المقتضب (هَذَا بَاب الْفِعْل الَّذِي يتَعَدَّى
إِلَى مفعول وفاعله مُبْهَم وَلَا يتَصَرَّف تصرف غَيره من
الْأَفْعَال)
(وَيلْزم طَريقَة وَاحِدَة لِأَن الْمَعْنى لزمَه على ذَلِك وَهُوَ
بَاب التَّعَجُّب)
وَذَلِكَ قَوْلك مَا أحسن زيدا وَمَا أكْرم عبد الله
ف مَا اسْم مُرْتَفع بِالِابْتِدَاءِ وَأحسن خَبره وَهُوَ فعل وزيدا
مفعول بِهِ فتقديره شَيْء أحسن زيدا إِلَّا أَن معنى التَّعَجُّب دخله
مَعَ مَا وَلَا يكون ذَلِك فِي شَيْء غير مَا
فَإِن قَالَ قَائِل هَل رَأَيْت مَا تكون اسْما بِغَيْر صلَة إِلَّا
فِي الْجَزَاء والاستفهام
قيل لَهُ إِنَّمَا كَانَت فِي الْجَزَاء والاستفهام بِغَيْر صلَة إِذا
قلت مجازيا مَا تصنع أصنع أَو مستفهما مَا تصنع يَا فَتى لِأَنَّك
إِنَّمَا تستفهم عَمَّا تنكر وَلَو كنت تعرف كنت مخبرا لَا مستخبرا
والصلة تعرفه
وَكَذَلِكَ الْجَزَاء إِذا قلت مَا تصنع أصنع لِأَنَّك أبهمته وَلم
تقصد إِلَى شَيْء وَاحِد بِعَيْنِه فَالْمَعْنى من الْإِبْهَام الَّذِي
يكون فِي الْجَزَاء والاستفهام كَذَلِك هُوَ التَّعَجُّب لِأَنَّك إِذا
قلت مَا أحسن زيدا فقد أبهمت ذَاك فِيهِ وَلم تخصص
(4/173)
وَمِمَّا جَاءَ من مَا بِغَيْر صلَة فِي
غير الْجَزَاء والاستفهام لمشاركتها إيَّاهُمَا فِي الْإِبْهَام إِنِّي
مِمَّا أَن أفعل فَالْمَعْنى إِنِّي من الْأَمر أَن أفعل
وَتقول إِنِّي مِمَّا أفعل على معنى رُبمَا أفعل كَمَا قَالَ
(وإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضَرْبَةً ... على رأسِهِ تُلْقى
اللسانَ مِنَ الفَمِ)
(4/174)
وَقَالَ الآخر
(أَلاَ غَنِّيا بالزاهِرِيَّةِ إِنَّني ... على النَّأى مِمَّا أَنْ
أُلِمَّ بهَا ذِكْرا)
وَمن ذَلِك قَوْلهم دققته دقا نعما أَي نعم الدق
فَإِن قَالَ قَائِل فَإِذا قلت مَا أحسن زيدا فَكَانَ بِمَنْزِلَة
شَيْء حسن زيدا فَكيف دخله معنى التَّعَجُّب وَلَيْسَ ذَلِك فِي قَوْلك
شَيْء أحسن زيدا
قيل لَهُ قد يدْخل الْمَعْنى فِي اللَّفْظ وَلَا يدْخل فِي نَظِيره
فَمن ذَلِك قَوْلهم علم الله لَأَفْعَلَنَّ لَفظه لفظ رزق الله
وَمَعْنَاهُ الْقسم
وَمن ذَلِك قَوْلهم غفر الله لزيد لَفظه لفظ الْخَبَر وَمَعْنَاهُ
الدُّعَاء
وَمن ذَلِك أَنَّك تَقول تالله لَأَفْعَلَنَّ فتقسم على معنى
التَّعَجُّب وَلَا تدخل التَّاء على شَيْء من أَسمَاء الله غير هَذَا
الِاسْم لِأَن الْمَعْنى الَّذِي يُوجب التَّعَجُّب إِنَّمَا وَقع هَا
هُنَا
وكل مَا لزمَه شَيْء على معنى لم يتَصَرَّف لِأَنَّهُ إِن تصرف بَطل
ذَلِك الْمَعْنى وَصَارَ بِمَنْزِلَة الْأَفْعَال الَّتِي تجْرِي على
أُصُولهَا وَلم يدخلهَا من الْمَعْنى أَكثر من ذَلِك
(4/175)
فَإِن قَالَ قَائِل أَرَأَيْت قَوْلك مَا
أحسن زيدا أَلَيْسَ فِي التَّقْدِير والإعمال لَا فِي التَّعَجُّب
بِمَنْزِلَة قَوْلك شَيْء حسن زيدا فَكيف تَقول هَذَا فِي قَوْلك مَا
أعظم الله يَا فَتى وَمَا أكبر الله قيل لَهُ التَّقْدِير على مَا وصفت
لَك وَالْمعْنَى شَيْء عظم الله يَا فَتى وَذَلِكَ الشَّيْء النَّاس
الَّذين يصفونه بالعظمة كَقَوْلِك كَبرت كَبِيرا وعظمت عَظِيما
فَإِن قَالَ قَائِل فينتصب هَذَا من حَيْثُ انتصب زيد
قيل لَهُ لَا شَيْء من الْأَفْعَال ينْتَصب على معنى الآخر بِأَكْثَرَ
من الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ
أَلا ترى أَنَّك تَقول شتمت زيدا وأكرمت عمرا فالفعل الناصب جنس وَاحِد
وَالْمعْنَى مُخْتَلف وَلَيْسَ شَيْء يخبر بِهِ عَن الله عز وَجل
إِلَّا على خلاف مَا تخبر بِهِ عَن غَيره فِي الْمَعْنى وجنس الْفِعْل
وَاحِد فِي الإعمال
فَمن ذَلِك مَا أذكرهُ لَك ليدل على سائره إِن شَاءَ الله
(4/176)
وَهُوَ نَحْو قَوْلك رحم الله النَّاس ورحم
زيد عمرا فالرحمة من زيد رقة وتحنن وَالله عز وَجل يجل عَنْهَا
وَكَذَلِكَ علم الله وَهُوَ الْعَالم بِنَفسِهِ وَتقول علم زيد علما
وَإِنَّمَا ذَلِك علم جعل فِيهِ وأدب اكْتَسبهُ وَكَذَلِكَ جَمِيع مَا
تخبر بِهِ
وَإِذا كَانَ زيد مَفْعُولا قلت لقِيت زيدا وَرَأَيْت عمرا وَتقول ذكرت
الله فَإِنَّمَا تَعْنِي أَن ذكرك كَانَ لهَذَا الِاسْم وَكَذَلِكَ
دَعَوْت الله
فمخارج الْأَفْعَال وَاحِدَة فِي الإعمال والمعاني تخْتَلف فعلى هَذَا
يجْرِي التَّقْدِير فِيمَا ذكرت لَك
وَقد قَالَ قوم إِن أحسن صلَة ل (مَا) وَالْخَبَر مَحْذُوف
وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا وَذَلِكَ أَن الْأَخْبَار إِنَّمَا تحذف إِذا
كَانَ فِي الْكَلَام مَا يدل عَلَيْهَا
وَإِنَّمَا هربوا من أَن يكون مَا وَحدهَا اسْما فتقديرهم الَّذِي حسن
زيدا شَيْء وَالْقَوْل فِيهَا مَا بدأنا بِهِ من أَنَّهَا تجْرِي
بِغَيْر صلَة لمضارعتها الِاسْتِفْهَام وَالْجَزَاء فِي الْإِبْهَام
فَإِذا قلت مَا أحسن زيدا لم يجز أَن تضع الْفِعْل الْمُضَارع هَا
هُنَا فَتَقول مَا يحسن زيدا وَمَا محسن زيدا لِأَن معنى التَّعَجُّب
إِنَّمَا دخله على هَيْئَة إِن زَالَ لَفظهَا زَالَ الْمَعْنى
أَلا ترى أَنَّك تَقول الْعُمر والعمر وَلَا يَقع فِي الْقسم إِلَّا
مَفْتُوحًا لدُخُول الْمَعْنى على هَذِه الْهَيْئَة
(4/177)
وَلَو قلت مَا أحسن عنْدك زيدا وَمَا أجمل
الْيَوْم عبد الله لم يجز وَكَذَلِكَ لَو قلت مَا أحسن الْيَوْم وَجه
زيد وَمَا أحسن أمس ثوب زيد لِأَن هَذَا الْفِعْل لما لم يتَصَرَّف لزم
طَريقَة وَاحِدَة وَصَارَ حكمه كَحكم الْأَسْمَاء
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنَّك تَقول أَقَامَ عبد الله زيدا فتنقلب
الْوَاو ألفا لِأَنَّهُ فعل وَتقول فِي الِاسْم هَذَا أقوم من ذَا
فَلَا يعل وَتقول فِي التَّعَجُّب مَا أقوم زيدا وَمَا أبيعه فَيكون
هَذَا الْفِعْل لاحقا بالأسماء لما أَخْبَرتك بِهِ من قلَّة تصرفه
وَاعْلَم أَن بِنَاء فعل التَّعَجُّب إِنَّمَا يكون من بَنَات
الثَّلَاثَة نَحْو ضرب وَعلم وَمكث وَذَلِكَ أَنَّك تَقول دخل زيد
وأدخلته وَخرج وأخرجته فتلحقه الْهمزَة إِذا جعلته مَحْمُولا على فعل
وَكَذَلِكَ تَقول حسن زيد ثمَّ تَقول مَا أحْسنه لِأَنَّك تُرِيدُ
شَيْء أحْسنه
فَإِن قيل فقد قلت مَا أعطَاهُ للدراهم وَأَوْلَاده بِالْمَعْرُوفِ
وَإِنَّمَا هُوَ من أعطي وَأولى
فَهَذَا وَإِن كَانَ قد خرج إِلَى الْأَرْبَعَة فَإِنَّمَا أَصله
الثَّلَاثَة والهمزة فِي أَوله زَائِدَة
(4/178)
وعَلى هَذَا جَاءَ {وَأَرْسَلْنَا
الرِّيَاح لَوَاقِح} وَلَو كَانَ على لَفظه لَكَانَ ملاقح لِأَنَّهُ
يُقَال ألقحت فَهِيَ ملقحة وَلكنه على حذف الزَّوَائِد وَمن ذَلِك
قَوْله
(يَخْرُجْنَ مِنْ أَجْوازِ لَيْلٍ غاضِي ... )
وَإِنَّمَا هُوَ مغض وَاسْتعْمل بِحَذْف زِيَادَته وَمثل ذَلِك
(تَكْشِفُ عَنْ جَمَّاتِهِ دَلْوُ الدَّالْ ... )
(4/179)
يُرِيد المدلى
وَمن ذَلِك حذفك جَمِيع الزَّائِد إِذا احتجت إِلَى حذفهَا فِي
تَصْغِير أَو جمع أَو اضْطر إِلَيْهِ شَاعِر كَمَا قَالَ العجاج
(ومَهْمَه هَالك مَنْ تَعَرَّجا ... )
إِنَّمَا هُوَ مهلك فِي بعض الْأَقَاوِيل
وَاعْلَم أَن مَا جَاوز الثَّلَاثَة بِغَيْر زِيَادَة لم يجز أَن
يُقَال فِيهِ مَا أَفعلهُ وَذَلِكَ لِأَنَّك إِن بنيته هَذَا الْبناء
حذفت من الأَصْل حرفا وَهَذَا مِمَّا لَا يجوز لِأَن مَعْنَاهُ
إِنَّمَا كمل بِحُرُوفِهِ إِذْ كن كُلهنَّ أصولا وَإِنَّمَا يسْتَعْمل
فِيمَا كَانَ من هَذَا الْقَبِيل مَا يدل عَلَيْهِ من فعل غَيره
وَذَلِكَ أَنَّك إِذا قلت دحرج واحرنجم وَمَا أشبه ذَلِك من
الْأَفْعَال من غير هَذَا الْجِنْس قلت مَا أَشد دحرجته وَمَا أَشد
احرنجامه لِأَنَّك لَو أدخلت على هَذَا الْهمزَة لخرج من بِنَاء
الْأَفْعَال وَلَا يجوز الْحَذف لما وصفت لَك
(4/180)
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ من الألوان والعيوب
نَحْو الْأَعْوَر والأحمر لَا يُقَال مَا أحمره وَلَا مَا أعوره
وَإِنَّمَا امْتنع هَذَا لشيئين أَحدهمَا أَن أصل فعله أَن يكون افْعَل
وافعال نَحْو أَحْمَر واحمار وَدخُول الْهمزَة على هَذَا محَال
(4/181)
وَالْقَوْل الآخر قَول الْخَلِيل وَهُوَ
أَن هَذَا شَيْء قد ثَبت وَاسْتقر فَلَيْسَ يجوز فِيهِ الزِّيَادَة
وَالنُّقْصَان فَهُوَ وَإِن كَانَ مشتقاً من الْفِعْل بِمَنْزِلَة
الْيَد وَالرجل لَا تَقوله كَمَا لَا تَقول مَا أيداه وَلَا مَا أرجله
وَإِنَّمَا أَقُول مَا أَشد يَده فعلى هَذَا مَا أَشد حمرته وَمَا أَشد
عوره وَكَذَلِكَ جَمِيع بَابهَا
وَمثل هَذَا قَوْله هَذَا أحسن من هَذَا وَهَذَا أضْرب من ذَا وَهَذَا
أَشد عورا من ذَا وَأَشد حولا من ذَا لِأَن هَذَا والتعجب من بَاب
وَاحِد
فَإِن قَالَ قَائِل فقد جَاءَ فِي الْقُرْآن {وَمن كَانَ فِي هَذِه
أعمى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى وأضل سَبِيلا}
قيل لَهُ فِي هَذَا جوابان كِلَاهُمَا مقنع أَحدهمَا أَن يكون من عمى
الْقلب وَإِلَيْهِ ينْسب أَكثر الضلال لِأَنَّهُ حَقِيقَته كَمَا قَالَ
{فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي
الصُّدُور} فعلى هَذَا تَقول مَا أعماه كَمَا تَقول مَا أحمقه
وَالْوَجْه الآخر أَن يكون من عمى الْعين فَيكون {فَهُوَ فِي الْآخِرَة
أعمى} لَا تُرِيدُ بِهِ بِهِ أعمى من كَذَا وَلكنه فِي الْآخِرَة أعمى
كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ فِي الْآخِرَة أضلّ سَبِيلا
(4/182)
وَتقول يَا هِنْد أحسن بزيد وَيَا رجلَانِ
أحسن بزيد لِأَنَّك لست تَأْمُرهُمْ أَن يصنعوا شَيْئا وَإِنَّمَا
الْمَعْنى مَا أحْسنه فَإِذا كَانَ من الألوان والعيوب قلت يَا هِنْد
أشدد بحمرة زيد وَيَا رجال أشدد بحمرة زيد وَمن هَذَا الْبَاب قَول
الله عز وَجل {أسمع بهم وَأبْصر}
وَلَا يُقَال لله عز وَجل تعجب وَلكنه خرج على كَلَام الْعباد أَي
هَؤُلَاءِ مِمَّن يجب أَن يُقَال لَهُم مَا أسمعهم وأبصرهم فِي ذَلِك
الْوَقْت
وَمثل هَذَا قَوْله {فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو
يخْشَى} وَلَعَلَّ إِنَّمَا هِيَ للترجي وَلَا يُقَال ذَلِك لله
وَلَكِن الْمَعْنى وَالله أعلم إذهبا أَنْتُمَا على رجائكما وقولا
القَوْل الَّذِي ترجوان بِهِ ويرجو بِهِ المخلوقون تذكر من طالبوه
وَأما قَوْله {فَمَا أصبرهم على النَّار} فَلَيْسَ من هَذَا وَلكنه
وَالله أعلم التَّقْرِير والتوبيخ وَتَقْدِيره أَي شَيْء أصبرهم على
النَّار أَي دعاهم إِلَيْهَا واضطرهم إِلَيْهَا كَمَا تَقول صبرت زيدا
على الْقَتْل وَنهى رَسُول الله
وَسلم أَن يصبر الرّوح
(4/183)
وَمثل ذَلِك قَوْله
(قلتُ لَهُ أَصْبِرْها دائِناً ... أَمْثَالُ بِسطَامِ بنِ قَيْسٍ
قَلِيلُ)
فَهَذِهِ مجازه وَلَا يُقَال لله عز وَجل لِأَنَّهُ إِنَّمَا يعجب من
يرد عَلَيْهِ مَا لَا يُعلمهُ وَلَا يقدره فيتعجب كَيفَ وَقع مثله
وعلام الغيوب يجل عَن هَذَا
(ونقول فِي شَيْء من مسَائِل هَذَا الْبَاب)
مَا أحسن وأجمل زيدا إِذا نصبت بأجمل فَإِن نصبته بِأَحْسَن قلت مَا
أحسن وأجمله زيدا لِأَنَّك تُرِيدُ مَا أحسن زيدا وأجمله
وَتقول مَا أحسن مَا كَانَ زيد فَترفع زيد بكان وَتجْعَل مَا مَعَ
الْفِعْل فِي معنى
(4/184)
الْمصدر وتوقع التَّعَجُّب على مَا وَمَا
بعْدهَا صلَة لَهَا فالتقدير مَا أحسن كَون زيد
وَقد يجوز وَهُوَ بعيد مَا أحسن مَا كَانَ زيدا تجْعَل مَا بِمَنْزِلَة
الَّذِي فَيصير مَا أحسن الَّذِي كَانَ زيدا كَأَنَّهُ كَانَ اسْمه
زيدا ثمَّ انْتقل عَنهُ وَإِنَّمَا قبح هَذَا لجعلهم مَا للآدميين
وَإِنَّمَا هَذَا من مَوَاضِع من لِأَن مَا إِنَّمَا هِيَ لذات غير
الْآدَمِيّين وصفات الْآدَمِيّين
أَلا ترى أَنَّك تَقول مَا عنْدك فَتَقول فرس أَو حمَار وَلَو قلت من
عنْدك لقَالَ زيد أَو عَمْرو
وَالصِّفَات للآدميين الَّتِي تقع عَلَيْهَا مَا فَهِيَ نَحْو قَوْلك
عِنْدِي زيد فَأَقُول وَمَا زيد فَيكون جَوَابه طَوِيل أَو قصير أَو
شرِيف أَو وضيع
وَإِنَّمَا أجزناه على بعد لِأَن الصّفة قد تحل مَحل الْمَوْصُوف تَقول
مَرَرْت بالعاقل وَجَاءَنِي الظريف
وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين فِي قَوْله عز وَجل {وَالسَّمَاء وَمَا
بناها} قَالَ وَمن بناها
وَكَانَ أَبُو زيد يروي عَن الْعَرَب أَنَّهَا تَقول سُبْحَانَ مَا سبح
الرَّعْد بِحَمْدِهِ فعلى هَذَا أجزناه
وَتقول مَا أحسن مَا كَانَ زيد وأجمله وَمَا أحسن مَا كَانَت هِنْد
وأجمله لِأَنَّك ترد إِلَى مَا وَلَو قلت وأجملها جَازَ على أَن تجْعَل
ذَلِك لَهَا
وَإِذا قلت مَا أحسن زيدا فَرددت ذَلِك إِلَى نَفسك قلت مَا أحسنني
لِأَن أحسن فعل فَظهر الْمَفْعُول بعده كَمَا يظْهر بعد ضرب وَلَو
كَانَ اسْما لظهرت بعده يَاء وَاحِدَة إِذا أَرَادَ الْمُتَكَلّم نَفسه
نَحْو قَوْلك هَذَا غلامي
(4/185)
وَتقول فِي الِاسْتِفْهَام مَا أحسن زيد
إِذا أردْت أَي أحسن من زيد
فَإِذا جعلت الْمَسْأَلَة مِنْك قلت مَا أحسني كَمَا تَقول من غلامي
فَإِنَّمَا يجْرِي الْمُضمر مجْرى الظَّاهِر
أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت مَا أحسن زيد فَرددت ذَلِك إِلَى نَفسك قلت
مَا أَحْسَنت
وَتقول مَا أحسن زيدا ورجلا مَعَه وَلَوْلَا قَوْلك مَعَه لم يكن
للْكَلَام معنى وَذَلِكَ أَنَّك إِذا قلت مَا أحسن رجلا فَلَيْسَ هَذَا
مِمَّا يُفِيد بِهِ السَّامع شَيْئا لِأَنَّهُ لَا يستنكر أَن يكون فِي
النَّاس من هُوَ كَذَا كثيرا
وَلَو قلت مَا أحسن رجلا من بني فلَان أَو رجلا رَأَيْته عنْدك حَتَّى
تقويه بِشَيْء يُوجد فِيهِ معنى يخرج من بَاب الإشاعة لصلح
وَهَذَا بِمَنْزِلَة قَوْلك كَانَ رجل عَاقِلا وَإِن رجلا عَاقل يجوز
فِيهِ مَا جَازَ فيهمَا وَيمْتَنع فِيهِ مَا يمْتَنع فيهمَا
(4/186)
وَتقول مَا أحسن إنْسَانا قَامَ إِلَيْهِ
زيد وَمَا أقبح بِالرجلِ أَن يفعل كَذَا فالرجل الْآن شَائِع وَلَيْسَ
التَّعَجُّب مِنْهُ وَإِنَّمَا التَّعَجُّب من قَوْلك أَن يفعل كَذَا
كنحو مَا أقبح بِالرجلِ أَن يشْتم النَّاس تَقْدِيره مَا أقبح شتم
النَّاس بِمن فعله من الرِّجَال
وَلَو قلت مَا أحسن رجلا إِذا طلب مَا عِنْده أعطَاهُ كَانَ هَذَا
الْكَلَام جَائِزا وَلم يكن أحسن وَإِن نصب رجلا وَاقعا عَلَيْهِ
إِنَّمَا هُوَ وَاقع على فعله وَإِنَّمَا جَازَ أَن يُوقع التَّعَجُّب
عَلَيْهِ وَهُوَ يُرِيد فعله لِأَن فعله بِهِ كَانَ وَهُوَ الْمَحْمُود
عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَة والمذموم كَقَوْلِك رَأَيْت زيدا يضْرب عمرا
ثمَّ تَقول رَأَيْت ضرب زيد عمرا فالضرب لَا يرى وَإِنَّمَا رَأَيْت
الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ وَرَأَيْت الْفَاعِل يَتَحَرَّك وَذَلِكَ
المتحرك يدل على نوع الْحَرَكَة فَأَما الْحَرَكَة نَفسهَا فَلَا ترى
لِأَن المرئي لَا يكون إِلَّا جسما ملونا
وَلَو قلت مَا أَكثر هِبتك الدَّنَانِير وإطعامك الْمَسَاكِين كنت قد
أوقعت التَّعَجُّب بِالْفِعْلِ واتصل بِهِ التَّعَجُّب من كَثْرَة
الْمَفْعُول وَهُوَ الطَّعَام وَالدَّنَانِير الَّتِي يَهَبهَا فكأنك
قلت مَا أَكثر الدَّنَانِير الَّتِي تهبها وَالطَّعَام الَّذِي تطعمه
وَإِن أردْت هَذَا التَّقْدِير
وَإِن أردْت أَن هِبته أَو طَعَامه يَفْعَلهَا كثيرا إِلَّا أَن ذَلِك
يكون نزرا فِي كل مرّة جَازَ وَكَانَ وَجه الْكَلَام أَلا يَقع
التَّعَجُّب على هَذَا لِأَن هَذَا شَبيه بالإلغاز لِأَن قصد
التَّعَجُّب الْكَثْرَة فَإِذا تؤول على الْقلَّة فقد زَالَ معنى
التَّعَجُّب وَلَكِن بعض الْأَشْيَاء يدل على بعض
أَلا ترى أَنَّك تَقول مَا جَاءَنِي غير زيد وتريد مَا جَاءَنِي إِلَّا
زيد
وَقد يجوز أَلا يكون زيد جَاءَك غير زيد فَإِنَّمَا زعمت أَن غَيره لم
يأتك فَجَائِز أَن يكون أَيْضا مَا جَاءَك إِلَّا أَنَّك أَمْسَكت عَن
الْخَبَر فِيهِ وَلِهَذَا مسَائِل غامضة تَأتي فِي موضعهَا إِن شَاءَ
الله
(4/187)
(هَذَا بَاب مَا جرى فِي بعض اللُّغَات
مجْرى الْفِعْل لوُقُوعه فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ حرف وَجَاء لِمَعْنى
وَيجْرِي فِي غير تِلْكَ اللُّغَة مجْرى الْحُرُوف غير العوامل
وَذَلِكَ الْحَرْف مَا النافية)
تَقول مَا زيد قَائِما وَمَا هَذَا أَخَاك كَذَلِك يفعل أهل الْحجاز
وَذَلِكَ أَنهم رأوها فِي معنى لَيْسَ تقع مُبتَدأَة وتنفي مَا يكون
فِي الْحَال وَمَا لم يَقع فَلَمَّا خلصت فِي معنى لَيْسَ ودلت على مَا
تدل عَلَيْهِ وَلم يكن بَين نفييهما فصل الْبَتَّةَ حَتَّى صَارَت كل
وَاحِدَة تغني عَن الْأُخْرَى أجروها مجْراهَا
فَمن ذَلِك قَول الله عز وَجل {مَا هَذَا بشرا} و {مَا هن أمهاتهم}
وَأما بَنو تَمِيم فَيَقُولُونَ مَا زيد منطلق يدعونها حرفا على
حَالهَا بِمَنْزِلَة إِنَّمَا إِذا قلت إِنَّمَا زيد منطلق
(4/188)
وَأهل الْحجاز إِذا أدخلُوا عَلَيْهَا مَا
يُوجِبهَا أَو قدمُوا خَبَرهَا على اسْمهَا ردوهَا إِلَى أَصْلهَا
فَقَالُوا مَا زيد إِلَّا منطلق وَمَا منطلق زيد لِأَنَّهَا حرف لَا
يتَصَرَّف تصرف الْأَفْعَال فَلم يقو على نقض النَّفْي كَمَا لم يقو
على تَقْدِيم الْخَبَر وَذَلِكَ لما خبرتك بِهِ فِي الْأَفْعَال
والحروف وَأَن الشَّيْء إِنَّمَا يتَصَرَّف عمله كَمَا يتَصَرَّف هُوَ
فِي نَفسه فَإِذا لزم طَريقَة وَاحِدَة لزم مَا يعْمل فِيهِ طَريقَة
وَاحِدَة
وَتقول فِي قَول أهل الْحجاز مَا زيد مُنْطَلقًا أَبوهُ وَلَا خَارِجا
أَبوهُ وَمَا زيد قَائِما إِلَيْهِ عبد الله لِأَنَّك تجْرِي عَلَيْهِ
مَا كَانَ لشَيْء من سَببه كَمَا يجْرِي عَلَيْهِ مَا كَانَ لَهُ
خَاصَّة
أَلا ترى أَنَّك تَقول مَرَرْت بِرَجُل قَائِم أَبوهُ كَمَا تَقول
مَرَرْت بِرَجُل قَائِم
وَتقول إِن شِئْت مَا زيد قَائِما وَلَا خَارج أَبوهُ جعلت أَبَاهُ
بِمَنْزِلَة الْأَجْنَبِيّ فَصَارَ خَارج خَبرا مقدما كَأَنَّك قلت مَا
زيد مُنْطَلقًا وَلَا أَبوهُ خَارج
وَتقول مَا زيد خَارِجا غُلَامه وَلَا منطلقة جَارِيَته يكون فِي
الْعَطف على حَاله
فَأَما قَول بني تَمِيم فعلى أَنهم أدخلُوا مَا على المبتدإ وَقد عمل
فِي خَبره كَمَا يعْمل الْفِعْل فِي فَاعله فَكَأَن قَوْلهم مَا زيد
عَاقل بِمَنْزِلَة مَا قَامَ زيد لأَنهم أدخلوها على كَلَام قد عمل
بعضه فِي بعض فَلم يُغير لِأَنَّهُ لَا يدْخل عَامل على عَامل
وَأما أهل الْحجاز فَإِنَّهُم لما رأوها فِي معنى لَيْسَ فِي جَمِيع
مواقعها تغني كل وَاحِدَة مِنْهُمَا عَن صاحبتها أجروها مجْراهَا فِي
الْعَمَل مادام الْكَلَام على وَجهه فَقَالُوا مَا زيد مُنْطَلقًا
