سير أعلام
النبلاء، ط الحديث المجلد الأول
مقدمات
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
بقلم محمد أيمن الشبراوي:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن
يضلل فلا هادي له، وأشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ
وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
[آل عمران: 102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا
كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبًاْ} [النساء: 1] ، {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70, 71] .
فقد قدمت إلي "دار الحديث" بالقاهرة كتاب "سير أعلام
النبلاء" لمؤرخ الإسلام الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن
أحمد بن عثمان الذهبي، المولود سنة ثمان وأربعين وسبعمائة
"673هـ-748هـ". وطلبت مني تحقيقه وخدمته الخدمة العلمية
اللائقة بهذا السفر العظيم لتيسير النفع به، وتقريبه إلى
جماهير القراء.
ولما كان دأبي وديدني أن لا أشرع في القيام بأي عمل من
الأعمال الدنيوية أو الدينية إلا بعد القيام بأداء صلاة
الاستخارة؛ فقد استخرت الله -سبحانه وتعالى- لخدمة هذا
الكتاب، وكان أن شرح الله صدري للقيام بهذا العمل، ويسر لي
سبل تحقيقه وخدمته حتى أنهيت هذا الكتاب في فترة زمنية
ليست بالكبيرة نافت على السنة كنت أواصل فيها الليل
بالنهار لإنجاز
(1/5)
هذا العمل على النحو الذي يرضي جماهير
العلماء وطلاب العلم بله المثقفين على مختلف مشاربهم
وانتماءاتهم العلمية. وكان ذلك كله بتيسير من المولى
الكريم المنان سبحانه وتعالى، ثم بتذليل أصحاب "دار
الحديث" السبل لتيسير إخراجه للناس.
وهذا السفر العظيم الذي نقدمه لجماهير القراء يعد من أعظم
كتب التراجم التي تناولت كافة العصور إلى عصر المؤلف. وقد
ترجم لكثير من الأعلام في مشارق الأرض ومغاربها.
وشملت تراجم الخلفاء، والملوك، والأمراء، والوزراء,
والأطباء، والمحدثين، والفقهاء, والنحاة، والشعراء،
والزهاد، والفلاسفة، والمتكلمين إلا أنه قد عني بالمحدثين،
وآثرهم على غيرهم لأنه كان عظيم الإكبار والإجلال لهم فهم
حملة العلم النبوي، وحراسه الذين يميزون بين صحيح الأحاديث
من ضعيفها، ومقبولها من مردودها، فضلا عن أن الكثير منهم
من رواة الأحاديث، ودراسة أحوالهم، وبيان مواليدهم
ووفياتهم، وشيوخهم وتلامذتهم، وآراء العلماء فيهم مما
يترتب عليه دراسة أحوال الأسانيد والحكم عليها بالصحة أو
بالضعف، ونحو ذلك.
وقد بلغت عدد التراجم للمترجمين في كتابه "5964" ترجمة.
وقد كرر بعض هذه التراجم. وقد ترجم فيه للأعلام منذ بزوغ
فجر الإسلام إلى سنة "739هـ". وقد قسم كتابه إلى خمس
وثلاثين طبقة. ولم يسر فيه على نسق واحد، فقد استوعبت
الطبقة الأخيرة الخامسة والثلاثون ستة وثمانين عاما. بينما
كان متوسط الطبقات بين خمسة عشر وستة عشر عاما. وبلغت بعض
الطبقات تسع سنوات فقط مثل الطبقة السادسة عشرة. وقد ترجم
الذهبي لبعض الملوك والأمراء وإخوتهم وأولادهم وذراريهم في
موضع واحد وإن لم يكونوا من نفس طبقاتهم ليجعل القارئ
متابعا للأحداث التي عادة ما تكون متصلة. وقد اتبع الذهبي
أسلوبا خاصا في صياغة الترجمة؛ فبدأ باسم المترجم ولقبه
وكنيته ونسبته، ثم يذكر تاريخ مولده.
ويذكر شيوخه وتلامذته ويذكر مؤلفاته وآثاره العلمية. ثم
يذكر مكانته العلمية من خلال أقوال أهل العلم فيه، ثم يذكر
تاريخ وفاته. وربا يذكر عدة نقولات في تاريخ الوفاة ويرجح
بينها. كما يذكر في آخر الترجمة من مات مع المترجم له في
نفس السنة من الأعلام.
وفي كثير من التراجم يذكر الذهبي -رحمه الله- بعض الأحاديث
التي وردت من طريق صاحب الترجمة كما يورد بعض أعمال الملوك
والخلفاء والأمراء والولاة من فتوحات وغيرها من أعمال. كما
يورد نماذج من أشعار الشعراء، ومختارات نثرية من كلام
الأدباء. وقد أطال
(1/6)
الذهبي تراجم بعض هؤلاء الأعلام حسب قيمتهم
وشهرتهم بين العلماء أو منزلتهم ومكانتهم بين الناس الذين
هم من بابته1.
وقد أفرد الذهبي الجزأين الأول والثاني للسيرة النبوية،
وتراجم الخلفاء الراشدين، ولم يعد صياغتهما بل أحال على
كتابه "تاريخ الإسلام" لتؤخذ منه، وتجعل مع كتاب سير أعلام
النبلاء.
إن هذا الكتاب العظيم الذي ألفه الحافظ الذهبي وختم به
حياته لحقيق بالإكبار والإجلال من كل العلماء المنصفين في
مختلف مجالات العلم والمعرفة؛ فجزاه الله عن العلم
والعلماء أعظم الأجر والثواب.
وحقيق بأمة فيها هذا الحشد الهائل من العلماء، والمؤرخين،
والشعراء أن ينظر إليها بعين الإكبار والإجلال. إنها أمة
عظيمة أنجبت علماء أضاءوا بعلمهم الطريق للبشرية، فلا جرم
أن يكون هؤلاء العلماء مفخرة للعرب والمسلمين في مختلف
العصور والدهور.
ونظرا لهذه المكانة السامقة التي تبوأها الكتاب في المكتبة
الإسلامية، فقد وضعت مقدمة ضافية تكون بين يدي هذا الكتاب
العظيم تبين:
أولا: نشأة الذهبي وبيئته السياسية والدينية والعلمية.
ثانيا: رحلاته في طلب العلم.
ثالثا: شيوخه.
رابعا: تلامذته.
خامسا: منزلته العلمية، وأقوال العلماء فيه.
سادسا: من آراء الحافظ في العقيدة والفقه والحديث.
سابعا: تصانيفه وآثاره العلمية.
ثامنا: منهجه في كتابه.
__________
1 قال ابن السكيت وغيره: البابة عند العرب: الوجه،
والبابات: الوجوه. والمعنى: من الوجه الذي يريده ويصلح له.
(1/7)
تاسعا: أهمية كتاب السير بين كتب التراجم.
عاشرا: وفاته.
حادي عشر: نبذة عن محقق الكتاب.
ثاني عشر: منهجنا في تحقيق الكتاب.
الله -عز وجل- أسأل بأني أشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو
الأحد الصمد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ كفوا أحد أن يتقبل مني هذا العمل وسائر أعمالي
خالصة لوجهه، وألا يجعل لأحد سواه فيها شيئا، وأن يجعلها
ثقيلة ثقيلة في ميزان حسناتي. اللهم لا تعذب لسانا يخبر
عنك، ولا عينا تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدما تمشي إلى
خدمتك، ولا يدا تكتب حديث رسولك فبعزتك لا تدخلني النار،
فقد علم أهلها أني كنت أذب عن دنيك. وصل اللهم على محمد
وعلى آله وصحبه وسلم.
مصر, المنوفية, قويسنا
في سحر ليلة تاسوعاء من محرم "1427هـ"
الموافق يوم 8 فبراير 2006م
كتبه
محمد أيمن الشبراوي
عفا الله عنه بكرمه ومنه
(1/8)
أولا: نشأة الذهبي وبيئته السياسية
والدينية والعلمية:
بعد سقوط الشام في قبضة هولاكو التتري، وخيانة ملوك
الأيوبيين بمعاونتهم للتتار، كان ذلك فصل الختام لدولة
الأيوبيين، وإعلانا لتنازلهم عن حقوقهم في الملك بعد أن
تقاعسوا عن حماية ذلك الملك، وصار منطق الأحداث يحتم أن
تزول دولة بني أيوب ليرثهم في ملكهم إما التتار وإما
المماليك، حسبما تقرر المعركة المنتظرة بين هاتين القوتين.
وفي الوقت الذي أثبتت الأحداث ضعف الأيوبيين وعجزهم عن
حماية المسلمين في بلاد الشام من خطر التتار؛ إذ بالمماليك
يظهرون على المسرح لينزلوا بالتتار ضربة كبرى في موقعة عين
جالوت سنة "1260م"، وبذلك ظهر المماليك في صورة القوى
الكبرى في الشرق التي استطاعت أن تحمي كيان أهل مصر والشام
من ذلك الخطر الوثني الرهيب.
ولا شك في أن فشل الأيوبيين في صد خطر التتار، ونجاح
المماليك في القضاء على ذلك الخطر، جاء بمثابة فصل الخطاب
بين المماليك والأيوبيين، وخاتمة لحركة التنافس بين هاتين
القوتين على مسرح الشام، بعد أن صار من الواضح أن قوة
الأيوبيين المتداعية لن تستطيع بحال الصمود في وجه قوة
التتار.
وكان أن استطاعت جيوش المماليك بعد عين جالوت إجلاء التتار
عن دمشق, وحماة، وحلب ومطاردتهم حتى أطراف بلاد الشام.
ومعنى ذلك أن نفوذ المماليك امتد إلى بلاد الشام فجأة بعد
عين جالوت.
وبعد أن استقر للماليك الأوضاع في مصر والشام حرصوا على أن
يظهروا أمام أهل مصر والشام في صورة حماة المسلمين
وزعمائهم في حركة الجهاد ضد الصليبيين. ولم يلبث سلاطين
المماليك أن استأنفوا سياسة الأيوبيين بحيث أنه لم يكد
يمضي على قيام دولة المماليك نحوا من أربعين سنة حتى تم
طرد الصليبيين نهائيا من بلاد الشام، وبذلك أصبحت لا توجد
قوة تهيمن على بلاد الشام غير قوة المماليك.
وقسم بلاد الشام من الناحية الإدارية إلى ستة أقسام تسمى
النيابات تخضع للحكومة المركزية في القاهرة. وهذه النيابات
هي نيابة دمشق، ونيابة حلب، ونيابة طرابلس، ونيابة حماة،
ونيابة صفد، ونيابة الكرك. وقد كان هذا التقسيم ضروريا؛
لأنه يتفق مع طبيعة بلاد الشام الجغرافية.
(1/9)
وكان في كل نيابة من نيابات الشام أربعة
قضاة يمثلون المذاهب الأربعة، مثلما كان الحال تماما في
مصر منذ أيام الظاهر بيبرس هذا فضلا عن الوظائف الأخرى
المتعددة التي وجدت في كل نيابة من نيابات الشام والتي كان
بعضها يتعلق بأرباب السيوف. والبعض الآخر يتعلق بأرباب
القلم، والقسم الثالث يشغل الوظائف الدينية.
وعلى الرغم مما يتمتع به نواب النيابات الشامية من سلطان
ونفوذ كبير إلا أنهم كانوا متابعين لسلطنة المماليك في
القاهرة، وظل سلطان المماليك هو القوة الكبرى التي تسيطر
على مصر والشام وتشرف إشرافا تاما على سير الأمور في مختلف
أرجاء الدولة المماليكية الواسعة.
ووجدت ببلاد الشام على عصر سلاطين المماليك عصبيات عنصرية
مثل الأكراد والتركمان والأرمن كما وجدت ببلاد الشام في
ذلك العصر عصبيات عديدة مذهبية ودينية.
من هذه العصبيات والطوائف: طائفة الكسروانيين، وهم أهل
جبال كسروان، وكانوا من النصيرية والعلويين والمتأولة،
وكانوا يقفون موقفا عدائيا من المماليك أثناء الصراع بين
المماليك والصليبيين بالشام. ومن هذه العصبيات والطوائف:
طائفة التنوخيين، وهم عشائر اعتنقت الدرزية وانتشروا في
جهات متفرقة في لبنان، وظلوا يتأرجحون بين الولاء
للصليبيين حينا وللمسلمين أحيانا كما تأرجحوا بين الولاء
للمماليك من ناحية وخصوم المماليك من أيوبيين وتتار من
ناحية أخرى. ومنهم طائفة الشهابيين الدروز الذين اشتركوا
بنجاح في قتال الصليبيين ثم التتار أثناء إغارتهم على بلاد
الشام.
ومنهم طائفة الإسماعيلية ويعرفون أيضا باسم الباطنية، وقد
قاموا بدور مشهور في تاريخ بلاد الشام على عصر الحروب
الصليبية، ولم يتورعوا عن اغتيال كثير من الشخصيات
الإسلامية والصليبية سواء. ولم يرض المماليك عن الباطنية
بسبب شذوذهم المذهبي من ناحية، ثم بسبب موقفهم المائع بين
الصليبيين والمسلمين من ناحية أخرى لذلك فرض السلطان
الظاهر بيبرس ضرائب باهظة على الهدايا التي اعتاد أن يبعث
بها الصليبيون إلى شيخ الباطنية، وذلك إفسادا لنواميس
الإسماعيلية، وتعجيزا لمن اكتفى شرهم بالهدية. كما كانت
طائفة الإسماعيلية تدفع الجزية للسلطان الظاهر بيبرس،
وكانوا يضيقون ذرعا بما يحملونه إلى بيت المال من هذه
الجزية. وكانوا يطلبون إنقاص هذا المال الذي يدفعونه.
وكانت العلاقة سيئة بين السلطان وطائفة الإسماعيلية، ولكن
ما لبث السلطان الظاهر أن استولى على حصون
(1/10)
الإسماعيلية ببلاد الشام واحدا بعد آخر حتى
انتهى أمرهم ببلاد الشام، وأقطعهم السلطان بدلا من قلاعهم
الشامية بعض الجهات في مصر ليعيشوا فيها.
لم تكن الشام في عصر المماليك مجرد إقليم الدولة، وإنما
كان أهم من ذلك بكثير. لقد كانت بلاد الشام الجناح الأيمن
الذي بدونه يتعذر على دولة المماليك الاحتفاظ بكيانها
وتوازنها والثبات في وجه الأخطار الأسيوية الضخمة التي
هددت تلك الدولة حينا من جانب الأيوبيين والتتار
والصليبيين، وأحيانا من جانب الأرمن والتركمان ثم
العثمانيين.
وهكذا أدرك سلاطين المماليك منذ أن أقاموا دولتهم في مصر
أنه لا بقاء لهم ولا لدولتهم إلا في ظل وحدة تربط بين
الشام ومصر تحت حكمهم، وتضمن لهم مراقبة التيارات العديدة
التي يمكن أن تؤثر في كيانهم1.
لقد استطاعت دولة المماليك التي قامت في مصر والشام سنة
"1250م" أن تثبت أنها أعظم قوة معاصرة في الوطن العربي من
المحيط إلى الخليج، فنظر إليها حكام وشعوب الدول الإسلامية
والعربية نظرة إكبار وإجلال، في حين نظرت إليها القوى
الأخرى -خارج المحيطين العربي والإسلامي- نظرة خوف
واحترام. وحسب دولة المماليك أنها استطاعت أن تواجه
الأخطار الخارجية التي هددت الوطن العربي في الشرق في
شجاعة وبأس فحمت الشام ومصر من خطر التتار، وطردت
الصليبيين كلية من أرض الشام بل لاحقتهم في مراكزهم
القريبة مثل أرمينية الصغرى، وقبرص، ورودس هذا فضلا عن أن
نجاح سلاطين المماليك في إحياء الخلافة العباسية في مصر
بعد سقوطها في بغداد جعل لهم ولدولتهم مكانة مرموقة في
العالم الإسلامي أجمع، إذ جعلهم يبدون في صورة الزعماء
الحقيقيين للعالم الإسلامي أجمع بوصفهم حماة الخلافة
المتمتعين ببيعتها2.
ذلك هو الواقع السياسي في تلك الحقبة من الزمن في الشام
ومصر.
ولا جرم أن النشاط العلمي في عصر المماليك قد ازدهر، وشجع
بعض سلاطين المماليك العلم والعلماء. وقد وصف ابن تغري
بردي السلطان الظاهر بيبرس بأنه كان يميل إلى التاريخ
وأهله ميلا زائدا ويقول: "سماع التاريخ أعظم من التجارب"3.
__________
1 العصر المماليكي في مصر والشام. الدكتور سعيد عبد الفتاح
عاشور "ص200-222".
2 المصدر السابق "ص233".
3 النجوم الزاهرة لابن تغري بردي "ج7 ص182".
(1/11)
لقد رعى سلاطين المماليك النشاط العلمي،
فأنشئوا المدارس، فضلا عن المؤسسات الأخرى التي قامت
أحيانا بوظيفة المدارس مثل المساجد. والمعروف أن السلطان
صلاح الدين عني عناية خاصة بإنشاء المدارس وأنشأ بعض
المدارس الشهيرة مثل المدرسة الناصرية والمدرسة الصلاحية
والمدرسة القمحية. ولكن إذا كان صلاح الدين وخلفاؤه من بني
أيوب قد استهدفوا من إنشاء المدارس أن تكون قبل كل شيء
مراكز لنشر المذهب السني ومحاربة العقيدة الشيعية في
البلاد؛ فإن سلاطين المماليك أكثروا من إنشاء المدارس
إظهارا لشعور التقوى والزلفى من ناحية، وليتخذوا من
المدرسة أداة تضمن بقاء الحكم في أيديهم، وتساعدهم على
تدعيم مراكزهم في أعين الشعب.
ومن المدارس العديدة التي أسسها سلاطين الممالك المدرسة
الظاهرية نسبة إلى السلطان الظاهر بيبرس الذي وضع أساسها
سنة "1261م". وألحق بتلك المدرسة خزانة كتب جليلة تشتمل
على مجموعة ضخمة من المراجع في مختلف العلوم. كما أنشأ
المماليك مدارس كثيرة في بقاع كثيرة في مصر والشام
والحجاز.
ولقد كان النشاط الديني في عصر المماليك موجها لخدمة
المذهب السني ومحاربة المذهب الشيعي. وعلى الرغم من الجهود
الكبيرة التي بذلها صلاح الدين الأيوبي ومن خلفه من سلاطين
بني أيوب لمحاربة الشيعة والتشيع في مصر إلا أن الكثير من
آثار المذهب الشيعي ظلت قائمة في عصر المماليك.
وقد لجأ سلاطين المماليك إلى استخدام العنف أحيانا لكبت
الشيعة. وأمر السلطان الظاهر بيبرس "1267م-665هـ" باتباع
المذاهب السنية الأربعة وتحريم ما عداها كما أمر بألا يولى
قاض ولا تقبل شهادة أحد، ولا يرشح لإحدى وظائف الخطابة أو
الإمامة أو التدريس ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب1.
وفي عصر سلاطين المماليك انتشر التصوف انتشارا واسعا واتسع
نطاقه، فساد الجهل والاعتقاد بالخرافات والترهات، وانتشرت
الشركيات فذبحت الذبائح عند القبور، وقدمت النذور
لأصحابها. واهتم المماليك بهؤلاء الصوفية، وكان لهم اعتقاد
فيهم، فكان للظاهر بيبرس المتوفي سنة "676هـ" شيخ اسمه
الخضر بن أبي بكر بن موسى العدوى، كان صاحب
__________
1 الدرر الكامنة لابن حجر "ج2 ص46".
(1/12)
حال، ونفس مؤثرة، وهمة إبليسية، وحال
كاهني، وكان الظاهر بيبرس يعظمه، ويزوره أكثر من مرة في
الأسبوع، ويطلعه على أسراره، ويستصحبه في أسفاره لاعتقاده
التام به1.
وانتشرت الخرافات والخزعبلات والأباطيل، وساد تقديس هؤلاء
المخرفين من الأشياخ.
في هذه البيئة ولد الحافظ ومؤرخ الإسلام شَمْس الدِّيْنِ
أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ عُثْمَانَ
بن قايماز سنة ثلاث وسبعين وستمائة. وأصله تركماني، من
أسرة تركمانية تنتهي بالولاء إلى بني تيم.
وقد نشأ الذهبي -رحمه الله- في عائلة علمية متدينة؛ فوالده
أحمد بن عثمان بن قايماز ابن الشيخ عبد الله التركماني،
الفارقي الأصل -وهي من أشهر مدن ديار بكر- ثم الدمشقي،
شهاب الدين الذهبي. قال الحافظ في "معجم شيوخه الكبير" "1/
75-76":
والدي أحسن الله جزاءه ولد سنة إحدى وأربعين وستمائة
تقريبا "641هـ-1243م" وبرع في دق الذهب وحصل منه ما أعتق
منه خمس رقاب، وسمع الصحيح في سنة ست وستين وستمائة
"666هـ-1267م" من المقداد القيسي، وحج في أواخر عمره. وكان
يقوم من الليل، وتوفي في آخر جمادى الأولى سنة سبع وتسعين
وستمائة "697هـ-15 مارس 1298م" ليلة الجمعة وصلى عليه
الخلق يؤمهم قاضي القضاة ابن جماعة.
وكان جده عثمان بن قايماز بن عبد الله التركماني الفارقي
ثم الدمشقي نجارا. قال الحافظ الذهبي عنه في "معجم شيوخه
الكبير" "1/ 436":
رجل أمي حسن اليقين بالله -والله يغفر له- سمعت الشيخ أبا
الحسن بن العطار يقول لي: كان جدك الفخر يسأل الله أن
يتوفاه ليلة الجمعة، فأعطاه الله ذلك. قلت -أي الحافظ
الذهبي: شهدت دفنه بسفح قاسيون عقيب الجمعة في سنة ثلاث
وثمانين "683هـ-1284م". وكان يرحمه الله يدميني في النطق
بالراء فيقول: قل "جرة برا جرة جوا" وكثيرا ما كنت أسمعه
يقول: يا مدبري ولم أدر. مات في عشر السبعين، ومات أبوه
الحاج قايماز في سنة إحدى وستين وستمائة "661هـ-1263م" وقد
أضر ودخل في الهرم وجاوز المائة بيسير.
وأما خاله, وقد كان من مشايخه الذي أوردهم في "معجم شيوخه
الكبير" "2/ 27-
__________
1 تاريخ الإسلام للذهبي.
(1/13)
28" وقال: علي بن سنجر بن عبد الله الموصلي
ثم الدمشقي الذهبي، الحاج المبارك أبو إسماعيل خالي. مولده
سنة ثمان وخمسين وستمائة "658هـ1260م".
وسمع بإفادة مؤدبه ابن الخباز من أبي بكر الأنماطي، وبهاء
الدين أيوب الحنفي، وست العرب الكندية وسمع معي ببعلبك من
التاج عبد الخالق وجماعة. وكان ذا مروءة وكد على عياله
وخوف من الله. توفي في الثَّالِثَ وَالعِشْرِيْنَ مِنْ
رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاَثِيْنَ وسبعمائة
"736هـ1336م".
وكان زوج خالته فاطمة، وهو من شيوخه الذين أوردهم في "معجم
شيوخه الكبير" "1/ 68" فقال -رحمه الله: أحمد بن عبد الغني
بن عبد الكافي بن عبد الوهاب بن محمد بن أبي الفضل
الأنصاري الذهبي ابن الحرستاني. مات بمصر سنة سبعمائة
"700هـ-1300م" في عشر الستين، وهو زوج خالتي فاطمة، وكان
حافظا للقرآن كثير التلاوة.
وكانت عمته وهي من شيوخه التي أوردها في "معجم شيوخه
الكبير" "1/ 284-285": قال الحافظ -رحمه الله: ست الأهل
بنت عثمان بن قايماز بن عبد الله، أم محمد، مولدها في ذي
القعدة سنة ثلاثة وخمسين وستمائة "653هـ-1255م"، وهي أمي
من الرضاعة.
أجاز لها ابن أبي اليسر, وجمال الدين بن مالك، وزهير بن
عمر الزرعي، وجماعة.
وسمعت من عمر بن القواس، وغيره.
أقعدت مدة وتوفيت سنة تسع وعشرين في شعبان "729هـ-1329م".
وكان شيخه ومؤدبه كما قال في "معجم شيوخه الكبير" "2/
52-53":
علي بن محمد الحلبي علاء الدين البصبص، مؤدبي. كان من أحسن
الناس خطا وأخبرهم بتعليم الصبيان. أقمت في مكتبه أعوام،
وتعلم عنده خلائق، ولم يكن في دينه بذاك. مات في حدود سنة
تسعين وستمائة "690هـ-1291م" عن نحو من ثمانين سنة.
وأنشده مؤدبه علي بن محمد في سنة اثنين وثمانين وستمائة
"682هـ-1291م" شعرا لأبي محمد القاسم بن علي الحريري.
ثم اتجه الذهبي بعد ذلك إلى شيخ آخر، قال في "معجم شيوخه
الكبير" "2/ 339-
(1/14)
340": مسعود بن عبد الله الأغزازي المقرئ
الصالح. لقنني جميع القرآن ثم جردت عليه نحوا من أربعين
ختمة، وقال لي: إنه قرأ لأبي عمر على الشيخ زين الدين
الزواوي. وكان خيرا متواضعا، لقن خلقا. وكان إمام مسجد
بالشاغور. مات في سنة عشرين وستمائة [620هـ-1223م] وله ست
وثمانون سنة.
ذلكم هي البيئة العلمية التي نشأ الحافظ الذهبي -رحمه
الله- في أحضانها وترعرع فيها وشرب منها حتى اشتد عوده.
لقد بدأ الذهبي -رحمه الله- في طلب العلم في سن الثانية
عشرة، فتعلم القراءات.
قال -رحمه الله- في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 135" عن شيخه
الذي درس عليه القراءات: إبراهيم بن داود بن ظافر بن
ربيعة، شيخنا جمال الدين أبو إسحاق العسقلاني ثم الدمشقي
الفاضلي الشافعي شيخ القراء.
مولده في صفر سنة اثنتين وعشرين وستمائة "622هـ-1125م"
وسمع من ابن الزبيدي، وابن اللتي، والإربلي، ومن بعدهم،
وصحب الشيخ علم الدين السخاوي مدة وجمع عليه بالسبع سبع
ختم وانتفع به وتصدر للإقراء بالتربة الصالحية بعد ابن أبي
زهران ثم حصل له فالج فكان يقرئ بمنزله، فقصدته في سنة
إحدى وتسعين وستمائة "691هـ-1291م" أنا، وابن بضحان، وابن
غدير، وشمس الدين الزنجبيلي. وشرع كل منا في الجمع الكبير
-وهي القراءة الجامعة للروايات السبع- فانتهيت عليه إلى
أواخر القصص، وأجاز لي مروياته، وأنشدنا أشياء منها نونية
السخاوي. وسمعت منه بعض شرح الشاطبية بسماعه من السخاوي.
