائِله التَّصْدِيق والتكذيب فَإِذا قلت: قَامَ زيد /،
فَقيل لَك: أخبر عَن (زيد) ، فَإِنَّمَا يَقُول لَك: ابْن من قَامَ
فَاعِلا وألحقه الْألف وَاللَّام على معنى الذى، وَاجعَل زيدا خَبرا
عَنهُ، وضع الْمُضمر مَوْضِعه الذى كَانَ فِيهِ فى الْفِعْل
فَالْجَوَاب فى ذَلِك أَن تَقول: الْقَائِم زيد، فتجعل الْألف
وَاللَّام فى معنى الذى، وصلتهما على معنى صلَة الذى، وفى الْقَائِم
ضمير يرجع إِلَى الْألف وَاللَّام، وَذَلِكَ الضَّمِير فَاعل؛ لِأَنَّك
وَضعته مَوضِع زيد فى الْفِعْل، و (زيد) خبر الِابْتِدَاء وَإِن شِئْت
قلته ب (الذى) ، فَقلت: الذى قَامَ زيد فَالَّذِي لَا يمْتَنع مِنْهُ
كَلَام يخبر عَنهُ ألبته وقولك: الْفَاعِل لَا يكون إِلَّا من فعل
خَاصَّة
(3/89)
وَلَو قلت: زيد فى الدَّار فَقَالَ: أخبر
عَن (زيد) بِالْألف وَاللَّام - لم يجز؛ لِأَنَّك لم تذكر فعلا فَإِن
قيل لَك: أخبر عَنهُ بالذى قلت: الذى هُوَ فى الدَّار زيد، فَجعلت
(هُوَ) ضمير زيد، وَرفعت (هُوَ) فى صلَة الذى بِالِابْتِدَاءِ، (وفى
الدَّار) خَبره، كَمَا كَانَ حَيْثُ قلت: زيد فى الدَّار، وَجعلت
(هُوَ) ترجع إِلَى الذى فَإِن قَالَ لَك: أخبر عَن (الدَّار) فى
قَوْلك: / زيد فى الدَّار، قلت: الَّتِى زيد فِيهَا الدَّار فالهاء فى
قَوْلك (فِيهَا) مخفوض فى مَوضِع الدَّار؛ لِأَن الدَّار فى المسالة
هَاهُنَا خبر الَّتِى، فَهَذَا وَجه الْإِخْبَار
(3/90)
|