المقتضب (هَذَا بَاب مَا يكون من المصادر توكيدا)
وَذَلِكَ قَوْلك: لَا إِلَه إِلَّا الله قولا حَقًا كَأَنَّك قلت:
أَقُول قولا حَقًا؛ لِأَن قَوْلك لَا إِلَه إِلَّا الله هُوَ حق
وَكَذَلِكَ لأضربنك قسما حَقًا لِأَنَّهُ بدل من قَوْلك: أقسم،
وَكَذَلِكَ: لأقومن قسما / لِأَن قَوْلك: لأفومن فِيهِ لَام الْقسم
وَمثله:
(إنى لأمنحك الصدود وإننى ... قسما إِلَيْك مَعَ الصدود لأميل)
فَإِن قَالَ قَائِل: ك قد تقع اللَّام فِيمَا لَا قسم فِيهِ قيل: تقع
على تَقْدِير الْقسم؛ لِأَن قَوْلك: وَالله لَأَفْعَلَنَّ مُتَّصِل،
وَلَو أقسم مقسم على فعل لم يَقع - لم يكن ليتصل بِهِ إِلَّا اللَّام
وَالنُّون، فَإِنَّمَا حَقه الْقسم ذكر أَو حذف، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ
مثل الكعيت يعْنى البلبل، والجميل - إِنَّمَا هُوَ مصغر، وَإِن كَانَ
تكبيره غير مُسْتَعْمل لعِلَّة قد ذَكرنَاهَا فى بَاب التصغير أَلا ترى
أَنه يرد إِلَى الأَصْل فى جمعه، فَيجمع على تكبيره، وَذَلِكَ قَوْلك
فى جمع كميت: كمت؛ كَمَا تَقول: أشقر وشقر؛ لِأَن الأَصْل أكمت،
وَإِنَّمَا هُوَ مصغر تَصْغِير التَّرْخِيم وَكَذَلِكَ تَقول: كعنان،
وجملان؛ لِأَن تكبيره: فعل؛ كَمَا تَقول فى النغر، والصرد، والجعل:
جعلان، ونغران، وصردان
(3/233)
فَمثل ذَلِك كرْسِي، وقمرى إِنَّمَا هُوَ
فعل، وَالْيَاء يَاء النّسَب / وَإِن لم يسْتَعْمل غير مَنْسُوب،
وَلَيْسَ فِيهِ نسب إِلَى أَرض وَلَا رجل وَلَا غير ذَلِك وَمن المصادر
مَا يَقع فى مَوضِع الْحَال فيسد مسده، فَيكون حَالا، لِأَنَّهُ قد
نَاب عَن اسْم الْفَاعِل، وأغنى غناءه، وَذَلِكَ قَوْلهم: قتلته صبرا
إِنَّمَا تَأْوِيله: صَابِرًا أَو مصبرا، وَكَذَلِكَ: جِئْته مشيا؛
لِأَن الْمَعْنى: جِئْته مَاشِيا فالتقدير: أمشى مشيا، لِأَن المجئ على
حالات، والمصدر قد دلّ على فعله من تِلْكَ الْحَال وَلَو قلت: جِئْته
إِعْطَاء لم يجز؛ لِأَن الْإِعْطَاء لَيْسَ من المجئ، وَلَكِن جِئْته
سعيا، فَهَذَا جيد؛ لِأَن المجئ يكون سعيا قَالَ الله عز وَجل: {ثمَّ
ادعهن يأتينك سعيا} فَهَذَا اخْتِصَار يدل على مَا يرد مِمَّا يشاكلها،
ويجرى مَعَ كل صنف مِنْهَا
(3/234)
صفحة فارغة
(3/235)
(هَذَا بَاب الْأَسْمَاء الَّتِى تُوضَع
مَوضِع المصادر الَّتِى تكون حَالا)
وَذَلِكَ قَوْلك: كَلمته فَاه إِلَى فى، وبايعته يدا بيد فَإِنَّمَا
انتصب؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ: كَلمته مشافهة، وبايعته نَقْدا، فَوضع
قَوْله: (فَاه إِلَى فى) / مَوضِع مشافهة، وَوضع قَوْله: (يدا بيد) فى
مَوضِع نَقْدا فَلَو قلت: كَلمته فوه إِلَى فى لجَاز؛ لِأَنَّك
تُرِيدُ: كَلمته وفوه إِلَى فى وَأما بايعته يدا بيد فَلَا يجوز غَيره؛
لِأَن الْمَعْنى: بايعته نَقْدا، أى: أخذت مِنْهُ، وَأعْطيت، وَلست
تخبر أَنَّك بايعته وَيَد بيد؛ كَمَا أَنَّك كَلمته وفوه إِلَى فِيك
وَلَكِن تَقول: بايعته يَده فَوق رَأسه، أردْت: وَيَده فَوق رَأسه، أى:
وَهَذِه حَاله؛ لِأَن هَذَا لَيْسَ من نعت الْمُبَايعَة؛ كَمَا كَانَ
قَوْلك: مشافهة ونقدا من نعت الْفِعْل، فَكَذَلِك بايعته وَيَده فى يدى
(3/236)
وَاعْلَم أَن من المصادر مَا يدل على
الْحَال وَإِن كَانَ معرفَة وَلَيْسَ بِحَال، وَلَكِن دلّ على
مَوْضِعه، وَصلح للموافقة، فنصب، لِأَنَّهُ فى مَوضِع مَا لَا يكون
إِلَّا نصبا وَذَلِكَ قَوْلك: أرسلها العراك وَفعل ذَلِك جهده وطاقته،
لِأَنَّهُ فى مَوضِع: فعله مُجْتَهدا، وأرسلها معتركة؛ لِأَن
الْمَعْنى: أرسلها وهى تعترك، وَلَيْسَ الْمَعْنى أرسلها؛ / لتعترك
قَالَ الشَّاعِر:
(فأرسلها العراك وَلم يذدها ... وَلم يشفق على نغص الدخال)
(3/237)
وَاعْلَم أَن هَذِه المنتصبات عَن المصادر