كما قرأ أيضا الجمع الكبير على شيخه إبراهيم بن غالي بن
شاور البدوي الحميري الشافعي المتوفى سنة "708هـ" كما ذكر
في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 148-149".
كما قرأ أيضا القراءات السبع على شيخه أبي عبد الله بن
جبريل المصري قال الحافظ الحسيني في "ذيل تذكرة الحفاظ"
"ص36": وقد جمع القراءات السبع على الشيخ أبي عبد الله بن
جبريل المصري نزيل دمشق، فقرأ عليه ختمة جامعة لمذاهب
القراء السبعة بما اشتمل عليه كتاب التيسير لأبي عمرو
الداني، وكتاب حرز الأماني لأبي القاسم الشاطبي.
لقد أصبح الحافظ الذهبي وهو لم يتجاوز العشرين من عمره
عالما في القراءات، فأجازه
(1/15)
شيخ القراءات محمد بن أحمد بن خليل بن
سعادة، قاضي القضاة شهاب الدين أبو عبد الله الدمشقي
الشافعي. فقال في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 144" عنه: هو
إمام بارع متفنن مصنف حاو للفضائل. ولد سنة ست وعشرين
وستمائة "626هـ1229م" وسمع من ابن اللتي، والسخاوي، وابن
الصلاح، وغيرهم وأجاز له خلق كثير جلست بين يديه وسألني عن
غير ما مسألة من القراءات، فمن الله وأجبته، وشهد في
إجازتي من الحاضرين وأجاز لي مروايته. مات في رمضان سنة
ثلاث وتسعين وستمائة "693هـ-1294م".
واستمر الحافظ -رحمه الله- في دراسة علم القراءات، فتعلم
من شيخه محمد بن جوهر ابن محمد بن مالك المقرئ المجود، أبي
عبد الله التلعفري الصوفي الملقن المولود سنة خمس عشرة
وستمائة "615هـ-1218م". وكان قد جود القرآن على أبي إسحاق
بن وثيق الأندلسي كما صنف مقدمة في التجويد كتبها الحافظ
الذهبي عنه في سنة إحدى وتسعين وستمائة "691هـ-1296م" كما
درس القراءات السبع على شيخه محمد بن منصور بن موسى الإمام
المقرئ النحوي شمس الدين أبي عبد الله الحلبي الحاضري
الشافعي، أحد المتصدرين بالعادلية وبالجامع الأموي.
قال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 290-291":
قرأ بجماعة، كتب على الكمال الضرير، والدهان. ولازم ابن
مالك، وأخذ عنه جملة من العربية. قرأت عليه بالسبع أنا
وابن غدير. مات في صفر سنة سبعمائة "700هـ-1301م" وقد قارب
السبعين.
لقد أصبح الحافظ الذهبي عالما في القراءات، فترى الحافظ
الإمام المقرئ محمد بن عبد العزيز الدمياطي ينزل له عن
حلقته. قال الحافظ في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 218":
أكملت على شيخنا الإمام المقرئ محمد بن عبد العزيز
الدمياطي القراءات أنا، وابن غدير، والشيخ بدر الدين. وكان
حسن الأخلاق طويل الروح، نزل لي عن حلقته في مرضه الذي مات
فيه سنة "693هـ-1293م".
وطلب الحافظ الذهبي -رحمه الله- الحديث وله ثماني عشرة سنة
فسمع بدمشق من عمر ابن القواس، وأحمد بن هبة الله بن
عساكر، ويوسف بن أحمد الغسولي، وغيرهم.
وببعلبك من عبد الخالق بن علوان، وزينب بنت عمر بن كندي،
وغيرهما.
وبمصر من الأبرقوهي، وعيسى بن عبد المنعم بن شهاب، وشيخ
الإسلام ابن دقيق العيد، والحافظين أبي محمد الدمياطي،
وأبي العباس بن الظاهري، وغيرهم.
(1/16)
ولما دخل إلى شيخ الإسلام ابن دقيق العيد،
وكان المذكور شديد التحري في الإسماع، قال له: من أين جئت؟
قال: من الشام، قال: بم تعرف؟ قال: بالذهبي, قال: من أبو
طاهر الذهبي؟ فقال له: المخلص، فقال: أحسنت، فقال: من أبو
محمد الهلالي؟ قال: سفيان بن عيينة، قال: أحسنت، اقرأ،
ومكنه من القراءة عليه حينئذ إذ رآه عارفا بالأسماء.
وسمع بالإسكندرية من أبي الحسن علي بن أحمد الغرافي، وأبي
الحسن يحيى بن أحمد بن الصواف، وغيرهما.
وبمكة من التوزري وغيره.
وبحلب من سنقر الزيني وغيره.
وبنابلس من العماد بن بدران.
وأجاز له أبو زكريا ابن الصيرفي، وابن أبي الخير، والقطب
ابن عصرون، والقاسم بن الإربلي.
وفي شيوخه كثرة، فلا نطيل بتعدادهم.
وسمع منه الجمع الكثير، وما زال يخدم هذا الفن إلى أن رسخت
فيه قدمه، وتعب الليل والنهار وما تعب لسانه وقلمه، وضربت
باسمه الأمثال، وسار اسمه مسير الشمس، إلا أنه لا يتقلص
إذا نزل المطر، ولا يدبر إذا أقبلت الليالي.
وأقام بدمشق يرحل إليه من سائل البلاد، وتناديه السؤالات
من كل ناد، وهو بين أكنافها كنف لأهلها، وشرف تفتخر وتزهى
به الدنيا وما فيها, طورا تراها ضاحكة عن تبسم أزهارها
وقهقهة غدرانها، وتارة تلبس ثوب الوقار والفخار، بما
اشتملت عليه من إمامها المعدود في سكانها1.
وقال الحافظ السيوطي في "ذيله على تذكرة الحفاظ"
"ص347-348": طلب الحديث وله ثماني عشرة سنة، فسمع الكثير،
ورحل وعنى بهذا الشأن، وتعب فيه، وخدمه إلى أن رسخت فيه
قدمه، وتلا بالسبع, وأذعن له الناس حكى عن شيخ الإسلام أبي
الفضل ابن حجر أنه قال: شربت ماء زمزم لأصل إلى مرتبة
الذهبي في الحفظ ... والذي أقوله: إن
__________
1 طبقات الشافعية للسبكي "9/ 102-103".
(1/17)
المحدثين عيال الآن في الرجال وغيرها من
فنون الحديث على أربعة: المزي، والذهبي، والعراقي، وابن
حجر.
ثانيا: رحلاته في طلب العلم
رحل الحافظ الذهبي -رحمه الله- وسمع الكثير من المشايخ كما
ذكر في "معجم شيوخه الكبير"، وغيره من كتبه؛ فرحل إلى
بعلبك، وطرابلس، والكرك، ومصر، وبلبيس، والإسكندرية، ومكة،
وغيرها فرحل إلى بعلبك، وسمع من شيخه سعد بنُ مُحَمَّدِ
بنِ عَلِيِّ بن يَحْيَى بنِ عبد الصمد، أبي القاسم العلوي
الحسيني كما قال في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 264".
كما سمع ببعلبك أيضا من خاله أبي إسماعيل علي بن سنجر بن
عبد الله الموصلي ثم الدمشقي الذهبي المتوفى سنة "436هـ"
كما في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 27-28".
وسمع من عمر بن يحيى بن أبي بكر بن طرخان أبي حفص المعري
ثم البعلبكي المتوفى سنة "699هـ" كما قال في "معجم شيوخه
الكبير" "2/ 81-82".
كما سمع من عبد القادر بن أبي الحسن علي بن محمد بن الحسين
اليونيني البعلي الحنبلي، كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/
407".
كما رحل الحافظ إلى طرابلس، وسمع من شيخه علي بن سليم بن
ربيعة الأنصاري الأذرعي القاضي ضياء الدين، أبي الحسن
الشافعي المتوفى سنة "731هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير"
"2/ 27".
وسمع من شيخه علي بن محمد بن سليمان بن حمائل المقدسي ثم
الدمشقي المتوفى سنة "737هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير"
"2/ 41".
ومن الشيخة فاطمة بنت محمد بن طرخان الصالحية، أم محمد
المتوفاة سنة "729هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "2/
113".
كما سافر -رحمه الله- إلى الكرك، وسمع من شيخه عبد الحميد
بن محمد بن عبد الحميد الحنبلي، وقال الحافظ الذهبي: قرأت
عليه بالكرك شيئا من صحيح مسلم عن ابن عبد الدائم، وكان
شابا فاضلا مات بمصر سنة بضع وسبعمائة. قاله في "معجم
شيوخه الكبير "1/ 351".
(1/18)
وسمع أيضا من شيخه عمر بن عبيد الله بن
الجمال أبي حمزة أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي، المتوفى سنة
"733هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 77"، وسمع من شيوخ
آخرين ذكرهم في "معجم شيوخه الكبير"، وتذكرة الحفاظ.
ورحل إلى مصر، وسمع بالقاهرة من الحافظ شرف الدين عبد
المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف الدمياطي، المتوفى سنة
"705هـ" كما في تذكرة الحفاظ "4/ ص1477-1479"، و"معجم
شيوخه الكبير" "1/ 424"، ومن أَحْمَدُ بنُ إِسْحَاقَ بنِ
مُحَمَّدِ بنِ المُؤَيَّدِ بن علي الأبرقوهي، المتوفى سنة
"701هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 37-38".
ومن عبد الرحيم بن عبد المحسن بن ضرغام، وغيره كما في
"معجم شيوخه الكبير" "1/ 69". ورحل إلى الإسكندرية، وسمع
من كثير مشايخها من أبرزهم تاج الدين أبي الحَسَنِ عَلِيُّ
بنُ أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ المُحْسِنِ الهاشمي الحسيني
الواسطي الغرافي ثم الإسكندراني، شيخ دار الحديث النبيهية
بالإسكندرية المتوفى سنة "704هـ" كما في "معجم شيوخه
الكبير" "2/ 12-13".
وسمع من يحيى بن أحمد بن عبد العزيز بن عبيد الله بن علي
بن عبد الباقي الصواف الجذامي الإسكندراني المالكي،
المتوفى سنة "705هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 367،
393" ومن عبد الرحمن بن مكي كما في "معجم شيوخه الكبير"
"2/ 32".
ومن عبد الرحمن بن مخلوف بن عبد الرحمن بن جماعة بن رجاء
بن أبي القاسم الربعي الإسكندراني المتوفى سنة "722هـ" كما
في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 382-383".
ومن عبد الرحمن بن عبد الحليم الدكالي سحنون، المتوفى سنة
"695هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 362-363".
كما رحل الحافظ -رحمه الله- إلى بلبيس، وسمع من عدد من
علمائها. فسمع من سليمان بن داود بن سليمان بن حمد بن كسا،
وهو من أهل بلبيس, ويكنى أبا الربيع "618هـ-697هـ" كما في
"معجم شيوخه الكبير" "1/ 269".
وقد حج الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- سنة "698هـ" كما
ذكر في كتابه "تاريخ الإسلام". وسمع من جملة من العلماء
بمكة، وعرفة، ومنى، وغيرها. فسمع بعرفة وغيرها من شيخه عبد
السلام بن عبد الخالق بن علوان، أبي سعيد البعلبكي المتوفى
سنة "703هـ".
(1/19)
وقال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير"
"1/ 392": قرأت عليه بعرفة وغيرها مجلس البطاقة. وسمع بمكة
من عثمان بن محمد بن عثمان بن أبي بكر التوزري، ثم المصري
المالكي المقرئ المحدث المتوفى سنة "713هـ" كما في "معجم
شيوخه الكبير" "1/ 437".
ورحل إلى نابلس وسمع من جملة من علمائها من أبرزهم علي بن
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنُ عَبْدِ المُنْعِمِ بنِ نِعْمَةَ
بنِ سُلْطَانَ بن سرور أبي الحسن المقدسي, شيخ أهل نابلس،
المتوفى سنة "702هـ" كما في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 69"،
و"2/ 31-32".
وسمع من الإمام عِمَادِ الدِّيْنِ عَبْدِ الحَافِظِ بنِ
بَدْرَانَ بنِ شبل بن فرخان النابلسي الحنبلي المتوفى سنة
"698هـ" كما ذكره الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير"
"1/ 347"، وكما في "ذيل تذكرة الحفاظ" "ص34".
وسمع من السيف، وهو أبو بكر بن أحمد بن عبد الرحمن بن
الغابر النابلسي الحنبلي المتوفى سنة "699هـ" كما في "معجم
شيوخه الكبير" "1/ 281".
ثالثا: شيوخه
من الشيوخ الذين عول عليهم الحافظ الذهبي -رحمه الله-
وتخرج بهم وعدتهم ستة وثلاثون شيخا كل واحد منهم إمام حافظ
ثقة مشهود له بالإتقان ذكرهم الحافظ الذهبي في نهاية كتابه
القيم "تذكرة الحفاظ" "4/ ص1500-1508" فقال -رحمه الله
تعالى:
1- ولقد انتفعت وتخرجت بشيخنا الإمام المحدث الحافظ الشهيد
أبي الحسين علي بن الشيخ الفقيه ببعلبك ولزمته نيفا وسبعين
يوما وأكثرت عنه، كان عارفا بقوانين الرواية حسن الدراية
جيد المشاركة في الألفاظ والرجال، وانتقل إلى الله -تعالى-
في رمضان سنة إحدى وسبعمائة عن إحدى وثمانين سنة، روى لنا
عن ابن الزبيدي، وابن اللتي، ومكرم، وجعفر، وأبي نصر بن
الشيرازي، وخلق، وكان صاحب رحلة وأصول وأجزاء وكتب ومحاسن.
تذكرة الحفاظ "4/ ص1500".
2- ولزمت الشيخ الإمام المحدث مفيد الجماعة أبا الحسن علي
بن مسعود بن نفيس الموصلي وسمعت منه جملة، وكان دينا خيرا
متصوفا متعففا قرأ ما لا يوصف كثرة، وحصل أصولا كثيرة كان
يجوع ويبتاعها، وسمع بمصر والشام عاش سبعين سنة، مات سنة
أربع وسبعمائة، ظهر له نصف جزء سمعه من أبي القاسم بن
رواحة. تذكرة الحفاظ "4/ ص1500".
(1/20)
3- وسمعت من مفيد الطلبة المحدث الإمام
المتقن اللغوي صفي الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ثم
القرافي الصوفي، قرأ الكثير على المشايخ وكان فصيحا فاضلا
كتب شيئا كثيرا وعني بهذا الشأن وبرع في علم اللسان وصنف،
روى لنا عن النجيب الحراني، والكمال بن عبد، ومات في سنة
ثلاث وعشرين وسبعمائة عن بضع وسبعين سنة رحمه الله تعالى.
تذكرة الحفاظ "4/ ص1500-1501".
4- وسمعت الصحيح بقراءة الإمام العالم الإمام الخطيب
البليغ النحوي محدث الشام شرف الدين أحمد بن إبراهيم بن
سباع الفزاري الشافعي، وكان فصيحا مفوها عديم اللحن عذب
القراءة له أنسة بالأسماء ومعرفة بالألفاظ، ويد في العربية
وتواضع وكيس، مات سنة خمس وسبعمائة عن خمس وسبعين سنة رحمه
الله تعالى، روى لنا عن السخاوي -وهو أبو الحسن علي بن
محمد السخاوي- وجماعة وقرأ الكثير. تذكرة الحفاظ "4/
ص1501".
5- وسمعت الكثير بقراءة الإمام العالم الحافظ مفيد الآفاق
مؤرخ العصر علم الدين أبي محمد القاسم بن محمد بن يوسف ابن
الأحفظ زكي الدين البرزالي، وبفصاحته وحسن أدائه للحديث
يضرب المثل مع الفضيلة والإتقان والتواضع، وحسن البشر،
وكثرة الأصول، ولد سنة خمس وستين -يعني بعد الستمائة-
وأجاز له ابن عبد الدائم وطبقته وسمع من الشيخ شمس الدين
وطبقته، وله في الطلب بضع وخمسون سنة، ومعجمه في مجلدات
كبار. توفي محرما في رابع ذي الحجة الحرام سنة تسع وثلاثين
-يعني بعد السبعمائة- رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/
ص1501".
6- وسمعت مع الشيخ الإمام الفقيه المحدث النحوي بقية السلف
شَمْسِ الدِّيْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ أبي
الفتح البعلبكي الحنبلي، وكان عالما بالفقه والنحو، وله
اعتناء بالمعاني وبالرجال، سمع الكثير وكتب الأجزاء، وخرج
وأفاد. روى لنا عن الفقيه اليونيني وابن عبد الدائم
وطائفة، توفي سنة تسع وسبعمائة بالقاهرة غريبا، رحمه الله
تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1501".
7- وسمعت مع الإمام المحدث العابد مفيد الجماعة شمس الدين
محمد بن عبد الرحمن بن سامة، وكان معنيا بهذا الشأن، فصيح
القراءة، كثير الشيوخ، واسع الرحلة خيرا متواضعا، روى لنا
عن ابن عبد الدائم، وسمع من أصحاب ابن طبرزذ وهلم جرا، مات
في سنة ثمان وسبعمائة عن ست وأربعين سنة، رحمه الله تعالى.
تذكرة الحفاظ "4/ ص1501-1502".
(1/21)
8- وسمعت بمصر وعرفة مع الشيخ الإمام
العالم المقرئ الحافظ المحدث مفيد الديار المصرية وشيخها
قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور بن منير الحلبي ثم
المصري أحد من جرد العناية ورحل وتعب وحصل وكتب وأخذ عن
أصحاب ابن طبرزذ فمن بعدهم، وصنف التصانيف، وظهرت فضائله
مع حسن السمت والتواضع والتدين وملازمة العلم، مولده سنة
أربع وتسعين وستمائة. وتوفي في رجب سنة خمس وثلاثين
وسبعمائة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1502".
9- وسمعت من الشيخ العلامة الفرضي المحدث الصالح شمس الدين
أبي العلاء محمد بن أبي بكر البخاري الحنفي، وَكَانَ
أَحَدَ مَنْ عُنِيَ بِهَذَا الشَّأْنِ وَرَحَلَ وكتب وألف،
سمعت منه ووقف أجزاءه بالخانقاه. سمع من أبي الدثنة وطبقته
ببغداد، ومن الفخر وطبقته بدمشق ومن ابن خطيب المزة بمصر
وسمع بالحرمين وبخارى وماردين وخراسان، وكان عالما متقنا
أنيق الكتابة، مات بماردين سنة سبعمائة عن ست وخمسين سنة,
رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ 1502".
10- وسمعت مع الإمام المفيد المحدث العدل الكبير شمس الدين
محمد بن إبراهيم بن غنائم المهندس الصالحي الحنفي الشروطي
ابن المهندس، وقد سمع الكثير من أصحاب ابن طبرزذ، وكتب
العالي والنازل، ثم ارتحل بأخرة إلى مصر، ونسخ الكتب
الكبار، وانتقى على جماعة، سمعنا منه، مولده في سنة خمس
وستين وستمائة، ومات في شوال سنة ثلاث وثلاثين -أي
وسبعمائة- رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1502".
11- وسمعت من الشيخ الإمام المحدث المفيد المقرئ بقية
السلف شيخ الحرم فخر الدين عثمان بن محمد بن عثمان التوزري
ثم المصري المالكي، كان قارئ الطلبة بمصر دهرا، قرأ الكتب
المطولة، وحصل الأصول، وتلا بالسبع على ابن وثيق، والكمال
ابن شجاع، سمع من ابن الجميزي، والسبط، فمن بعدهما حتى أنه
أخذ عن ألف شيخ، توفي في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة
وسبعمائة بمكة عن ثلاث وثمانين سنة، رحمه الله تعالى.
تذكرة الحفاظ "4/ ص1502-1503".
12- وسمعت من الشيخ العلامة المحدث الحافظ الأديب البارع
فتح الدين أبي الفتح محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري
الأندلسي الأصلي المصري، صاحب التصانيف، ولد سنة إحدى
وسبعين في آخرها وسمع من العز، وغازي، وخلائق، ولحق بدمشق
ابن
(1/22)
المجاور، ومحمد بن مؤمن، وابن الواسطي وكتب
بخطه المنسوب كثيرا، وهو على حاله ثبت فيما ينقله بصير بما
يحرره لم أسمع منه شيئا، توفي فجاءة في شعبان في حادي عشرة
سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ
"4/ 1503".
13- وسمعت الكثير مع الشيخ المحدث العالم المفيد شهاب
الدين أبي العباس أحمد ابن مظفر ابن النابلسي سبط الحافظ
زين الدين خالد، مولده خمس وسبعين، وسمع من زينب بنت مكي،
والفخر البعلي، وابن بلبان، وابن الواسطي، والتاج عبد
الخالق فمن بعدهم، وأفادني أشياء, وكتبت عنه وشيوخه فوق
السبعمائة شيخ، وله حظ من زعارة ونفور من الناس، والله
يسامحه فعليه مأخذ لذلك لكنه متثبت متقن، مات في دمشق في
ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، رحمه الله تعالى.
تذكرة الحفاظ "4/ ص1503".
14- وسمعت من الشيخ الأديب العلامة البليغ المحدث المفيد
علاء الدين علي بن مظفر بن إبراهيم الكندي الدمشقي كاتب
ابن وداعة، ولد على رأس الأربعين وست مائة، وتلا بالسبع
على العلم أبي القاسم، وسمع من ابن أبي الحسن، وإبراهيم بن
خليل، وابن عبد الدائم، وخلق وكتب الأجزاء، وحصل، ثم تعانى
الإنشاء، وخدم، وكان قليل الدين متهاونا بالصلاة، في
عقيدته مقال إلا أنه متثبت فيما ينقله علقت عنه، توفي سنة
عشرة وسبعمائة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/
ص1503-1504".
15- وسمعت من الشيخ المحدث المفيد الفاضل نجم الدين
إسماعيل بن إبراهيم بن سالم بن ركاب الأنصاري ابن الخباز
المؤدب المفيد أحد من أفنى عمره في الرواية والكتابة، وأخذ
عمن دب ودرج, وحصل الأصول, روى لنا عن الشيخ الضياء، وعبد
الحق بن خلف، وخطه رديء سقيم، وفهمه بطيء، والله يسامحه
مات سنة ثلاث وسبعمائة عن أربع وسبعين سنة. تذكرة الحفاظ
"4/ 1504".
16- وسمعت من الشيخ العالم المحدث شهاب الدين أحمد بن
النضر بن بناء بن الدقوقي المصري، وكان ممن نسخ الكثير
وعنى بالسماع ولم ينجب، حدثنا عن ابن رواح، مات في سنة خمس
وتسعين وستمائة وهو في عشر الثمانين، رحمه الله. تذكرة
الحفاظ "4/ ص1504".
17- وسمعت من الشيخ الإمام المحدث المفيد بقية المشايخ
ضياء الدين عيسى بن يحيى بن أحمد السبتي، مات في سنة ست
وتسعين -أي وستمائة- عن ثلاث وثمانين سنة، عني
(1/23)
بهذا الشأن مدة مديدة، وسمع بقراءته من ابن
المجتلي وابن الصفراوي، وابن المقير، وطبقتهم. وليس
بالمكثر ولا الماهر، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/
ص1504".
18- وسمعت من الشيخ الإمام المحدث المفيد شرف الدين حسن بن
علي بن عيسى اللخمي بن الصيرفي, وكان قد طلب وحمل عن ابن
رواح، والساوي، وابن قميرة. مات في أواخر سنة تسع وتسعين
وستمائة. تذكرة الحفاظ "4/ ص1504".
19- وسمعت من الشيخ العالم المحدث المفتي بقية السلف أبي
الحسن علي بن إبراهيم ابن داود بن العطار الدمشقي الشافعي،
صاحب الشيخ محيي الدين النواوي، وهو الذي استجاز لي ولأبي
من ابن الصيرفي، وابن أبي الخير، وعدة. وكان صاحب معرفة
حسنة، وأجزاء وأصول، خرجت له معجما في مجلد. مات في سنة
أربع وعشرين وسبعمائة عن سبعين سنة مرض بالفالج سنين، رحمه
الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1504-1505".
20- وسمعت من الفقيه البارع المحدث الأديب نجم الدين موسى
بن إبراهيم الشعراوي الحنبلي الشاهد، وكان قد قرأ الكتب
الكبار، ودار على الشيوخ ونسخ الفوائد، وسمع من الحافظ
الضياء، وإسماعيل بن مظفر، وقرأ على ابن عبد الدائم، وابن
أبي عمر، وكان صاحب نوادر ودعابة وفضائل إلا أنه كان يدمج
الإسناد ويهيمنه، مات سنة اثنتين وسبعمائة، وله ثمان
وسبعون سنة. تذكرة الحفاظ "4/ ص1505".
21- وسمعت من المحدث العالم العدلي المفيد كاتب الحكم شرف
الدين يعقوب بن أحمد بن الصابوني روى عن أحمد بن علي
الدمشقي، والنجيب، وابن علاق، وابن أبي الخير، وخلق. ونسخ
الأجزاء، وساد في الشروط. مات بمصر في سنة عشرين وسبعمائة
عن ست وسبعين سنة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/
ص1505".
22- وسمعت من قاضي القضاة الإمام القدوة الزاهد المحدث شمس
الدين محمد بن مسلم بن مالك، وسمعت بقراءة جماعة أجزاء،
وكان إماما في الفقه والنحو من قضاة العدل، توفي في سنة ست
وعشرين وسبعمائة عن خمس وستين سنة بالمدينة النبوية شرفها
الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1505".
23- وسمعت من الفقيه المحدث الزاهد البركة أبي الحسن علي
بن محمد التركي الختني الشافعي، وقد تفقه وسمع الكثير وكتب
الأجزاء، سمع من الفخر علي، وطبقته. ومات كهلا سنة سبع
عشرة وسبعمائة، رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1505".