كَمَا يَقُولُونَ لَيْسَ زيد مُنْطَلقًا فَإِن أدخلُوا عَلَيْهَا مَا
يُوجِبهَا أَو قدمُوا خَبَرهَا رجعت إِلَى
(4/189)
أَنَّهَا حرف فَقَالُوا مَا منطلق زيد
لِأَنَّهَا ترجع إِلَى أَن الْكَلَام ابْتِدَاء وَخبر فَصَارَ
بِمَنْزِلَة قَوْلك قَائِم زيد وَأَنت تُرِيدُ زيد قَائِم لَا يكون
التَّقْدِيم إِلَّا على ذَلِك لِأَن لَيْسَ فعل وَهَذِه لَيست بِفعل
تَقول لست ولسنا وَلَيْسوا ولسن وَلَا يكون شَيْء من هَذِه الْإِضْمَار
فِي مَا وَلَكِن لما أشبهت الْفِعْل جرت مجْرَاه مَا كَانَ على مجْرَاه
وَفِي مَوْضِعه فَلَمَّا فَارَقت ذَلِك لم يجز النَّقْض فِيهَا
وَالتَّصَرُّف لِأَنَّهَا فِي نَفسهَا غير متصرفة وَلَا مُحْتَملَة
ضميرا
أَلا ترى أَنَّك تَقول إِن زيدا منطلق وَلَو قدمت الْخَبَر لم تقل إِن
منطلق زيدا لِأَنَّك لَا تجْعَل الْحُرُوف غير المتصرفة كالأفعال
المتصرفة وَلَو فعلت ذَلِك للزمك أَن تصرفها فِي أَنْفسهَا وَهَذَا
محَال
فَأَما تَقْدِيم الْخَبَر فقولك مَا منطلق زيد وَمَا مسيء من أَعتب
فَإِنَّمَا قدمت على حد قَوْلك مَا زيد منطلق وَلَو أردْت التَّقْدِيم
على قَوْلك مَا زيد مُنْطَلقًا لم يجز كَمَا لَا يجوز إِن منطلق زيدا
وَهَذَا قَول مغن فِي جَمِيع الْعَرَبيَّة كل مَا كَانَ متصرفا عمل فِي
الْمُقدم والمؤخر وَإِن لم يكن متصرفا لم يُفَارق مَوْضِعه لِأَنَّهُ
مدْخل على غَيره
وَأما نقض الْخَبَر فقولك مَا زيد إِلَّا منطلق لِأَنَّك نفيت عَنهُ كل
شَيْء إِلَّا الانطلاق فَلم تصلح مَا أَن تكون عاملة فِي نقض النَّفْي
كَمَا لم تعْمل فِي تَقْدِيم الْخَبَر
قَالَ الله عز وَجل {وَمَا أمرنَا إِلَّا وَاحِدَة كلمح} و {مَا هَذَا
إِلَّا بشر مثلكُمْ} وَقَالَ حَيْثُ كَانَت فِي موضعهَا {مَا هَذَا
بشرا} و {مَا هن أمهاتهم}
فَهَذَا أَصْلهَا الَّذِي شرحنا وسنفرد بَابا للمسائل إِذْ كَانَت لَا
تصح إِلَّا بعد الْفَرَاغ من الْأُصُول
(4/190)
فَأَما قَول الفرزدق
(فأَصْبَحُوا قَدْ أعادَ الله نِعْمَتَهُمْ ... إذْ هُمْ قُريشٌ وإِذْ
مَا مِثْلَهُمُ بشَرُ)
فالرفع الْوَجْه وَقد نَصبه بعض النَّحْوِيين وَذهب إِلَى أَنه خبر
مقدم وَهَذَا خطأ فَاحش وَغلط بَين وَلَكِن نَصبه يجوز على أَن
تَجْعَلهُ نعتا مقدما وتضمر الْخَبَر فتنصبه على
(4/191)
الْحَال مثل قَوْلك فِيهَا قَائِما رجل
وَذَلِكَ أَن النَّعْت لَا يكون قبل المنعوت وَالْحَال مفعول فِيهَا
وَالْمَفْعُول يكون مقدما ومؤخرا وَقد فسرنا الْحَال بالعامل إِذا
كَانَ فعلا وَإِذا كَانَ على معنى الْفِعْل بِمَا يسْتَغْنى عَن
إِعَادَة القَوْل فِيهِ
(4/192)
(هَذَا بَاب من مسَائِل مَا)
تَقول مَا زيد مُنْطَلقًا وَلَا قَائِم عَمْرو رفعت قَائِما لِأَنَّهُ
خبر مقدم فكأنك قلت وَمَا قَائِم عَمْرو
وَتقول مَا زيد مُنْطَلقًا وَلَا قَائِما أَبوهُ وَإِن شِئْت قلت وَلَا
قَائِم أَبوهُ
أما النصب فلأنك أجريت على زيد الْخَبَر لِأَنَّهُ لما هُوَ من سَببه
فَهُوَ بِمَنْزِلَة مَا كَانَ لَهُ
أَلا ترى أَنَّك تَقول مَا زيد قَائِما أَبوهُ كَمَا تَقول مَا زيد
قَائِما وَلَو قلت مَا زيد قَائِما عَمْرو كَانَ محالا
وَأما الرّفْع فعلى أَنَّك جعلته خَبرا للْأَب ثمَّ قَدمته على ذَلِك
فكأنك قلت مَا زيد أَبوهُ قَائِم فَكَانَ بِمَنْزِلَة الْأَجْنَبِيّ
فِي الِانْقِطَاع من الأول ومباينا للْأَجْنَبِيّ فِي وُقُوعه خبر
الأول رفعت أَو نصبت
أما قَوْلنَا بِمَنْزِلَة الْأَجْنَبِيّ فَإنَّك إِذا قلت مَا زيد
مُنْطَلقًا وَلَا قَائِم أَبوهُ فَهُوَ كَقَوْلِك وَلَا قَائِم عَمْرو
لِأَنَّك عطفت جملَة على جملَة فَاسْتَوَى مَا لَهُ سَبَب وَمَا لَا
سَبَب لَهُ
وَأما قَوْلنَا إِذا كَانَ خَبرا بَان من الْأَجْنَبِيّ رفعت أَو نصبت
فَذَلِك قَوْلك مَا زيد مُنْطَلقًا أَبوهُ وَمَا زيد أَبوهُ منطلق لَا
يجوز أَن يكون الْأَجْنَبِيّ فِي هَذَا الْموضع لَو
(4/193)
قلت مَا زيد مُنْطَلقًا عَمْرو أَو مَا زيد
عَمْرو منطلق كَانَ خطأ وَلم يكن للْكَلَام معنى لِأَنَّك ذكرت زيدا
وَلم تصل بِهِ خَبرا
فَإِن قلت مَا زيد مُنْطَلقًا عَمْرو إِلَيْهِ أَو مَا زيد مُنْطَلقًا
رجل يُحِبهُ أَو نَحْو ذَلِك من الرواجع إِلَيْهِ صَحَّ الْكَلَام
وَصَحَّ مَعْنَاهُ وَهَذَا بَين جدا
وَتقول مَا أَبُو هِنْد قَائِما وَلَا منطلقة أمه على مَا وصفت لَك
وَلَو قلت مَا أَبُو هِنْد قَائِما وَلَا منطلقة أمهَا كَانَ خطأ
لِأَنَّك لم ترد إِلَى الْأَب شَيْئا وَهُوَ الَّذِي عَنهُ تخبر
وَإِنَّمَا جِئْت بِالْهَاءِ لغيره
أَلا ترى أَنَّك لَا تَقول مَا أَبُو هِنْد منطلقة أمهَا
فَأَما قَول الشَّاعِر
(فليْسَ بمعروفِ لنا أَنْ نَرُدَّها ... صِحاحاً وَلَا مُسْتَنْكَرٌ
أَنْ تُعَقَّرَا)
فَإِن هَذَا الْبَيْت إِنَّمَا جَاءَ فِي لَيْسَ وَلَيْسَ تَقْدِيم
الْخَبَر وتأخيره فِيهَا سَوَاء
وَلَكنَّا نشرحه على مَا يصلح مثله فِي مَا وَمَا يمْتَنع إِنَّمَا
كَانَ فِي ذكر الْخَيل فَقَالَ فَلَيْسَ بِمَعْرُوف لنا أَن نردها أَي
فَلَيْسَ بِمَعْرُوف لنا ردهَا ف (ردهَا) اسْم لَيْسَ وبمعروف لنا
الْخَبَر ثمَّ قَالَ وَلَا مستنكر أَن تعقرا وتأويله وَلَا مستنكر
عقرهَا فَهَذَا لَا يكون إِلَّا مُنْقَطِعًا عَن الأول لِأَن الْعقر
مُضَاف إِلَى ضمير الْخَيل
(4/194)
وَلَيْسَ يرجع إِلَى الرَّد وَالرَّدّ غير
الْخَيل فَهَذَا بِمَنْزِلَة قَوْلك مَا أَبُو زَيْنَب قَائِما وَلَا
ذَاهِبَة أمهَا لِأَن الْأُم ترجع إِلَى زَيْنَب لَا إِلَى من خبر
عَنهُ وَهُوَ الْأَب
وَلَو قلت فِي لَيْسَ خَاصَّة وَلَا مستنكرا أَن تعقرا على الْموضع
كَانَ حسنا لِأَن لَيْسَ يقدم فِيهَا الْخَبَر فكأنك قلت لَيْسَ بمنطلق
عَمْرو وَلَا قَائِما بكر على قَوْلك وَلَيْسَ قَائِما بكر
وَأما الْخَفْض فَيمْتَنع لِأَنَّك تعطف بِحرف وَاحِد على عاملين وهما
الْبَاء وَلَيْسَ فكأنك قلت زيد فِي الدَّار والحجرة عَمْرو فتعطف على
فِي والمبتدأ
وَكَانَ أَبُو الْحسن الْأَخْفَش يُجِيزهُ وَقد قَرَأَ بعض الْقُرَّاء
{وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من
رزق فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا وتصريف الرِّيَاح آيَات لقوم
يعْقلُونَ} فعطف على إِن وعَلى فِي وَهَذَا عندنَا غير جَائِز
(4/195)
وَمثل الْبَيْت الْمُتَقَدّم قَوْله
(هَوِّنْ عَلَيْكَ فإِنَّ الأُمُورَ ... بِكَفِّ الإِلهِ مَقادِيرُها)
(فليْسَ بآتيكَ منْهِيُّها ... وَلَا قاصرٌ عنكَ مأمُورُها)
لِأَن الْمَأْمُور رَاجع إِلَى الْأُمُور ومنهيها بَعْضهَا
فالرفع على مثل قَوْلك لَيْسَ زيد قَائِما وَلَا عَمْرو منطلق قطعته من
الأول وعطفت جملَة على جملَة
وَالنّصب قد فسرناه على الْموضع
وَكَانَ سِيبَوَيْهٍ يُجِيز الْجَرّ فِي هَذَا وَفِي الَّذِي قبله
فَيَقُول وَلَا قَاصِر وَلَا مستنكر وَيذْهب إِلَى أَن الرَّد مُتَّصِل
بِالْخَيْلِ وَأَن المنهى مُتَّصِل بالأمور فَإِذا رد إِلَى الْمنْهِي
فَكَأَنَّهُ قد رد إِلَى الْأُمُور ويحتج بِهَذِهِ الأبيات الَّتِي
أذكرها وَهِي قَول الشَّاعِر
(4/196)
(وتشْرَقُ بالقوْلِ قَدْ أَذَعْتَهُ ...
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ)
فأنث لِأَن الصَّدْر من الْقَنَاة وَكَذَلِكَ قَوْله
(لَمَّا أَتَى خَبرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ... سُورُ المدِينَةِ
والجِبالُ الخُشَّعُ)
وَمثله
(مشَيْنَ كَمَا اهتزَّتْ رِماحٌ تِسفَّهُتْ ... أَعالِيَهَا مَرُّ
الرِّياحِ النَّواسِمِ)
(4/197)
وَمثله
(إِذا مَرُّ السنينَ تعرَّقتْنَا ... كَفى الأَيتَام فَقْدَ أَبي
اليتيمِ)
وَفِي كتاب الله عز وَجل {فظلت أَعْنَاقهم لَهَا خاضعين} وَمثل هَذَا
كثير جدا
(4/198)
وَلَيْسَ القَوْل عِنْدِي كَمَا ذهب
إِلَيْهِ وسنفصل بَين هَذَا وَبَين مَا ذكر إِن شَاءَ الله
أما قَوْله {فظلت أَعْنَاقهم لَهَا خاضعين} فَفِيهِ قَولَانِ أَحدهمَا
أَنه أَرَادَ بأعناقهم جماعاتهم من قَوْلك أَتَانِي عنق من النَّاس أَي
جمَاعَة وَإِلَى هَذَا كَانَ يذهب بعض الْمُفَسّرين وَهُوَ رَأْي أبي
زيد الْأنْصَارِيّ
وَأما مَا عَلَيْهِ جمَاعَة أهل النَّحْو وَأكْثر أهل التَّفْسِير
فِيمَا أعلم فَإِنَّهُ أضَاف الْأَعْنَاق إِلَيْهِم يُرِيد الرّقاب
ثمَّ جعل الْخَبَر عَنْهُم لِأَن خضوعهم بخضوع الْأَعْنَاق وَمن ذَلِك
قَول النَّاس ذلت عنقِي لفُلَان وذلت رقبتي لَك قَالَ عمَارَة
(فَإِنِّي امْرُؤ من عصبَة خندفية ... أَبَت للأعادي أَن تذيخ رقابها)
جعل للأعادي تبيينا وَلم يدْخلهُ فِي صلَة أَن
وَأما قَوْله كَمَا شَرقَتْ صدر الْقَنَاة من الدَّم فَإِن صدر
الْقَنَاة قناة وَكَذَلِكَ سور الْمَدِينَة لِأَنَّهَا إِنَّمَا مدنت
بسورها
وَأما قَوْله
(طُولُ اللَّيالي أَسْرَعتْ فِي نَقْضِي ... )
(4/199)
فَإِن الطول غير منفكة اللَّيَالِي مِنْهُ
فتقديره اللَّيَالِي أسرعت فِي نقضي
وَقَرِيب مِنْهُ قَوْله
(رأَتْ مرَّ السِّنِينْ أَخَذْنَ مِنِّي ... )
لِأَن السنين إِنَّمَا تعقل بمرورها وتصرفها
وَالَّذِي قَالَ خَارج من هَذَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجوز أَن تخبر عَن
الْمُضَاف إِذا ذكرت الْمُضَاف إِلَيْهِ إِذا كَانَ الأول بعضه أَو
كَانَ الْمَعْنى مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ فَأَما قَوْله