فى مَوضِع الْأَحْوَال، وَلَيْسَت بأحوال، وَلكنهَا مُوَافقَة، وموضوعة
فى مَوَاضِع غَيرهَا؛ لوقوعها مَعَه فى الْمَعْنى وَكَذَلِكَ: جاءنى
الْقَوْم قاطبة، وطرا إِنَّمَا مَعْنَاهُ: جاءنى الْقَوْم جَمِيعًا،
وَلَكِن وَقع (طَرَأَ) فى معنى الْمصدر؛ كَمَا تَقول: جاءنى الْقَوْم
جَمِيعًا إِذا أَخَذته من قَوْلك: جمعُوا جمعا وَقد يكون الْجمع اسْما
للْجَمَاعَة قَالَ الله عز وَجل: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ} فَأَما قَوْلك: (طَرَأَ) فقد كَانَ يُونُس يزْعم أَنه اسْم
نكرَة للْجَمَاعَة وَإِن لم يَقع إِلَّا حَالا وَيُقَال: طررت
الْقَوْم، أى: مَرَرْت بهم جَمِيعًا وَقَالَ النحويون سوى يُونُس:
إِنَّه فى مَوضِع الْمصدر الذى يكون حَالا
(3/238)
(هَذَا بَاب الاسماء الْمَوْضُوعَة فى
مَوَاضِع المصادر إِذا أُرِيد بهَا ذَلِك / أَو أُرِيد بهَا التوكيد
جرت على مَا قبلهَا مجْرى كلهم وأجمعين)
وَذَلِكَ قَوْلك: مَرَرْت بزيد وَحده، ومررت بأخويك وَحدهمَا، ومررت
بالقوم خمستهم، ومررت بهم ثَلَاثَتهمْ، وَأَتَاهُ الْقَوْم قضهم
بقضيضهم أما قَوْلك: مَرَرْت بزيد وَحده فتأويله: أوحدته بمرورى
إيحادا؛ كَقَوْلِك: أفردته بمرورى إفرادا وقولك: (وَحده) فى معنى
الْمصدر، فَلَا سَبِيل إِلَى تَغْيِيره عَن النصب وَأما قَوْلك:
مَرَرْت بالقوم خمستهم فَجَائِز أَن تجريه على الأول فَتَقول: مَرَرْت
بالقوم خمستهم، وَمَا أشبه الْخَمْسَة من قَوْلك: ثَلَاثَتهمْ،
وأربعتهم، وَالْمعْنَى مُخْتَلف لِأَنَّك إِذا قلت: مَرَرْت بالقوم
خمستهم - فَمَعْنَاه: بهؤلاء تخميسا؛ كَقَوْلِك: مَرَرْت بِهِ وَحده؛
أى: لم أخلط مَعَه أحدا فَكَذَلِك قَوْلك فى الْجَمَاعَة إِنَّمَا هُوَ
خصصتهم وَإِذا قلت: مَرَرْت بالقوم خمستهم - فَهُوَ على أَنه قد علم
أَنهم خَمْسَة، فَإِنَّمَا أجْرى مجْرى / كل أَرَادَ: مَرَرْت بالقوم
كلهم، أى: لم أبق من هَؤُلَاءِ الْخَمْسَة أحدا فَالْمَعْنى يحْتَمل
أَن تكون قد مَرَرْت بغيرهم؛ كَمَا أَنَّك إِذا قلت: مَرَرْت بإخوتك
كلهم جَازَ أَن تكون قد مَرَرْت بغيرهم أَيْضا
(3/239)
وَأما قَوْلك: مَرَرْت بالقوم قضهم بقضيضهم
فعلى هَذَا كَأَنَّك قلت: مَرَرْت بالقوم كلهم وجماعتهم وَمن قَالَ:
قضهم بقضيضهم أَرَادَ: انقضاضا، أى: انقض أَوَّلهمْ على آخِرهم
(3/240)
وَلَا يجوز مَرَرْت بزيد كُله؛) ؛ لِأَن
(كلا) لَا يقوم فى هَذَا الْموضع، وَلَا يجوز: مَرَرْت بأخويك اثنيهما؛
لِأَن الِاثْنَيْنِ هما الْهَاء وَالْمِيم، والشئ لَا يُضَاف إِلَى
نَفسه وَإِنَّمَا قلت: خمستهم؛ لِأَن (هم) لكل جمع، فاقتطعت من الْجمع
شَيْئا، فأضفته إِلَى جَمِيعه، فَصَارَ مُخْتَصًّا بِهِ و (هما) لَا
يكون إِلَّا تَثْنِيَة فَإِن قلت: فَأَنت تَقول: كِلَاهُمَا منطلق ف
(كلا) لَا يكون إِلَّا لاثْنَيْنِ، فَلم أضفته إِلَى ضميرهما؟
فَالْجَوَاب فى ذَلِك: أَن (كلا) اسْم وَاحِد فِيهِ معنى التَّثْنِيَة،
فَإِنَّمَا أضفت وَاحِدًا إِلَى اثْنَيْنِ أَلا ترى أَنَّك تَقول:
الِاثْنَان منطلقان، وَكِلَاهُمَا منطلق، وكلانا كَفِيل ضَامِن عَن
صَاحبه فَإِنَّمَا تَأْوِيله: كل وَاحِد / منا؛ كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(أكاشره وَأعلم أَن كِلَانَا ... على مَا سَاءَ صَاحبه حَرِيص)
(3/241)
وَمَعَ هَذَا إِن التَّثْنِيَة إِنَّمَا
تخرج عَن الْوَاحِد تَقول: رجل ورجلان، وَامْرَأَة امْرَأَتَانِ فَمن
هَذَا الْوَجْه أَيْضا إِذا قلت للْوَاحِد: مَرَرْت بِهِ وَحده، قلت
للاثنين: مَرَرْت بهما وَحدهمَا فَذا بَين جدا فَأَما قَوْلهم: هَذَا
نَسِيج وَحده فَلَا معنى لَهُ إِلَّا الْإِضَافَة، لِأَنَّهُ يخبر أَنه
لَيْسَ فى مِثَاله أحد، فَلَو لم يضف إِلَيْهِ لقَالَ: هَذَا نَسِيج