(1/24)
24- وسمعت من الإمام المحدث الأوحد الأكمل
فخر الإسلام صدر الدين إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن حمويه
الخراساني الجويني شيخ الصوفية، قدم علينا طالب حديث، وروى
لنا عن رجلين من أصحاب المؤيد الطوسي، وكان شديد الاعتناء
بالرواية وتحصيل الأجزاء، حسن القراءة مليح الشكل مهيبا
دينا صالحا، وعلى يده أسلم غازان الملك. مات سنة اثنتين
وعشرين وسبعمائة وله ثمان وسبعون سنة، رحمه الله تعالى.
تذكرة الحفاظ "4/ ص1506".
25- وسمعت من الشيخ العالم المحدث الصادق المرتضى شمس
الدين محمد بن محمد بن حسن بن نباتة المصري، وله عناية
تامة بهذا الشأن ومعرفة كتب الأجزاء وحصل، وروى عن غازي
والعز الحراني، وابن خطيب المزة، والطبقة، ومحاسنه كثيرة،
وتواضعه حسن، وديانته متينة، ولد سنة ست وستين -أي بعد
الستمائة- ومات سنة خمسين وسبعمائة كما في الدرر الكامنة،
رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1506".
26- وسمعت من الإمام المحدث الصادق مفيد الجماعة محب الدين
عبد الله بن أحمد ابن المحب المقدسي الحنبلي، ولد سنة
اثنتين وثمانين وستمائة، وسمع من ابن البخاري وطبقته، ثم
طلب بنفسه، وكتب الكثير، وقرأ العالي والنازل، وأفاد
الخاصة والعامة، وقد ألقى له المحبة في النفوس لخيره
وإخلاصه وصلاحه وفضله، تُوُفِّيَ فِي رَبِيْعٍ الأَوَّلِ
سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلاَثِيْنَ وسبعمائة، رحمه الله تعالى.
تذكرة الحفاظ "4/ ص1506".
27- وسمعت من الشيخ المحدث العالم الرئيس زين الدين عمر بن
حسن بن عمر بن حبيب الدمشقي نزيل حلب ومحتسبها، ولد سنة
ثلاث وستين وستمائة وسمع من ابن بلبان، وابن شيبان، وابن
البخاري وفي الرحلة من ابن حمدان، والأبرقوهي وكان ذكيا
كتب وتعب خرجت له معجما عن أزيد من خمسمائة نفس، مات غريبا
بمراغة في سنة ست وعشرين وسبعمائة، رحمه الله. تذكرة
الحفاظ "4/ ص1506".
28- وسمعت من المحدث العالم فخر الدين عثمان بن بلبان
المقاتلي، سمع الكثير ورحل وكتب وتعب، وكان مزجي البضاعة،
لكنه له ذكاء وفهم وعناية بالرواية. مات بمصر سنة سبع عشرة
وسبعمائة وله اثنتان وأربعون سنة. روى عن عمر بن القواس
وجماعة، رحمة الله عليهم. تذكرة الحفاظ "4/ ص1507".
(1/25)
29- وسمعت من المحدث المفتي الفاضل فخر
الدين عبد الرحمن بن محمد بن الفخر البعلبكي الحنبلي، سمع
من ابن البخاري، وابن الواسطي، ثم طلب بنفسه، وجمع وخرج
وقرأ الكثير، وقرأ على كراسي عدة. وكان دينا صينا عالما
مات سنة اثنتين وثلاثين -أي وسبعمائة- عن بضع وأربعين سنة
رحمه الله تعالى. تذكرة الحفاظ "4/ ص1507".
30- وسمعت من العلامة ذي الفنون وفخر الحفاظ قاضي القضاة
تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي، صاحب
التصانيف، ولد سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وسمع من ابن
الصواف، والدمياطي وبدمشق من أبي جعفر ابن الموازيني،
والطبقة، "وكان جم الفضائل حسن الديانة صادق اللهجة، قوي
الذكاء من أوعية العلم. مات سنة ست وخمسين وسبعمائة"1.
تذكرة الحفاظ "4/ ص1507".
31- وسمعت من الشيخ الإمام المحدث مفيد الطلبة أمين الدولة
محمد بن إبراهيم بن محمد الواني الدمشقي، رئيس المؤذنين
وابن رئيسهم سمع من ابن الفراء وأبي الفضل بن عساكر، وله
في طلب الحديث رحلة في سنة سبعمائة، مولده سنة أربع
وثمانين وستمائة وتوفي سنة خمس وثلاثين وسبعمائة. تذكرة
الحفاظ "4/ ص 1507".
32- وسمعت من الإمام المفتي المحدث صلاح الدين أبي سعيد
خليل بن كيكلدي العلائي، سمع من القاضي تقي الدين سليمان
وطبقته فأكثر وحصل وخرج وصنف، مولده سنة أربع وتسعين
وستمائة "وتوفي سنة إحدى وستين وسبعمائة"2, وهو عالم بيت
المقدس اليوم. تذكرة الحفاظ "4/ ص1507-1508".
33- وسمعت من الإمام الفقيه المحدث الزاهد القدوة بهاء
الدين أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ أبي
بكر بن خليل المكي الشافعي قرأ الفقه والقراءات والأصول،
والنحو، وعني بالحديث، ورحل إلى دمشق، وحلب، سمع بيبرس
العديمي، والدشتي، والقاضي.
مولده في سنة أربع وتسعين وستمائة. سكن مصر وله جهات، ثم
تزهد وتوحد وتعبد بالثغر. تذكرة الحفاظ "4/ ص1508".
__________
1 ما بين الحاجزين مدرج ليس من كلام الذهبي لأنه توفي سنة
"748هـ" فأما ذكر الوفاة فحتما. وأما ما قبله فلقوله:
"وكان" والله أعلم.
2 ما بين الحاجزين ملحق بعد المؤلف.
(1/26)
34- وسمعت من الفقيه المفتي المحدث ذي
الفضائل عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي
الشافعي. ولد بعد السبعمائة أو فيها وسمع من ابن الشحنة،
وابن الزراد، وطائفة وله عناية بالرجال، والمتون، والتفقه،
خرج وألف وناظر وصنف وفسر وتقدم.
"توفي سنة 777"1. تذكرة الحفاظ "4/ ص1508".
35- وسمعت من المحدث العالم المفيد تقي الدين محمد ابن
شيخنا سعد الدين بن سعد سمع من القاضي, وأبيه، وأبي بكر بن
عبد الدائم، وخلق، وكتب، ورحل، وخرج وتميز "توفي سنة
757"2. تذكرة الحفاظ "4/ ص1508".
36- وسمعت من الإمام الأوحد الحافظ ذي الفنون شمس الدين
محمد بن أحمد بن عبد الهادي، ولد سنة خمس أو ست وسبعمائة،
وسمع من القاضي، وابن عبد الدائم، والمطعم، واعتنى
بالرجال، والعلل وبرع، وجمع وتصدى للإفادة، والاشتغال في
القراءات، والحديث والفقه والأصول والنحو وله توسع في
العلوم، وذهن سيال، توفي في شهر جمادى الأولى سنة أربع
وأربعين وسبعمائة، رحمة الله عليهم أجمعين. تذكرة الحفاظ
"4/ ص1508".
وقد أفاد الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- من شيخه جمال
الدين أبي الحجاج يوسف بن الزكي بن عبد الرحمن بن يوسف
القضاعي المزي في سماع الحديث، وفي النظر، وفي العلم. كما
أفاد من شيخه شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بنِ عَبْدِ
السَّلاَم بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أبي القاسم بن تيمية
الحراني، وسمع الحافظ الذهبي منه جملة من مصنفاته، وجزء
ابن عرفة، وغير ذلك.
وقد أفاد الذهبي من شيوخ كثيرين ذكرهم في كتابه "معجم
شيوخه الكبير"، وغيره من مؤلفاته ربوا على الألف شيخ. وقد
أجازه كثير منهم في الصغر وفي الكبر. وقد كان لرفقته ابن
تيمية والحافظ المزي، ولقياه كثير من شيوخ وعلماء الحديث
عظيم الأثر في بناء شخصيته العلمية القوية التي ارتبطت
بالحديث النبوي والمحدثين ارتباطا وثيقا؛ فكان له الأثر
النافع في مؤلفاته خاصة التراجم التي كانت من أكثر مؤلفاته
وأعماله التي أثرت المكتبة الإسلامية وكان من بعده من أهل
العلم وطلابه عيال عليها.
__________
1 و2 ما بين الحاجزين ملحق بعد المؤلف.
(1/27)
رابعا: تلامذته:
وقد تلقى عن الحافظ الذهبي -رحمه الله- كثير من العلماء
الحفاظ المشهود لهم بالفضل في حياة الذهبي، وانتفعوا به
كما جاء في أقوالهم:
1- فمنهم قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي
بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الشافعي. المتوفى سنة
"771هـ" كان إماما بارعا مفتنا في سائر العلوم، وله تصانيف
شتى. قال في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" "1/ 101":
"أستاذنا أبو عبد الله التركماني الذهبي بصر لا نظير له،
وكنز هو الملجأ إذا نزلت المعضلة إمام الوجود حفظا، وذهب
العصر معنى ولفظا، وشيخ الجرح والتعديل، ورجل الرجال فِي
كل سَبِيل، كَأَنَّمَا جمعت الْأمة فِي صعيد واحد فنظرها
ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها وهو الذي خرجنا في هذه
الصناعة وأدخلنا في عداد الجماعة جزاه الله عنا أفضل
الجزاء وجعل حظه من غرفات الجنان متوفر الأجزاء، وسعده
بداره طالعا في سماء العلوم, يذعن له الكبير والصغير من
الكتب، والعالي والنازل من الأجزاء".
وقال العلامة ابن العماد الحنبلي في "شذرات الذهب" "6/
221": "قدم دمشق مع والده في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين
وسبعمائة وسمع بها من جماعة، وقرأ على الحافظ المزي ولازم
الذهبي وتخرج به".
2- ومنهم العلامة قاضي القضاة كمال الدين محمد بن علي بن
عبد الواحد الزملكاني الدمشقي الشافعي المتوفى سنة
"727هـ". كان إماما علامة بصيرا بمذهبه وأصوله، قوي
العربية صحيح الذهن فصيحا أديبا ناظما ناثرا، وله مصنفات
كثيرة، وقد أفتى وله نيف وعشرون سنة.
وقد قال -رحمه الله- بعد أن طالع كتاب الحافظ الذهبي
"تاريخ الإسلام": هذا كتاب عليم اجتمعت به وأخذت عنه وقرأت
عليه كثيرا من تصانيفه، ولم أجد عنده جمود المحدثين، ولا
كودنة1 النقلة، بل فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس،
ومذاهب الأئمة من السلف والخلف وأرباب المقالات.
__________
1 كودنة: بلادة.
(1/28)
3- ومنهم الشيخ الحافظ تقي الدين محمد بن
جمال الدين رافع بن هجرس بن محمد بن شافع السلامي المصري
الشافعي المتوفى سنة "774هـ" بدمشق عن ستين سنة، وكان
-رحمه الله- إماما في الحديث رحل البلاد وقد سمع من الحافظ
الذهبي، رحمه الله.
4- ومنهم الشيخ الإمام البارع الأديب المفتن صلاح الدين
أبو الصفاء خليل بن الأمير عز الدين أيبك بن عبد الله
الألبكي الصفدي، الشاعر المشهور، المتوفى سنة "764هـ"
بدمشق، وكان إماما بارعا كاتبا ناثرا شاعرا، وديوان شعره
مشهور بأيدي الناس وهو من المكثرين. وله مصنفات كثيرة في
التاريخ والأدب والبديع وغير ذلك. قال في تاريخه المسمى
"الوافي بالوفيات" "2/ 163": الشيخ الإمام العلامة الحافظ
شمس الدين أبو عبد الله الذهبي: حافظ لا يجارى، ولافظ لا
يبارى ... جمع الكثير ونفع الجم الغفير. وقد سمع من الحافظ
-رحمه الله- وانتفع به.
5- ومنهم الحافظ الناقد ذو التصانيف شمس الدين أبو المحاسن
محمد بن علي بن الحسن بن حمزة بن محمد بن ناصر الحسيني
الدمشقي الشافعي، والمولود بدمشق سنة "715هـ" والمتوفى
بدمشق في يوم الأحد سلخ شعبان سنة "765هـ". وقد سمع من
الحافظ الذهبي وانتفع به أيما انتفاع، وله مؤلفات وتصانيف
كثيرة.
6- ومنهم الإمام العالم الحافظ المؤرخ علم الدين أبي محمد
القاسم بن محمد بن يوسف ابن الحافظ زكي الدين البرزالي،
المولود سنة "665هـ"، والمتوفى سنة "739هـ" وهو محرم كان
فصيحا أديبا يضرب به المثل مع فضله وتواضعه. وقد سمع من
الحافظ الذهبي -رحمه الله- وانتفع به.
7- ومنهم الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير
البصروي الدمشقي المتوفى سنة "774هـ" صاحب المؤلفات
الكثيرة أعظمها تفسيره المشهور المعروف، وكتاب البداية
والنهاية وقد نشأ بدمشق وسمع من الحافظ الذهبي، وكثير من
علمائها وصفه الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير"
بالفقيه المفتي المحدث ذي الفضائل. وقال: خرج وألف وناظر
وصنف وفسر، وكان من شيوخ الحافظ الذهبي، رحمه الله، وقد
سمع منه أيضا.
8- ومنهم الإمام المفتي الحافظ صلاح الدين أبو سعيد خليل
بن كيكلدي العلائي، المولود "694هـ"، والمتوفى سنة "761هـ"
له مصنفات كثيرة من أبرزها كتاب "جامع التحصيل في أحكام
المراسيل"، وهو من أجمع وأحسن ما ألف في موضع الحديث
المرسل. وهو من
(1/29)
شيوخ الحافظ الذهبي -رحمه الله- الذين
ذكرهم في "معجم شيوخه" ومن تلامذته الذين سمعوا منه،
وأخذوا عنه، وانتفعوا به. وتولى تدريس الحديث بالناصرية،
والأسدية، ودار الحديث الحمصية، كما ولي التدريس في
المدرسة الصلاحية بالقدس، ثم أضيف إليه تدريس الحديث
بالتنكزية، كما تولى مشيخة دار الحديث السيفية.
9- ومنهم العلامة الحافظ محمد بن عبد الكريم الموصلي
الأطرابلسي الشافعي المتوفى سنة "764هـ" قال الحافظ ابن
ناصر الدين في "الرد الوافر" "ص66": لما قدم الحافظ محمد
بن محمد بن عبد الكريم دمشق سنة "734هـ" إلى الحج، قال في
الحافظ الذهبي -رحمه الله:
ما زلت بالسمع أهواكم وما ذكرت ... أخباركم قط إلا ملت من
طرب
وليس من عجب أن ملت نحوكم ... فالناس بالطبع قد مالوا إلى
الذهب
وقد تخرج بالحافظ الذهبي -رحمه الله- حفاظ كثيرون، لذا قال
تلميذه الحافظ الحسيني في "ذيله على تذكرة الحفاظ" "ص36":
وحمل عنه الكتاب والسنة خلائق.
خامسا: ثناء أهل العلم عليه
كان الحافظ الذهبي -رحمه الله- أمة وحده في الحديث،
والفقه، والعقيدة، وسائر العلوم الشرعية، وأثنى عليه كل من
رآه ثناء حسنا نسوق بعضا منه:
قال الصفدي: في "الوافي بالوفيات" "2/ 163":
الشيخ الإمام العلامة شمس الدين أبو عبد الله الذهبي حافظ
لا يجارى، ولافظ لا يبارى أتقن الحديث ورجاله ونظر علله
وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم
والإلباس، ذهن يتوقد ذكاؤه، ويصح إلى الذهبي نسبته
وانتماؤه، جمع الكثير ونفع الجم الغفير، وأكثر من التصنيف
ووفر بالاختصار مؤنة التطويل في التأليف، وقف الشيخ كمال
الدين ابن الزملكاني -رحمه الله- على تاريخه الكبير المسمى
بـ"تاريخ الإسلام" جزءا بعد جزء إلى أن أنهى مطالعته،
وقال: هذا كتاب عليم، اجتمعت به، وأخذت عنه، وقرأت عليه
كثيرا من تصانيفه، ولم أجد عنده جمود المحدثين، ولا كودنة1
النقلة، بل هو
__________
1 كودنة: بلادة.
(1/30)
فقيه النظر له دربة بأقوال الناس ومذاهب
الأئمة من السلف وأرباب المقالات، وأعجبني منه ما يعاينه
في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثا يورده حتى يتبين ما فيه
من ضعف متن، أو ظلام إسناد، أو طعن في رواته، وهذا لم أر
غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده.
وقال الحافظ أبو المحاسن الحسيني الدمشقي في "ذيله على
تذكرة الحفاظ" "ص35-36":
مصنفاته ومختصراته وتخريجاته تقارب المائة، وقد سار بجملة
منها الركبان في أقطار البلدان، وكان أحد الأذكياء
المعدودين والحفاظ المبرزين، ولي مشيخة الظاهرية قديما،
ومشيخة النفيسية، والفاضلية، والتنكزية، وأم الملك الصالح،
ولم يزل يكتب وينتقي ويصنف حتى أضر في سنة إحدى وأربعين
وسبعمائة بدمشق، ودفن بمقبرة الباب الصغير رحمه الله
تعالى، وكان قد جمع القراءات السبع على الشيخ أبي عبد الله
بن جبريل المصري نزيل دمشق فقرأ عليه ختمة جامعة لمذاهب
القراء السبعة بما اشتمل عليه كتاب التيسير لأبي عمرو
الداني، وكتاب حرز الأماني لأبي القاسم الشاطبي، وحمل عنه
الكتاب والسنة خلائق والله -تعالى- يغفر له.
وقال الحافظ ابن حجر: شربت ماء زمزم لأصل إلى مرتبة الذهبي
في الحفظ.
وقال الحافظ السيوطي في "ذيله على تذكرة الحفاظ"
"ص347-348":
الإمام الحافظ محدث العصر وخاتمة الحفاظ ومؤرخ الإسلام
وفرد الدهر والقائم بأعباء هذه الصناعة شَمْس الدِّيْنِ
أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ عُثْمَانَ
بن قايماز التركماني ثم الدمشقي المقرئ ولد سنة ثلاث
وسبعين وستمائة وطلب الحديث وله ثماني عشرة سنة، فسمع
الكثير ورحل، وعني بهذا الشأن وتعب فيه وخدمه إلى أن رسخت
فيه قدمه، وتلا بالسبع، وأذعن له الناس. والذي أقوله إن
المحدثين عيال الآن في الرجال وغيرها من فنون الحديث على
أربعة: المزي، والذهبي، والعراقي، وابن حجر.
وقال تاج الدين السبكي في "الطبقات" "9/ 100-101 و103":
اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ بينهم عموم وخصوص: المزي،
والبرزالي، والذهبي والشيخ الإمام الوالد، لا خامس لهم في
عصرنا فأما أستاذنا أبو عبد الله
(1/31)
التركماني الذهبي بصر لا نظير له، وكنز هو
الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود حفظا، وذهب العصر
معنى ولفظا، وشيخ الجرح والتعديل ورجل الرجال فِي كل
سَبِيل، كَأَنَّمَا جمعت الْأمة فِي صعيد واحد فنظرها ثم
أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها وكان محط رحال تغيبت، ومنتهى
رغبات من تغيبت. تعمل المطي إلى جواره، وتضرب البزل
المهاري أكبادها فلا تبرح أو تنبل نحو داره. وهو الذي
خرجنا في هذه الصناعة وأدخلنا في عداد الجماعة، جزاه الله
عنا أفضل الجزاء، وجعل حظه من غرفات الجنات موفر الأجزاء،
وسعده بدرا طالعا في سماء العلوم، يذعن له الكبير والصغير
من الكتب، والعالي والنازل من الأجزاء. وسمع منه الجمع
الكثير، وما زال يخدم هذا الفن إلى أن رسخت فيه قدمه، وتعب
الليل والنهار وما تعب لسانه وقلمه، وضربت باسمه الأمثال،
وسار اسمه مسير الشمس، إلا أنه لا يتقلص إذا نزل المطر،
ولا يدبر إذا أقبلت الليال.
وأقام بدمشق يرحل إليه من سائر البلاد، وتناديه السؤالات
من كل ناد، وهو بين أكنافها كنف لأهليها، وشرف تفتخر وتزهى
به الدنيا وما فيها، طورا تراها ضاحكة عن تبسم أزهارا،
وقهقهة غدرانها، وتارة تلبس ثوب الوقار والفخار، بما
اشتملت عليه من إمامها المعدود في سكانها.
وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير الدمشقي في
"البداية والنهاية" "14/ 243":
الشيخ الحافظ الكبير مؤرخ الإسلام، وشيخ المحدثين شَمْس
الدِّيْنِ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عثمان الذهبي
وقد ختم به شيوخ الحديث وحفاظه رحمه الله.
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي في "الرد الوافر" "ص65" وما
بعدها:
الشيخ الإمام الحافظ الهمام مفيد الشام، ومؤرخ الإسلام،
ناقد المحدثين، وإمام المعدلين والمجرحين، شَمْس الدِّيْنِ
أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ عُثْمَانَ
بن قايماز بن عبد الله التركماني الفارقي الدمشقي ابن
الذهبي الشافعي ... كان آية في نقد الرجال، عمدة في الجرح
والتعديل، عالما بالتفريع والتأصيل، إماما في القراءات،
فقيها في النظريات، له دربة بمذاهب الأئمة وأرباب
المقالات، قائما بين الخلف بنشر السنة ومذهب السلف وله
المصنفات المفيدة، والمختصرات الحسنة، والمصنفات السديدة،
وقال شيخه وتلميذه علم الدين البرزالي المتوفى سنة
"739هـ":
(1/32)
رجل فاضل، صحيح الذهن، اشتغل ورحل، وكتب
الكثير، وله تصانيف واختصارات مفيدة، وله معرفة بشيوخ
القراءات.
سادسا: من آرائه في العقيدة، والفقه، والحديث
لقد كان الذهبي -رحمه الله تعالى- واسع العلم جدا غزير
المعرفة في كل العلوم الشرعية من عقيدة، وفقه، وحديث
وقراءات، وأصول، وغيرها؛ يظهر ذلك من خلال مؤلفات الكثيرة
المتنوعة التي تتركز على الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم الصحيحة، وفهمها على النحو الذي فهمه السلف
الصالح، وترك ما يخالفها، وتنقية السنة المشرفة من الزغل
الدخيل الذي وضعه الأفاكون وانتحله المبطلون وتجديد ما
اندرس من معالم الدين القويم، وتحذير المسلمين من خرافات
وترهات الصوفية التي شوهت جمال الدين وبهاءه, ونبذ التقليد
الأعمى المقيت الخالي عن الدليل.
ولقد أبان الحافظ الذهبي -رحمه الله- منهج أهل السنة
والجماعة، وأبان الصراط المستقيم الذي يعد وسطا بين
المغالين من أهل التنطع والتشدد من الخوارج وبين المفرطين
والمضيعين لهدى وسنن خير المرسلين من أهل الإرجاء وغيرهم.
لقد دعا الحافظ -رحمه الله- إلى إثبات صفات الله تعالى كما
جاءت عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون تأويل أو
تكييف أو تمثيل، يظهر ذلك من ردوده على أصحاب الأقوال
الشاذة من الفرق والنحل التي تنكبت طريق خير المرسلين
وصحابته الغر الميامين بعدم إمرار صفات الله كما جاءت،
وهذا مبثوث في أقواله التي ذكرناها وحرصنا على أن ننقلها
كما هي ليقف القارئ الكريم على علمه الجم الغزير، ومنافحته
عن عقيدة أهل السنة والجماعة برد شبه الزيغ والارتياب
لهاتيك الفرق التي تنكبت الطريق.
لقد كان الحافظ -رحمه الله تعالى- رأسا في معرفة الحلال
والحرام، وهذا واضح جلي من بيانه وردوده في كثير من
المسائل التي نقلناها من كلامه المبثوث في هذا الكتاب
ليعلم القارئ الكريم أن الحافظ -رحمه الله- كان راسخ القدم
في علم الفقه، وأنه وصل فيه إلى مرتبة سنية ودرجة علية قل
أن يصل إليها عالم من علماء زماننا، وهذا واضح في فتاويه
الدقيقة السديدة، والتي لو عرضت على فقهاء زماننا لضلوا عن
الحق وأخطئوه.
لقد كان الحافظ -رحمه الله تعالى- رأسا في علم التراجم
والتاريخ سبق فيه من سلف، ولم يستطع اللحاق به من خلف؛
فترجم لكثير من الملوك، والأمراء، والوزراء، والأطباء،
(1/33)
والمحدثين، والفقهاء، والنحاة والشعراء،
وأبان -رحمه الله- زيغ وضلال بعض من ترجم لهم وانحرافهم عن
سبيل الهدى والرشاد الذي كان عليه سيد الأولين صلى الله
عليه وسلم وصحابته المكرمين فترك الحق واضحا جليا يتضح هذا
من النقولات التي نقلناها من كلامه المبثوث في كتابه هذا
وسائر كتبه؛ ليعلم القارئ الكريم أن الحافظ الذهبي -رحمه
الله تعالى- كان أمة وحده في علم الاعتقاد، والحديث,
والفقه, والاجتهاد. ولا غرو فقد تخرج من مدرسة شيخه
العلامة عماد الدين إسماعيل بن كثير، والحافظ العلامة صلاح
الدين أبي سعيد خليل بن كيكلدي العلائي، وغيرهم من أعلام
الهدى ومصابيح الدجى الذين ملئوا الدنيا علما وسارت
بتآليفهم الركبان في مشارق الأرض ومغاربها.
ولقد آثرت وأنا أبين آراءه العقدية والفقهية والحديثية أن
أنقل كلامه بنصه وردوده على أهل الزيغ والارتياب ليعلم
القارئ الكريم المنزلة السامقة التي وصل إليها علم هذا
الرجل العظيم، وليكون منهجا تعليميا للعلماء وطلاب العلم
في بيان طرق أهل الزيغ والضلال في طرح أفكارهم الزائفة
الضالة وطريقة رد هذا الحافظ العلامة لهذا الزيغ والضلال،
وإقامته للحق بنيانا لا يندرس على أنقاض أباطيل أهل الضلال
مشفوعا بالأدلة الدامغة والبراهين الساطعة من كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحجج التي نسف بها حجج أهل
الضلال.