(فلَيْسَ بمعْرُوف لَنَا أَنْ نَرُدَّها ... )
فَإِن الرَّد غير الْخَيل والعقر رَاجع إِلَى الْخَيل فِي قَوْله
(وَلَا مُسْتَنْكِرٍ أَنْ تُعْقَّرَا ... )
فَلَيْسَ بمتَّصل بِشَيْء من الرَّد وَلَا دَاخل فِي الْمَعْنى فَأَما
قَوْله
(فَلَيْسَ بآتِيك مِنْهِيُّها)
فَهُوَ أقرب قَلِيلا وَلَيْسَ مِنْهُ لِأَن الْمَأْمُور بَعْضهَا
والمنهي بَعْضهَا وقربه أَنَّهُمَا قد أحاطا بالأمور
وَلَيْسَ يجوز الْخَفْض عندنَا إِلَّا على عاملين فِيمَن أجَازه وَقد
ذكرنَا ذَلِك
(4/200)
وَتقول مَا زيد قَائِما إِلَّا أَبوهُ
أردْت مَا زيد قَائِما أحد إِلَّا أَبوهُ فَجَاز ذَلِك لِأَن أحدا منفي
عَنهُ الْقيام وَكَذَلِكَ مَا زيد آكلا إِلَّا الْخبز أردْت مَا زيد
آكلا شَيْئا إِلَّا الْخبز وَمَا زيد إِلَّا طَعَامك آكل رفعت آكلا
لِأَنَّهُ وَقع مُوجبا فعلى هَذَا يجْرِي أصُول هَذَا الْبَاب ومسائله
(4/201)
هَذَا بَاب النداء
اعْلَم أَنَّك إِذا دَعَوْت مُضَافا نصبته وانتصابه على الْفِعْل
الْمَتْرُوك إِظْهَاره وَذَلِكَ قَوْلك يَا عبد الله لِأَن يَا بدل من
قَوْلك أَدْعُو عبد الله وَأُرِيد لَا أَنَّك تخبر أَنَّك تفعل وَلَكِن
بهَا وَقع أَنَّك قد أوقعت فعلا فَإِذا قلت يَا عبد الله فقد وَقع
دعاؤك بِعَبْد الله فانتصب على أَنه مفعول تعدى إِلَيْهِ فعلك
وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ نكرَة نَحْو يَا رجلا صَالحا وَيَا قوما
منطلقين وَالْمعْنَى وَاحِد
(4/202)
وعَلى هَذَا {يَا حسرة على الْعباد}
وَقَالَ الشَّاعِر
(أَدَاراً بِحُزْوَى هِجْتِ لِلْعَيْنِ عَبْرةً ... فَماءُ الهَوَى
يَرْفَضُّ أَوْ يَتَرَقْرَقْ)
وَقَالَ الشَّاعِر
(لعلَّكَ يَا تَيْسا نَزَا فِي مَرِيرَةٍ ... تُعَذِّبُ لَيْلى أنْ
تَراني أَزُورُها)
(4/203)
وَقَالَ الآخر
(فيا راكِبِّا إِمَا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... نداماي مِنْ نَجْرَانَ
أَنْ لَا تَلاقِيا)
وَأما الْمُضَاف فكقوله {يَا قَومنَا أجِيبُوا دَاعِي الله} وَمَا
أشبهه
فَإِن كَانَ المنادى وَاحِدًا مُفردا معرفَة بني على الضَّم وَلم
يلْحقهُ تَنْوِين وَإِنَّمَا فعل ذَلِك بِهِ لِخُرُوجِهِ عَن الْبَاب
ومضارعته مَا لَا يكون معربا وَذَلِكَ أَنَّك إِذا قلت يَا زيد وَيَا
عَمْرو فقد أخرجته من بَابه لِأَن حد الْأَسْمَاء الظَّاهِرَة أَن تخبر
بهَا وَاحِد عَن وَاحِد غَائِب والمخبر عَنهُ غَيرهَا فَتَقول قَالَ
زيد فزيد غَيْرك وَغير الْمُخَاطب وَلَا تَقول قَالَ زيد وَأَنت تعنيه
أَعنِي الْمُخَاطب فَلَمَّا قلت يَا زيد خاطبته بِهَذَا الِاسْم
فأدخلته فِي بَاب مَا لَا يكون إِلَّا
(4/204)
مَبْنِيا نَحْو أَنْت وَإِيَّاك وَالتَّاء
فِي قُمْت وَالْكَاف فِي ضربتك ومررت بك فَلَمَّا أخرج من بَاب
الْمعرفَة وَأدْخل فِي بَاب المبنية لزمَه مثل حكمهَا وبنيته على
الضَّم لتخالف بِهِ جِهَة مَا كَانَ عَلَيْهِ معربا لِأَنَّهُ دخل فِي
بَاب الغايات
أَلا ترى أَنَّك تَقول جِئْت قبلك وَمن قبلك فَلَمَّا صَار غَايَة لما
أذكرهُ فِي مَوْضِعه قلت جِئْت قبل يَا فَتى وَجئْت من قبل قَالَ الله
عز وَجل {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد}
وَكَذَلِكَ تَقول جِئْت فِي أول النَّاس وَتقول ابدأ بِهَذَا أول يَا
فَتى لما خرج من بَاب الْإِعْرَاب فَصَارَ غَايَة خُولِفَ بِهِ عَن
جِهَته وَلِهَذَا مَوضِع يذكر فِيهِ مستقصى بحججه إِن شَاءَ الله
فَإِن قَالَ قَائِل فالمضاف والنكرة مخاطبان كَمَا كَانَ فِي الْمُفْرد
الْمعرفَة وَقد كَانَ حَقّهمَا أَن يخبر عَنْهُمَا وَلَا يخاطبا
قيل لَهُ قد علمنَا أَن الْمُضَاف معرفَة بالمضاف إِلَيْهِ كَمَا كَانَ
قبل النداء والنكرة فِي حَال النداء كَمَا كَانَ قبل ذَلِك
وَزيد وَمَا أشبهه فِي حَال النداء معرفَة بِالْإِشَارَةِ منتقل عَنهُ
مَا كَانَ قبل ذَلِك فِيهِ من التَّعْرِيف
أَلا ترى أَنَّك تَقول إِذا أردْت الْمعرفَة يَا رجل أقبل
فَإِنَّمَا تَقْدِيره يَا أَيهَا الرجل أقبل وَلَيْسَ على معنى
مَعْهُود وَلَكِن حدثت فِيهِ إِشَارَة النداء فَلذَلِك لم تدخل فِيهِ
الْألف وَاللَّام وَصَارَ معرفَة بِمَا صَارَت بِهِ المبهمة معارف
(4/205)
والمبهمة مثل هَذَا وَذَاكَ وَهَذِه وَتلك
وَأُولَئِكَ وَذَاكَ وذاكن وذلكن إِلَّا أَنَّك إِذا ناديته فَهُوَ
معرفَة بِالْإِشَارَةِ كَمَا كَانَت هَذِه الْأَسْمَاء غير أَنه
مُخَاطب وَهِي مخبر عَنْهَا فَهَذَا يُوضح لَك أَمر الْوَاحِد
الْمُفْرد
وَمَعَ ذَلِك أَن الْمُضَاف تَمنعهُ الْإِضَافَة من الْبناء كَمَا
كَانَ ذَلِك فِي قبل وَبعد وأمس وَمَا أشبههن
تَقول ذهب أمس بِمَا فِيهِ وَقد ذهب أمسنا وَكَذَلِكَ تَقول جِئْت من
قبل وَمن بعد يَا فَتى كَمَا قَالَ الله عز وَجل {وَمن قبل مَا فرطتم
فِي يُوسُف} فَلَمَّا أضَاف قَالَ {من بعد أَن أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم}
و {من بعد أَن نزع الشَّيْطَان بيني وَبَين إخوتي}
والفصل بَين قَوْلك يَا رجل أقبل إِن أردْت بِهِ الْمعرفَة وَبَين
قَوْلك يَا رجلا أقبل إِذا أردْت النكرَة أَنَّك إِذا ضممت فَإِنَّمَا
تُرِيدُ رجلا بِعَيْنِه تُشِير إِلَيْهِ دون سَائِر أمته
وَإِذا نصبت ونونت فَإِنَّمَا تَقْدِيره يَا وَاحِدًا مِمَّن لَهُ
هَذَا الِاسْم فَكل من أجابك من الرِّجَال فَهُوَ الَّذِي عنيت
كَقَوْلِك لَأَضرِبَن رجلا فَمن كَانَ لَهُ هَذَا الِاسْم بر بِهِ قسمك
وَلَو قلت لَأَضرِبَن الرجل لَك لم يكن إِلَّا وَاحِدًا مَعْلُوما
بِعَيْنِه إِلَّا أَن هَذَا لَا يكون إِلَّا على مَعْهُود
فأعربت النكرَة لِأَنَّهَا فِي بَابهَا لم تخرجها مِنْهُ وَمَعَ هَذَا
أَن التَّنْوِين الَّذِي فِيهِ مَانع من الْبناء كَمَا كَانَ ذَلِك فِي
الْمُضَاف
(4/206)
وَمن جعل قبل وَبعد نكرتين نون وأجراهما
على وُجُوه الْإِعْرَاب وَقد قَرَأَ بعض الْقُرَّاء {لله الْأَمر من
قبل وَمن بعد}
فَمن جَعلهمَا نكرتين فتقديره وَالله أعلم لله الْأَمر أَولا وآخرا
وَمن جَعلهمَا معرفتين فتقدير ذَلِك قبل مَا نعلم وَبعده وَقبل كل
شَيْء وَبعده
تَقول يَا زيد وَعَمْرو أَقبلَا وَيَا هِنْد وَزيد أَقبلَا تجْرِي كل
مُفْرد معرفَة وَإِن اخْتلفت أجناسه مجْرى وَاحِد لِأَن النداء يُخرجهُ
إِلَى طَريقَة وَاحِدَة
فَإِن نعت مُفردا بمفرد فَأَنت فِي النَّعْت بِالْخِيَارِ إِن شِئْت
رفعته وَإِن شِئْت نصبته
تَقول يَا زيد الْعَاقِل أقبل وَيَا عَمْرو الظريف هَلُمَّ وَإِن شِئْت
قلت الْعَاقِل والظريف
أما الرّفْع فلأنك أتبعته مَرْفُوعا
فَإِن قَالَ فَهَذَا الْمَرْفُوع فِي مَوضِع مَنْصُوب فَلم لَا يكون
بِمَنْزِلَة قَوْلك مَرَرْت بعثمان الظريف لم تتبعه لاسم لِأَن الِاسْم
فِي مَوضِع مخفوض وَأَنه مَنعه أَنه لَا ينْصَرف فجرت صفته على مَا
كَانَ يَنْبَغِي أَن يكون عَلَيْهِ فالفصل بَينهمَا اطراد الْبناء فِي
كل منادى مُفْرد حَتَّى يصير الْبناء عِلّة لرفعه وَإِن كَانَ ذَلِك
الرّفْع غير إِعْرَاب وَلَيْسَ كل اسْم مَمْنُوعًا من الصّرْف
(4/207)
فَمن ذَلِك قَوْله
(يَا حَكَمُ الوارِثُ عَنْ عَبْدِ الملِكْ ... )
فَهُوَ الْأَكْثَر فِي الْكَلَام
وَأما النصب فعلى الْموضع لِأَن مَوضِع زيد مَنْصُوب
فتقدير هَذَا إِذا رفعت تَقْدِير قَوْلك لَيْسَ زيد بقائم وَلَا قَاعد
على اللَّفْظ وَإِن كَانَت الْبَاء زَائِدَة
وَتَقْدِير الْمَنْصُوب تَقْدِير قَوْلك لَيْسَ زيد بقائم وَلَا
قَاعِدا حملت قَاعِدا على الْموضع إِلَّا أَن هَذَا مُعرب فِي مَوْضِعه
وَزيد مَبْنِيّ فِي النداء وَلَكِنِّي مثلت لَك بِمَا اخْتلف وجهاه
كاختلاف نعت زيد الْمُفْرد وَمِمَّا جَاءَ من نعت المنادى الْمُفْرد
مَنْصُوبًا قَول جرير
(فَمَا كَعْبُ بْنُ مَامَةَ وابنُ سُعْدَى ... بأَجْوَدَ مِنْكَ يَا
عُمرُ الجَوادَا)
(4/208)
وَإِذا نعت مُفردا بمضاف لم يكن الْمُضَاف
إِلَّا مَنْصُوبًا تَقول يَا زيد ذَا الجمة وَيَا زيد غُلَام عَمْرو
والفصل بَين هَذَا وَبَين الْمُفْرد أَنَّك إِذا نعت شَيْئا بِشَيْء
فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهِ لَو كَانَ فِي مَوْضِعه فقولك مَرَرْت بزيد
الظريف كَقَوْلِك مَرَرْت بالظريف وَكَذَلِكَ مَرَرْت بِعَمْرو
الْعَاقِل
فَأَنت إِذا قلت يَا زيد الظريف فتقديره يَا ظريف على مَا حددت لَك
وقولك يَا زيد ذَا الجمة بِمَنْزِلَة يَا ذَا الجمة فَلذَلِك لم يكن
الْمُضَاف إِذا كَانَ نعتا إِلَّا نصبا
أما الْمُضَاف المنادى فنعته لَا يكون إِلَّا نصبا مُفردا كَانَ أَو
مُضَافا وَذَلِكَ قَوْلك يَا عبد الله الْعَاقِل لِأَنَّك إِن حَملته
على اللَّفْظ فَهُوَ مَنْصُوب والموضع مَوضِع نصب
فَأَما قَوْله
(إِنَّي وأَسْطارٍ سُطِرْنَ سَطْرا ... لقائِلٌ يَا نصرُ نصرٌ نَصْرا)
فَإِن هَذَا الْبَيْت ينشد على ضروب فَمن قَالَ يَا نصر نصرا نصرا
فَإِنَّهُ جعل المنصوبين تبيينا لمضموم وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه
النحويون عطف الْبَيَان وَمَجْرَاهُ مجْرى الصّفة فأجراه على قَوْلك
يَا زيد الظريف وَتَقْدِيره تَقْدِير قَوْلك يَا رجل زيدا أقبل جعلت
زيدا بَيَانا للرجل على قَول من نصب الصّفة
(4/209)
وينشد يَا نصر نصر نصرا جَعلهمَا تبيانا
فَأجرى أَحدهمَا على اللَّفْظ وَالْآخر على الْموضع كَمَا تَقول يَا