إفرادا فالإضافة فى الْحَقِيقَة إِلَى الْمصدر وَكَذَلِكَ عيير وَحده،
وجحيش وَحده وَلَو قَالَ: جحيش نَفسه وعيير نَفسه وَحدهَا لصلح؛
لِأَنَّهُ الرجل الذى يخْدم نَفسه وَحدهَا فَهَذَا بَين جدا وَكَانَ
أَبُو الْحسن الْأَخْفَش لَا يُجِيز: اخْتصم أَخَوَاك كِلَاهُمَا،
وَلَا اقتتل أَخَوَاك كِلَاهُمَا،
(3/242)
وَيَقُول: (اخْتصم) لَا يكون إِلَّا من
اثْنَيْنِ أَو أَكثر، وَإِنَّمَا أَقُول: جاءنى أَخَوَاك كِلَاهُمَا؛
لأعْلم السَّامع أَنه لم يَأْتِ وَاحِد، وَكَذَلِكَ: جاءنى إخْوَتك
كلهم؛ لأعْلم أَنى لم أبق / مِنْهُم وَاحِدًا، فَقيل لَهُ: فَقل:
اخْتصم أَخَوَاك كِلَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يلتبس بِمَا بعد
التَّثْنِيَة، فَذهب إِلَى أَن (كِلَاهُمَا) يكثر بِهِ، وَلَا يقلل
بِهِ وَهَذَا قَول كثير من النَّحْوِيين وَلَيْسَ كَمَا قَالَ إِذا حدد
وَذَلِكَ أَن (كلا) عُمُوم؛ لِأَن الْأَعْدَاد قد يقْتَصر على الشئ
مِنْهَا، فَيكون كلَاما، فَتَقول: جاءنى بَنو فلَان، فَيجوز أَن تعنى
بَعْضًا دون الْكل فَإِذا قلت: كلهم دخلت لتدل على الْعُمُوم و (كلا)
لَيْسَ كَذَلِك إِنَّمَا تقع على الِاثْنَيْنِ وَأَنت تُرِيدُ كل
وَاحِد مِنْهُمَا فَهَذَا لَا يَقع إِلَّا على مَا وَصفنَا لِأَن
جمَاعَة أَكثر من جمَاعَة، وَلَا يكون اثْنَان أَكثر عددا من اثْنَيْنِ
فَتَقول: تَكْثِير أَو تقليل وَمن قَول الْأَخْفَش أَنه لَا يجوز:
اسْتَوَى زيد وَعَمْرو كِلَاهُمَا: لِأَن الاسْتوَاء لَا يكون من
وَاحِد، إِذا أَرَادَ: سَاوَى فلَان فلَانا، بل يدْخل فى بَاب اقتتل،
واختصم، وَنَحْوه وَإِنَّمَا تستخرج هَذِه الْمسَائِل بالتفتيش
وَالْقِيَاس وَاعْلَم أَن من الْأَسْمَاء أَسمَاء محتمله لَا تنفصل
بأنفسها فَمَتَى مَا سمع مِنْهَا شئ علم أَن صَوَابه أَن يكون
مَحْمُولا على غَيره، وَذَلِكَ قَوْلك: / جاءنى رجل آخر لَا يجوز هَذَا
إِلَّا أَن
(3/243)
تكون قد ذكرت قبله رجلا، فَتَقول: جاءنى
فلَان وَرجل آخر، أَو يَقُول الْقَائِل: هَل جَاءَك فلَان؟ فَتَقول:
جاءنى رجل آخر وَكَذَلِكَ: سَائِر كَذَا وَكَذَا لَا يكون إِلَّا
مُضَافا إِلَى شَيْء قد ذكر بعضه تَقول: رَأَيْت الْأَمِير دون سَائِر
الْأُمَرَاء، وجاءنى عبد الله وَتَأَخر عَنى سَائِر إخواتى، إِذا كَانَ
عبد الله أَخَاك، فَإِن لم يكن أَخَاك لم تجز الْمَسْأَلَة إِذا لم يكن
بَعْضًا أضفت السائر إِلَيْهِ وَلَو قلت: أتتنى جاريتك وَامْرَأَة
أُخْرَى [كَانَ جَائِزا، وَلَو قلت: أتتنى جاريتك وَرجل آخر لم يجز،
وَكَذَلِكَ لَو قلت: أتانى إخْوَتك، وَامْرَأَة أُخْرَى كَانَ] غير
جَائِز فَإِن قلت: أتانى أَخُوك، وإنسان آخر جَازَ وَإِن عنيت بالإنسان
امْرَأَة؛ لِأَن الْبَاب الذى ذكرتها بِهِ يجمعها وَكَذَلِكَ: جاءتنى
جاريتك وإنسان آخر، وَأَنت تعنى بالإنسان رجلا فَهُوَ جيد بَالغ فَأَما
قَوْله:
(صلى على عزة الرَّحْمَن وابنتها ... ليلى وَصلى على جاراتها الْأُخَر)
فَإِنَّهُ جعل ابْنَتهَا جَارة لَهَا، وَلَوْلَا ذَلِك لم يجز أَلا ترى
إِلَى قَول الله عز وَجل: (فَعِدَّةٌ
(3/244)
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لما قدم من ذكر
الْأَيَّام وَكَذَلِكَ: {مِتْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فَهَذَا بَاب هَذَا وَكَانَ حد
(آخر) أَن يكون مَعَه (من كَذَا، وَكَذَا) إِلَّا أَن / (أفعل) يَقع
على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون نعتا قَائِما فى المنعوت، نَحْو:
أَحْمَر، وأصفر، وأعور وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون للتفضيل، نَحْو:
هَذَا أفضل من زيد، وأكبر من عبد الله فَإِن أردْت هَذَا الْوَجْه لم
يكن إِلَّا أَن تَقول: من كَذَا وَكَذَا، أَو بِالْألف وَاللَّام؛