لقد آثرت أن أنقل كلام أهل الزيغ والضلال بقضه وقضيضه ليقف
القارئ الكريم على الأباطيل والأراجيف التي يبثها هؤلاء
المنحرفون الذين تنكبوا طريق الهدى ليفيد العلماء وطلاب
العلم في معرفة شبههم وزيغهم وضلالهم، فيكونوا على وعي
وبصيرة بالمناهج الضالة الفاسدة الآسنة التي تعكر صفو
الدين وبهاءه، وليرى العلماء وطلاب العلم علم هذا الحافظ
الجليل الذي ينسف به هاتيك الترهات والأباطيل التي يبثها
أهل الزيغ والضلال.
إن قلوب المحبين للحق ستحيا بقراءة آراء هذا الحافظ الجليل
في العقيدة، والفقه، والحديث وردوده على أهل الزيغ والضلال
التي أرسى بها قواعد الإسلام وأوضح بها مشكلات الأحكام،
فصارت نبراسا منيرا يستضيء به كل من يدين بدين الإسلام،
فدونك أيها القارئ الكريم أقوال هذا الحافظ النحرير وردوده
على أقوال وأفكار أهل الزيغ والضلال.
قال الذهبي -رحمه الله تعالى- في موضوع الفتنة التي حدثت
بين الصحابة الكرام قال في كتابه "السير" "3/ 27":
(1/34)
لَمَّا خَرَجَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ
وَعَائِشَةُ لِلطَّلَبِ بِدَمِ عثمان وقال طلحة لعلقمة بن
وقاص الليثي: يَا عَلْقَمَةَ! لاَ تَلُمْنِي، كُنَّا
أَمْسِ يَداً واحدة على من سوانا، فأصبحنا اليوم جيلين من
حديد، يزحف أحدنا إلى صاحبه، ولكنه كَانَ مِنِّي شَيْءٌ
فِي أَمْرِ عُثْمَانَ، مِمَّا لا أرى كفارته إلا سفك دمي،
وطلبه دمي" أخرجه الحاكم "3/ 372".
فكيف عقب الذهبي -رحمه الله تعالى- على قول طلحة؟! لقد
أجاب بإجابة عالم بصير يستشفي بها من وساوس الصدور فقال
رحمه الله تعالى:
قُلْتُ: الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي حَقِّ عُثْمَانَ
تَمَغْفُلٌ وَتَأْليبٌ، فَعَلَهُ بِاجْتِهَادٍ، ثُمَّ
تَغَيَّرَ عِنْدَمَا شَاهَدَ مَصْرَعَ عُثْمَانَ، فَنَدِمَ
عَلَى تَرْكِ نُصْرَتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ
طَلْحَةُ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ عَلِيّاً، أَرْهَقَهُ
قَتَلَةُ عُثْمَانَ، وَأَحْضَرُوهُ حَتَّى بايع".
ولما قتل مروان بن الحكم طلحة بن عبيد الله بسهم وقع في
ركبته، عقب الذهبي -رحمه الله- "3/ 28" بقوله:
"قُلْتُ: قَاتِلُ طَلْحَةَ فِي الوِزْرِ، بِمَنْزِلَةِ
قَاتِلِ علي".
ثم قال الذهبي في آخر ترجمة طلحة بن عبيد الله "3/ 31":
"أَعْجَبُ مَا مَرَّ بِي قَوْلُ ابْنِ الجَوْزِيِّ فِي
كَلاَمٍ لَهُ عَلَى حَدِيْثٍ قَالَ: وَقَدْ خلف طلحة
ثلاثمئة حمل من الذهب! ".
يقول محمد أيمن الشبراوي عفا الله عنه: تعجب الذهبي من قول
ابن الجوزي إشارة منه إلى كذب هذا القول، ولكنه كان لطيف
العبارة -رحمه الله تعالى- خاصة مع علماء الحديث الذي كان
عظيم الإكبار لهم.
وثمة بصمات قوية تشير إلى براعته الفائقة في علم الحديث
فقال -رحمه الله- في "السير" "3/ 54-55" حين علق على حديث
دخول عبد الرحمن بن عوف الجنة حبوا؛ قال: وهو حديث منكر،
وقال: إسناده واه. ثم عرج على المتن بقوله "3/ 55":
وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَوْ تَأَخَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ
رِفَاقِهِ لِلْحِسَابِ، وَدَخَلَ الجَنَّةَ حَبْواً عَلَى
سَبِيْلِ الاسْتِعَارَةِ، وَضَرْبِ المَثَلِ، فَإِنَّ
مَنْزِلَتَهُ فِي الجَنَّةِ ليست بدون منزلة علي والزبير،
رضي الله عن الكل.
ثم عرج على مناقب عبد الرحمن بن عوف "3/ 55" فقال: "وَمِنْ
مَنَاقِبِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَهِدَ لَهُ بِالجَنَّةِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ
بدر الذين قيل فيهم: $"اعْمَلُوا مَا شِئْتُم" وَمِنْ
أَهْلِ هَذِهِ الآيَةِ
(1/35)
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
[الفَتْحُ: 18] ، وَقَدْ صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وراءه.
وتراه أخي القارئ ينافح عن عبد الرحمن بن عوف في اتهامه
بأنه حابى عثمان بن عفان في اختياره خليفة للمسلمين؛ فقال
-رحمه الله تعالى- في أوجز عبارة وأخصر بيان في كتابه
"السير" "3/ 62": "من أفضل أعمال عبد الرحمن بن عوف
عَزْلُهُ نَفْسَهُ مِنَ الأَمْرِ وَقْتَ الشُّورَى،
وَاخْتِيَارُهُ لِلأُمَّةِ مَنْ أَشَارَ بِهِ أَهْلُ
الحِلِّ وَالعَقْدِ، فَنَهَضَ فِي ذَلِكَ أَتَمَّ نُهُوضٍ
عَلَى جَمْعِ الأُمَّةِ عَلَى عُثْمَانَ، وَلَوْ كَانَ
مُحَابِياً فِيْهَا لأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، أَوْ
لَوَلاَّهَا ابْنَ عمَّه، وَأَقْرَبَ الجماعة إليه سعد بن
أبي وقاص".
فالله الله يا ذهبي فلقد كنت ذا عقل راجح، وفكر ناضح، وفقه
متين في الدين.
وتراهُ يُنافحُ عن سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- فيجيبُ
عن سؤال هام وهو: هل شارك رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَهْلُ الجاهلية في أفعالهم قبل
البعثة؟! فيُجلِّى شمائل الرسول قبل البعثة وبعدها فيقول
-رحمه الله- في كتابه "السير" "3/ 88":
ما زَالَ المُصْطَفَى مَحْفُوظاً مَحْرُوْساً قَبْلَ
الوَحْيِ وَبَعْدَهُ، ولو احتمل جواز أكله مما ذُبح على
النُّصُب، فَبِالضَّرُوْرَةِ نَدْرِي أَنَّهُ كَانَ
يَأْكُلُ مِنْ ذَبَائِحِ قُرَيْشٍ قَبْلَ الوَحْيِ،
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الإِبَاحَةِ، وَإِنَّمَا تُوْصَفُ
ذَبَائِحُهُمْ بِالتَّحْرِيْمِ بَعْدَ نُزُوْلِ الآيَةِ،
كَمَا أَنَّ الخَمْرَةَ كَانَتْ عَلَى الإِبَاحَةِ إِلَى
أَنْ نَزَلَ تَحْرِيْمُهَا بِالمَدِيْنَةِ بَعْدَ يَوْمِ
أُحُدٍ، وَالَّذِي لاَ رَيْبَ فِيْهِ أَنَّهُ كَانَ
مَعْصُوْماً قَبْلَ الوَحْيِ وَبَعْدَهُ وَقَبْلَ
التَّشْرِيْعِ مِنَ الزِّنَى قطعًا، ومن الخيانة، ومن
الغدر، وَالكَذِبِ، وَالسُّكْرِ. وَالسُّجُوْدِ لِوَثَنٍ،
وَالاسْتِقْسَامِ بِالأَزْلاَمِ، وَمِنَ الرَّذَائِلِ،
وَالسَّفَهِ، وَبَذَاءِ اللِّسَانِ، وَكَشْفِ العَوْرَةِ،
فَلَمْ يَكُنْ يَطُوْفُ عُرْيَاناً، وَلاَ كَانَ يَقِفُ
يَوْمَ عَرَفَةَ مَعَ قَوْمِهِ بِمُزْدَلِفَةَ، بَلْ كَانَ
يَقِفُ بِعَرَفَةَ. وبكلِّ حَالٍ لَوْ بَدَا مِنْهُ شَيْءٌ
مِنْ ذَلِكَ، لَمَا كَانَ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ، لأَنَّهُ
كَانَ لاَ يَعْرِفُ، وَلَكِنَّ رُتْبَةَ الكَمَالِ تَأْبَى
وُقُوْعَ ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تسليمًا.
الله الله يا ذهبي فما أبرع هذا الكلام، وما أحسن هذا
الفهم الذي يدُلُّ على عقل راجح، وفقه متين في الدين.
وتراهُ يبين فضل سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل أحد العشرة
المبشرين بالجنة، ويبين عدل عمر بن الخطاب ونزاهته فيقول
في "السير" "3/ 91": لم يكن سعيد مُتَأَخِّراً عَنْ
رُتْبَةِ أَهْلِ
(1/36)
الشُّوْرَى فِي السَّابِقَةِ
وَالجَلاَلَةِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ- لِئَلاَّ يَبْقَى لَهُ فِيْهِ شَائِبَةُ حَظٍّ،
لأَنَّهُ خَتَنُهُ وَابْنُ عَمَّه، وَلَوْ ذَكَرَهُ فِي
أَهْلِ الشُّوْرَى لَقَالَ الرَّافِضِيُّ: حَابَى ابْنَ
عَمَّه، فَأَخْرَجَ مِنْهَا وَلَدَهُ وَعَصَبَتَهُ،
فَكَذَلِكَ فليكن العمل لله.
وتراهُ يُبيِّنُ فضل العشرة المبشرين بالجنة، وينعى على
الرافضة الذين رفضوا التسعة، واعترفوا بفضل عليٍّ حَسْب،
ويبين ذلك في أوضح بيان فيقول في "السير" "3/ 93": فَهَذَا
مَا تَيَسَّرَ مِنْ سِيْرَةِ العَشَرَةِ، وَهُمْ أَفْضَلُ
قُرَيْشٍ، وَأَفْضَلُ السَّابِقِيْنَ المُهَاجِرِيْنَ،
وَأَفْضَلُ البَدْرِيِّيْنَ، وَأَفْضَلُ أَصْحَابِ
الشَّجَرَةِ، وَسَادَةُ هَذِهِ الأمَّة فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ، فَأَبْعَدَ اللهُ الرَّافِضَةَ مَا
أَغْوَاهُمْ، وَأَشَدَّ هَوَاهُمْ، كَيْفَ اعْتَرَفُوا
بِفَضْلِ وَاحِدٍ مِنْهُم، وَبَخَسُوا التِّسْعَةَ
حَقَّهُمْ! وَافْتَرَوْا عَلَيْهِمْ بِأنَّهُمْ كَتَمُوا
النص عَلِيٍّ أَنَّهُ الخَلِيْفَةُ؟ فَوَاللهِ مَا جَرَى
مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَأَنَّهُمْ زَوَّرُوا الأَمْرَ
عَنْهُ بِزَعْمِهِمْ، وَخَالَفُوا نَبِيَّهُمْ،
وَبَادَرُوا إِلَى بَيْعَةِ رَجُلٍ مِنْ بني تيم، يتجر
ويتكسب، لاَ لِرَغْبَةٍ فِي أَمْوَالِهِ، وَلاَ لِرَهْبَةٍ
مِنْ عَشِيْرَتِهِ وَرِجَالِهِ، وَيْحَكَ أَيَفْعَلُ هَذَا
مَنْ لَهُ مسْكَةُ عَقْلٍ؟! وَلَوْ جَازَ هَذَا عَلَى
وَاحِدٍ لَمَا جَازَ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَلَوْ جَازَ
وُقُوْعُهُ مِنْ جَمَاعَةٍ، لاَسْتَحَالَ وُقُوْعُهُ
وَالحَالَةُ هَذِهِ مِنْ أُلُوْفٍ مِنْ سَادَةِ
المُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارِ، وَفُرْسَانِ الأُمَّةِ،
وَأَبْطَالِ الإِسْلاَمِ، لَكِنْ لاَ حِيْلَةَ فِي بُرْء
الرَّفْضِ، فَإِنَّهُ دَاءٌ مُزْمِنٌ، وَالهُدَى نُوْرٌ
يَقْذِفُهُ اللهُ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ، فَلاَ قُوَّةَ
إلا بالله.
وتراه يُنافح عن مسطح بن أثاثة بأوجز عبارة وأخصر بيان؛
فقال في "السير" "3/ 120": إياك يا جري أن تنظر إلى مسطح
بن أثاثة هذا البدري شذرًا لِهَفْوَةٍ بَدَتْ مِنْهُ،
فَإِنَّهَا قَدْ غُفِرَتْ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ،
وَإِيَّاك يَا رَافِضِيُّ أَنْ تُلَوِّحَ بِقَذْفِ أُمِّ
المُؤْمِنِيْنَ بَعْدَ نُزُوْلِ النَّصِّ في براءتها، فتجب
لك النار.
ويبين أن ضمة القبر لسعد بن معاذ ليست من عذاب القبر بأوجز
بيان، فقال في "السير" "3/ 178":
إن ضمة القبر لسعد بن معاذ لَيْسَتْ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ
فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ يَجِدُهُ المُؤْمِنُ، كَمَا
يَجِدُ أَلَمَ فَقْدِ وَلَدِهِ وَحَمِيْمِهِ فِي
الدُّنْيَا، وَكَمَا يَجِدُ مِنْ أَلَمِ مَرَضِهِ،
وَأَلَمِ خُرُوْجِ نَفْسِهِ، وَأَلَمِ سُؤَالِهِ فِي
قَبْرِهِ وَامْتِحَانِهِ، وَأَلَمِ تَأَثُّرِهِ بِبُكَاءِ
أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَأَلَمِ قِيَامِهِ مِنْ قَبْرِهِ،
وَأَلَمِ الموقف وهوله، وألم الورود وعلى النَّارِ،
وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الأَرَاجِيْفُ كُلُّهَا قَدْ
تَنَالُ العَبْدَ، وَمَا هِيَ مِنْ
(1/37)
عذاب القبر، ولا من عذاب جهنم، وَلَكِنَّ
العَبْدَ التَّقِيَّ يَرْفُقُ اللهُ بِهِ فِي بَعْضِ
ذَلِكَ أَوْ كُلِّهِ، وَلاَ رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ دُوْنَ
لِقَاءِ رَبِّهِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ
الْحَسْرَةِ} [مريم: 39] .
وَقَالَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ
الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18] ، فَنَسْأَلُ
اللهَ تَعَالَى العَفْوَ وَاللُّطْفَ الخَفِيَّ، وَمَعَ
هَذِهِ الهَزَّاتِ، فَسَعْدٌ مِمَّنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ
مِنْ أهل الجنة، وأنه مِنْ أَرْفَعِ الشُّهَدَاءِ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ- كَأَنَّكَ يَا هَذَا تَظُنُّ أَنَّ
الفَائِزَ لاَ يَنَالُهُ هَوْلٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَلاَ
رَوْعٌ، وَلاَ أَلَمٌ، وَلاَ خَوْفٌ، سَلْ رَبَّكَ
العَافِيَةَ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا في زمرة سعد.
ويسرد الأحداث ويبينها حسب ترتيب وقوعها، فقال في "السير"
"3/ 430": كان تزويجه -صلى الله عليه وسلم- بعائشة إِثْرَ
وَفَاةِ خَدِيْجَةَ، فَتَزَوَّجَ بِهَا وَبِسَوْدَةَ فِي
وَقْتٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ دَخَلَ بِسَوْدَةَ، فَتَفَرَّدَ
بِهَا ثَلاَثَةَ أَعْوَامٍ حَتَّى بَنَى بِعَائِشَةَ فِي
شَوَّالٍ، بعد وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَمَا تَزَوَّجَ بِكْراً
سِوَاهَا، وَأَحَبَّهَا حُبّاً شَدِيْداً كَانَ
يَتَظَاهَرُ بِهِ، بِحَيْثُ إِنَّ عَمْرَو بنَ العَاصِ
-وَهُوَ مِمَّنْ أَسْلَمَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الهِجْرَةِ-
سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَيُّ النَّاسِ أحبُّ إِلَيْكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ:
"عَائِشَةُ". قَالَ: فَمِنَ الرِّجَالِ؟ قال: "أبوها" 1.
ويتكلم من غيرة عائشة من خديجة دون سائر أزواجه بأسلوب
الفقيه الحاذق، فيقول في "السير" "3/ 446": من أعجب شيء أن
تغار عائشة -رضي الله عنها- من خديجة وهي امْرَأَةٍ
عَجُوْزٍ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ تَزَوُّجِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَائِشَةَ
بِمُدَيْدَةٍ، ثُمَّ يَحْمِيْهَا اللهُ مِنَ الغَيْرَةِ
مِنْ عدَّة نِسْوَةٍ يُشَارِكْنَهَا فِي النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهَذَا مِنْ
أَلْطَافِ اللهِ بِهَا وَبِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِئَلاَّ يَتَكَدَّرَ عَيْشُهُمَا،
وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا خَفَّفَ أَمْرَ الغَيْرَةِ عَلَيْهَا
حُبُّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لَهَا، وَمَيْلُهُ إِلَيْهَا، فَرَضِيَ الله عنها وأرضاها.
وتراه يبين مسألة رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه في
اليقظة والمنام بأخصر عبارة وأوجز بيان؛ فيقول في "السير"
"3/ 447": لم يَأْتِنَا نَصٌّ جَلِيٌّ بِأَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى اللهَ تَعَالَى
بِعَيْنَيْهِ، وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ مِمَّا يَسَعُ
المَرْءَ المُسْلِمَ فِي دِيْنِهِ السُّكُوتُ عَنْهَا،
فأمَّا رُؤْيَةُ المَنَامِ: فَجَاءتْ مِنْ وُجُوْهٍ
مُتَعَدِّدَةٍ مُسْتَفِيْضَةٍ. وأمَّا رُؤْيَةُ اللهِ
عِيَاناً فِي الآخِرَةِ: فأمرٌ مُتَيَقَّنٌ تَوَاتَرَتْ
بِهِ النُّصُوْصُ، جمع أحاديثها: الدارقطني، والبيهقي،
وغيرهما.
ويبين لفظة يا حميراء الواردة، ويبين أنه حديث موضوع بأنصع
بيان، فيقول في "السير"
__________
1 صحيح: خرجته في الجزء الثالث في الكتاب بتعليقنا رقم
"915" فراجعه ثمت.
(1/38)
"3/ 447-448": قِيْلَ: إِنَّ كُلَّ
حَدِيْثٍ فِيْهِ: يَا حُمَيْرَاءُ، لم يصح، وأوهى ذلك
تَشْمِيْسُ المَاءِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهَا: "لَا تَفْعَلِي يَا
حُمَيْرَاءُ، فَإِنَّهُ يُوْرِثُ البَرَصَ". فَإِنَّهُ
خَبَرٌ مَوْضُوْعٌ. وَالحَمْرَاءُ فِي خِطَابِ أَهْلِ
الحِجَازِ: هِيَ البَيْضَاءُ بِشُقْرَةٍ، وَهَذَا نَادِرٌ
فِيْهِم، وَمِنْهُ فِي الحَدِيْثِ: رَجُلٌ أَحْمَرُ
كَأَنَّهُ مِنَ المَوَالِي، يُرِيْدُ القَائِلُ: أَنَّهُ
فِي لَوْنِ المَوَالِي الَّذِيْنَ سُبُوا مِنْ نَصَارَى
الشَّامِ وَالرُّوْمِ وَالعَجَمِ.
ثُمَّ إِنَّ العَرَبَ إِذَا قَالَتْ: فُلاَنٌ أَبْيَضُ،
فَإِنَّهُمْ يُرِيْدُوْنَ الحِنْطِيَّ اللَّوْنِ
بِحِلْيَةٍ سَوْدَاءَ، فَإِنْ كَانَ فِي لَوْنِ أَهْلِ
الهِنْدِ، قَالُوا: أَسْمَرُ، وَآدَمُ، وَإِنْ كَانَ فِي
سَوَادِ التِّكْرُوْرِ، قَالُوا: أَسْوَدُ وَكَذَا كُلُّ
مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ السَّوَادُ، قَالُوا: أَسْوَدُ أَوْ
شَدِيْدُ الأُدْمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قُوْلُهُ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعثتُ إِلَى الأَحْمَرِ
وَالأَسْوَدِ". فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ بَنِي آدَمَ لاَ
يَنْفَكُّوْنَ عَنْ أَحَدِ الأَمْرَيْنِ، وكل لَوْنٍ
بِهَذَا الاعْتِبَارِ يَدُوْرُ بَيْنَ السَّوَادِ
وَالبَيَاضِ الذي هو الحمرة.
ويبينُ طريقة السَّلَف في الجمع بين التجارة والعبادة
فيقول في "السير" "4/ 15": الأفضل الجمع بين التجارة،
أمَّا ترك التجارة، ولزوم العبادة، فهو طَرِيْقُ جَمَاعَةٍ
مِنَ السَّلَف وَالصُّوْفِيَّةِ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ
أَمْزِجَةَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ، فَبَعْضُهُمْ
يَقْوَى عَلَى الجَمْعِ كالصِّدِّيق، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ
بنِ عَوْفٍ، وَكَمَا كَانَ ابْنُ المُبَارَكِ،
وَبَعْضُهُمْ يَعْجزُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى العِبَادَةِ،
وَبَعْضُهُمْ يَقْوَى فِي بِدَايَتِهِ، ثُمَّ يَعْجِزُ،
وَبِالعَكْسِ، وكلٌّ سَائِغٌ، وَلَكِنْ لاَ بد من النَّهضة
بحقوق الزَّوجة والعيال.
ويُبينُ بأسلوب النَّاقد الحاذق بسبب كراهية الشيعة لأبي
موسى في أوجز عبارة فيقول في "السير" "4/ 47": لا رَيْبَ
أنَّ غُلاَةَ الشِّيْعَةِ يُبْغِضُوْنَ أَبَا مُوْسَى
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِكَوْنِهِ مَا قَاتَلَ مَعَ
عَلِيٍّ، ثُمَّ لَمَّا حَكَّمَهُ عليٌّ عَلَى نَفْسِهِ
عَزَلَهُ، وَعَزَلَ مُعَاوِيَةَ، وَأَشَارَ بِابْنِ
عُمَرَ، فَمَا انتظم من ذلك حال.
ويبين كتابة المصحف من زيد بن ثابت بأمر أبي بكر، ثم بأمر
عثمان بعبارة وجيزة وأسلوب حاذق؛ فيقول في "السير" "4/
73-74": من جلالة زيد بن ثابت أَنَّ الصِّدِّيْقَ
اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي كِتَابَةِ القُرْآنِ العَظِيْمِ
فِي صُحُفٍ، وَجَمْعِهِ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ، وَمِنَ
الأَكْتَافِ، وَالرِّقَاعِ، وَاحْتَفَظُوا بِتِلْكَ
الصُّحُفِ مُدَّةً، فَكَانَتْ عِنْدَ الصِّدِّيْقِ، ثُمَّ
تَسَلَّمَهَا الفَارُوْقُ، ثُمَّ كَانَتْ بَعْدُ عِنْدَ
أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ حَفْصَةَ إِلَى أَنْ نَدَبَ
عُثْمَانُ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ، وَنَفَراً من قريش إلى
كتابة هذا
(1/39)
المُصْحَفِ العُثْمَانِيِّ الَّذِي بِهِ
الآنَ فِي الأَرْضِ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفَيْ أَلْفِ
نُسْخَةٍ، وَلَمْ يَبْقَ بأيدي الأمه قرآن سواه، ولله
الحمد.
ويقول في "السير" "4/ 168":
يجوز كِتْمَانِ بَعْضِ الأَحَادِيْثِ الَّتِي تُحَرِّكُ
فِتْنَةً فِي الأُصُوْلِ أَوِ الفُرُوْعِ، أَوِ المَدْحِ
وَالذَّمِّ، أَمَا حَدِيْثٌ يَتَعَلَّقُ بِحِلٍّ أَوْ
حَرَامٍ؛ فَلاَ يَحِلُّ كتمانه بوجه، فإنه من البينات
والهدى.
وقال في "السير" "4/ 170-171":
كان عمر يَقُوْلُ: أَقِلُّوا الحَدِيْثَ عَنْ رَسُوْلِ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَزَجَرَ
غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ بَثِّ الحَدِيْثِ،
وَهَذَا مَذْهَبٌ لِعُمَرَ وغيره.
فَبِاللهِ عَلَيْكَ إِذَا كَانَ الإِكْثَارُ مِنَ
الحَدِيْثِ فِي دَوْلَةِ عُمَرَ كَانُوا يُمْنَعُوْنَ
مِنْهُ مَعَ صِدْقِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ، وَعَدَمِ
الأَسَانِيْدِ، بَلْ هُوَ غَضٌّ لم يشب، فما ظَنُّكَ
بِالإِكْثَارِ مِنْ رِوَايَةِ الغَرَائِبِ وَالمَنَاكِيْرِ
فِي زَمَانِنَا، مَعَ طُوْلِ الأَسَانِيْدِ، وَكَثْرَةِ
الوَهْمِ وَالغَلَطِ، فَبِالحَرِيِّ أَنْ نَزْجُرَ
القَوْمَ عَنْهُ. فَيَا لَيْتَهُمْ يَقْتَصِرُوْنَ عَلَى
رِوَايَةِ الغَرِيْبِ وَالضَعِيْفِ، بَلْ يَرْوُوْنَ
-وَاللهِ- المَوْضُوْعَاتِ, وَالأَبَاطِيْلَ،
وَالمُسْتَحِيْلَ فِي الأُصُوْلِ، وَالفُرُوْعِ
وَالمَلاَحِمِ وَالزُّهْدِ؛ نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.
فَمَنْ رَوَى ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِبُطْلاَنِهِ، وَغَرَّ
المُؤْمِنِيْنَ، فَهَذَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، جَانٍ عَلَى
السُّنَنِ وَالآثَارِ، يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ
أَنَابَ وَأَقْصَرَ، وَإِلاَّ فَهُوَ فَاسِقٌ، كَفَى بِهِ
إِثْماً أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَإِنْ هُوَ
لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَتَوَرَّعْ، وَلْيَسْتَعِنْ بِمَنْ
يُعينُه عَلَى تَنْقِيَةِ مَرْوِيَّاتِهِ -نَسْأَلُ اللهَ
العَافِيَةَ- فَلَقَدْ عمَّ البلاءُ، وَشَمَلَتِ
الغَفْلَةُ، وَدَخَلَ الدَّاخِلُ عَلَى المُحَدِّثِيْنَ
الَّذِيْنَ يَرْكَنُ إِلَيْهِمُ المُسْلِمُوْنَ، فَلاَ
عُتْبَى عَلَى الفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الكَلاَمِ.