زيد الظريف الْعَاقِل وَلَو حمل الْعَاقِل على أَعنِي كَانَ جيدا
وَمِنْهُم من ينشد يَا نصر نصر نصرا يَجْعَل الثَّانِي بَدَلا من الأول
وَينصب الثَّانِي على التَّبْيِين فَكَأَنَّهُ قَالَ يَا نصر نصرا
وَأما الْأَصْمَعِي فَزعم أَن هَذَا الشّعْر يَا نصر نصرا نصرا وَأَنه
إِنَّمَا يُرِيد الْمصدر أَي انصرني نصرا
(4/210)
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة هَذَا تَصْحِيف
إِنَّمَا قَالَه لنصر بن سيار يَا نصر نصرا نصرا إغراء أَي عَلَيْك
نصرا يغريه بِهِ اعْلَم أَن الْبَدَل فِي جَمِيع الْعَرَبيَّة يحل مَحل
الْمُبدل مِنْهُ وَذَلِكَ قَوْلك مَرَرْت بِرَجُل زيد وبأخيك أبي عبد
الله فكأنك قلت مَرَرْت بزيد ومررت بِأبي عبد الله فعلى هَذَا تَقول
يَا زيد أَبَا عبد الله فتنصب أَبَا عبد الله نعتا كَانَ أَو بَدَلا
لِأَنَّك إِذا أبدلته مِنْهُ فكأنك قلت يَا أَبَا عبد الله وَتقول يَا
أخانا زيدا أقبل لِأَن الْبَيَان يجْرِي مجْرى النَّعْت فكأنك قلت يَا
أخانا الظريف أقبل لَا يكون فِي الظريف إِلَّا النصب وَلَا فِي زيد
إِذا كَانَ تبيينا
وَاعْلَم أَن الْمَعْطُوف على الشَّيْء يحل مَحَله لِأَنَّهُ شَرِيكه
فِي الْعَامِل نَحْو مَرَرْت بزيد وَعَمْرو وَجَاءَنِي زيد وَعَمْرو
فعلى هَذَا تَقول يَا زيد وَعَمْرو أَقبلَا وَيَا زيد وَعبد الله
أَقبلَا لِأَن عبد الله إِذا حل مَحل زيد فِي النداء لم يكن إِلَّا
نصبا تَقول مَرَرْت بِعَمْرو وَمُحَمّد يَا فَتى لِأَن مُحَمَّدًا إِذا
حل هَذَا الْمحل لم يكن إِلَّا مخفوضا منونا
وَتقول يَا عبد الله وَزيد أَقبلَا لَا يكون إِلَّا ذَلِك لما ذكرت لَك
(4/211)
فَإِن عطفت اسْما فِيهِ ألف وَلَام على
مُضَاف أَو مُنْفَرد فَإِن فِيهِ اخْتِلَافا أما الْخَلِيل وسيبويه
والمازني فيختارون الرّفْع فَيَقُولُونَ يَا زيد والْحَارث أَقبلَا
وَقَرَأَ الْأَعْرَج {يَا جبال أوبي مَعَه وَالطير}
وَأما أَبُو عَمْرو وَعِيسَى بن عمر وَيُونُس وَأَبُو عمر الْجرْمِي
فيختارون النصب وَهِي قِرَاءَة الْعَامَّة
وَحجَّة من اخْتَار الرّفْع أَن يَقُول إِذا قلت يَا زيد والْحَارث
فَإِنَّمَا أُرِيد يَا زيد وَيَا حَارِث
(4/212)
فَيُقَال لَهُم فَقولُوا يَا الْحَارِث
فَيَقُولُونَ هَذَا لَا يلْزمنَا لِأَن الْألف وَاللَّام لَا تقع إِلَى
جَانب حرف النداء وَأَنْتُم إِذا نصبتموه لم توقعوه أَيْضا ذَلِك
الْموقع فكلانا فِي هَذَا سَوَاء
وَإِنَّمَا جوزت لمفارقتها حرف الْإِشَارَة كَمَا تَقول كل شاه وسخلتها
بدرهم وَرب رجل وأخيه وَلَا تَقول كل سخلتها وَلَا رب أَخِيه حَتَّى
تقدم النكرَة
وَحجَّة الَّذين نصبوا أَنهم قَالُوا نرد الِاسْم بِالْألف وَاللَّام
إِلَى الأَصْل كَمَا نرده بِالْإِضَافَة والتنوين إِلَى الأَصْل فيحتج
عَلَيْهِم بالنعت الَّذِي فِيهِ الْألف وَاللَّام وكلا الْقَوْلَيْنِ
حسن
وَالنّصب عِنْدِي حسن على قِرَاءَة النَّاس
مثل ذَلِك اخْتلَافهمْ فِي الِاسْم المنادى إِذا لحقه التَّنْوِين
اضطرارا فِي الشّعْر فَإِن الْأَوَّلين يرَوْنَ رَفعه وَيَقُولُونَ
هُوَ بِمَنْزِلَة مَرْفُوع لَا ينْصَرف فَلحقه التَّنْوِين على لَفظه
وَأَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء وَأَصْحَابه يلزمونه النصب وحجتهم فِي
ذَلِك مَا ذكرت لَك وَيَقُولُونَ هُوَ بِمَنْزِلَة قَوْلك مَرَرْت
بعثمان يَا فَتى فَمَتَى لحقه التَّنْوِين رَجَعَ إِلَى الْخَفْض
(4/213)
فمما جَاءَ على ذَلِك قَول مهلهل
(رَفَعتْ رَأْسَهَا إِليَّ وقَالَتْ ... يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْك
الأَواقي)
وَالْأَحْسَن عِنْدِي النصب وَأَن يردهُ التَّنْوِين إِلَى أَصله كَمَا
كَانَ ذَلِك فِي النكرَة والمضاف وَكَذَلِكَ بَيت الْأَحْوَص
(سلامُ اللهِ يَا مطَرُ عليْها ... وليسَ عليكَ يَا مَطَرُ السلامُ)
(4/214)
وَقَالَ الآخر
(يَا عَدِيًّا لِقَلْبِكَ المُهْتَاجِ ... )
وَأما قَول الصلتان
(أَيَا شَاعِرًا لَا شَاعِر اليَوْمَ مِثْلَهُ ... جَرِيرٌ ولكنْ فِي
كُلَيْبٍ تَواضُعُ)
فَكَانَ الْخَلِيل يزْعم أَن هَذَا لَيْسَ نِدَاء من أجل الْمَعْنى
وَذَلِكَ أَنه لَو ناداه كَانَ قد نَادَى منكورا وَكَانَ كل من
أَجَابَهُ مِمَّن لَهُ هَذَا الِاسْم فَهُوَ الَّذِي نَادَى كَقَوْلِك
إِذا جَاءَ رجل فَأَعْلمنِي فَإِنَّمَا أخْبرته بِأَن يعلمك إِذا جَاءَ
وَاحِد مِمَّن لَهُ هَذِه البنية قَالَ فَكيف يكون نكرَة وَهُوَ يقْصد
إِلَى وَاحِد بِعَيْنِه فيفضله وَلَكِن مجازاه أَنه
(4/215)
قَالَ يَا فنبه ثمَّ قَالَ عَلَيْكُم
شَاعِرًا لَا شَاعِر الْيَوْم مثله وَفِيه معنى التَّعَجُّب كَأَنَّهُ
قَالَ حَسبك بِهِ شَاعِرًا لما فِيهِ من معنى وَاللَّفْظ على مَا شرحت
لَك
وَإِذا كَانَت الصّفة لَازِمَة تحل مَحل الصِّلَة فِي أَنه لَا
يَسْتَغْنِي عَنْهَا لإبهام الْمَوْصُوف لم يكن إِلَّا رفعا لِأَنَّهَا
وَمَا قبلهَا بِمَنْزِلَة الشَّيْء الْوَاحِد لِأَنَّك إِنَّمَا ذكرت
مَا قبلهَا لتصل بِهِ إِلَى ندائها فَهِيَ الْمَدْعُو فِي الْمَعْنى
وَذَلِكَ قَوْلك يَا أَيهَا الرجل أقبل أَي مدعُو وَالرجل نعت لَهَا
وَهَا للتّنْبِيه لِأَن الْأَسْمَاء الَّتِي فِيهَا الْألف وَاللَّام
صِفَات للمبهمة مبينَة عَنْهَا ونفسر ذَلِك مستقصي ثمَّ نعود إِلَى
مَوْضِعه من النداء إِن شَاءَ الله
تَقول جَاءَنِي هَذَا الرجل فالرجل فِي غير هَذَا الْموضع لَا يذكر
إِلَّا على مَعْهُود نَحْو قَوْلك جَاءَنِي الرجل فَمَعْنَاه الَّذِي
عَرفته وَالَّذِي كَانَ بيني وَبَيْنك فِيهِ ذكر
فَإِذا قلت جَاءَنِي هَذَا الرجل لم يكن على مَعْهُود وَلَكِن
مَعْنَاهُ الَّذِي ترى فَإِنَّمَا هَذَا اسْم مُبْهَم يَقع على كل مَا
أَوْمَأت إِلَيْهِ بقربك وَإِنَّمَا توضحه بِمَا تنعته بِهِ ونعته
الْأَسْمَاء الَّتِي فِيهَا الْألف وَاللَّام وَيجوز أَن تنعته
بِالصِّفَاتِ الَّتِي فِيهَا الْألف وَاللَّام إِذا أَقمت الصّفة مقَام
الْمَوْصُوف فَتَقول مَرَرْت بِهَذَا الطَّوِيل إِذا أَشرت إِلَيْهِ
فَعلم مَا تَعْنِي بالطويل
وأصل النَّعْت بِهَذِهِ الْأَسْمَاء كَمَا وصفت لَك
فَإِذا قلت يَا أَيهَا الرجل لم يصلح فِي الرجل إِلَّا الرّفْع
لِأَنَّهُ المنادى فِي الْحَقِيقَة وَأي مُبْهَم متوصل بِهِ إِلَيْهِ
(4/216)
وَكَذَلِكَ يَا هَذَا الرجل إِذا جعلت
هَذَا سَببا إِلَى نِدَاء الرجل فَإِذا أردْت أَن تقف على هَذَا كَمَا
تقف على زيد فتنادي تَقول يَا هَذَا ثمَّ تنعته كنت فِي النَّعْت
مُخَيّرا كَمَا كنت فِي نعت زيد
والفصل بَيت أَي وَبَين هَذَا أَن هَذَا اسْم للْإِشَارَة فَهُوَ
يَكْتَفِي بِمَا فِيهِ من الْإِيمَاء
وَأي مجازها مجَاز مَا وَمن تكون اسْما فِي الْخَبَر بصلَة وَتَكون
استفهاما ومجازاة فَتَقول أَيهمْ فِي الدَّار كَمَا تَقول من فِي
الدَّار وَمَا عنْدك إِلَّا أَن أيا يسْأَل بهَا عَن شَيْء من شَيْء
تَقول أَي الْقَوْم زيد؟ فزيد وَاحِد مِنْهُم وَأي بنيك أحب إِلَيْك
وَمن لَا تكون إِلَّا لما يعقل تَقول من فِي الدَّار فَالْجَوَاب زيد
أَو عَمْرو وَمَا أشبه ذَلِك وَلَيْسَ جَوَابه أَن تَقول فرس أَو حمَار
أَو طَعَام أَو شراب
وَلَو قلت أَي الالة عنْدك أَو أَي الظّهْر عنْدك؟ أجبْت عَن هَذَا على
مِقْدَار الْمَسْأَلَة
وَمَا تقع على كل شَيْء وحقيقتها أَن يسْأَل بهَا عَن ذَوَات غير
الْآدَمِيّين وَعَن صِفَات الْآدَمِيّين
تَقول مَا عنْدك فتجيب عَن كل شَيْء مَا خلا من يعقل
(4/217)
فَأَما وُقُوعهَا على صِفَات الْآدَمِيّين
فَأن تَقول مَا زيد فَيَقُول لَك طَوِيل أَو شرِيف أَو نَحْو ذَلِك
فَإِذا أَقمت الصّفة مقَام الْمَوْصُوف أوقعتها على من يعقل وَإِقَامَة
الصّفة مقَام الْمَوْصُوف كَقَوْلِك مَرَرْت بظريف ومررت بعاقل
فَإِنَّمَا حد هَذَا أَن يكون تَابعا للاسم وأقمته مقَامه
فمما وَقع مَا فِيهِ على الْآدَمِيّين قَول الله {وَالَّذين هم لفروجهم
حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير
ملومين}
وَقَالَ قوم مَا وصلتها مصدر فَمَعْنَاه أَو ملك أَيْمَانهم وَهَذَا
أَقيس فِي الْعَرَبيَّة وَقَالَ الله عز وَجل {وَالسَّمَاء وَمَا
بناها} فَقَالَ قوم إِنَّمَا هُوَ وَالسَّمَاء وبنائها وَقَالَ قوم
مَعْنَاهُ وَمن بناها على مَا قيل فِيمَا قبله
فَأَما وُقُوع هَذِه الْأَسْمَاء فِي الْجَزَاء وَفِي معنى الَّذِي
فَبين وَاضح نَحْو من يأتني آته و {وَمَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة
فَلَا مُمْسك لَهَا} و {أيا مَا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى}
فَلذَلِك أخرنا شَرحه حَتَّى نذكرهُ فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله
فَأَما قَوْله
(يَا أَيُّها الجاهِلُ ذُو التَّنَزِّي ... )
(4/218)
وَيَا أَيهَا الرِّجَال ذُو المَال فَإِن
الَّذِي يخْتَار الرّفْع وَذَلِكَ لِأَن الرجل مَرْفُوع غير مَبْنِيّ
وَذُو التنزي نعت لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَة قَوْلك جَاءَنِي الرجل ذُو
المَال
وَالنّصب يجوز على أَن تَجْعَلهُ بَدَلا من أَي فكأنك قلت يَا أَيهَا
الرجل يَا ذَا التنزي
وَتقول يَا زيد الْعَاقِل ذُو المَال إِن جعلت ذَا المَال من نعت
الْعَاقِل