نَحْو: هَذَا الْأَصْغَر، والأكبر فَأَما قَوْله فى الآذان: الله أكبر
- فتأويله: كَبِير؛ كَمَا قَالَ عز وَجل: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه}
فَإِنَّمَا تَأْوِيله: وَهُوَ عَلَيْهِ هَين؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَال: شئ
أَهْون ليه من شئ وَنَظِير ذَلِك قَوْله
(3/245)
(ولعمرك مَا أدرى - وإنى لأوجل - ... على
أَيّنَا تعدو الْمنية أول)
أى: إنى لوجل فَأَما إِذا أردْت من كَذَا وَكَذَا فَلَا بُد من
(مِنْهُ) أَو الْألف وَاللَّام؛ كَقَوْلِك: جاءنى زيد وَرجل آخر،
إِنَّمَا مَعْنَاهُ: آخر مِنْهُ وَلَكِن علم أَن الآخر لَا يكون إِلَّا
بعد مَذْكُور أَو بعد أول، فَلم يحْتَج إِلَى (مِنْهُ) وَالدَّلِيل على
أَن الأَصْل هَذَا قَوْلهم فى مؤنثه: أُخْرَى؛ كَمَا تَقول: هَذَا أول
مِنْك، وَهَذِه الأولى، والأوسط، وَالْوُسْطَى، والأكبر والكبرى فلولا
أَن (آخر) قد اسْتغنى فِيهِ عَن ذكر (من كَذَا) لَكَانَ لَازِما؛ كَمَا
يلْزم قَوْلك: / هَذَا أول من ذَاك؛ وَلذَلِك قلت فى أخر بِغَيْر
الصّرْف؛ لِأَنَّهَا محدودة عَن وَجههَا؛ لِأَن الْبَاب لَا يسْتَعْمل
(3/246)
إِلَّا بِالْألف وَاللَّام أومن كَذَا
فَلَمَّا سقط (من كَذَا) سقط مَا يُعَاقِبهُ، فَلم يصرف قَالَ الله عز
ذكره (وَأخر متشابهات) فَلم يصرف وَقَالَ: (فَعدَّة من أَيَّام أخر) ،
فَلم يصرف فهذان دليلان بينان مَعَ الْمَعْنى الذى يجمعه وَاعْلَم أَن
(أفعل) إِذا أردْت أَن تضعه مَوضِع الْفَاعِل فمطرد فَمن ذَلِك قَوْله:
(قبحتم يَا آل زيد نَفرا ... ألام قوم أصغرا وأكبرا)
يُرِيد: صَغِيرا وكبيرا فَهَذَا سَبِيل هَذَا الْبَاب
(3/247)
(هَذَا بَاب مسَائِل (أفعل) مستقصاة بعد
مَا ذكرنَا من أُصُوله)
تَقول: مَرَرْت بِرَجُل خير مِنْك أَبوهُ، وجاءنى رجل خير مِنْك
أَخُوهُ، وَرَأَيْت رجلا أفضل مِنْك أَخُوهُ يخْتَار فى هَذَا الرّفْع
والانقطاع منا الأول؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ اسْم الْفَاعِل الذى يجرى على
الْفِعْل؛ نَحْو: فَاعل وَمَا أشبه ذَلِك مِمَّا هُوَ اسْم الْفَاعِل،
نَحْو: مَرَرْت بِرَجُل حسن أَبوهُ؛ لِأَنَّهُ اسْم من حسن يحسن، ومررت
بِرَجُل كريم أَبوهُ / لِأَنَّهُ من كرم كضارب من ضرب و (أفضل) فِيهِ
معنى الْفِعْل، فَإِن أجريته على الأول فبذلك الْمَعْنى، كَأَنَّك قلت:
يفضله أَبوهُ وَإِن لم تجره فَلَمَّا ذكرت لَك، وَهُوَ الْبَاب فَإِن
جرى على الأول أتبعته؛ لِأَنَّهُ نعت لَهُ خَاصَّة، وَذَلِكَ قَوْلك:
مَرَرْت بِرَجُل خير مِنْك، ومررت بدرهم سَوَاء يَا فَتى، ومررت
بِرَجُل سَوَاء درهمه فَإِن قلت: بِرَجُل سَوَاء هُوَ والعدم خفضت؛
لِأَن (سَوَاء) لَهُ خَاصَّة فعلى هَذَا يجرى هَذَا الْبَاب ثمَّ نذْكر
الْمسَائِل، ونقول: مَا رَأَيْت رجلا أحسن عِنْده زيد من عَمْرو فجريت
(أحسن) على الأول خلافًا لما ذكرت أَنه الْمُخْتَار، وَلم يجز هَاهُنَا
غَيره؛ وَذَلِكَ أَنَّك إِذا قلت: مَا رَأَيْت رجلا أحسن فى عينه
الْكحل مِنْهُ فى عين زيد، فَأَرَدْت أَن ترفع (أحسن) كنت قد أضمرت قبل
الذّكر، وَذَلِكَ لِأَن الْهَاء فى قَوْلك (مِنْهُ) إِنَّمَا هى الْكحل
وَلَو قلت: مَا رَأَيْت رجلا أحسن فى عينه الْكحل مِنْهُ فى عين زيد -
كنت قد فصلت
(3/248)
بَين الْكحل وَمَا هُوَ لَهُ بِمَا لَيْسَ
من الْكَلَام، وَوَضَعته فى / غير مَوْضِعه، فَإِن أخرت الْكحل، فَقلت:
مَا رَأَيْت رجلا أحسن فى عينه مِنْهُ فى عين زيد الْكحل وَأَنت تقدر
أَن (أحسن) هُوَ الِابْتِدَاء - كَانَ خطأ لما قدمت من ضمير الْكحل قبل
ذكره
(3/249)
وَإِن قدرت أَن يكون (الْكحل) هُوَ
الِابْتِدَاء فجيد بَالغ، وتأخيره كتقديمه فكأنك قلت مَا رَأَيْت رجلا