ثم تراه يُنافحُ عن الحافظ أبي هريرة -رضي الله عنه- بأوضح
حجة وأنصع بيان فيقول في "السير" "4/ 174":
قِيْلَ لابْنِ عُمَرَ: هَلْ تُنْكِرُ مِمَّا يُحَدِّثُ
بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ شَيْئاً؟ فَقَالَ: لاَ، وَلَكِنَّهُ
اجْترَأَ وجَبُنَّا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا
ذَنْبِي إِنْ كُنْتُ حَفِظْتُ، وَنَسُوْا.
قَالَ يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ
يَقُوْلُ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يدلس!
قلت -أي الحافظ الذهبي- تَدْلِيْسُ الصَّحَابَةِ كَثِيْرٌ،
وَلاَ عَيْبَ فِيْهِ، فَإِنَّ تَدْلِيْسَهُمْ عَنْ صَاحِبٍ
أَكْبَرَ مِنْهُمْ، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عدول.
(1/40)
الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُوْرٍ، عَنْ
إِبْرَاهِيْمَ قَالَ: مَا كَانُوا يَأْخُذُوْنَ مِنْ
حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلاَّ مَا كَانَ حَدِيْثَ
جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ.
قُلْتُ -أي الذهبي: هَذَا لاَ شَيْءَ، بَلْ احْتَجَّ
المُسْلِمُوْنَ قَدِيْماً وَحَدِيْثاً بِحَدِيْثِهِ
لِحِفْظِهِ، وَجَلاَلَتِهِ، وَإِتْقَانِهِ، وَفِقْهِهِ،
وَنَاهِيْكَ أَنَّ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَتَأَدَّبُ
مَعَهُ، وَيَقُوْلُ: أفت يا أبا هريرة. وانظر إلى هذا
العلامة البارع كيف يحسب عمر أحد الصحابة الأعلام، فقال
"4/ 230":
كان عمرو بن العاص أَكْبَرَ مِنْ عُمَرَ بِنَحْوِ خَمْسِ
سِنِيْنَ، كَانَ يَقُوْلُ: أَذْكُرُ اللَّيْلَةَ الَّتِي
وُلِدَ فِيْهَا عُمَرُ، وَقَدْ عَاشَ بَعْدَ عُمَرَ
عِشْرِيْنَ عَاماً، فَيُنْتِجُ هَذَا أَنَّ مَجْمُوْعَ
عُمُرِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُوْنَ سَنَةً، ما بلغ التسعين
-رضي الله عنه.
وتراه يفسر سبب النهي عن كتابة غير القرآن ثم الإذن في
الكتابة بأوجز عبارة، وأخصر بيان بأسلوب العالم الحاذق؛
قال -طيب الله ثرى قبره وأظله بسحائب مغفرته- في كتابه
العظيم "السير" "4/ 232-233":
كتب عبد الله بن عمرو بن العاص بِإِذْنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَرْخِيْصِهِ لَهُ
فِي الكِتَابَةِ بَعْدَ كَرَاهِيَتِهِ لِلصَّحَابَةِ أَنْ
يَكْتُبُوا عَنْهُ سِوَى القُرْآنِ وَسَوَّغَ ذَلِكَ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ انْعَقَدَ
الإِجْمَاعُ بَعْدَ اختلاف الصحابة -رضي الله عنه- على
الجواز والاستحباب لتقييد العلم بالكتابة.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ كَانَ أَوَّلاً
لِتَتَوَفَّرَ هِمَمُهُم عَلَى القُرْآنِ، وَحْدَهُ،
وَلِيَمْتَازَ القُرْآنُ بِالكِتَابَةِ عَمَّا سِوَاهُ
مِنَ السُّنَنِ النَّبَوَيَّةِ، فَيُؤْمَنُ اللَّبْسُ،
فَلَمَّا زَالَ المَحْذُوْرُ وَاللَّبْسُ، وَوَضَحَ أَنَّ
القُرْآنَ لاَ يَشْتَبِهُ بِكَلاَمِ النَّاسِ، أُذِنَ فِي
كِتَابَةِ العِلْمِ والله أعلم.
وقال في "السير" "4/ 235-236":
صحَّ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- نازل عبد الله بن عمرو بن العاص في قراءة
القرآن إِلَى ثَلاَثِ لَيَالٍ، ونهاهُ أَنْ يقرأهُ فِي
أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ، وَهَذَا كَانَ فِي الَّذِي نَزَلَ
مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا القَوْلِ نَزَلَ مَا
بَقِيَ مِنَ القُرْآنِ. فَأَقَلُّ مَرَاتِبِ النَّهْيِ
أَنْ تُكْرَهَ تِلاَوَةُ القُرْآنِ كُلِّهِ فِي أَقَلَّ
مِنْ ثَلاَثٍ، فَمَا فَقِهَ وَلاَ تَدَبَّرَ مَنْ تَلاَ
فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ تلا فِي أُسْبُوْعٍ،
وَلاَزَمَ ذَلِكَ. لَكَانَ عَمَلاً فَاضِلاً، فالدين
اليسر، فَوَاللهِ إِنَّ تَرْتِيْلَ سُبُعِ القُرْآنِ فِي
تَهَجُّدِ قِيَامِ اللَّيْلِ مَعَ المُحَافَظَةِ عَلَى
النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ، وَالضُّحَى، وَتَحِيَّةِ
المَسْجِدِ، مَعَ الأَذْكَارِ المَأْثُوْرَةِ
الثَّابِتَةِ، وَالقَوْلِ عِنْدَ النَّوْمِ وَاليَقَظَةِ،
ودُبُر المَكْتُوبَةِ وَالسَّحَرِ، مَعَ النَّظَرِ فِي
العِلْمِ النَّافِعِ وَالاشْتِغَالِ بِهِ مُخْلَصاً للهِ،
مَعَ الأَمْرِ
(1/41)
بِالمَعْرُوْفِ، وَإِرْشَادِ الجَاهِلِ
وَتَفْهِيْمِهِ، وَزَجْرِ الفَاسِقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ،
مَعَ أَدَاءِ الفَرَائِضِ فِي جَمَاعَةٍ بِخُشُوْعٍ
وَطُمَأْنِيْنَةٍ وَانْكِسَارٍ وَإِيْمَانٍ، مَعَ أَدَاءِ
الوَاجِبِ، وَاجْتِنَابِ الكَبَائِرِ وَكَثْرَةِ
الدُّعَاءِ وَالاسْتِغْفَارِ، وَالصَّدَقَةِ، وَصِلَةِ
الرَّحِمِ، وَالتَّوَاضُعِ، وَالإِخْلاَصِ فِي جَمِيْعِ
ذَلِكَ، لَشُغْلٌ عَظِيْمٌ جَسِيْمٌ، وَلَمَقَامُ
أَصْحَابِ اليَمِيْنِ وَأَوْلِيَاءِ اللهِ المُتَّقِيْنَ،
فَإِنَّ سَائِرَ ذَلِكَ مَطْلُوْبٌ. فَمَتَى تَشَاغَلَ
العَابِدُ بِخِتْمَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَقَدْ خَالَفَ
الحَنِيْفِيَّةَ السَّمْحَةَ، وَلَمْ يَنْهَضْ بِأَكْثَرِ
مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلاَ تَدَبَّرَ مَا يَتْلُوْهُ.
هَذَا السَّيِّدُ العَابِدُ الصَّاحِبُ كَانَ يَقُوْلُ
لَمَّا شَاخَ: لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُوْلِ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَذَلِكَ قَالَ
لَهُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فِي الصَّوْمِ،
وما زال يناقصه حَتَّى قَالَ لَهُ: "صُمْ يَوْماً،
وَأَفْطِرْ يَوْماً، صَوْمَ أَخِي دَاوُدَ -عَلَيْهِ
السَّلاَمُ". وَثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ
الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ" وَنَهَى -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
وَالسَّلاَمُ- عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ. وَأَمَرَ عَلَيْهِ
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بِنَوْمِ قِسْطٍ مِنَ اللَّيْلِ،
وَقَالَ: "لَكِنِّي أَقُوْمُ وَأَنَامُ، وَأَصُوْمُ
وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَآكُلُ اللَّحْمَ،
فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مني".
وكلُّ من لم يلزم نَفْسَهُ فِي تَعَبُّدِهِ وَأَوْرَادِهِ
بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، يَنْدَمُ وَيَتَرَهَّبُ
وَيَسُوْءُ مِزَاجُهُ وَيَفُوْتُهُ خَيْرٌ كَثِيْرٌ مِنْ
متابعة سنة نبيه الرءوف الرحيم بالمؤمنين، والحريص عَلَى
نَفْعِهِم، وَمَا زَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مُعَلِّماً لِلأُمَّةِ أَفْضَلَ الأَعْمَالِ،
وَآمِراً بِهَجْرِ التَّبَتُّلِ وَالرَّهْبَانِيَّةِ
الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِهَا، فَنَهَى عَنْ سَرْدِ
الصَّوْمِ، وَنَهَى عَنِ الوِصَالِ، وَعَنْ قِيَامِ
أَكْثَرِ اللَّيْلِ إِلاَّ فِي العَشْرِ الأَخِيْرِ،
وَنَهَى عَنِ العُزْبَةِ لِلْمُسْتَطِيْعِ، وَنَهَى عَنْ
تَرْكِ اللحم، إلى غير ذلك من الأوامر وَالنَّوَاهِي.
فَالعَابِدُ بِلاَ مَعْرِفَةٍ لِكَثِيْرٍ مِنْ ذَلِكَ
مَعْذُوْرٌ مَأْجُوْرٌ، وَالعَابِدُ العَالِمُ بِالآثَارِ
المُحَمَّدِيَّةِ، المُتَجَاوِزِ لَهَا مَفْضُوْلٌ
مَغْرُوْرٌ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-
أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ. أَلْهَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ
حسن المتابعة وجنبنا الهوى والمخالفة.
وأورد في "السير" "5/ 391":
أيوب، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إِنَّمَا أَنْزَل اللهُ
مُتَشَابِهَ القرآن ليُضَلَّ به.
فتعقبه الحافظ الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَذِهِ عِبَارَةٌ
رَدِيْئَةٌ، بَلْ إِنَّمَا أَنْزَلَهُ اللهُ -تَعَالَى-
لِيَهْدِيَ بِهِ المُؤْمِنِيْنَ، وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلاَّ الفَاسِقِيْنَ، كَمَا أَخْبَرَنَا -عَزَّ وَجَلَّ-
في سورة البقرة.
(1/42)
وقال في "السير" "6/ 587":
مِنْ أُصُوْلِ أَهْلِ القَدَرِ، فَإِنَّ عِنْدَهُم لاَ
نَجَاةَ إِلاَّ بِعَمَلٍ، فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ،
فَيَحُضُّونَ عَلَى الاجْتِهَادِ فِي العَمَلِ، وَلَيْسَ
بِهِ النَّجَاةُ وحده دون رحمة الله.
وقال في "السير" "5/ 392":
قَالَ مُصْعَبُ بنُ عَبْدِ اللهِ الزُّبَيْرِيُّ: كَانَ
عِكْرِمَةُ يَرَى رَأْيَ الخَوَارِجِ، فَطَلَبَهُ
مُتَوَلِّي المَدِيْنَةِ، فَتَغَيَّبَ عِنْدَ دَاوُدَ بنِ
الحُصَيْنِ حَتَّى مَاتَ عنده.
فعقب الحافظ الذهبي -رحمه الله- بقوله: قُلْتُ: وَلِهَذَا
يَنْفَرِدُ عَنْهُ دَاوُدُ بِأَشْيَاءَ تُسْتَغْرَبُ،
وَكَثِيْرٌ مِنَ الحُفَّاظِ عَدُّوا تِلْكَ الإِفْرَادَاتِ
مَنَاكِيْرَ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا انْفَرَدَ بِهَا مِثْلُ
ابْنِ إسحاق ونحوه. وقال في "المسير" "5/ 486":
عمرو بن شعيب ثقة في نفسه، وروايته عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ
جَدِّهِ إِمَّا مُنْقَطِعَةٌ أَوْ مُرْسَلَةٌ، وَلاَ
رَيْبَ أَنَّ بَعْضَهَا مِنْ قَبِيْلِ المُسْنَدِ
المُتَّصِلِ، وَبَعْضُهَا يَجُوْزُ أَنْ تَكُوْنَ
رِوَايَتُهُ وِجَادَةً أَوْ سَمَاعاً، فَهَذَا مَحَلُّ
نَظَرٍ وَاحْتِمَالٍ، وَلَسْنَا مِمَّنْ نَعُدُّ نُسْخَةَ
عَمْرٍو، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ مِنْ أَقْسَامِ
الصَّحِيْحِ الَّذِي لاَ نِزَاعَ فِيْهِ مِنْ أَجْلِ
الوِجَادَةِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنَّ فِيْهَا مَنَاكِيْرَ،
فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَأَمَّلَ حَدِيْثُهُ، وَيَتَحَايَدَ
مَا جَاءَ مِنْهُ مُنْكَراً، وَيُرْوَى مَا عَدَا ذَلِكَ
فِي السُّنَنِ وَالأَحْكَامِ مُحَسِّنِيْنَ لإِسْنَادِهِ،
فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ أَئِمَّةٌ كِبَارٌ، وَوَثَّقُوْهُ
فِي الجملة، وتوقف آخَرُوْنَ قَلِيْلاً، وَمَا عَلِمْتُ
أَنَّ أَحَداً تَرَكَهُ.
وقال في "السير" "4/ 207":
كَانَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ صفِّين مَا هو
أبلغ من السَّب، فَإِنْ صحَّ شيءٌ، فَسَبِيْلُنَا الكَفُّ
وَالاسْتِغْفَارُ لِلصَّحَابَةِ، وَلاَ نُحِبُّ مَا شَجَرَ
بَيْنَهُم، وَنَعُوْذُ بِاللهِ منه، ونتولى أمير المؤمنين
عليًا.
وقال "6/ 106":
كان النَّاسُ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ بَعْدَ وَقْعَةِ
صِفِّيْنَ عَلَى أَقسَامٍ: أَهْلُ سُنَّةٍ: وَهُم أُوْلُو
العِلْمِ، وَهُم مُحِبُّوْنَ لِلصَّحَابَةِ، كَافُّوْنَ
عَنِ الخَوضِ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُم؛ كسَعْدٍ، وَابْنِ
عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بنِ مسلمة، وَأُمَمٍ. ثُمَّ شِيْعَةٌ:
يَتَوَالَوْنَ، وَيَنَالُوْنَ مِمَّنْ حَارَبُوا عَلِيّاً،
وَيَقُوْلُوْنَ: إِنَّهُم مُسْلِمُوْنَ بُغَاةٌ ظَلَمَةٌ.
ثُمَّ نَوَاصِبُ: وَهُمُ الَّذِيْنَ حَارَبُوا عَلِيّاً
يَوْمَ صِفِّيْنَ، وَيُقِرُّوْنَ بِإِسْلاَمِ عليٍّ
وَسَابِقِيْه، وَيَقُوْلُوْنَ: خَذَلَ الخَلِيْفَةَ
عُثْمَانَ. فَمَا عَلِمتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ
شِيْعِيّاً كَفَّرَ مُعَاوِيَةَ وَحِزْبَهُ، وَلاَ
نَاصِبِيّاً كَفَّرَ عَلِيّاً وَحِزْبَهُ بَلْ دَخَلُوا
فِي سبٍّ وَبُغْضٍ، ثُمَّ صار اليوم شيعة زماننا يكفرون
(1/43)
الصحابة، ويبرءون مِنْهُم جَهلاً
وَعُدوَاناً، وَيَتَعَدُّوْنَ إِلَى الصِّدِّيْقِ
قَاتَلَهُمُ اللهُ. وَأَمَّا نَوَاصِبُ وَقْتِنَا
فَقَلِيْلٌ، وَمَا عَلِمتُ فيهم من يكفر عليا ولا صحابيا.
وقال في "السير" "7/ 57-58":
مَنْ سَكَتَ عَنْ تَرحُّمِ مِثْلِ الشَّهِيْدِ أَمِيْرِ
المُؤْمِنِيْنَ عُثْمَانَ، فَإِنَّ فِيْهِ شَيْئاً مِنْ
تَشَيُّعٍ، فَمَنْ نَطَقَ فِيْهِ بِغَضٍّ وَتَنَقُّصٍ،
وَهُوَ شِيْعِيٌّ جَلْدٌ يُؤَدَّبُ، وَإِنْ تَرَقَّى إِلَى
الشَّيْخَيْنِ بِذَمٍّ، فَهُوَ رَافِضِيٌّ خَبِيْثٌ،
وَكَذَا مَنْ تَعرَّضَ لِلإِمَامِ عَلِيٍّ بِذَمٍّ، فَهُوَ
نَاصِبِيٌّ يُعَزَّرُ، فَإِنْ كَفَّرَهُ فَهُوَ خَارِجِيٌّ
مَارِقٌ، بَلْ سَبِيْلُنَا أَنْ نَستغفِرَ للكل، ونحبهم،
ونكف عما شجر بينهم.
ثم قال في "السير" "7/ 252":
التشيع الذي لا محذوف فِيْهِ إِنْ شَاءَ اللهُ إِلاَّ مِنْ
قَبِيْلِ الكَلاَمِ فِيْمَنْ حَارَبَ عَلِيّاً رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ قَبِيْحٌ
يُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ وَلاَ نَذكُرُ أَحَداً مِنَ
الصَّحَابَةِ إِلاَّ بِخَيْرٍ، وَنتَرَضَّى عَنْهُم،
وَنَقُوْلُ هُم طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ بَغَتْ
عَلَى الإِمَامِ عَلِيٍّ، وَذَلِكَ بِنصِّ قَوْلِ
المُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ لِعَمَّارٍ:
"تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ" 1. فنسأل الله أن يرضى
عن الجميع وَأَلاَّ يَجعَلَنَا مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ غِلٌّ
لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَلاَ نَرتَابُ أَنَّ عَلِيّاً أَفْضَلُ
مِمَّنْ حَارَبَه، وأنه أولى بالحق رضي الله عنه.
وقال في "السير" "6/ 210":
هشام بن عروة حُجَّةٌ مُطْلَقاً، وَلاَ عِبرَةَ بِمَا
قَالَهُ الحَافِظُ أَبُو الحَسَنِ بنُ القَطَّانِ مِنْ
أَنَّهُ هُوَ وَسُهَيْلُ بنُ أَبِي صَالِحٍ اخْتَلَطَا
وَتَغَيَّرَا، فَإِنَّ الحَافِظَ قَدْ يَتَغَيَّرُ حِفْظُه
إِذَا كَبِرَ، وَتَنْقُصُ حِدَّةُ ذِهْنِهِ، فَلَيْسَ هُوَ
فِي شَيْخُوْخَتِه كَهُوَ في شَبِيْبَتِه، وَمَا ثَمَّ
أَحَدٌ بِمَعْصُوْمٍ مِنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا
هَذَا التَّغَيُّرُ بِضَارٍّ أَصْلاً، وَإِنَّمَا الَّذِي
يَضُرُّ الاخْتِلاَطُ، وَهِشَامٌ فَلَمْ يَختَلِطْ قَطُّ،
هَذَا أَمْرٌ مَقْطُوْعٌ بِهِ، وَحَدِيْثُه مُحْتَجٌّ بِهِ
في "الموطأ، وَ"السُّنَنِ" فَقَوْلُ ابْنِ القَطَّانِ:
إِنَّهُ اخْتُلِطَ، قَوْلٌ مَرْدُوْدٌ مَرذُولٌ فَأَرِنِي
إِمَاماً مِنَ الكِبَارِ سَلِمَ مِنَ الخَطَأِ وَالوَهمِ.
فَهَذَا شُعْبَةُ، وَهُوَ فِي الذِّرْوَةِ، لَهُ أَوهَامٌ،
وَكَذَلِكَ مَعْمَرٌ، وَالأَوْزَاعِيُّ، ومالك، رحمة الله
عليهم.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2915" "70"، وأحمد "5/ 306 و307"
وراجع تخريجنا له في المصدر المشار إليه
.
(1/44)
وقال الحافظ في "السير" "3/ 226":
لم يصح الخبر الذي أعلم فِيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَبَّاس أن الخلافة تئول إلى
ولده, وَلَكِنَّ آلَ العَبَّاسِ كَانَ النَّاسُ
يُحِبُّونَهُم، وَيُحِبُّوْنَ آل علي، ويودون أن الأمر
يئول إِلَيْهِم، حُبّاً لآلِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبُغْضاً فِي آلِ مَرْوَانَ
بنِ الحَكَمِ، فَبَقُوا يَعْمَلُوْنَ عَلَى ذَلِكَ
زَمَاناً حَتَّى تَهَيَّأَتْ لَهُمُ الأَسبَابُ،
وَأَقبَلَتْ دَوْلَتُهُم، وَظَهَرَتْ مِنْ خراسان.
ثم قال الحافظ -رحمه الله: فَرِحنَا بِمَصِيْرِ الأَمْرِ
إِلَيْهِم، وَلَكِنْ -وَاللهِ- سَاءنَا مَا جَرَى؛ لِمَا
جَرَى مِنْ سُيُولِ الدِّمَاءِ، وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ
فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ فالدولة
العادلة مَعَ الأَمنِ وَحَقنِ الدِّمَاءِ وَلاَ دَوْلَةً
عَادلَةً تُنتَهَكُ دُوْنَهَا المَحَارِمُ وَأَنَّى لَهَا
العَدْلُ؟ بَلْ أَتَتْ دَوْلَةً أَعْجَمِيَّةً
خُرَاسَانِيَّةً جَبَّارَةً، مَا أَشْبَهَ الليلة
بالبارحة.
وقال في "السير" "6/ 267":
لا ريب أن ابن إسحاق في "مغازية" قد كثَّرَ وَطوَّلَ
بِأَنْسَابٍ مُسْتَوْفَاةٍ، اخْتصَارُهَا أَملحُ،
وَبأَشعَارٍ غَيْرِ طَائِلَةٍ، حَذفُهَا أَرْجَحُ،
وَبآثَارٍ لَمْ تُصحَّحْ، مَعَ أَنَّهُ فَاتَهُ شَيْءٌ
كَثِيْرٌ مِنَ الصَّحِيْحِ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ،
فَكِتَابُهُ مُحْتَاجٌ إِلَى تَنقِيحٍ وَتَصْحِيْحٍ
وَرِوَايَةِ مَا فَاتَهُ. وَأَمَّا "مَغَازِي مُوْسَى بنِ
عُقْبَةَ"، فَهِي فِي مُجَلَّدٍ لَيْسَ بِالكَبِيْرِ،
سَمِعنَاهَا، وَغَالِبُهَا صَحِيْحٌ وَمُرْسَلٌ جَيِّدٌ،
لَكِنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ، تَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةِ
بَيَانٍ، وَتَتِمَّةٍ.
وَقَدْ أَحْسَنَ فِي عَملِ ذَلِكَ الحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ
البَيْهَقِيُّ فِي تَألِيْفِهِ المُسَمَّى بِكِتَابِ
"دَلاَئِلِ النُّبُوَّةِ".
وَقَدْ لَخَّصتُ أَنَا التَّرجمَةَ النَّبوِيَّةَ،
وَالمَغَازِي المَدَنِيَّةَ فِي أَوَّلِ "تَارِيْخِي
الكَبِيْرِ"، وَهُوَ كَامِلٌ فِي مَعنَاهُ إن شاء الله.
فما أعظم الذهبي هذا الناقد الحاذق.
وقال في "السير" "6/ 411":
قَالَ الوَلِيْدُ بنُ مُسْلِمٍ: سَأَلْتُ الأَوْزَاعِيَّ،
وَسَعِيْدَ بنَ عَبْدِ العَزِيْزِ, وَابْنَ جُرَيْجٍ:
لِمَنْ طَلبتُمُ العلم؟ كلهم يقول: لنفسي غير ابن جريج،
فإنه قال: طلبته للناس.
فعقب الذهبي الناقد البصير بقوله: قُلْتُ: مَا أَحْسَنَ
الصِّدْقَ وَاليَوْمَ تَسْألُ الفَقِيْهَ الغَبِيَّ:
لِمَنْ طَلبتَ العِلْمَ؟ فَيُبَادِرُ، وَيَقُوْلُ:
طَلبتُهُ للهِ، وَيَكْذِبُ، إِنَّمَا طَلبَهُ لِلدُّنْيَا
وَيَا قِلَّةَ ما عرف منه.
(1/45)
وقال أيضا في "السير" "6/ 570":
قَالَ عَوْنُ بنُ عُمَارَةَ: سَمِعْتُ هِشَاماً
الدَّسْتُوَائِيَّ يَقُوْلُ: وَاللهِ مَا أَسْتَطِيْعُ
أَنْ أَقُوْلَ إِنِّي ذَهَبتُ يَوْماً قَطُّ أَطْلُبُ
الحَدِيْثَ، أُرِيْدُ بِهِ وجه الله عز وجل.
فعقب الذهبي الناقد "6/ 570-571" بقوله:
قُلْتُ: وَاللهِ وَلاَ أَنَا، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ
يطلبون العلم لله، قنبلوا، وَصَارُوا أَئِمَّةً يُقتَدَى
بِهِم، وطَلَبَهُ قَوْمٌ مِنْهُم أَوَّلاً لاَ للهِ،
وَحَصَّلُوْهُ ثُمَّ اسْتَفَاقُوا، وَحَاسَبُوا
أَنْفُسَهُم، فَجَرَّهُمُ العِلْمُ إِلَى الإِخْلاَصِ فِي
أَثنَاءِ الطَّرِيْقِ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُ:
طَلَبْنَا هَذَا العِلْمَ وَمَا لَنَا فِيْهِ كَبِيْرُ
نِيَّةٍ، ثُمَّ رَزَقَ اللهُ النِّيَّةَ بَعْدُ.
وَبَعْضُهُم يَقُوْلُ: طَلَبْنَا هَذَا العِلْمَ لِغَيْرِ
اللهِ فَأَبَى أَنْ يَكُوْنَ إِلاَّ للهِ، فَهَذَا أَيْضاً
حَسَنٌ, ثُمَّ نَشَرُوْهُ بنية صالحة.