فَإِن جعلته من نعت زيد أَو بَدَلا من زيد فالنصب
وَتَقْدِيره إِذا كَانَ نعتا يَا زيد ذَا المَال وَإِذا كَانَ بَدَلا
فتقديره يَا ذَا المَال
وَأما قَوْله يَا أَيهَا الرجل ذُو الجمة فَلَا يجوز أَن يكون ذُو
الجمة من نعت أَي لَا تَقول يَا أَيهَا ذَا الجمة وَذَلِكَ لِأَن
المبهمة معارف بأنفسها فَلَا تكون نعوتها معارف بغَيْرهَا لِأَن
النَّعْت هُوَ المنعوت فِي الْحَقِيقَة لَا تَقول مَرَرْت بِهَذَا ذِي
المَال على النَّعْت كَمَا تَقول بِهَذَا الرجل وَرَأَيْت غُلَام هَذَا
الرجل
وَنَظِير مَا ذكرت لَك قَوْله
(أَلا أَيُهذا المنزلُ الدارِسُ الَّذِي ... كأَنَّكَ لَمْ يَعْهَدْ
بِكَ الحيَّ عاهِدُ)
(4/219)
تجْعَل هَذَا نعتا لأي لِأَنَّهُ مُبْهَم
مثله فَهَذَا مَا ذكرت لَك من أَن نعت الشَّيْء على منهاجه
وَتقول يَا هَذَا الطَّوِيل أقبل فِي قَول من قَالَ يَا زيد الطَّوِيل
وَمن قَالَ يَا زيد الطَّوِيل قَالَ يَا هَذَا الطَّوِيل وَلَيْسَ بنعت
لهَذَا وَلكنه عطف عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي يُسمى عطف الْبَيَان أَلا
ترى أَنَّك إِذا قلت جَاءَنِي زيد فَخفت أَن يلتبس الزيدان على
السَّامع أَو الزيود قلت الطَّوِيل وَمَا أشبهه لتفصل بَينه وَبَين
غَيره وَلَا تذكر إِلَّا مَا يَخُصُّهُ مِمَّن لَهُ مثل اسْمه
وَإِذا قلت جَاءَنِي هَذَا فقد أَوْمَأت لَهُ إِلَى وَاحِد بحضرتك
وبحضرتك أَشْيَاء كَثِيرَة فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن تبين لَهُ عَن
الْجِنْس الَّذِي أَوْمَأت إِلَيْهِ ليفصل ذَلِك من جَمِيع مَا بحضرتك
مِمَّا يرَاهُ فَأَنت هُنَاكَ إِنَّمَا تخص لَهُ شَيْئا من شَيْء
مِمَّا يعرفهُ بِقَلْبِه وَأَنت هَا هُنَا إِنَّمَا تبين لَهُ وَاحِد
من جمَاعَة تلحقها عينه
فَأَما الطَّوِيل وَمَا أشبهه فَإِنَّمَا حَده أم يكون تَابعا لما
يلْحق المبهمة من الْجَوَاهِر تَقول جَاءَنِي هَذَا الرجل الطَّوِيل
واشتريت هَذَا الْحمار الفاره يَا هَذَا
وَاعْلَم أَن كل مَوضِع يَقع فِيهِ الْمُضَاف مَنْصُوبًا فِي النداء
فَهُوَ الْموضع الَّذِي يَقع فِيهِ الْمُفْرد مضموما غير منون
(4/220)
وكل مَوضِع يرْتَفع فِيهِ الْمُضَاف فَهُوَ
الْموضع الَّذِي يَقع فِيهِ الْمُفْرد منونا
تَقول يَا أَيهَا الرجل زيد على قَوْلك يَا أَيهَا الرجل ذُو المَال
لِأَن زيدا تَبْيِين للرجل كَمَا كَانَ ذُو المَال نعتا للرجل
(4/221)
وَإِنَّمَا منعنَا أَن نقُول زيد نعت لِأَن
النَّعْت تحلية وَلَيْسَت الْأَسْمَاء الْأَعْلَام مِمَّا يحلى بهَا
وَلكنه تَبْيِين لأي وَشرح
وَتقول يَا أَيهَا الرجل زيد أقبل على الْبَدَل من أَي كَمَا تَقول يَا
أَيهَا الرجل ذَا الجمة فالبدل من الشَّيْء يحل مَحَله فكأنك قلت يَا
زيد وَيَا ذَا الجمة
وَتقول يَا أَيهَا الرجل الضَّارِب زيدا كَمَا تَقول يَا أَيهَا الرجل
الظريف وَكَذَلِكَ يَا أَيهَا الرجل الْحسن الْوَجْه وَيَا زيد الْحسن
الْوَجْه ترفع لِأَنَّهُ مُفْرد وَإِن كنت قد خفضت الْوَجْه لِأَن
تَقْدِيره يَا زيد الْحسن وَجهه وَيَا زيد الْحسن لِأَنَّك نَعته
بالْحسنِ ثمَّ بلغت بِهِ موضعا مِنْهُ أَو بِسَبَبِهِ فَهُوَ يجْرِي
فِي كل ذَلِك مجْرى الظريف
فَإِن قَالَ قَائِل فَنحْن نجده فِي اللَّفْظ مُضَافا تَقول هَذَا
الْحسن الْوَجْه كَمَا تَقول هَذَا صَاحب الدَّار يَا فَتى
قيل لَهُ الْفَصْل بَين هَذَا وَذَاكَ أَنَّك تَقول هَذَا حسن وَجهه
فَترفع الْوَجْه بِأَن الْفِعْل لَهُ فَإِذا أدخلت الْألف وَاللَّام
قلت هَذَا الْحسن وَجهه فتقديره هَذَا الَّذِي حسن وَجهه كَمَا تَقول
هَذَا الْقَائِم أَبوهُ فَلَا معنى للإضافة هَا هُنَا
فَإِذا قلت هَذَا الْحسن الْوَجْه فَإِنَّمَا هُوَ مَنْقُول من هَذَا
كَمَا ينْقل النصب من قَوْلك الْحسن وَجها فَلَيْسَ بِخَارِج من معنى
الَّذِي
(4/222)
وعَلى هَذَا ينشد هَذَا الْبَيْت
(يَا صاحِ يَا ذَا الضامِرُ العَنْسِ ... والرَّحْلِ والأَقْتَابِ
والحِلْسِ)
يُرِيد الَّذِي ضمرت عنسه وَسَنذكر حَال هَذِه الْأَسْمَاء إِذا كَانَت
مناداة وَمَا يصلح أَن يعرف مِنْهَا وينكر إِن شَاءَ الله
(4/223)
(هَذَا بَاب الْأَسْمَاء الَّتِي يلْحقهَا
مَا يلْحق الْأَسْمَاء المضافة من النصب لما يضم إِلَيْهِ)
تَقول يَا خيرا من زيد أقبل وَيَا حسنا وَجهه وَيَا عشْرين رجلا وَيَا
ضَارِبًا زيدا وَيَا قَائِما فِي الدَّار وَيَا ضَارِبًا رجلا
أما كَون هَذِه الْأَسْمَاء نكرات فقد قُلْنَا فِي النكرات وَكَيف يجب
فِيهَا النصب
وَإِنَّمَا نذْكر هَذِه الْأَسْمَاء إِذا كَانَت معارف وَإِنَّمَا تكون
معارف على ضَرْبَيْنِ إِمَّا سميت بِهِ رجلا وَإِمَّا دعوتها فِي
موَاضعهَا على حد قَوْلك يَا رجل أقبل تُرِيدُ يَا أَيهَا الرجل أقبل
وَأي ذَلِك فلفظها وَاحِد مَنْصُوب
أما قَوْلك يَا ضَارِبًا زيدا فَإِنَّمَا أردْت يَا أَيهَا الضَّارِب
فَلَمَّا حذفت الْألف وَاللَّام لحق التَّنْوِين للمعاقبة فَرده إِلَى
الأَصْل لِأَنَّك لم تنون مُضْطَرّا كَمَا قَالَ
(سَلامُ اللهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَا ... وليسَ عليكَ يَا مَطَرُ
السَّلامُ)
فَيكون دُخُول التَّنْوِين هَا هُنَا كدخوله على اسْم مَرْفُوع لَا
ينْصَرف وَلكنه دخل لِأَن مَا بعده من تَمام الِاسْم الَّذِي قبله
فَصَارَ التَّنْوِين كحرف فِي وسط الِاسْم فَلم يكن إِلَّا النصب بِمَا
دخل الِاسْم من التَّنْوِين والتمام
وَكَذَلِكَ إِن سميت رجلا ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ لَقلت يَا ثَلَاثَة
وَثَلَاثِينَ أقبل وَلَيْسَ
(4/224)
بِمَنْزِلَة قَوْلك للْجَمَاعَة يَا
ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ أَقبلُوا لِأَنَّك أردْت يَا أَيهَا الثَّلَاثَة
وَيَا أَيهَا الثَّلَاثُونَ
وَلَو قلت يَا ثَلَاثَة وَالثَّلَاثِينَ لجَاز الرّفْع وَالنّصب مثل
يَا زيد والْحَارث والْحَارث وَلَكِنَّك أردْت يَا من يُقَال لَهُ
ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ فَكل مَا لحق هَذِه الْأَسْمَاء من تَنْوِين أَو
اسْم يضم إِلَيْهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْإِضَافَة
وَكَذَلِكَ لَو سميت رجلا بِقَوْلِك زيد وَعَمْرو لَقلت يَا زيدا وعمرا
أقبل
وَلَو سميته طَلْحَة وزيدا قلت يَا طَلْحَة وزيدا أقبل فَإِن أردْت
بطلحة الْوَاحِدَة من الطلح قلت يَا طَلْحَة وزيدا أقبل لِأَنَّك سميته
بهما منكورة وَلم تكن جَمِيع الِاسْم فَيصير معرفَة إِنَّمَا هِيَ من
حَشْو الِاسْم كَمَا كَانَت فِيمَا نقلتها عَنهُ
فَأَما قَوْلك يَا زيد منطلق إِذا سميته بِقَوْلِك زيد منطلق فَلَا
يجوز غَيره لِأَن زيدا مُبْتَدأ ومنطلق خَبره فقد عمل زيد فِي منطلق
عمل الْفِعْل وَلَا يجوز أَن
(4/225)
يدْخل عَامل على عَامل وَلَكِنَّك تحكيه
كَمَا أَنَّك لَو سميت رجلا قَامَ زيد لَقلت يَا قَامَ زيد وَجَاءَنِي
قَامَ زيد كَمَا قَالَ
(كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللهِ لَا تَأخُذُونَها ... بني شِابَ قَرْنَاها
تَصُرُّ وتَحْلُبُ)
والفصل بَين هَذَا وَبَين مَا قبله أَن قَوْلك زيد منطلق كَلَام تَامّ
وقولك طَلْحَة وَزيد وضارب رجلا وَخير مِنْك بِمَنْزِلَة قَوْلك زيد
يحْتَاج إِلَى خبر أَو فعل حَتَّى يتم
وقولك يَا خيرا من زيد إِذا أردْت الْمعرفَة على معنى يَا رجل يكون على
ضَرْبَيْنِ إِن شِئْت قلت يَا خيرا من زيد فنونت وَأَنت تُرِيدُ الْألف
وَاللَّام كَمَا كَانَ ذَلِك فِيمَا قبله
وَإِن شِئْت قلت يَا خير أقبل وَذَلِكَ لِأَن قَوْلك زيد أفضل من
عَمْرو من وَمَا بعْدهَا تعاقبان الْألف وَاللَّام كَمَا تفعل
الْإِضَافَة فَمن لم يقل هَذَا خير من زيد قَالَ هَذَا الْأَخير قد
جَاءَ وَهَذَا الْأَفْضَل وَمَا أشبهه وَمن لم يقل يَا أفضل من زيد
قَالَ يَا أفضل أقبل على معنى يَا أَيهَا الْأَفْضَل فعلى هَذَا يجْرِي
أفعل الَّذِي مَعَه من كَذَا
وقولك يَا حسن الْوَجْه إِذا لم ترد النكرَة إِنَّمَا مَعْنَاهُ يَا
أَيهَا الْحسن فَهُوَ وَإِن كَانَ مُضَافا فِي تَقْدِير يَا حسنا وَجهه
إِذا أردْت يَا أَيهَا الْحسن وَجهه كَمَا وصفت لَك فِي بَابه فِي أول
الْكتاب
(4/226)
(هَذَا بَاب الاسمين اللَّذين لَفْظهمَا
وَاحِد وَالْآخر مِنْهُمَا مُضَاف)
وَذَلِكَ قَوْلك يَا زيد عَمْرو وَيَا تيم تيم عدي
فالأجود فِي هَذَا أَن تَقول يَا تيم تيم عدي فَترفع الأول لِأَنَّهُ
مُفْرد وتنصب الثَّانِي لِأَنَّهُ مُضَاف وَإِن شِئْت كَانَ بَدَلا من
الأول وَإِن شِئْت كَانَ عطفا عَلَيْهِ عطف الْبَيَان فَهَذَا أحسن
الْوَجْهَيْنِ
وَالْوَجْه الآخر أَن تَقول يَا تيم تيم عدي وَيَا زيد زيد عَمْرو
وَذَلِكَ لِأَنَّك أردْت بِالْأولِ يَا زيد عَمْرو فإمَّا أقحمت
الثَّانِي تَأْكِيدًا للْأولِ وَإِمَّا حذفت من الأول الْمُضَاف
اسْتغْنَاء بِإِضَافَة الثَّانِي فَكَأَنَّهُ فِي التَّقْدِير يَا تيم
عدي يَا تيم عدي
(4/227)
كَمَا قَالَ
(إِلاَّ عُلالَةَ أَو بُداهَةَ ... قارِحٍ نَهْدِ الجُزَارَهْ)
أَرَادَ إِلَّا علالة قارح أَو بداهة قارح فَحذف الأول لبَيَان ذَلِك
فِي الثَّانِي فَيكون الْكَلَام على هَذَا مَرَرْت بِخَير وَأفضل من
ثمَّ وَقَالَ الفرزدق
(4/228)
(يَا منّ رأى عارِضاً أُكَفْكِفُه ...