الْكحل فى عينه أحسن مِنْهُ فى عين زيد وَكَذَلِكَ لَو قلت: مَا من
أَيَّام أحب إِلَى الله فِيهَا الصَّوْم مِنْهُ فى عشر ذى الْحجَّة
[كَانَ هُوَ الْوَجْه إِلَّا أَن تقدم فَتَقول: مَا من أَيَّام
الصَّوْم أحب إِلَى الله فِيهَا مِنْهُ فى عشر ذى الْحجَّة] أَو تُؤخر
الصَّوْم، وَمَعْنَاهُ التَّقْدِيم، فَيكون كتأخيرك الْكحل فى
الْمَسْأَلَة الأولى وَتقول: زيد أفضل مِنْهُ عبد الله، وَرَأَيْت زيدا
أفضل مِنْهُ عبد الله أردْت: رَأَيْت زيدا عبد الله أفضل مِنْهُ،
فتجعله ابْتِدَاء وخبرا فى مَوضِع الْمَفْعُول الثانى وَأما قَوْلهم:
مَرَرْت بِرَجُل أَخبث مَا يكون أَخبث مِنْك أَخبث مَا تكون، ومررت
بِرَجُل خير مَا يكون خير مِنْك خير مَا تكون فَهَذَا على إِضْمَار
إِذْ كَانَ، وَإِذا كَانَ، وَاحْتمل / الضَّمِير؛ لِأَن الْمَعْنى يدل
عَلَيْهِ وَالتَّقْدِير: مَرَرْت بِرَجُل خير مِنْك إِذا كَانَ خير مَا
يكون إِذا كنت خير مَا تكون
(3/250)
وَمثل هَذَا قَوْلك: هَذَا بسرا أطيب
مِنْهُ تَمرا فَإِن أَوْمَأت إِلَيْهِ وَهُوَ بسر، تُرِيدُ: هَذَا إِذْ
صَار بسرا أطيب مِنْهُ إِذا صَار تَمرا، وَإِن أَوْمَأت إِلَيْهِ
وَهُوَ تمر قلت: هَذَا بسرا أطيب مِنْهُ تَمرا، أى هَذَا إِذْ كَانَ
بسرا أطيب مِنْهُ إِذْ صَار تَمرا، فَإِنَّمَا على هَذَا يُوَجه؛ لِأَن
الِانْتِقَال فِيهِ مَوْجُود فَإِن أَوْمَأت إِلَى عِنَب قلت: هَذَا
عِنَب أطيب مِنْهُ بسر، وَلم يجز إِلَّا الرّفْع؛ لِأَنَّهُ لَا
ينْتَقل فَتَقول: هَذَا عِنَب أطيب مِنْهُ بسر، تُرِيدُ: هَذَا عِنَب
الْبُسْر أطيب مِنْهُ فَأَما هَذَا الْبَيْت فينشد على ضروب:
(الْحَرْب أول مَا تكون فنية ... تسْعَى بزينتها لكل جهول)
(3/251)
مِنْهُم من ينشد: الْحَرْب أول مَا تكون
فتية يَجْعَل (أول) ابْتِدَاء ثَانِيًا، وَيجْعَل الْحَال يسد مسد
الْخَبَر وَهُوَ فتية / فَيكون هَذَا كَقَوْلِك: الْأَمِير أَخطب مَا
يكون قَائِما، وَقد بَينا نصب هَذَا فى قَول سِيبَوَيْهٍ، ودللنا على
مَوضِع الْغَلَط فى مذاهبهم وَمَا كَانَ الْأَخْفَش يخْتَار، وَهُوَ
الذى لَا يجوز غَيره فَأَما تصييره (فتية) حَالا لأوّل، أول مُذَكّر،
وفتية مُؤَنّثَة - فَلِأَن الْمَعْنى مُشْتَمل عَلَيْهَا فَخرج هَذَا
مخرج قَول الله عز وَجل: {وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون إِلَيْك} ؛ لِأَن
(مَنْ) وَإِن كَانَ موحد اللَّفْظ فَإِن مَعْنَاهُ هَاهُنَا الْجمع،
وَكَذَلِكَ: {فَمَا مِنْكُم من أحد عَنهُ حاجزين}
(3/252)
وَهَذَا كثير جدا وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(تعش فَإِن عاهدتنى لَا تخوننى ... نَكُنْ مثل من يَا ذِئْب يصطحبان)
أَرَادَ مثل اثْنَيْنِ وَمثل اللَّذين وَقَرَأَ الْقُرَّاء: {وَمَنْ
تَقنُتْ مِنْكنَّ لله وَرَسُولِه وَتَعْمَل صَالِحاً} وَأما أَبُو
عَمْرو فَقَرَأَ: {وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله وتعمل صَالحا} ،
فَحمل مَا يلى على اللَّفْظ، وَمَا تبَاعد مِنْهَا على الْمَعْنى،
وَنَظِير قَوْله عز وَجل: {بلَى من أسلم وَجهه لله وَهُوَ محسن فَلهُ
أجره عِنْد ربه} فَهَذَا على لفظ (مَنْ) ، ثمَّ قَالَ: / {وَلَا خوف
عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} على الْمَعْنى وَهَذَا كثير جدا
وَمِنْهُم من ينشد: الْحَرْب أول مَا تكون فتية - يُرِيد: الْحَرْب
فتية فى هَذَا الْوَقْت وَمِنْهُم من ينشد: الْحَرْب أول مَا تكون فتية
على غير هَذَا التَّفْسِير الأول وَلَكِن على قَوْله: أول مَا تكون
تسْعَى يزينتها فتية، فَقدم الْحَال وَمِنْهُم من ينشد: الْحَرْب أول
مَا تكون فتية أَرَادَ: الْحَرْب فتية وهى أول مَا تكون وَمِنْهُم من
ينشد: الْحَرْب أول مَا تكون فتية فخبر أَنَّهَا أول شئ فى هَذِه