وقوم طلبوه بنية لأَجْلِ الدُّنْيَا، وَلِيُثْنَى
عَلَيْهِم، فَلَهُم مَا نَوَوْا. قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
وَالسَّلاَمُ: "مَنْ غَزَا يَنْوِي عِقَالاً، فَلَهُ مَا
نَوَى". وَترَى هَذَا الضَّربَ لَمْ يستضيئوا بِنُوْرِ
العِلْمِ، وَلاَ لَهُم وَقْعٌ فِي النُّفُوْسِ، ولا لعلمهم
كبير نتيجة من العلم، وَإِنَّمَا العَالِمُ مَنْ يَخشَى
اللهَ تَعَالَى.
وَقَوْمٌ نَالُوا العِلْمَ، وَوُلُّوا بِهِ المَنَاصِبَ
فَظَلَمُوا, وَتَرَكُوا القيد بِالعِلْمِ، وَرَكِبُوا
الكَبَائِرَ وَالفَوَاحِشَ، فَتَبّاً لَهُم، فَمَا
هَؤُلاَءِ بِعُلَمَاءَ!
وَبَعْضُهُم لَمْ يَتَقِّ اللهَ فِي عِلْمِهِ، بَلْ رَكِبَ
الحِيَلَ، وَأَفْتَى بِالرُّخَصِ، وَرَوَى الشَّاذَّ مِنَ
الأَخْبَارِ.
وَبَعْضُهُم اجْتَرَأَ عَلَى اللهِ وَوَضَعَ
الأَحَادِيْثَ، فَهَتَكَهُ اللهُ وَذَهَبَ عِلْمُهُ،
وَصَارَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ وَهَؤُلاَءِ الأَقسَامُ
كُلُّهُم رَوَوْا مِنَ العِلْمِ شَيْئاً كَبِيْراً،
وَتَضَلَّعُوا مِنْهُ فِي الجُمْلَةِ فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِم خَلْفٌ باَنَ نَقْصُهُم فِي العِلْمِ
وَالعَمَلِ, وَتَلاَهُم قَوْمٌ انْتَمَوْا إِلَى العِلْمِ
فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُتْقِنُوا مِنْهُ سِوَى نَزْرٍ
يَسِيْرٍ، أَوْهَمُوا بِهِ أَنَّهُم عُلَمَاءُ فُضَلاَءُ،
وَلَمْ يَدُرْ فِي أَذهَانِهِم قَطُّ أَنَّهُم
يَتَقَرَّبُوْنَ بِهِ إِلَى اللهِ؛ لأَنَّهُم مَا رَأَوْا
شَيْخاً يُقْتَدَى بِهِ فِي العِلْمِ فَصَارُوا هَمَجاً
رَعَاعاً، غَايَةُ المُدَرِّسِ مِنْهُم أَنْ يُحَصِّلَ
كُتُباً مُثَمَّنَةً، يَخْزُنُهَا، وَيَنْظُرُ فِيْهَا
يَوْماً مَا، فَيُصَحِّفُ مَا يُوْرِدُهُ، وَلاَ
يُقَرِّرُهُ. فَنَسْأَلُ اللهَ النَّجَاةَ وَالعَفْوَ،
كَمَا قَالَ بَعْضُهُم: مَا أَنَا عَالِمٌ، وَلاَ رأيت
عالما.
(1/46)
وقال الحافظ في "السير" "7/ 73":
عَلاَمَةُ المُخْلِصِ الَّذِي قَدْ يُحبُّ شُهرَةً، وَلاَ
يَشعُرُ بِهَا، أَنَّهُ إِذَا عُوتِبَ فِي ذَلِكَ، لا يحرد
ولا يبرئ نفسهن بَلْ يَعترِفُ، وَيَقُوْلُ: رَحِمَ اللهُ
مَنْ أَهدَى إِلَيَّ عُيُوبِي، وَلاَ يَكُنْ مُعجَباً
بِنَفْسِهِ؛ لاَ يشعر بعيوبها، بل لا يشعر أنه يشعر، فإن
هذا داء مزمن.
وقال في "السير" "6/ 480":
قال عَبْدُ الرَّزَاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: كَانَ
يُقَالُ: إِنَّ الرَّجُلَ يَطلُبُ العِلْمَ لِغَيْرِ
اللهِ، فَيَأْبَى عليه العلم حتى يكون لله.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: نَعَمْ يَطلُبُهُ أَوَّلاً،
وَالحَامِلُ لَهُ حُبُّ العِلْمِ، وَحُبُّ إِزَالَةِ
الجَهْلِ عَنْهُ، وَحُبُّ الوَظَائِفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ،
وَلَمْ يَكُن عَلِمَ وُجُوبَ الإِخْلاَصِ فِيْهِ، وَلاَ
صِدْقَ النِّيَّةِ، فَإِذَا عَلِمَ، حَاسَبَ نَفْسَهُ،
وَخَافَ مِنْ وَبَالِ قَصدِهِ، فَتَجِيئُه النِّيَّةُ
الصَّالِحَةُ كُلُّهَا، أَوْ بَعْضُهَا، وَقَدْ يَتُوبُ
مِنْ نِيَّتِهِ الفَاسِدَةِ وَيَندَمُ. وَعَلاَمَةُ
ذَلِكَ: أَنَّهُ يُقْصِرُ مِنَ الدَّعَاوَى وَحُبِّ
المُنَاظَرَةِ، وَمَنْ قَصْدِ التَّكَثُّرِ بِعِلْمِهِ،
وَيُزْرِي عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ تَكَثَّرَ بِعِلْمِهِ،
أَوْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْ فُلاَنٍ، فَبُعْداً له.
وقال في "السير" "6/ 437-438":
رَوَى مِسْعَرٌ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: ذِكْرُ الناس
داء، وذكر الله دواء.
وتعقبه الذهبي بقوله: إِيْ وَاللهِ، فَالعجَبُ مِنَّا،
وَمِنْ جَهلِنَا، كَيْفَ نَدَعُ الدَّوَاءَ، وَنقتحِمُ
الدَّاءَ؟ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ} [البَقَرَةُ: 152] ، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ} [العَنْكَبُوْتُ: 45] ، وَقَالَ: {الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا
بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرَّعْدُ: 28]
، وَلَكِنْ لاَ يَتَهَيَّأُ ذَلِكَ إِلاَّ بِتوفِيْقِ
اللهِ، وَمَنْ أَدْمَنَ الدُّعَاءَ، وَلاَزَمَ قَرْعَ
البَابِ، فُتِحَ لَهُ.
وقال الحافظ الذهبي عن أبي الفرج بن الجوزي: ما علمت أن
أحدا صنف ما صنف هذا الرجل. وقال يوما في مناجاته: إلهي لا
تعذب لسانا يخبر عنك، ولا عينا تنظر إلى علوم تدل عليك،
ولا قدما تمشي إلى خدمتك، ولا يدا تكتب حديث رسولك فبعزتك
لا تدخلني النار، فقد علم أهلها أني كنت أذب عن دينك. نقله
عن الذهبي ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب "4/ 331".
(1/47)
وقال الذهبي في "السير" "6/ 412":
كان ابْنُ جُرَيْجٍ يَرْوِي الرِّوَايَةَ بِالإِجَازَةِ،
وَبِالمُنَاوَلَةِ، وَيَتوسَّعُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ
دَخَلَ عَلَيْهِ الدَّاخلُ فِي رِوَايَاتِه عَنِ
الزُّهْرِيِّ، لأَنَّهُ حَملَ عَنْهُ مُنَاوَلَةً،
وَهَذِهِ الأَشْيَاءُ يَدْخُلُهَا التَّصحِيْفُ، وَلاَ
سِيَّمَا فِي ذَلِكَ العَصْرِ، لَمْ يَكُنْ حَدَثَ فِي
الخط بعد شكل ولا نقط.
ثم قال: قَالَ أَبُو غَسَّانَ زُنَيْجٌ: سَمِعْتُ
جَرِيْراً الضَّبِّيَّ يَقُوْلُ: كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ
يَرَى المُتْعَةَ، تَزَوَّجَ بِسِتِّيْنَ امْرَأَةً!
وَقِيْلَ: إِنَّهُ عَهدَ إِلَى أَوْلاَدِه في أسمائهن،
لئلا يغلط أحد منهم يتزوج واحدة مما نكح أبوه بالمتعة!
ثم قال: في "السير" "6/ 413":
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الحَكَمِ،
سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: اسْتمتَعَ ابْنُ
جُرَيْجٍ بِتِسْعِيْنَ امْرَأَةً، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ
يَحتقِنُ فِي اللَّيْلِ بأوقية شيرج، طلبا للجماع.
وقال -رحمه الله- "6/ 496":
لَسْنَا نَدَّعِي فِي أَئِمَّةِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيْلِ
العِصْمَةَ مِنَ الغَلَطِ النَّادِرِ، وَلاَ مِنَ
الكَلاَمِ بنَفَسٍ حَادٍّ فِيْمَنْ بَيْنَهُم وَبَيْنَهُ
شَحنَاءُ وَإِحْنَةٌ، وَقَدْ علم أن كثير مِنْ كَلاَمِ
الأَقْرَانِ بَعْضِهِم فِي بَعْضٍ مُهدَرٌ، لاَ عِبْرَةَ
بِهِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا وَثَّقَ الرجل جماعة يلوح على
قولهم الإنصاف. ومحمد بن إسحاق ومالك بن أنس كُلٌّ
مِنْهُمَا قَدْ نَالَ مِنْ صَاحِبِه، لَكِنْ أَثَّرَ
كَلاَمُ مَالِكٍ فِي مُحَمَّدٍ بَعْضَ اللِّيْنِ، وَلَمْ
يُؤثِّرْ كَلاَمُ مُحَمَّدٍ فِيْهِ وَلاَ ذَرَّةٍ، وارتفع
مالك، وصار كالنجم، والآخر فَلَهُ ارْتفَاعٌ بِحَسْبِهِ,
وَلاَ سِيَّمَا فِي السِّيَرِ، وَأَمَّا فِي أَحَادِيْثِ
الأَحكَامِ، فَيَنحَطُّ حَدِيْثُه فِيْهَا عَنْ رُتْبَةِ
الصِّحَّةِ إِلَى رُتْبَةِ الحَسَنِ إِلاَّ فِيْمَا شَذَّ
فِيْهِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ مُنْكَراً هَذَا الذي عندي في
حاله، والله أعلم.
وقال في "السير" "6/ 518":
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الحَكَمِ:
سمعت الشافعي يقول: قال حجاج ابن أَرْطَاةَ: لاَ تَتُمُّ
مُرُوءةُ الرَّجُلِ حَتَّى يَترُكَ الصلاة في الجماعة.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: لَعَنَ اللهُ هَذِهِ
المُرُوءةَ، مَا هِيَ إِلاَّ الحُمْقُ وَالكِبْرُ كَيْلاَ
يُزَاحِمُه السُّوْقَةُ وَكَذَلِكَ تَجدُ رُؤَسَاءَ
وَعُلَمَاءَ يُصَلُّونَ فِي جَمَاعَةٍ فِي غَيْرِ صَفٍّ،
أَوْ تُبسَطُ لَهُ سُجَّادَةٌ كَبِيْرَةٌ حَتَّى لاَ
يَلتَصِقَ بِهِ مُسْلِمٌ، فَإِنَّا للهِ.
(1/48)
وقال في "السير" "6/ 530":
كَرِهَ طَائِفَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ قِرَاءةَ حَمْزَةَ،
لِمَا فِيْهَا مِنَ السَّكْتِ، وَفَرطِ المَدِّ
وَاتِّبَاعِ الرَّسمِ والإضجاع -أي الإمالة- وَأَشْيَاءَ
ثُمَّ اسْتَقَرَّ اليَوْمَ الاتِّفَاقُ عَلَى قَبُولِهَا
وبعضٌ كان حمزة لا يراه.
وقال "6/ 562":
محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب أَقدَمُ لُقْيَا
لِلْكِبَارِ مِنْ مَالِكٍ وَلَكِنَّ مَالِكاً أَوسَعُ
دَائِرَةً فِي العِلْمِ وَالفُتْيَا وَالحَدِيْثِ
وَالإِتقَانِ منه بكثير.
ثم قال "6/ 563": قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: بَلَغَ
ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّ مَالِكاً لَمْ يَأْخُذْ
بِحَدِيْثِ: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ". فَقَالَ:
يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَوْرَعُ وَأَقْوَلُ بالحق من
مالك.
فتعقبه الذهبي "6/ 564" بقوله:
قُلْتُ: لَوْ كَانَ وَرِعاً كَمَا يَنْبَغِي، لَمَا قَالَ
هَذَا الكَلاَمَ القَبِيْحَ فِي حَقِّ إِمَامٍ عَظِيْمٍ،
فَمَالِكٌ إِنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِظَاهِرِ الحَدِيْثِ
لأَنَّهُ رَآهُ مَنْسُوْخاً وَقِيْلَ: عَمِلَ بِهِ،
وَحَمَلَ قَوْلَه: "حَتَّى يَتَفَرَّقَا" عَلَى
التَّلَفُّظِ بِالإِيجَابِ وَالقَبُولِ، فَمَالِكٌ فِي
هَذَا الحَدِيْثِ، وَفِي كُلِّ حَدِيْثٍ لَهُ أَجْرٌ وَلاَ
بُدَّ، فَإِنْ أَصَابَ، ازْدَادَ أَجراً آخَرَ، وَإِنَّمَا
يَرَى السَّيْفَ عَلَى مَنْ أخطأ في اجتهاده الحرورية -أي
الخوارج- وَبِكُلِّ حَالٍ: فَكَلاَمُ الأَقْرَانِ
بَعْضِهِم فِي بَعْضٍ لاَ يُعَوَّلُ عَلَى كَثِيْرٍ
مِنْهُ، فَلاَ نَقَصَتْ جَلاَلَةُ مَالِكٍ بِقَوْلِ ابْنِ
أَبِي ذِئْبٍ فِيْهِ، وَلاَ ضَعَّفَ العُلَمَاءُ ابْنَ
أَبِي ذِئْبٍ بِمَقَالَتِهِ هَذِهِ، بَلْ هُمَا عَالِمَا
المَدِيْنَةِ فِي زَمَانِهِمَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-
وَلَمْ يُسنِدْهَا الإِمَامُ أَحْمَدُ، فلعلها لم تصح.
وقال في "السير" "8/ 276-278":
كَلاَمُ الأَقْرَانِ إِذَا تَبَرْهَنَ لَنَا أَنَّهُ
بِهَوَىً وَعَصَبِيَّةٍ، لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، بَلْ
يُطْوَى وَلاَ يُرْوَى, كَمَا تَقَرَّرَ عَنِ الكَفِّ عَنْ
كَثِيْرٍ مِمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَقِتَالِهِم
رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْنَ، وَمَا زَالَ يَمُرُّ
بِنَا ذَلِكَ فِي الدَّوَاوينِ، وَالكُتُبِ،
وَالأَجْزَاءِ، وَلَكِنْ أَكْثَرُ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ،
وضَعِيْفٌ وَبَعْضُهُ كَذِبٌ وَهَذَا فِيْمَا
بِأَيْدِيْنَا وَبَيْنَ عُلُمَائِنَا, فَيَنْبَغِي طَيُّهُ
وَإِخْفَاؤُهُ، بَلْ إِعْدَامُهُ، لِتَصْفُوَ القُلُوْبُ
وَتَتَوَفَّرَ عَلَى حُبِّ الصَّحَابَةِ وَالتَّرَضِّي
عَنْهُمُ، وَكُتْمَانُ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَنِ
العَامَّةِ، وَآحَادِ
(1/49)
العُلَمَاءِ، وَقَدْ يُرَخَّصُ فِي
مُطَالعَةِ ذَلِكَ خَلْوَةً لِلْعَالِمِ المُنْصِفِ،
العَرِيِّ مِنَ الهَوَى، بِشَرْطِ أَنْ يستغفر لهم، كما
علمنا الله -تعالى- حيث يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا}
[الحشرُ: 10] ، فَالقَوْمُ لَهُم سَوَابِقُ وأعمال مكفرة
لما وقع بينهم، وَجِهَادٌ مَحَّاءٌ، وَعُبَادَةٌ
مُمَحِّصَةٌ، وَلَسْنَا مِمَّنْ يَغْلُو فِي أَحَدٍ
مِنْهُم، وَلاَ نَدَّعِي فِيْهِم العِصْمَةَ، نَقْطَعُ
بِأَنَّ بَعْضَهُم أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَنَقْطَعُ
بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَفْضَلُ الأُمَّةِ، ثُمَّ
تَتِمَّةُ العَشْرَةِ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ،
وَحَمْزَةُ، وَجَعْفَرٌ وَمُعَاذٌ وَزَيْدٌ، وَأُمَّهَاتُ
المُؤْمِنِيْنَ، وَبنَاتُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلُ بَدْرٍ مَعَ كَوْنِهِم عَلَى
مَرَاتِبَ ثُمَّ الأَفْضَلُ بَعْدَهُم مِثْلَ أَبِي
الدَّرْدَاءِ، وَسَلْمَانَ الفَارِسِيِّ، وَابْنِ عُمَرَ،
وَسَائِرِ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، الَّذِيْنَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُم بِنَصِّ آيَةِ سُوْرَةِ الفَتْحِ
ثُمَّ عُمُوْمُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ كخَالِدِ بنِ
الوَلِيْدِ وَالعَبَّاسِ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو،
وَهَذِهِ الحَلْبَةُ, ثُمَّ سَائِرُ مَنْ صَحِبَ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاهَدَ مَعَهُ
أَوْ حَجَّ مَعَهُ أَوْ سَمِعَ مِنْهُ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمُ أَجْمَعِيْنَ- وَعَنْ جَمِيْعِ صَوَاحِبِ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المُهَاجِرَاتِ وَالمَدَنِيَّاتِ وَأَمِّ الفَضْلِ وَأَمِّ
هَانِئٍ الهَاشِمِيَّةِ, وَسَائِرِ الصَّحَابِيَّاتِ.
فَأَمَّا مَا تَنْقُلُهُ الرَّافِضَةُ، وَأَهْلُ البِدَعِ
فِي كُتُبِهِم مِنْ ذَلِكَ فَلاَ نُعَرِّجُ عَلَيْهِ وَلاَ
كرَامَةَ، فَأَكْثَرُهُ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ
فَدَأْبُ الرَّوَافِضِ رِوَايَةُ الأَبَاطِيْلِ، أوْ ردِّ
مَا فِي الصحاح والمسانيد ومتى إفاقة من به سكر؟! ثُمَّ
قَدْ تَكَلَّمَ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعِيْنَ بَعْضُهُم فِي
بَعْضٍ وَتحَارَبُوا، وَجَرَتْ أُمُورٌ لاَ يُمْكِنُ
شَرْحُهَا فَلاَ فَائِدَةَ فِي بَثِّهَا، وَوَقَعَ فِي
كُتُبِ التَّوَارِيْخِ، وَكُتُبِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ
أُمُورٌ عَجِيْبَةٌ، والعاقل خصم نفسه، ومن حُسْنِ
إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيْهِ،
وَلُحُومُ العُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ، وَمَا نُقِلَ مِنْ
ذَلِكَ لِتَبْيِينِ غَلَطِ العَالِمِ، وَكَثْرَةِ
وَهْمِهِ، أَوْ نَقْصِ حِفْظِهِ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا
النَّمَطِ، بَلْ لِتَوضيحِ الحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ مِنَ
الحَسَنِ وَالحَسَنِ مِنَ الضَّعيفِ.
وإمامنا الشافعي فَبِحَمْدِ اللهِ ثَبْتٌ فِي الحَدِيْثِ،
حَافِظٌ لِمَا وَعَى, عَدِيْمُ الغَلَطِ، مَوْصُوفٌ
بِالإِتْقَانِ, مَتِيْنُ الدِّيَانَةِ فَمَنْ نَالَ مِنْهُ
بِجَهْلٍ وَهوَىً, مِمَّنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُنَافسٌ لَهُ,
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَمَقَتَتْهُ العلماء, ولاح لكل
حافظ تخامله, وَجَرَّ النَّاسَ بِرِجْلِهِ، وَمَنْ أَثْنَى
عَلَيْهِ، وَاعْتَرفَ بإمامته وإتقانه، وهم أهل الحل
والعقد, قَدِيْماً وَحَدِيْثاً, فَقَدْ أَصَابُوا،
وَأَجْمَلُوا, وَهُدُوا, وَوُفِّقُوا.
وَأَمَّا أَئمَّتُنَا اليَوْمَ، وَحُكَّامُنَا، فَإِذَا
أَعْدَمُوا مَا وُجِدَ مِنْ قَدْحٍ بِهوَىً فَقَدْ
يُقَالُ: أَحْسَنُوا وَوُفِّقُوا وَطَاعَتُهُم فِي ذَلِكَ
مُفْتَرَضَةً، لِمَا قَدْ رَأَوهُ مِنْ حَسْمِ مَادَةِ
البَاطِلِ وَالشَّرِّ.
(1/50)
وبِكُلِّ حَالٍ فَالجُهَّالُ
وَالضُّلاَّلُ، قَدْ تَكَلَّمُوا فِي خِيَارِ
الصَّحَابَةِ، وَفِي الحَدِيْثِ الثَّابتِ: "لاَ أَحَدَ
أَصْبَرُ عَلَى أَذَىً يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ، إِنَّهُمْ
لَيَدْعُونَ لَهُ وَلداً، وَإِنَّهُ لَيَرْزُقُهُم
وَيُعَافِيَهُمْ" 1.
وَقَدْ كُنْتُ وَقَفْتُ عَلَى بَعْضِ كَلاَمِ المغَارِبَةِ
فِي الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- فَكَانَتْ فَائِدتِي
مِنْ ذَلِكَ تَضْعِيفُ حَالِ مَنْ تَعَرَّضَ إِلَى
الإِمَامِ، وَللهِ الحَمْدُ.
وَلاَ رَيْبَ أَنَّ الإِمَامَ لَمَّا سَكَنَ مِصْرَ،
وَخَالَفَ أَقْرَانَهُ مِنَ المَالِكيَّةِ، وَوَهَّى
بَعْضَ فُرُوْعِهِم بِدَلاَئِلِ السُّنَّةِ، وَخَالَفَ
شَيْخَهُ فِي مَسَائِلَ, تَأَلَّمُوا مِنْهُ، وَنَالُوا
مِنْهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُم وَحْشَةٌ، غَفَرَ اللهُ
لِلْكُلِّ. وَقَدِ اعتَرَفَ الإِمَامُ سُحْنُوْنُ،
وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي الشَّافِعِيِّ بِدْعَةٌ فَصَدَقَ
وَاللهِ، فَرَحِمَ اللهُ الشَّافِعِيَّ وَأَيْنَ مِثْلُ
الشَّافِعِيِّ وَاللهِ فِي صِدْقِهِ, وَشَرَفِهِ,
وَنُبلِهِ, وَسَعَةِ عِلْمِهِ, وَفَرْطِ ذَكَائِهِ,
وَنَصْرِهِ لِلْحَقِّ, وَكَثْرَةِ مَنَاقبِهِ رَحِمَهُ
اللهُ تعالى.
وقال في "السير" "8/ 278-279":
قَالَ الحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ فِي مَسْأَلَةِ
الاحْتِجَاجِ بِالإِمَامِ الشَّافِعِيِّ, فِيْمَا قَرَأْتُ
عَلَى أَبِي الفَضْلِ بنِ عَسَاكِرَ، عَنْ عَبْدِ
العَزِيْزِ بنِ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا يُوْسُفُ بنُ
أَيُّوْبَ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا الخَطِيْبُ قَالَ:
سَأَلَنِي بَعْضُ إِخْوَانِنَا بَيَانَ عِلَّةِ تَرْكِ
البُخَارِيِّ الرِّوَايَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي
"الجَامِعِ"؟ وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى
رَأْي أبي حنيفة ضعف أحاديث الشافعي، واعترض باعتراض
البُخَارِيِّ عَنْ رِوَايتِهِ، وَلَوْلاَ مَا أَخَذَ اللهُ
عَلَى العُلَمَاءِ فِيْمَا يَعْلَمُوْنَهُ
لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ، لَكَانَ أَوْلَى الأَشْيَاءِ
الإِعْرَاضُ عَنِ اعتِرَاضِ الجُهَّالِ، وَتَرْكُهُمْ
يَعْمَهُونَ. وَذَكَرَ لِي مَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ خُلُوَّ
كِتَابِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهُ مِنْ حَدِيْثِ الشَّافِعِيِّ
فَأَجَبْتُهُ بما فتح الله علي: وَمثلُ الشَّافِعِيِّ مَنْ
حُسِدَ، وَإِلَى سَتْرِ مَعَالِمِهِ قُصِدَ وَيَأْبَى
اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتَمَّ نُورَهُ، وَيُظْهِرَ مِنْ كُلِّ
حَقٍّ مَسْتُورَهُ، وَكَيْفَ لاَ يُغْبَطُ مَنْ حَازَ
الكَمَالَ، بِمَا جَمَعَ اللهُ لَهُ مِنَ الخِلاَلِ
اللَّوَاتِي لاَ يُنْكِرُهَا إِلاَّ ظَاهِرُ الجَهْلِ،
أَوْ ذَاهِبُ العَقْلِ. ثُمَّ أَخَذَ الخَطِيْبُ يُعَدِّدُ
عُلُوْمَ الإِمَامِ وَمنَاقبَهِ، وَتَعْظِيْمَ الأَئِمَّةِ
لَهُ وَقَالَ:
أَبَى اللهُ إِلاَّ رَفْعَهُ وَعُلُوَّهُ ... وليس بما
يُعْلِيهِ ذُو العَرْشِ وَاضِعُ
إِلَى أَنْ قَالَ: وَالبُخَارِيُّ هَذَّبَ مَا فِي
"جَامِعِهِ" غَيْرَ أَنَّهُ عَدَلَ عَنْ كَثِيْرٍ مِنَ
الأُصُوْلِ، إِيثَاراً لِلإِيجَازِ.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "6099"، ومسلم "2804"، وقد خرجته
بإسهاب في الموضع المشار إليه فراجعه ثمت.
(1/51)
قَالَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ مَعْقِلٍ:
سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: مَا أَدْخَلْتُ فِي
كتَابِيَ "الجَامِعَ" إِلاَّ مَا صَحَّ، وَتَرَكْتُ مِنَ
الصِّحَاحِ لِحَالِ الطُّولِ.