بَيْنَ ذِرَاعيْ وجَبْهةِ الأَسَدِ)
أَرَادَ بَين ذراعي الْأسد وجبهة الْأسد
وينشدون هَذَا الْبَيْت لجرير على الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْله
(يَا تيمُ تَيْمَ عدِيٍّ لَا أَبَا لَكُمُ ... لَا يُلْقِينَّكُمُ فِي
سَوْأَةٍ عُمَرُ)
الأجود يَا تيم تيم عدي لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَة فِيهِ وَلَا حذف وَلَا
إِزَالَة شَيْء عَن مَوْضِعه
(4/229)
وَكَذَلِكَ
(يَا زَيْدُ زَيْدَ اليَعْمَلاتِ الذُّبَّل ... تَطَاوَلَ اللَّيْلُ
عليكَ فانْزِلِ)
(4/230)
(هَذَا بابء تَابِعَة اللَّذين يجعلان
بِمَنْزِلَة اسْم وَاحِد)
وَإِنَّمَا الثَّانِي فِي الْحَقِيقَة نعت للْأولِ ولكنهما جعلا
بِمَنْزِلَة الْأَسْمَاء الَّتِي يتبع آخر حرف مِنْهَا مَا قبله
وَتلك الْأَسْمَاء نَحْو قَوْلك أَخُوك فتضم الْخَاء من أجل الْوَاو
فِي الرّفْع وتفتح فِي النصب وتكسر فِي الْخَفْض إتباعا لما بعْدهَا
وَكَذَلِكَ ذُو مَال
وامرؤ يَا فَتى تَقول هَذَا امْرُؤ ومررت بامرئ وَرَأَيْت امْرأ فَتكون
الرَّاء تَابِعَة للهمزة
وَذَلِكَ قَوْلك يَا زيد بن عَمْرو فَجعلت زيدا وابنا بِمَنْزِلَة اسْم
وَاحِد وأضفته إِلَى مَا بعده
والأجود أَن تَقول يَا زيد بن عَمْرو على النَّعْت وَالْبدل
وَإِنَّمَا يجوز أَن تَقول يَا زيد بن عَمْرو إِذا ذكرت اسْمه
الْغَالِب وأضفته إِلَى اسْم أَبِيه أَو كنيته لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكّ
من ذَلِك فَهُوَ بِمَنْزِلَة اسْمه الَّذِي هُوَ لَهُ
فَإِن قلت ابْن أخينا وَيَا زيد ابْن ذِي المَال لم يكن إِلَّا
كَقَوْلِك يَا زيد ذَا الجمة وَكَذَلِكَ يَا رجل ابْن عبد الله
كَأَنَّك قلت يَا رجل يَا ابْن عبد الله
(4/231)
وعَلى هَذَا ينشد هَذَا الْبَيْت
(يَا حَكَمَ بْنَ المُنْذِرِ بْنِ الجارُودْ ... )
وَلَو أنْشد يَا حكم بن الْمُنْذر كَانَ أَجود على مَا وَصفنَا فِي صدر
الْبَاب
(4/232)
(هَذَا بَاب الْحُرُوف الَّتِي تنبه بهَا
الْمَدْعُو وَهِي يَا وأيا وهيا وَأي وَألف الِاسْتِفْهَام)
فَهَذِهِ الْحُرُوف سوى الْألف تكون لمد الصَّوْت
وَتَقَع وَا فِي الندبة وَفِيمَا مددت بِهِ صَوْتك كَمَا تمده بالندبة
وَإِنَّمَا أَصْلهَا للندبة
وَقد تبتدئ الِاسْم منادى بِغَيْر حرف من هَذِه الْحُرُوف وَذَلِكَ
قَوْله
(حارُ بنَ عمْر أَلاَ أَحْلامَ تَزْجُرُكُمْ ... عَنَّا وَأَنْتُمْ
مِنَ الجُوفِ الجمَاخِير)
(4/233)
وَقَالَ الله جلّ وَعز {رب قد آتيتني من
الْملك وعلمتني من تَأْوِيل الْأَحَادِيث فاطر السَّمَاوَات
وَالْأَرْض}
فَأَما الْألف فكقوله
(أَحارُ بْنَ عَمْرو كأَنِّي خَمْر ... ويَعْدُو عَلى المَرْءِ مَا
يَأْتمِرْ)
وكقول الآخر
(أَحارُ أَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيْضَهُ ... كَلَمْعِ اليَدَيْنِ فِي
حَبِيٍّ مُكَلَّلِ)
(4/234)
وَهَذِه الْحُرُوف فَاشِية فِي النداء
فَإِذا كَانَ صَاحبهَا قَرِيبا مِنْك أَو بَعيدا ناديته ب (يَا) تَقول
يَا زيد وَيَا أَبَا فلَان
وَأما أيا وهيا فَلَا يكونَانِ إِلَّا للنائم والمستثقل والمتراخى
عَنْك لِأَنَّهُمَا لمد الصَّوْت
وَاعْلَم أَن للنداء أسماً يخص بهَا فَمِنْهَا قَوْلهم يَا هَناه أقبل
وَلَا يكون ذَلِك فِي غير النداء لِأَنَّهُ كِنَايَة للنداء
(4/235)
الصفحة فارغة
(4/236)
وَكَذَلِكَ يَا نومان وَيَا فستق وَيَا
لكاع
وَهَذِه كلهَا معارف
وَزعم سِيبَوَيْهٍ أَنه لَا يُجِيز نعت شَيْء مِنْهَا لَا تَقول يَا
لكاع الخبيثة أقبلى لِأَنَّهَا عَلَامَات بِمَنْزِلَة الْأَصْوَات
وَمِنْهَا قَوْلهم يَا فل أقبل وَلَيْسَ بترخيم فلَان وَلَو كَانَ
كَذَلِك لَقلت يَا فلَان أقبل
(4/237)
وَمِمَّا يزِيدهُ إيضاحاً أَنَّك تَقول يَا
فلة أقبلي
وَقد يضْطَر الشَّاعِر فيستعمل هَذَا فِي غير النداء لِأَنَّهَا فِي
النداء معارف فينقلها على ذَلِك وَذَلِكَ قَوْلك
(فِي لَجَّة أَمْسك فُلاناً عَنْ فُلِ)
وَقَالَ الآخر
(أُجَوِّلُ مَا أُجَوِّلُ ثُمَّ آوى ... إِلَى بَيْت قَعِيْدتُه
لَكاعِ)
(4/238)
وَزعم أَن مثله اللَّهُمَّ إِنَّمَا
الْمِيم الْمُشَدّدَة فِي آخِره عوض عَن يَا الَّتِي للتّنْبِيه
وَالْهَاء مَضْمُومَة لِأَنَّهُ نِدَاء
وَلَا يجوز عِنْده وَصفه وَلَا أرَاهُ كَمَا قَالَ لِأَنَّهَا إِذا
كَانَت بَدَلا من يَا فكأنك قلت يَا الله ثمَّ تصفه كَمَا تصفه فِي
هَذَا الْموضع
فَمن ذَلِك قَوْله {قل اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض عَالم
الْغَيْب وَالشَّهَادَة}
وَكَانَ سِيبَوَيْهٍ يزْعم أَنه نِدَاء آخر كَأَنَّهُ قَالَ يَا فاطر
السَّمَوَات وَالْأَرْض)
وَاعْلَم أَن الِاسْم لَا يُنَادي وَفِيه الْألف وَاللَّام لِأَنَّك
إِذا ناديته فقد صَار معرفَة بِالْإِشَارَةِ بِمَنْزِلَة هَذَا وَذَاكَ
وَلَا يدْخل تَعْرِيف على تَعْرِيف فَمن ثمَّ لَا تَقول يَا الرجل تعال
وَأما قَوْلهم يَا ألله اغْفِر فَإِنَّمَا دعى وَفِيه الْألف وَاللَّام
لِأَنَّهُمَا كَأحد حُرُوفه أَلا ترى
(4/239)
أَنَّهُمَا غير بائنتين مِنْهُ وليستا
فِيهِ بمنزلتهما فِي الرجل لِأَنَّك فِي الرجل تثبتهما وتحذفهما وهما
فِي اسْم الله ثابتتان وَهُوَ اسْم علم
وَزعم سِيبَوَيْهٍ أَن أصل هَذَا إلاه وَأَن الْألف وَاللَّام بدل من
همزَة إِلَه فقد صَارا بِمَنْزِلَة مَا هُوَ من نفس الْحَرْف إِذْ
كَانَا بَدَلا مِنْهُ وَإِنَّمَا إثباتهم الْألف فِي قَوْلهم يَا ألله
فَكَمَا
(4/240)
ثَبت مَعَ ألف الِاسْتِفْهَام فِي قَوْلك
آلرجل قَالَ ذَاك وَهَذَا يبين فِي مَوضِع ألفات الْقطع والوصل إِن
شَاءَ الله
وَلَيْسَ هَذَا الِاسْم بِمَنْزِلَة الَّذِي وَالَّتِي لِأَنَّهُمَا
نعت بَائِن من الِاسْم
وَقد اضْطر الشَّاعِر فَنَادَى بِالَّتِي إِذْ كَانَت الْألف وَاللَّام
لَا تنفصلان مِنْهَا وَشبه ذَلِك بِقَوْلِك يَا ألله اغْفِر لي فَقَالَ
(مِنَ أجْلِكِ يَا الَّتِي تَيَّمْتِ قَلْبي ... وأَنْتِ بخِيلةٌ
بالوُدِّ عَنِّي)
(4/241)
كَمَا اضْطر فَأدْخل يَا فِي اللَّهُمَّ
لما كَانَ الْعِوَض فِي آخر الِاسْم فَقَالَ
(إنِّي إِذا مَا حَدثٌ أَلَمَّا ... دَعَوْتُ يَا اللَّهمَّ يَا
اللَّهُمَّا)
(4/242)
وَأما هَذَا الْبَيْت الَّذِي ينشده بعض
النَّحْوِيين
(فيا الغُلامانِ اللَّذان فَرّا ... إِيَّاكُما أَنْ تَكْسِبانا
شَرَّا)
فَإِن إنشاده على هَذَا غير جَائِز وَإِنَّمَا صَوَابه فيا غلامان
اللَّذَان فرا كَمَا تَقول يَا رجل الْعَاقِل أقبل
وَأما قَوْلهم يَا صَاح أقبل فَإِنَّمَا رخموه لكثرته فِي الْكَلَام
كَمَا رخموا مَا فِيهِ هَاء التَّأْنِيث إِذْ قَالُوا يَا نخل مَا
أحسنك يُرِيد يَا نَخْلَة فرخم قَالَ الشَّاعِر
(4/243)
(صاحِ هَلْ أَبْصَرتَ بالخَيْتَيْنِ مِنْ
أَسْماءَ نَارا ... )
يُرِيد صَاحب فأسقط النداء ورخم النكرَة
(4/244)
(هَذَا بَاب الْمُضَاف إِلَى الْمُضمر فِي
النداء)
اعْلَم أَن إِضَافَة المنادى إِلَى الْكَاف الَّتِي تقع على الْمُخَاطب
محَال
وَذَلِكَ لِأَنَّك إِذا قلت يَا غلامك أقبل فقد نقضت مُخَاطبَة المنادى
بمخاطبتك الْكَاف
فَإِن أضفت إِلَى الْهَاء صلح على مَعْهُود كَقَوْل الْقَائِل إِذْ ذكر
زيدا يَا أَخَاهُ أقبل وَيَا أَبَاهُ وَنَحْو ذَلِك وَكَذَلِكَ يَا
أخانا وَيَا أَبَانَا
فَأَما فِي الندبة فَيجوز يَا غلامك وَيَا أَخَاك لِأَن الْمَنْدُوب
غير مُخَاطب وَإِنَّمَا هُوَ متفجع عَلَيْهِ وَهَذَا يحكم فِي بَاب
الندبة إِن شَاءَ الله
فَإِن أضفت المنادى إِلَى نَفسك فَفِي ذَلِك أقاويل أَجودهَا حذف
الْيَاء وَذَلِكَ كَقَوْلِك يَا غُلَام أقبل وَيَا قوم لَا تَفعلُوا
وَيَا جاريت أقبلي قَالَ الله عز وَجل {يَا قوم لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ
أجرا} وَقَالَ {يَا عبَادي فاتقون}
(4/245)
وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ فِي الْقُرْآن من
ذَا كَقَوْلِه {رب لَا تذر على الأَرْض} و {رب إِنِّي أسكنت من ذريتي}
وَإِنَّمَا كَانَ حذفهَا الْوَجْه لِأَنَّهَا زِيَادَة فِي الِاسْم غير
مُنْفَصِلَة مِنْهُ معاقبة للتنوين حَالَة فِي مَحَله فَكَانَ حذفهَا
هَا هُنَا كحذف التَّنْوِين من قَوْلك يَا زيد وَيَا عَمْرو وَكَانَت
أَحْرَى بذلك إِذْ كَانَت تذْهب فِي الْموضع الَّذِي يثبت فِيهِ
التَّنْوِين وَذَلِكَ إِذا التقى ساكنان وَهِي أَحدهمَا تَقول جَاءَنِي
غلامي الْعَاقِل وَجَاءَنِي زيد الْعَاقِل فَتحَرك التَّنْوِين لالتقاء
الساكنين وتحذف الْيَاء لالتقاء الساكنين وَمَعَ ذَا فَإِن الْيَاء
والكسرة تستثقلان والكسرة تدل على الْيَاء فَإِذا حذفتها دلّت
عَلَيْهَا كسرتها وأوضحت لَك الْمَعْنى فَهَذَا القَوْل الْمُخْتَار
(4/246)
وَالْقَوْل الثَّانِي أَن تثبتها فَتَقول
يَا غلامي أقبل وَيَا صَاحِبي هَلُمَّ وَقد قرئَ {يَا عبَادي فاتقون}
وَحجَّة من أثبتها أَنَّهَا اسْم بِمَنْزِلَة زيد فقولك يَا غلامي
بِمَنْزِلَة يَا غُلَام زيد فَلَمَّا كَانَت اسْما والمنادى غَيرهَا
ثبتَتْ وَمَعَ هَذَا أَنه من قَالَ يَا غُلَام فِي الْوَصْل فَإِنَّمَا
يقف على الْمِيم سَاكِنة فيلتبس الْمُفْرد بالمضاف وَإِن رام
الْحَرَكَة فَإِن ذَلِك دَلِيل غير بَين لِأَنَّهُ عمل كالإيماء فَمن
ذَلِك قَوْله
(فكنتَ إِذْ كُنْتَ إِلهى وَحْدَكَا ... لَمْ يَكُ شَيءٌ ياَ إِلهي
قَبْلَكا)
وَالْوَجْه الثَّالِث أَن تثبت الْيَاء متحركة تَقول يَا غلامي أقبل
وَيَا صَاحِبي هَلُمَّ فَتثبت الْيَاء على أَصْلهَا وَأَصلهَا
الْحَرَكَة
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنَّهَا اسْم على حرف وَلَا يكون اسْم على حرف
إِلَّا وَذَلِكَ الْحَرْف متحرك لِئَلَّا يسكن وَهُوَ على أقل مَا يكون
عَلَيْهِ الْكَلم فيختل أَلا ترى أَن الْكَاف متحركة من ضربتك ومررت بك
وَقمت وَقمت يَا فَتى وَقمت يَا امْرَأَة التَّاء متحركة لِأَنَّهَا
اسْم
فَأَما الْألف فِي ضربا ويضربان وَالْوَاو فِي ضربوا ويضربون وَالْيَاء
فِي تضربين
(4/247)
فَتلك فِي درج الْكَلَام وَلَيْسَت فِي وضع
هَذِه الَّتِي تقع موقع الظَّاهِرَة لِأَنَّهَا جعلت بحذاء الحركات
الَّتِي يعرب بهَا كالضمة والفتحة والكسرة
أَلا ترى أَن قَوْلك قُمْت التَّاء فِي مَوضِع زيد إِذا قلت قَامَ زيد
وَكَذَلِكَ ضربتك الْكَاف فِي مَوضِع زيدا إِذا قلت ضربت زيدا
وَكَذَلِكَ هَذِه الْيَاء
وَإِنَّمَا كَانَت حركتها الفتحة لِأَن هَذِه الْيَاء تكسر مَا قبلهَا
تَقول هَذَا غلامي وَرَأَيْت غلامي فتكسر الْمَرْفُوع والمنصوب
وَالْيَاء المكسور مَا قبلهَا لَا يدخلهَا خفض وَلَا رفع لثقل ذَلِك
نَحْو يَاء القَاضِي ويدخلها الْفَتْح فِي قَوْلك رَأَيْت القَاضِي
فَلذَلِك بنيت هَذِه الْيَاء على الْفَتْح
وَإِنَّمَا جَازَ إسكانها فِي قَوْلك هَذَا غلامي وَزيد ضَرَبَنِي