الْحَال فَهَذِهِ الْوُجُوه تدل على مَا بعْدهَا وَلَو قَالَ قَائِل:
مَعْنَاهُ: أَنَّهَا أول مَا تكون إِذا كَانَت فتية، على قِيَاس: هَذَا
بسرا أطيب مِنْهُ تَمرا - كَانَ مجيدا فَأَما قَوْلهم: الْبر أرخص مَا
يكون قَفِيزا بدرهم، وَالزَّيْت أرخص مَا يكون منوين دِرْهَم فعلى
هَذَا
(3/253)
وَقَوْلهمْ: أرخص مَا يكون الْبر بستين،
تَأْوِيله: الكربستين وَلَكنهُمْ حذفوا (الْكر) لعلمهم بِأَن التسعير
عَلَيْهِ يَقع فَكل مَا كَانَ مَعْلُوما فى القَوْل جَارِيا عِنْد
النَّاس فَحَذفهُ جَازَ / لعلم الْمُخَاطب فعلى هَذَا فَأَجره
(3/254)
(هَذَا بَاب من التسعير)
تَقول: أخذت هَذَا بدرهم فَصَاعِدا، وأخذته بِدِرْهَمَيْنِ فزائدا لم
ترد: أَنَّك أَخَذته بدرهم وبصاعد، فَجَعَلتهمَا ثمنا، وَلَكِن
التَّقْدِير: أَنَّك أَخَذته بدرهم، ثمَّ زِدْت صاعدا؛ فَمن ثمَّ دخلت
الْفَاء، وَلَو أدخلت (ثمَّ) لَكَانَ جَائِزا؛ نَحْو: أَخَذته بدرهم
ثمَّ صاعدا، وَلَكِن الْفَاء أَجود، لِأَن مَعْنَاهُ الِاتِّصَال،
وَشَرحه على الْحَقِيقَة: أَخَذته بدرهم فَزَاد الثّمن صاعدا
(3/255)
وَمن ذَلِك قَوْلك: بِعْت الشَّاء شَاة
ودرهما إِنَّمَا تَأْوِيله على الْحَقِيقَة: بِعْت الشَّاء مسعرا شَاة
بدرهم فَإِن قلت: لَك الشَّاء شَاة ودرها - كنت بِالْخِيَارِ: إِن
شِئْت رفعت؛ لِأَن لَك ظرف فَهُوَ بِمَنْزِلَة قَوْلك: عبد الله فى
الدَّار قَائِم، وَقَائِمًا إِن قلت: (قَائِم) فَإِنَّمَا خبرت عَن
قِيَامه وَإِن قلت (قَائِما) فَإِنَّمَا خبرت عَن كَونه فى هَذَا
الْمحل، فاستغنى الْكَلَام بِهِ وَمن قَالَ: فى الدَّار عبد الله -
وَهُوَ يُرِيد أَن يرفع الْقَائِم -، فَلَيْسَ بِكَلَام تَامّ؛
لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِخَبَر وَإِنَّمَا (قَائِم) هُوَ الْخَبَر، ف (فى
الدَّار) ظرف للقائم لَا لزيد
(3/256)
وَإِذا كَانَ (فى الدَّار) خَبرا فَهُوَ
لزيد لَا لقائم وَقد مضى تَفْسِير هَذَا وَتَقْدِير قَوْلك: الشَّاء
شَاة ودرهما: وَجب لَك الشَّاء مسعرا شَاة بدرهم؛ كَمَا أَنه إِذا
قَالَ: زيد فى الدَّار قَائِما - فَمَعْنَاه: اسْتَقر زيد فى الدَّار
قَائِما، وَإِذا قَالَ: لَك الشَّاء شَاة وَدِرْهَم فَإِنَّمَا
الْمَعْنى: الشَّاء شَاة بدرهم، ثمَّ خبر أَنه بِهَذَا السّعر، فعلى
هَذَا يجرى هَذَا الْبَاب
(3/257)
(هَذَا بَاب مَا يَقع فى التسعير من
أَسمَاء الْجَوَاهِر الَّتِى لَا تكون نعوتا)
تَقول: مَرَرْت ببر قفيز بدرهم؛ لِأَنَّك لَو قلت: مَرَرْت ببر قفيز
كنت ناعتا بالجوهر وَهَذَا لَا يكون؛ لِأَن النعوت تحلية، والجواهر هى
المنعوتات وَتقول: الْعجب من بر مَرَرْنَا بِهِ قَفِيزا بدرهم فَإِن
قلت: فَكيف أجعله حَالا للمعرفة، وَلَا أجعله / صفة للنكرة؟ فَإِن
فَإِن سِيبَوَيْهٍ اعتل فى ذَلِك بِأَن النَّعْت تحلية وَأَن الْحَال
مفعول فِيهَا، وَهَذَا على مذْهبه صَحِيح بَين الصِّحَّة وَشَرحه وَإِن
لم يذكرهُ سِيبَوَيْهٍ: إِنَّمَا هُوَ مَوْضُوع فى مَوضِع قَوْلك:
مسعرا فالتقدير: لعجب من بر مَرَرْنَا بِهِ مسعرا على هَذِه الْحَال
وَإِذا قَالَ: مَرَرْت ببر قفير بدرهم فتأويله: قفيز مِنْهُ بدرهم،
وَلَوْلَا ذَلِك لم يجز أَن يتَّصل بِالْأولِ وَيكون فى مَوضِع نَعته
وَلَا رَاجع إِلَيْهِ مِنْهُ وَإِنَّمَا هَذَا كَقَوْلِك: مَرَرْت
بِرَجُل غُلَام لَهُ قَائِم
(3/258)
وَقد أجَاز قوم كثير أَن ينعَت بِهِ
فَيُقَال: هَذَا راقود خل، وَهَذَا خَاتم حَدِيد وسنشرح مَا ذَهَبُوا
إِلَيْهِ، ونبين فَسَاده على النَّعْت، وجوازه فى الإتباع لما قبله إِن
شَاءَ الله وَيُقَال للذى أجَاز هَذَا على النَّعْت: إِن كنت سمعته من
الْعَرَب مَرْفُوعا فَإِن رَفعه غير مَدْفُوع، وتأويله: الْبَدَل؛