فَتَرْكُ البُخَارِيِّ الاحْتِجَاجَ بِالشَّافِعِيِّ،
إِنَّمَا هُوَ لاَ لِمَعْنَى يُوْجِبُ ضَعْفَهُ، لَكِن
غَنِيَ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، إِذْ أَقدَمُ
شُيُوْخِ الشَّافِعِيِّ: مَالِكٌ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ،
وَدَاوُدُ العَطَّارُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالبُخَارِيُّ
لَمْ يُدْرِكِ الشَّافِعِيَّ بَلْ لَقِيَ مَنْ هُوَ أَسنُّ
مِنْهُ كعُبَيْدِ اللهِ بنِ مُوْسَى، وَأَبِي عَاصِمٍ،
مِمَّنْ رَوَوا عَنِ التَّابِعِيْنَ، وَحَدَّثَهُ عَنْ
شُيُوْخِ الشَّافِعِيِّ عِدَّةٌ فَلَمْ يرَ أَنْ يَرْوِيَ
عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مَالِكٍ.
فَإِنْ قِيْلَ: فَقَدْ رَوَى عَنِ المُسْنَدِيِّ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ بنِ عَمْرٍو، عَنِ الفَزَارِيِّ، عَنْ
مَالِكٍ، فَلاَ شَكَّ أَنَّ البُخَارِيَّ سَمِعَ هَذَا
الخَبَرَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُوَ فِي
"المُوَطَّأِ" فَهَذَا يَنْقُضُ عَلَيْكَ؟!
قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يَرْوِ حَدِيْثاً نَازِلاً وَهُوَ
عِنْدَهُ عَالٍ، إِلاَّ لِمَعْنَى مَا يَجِدُهُ فِي
العَالِي، فَأَمَّا أَنْ يُورِدَ النَّازلَ وَهُوَ
عِنْدَهُ عَالٍ لاَ لِمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ، وَلاَ عَلَى
وَجْهِ المتَابعَةِ لِبَعْضِ مَا اخْتُلِفَ فِيْهِ،
فَهَذَا غَيْرُ مَوْجُوْدٍ فِي الكِتَابِ، وَحَدِيْثُ
الفَزَارِيِّ فِيْهِ بَيَانُ الخَبَرِ، وَهُوَ مَعْدُوْمٌ
فِي غَيْرِهِ، وَجَوَّدَهُ الفَزَارِيُّ بِتَصْرِيْحِ
السَّمَاعِ.
ثُمَّ سَرَدَ الخَطِيْبُ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ،
قَالَ: وَالبُخَارِيُّ يَتَّبِعُ الأَلْفَاظَ بِالخَبَرِ
فِي بَعْضِ الأَحَادِيْثَ وَيُرَاعِيهَا وَإِنَّا
اعْتَبَرْنَا رِوَايَاتِ الشَّافِعِيِّ الَّتِي ضَمَّنَهَا
كُتُبَهُ، فَلَمْ نَجِدْ فِيْهَا حَدِيْثاً وَاحِداً عَلَى
شَرْطِ البُخَارِيِّ أَغْرَبَ بِهِ، وَلاَ تَفَرَّدَ
بِمَعْنَى فِيْهِ يُشْبِهُ مَا بَيَّنَّاهُ. وَمثلُ ذَلِكَ
القَوْلِ فِي تَرْكِ مُسْلِمٍ إِيَّاهُ لإِدرَاكِهِ مَا
أَدْرَكَ البُخَارِيُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا أَبُو
دَاوُدَ، فَأَخْرَجَ فِي "سُنَنِهِ" لِلشَّافِعِيِّ غَيْرَ
حَدِيْثٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ
خُزَيْمَةَ، وابن أبي حاتم.
ثم سرد الخطيب فضلا فِي ثَنَاءِ مَشَايخِهِ وَأَقْرَانِهِ
عَلَيْهِ، ثُمَّ سَرَدَ أَشْيَاءَ فِي غَمْزِ بَعْضِ
الأَئِمَّةِ فَأَسَاءَ مَا شاء -أعني غامزه.
وقال في "السير" "11/ 300-301":
قال الشيخ محيي الدين النواوي: لابن المنذر مِنَ
التَّحْقِيْقِ فِي كُتُبِه مَا لاَ يُقَارِبُهُ فِيْهِ
أَحَدٌ، وَهُوَ فِي نِهَايَةٍ مِنَ التَّمكُّنِ مِنْ
مَعْرِفَة الحَدِيْثِ، وَلَهُ اخْتِيَارٌ فَلاَ يَتَقيَّدُ
فِي الاخْتِيَارِ بِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ، بَلْ يَدُورُ
مَعَ ظهور الدليل.
(1/52)
وعقب الحافظ الذهبي بقوله: قُلْتُ: مَا
يَتَقَيَّدُ بِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ إِلاَّ مَنْ هُوَ قَاصِرٌ
فِي التَّمَكُّنِ مِنَ العِلْمِ، كَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ
زَمَانِنَا، أَوْ مَنْ هُوَ مُتَعَصِّبٌ وَهَذَا الإمام
مِنْ حَمَلَةِ الحُجَّةِ، جَارٍ فِي مِضْمَارِ ابْنِ
جَرِيْرٍ، وَابْنِ سُرَيْجٍ وَتِلْكَ الحَلَبَةِ
رَحِمَهُمُ اللهُ.
وقال في "السير" "7/ 176-178":
من التزم بتقليد إمام، فإن لَهُ مُخَالَفَةُ إِمَامِهِ
إِلَى إِمَامٍ آخَرَ، حُجَّتُهُ فِي تِلْكَ المَسْأَلَةِ
أَقوَى، لاَ بَلْ عَلَيْهِ اتباع الدليل فيما تبرهن له،
ولا كَمَنْ تَمَذْهَبَ لإِمَامٍ، فَإِذَا لاَحَ لَهُ مَا
يُوَافِقُ هَوَاهُ، عَمِلَ بِهِ مِنْ أَيِّ مَذْهَبٍ
كَانَ، وَمَنْ تَتَبَّعَ رُخَصَ المَذَاهِبِ، وَزَلاَّتِ
المُجْتَهِدِيْنَ، قد رَقَّ دِيْنُهُ، كَمَا قَالَ
الأَوْزَاعِيُّ أَوْ غَيْرُهُ: مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ
المَكِّيِّيْنَ فِي المُتْعَةِ، وَالكُوْفِيِّيْنَ فِي
النَّبِيذِ، وَالمَدَنِيِّينَ فِي الغِنَاءِ،
وَالشَّامِيِّينَ فِي عصمة الخلفاء، وَنِكَاحِ
التَّحْلِيْلِ بِمَنْ تَوسَّعَ فِيْهِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ،
فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلانحِلاَلِ، فَنَسْأَلُ اللهَ
العَافِيَةَ وَالتَّوفِيْقَ.
وَلَكِنْ شَأْنُ الطَّالِبِ أَنْ يَدْرُسَ أَوَّلاً
مُصَنَّفاً فِي الفِقْهِ، فَإِذَا حَفِظَهُ، بَحَثَهُ
وَطَالَعَ الشُّرُوحَ، فَإِنْ كَانَ ذَكِيّاً فَقِيْهَ
النَّفْسِ وَرَأَى حُجَجَ الأَئِمَّةِ فَلْيُرَاقِبِ اللهَ
وَلْيَحْتَطْ لِدِيْنِهِ، فَإِنَّ خَيْرَ الدين الورع، ومن
ترك الشبهات فَقَدِ اسْتَبرَأَ لِدِيْنِهِ وَعِرْضِهِ
وَالمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ.
فَالمُقَلَّدُوْنَ صحَابَةُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرْطِ ثُبُوْتِ الإِسْنَادِ
إِلَيْهِم، ثُمَّ أَئِمَّةُ التَّابِعِيْنَ كَعَلْقَمَةَ،
وَمَسْرُوْقٍ, وَعَبِيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ, وَسَعِيْدِ
بنِ المُسَيِّبِ, وَأَبِي الشَّعْثَاءِ, وَسَعِيْدِ بنِ
جُبَيْرٍ، وَعُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ, وَعُرْوَةَ,
وَالقَاسِمِ, وَالشَّعْبِيِّ, وَالحَسَنِ، وَابْنِ
سِيْرِيْنَ، وَإِبْرَاهِيْمَ النَّخَعِيِّ. ثُمَّ
كَالزُّهْرِيِّ, وَأَبِي الزِّنَادِ, وَأَيُّوْبَ
السِّخْتِيَانِيِّ, وَرَبِيْعَةَ, وَطَبَقَتِهِم.
ثم كأبي حنيفة ومالك والأوزارعي وَابْنِ جُرَيْجٍ
وَمَعْمَرٍ وَابْنِ أَبِي عَرُوْبَةَ وَسُفْيَانَ الثوري
والحمادين وشعبة والليثي وَابْنِ المَاجِشُوْنِ وَابْنِ
أَبِي ذِئْبٍ ثُمَّ كَابْنِ المُبَارَكِ، وَمُسْلِمٍ
الزَّنْجِيِّ وَالقَاضِي أَبِي يُوْسُفَ والهِقْل بنِ
زِيَادٍ وَوَكِيْعٍ وَالوَلِيْدِ بنِ مُسْلِمٍ,
وَطَبَقَتِهِم.
ثُمَّ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَحْمَدَ
وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالبُوَيْطِيِّ وَأَبِي
بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ ثم كالمزني وأبي بكر بن
الأَثْرَمِ وَالبُخَارِيِّ وَدَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ
وَمُحَمَّدِ بنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ وَإِبْرَاهِيْمَ
الحَرْبِيِّ، وَإِسْمَاعِيْلَ القَاضِي.
(1/53)
ثُمَّ كَمُحَمَّدِ بنِ جَرِيْرٍ
الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي
عَبَّاسٍ بنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ المُنْذِرِ,
وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ
الخَلاَّلِ.
ثُمَّ مِنْ بَعْدِ هَذَا النَّمَطِ تناقص الاجتهاد، ووضعت
المختصرات، وأخذ الفُقَهَاءُ إِلَى التَّقْلِيْدِ مِنْ
غَيْرِ نَظَرٍ فِي الأَعْلَمِ، بَلْ بِحَسبِ الاتِّفَاقِ،
وَالتَّشَهِّي، وَالتَّعْظِيْمِ، وَالعَادَةِ، وَالبَلَدِ.
فَلَو أَرَادَ الطَّالِبُ اليَوْمَ أَنْ يَتَمَذْهَبَ فِي
المَغْرِبِ لأَبِي حَنِيْفَةَ، لَعَسُرَ عَلَيْهِ، كَمَا
لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَذْهَبَ لابْنِ حَنْبَلٍ
بِبُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ، لَصَعُبَ عَلَيْهِ، فَلاَ
يَجِيْءُ مِنْهُ حَنْبَلِيٌّ، وَلاَ مِنَ المَغْرِبِيِّ
حَنَفِيٌّ, وَلاَ مِنَ الهِنْدِيِّ مَالِكِيٌّ وَبِكُلِّ
حَالٍ: فَإِلَى فِقْهِ مَالِكٍ المُنْتَهَى، فَعَامَّةُ
آرَائِهِ مُسَدَّدَةٌ، وَلَو لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ
حَسمُ مَادَةِ الحِيَلِ، وَمُرَاعَاةُ المَقَاصِدِ
لَكَفَاهُ.
وَمَذْهَبُهُ قَدْ مَلأَ المَغْرِبَ وَالأَنْدَلُسَ،
وَكَثِيْراً مِنْ بِلاَدِ مِصْرَ، وَبَعْضَ الشَّامِ،
وَالِيَمَنَ، وَالسُّوْدَانَ، وَبِالبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ،
وَالكُوْفَةِ، وَبَعْضِ خُرَاسَانَ.
وَكَذَلِكَ اشْتُهِرَ مَذْهَبُ الأَوْزَاعِيِّ مُدَّةً
وَتَلاَشَى أَصْحَابُهُ، وَتَفَانَوْا. وَكَذَلِكَ
مَذْهَبُ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَمَّيْنَا وَلَمْ
يَبْقَ اليَوْمَ إِلاَّ هَذِهِ المَذَاهِبُ الأَرْبَعَةُ.
وَقَلَّ مَنْ يَنهَضُ بِمَعْرِفَتِهَا كَمَا يَنْبَغِي،
فَضْلاً عَنْ أَنْ يَكُوْنَ مجتهدا وانقطع أتباع ثَوْرٍ
بَعْدَ الثَّلاَثِ مائَةٍ، وَأَصْحَابُ دَاوُدَ إِلاَّ
القليل، وبقى مذهب جرير إلى ما بعد الأربعمائة.
وَللزَّيْدِيَّةِ مَذْهَبٌ فِي الفُرُوْعِ بِالحِجَازِ
وَبِاليَمَنِ، لَكِنَّهُ مَعْدُوْدٌ فِي أَقْوَالِ أَهْلِ
البِدَعِ، كَالإِمَامِيَّةِ، وَلاَ بَأْسَ بِمَذْهَبِ
دَاوُدَ، وَفِيْهِ أَقْوَالٌ حَسَنَةٌ، وَمُتَابَعَةٌ
لِلنُّصُوصِ، مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ العُلَمَاءِ لاَ
يَعتَدُّونَ بِخِلاَفِهِ، وَلَهُ شُذُوْذٌ فِي مَسَائِلَ
شَانَتْ مذهبه.
وأما القاضي عياض، فَذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ
تَقلِيْدِهِم إِجْمَاعاً، فإنه سمى المذاهب الأربعة
والسفيانية والأوزاعية، والداودية. ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ:
فَهَؤُلاَءِ الَّذِيْنَ وَقَعَ إِجْمَاعُ النَّاسِ عَلَى
تَقْلِيْدِهِم، مَعَ الاخْتِلاَفِ فِي أَعْيَانِهِم،
وَاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ عَلَى اتِّبَاعِهِم،
وَالاقْتِدَاءِ بِمَذَاهِبِهِم، وَدَرْسِ كُتُبِهِم،
وَالتَّفَقُّهِ عَلَى مَآخِذِهِم، وَالتَّفْرِيْعِ عَلَى
أُصُوْلِهِم، دُوْنَ غَيْرِهِم مِمَّنْ تَقَدَّمَهُم أَوْ
عَاصَرَهُم؛ لِلْعِلَلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَصَارَ النَّاسُ اليَوْمَ فِي الدُّنْيَا إلى خمسة مذاهب،
فالخامس: هو مذهب الداودية. حق عَلَى طَالِبِ العِلْمِ
أَنْ يَعْرِفَ أَوْلاَهُم بِالتَّقْلِيْدِ، لِيَحصَلَ
عَلَى مَذْهَبِهِ. وَهَا نَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ مَالِكاً
-رَحِمَهُ اللهُ- هُوَ ذَلِكَ؛ لِجَمعِهِ أَدَوَاتِ
الإِمَامَةِ، وَكَونِهِ أَعْلَمَ القَوْمِ.
(1/54)
ثُمَّ وَجَّهَ القَاضِي دَعوَاهُ،
وَحَسَّنَهَا، وَنَمَّقَهَا وَلَكِنْ مَا يَعْجِزُ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْ حَنَفِيٍّ، وَشَافِعِيٍّ، وحنبلي، وداودي
عَنِ ادِّعَاءِ مِثْلِ ذَلِكَ لِمَتْبُوعِه، بَلْ ذَلِكَ
لِسَانُ حَالِه، وَإِنْ لَمْ يَفُهْ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: وَعِنْدنَا -وَللهِ
الحَمْدُ- لِكُلِّ إِمَامٍ مِنَ المَذْكُوْرِيْنَ
مَنَاقِبُ تَقْضِي لَهُ بِالإِمَامَةِ.
فعقب الذهبي بقوله: قلت: ولكن مالكا هَذَا الإِمَامَ
الَّذِي هُوَ النَّجمُ الهَادِي قَدْ أَنْصَفَ، وَقَالَ
قَوْلاً فَصْلاً، حَيْثُ يَقُوْلُ: كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ
مِنْ قَوْلِه، وَيُتْرَكُ إِلاَّ صَاحِبَ هَذَا القَبْرِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلاَ رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مِنْ أَنِسَ مِنْ نَفْسِهِ
فِقهاً، وَسَعَةَ عِلْمٍ، وَحُسْنَ قَصدٍ، فَلاَ يَسَعُهُ
التزام بِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ أَقْوَالِه، لأَنَّهُ
قَدْ تبرهن له مذهب الغير فِي مَسَائِلَ وَلاَحَ لَهُ
الدَّلِيْلُ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ، فَلاَ
يُقَلِّدُ فِيْهَا إِمَامَهُ، بَلْ يَعْمَلُ بما تبرهن
ويقل الإِمَامَ الآخَرَ بِالبُرْهَانِ، لاَ بِالتَّشَهِّي
وَالغَرَضِ. لِكَنَّهُ لاَ يُفْتِي العَامَّةَ إِلاَّ
بِمَذْهَبِ إِمَامِه، أَوْ لِيَصمُتْ فِيْمَا خَفِيَ
عَلَيْهِ دَلِيْلُهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: العِلْمُ يَدُوْرُ عَلَى ثَلاَثَةٍ:
مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ عيينة.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: بَلْ وَعَلَى سَبْعَةٍ مَعَهُم
وَهُمُ: الأَوْزَاعِيُّ، والثوري، ومعمر، وأبو حنيفة،
وشعبة، والحمادان.
وقال في "السير" "10/ 273-274":
للعلماء قولان في الاعتداد بخلاف داود بن علي الظاهري،
فَمَنْ اعتَدَّ بِخِلاَفِهِم قَالَ: مَا اعْتِدَادُنَا
بِخِلاَفِهِم لأَنَّ مُفْرَدَاتِهِم حُجَّةٌ، بَلْ
لِتُحكَى فِي الجُمْلَةِ، وَبَعْضُهَا سَائِغٌ،
وَبَعْضُهَا قَوِيٌّ، وَبَعْضُهَا سَاقِطٌ، ثُمَّ مَا
تَفَرَّدُوا بِهِ هُوَ شَيْءٌ مِنْ قَبِيْلِ مُخَالَفَةِ
الإِجْمَاعِ الظَّنِّي، وَتَنْدُرُ مُخَالَفَتُهُم
لإِجْمَاعٍ قَطْعِي، وَمَنْ أَهْدَرَهُم، وَلَمْ يَعْتَدَّ
بِهِم، لَمْ يَعُدَّهُم فِي مَسَائِلِهِم المُفْرِدَةِ
خَارِجِيْنَ بِهَا مِنَ الدِّيْنِ، وَلاَ كَفَّرَهُم
بِهَا، بَلْ يَقُوْلُ: هَؤُلاَءِ فِي خير العَوَامِّ، أَوْ
هُم كَالشِّيْعَةِ فِي الفُرُوْعِ، وَلاَ نَلْتَفِتُ إِلَى
أَقْوَالِهِم، وَلاَ نَنْصِبُ مَعَهُم الخِلاَفَ، وَلاَ
يُعْتَنَى بِتَحْصِيْلِ كُتُبِهِم، وَلاَ نَدُلُّ
مُسْتَفْتِياً من العامة عليهم، وإذا تظاهروا بِمَسْأَلَةٍ
مَعْلُوْمَةِ البُطْلاَنِ، كَمَسْحِ الرِّجِلَيْنِ
أَدَّبْنَاهُم، وَعَزَّرْنَاهُم، وَأَلزَمْنَاهُم
بِالغَسْلِ جَزْماً.
قَالَ الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإِسْفَرَايِيْنِيُّ:
قَالَ الجُمْهُوْرُ: إِنَّهُم يَعْنِي نُفَاةَ القِيَاسِ
-لاَ يَبْلُغُونَ رُتْبَةَ الاجتِهَادِ، وَلاَ يَجُوْزُ
تَقْلِيْدُهُم القضاء.
(1/55)
وَنَقَلَ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُوْرٍ
البَغْدَادِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ بنِ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَطَائِفَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ اعتِبَارَ
بِخِلاَفِ دَاوُدَ، وَسَائِرِ نُفَاةِ القِيَاسِ فِي
الفُرُوْعِ دُوْنَ الأُصُوْلِ.
وَقَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ أَبُو المَعَالِي: الَّذِي
ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ التَّحْقِيْقِ: أَنَّ مُنْكِرِي
القِيَاس لاَ يُعَدُّوْنَ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ، وَلاَ
مِنْ حَمَلَةِ الشَّرِيْعَةِ، لأَنَّهُم مُعَانِدُوْنَ
مُبَاهِتُوْنَ فِيمَا ثَبَتَ اسْتفَاضَةً وَتَوَاتُراً،
لأَنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيْعَةِ صَادِرٌ عَنِ الاجتِهَادِ،
وَلاَ تَفِي النصوص بعشر معشارها، وهؤلاء ملتحقون بالعوام.
فعقب الذهبي "10/ 274" بقوله:
قُلْتُ: هَذَا القَوْلُ مِنْ أَبِي المعَالِي أَدَّاهُ
إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهُم فَأَدَّاهُم اجتِهَادُهُم
إِلَى نَفِي القول بالقول بِالقِيَاسِ، فَكَيْفَ يُرَدُّ
الاجتِهَادُ بِمِثْلِهِ، وَنَدْرِي بِالضَّرُوْرَةِ أَنَّ
دَاوُدَ كَانَ يُقْرِئُ مَذْهَبَهُ، وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ،
وَيُفْتِي بِهِ فِي مِثْلِ بَغْدَادَ، وَكَثْرَةِ
الأَئِمَّةِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، فَلَم نَرَهُم قَامُوا
عَلَيْهِ، وَلاَ أَنْكَرُوا فَتَاويه وَلاَ تَدْرِيسَهُ
وَلاَ سَعَوا فِي مَنْعِهِ مِنْ بَثِّهِ وَبَالحَضْرَةِ
مِثْلُ إِسْمَاعِيْلَ القَاضِي شيخ المالكية، وَابْنَي
الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَبِي العَبَّاسِ أَحْمَدَ بنِ
مُحَمَّدٍ البِرْتِيِّ شَيْخِ الحَنَفِيَّةِ، وَأَحْمَدَ
بنِ أَبِي عمران القاضي، ومثل عالم بَغْدَادَ
إِبْرَاهِيْمَ الحَرْبِيِّ، بَلْ سَكَتُوا لَهُ، حَتَّى
لَقَدْ قَالَ قَاسِمُ بنُ أَصْبَغَ: ذَاكَرْتُ الطَّبرِيَّ
-يَعْنِي ابْنَ جَرِيْرٍ وَابْنَ سُرَيْجٍ، فَقُلْتُ
لَهُمَا: كِتَابُ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي الفِقَهِ أَيْنَ
هُوَ عِنْدَكُمَا؟ قَالاَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلاَ كِتَابُ
أَبِي عُبَيْدٍ، فَإِذَا أَرَدْتَ الفِقْهَ فَكُتُبُ
الشَّافِعِيِّ، وَدَاوُدَ، ونظرائهما.
وقال الذهبي "1/ 275" قُلْتُ:
لاَ رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مسَأَلَةٍ انْفَرَدَ بها داود وقطع
ببطلان قوله فيها، فإنه هَدْرٌ، وَإِنَّمَا نَحْكِيهَا
للتَّعَجُّبِ، وَكُلَّ مسَأَلَةٍ لَهُ عَضَدَهَا نَصٌّ
وَسَبَقَهُ إِلَيْهَا صَاحِبٌ أَوْ تَابِعٌ، فهي من مسائل
الخلاف فلا تهدر.
وقال -رحمه الله- في "السير" "5/ 393":
اليَمِيْنَ بِالطَّلاَقِ فِي الغَضَبِ مِنْ نَزَغَاتِ
الشَّيْطَانِ فلا يقع بذلك طلاق.
وقال في "السير" "11/ 171-172":
حَكَى أَبُو عَلِيٍّ التَّنُوْخِيّ فِي "النشوَار" لَهُ،
عَنْ عُثْمَانَ بنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيّ قَالَ:
حَدَّثَنِي ابْنُ منجو القَائِد قَالَ: حَدَّثَنِي غُلاَمٌ
لاِبْنِ المزوّق قَالَ: اشْتَرَى مَوْلاَيَ جَارِيَة،
فَزَوَّجَنِيْهَا،
(1/56)
فَأَحْبَبْتُهَا وَأَبْغَضَتْنِي حَتَّى
ضَجِرْتُ، فَقُلْتُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقُ ثَلاَثاً، لاَ
تُخَاطِبِيْنِي بِشَيْءٍ إِلاَّ قُلْتُ لَكِ مثلَه، فَكَم
أَحتملُكِ؟! فَقَالَتْ فِي الحَال: أَنْتَ طَالِقٌ
ثَلاَثاً فَأُبْلِسْتُ فَدُلِلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ
جَرِيْرٍ، فَقَالَ لِي: أَقِمْ مَعَهَا بَعْدَ أَنْ
تَقُولُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً إِنْ طَلَّقْتُكِ.
فَاسْتَحْسَنَ هَذَا الجَوَاب وَذكرَهُ شَيْخُ
الحَنَابِلَة ابْنُ عَقِيْلٍ وَقَالَ: وَلَهُ جَوَابٌ آخر:
أَنْ يَقُوْلَ كَقَوْلِها سوَاء: أنتَ طَالِقٌ ثَلاَثاً
-بِفَتْح التَّاء- فَلاَ يَحْنَث.
وَقَالَ أَبُو الفَرَجِ ابْنُ الجوزي: وما كان يلزمها أن
يقول لها ذلك عَلَى الْفَوْر، فَلَهُ التَّمَادِي إِلَى
قَبْلِ المَوْت.
فكيف عقب العلامة الذهبي على هذه الواقعة؟! لقد عقب بجواب
ينبئ عن حذقه ورسوخ قدمه في علم الفقه فقال -رحمه الله
تعالى- "11/ 172":
قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً، وَقَصَدَ
الاسْتفهَام أَوْ عَنَى أَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ وَثَاق،
أَوْ عَنَى الطَّلْقَ لَمْ يَقَعْ طلاَقٌ فِي بَاطِن
الأَمْر.