لِأَن مَا قبلهَا مَعهَا بِمَنْزِلَة شَيْء وَاحِد فَكَانَ عوضا مِمَّا
يحذف مِنْهَا والحركات مستثقلة فِي حُرُوف الْمَدّ واللين فَلذَلِك
أسكنت اسْتِخْفَافًا
فمما حركت فِيهِ على الأَصْل قَول الله عز وَجل {ياليتني لم أوت
كِتَابيه وَلم أدر مَا حسابيه} حركت الْيَاء على الأَصْل وألحقت
الْهَاء لبَيَان الْحَرَكَة فِي الْوَقْف
فَإِن وصلت حذفتها لِأَن حَرَكَة الْيَاء تظهر فِي ماليه وسلطانيه
وَمَا كَانَ مثل هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة قَوْلك {فبهداهم
اقتده} فَإِن وصلت حذفت
وَكَذَلِكَ يقْرَأ {لكم دينكُمْ ولي دين} على الإسكان وَالْحَرَكَة
فَإِن كَانَ مَا قبل هَذِه الْيَاء سَاكِنا فالحركة فِيهَا لَا غير
لِئَلَّا يلتقي ساكنان وَذَلِكَ
(4/248)
قَوْلك هَذِه عشرى يَا فَتى وَهَذِه رحاي
فَاعْلَم و {يَا بني لَا تدْخلُوا من بَاب وَاحِد} حذفت النُّون
للإضافة وأدغمت الْيَاء الَّتِي كَانَت فِي يَاء الْإِضَافَة فحركت
يَاء الْإِضَافَة لِئَلَّا يلتقي ساكنان على أَصلهمَا وَكَذَلِكَ
قَوْلك {هِيَ عصاي أتوكأ عَلَيْهَا} لَا يكون إِلَّا ذَلِك لما ذكرت
لَك من سُكُون مَا قبلهَا
وَأما قَوْله {يَا بني إِنَّهَا إِن تَكُ} فَإِنَّمَا أضَاف قَوْله بني
فَاعْلَم الْيَاء ثَقيلَة فتصرف فِي الْكَلَام لِأَن الْوَاو وَالْيَاء
إِذا سكن مَا قبل كل وَاحِد مِنْهُمَا جَريا مجْرى غير المعتل نَحْو
دلو وظبي ومغزو ومرمى لَا يكون ذَلِك إِلَّا معربا
(4/249)
(هَذَا بَاب مَالا يجوز فِيهِ إِلَّا
إِثْبَات الْيَاء)
وَذَلِكَ إِذا أضفت اسْما إِلَى اسْم مُضَاف إِلَيْك نَحْو قَوْلك يَا
غُلَام غلامي وَيَا صَاحب صَاحِبي وَيَا ضَارب أخي وَإِنَّمَا كَانَ
ذَلِك كَذَلِك لِأَنَّك إِنَّمَا حذفت الأول كحذفك التَّنْوِين من زيد
فَكَانَ يَا غُلَام بِمَنْزِلَة يَا زيد فَإِذا قلت يَا غُلَام زيد لم
يكن فِي زيد إِلَّا إِثْبَات النُّون لِأَنَّهُ لَيْسَ بمنادى
فَكَذَلِك يَا غُلَام غلامي
قَالَ الشَّاعِر
(يَا ابْن أُمِّي ويَا شُقَيِّقَ نَفْسِي ... أَنْتَ خَلَّيْتني
لِدهْرٍ شَدِيدِ)
وَقَالَ آخر
(يَا ابْنَ أُمِّي ولَوْ شَهِدْتُكَ إذْ تَدْعُو ... تميما وأَنْتَ
غَيْرُ مُجابِ)
(4/250)
فَهَذَا حكم جَمِيع هَذَا الْبَاب
وَمَجْرَاهُ أَن تثبت الْيَاء فِي كل مَوضِع يثبت فِيهِ التَّنْوِين
فِي زيد وَنَحْوه
وَأما قَوْلهم يَا ابْن أم وَيَا ابْن عَم فَإِنَّهُم جعلوهما اسْما
وَاحِدًا بِمَنْزِلَة خَمْسَة عشر وَإِنَّمَا فعلوا ذَلِك لِكَثْرَة
الِاسْتِعْمَال
أَلا ترى أَن الرجل مِنْهُم يَقُول لمن لَا يعرف وَلمن لَا رحم بَينه
وَبَينه يَا ابْن عَم وبا ابْن أم حَتَّى صَار كلَاما شَائِعا مخرجا
عَمَّن هُوَ لَهُ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِك خفف فَجعل اسْما وَاحِدًا
قَالَ الله عز وَجل {يَا ابْن أم لَا تَأْخُذ بلحيتي وَلَا برأسي} وَلم
يكن ذَلِك فِي غير هَذَا إِذْ لم يكن فِيهِ من الِاسْتِعْمَال مَا فِي
هَذَا
وَقد قَالُوا يَا ابْن أم لَا تفعل وَذَلِكَ أَنه لما جَعلهمَا اسْما
وَاحِدًا صَارَت بِمَنْزِلَة زيد ثمَّ أَضَافَهُ كَمَا تضيف زيدا
فَتَقول يَا زيد لَا تفعل
وَمن أثبت الْيَاء فِي زيد أثبتها هَا هُنَا إِلَّا أَن الأجود إِذا
أَثْبَتَت الْيَاء أَن يكون إِثْبَاتهَا كإثبات الْيَاء فِي قَوْلك يَا
غُلَام غلامي فتجعل ابْنا مُضَافا إِلَى مُضَاف إِلَى الْيَاء
وَالْوَجْه الآخر جَائِز على مَا وصفت لَك
وَأما قَول رؤبة
(إِمَّا تَريْني اليَوْمَ أُمَّ حَمْزِ ... قاربْتُ بَعْدَ عَنَقى
وجَمْزى)
(4/251)
فَلَيْسَ من هَذَا وَلكنه قدر حَمْزَة
أَولا مرخما على قَوْلك يَا حَار فَجعله اسْما على حياله فأضاف
إِلَيْهِ كَمَا تضيف إِلَى زيد
وَجُمْلَة هَذَا الْبَاب على مَا صدرنا بِهِ
وَهَذَانِ الاسمان أعنى يَا ابْن أم وَيَا ابْن عَم دخلتهما الْعلَّة
الَّتِي دخلت فِي قَوْلك هُوَ جاري بَيت بَيت ولقيته كفة كفة وَهَذَا
يشْرَح فِي بَاب مَا يجْرِي ومالا يجْرِي
وإجراؤهما على أصل الْبَاب فِي الْجَوْدَة على مَا ذكرت لَك قَالَ
الشَّاعِر
(يَا ابْنَةَ عَمِّي لَا تَلُومِي واهْجعِي ... )
وَبَعْضهمْ ينشد يَا ابْنة عَمَّا
فيبدل من الكسرة فَتْحة وَمن الْيَاء ألفا لِأَن الْيَاء والكسرة
مستثقلتان وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع لبس
وكل مُضَاف إِلَى يائك فِي النداء يجوز فِيهِ قلب هَذِه الْيَاء ألفا
لِأَنَّهُ لَا لبس فِيهِ وَهُوَ أخف وَبَاب النداء بَاب تَغْيِير
(4/252)
أَلا ترى أَنهم يحذفون فِيهِ تَنْوِين زيد
وَيدخل فِيهِ وَمثل يَا تيم تيم عدي مثل يَا بؤس للحرب وَيصْلح فِيهِ
التَّرْخِيم
وَنَظِير قلبهم هَذِه الْيَاء ألفا مَا قَالُوا فِي مداري وعذاري وبابه
إِذا لم يخَافُوا التباسا وَلم يَقُولُوا مثل ذَلِك فِي قَاض لِأَن فِي
الْكَلَام مثل فَاعل فكرهوا الالتباس
(4/253)
(هَذَا بَاب لَام الْمَدْعُو المستغاث بِهِ
وَلَام الْمَدْعُو إِلَيْهِ)
فَإِذا دَعَوْت شَيْئا على جِهَة الاستغاثة فَاللَّام مَعَه مَفْتُوحَة
تَقول يَا للنَّاس وَيَا لله وَفِي الحَدِيث لما طعن العلج أَو العَبْد
عمر رَحمَه الله صَاح يَا لله للْمُسلمين
فَإِن دَعَوْت إِلَى شَيْء فَاللَّام مَعَه مَكْسُورَة تَقول يَا للعجب
وَمَعْنَاهُ يَا قوم تَعَالَوْا إِلَى الْعجب فالتقدير يَا قوم للعجب
أَدْعُو وَنحن مفسرو هَاتين لم اختلفتا
أما قَوْلهم يَا للعجب وَيَا للْمَاء فَإِنَّمَا كسرو اللَّام كَمَا
كسروا مَعَ كل ظَاهر نَحْو قَوْلك للْمَاء أَدْعُو ولزيد الدَّار
ولعَبْد الله الثَّوْب
وَأما الْمَفْتُوحَة الَّتِي للمستغاث فَإِنَّمَا فتحت على الأَصْل
ليفرق بَينهَا وَبَين هَذِه الَّتِي وَصفنَا وَكَانَ التَّغْيِير لَهَا
ألزم لِأَن هَذِه الْأُخْرَى فِي موضعهَا الَّذِي تلْحق هَذِه اللَّام
لَهُ وَتلك إِنَّمَا هِيَ بدل من قَوْلك يَا زيداه إِذا مددت الصَّوْت
تستغيث بِهِ فيا لزيد بِمَنْزِلَة يَا زيداه إِذا كَانَ غير مَنْدُوب
فَأَما قَوْلنَا فتحت على الأَصْل فَلِأَن أصل هَذِه اللَّام الْفَتْح
تَقول هَذَا لَهُ وَهَذَا لَك
وَإِنَّمَا كسرت مَعَ الظَّاهِر فِرَارًا من اللّبْس لِأَنَّك لَو قلت
إِنَّك لهَذَا وَأَنت تُرِيدُ لهَذَا لم يدر السَّامع أَتُرِيدُ لَام
الْملك أم اللَّام الَّتِي للتوكيد وَكَذَلِكَ يلزمك فِي الْوَقْف فِي
جَمِيع الْأَسْمَاء إِذا قلت فِي مَوضِع إِن هَذَا لزيد إِذا هَذَا
لزيد لم يدر السَّامع أَتُرِيدُ أَن هَذَا زيد أم هَذَا لَهُ فَلذَلِك
كسرت اللَّام
(4/254)
فَأَما فِي المكنى فَهِيَ على أَصْلهَا
تَقول إِن هَذَا لَك
فَإِن أردْت لَام التوكيد قلت إِن هَذَا لأَنْت لِأَن الِاسْم الَّذِي
وضع للرفع لَيْسَ فِي لفظ الِاسْم الَّذِي وضع للخفض
وَتقول يَا للرِّجَال وللنساء تكسر اللَّام فِي النِّسَاء لِأَنَّك
إِنَّمَا فتحتها فِي الأول فرار من اللّبْس فَلَمَّا عطفت عَلَيْهِ
الثَّانِي علم أَنه يُرَاد بِهِ مَا أُرِيد بِمَا قبله فأجريتها
مجْراهَا فِي الظَّاهِر
(4/255)
أَلا ترى أَن من يَقُول إِذا قلت لَهُ
رَأَيْت زيدا من زيدا إِنَّمَا أَرَادَ أَن يَحْكِي مَا قلت ليعلم أَنه
إِنَّمَا يسْأَل عَن زيد الَّذِي ذكرته فَإِن قَالَ وَمن زيد رفع
لِأَنَّهُ لما أَدخل الْوَاو أعلمك أَنه يعْطف على كلامك فاستغنى عَن
الْحِكَايَة
فمما قيل فِي ذَلِك قَوْله
(يَبْكِيكَ نَاءٍ بعيدُ الدارِ مُغْتَرِبٌ ... يَا لَلْكُهول
ولِلشُبَّان لِلْعَجَبِ)
فَهَذَا نَظِير مَا وصفت لَك لم فِي الْعَطف
فَأَما مَا جَاءَ فِي فتح لَام المستغاث بِهِ وَكسر لَام الْمَدْعُو
لَهُ فَأكْثر من أَن يُحْصى مِنْهُ مَا أذكرهُ قَالَ الْحَارِث بن
خَالِد
(يَا لَلرِّجالِ لِيومِ الأَرْبِعَاءْ أَمَا ... ينْفَكُّ يبْعَثُ لي
بَعْد النُّهَى طَرَباً)
(4/256)
وَقَالَ آخر
(يَا لَقومٍ مَنْ للنُّهَى والمَساعي ... يَا لَقومي منْ للنَدى
والسْماحِ)
(يَا لَعَطَّافِنا ويَا لَرِياحِ ... وأَبى الحَشْرَجِ الفَتى
الوَضَّاحِ)
(4/257)
(هَذَا بَاب مَا يجوز أَن تحذف مِنْهُ
عَلامَة النداء وَمَا لَا يجوز ذَلِك فِيهِ)
تَقول زيد أقبل وَتقول من لَا يزَال محسنا تعال وَغُلَام زيد هَلُمَّ
رب اغْفِر لنا كَمَا قَالَ جلّ وَعز {رب قد آتيتني من الْملك} وَقَالَ
عز وَجل {فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض}
فجملة هَذَا أَن كل شَيْء من الْمعرفَة يجوز أَن يكون نعتا لشَيْء
فدعوته أَن حذف يَا مِنْهُ غير جَائِز لِأَنَّهُ لَا يجمع عَلَيْهِ أَن
يحذف مِنْهُ الْمَوْصُوف وعلامة النداء وَذَلِكَ أَنه لَا يجوز أَن
تَقول رجل أقبل وَلَا غُلَام تعال وَلَا هَذَا هَلُمَّ وَأَنت تُرِيدُ
النداء وَذَلِكَ أَنه لَا يجوز أَن تَقول رجل أقبل لِأَن هَذِه نعوت
أَي تَقول يَا أَيهَا
(4/258)
الرجل وَيَا أَيهَا الْغُلَام وَيَا أيهذا
لِأَن أيا مُبْهَم والمبهمة إِنَّمَا تنْعَت بِمَا كَانَ فِيهِ الْألف
وَاللَّام أَو بِمَا كَانَ مُبْهما مثلهَا وَهَذَا يُفَسر فِي بَاب
الْمعرفَة والنكرة إِن شَاءَ الله
قَالَ الشَّاعِر
(ألاَ أَيُّهذَا المنْزلُ الدارسُ الَّذِي ... كأَنَّك لَمْ يَعْهَدْ
بِكَ الحَيَّ عاهِدُ)
وَقَالَ
(أَلاَ أَيُّهَذَا الباخَعُ الوَجْدُ نَفْسَه ... لِشيءٍ نَحَتْهُ عَنْ
يَدَيْهِ المَقادِرُ)
وَقَالَ الْأَعْشَى
(أَلاَ أَيُّهَذَا السائِلي أيد يَمَّمَتْ ... فإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ
يَثْربَ مَوْعِدَا)
فَهَذَا تَقْدِير يَا أَيهَا إِلَّا أَن يضْطَر شَاعِر فَإِن اضْطر
كَانَ لَهُ أَن يحذف مِنْهَا عَلامَة النداء وَأحسن ذَلِك مَا كَانَت
فِيهِ هَاء التَّأْنِيث لما يلْزمهَا من التَّغْيِير على أَن جَوَازه
فِي الْجَمِيع لَا يكون إِلَّا ضَرُورَة
(4/259)
وَقَالَ الشَّاعِر وَهُوَ العجاج
(جارِيَ لَا تَسْتَنْكِري عَذِيرِي)
(4/260)
وَقَالُوا فِي مثل من الْأَمْثَال والأمثال
يستجار فِيهَا مَا يستجاز فِي الشّعْر لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال لَهَا
افتد مخنوق وَأصْبح ليل وأطرق كرا يُرِيدُونَ ترخيم الكروان فِيمَن
قَالَ يَا حَار وَكَذَلِكَ قَوْلك
(صاحِ هَلْ أَبْصَرْتَ بالخَبْتَتَيْن مِنْ أَسْماءَ نَارا ... )
وَتقول حافر زَمْزَم أقبل لِأَن هَذَا لَا يكون من نعت أَي
وَكَذَلِكَ أَمِير الْمُؤمنِينَ أَعْطِنِي كَمَا قَالَ
(أَمِيرَ المؤْمِنينَ جَمَعْتَ دِيناً ... وحِلْماً فَاضِلاُ لذَوِي
الحُلُومِ)
والنكرة أَصْلهَا لَا يجوز هَذَا فِيهَا وَلَا يجوز أَن تَقول رجلا
أقبل وَلَا رجلا من أهل الْبَصْرَة أقبل لِأَنَّهَا شائعة فتحتاج إِلَى
أَن يلْزمهَا الدَّلِيل على النداء وَإِلَّا فَالْكَلَام ملتبس
(4/261)
|