لِأَن مَعْنَاهُ: خَاتم حَدِيد، وَخَاتم من حَدِيد فَيكون رَفعه على
الْبَدَل / والإيضاح فَأَما ادعاؤك أَنه نعت، وَقد ذكرت أَن النَّعْت
إِنَّمَا هُوَ تحلية، فقد نقضت مَا أَعْطَيْت، وَالْعلَّة أَنْت
ذكرتها، وَإِنَّمَا حق هَذَا أَن تَقول: راقود خل، أَو راقود خلا عل
التَّبْيِين فَهَذَا حق هَذَا فَإِن اعتل بقوله: مَرَرْت بِرَجُل فضَّة
خَاتمه، ومررت بِرَجُل أَسد أَبوهُ، على قبحه فِيمَا ذكره وَبعده -
فَإِن هَذَا فى قَوْلك: فضَّة خَاتمه غير جَائِز، إِلَّا أَن يُرِيد:
شَبيه بِالْفِضَّةِ، وَيكون الْخَاتم غير فضَّة فَهَذَا مَا ذكرت لَك
أَن النَّعْت تحلية وعَلى هَذَا: مَرَرْت بِرَجُل أَسد أَبوهُ؛
لِأَنَّهُ وَضعه فى مَوضِع شَدِيد أَبوهُ أَلا ترى أَن سِيبَوَيْهٍ لم
يجز: مَرَرْت بدابه أَسد أَبوهَا إِذا أَرَادَ السَّبع بِعَيْنِه،
فَإِذا أَرَادَ الشدَّة جَازَ عل مَا وصفت،
(3/259)
وَلَيْسَ كجواز: مَرَرْت بِرَجُل قَائِم
أَبوهُ، لِأَن لهَذَا اللَّفْظ وَالْمعْنَى، وَذَاكَ مَحْمُول على
مَعْنَاهُ فَحق الْجَوَاهِر أَن تكون منعوته؛ ليعرف بَعْضهَا من بعض
وَحقّ الْأَسْمَاء الْمَأْخُوذَة من الْأَفْعَال أَن تكون / نعوتا لما
وصفت لَك فَإِن قلت: مَرَرْت ببر قفيز بدرهم - جَازَ على الْبَدَل،
ويجيزه على النَّعْت من عبنا قَوْله، وأوضحنا فَسَاده فَإِن قيل:
مَعْنَاهُ مسعر - فَحق هَذَا النصب؛ لِأَن التسعير يعْمل فِيهِ فعلى
هَذَا فأجر هَذَا الْبَاب فَأَما قَوْلهم: هَذَا خَاتم حديدا على
الْحَال فتأويله: أَنَّك نبهت لَهُ فى هَذِه الْحَال فَإِن قلت:
الْحَال بَابهَا الِانْتِقَال؛ نَحْو: مَرَرْت بزيد قَائِما قيل:
الْحَال على ضَرْبَيْنِ: فأحدهما: التنقل، وَالْآخر: الْحَال
اللَّازِمَة وَإِنَّمَا هى مفعول فاللزوم يَقع لما فى اسْمهَا، لَا لما
عمل فِيهَا فَمن اللَّازِم قَوْله عز وَجل: {فَكَانَ عاقبتهما
أَنَّهُمَا فِي النَّار خَالِدين فِيهَا} فالخلود مَعْنَاهُ: الْبَقَاء
وَكَذَلِكَ: {وَأَمّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ
فِيهَا} فَهَذَا الِاسْم لَا لما عمل فِيهِ
(3/260)
(هَذَا بَاب مَا يجوز لَك فِيهِ النَّعْت
وَالْحَال وَلَا يكون مجازهما وَاحِدًا، وَلما تحمل كل وَاحِد
مِنْهُمَا عَلَيْهِ)
/ وَذَلِكَ قَوْلك: مَرَرْت بِامْرَأَة مَعهَا رجل قامة يَا فَتى، إِذا
حملت ذَلِك على مَرَرْت بِامْرَأَة، وَإِن حَملته على الْهَاء فى
(مَعهَا) قلت: رجل قَائِمَة وَالْمعْنَى - إِذا نصبت -: أَنَّك مَرَرْت
بِهِ مَعهَا فى حَال قِيَامهَا، فَكَانَت الْمُقَارنَة فى هَذِه
الْحَال وَمن ذَلِك: هَذِه دَابَّة تشتد مكسورا سرجها إِن حَملته على
الضَّمِير فى تشتد، وَإِن حَملته على دَابَّة رفعت، فَيكون نعتا
كَأَنَّك قلت: هَذِه دابه مكسور سرجها، وفى الْبَاب الاخر أَنَّهَا
تشتد فى هَذِه الْحَال وَتقول: نَحن قوم ننطلق عَامِدين بلد كَذَا،
وَكَذَا فتنصب (عَامِدين) لما فى قَوْلك (ننطلق) فَإِن أردْت أَن تجربه
على قوم رفعت وَقد قرأوا هَذِه الْآيَة {ويُخْرَجُ لَهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً} ، أى يخرج لَهُ طَائِره
كتابا وَمن هَذَا الْبَاب: مَرَرْت بِرَجُل مَعَه صقر صائد بِهِ،
وصائدا بِهِ
(3/261)
فَإِن قلت: مَرَرْت بِرَجُل مَعَه امْرَأَة
ضاربته كَانَ جيدا، وأجود مِنْهُ أَن تَقول: مَرَرْت بِرَجُل مَعَه
امْرَأَة ضاربته ضاربها هُوَ لَا يكون إِلَّا كَذَلِك؛ لِأَنَّك أجريت
النَّعْت عَلَيْهَا، وَالْفِعْل لَهُ وَكَذَلِكَ لَو قلت: مَرَرْت
بِرَجُل مَعَه امْرَأَة ضاربته هى لم يكن من إِظْهَار الْفَاعِل بُد؟
لِأَنَّهُ الْفِعْل جرى على غير من هُوَ لَهُ وَإِنَّمَا يكون هَذَا
الْإِظْهَار فى اسْم الْفَاعِل؛ لِأَنَّهُ تبين فِيهِ الاضمار
الْإِضْمَار، وَأَنه مَحْمُول على الْفِعْل فَإِن كَانَ فعلا لم تحتج
فِيهِ إِلَى إِظْهَار تَقول: مَرَرْت يرجل مَعَه امْرأ يضْربهَا
وَمَعَهُ امْرَأَة تضربه وَكَذَلِكَ تَقول: زيد هِنْد ضاربته؛ لِأَن
الْفِعْل لَهَا فَإِن قلت: زيد هِنْد ضاربها - قلت (هُوَ) ، ويجرى على
وَجْهَيْن: إِن شِئْت جعلت زيدا ابْتِدَاء، و (هندا) ابْتِدَاء
ثَانِيًا، و (ضاربها) خبر عنن هِنْد، وَالْهَاء والراجعة إِلَيْهَا، و
(هُوَ) إِظْهَار فَاعل، ورجوعه إِلَى زيد
(3/262)
وَإِن شِئْت جعلت قَوْلك (ضاربها)
ابْتِدَاء ثَالِثا، وَجعلت / هُوَ خَبره، وجعلتهما خَبرا عَن هِنْد،
وَجعلت هندا وَمَا بعْدهَا خَبرا عَن زيد وَتقول: مَرَرْت بزيد وَهِنْد
الضاربته، أى وَهِنْد الَّتِى تضربه، فموضعها مَوضِع الْحَال
بِمَنْزِلَة قَوْلك: كلمت زيدا، وَعَمْرو عِنْده فتقدير الْوَاو:
تَقْدِير (إِذْ) ؛ كَمَا قَالَ الله عز وَجل: {يغشى طَائِفَة مِنْكُم
وَطَائِفَة قد أهمتهم أنفسهم} أى: إِذْ طَائِفَة فى هَذِه الْحَال
وَتقول: أَنْت زيد ضاربه أَنْت؛ لِأَنَّك ابتدأت (أَنْت) ، وَجعلت زيدا
مُبْتَدأ بعده، وضاربة لَك، فَكَانَ مُبْتَدأ ثَالِثا، وَأَنت خَبره،
وَإِن شِئْت كَانَ خَبرا عَن زيد، وَأَنت فَاعله وَلَو أدخلت على هَذَا
(كَانَ) لم تغيره عَن لَفظه، إِلَّا أَنَّك تجْعَل (زيدا) مَرْفُوعا
بكان وَلَو أدخلت عَلَيْهِ (ظَنَنْت) أَو (إِن) لنصبت زيدا، وَتركت
سَائِر الْكَلَام على حَاله؛ لِأَنَّهُ قد عمل بعضه فى بعض فَصَارَ
كَقَوْلِك: كَانَ زيد أَبوهُ منطلق، وَإِن زيدا أَبوهُ منطلق وَأعلم
أَنَّك إِذا قلت: كَانَ زيد أَبوهُ منطلق / أَن أَبَاهُ ومنطلقا فى
مَوضِع نصب، والجمل لَا يعْمل فِيهَا مَا قبلهَا، وَكَذَلِكَ: كَانَ
زيد يقوم يَا فَتى؛ لِأَنَّهُ فعل وفاعل، فَهُوَ كالابتداء وَالْخَبَر،
فَهَذَا مِمَّا يُؤَكد عنْدك أَن عوامل الْأَسْمَاء لَا تعْمل فى
الْأَفْعَال وَلَا يجوز أَن تدخل بَين الشئ وَمَا يعْمل فِيهِ شَيْئا
مِمَّا لَا يعْمل فِيهِ، نَحْو: أَنْت زيد ضاربه إِذا جعلت (ضاربه)
جَارِيا على زيد، والمسائل كَثِيرَة، وَالْأَصْل مَا وفقتك عَلَيْهِ
[فقس] تصب إِن شَاءَ الله
(3/263)
(هَذَا بَاب المصادر الَّتِى تشركها
أَسمَاء الفاعلين، وَلَا تكون وَاقعَة هَذَا الْموقع إِلَّا وَمَعَهَا
دَلِيل من مُشَاهدَة، فهى مَنْصُوبَة على ذَلِك، خَبرا كَانَت أَو
استفهاما)
وَذَلِكَ قَوْلك: أقائما يَا فلَان وَقد قعد النَّاس، وَذَلِكَ أَنه
رَآهُ فى حَال قيام، فوبخه بذلك فالتقدير: أتثبت قَائِما وَقد قعد
النَّاس، وَلَيْسَ يخبر عَن قيام منقض، وَلَا عَن قيام تستأنفه
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ: أقياما وَقد قعد النَّاس، وأجلوسا وَالنَّاس
يَسِيرُونَ، وَمثله: أتخلفا عَن زيد مَعَ بره بك وفضله وَمن ذَلِك قَول
الشَّاعِر:
(أطربا وَأَنت قنسرى ... )
إِنَّمَا رأى نَفسه فى حَال طرب / مَعَ سنه، فوبخها بذلك وَلَو لم
تستفهم لَقلت مُنْكرا: قَاعِدا علم الله - وَقد سَار النَّاس، قَائِما
كَمَا يرى وَالنَّاس قعُود فَهَذَا لَا يكون إِلَّا لما تشاهد من
الْحَال؛ فَلذَلِك اسْتَغْنَيْت عَن ذكر الْفِعْل وَاعْلَم أَن
الْأَسْمَاء الَّتِى لم تُؤْخَذ من الْأَفْعَال تجرى هَذَا المجرى
وَذَلِكَ أَن ترى الرجل فى حَال تلون وتنقل، فَتَقول: أتميميا مرّة،
وقيسيا أُخْرَى، تُرِيدُ: أتتحول وتتلون، وأغناه عَن ذكر الْفِعْل مَا
شَاهد من الْحَال
(3/264)
وَكَذَلِكَ إِن لم تستفهم قلت: تميميا مرّة
- علم الله - وقيسيا أُخْرَى وَمن ذَلِك قَول الشَّاعِر:
(أفى السّلم أعيارا جفَاء وغلظة ... وفى الْحَرْب أشباه النِّسَاء
العوارك)
وَقَالَ الآخر:
(أفى الولائم أَوْلَادًا لوَاحِد ... وفى العيادة أَوْلَادًا العلات)
(3/265)
|