وَله جَوَابٌ آخر عَلَى قَاعدَة مُرَاعَاة سَبَب اليَمِين
وَنيَّة الحَالف، فَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُوْلَ
لَهَا مَا قَالَتْهُ، إِذْ مِنَ المَعْلُوْم بِقَرِيْنَةِ
الحَال اسْتثنَاءُ ذَلِكَ قطعاً، لأَنَّه مَا قَصَدَ
إِلاَّ أَنَّهَا إِذَا قَالَتْ لَهُ مَا يُؤذيه أَنْ
يُؤذيهَا بِمِثْلِهِ، وَلَوْ جَاوبهَا بِالطَّلاَقِ
لَسُرَّتْ هِيَ، وَلتَأَذَّى هُوَ، كَمَا اسْتُثْنِي مِنْ
عُموم قَوْله تَعَالَى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}
[النَّمْل: 23] ، بقرينَة الحَال أَنَّهَا لَمْ تؤت لحية
ولا إِحليلاً. وَمِنَ المَعْلُوْم اسْتثنَاؤُهُ
بِالضَّرورَة الَّتِي لَمْ يَقْصِدْهَا الحَالفُ قَطُّ
لَوْ حلف: لاَ تقولِي لِي شَيْئاً إِلاَّ قُلْتُ لَكِ
مثلَه، أَنَّهَا لَوْ كَفَرَتْ وَسَبَّتِ الأَنْبِيَاءَ
فَلَمْ يُجَاوِبْهَا بِمثلِ ذَلِكَ لأَحسنَ. ثمَّ يَقُوْلُ
طَائِفَةٌ مِنَ الفُقَهَاء: إِنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ إِلاَّ
أَنْ يَكُوْنَ -وَالعيَاذُ بِاللهِ- قَصَدَ دُخُوْلَ
ذَلِكَ فِي يمِينِهِ.
وَأَمَّا على مذهب داود بن علي الظاهري، وَابْنِ حَزْمٍ،
وَالشِّيْعَة، وَغَيْرهم، فَلاَ شَيْء عَلَيْهِ، وَرأَوا
الحلفَ وَالأَيْمَان بِالطَّلاَق مِنْ أَيْمَان اللَّغْوِ،
وَأَنَّ اليَمِين لاَ تنعقدُ إِلاَّ بِاللهِ.
وذهبَ إمام في زماننا إلى مَنْ حَلَفَ عَلَى حضٍّ أَوْ
مَنْعٍ بِالطَّلاَق، أَوِ العِتَاق، أَوِ الحَجِّ، وَنحو
ذَلِكَ فَكَفَّارَتُهُ كفارة يمين، ولا طلاق عليه.
هكذا أجاب العلامة الحاذق على هذه الواقعة المشكلة فرحم
الله إمامنا العلامة الحافظ الذهبي.
(1/57)
وقال في "السير" "12/ 504":
رُبَّمَا آل الأَمْرُ بِالمَعْرُوف بصَاحِبه إِلَى الغضبِ
وَالحِدَّة، فيقعُ فِي الهِجْرَان المُحَرَّمُ، وَرُبَّمَا
أَفضَى إلى التكفير وَالسَّعْي فِي الدَّمِ، وَقَدْ كَانَ
أَبُو عَبْدِ الله بن مندة وَافرَ الجَاهِ وَالحُرمَةِ
إِلَى الغَايَة بِبَلَدِهِ، وَشَغَّب عَلَى أَحْمَدَ بنِ
عَبْدِ اللهِ الحَافِظِ، بِحيث أن أحمد اختفى.
وقال في "السير" "15/ 167-168":
الإِمَام إِذَا كَانَ لَهُ عقل جَيِّد، وَدين مَتِين صلح
بِهِ أَمر المَمَالِك، فَإِنْ ضعف عَقْله، وَحسنت ديَانتُه
حَمله الدِّيْنُ عَلَى مشَاورَة أَهْل الْحزم، فَتسددت
أُمُوْرُه، وَمشت الأَحْوَال، وَإِنْ قل دينه، ونبل رأيه،
تعبت البِلاَد وَالعبَاد، وَقَدْ يَحمله نبل رَأْيه عَلَى
إِصْلاَح ملكه وَرعيته لِلدُّنْيَا، لاَ لِلتَّقْوَى،
فَإِنْ نَقص رَأْيه، وَقل دينه وَعَقْله، كثر الفسَاد،
وضاعت الرعية، وتعبوا به، إلا أنه يَكُوْنَ فِيْهِ
شجَاعَة، وَلَهُ سطوَة وَهَيْبَة فِي النُّفُوْس، فَيْنجبر
الحَال، فَإِنْ كَانَ جَبَاناً، قَلِيْلَ الدِّيْنِ،
عَدِيْمَ الرَّأْي، كَثِيْر الْعَسْف، فَقَدْ تَعرَّض
لبلاَء عَاجِل، وَرُبَّمَا عُزل وَسُجن إِنْ لَمْ يُقتل،
وَذَهَبت عَنْهُ الدُّنْيَا، وَأَحَاطت بِهِ خطَايَاهُ،
وَنَدِمَ -وَاللهِ- حَيْثُ لاَ يُغنِي النّدم.
وَنَحْنُ آيِسُوْنَ اليَوْمَ مِنْ وُجُوْد إِمَام رَاشِد
مِنْ سَائِر الوُجُوه! فَإِنْ يَسَّر اللهُ لِلأَئِمَّةِ
بِإِمَامٍ فِيْهِ كَثْرَةُ مَحَاسِن وَفِيْهِ مَسَاوِئ
قَلِيْلَة، فَمَنْ لَنَا بِهِ، اللَّهُمَّ فَأَصلح
الرَّاعِي وَالرَّعِيَّة، وَارحمْ عبادك ووفقهم، وأيد
سلطانهم وأعنه بتوفيقك. هكذا يرسم العلامة الذهبي سياسة
الحاكم الراشد الذي يتقي الله، فينصلح به حال البلاد
والعباد.
وقال في "السير" "6/ 579":
قال أبو أسامة: سمعت مسعر بن كدام يقول: إن هذا الحديث
يصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟
فعقب الذهبي عليه بقوله: قُلْتُ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ
مُخْتَلَفٌ فِيْهَا: هَلْ طَلَبُ العِلْمِ أَفْضَلُ أَوْ
صَلاَةُ النَّافِلَةِ وَالتِّلاَوَةُ وَالذِّكرُ؟ فَأَمَّا
مَنْ كَانَ مُخلِصاً للهِ فِي طَلَبِ العِلمِ، وَذِهنُه
جَيِّدٌ، فَالعِلْمُ أَوْلَى، وَلَكِنْ مَعَ حَظٍّ مِنْ
صَلاَةٍ وَتَعَبُّدٍ، فَإِنْ رَأَيتَه مُجِدّاً في طلب لاَ
حظَّ لَهُ فِي القُرُبَاتِ، فَهَذَا كَسلاَنُ مَهِيْنٌ،
وَلَيْسَ هُوَ بِصَادِقٍ فِي حُسنِ نِيَّتِه، وأما من كان
طلب الحَدِيْثَ وَالفِقْهَ غِيَّةً وَمَحبَّةً
نَفْسَانِيَّةً، فَالعِبَادَةُ فِي حَقِّه أَفْضَلُ، بَلْ
مَا بَيْنَهُمَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَهَذَا تَقسِيْمٌ
فِي الجُمْلَةِ، فَقَلَّ -وَاللهِ- مَنْ رَأَيتُه مُخلِصاً
فِي طَلَبِ العِلْمِ. دَعْنَا مِنْ هَذَا كُلِّه، فَلَيْسَ
طَلَبُ الحَدِيْثِ اليَوْمَ عَلَى
(1/58)
الوَضعِ المُتَعَارَفِ مِنْ حَيِّزِ طَلَبِ
العِلْمِ، بَلْ اصْطِلاَحٌ وَطَلَبُ أَسَانِيْدَ
عَالِيَةٍ، وَأَخْذٌ عَنْ شَيْخٍ لاَ يَعِي، وَتَسمِيْعٌ
لِطِفلٍ يَلْعَبُ وَلاَ يَفْهَمُ، أَوْ لِرَضِيعٍ يَبْكِي،
أَوْ لِفَقِيْهٍ يَتَحَدَّثُ مَعَ حدث، أو آخر ينسخ وفاضله
مَشْغُوْلٌ عَنِ الحَدِيْثِ بِكِتَابَةِ الأَسْمَاءِ أَوْ
بِالنُّعَاسِ، وَالقَارِئُ إِنْ كَانَ لَهُ مُشَارَكَةٌ،
فَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الفَضِيْلَةِ أَكْثَرَ مِنْ
قِرَاءةِ مَا فِي الجُزْءِ، سَوَاءٌ تَصَحَّفَ عَلَيْهِ
الاسْمُ، أَوِ اخْتَبَطَ المَتْنُ، أَوْ كَانَ مِنَ
المَوْضُوْعَاتِ. فَالعِلْمُ عَنْ هَؤُلاَءِ بِمَعْزِلٍ،
وَالعَمَلُ لاَ أَكَادُ أَرَاهُ، بَلْ أرى أمورا سيئة،
نسأل الله العفو.
وهكذا يرسم الحافظ الذهبي طريق الإخلاص في طلب العلم،
ويوضح بأوجز عبارة وأخصر بيان أولوية طلب العلم على صلاة
النافلة والتعبد لمن امتلأ قلبه بالإخلاص، وكانت نيته لله
سبحانه. في طلب الحديث.
وقال "7/ 447":
النَّبِيْذُ الَّذِي هُوَ نَقِيْعُ التَّمْرِ، وَنَقِيْعُ
الزَّبِيْبِ، ونحو ذلك وَالفُقَاعُ حَلاَلٌ شُرْبُهُ،
وَأَمَّا نَبِيْذَ الكُوْفِيِّيْنَ الَّذِي يُسْكِرُ
كَثِيْرُهُ، فَحَرَامٌ الإِكْثَارُ مِنْهُ عِنْدَ
الحَنَفِيَّةِ, وَسَائِرِ العُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ
يُحْرَمُ يَسِيْرُهُ عَنْدَ الجُمْهُوْرِ، ويتخرص فيه
الكوفيون، وفي تحريمه عدة أحاديث.
وقال في "السير" "7/ 258":
روى أَبُو عُمَرَ الضَّرِيْرُ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ
قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى هَمَّامِ بنِ يَحْيَى، وَهُوَ
مَرِيْضٌ أَعُوْدُهُ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَوَانَةَ
ادْعُ اللهَ أَنْ لاَ يُمِيْتَنِي حَتَّى يَبلُغَ وَلَدِي
الصِّغَارُ.
فَقُلْتُ: إِنَّ الأَجَلَ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فقال لي: أنت
بعد في ضلالك.
فعقب الحافظ الذهبي بقوله: قُلْتُ بِئْسَ المَقَالُ هَذَا،
بَلْ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ سَابِقٍ، وَلَكِنْ وَإِنْ
كَانَ الأَجَلُ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ
بِطُوْلِ البَقَاءِ قَدْ صَحَّ. دَعَا الرَّسُوْلُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادمِهِ أَنَسٍ بِطُوْلِ
العُمُرِ، وَاللهُ يَمحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ. فَقَدْ
يَكُوْنُ طُوْلُ العُمُرِ فِي عِلْمِ اللهِ مَشْرُوطاً
بِدُعَاءٍ مُجَابٍ، كَمَا أَنَّ طَيَرَانَ العُمُرِ قَدْ
يَكُوْنُ بِأَسبَابٍ جَعَلَهَا مِنْ جَوْرٍ وَعَسْفٍ،
وَ"لاَ يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدعاء"، والكتاب الأول
فلا يتغير.
وقال في "السير" "10/ 385":
قال محمد بن إسماعيل الترمذي: مَنْ شَبَّهَ اللهُ
بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَنْكَرَ مَا وَصَفَ
اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيْسَ مَا وَصَفَ
بِهِ نَفْسَهُ وَلاَ رسوله تشبيها.
(1/59)
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: أَرَادَ أَنَّ
الصِّفَاتِ تَابِعَةٌ لِلمَوْصُوْفِ، فَإِذَا كَانَ
المَوْصُوْفُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
[الشُّوْرَى: 11] ، وفي ذاته المقدسة، فكذلك صفاته لا مثل
لها، إذ فَرْقَ بَيْنَ القَوْلِ فِي الذَّاتِ وَالقَوْلِ
فِي الصفات، هذا هو مذهب السلف.
وقال في "السير" "9/ 27":
قال نعيم بن حماد: مَنْ شَبَّهَ اللهُ بِخَلْقِهِ، فَقَدْ
كَفَرَ، وَمَنْ أَنْكَرَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، فَقَدْ
كَفَرَ، وَلَيْسَ فِيْمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ
وَلاَ رسوله تشبيه.
فعقب الحافظ الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَذَا الكَلاَمُ حَقٌّ،
نَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ التَّشْبِيْهِ، وَمِنْ إِنْكَارِ
أَحَادِيْثِ الصِّفَاتِ، فَمَا يُنْكِرُ الثَّابِتَ
مِنْهَا مَنْ فَقُهَ، وَإِنَّمَا بَعْدَ الإِيْمَانِ بها
هنا مقامان مذموم تَأْوِيْلُهَا وَصَرْفُهَا عَنْ
مَوْضُوْعِ الخِطَابِ، فَمَا أَوَّلَهَا السَّلَفُ، وَلاَ
حَرَّفُوا أَلفَاظَهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا، بَلْ آمَنُوا
بِهَا، وَأَمَرُّوْهَا كَمَا جَاءتْ.
المَقَامُ الثَّانِي: المُبَالغَةُ فِي إِثْبَاتِهَا،
وَتَصَوُّرُهَا مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ البَشَرِ،
وَتَشَكُّلُهَا فِي الذِّهْنِ، فَهَذَا جَهْلٌ وَضَلاَلٌ،
إنما الصِّفَةُ تَابِعَةٌ لِلْمَوْصُوفِ، فَإِذَا كَانَ
المَوْصُوفُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ نَرَهُ، وَلاَ
أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ عاينه مع قول لنا في تنزيل:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّوْرَى: 11] ، فَكَيْفَ
بَقِيَ لأَذْهَانِنَا مَجَالٌ فِي إِثْبَاتِ كَيْفِيَّةِ
البَارِئِ -تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ- فكَذَلِكَ
صِفَاتُهُ المُقَدَّسَةُ، نُقِرُّ بِهَا ونعتقد أنها حقن
وَلاَ نُمَثِّلُهَا أَصْلاً وَلاَ نَتَشَكَّلُهَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَخْلَدٍ العَطَّارُ، حَدَّثَنَا
الرَّمَادِيُّ، سَأَلْتُ نُعَيْمَ بنَ حَمَّادٍ عَنْ
قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحَدِيْدُ: 4] ،
قَالَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ
بِعِلْمِهِ، أَلاَ تَرَى قَوْلَهُ: {مَا يَكُونُ مِنْ
نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]
.
وقال "7/ 379":
الجَهْمِيَّةُ يَقُوْلُوْنَ: إِنَّ البَارِي -تَعَالَى-
فِي كُلِّ مَكَانٍ, وَالسَّلَفُ يَقُوْلُوْنَ: إِنَّ
عِلْمَ البَارِي فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَحْتَجُّونَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا
كُنْتُمْ} [الحَدِيْدُ: 4] ، يَعْنِي بِالعِلْمِ،
وَيَقُوْلُوْنَ: إِنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ اسْتَوَى، كَمَا
نَطَقَ بِهِ القُرْآنُ وَالسُّنَّةُ.
قال الأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ إِمَام وَقْتِهِ: كُنَّا
-وَالتَّابِعُوْنَ مُتَوَافِرُوْنَ- نَقُوْلُ إِنَّ اللهَ
تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِه، وَنُؤمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ
السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ، وَمَعْلُوْمٌ عِنْدَ أَهْلِ
العِلْمِ مِنَ الطَّوَائِفِ أَنَّ مَذْهَبَ
(1/60)
السَّلَفِ إِمرَارُ آيَاتِ الصِّفَاتِ
وَأَحَادِيْثِهَا كَمَا جَاءتْ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ
وَلاَ تَحرِيْفٍ، وَلاَ تَشْبِيْهٍ وَلاَ تَكْيِيفٍ،
فَإِنَّ الكَلاَمَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الكَلاَمِ
فِي الذَّاتِ المُقَدَّسَةِ، وَقَدْ عَلِمَ المسلمون أن
ذات الباري موجودة، لاَ مِثْلَ لَهَا، وَكَذَلِكَ
صِفَاتُهُ -تَعَالَى- مَوْجُوْدَةٌ، لا مثل لها.
وقال في "السير" "9/ 122":
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: سَمِعْتُ
أَبَا مَعْمَرٍ الهُذَلِيَّ يَقُوْلُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ
اللهَ لاَ يَتَكَلَّمُ، وَلاَ يَسْمَعُ، وَلاَ يُبْصِرُ،
وَلاَ يَرْضَى، وَلاَ يَغْضَبُ، فَهُوَ كَافِرٌ، إِنْ
رَأَيتُمُوهُ وَاقِفاً عَلَى بِئْرٍ، فَأَلْقُوْهُ
فِيْهَا، بِهَذَا أَدِيْنُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَعَنْ أَبِي مَعْمَرٍ القَطِيْعِيِّ قَالَ: آخِرُ كَلاَمِ
الجَهْمِيَّةِ: أَنَّهُ ليس في السماء إله!
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: بَلْ قَوْلُهُم: إِنَّهُ
-عَزَّ وَجَلَّ- فِي السَّمَاءِ وَفِي الأَرْضِ، لاَ
امْتِيَازَ لِلسَّمَاءِ وَقَوْلُ عُمُومِ أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ
فِي السَّمَاءِ، يُطلِقُوْنَ ذَلِكَ وِفقَ مَا جَاءتِ
النُّصُوْصُ بإِطْلاَقِهِ وَلاَ يَخُوضُونَ فِي
تَأْوِيْلاَتِ المُتَكَلِّمِيْنَ، مَعَ جَزْمِ الكُلِّ
بَأَنَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:
11] .
وقال في "السير" "11/ 230" قَالَ الحَاكِمُ: سَمِعْتُ
مُحَمَّدَ بنَ صَالِحِ بنِ هَانِئ، سَمِعْتُ ابْنَ
خُزَيْمَةَ يَقُوْلُ: مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ اللهَ
عَلَى عَرشِه قَدِ اسْتوَى فَوْقَ سَبعِ سَمَاوَاتِه،
فَهُوَ كَافِرٌ حَلاَلُ الدَّمِ، وكان ماله فيئا.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: مَنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ
تَصْدِيْقاً لِكِتَابِ اللهِ، وَلأَحَادِيْثِ رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ
مُفَوِّضاً مَعْنَاهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ. وَلَمْ
يَخُضْ فِي التَّأْوِيْلِ وَلاَ عَمَّقَ، فَهُوَ
المُسْلِمُ المُتَّبِعُ، وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ, فَلَمْ
يَدْرِ بثبوت ذلك في الكتاب والسنة، فهو مُقَصِّرٌ وَاللهِ
يَعْفُو عَنْهُ، إِذْ لَمْ يُوجِبِ اللهُ عَلَى كُلِّ
مُسْلِمٍ حِفظَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ أَنكَرَ
ذَلِكَ بَعْدَ العِلْمِ، وَقَفَا غَيْرَ سَبِيْلِ
السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَتَمَعقَلَ عَلَى النص، فأمره إلى
الله، ونعوذ بِاللهِ مِنَ الضَّلاَلِ وَالهَوَى.
وَكَلاَمُ ابْنِ خُزَيْمَةَ هَذَا -وَإِنْ كَانَ حَقّاً-
فَهُوَ فَجٌّ، لاَ تحتمله نفوس كثير من متأخري العلماء.
وقال في "السير" "10/ 399":
من كلام عثمان بن سعيد الدارمي -رَحِمَهُ اللهُ- فِي
كِتَابِ "النَّقْضِ" لَهُ: اتفَقَتِ الكَلِمَةُ مِنَ
المُسْلِمِيْنَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- فَوْقَ عرشه، فوق
سماواته.
(1/61)
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: أَوْضَحُ
شَيْءٍ فِي هَذَا البَابِ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ:
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ،
فَلْيُمَرَّ كَمَا جَاءَ، كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ مِنْ
مَذْهَبِ السَّلَفِ، وَيُنَهَى الشَّخْصُ عَنِ
المُرَاقَبَةِ، وَالجِدَالِ وَتَأْوِيْلاَتِ
المُعْتَزِلَةِ {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} [آل عمران: 53] .
وقال في "السير" "9/ 313":
ورد عن إسحاق بن راهويه: أَنَّ بَعْضَ المُتَكَلِّمِيْنَ
قَالَ لَهُ: كَفَرْتَ بِرَبٍّ يَنْزِلُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى
سَمَاءٍ فَقَالَ: آمَنتُ برب يفعل ما يشاء.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ هَذِهِ الصِّفَاتُ مِنَ
الاسْتِوَاءِ وَالإِتيَانِ وَالنُّزُوْلِ، قَدْ صَحَّتْ
بِهَا النُّصُوْصُ, وَنَقَلَهَا الخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ،
وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهَا بِرَدٍّ وَلاَ تَأْوِيْلٍ،
بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ تَأَوَّلَهَا مَعَ
إِصْفَاقِهِم عَلَى أَنَّهَا لاَ تُشبِهُ نُعُوْتَ
المَخْلُوْقِيْنَ، وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ، وَلاَ تَنْبَغِي المُنَاظَرَةُ وَلاَ التَّنَازُعُ
فِيْهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مُحاولَةً لِلرَّدِّ عَلَى
اللهِ وَرَسُوْلِهِ، أَوْ حَوماً عَلَى التكييف أو
التعطيل.
وقال في "السير" "11/ 243": قال أبو العباس السراج: مَنْ
لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْجَبُ،
وَيَضْحَكُ، وَيَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا، فَيَقُوْلُ: "مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ"،
فَهُوَ زِنْدِيْقٌ، كَافِرٌ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ،
وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقه، وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلاَ
يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ المُسْلِمِيْنَ.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: لاَ يُكفَّرُ إِلَّا إِنْ
عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَهُ، فَإِنْ جَحَدَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذَا
مُعَانِدٌ -نَسْأَلُ اللهَ الهُدَى- وَإِنِ اعْتَرَفَ
إِنَّ هَذَا حَقٌّ، وَلَكِنْ لاَ أَخُوضُ فِي مَعَانِيهِ،
فَقَدْ أَحسَنَ، وَإِنْ آمن، وأول ذلك كله، أو تأول بعضه،
فهو طريقه معروفة.
وقال في "السير" "8/ 508":
عن العَبَّاسُ الدُّوْرِيُّ سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ
القَاسِمَ بنَ سلام -وذكر الباب يُرْوَى فِيْهِ
الرُّؤْيَةُ، وَالكُرْسِيُّ مَوْضِعَ القَدَمَيْنِ1،
وَضَحِكُ رَبِّنَا، وَأَيْنَ كَانَ رَبُّنَا2 -فَقَالَ:
هَذِهِ أَحَادِيْثُ صِحَاحٌ، حَمَلَهَا أَصْحَابُ
الحَدِيْثِ وَالفُقَهَاءُ بَعْضُهُم عَنْ بَعْضٍ، وَهِيَ
عِنْدَنَا حَقٌّ لاَ نَشُكُّ فِيْهَا،
__________
1 حسن: راجع تخريجنا له في الجزء الثامن بتعليقنا رقم
"588".
2 حسن: راجع تخريجنا له في الجزء الثامن بتعليقنا رقم
"589".
(1/62)
وَلَكِن إِذَا قِيْلَ: كَيْفَ يَضْحَكُ؟
وَكَيْفَ وَضَعَ قَدَمَهُ؟ قُلْنَا: لاَ نُفَسِّرُ هَذَا،
وَلاَ سَمِعْنَا أحدا يفسره.
فعقب الذهبي "8/ 508-509" بقوله:
قُلْتُ: قَدْ فَسَّرَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ المُهِمَّ مِنَ
الأَلْفَاظِ وَغَيْرَ المُهِمِّ، وَمَا أَبْقَوْا
مُمْكِناً، وَآيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيْثُهَا لَمْ
يَتَعَرَّضُوا لِتَأْوِيْلِهَا أَصْلاً، وَهِيَ أَهَمُّ
الدِّيْنِ، فَلَو كَانَ تَأْوِيْلُهَا سَائِغاً أَوْ
حَتْماً، لَبَادَرُوا إِلَيْهِ، فَعُلِمَ قَطْعاً أَنَّ
قِرَاءتَهَا وإمرارها على ما جاءت هو الحق، ولا تَفْسِيْرَ
لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، فَنُؤْمِنُ بِذَلِكَ، وَنَسْكُتُ
اقتداء بالسلف، معتقدين أنها صفات الله -تعالى- استأثر
الله بعلم حقائقها، ولأنها لاَ تُشْبِهُ صِفَاتِ
المَخْلُوْقِينَ، كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ المُقَدَّسَةَ لاَ
تُمَاثِلُ ذَوَاتِ المَخْلُوْقِينَ، فَالكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ نَطَقَ بِهَا، وَالرَّسُوْلُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَّغَ، وَمَا تَعَرَّضَ لِتَأْوِيْلٍ
مَعَ كَوْنِ البَارِي قَالَ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلُ: 44] ، فَعَلَيْنَا
الإِيْمَانُ وَالتَّسْلِيْمُ لِلنُّصُوْصِ، وَاللهُ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صرَاط مُسْتَقِيْم.
وقال في "السير" "12/ 186":
قال أَبُو إِسْمَاعِيْلَ الأَنْصَارِيُّ: سَمِعْتُ يَحْيَى
بنَ عَمَّارٍ الوَاعِظَ، وَقَدْ سأَلتُهُ عَنِ ابْنِ
حبَّانَ، فَقَالَ: نَحْنُ أَخرجنَاهُ مِنْ سِجِسْتَانَ،
كَانَ لَهُ علمٌ كَثِيْرٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَبِيْرُ
دينٍ، قَدِمَ علينا، فأنكر الحد لله، فأخرجناه".
فعقب الذهبي "12/ 186" بقوله:
قُلْتُ: إِنكَارُكُم عَلَيْهِ بدعَةٌ أَيْضاً، وَالخوضُ
فِي ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَأْذنْ بِهِ اللهُ، وَلاَ أتى نص
بإثبات ذلك ولا نفيه، وَ "مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ
تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيْهِ" 1، وَتَعَالَى اللهُ أَنْ
يُحدَّ أَوْ يُوصفَ إِلاَّ بِمَا وَصفَ بِهِ نَفْسَهُ،
أَوْ علمه رُسلَهُ بِالمعنَى الَّذِي أَرَادَ بِلاَ مِثْل
وَلاَ كَيْف {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ} [الشُّوْرَى: 11] .
وقال "7/ 219":
قال أبو عبيد: ما أدركنا أحدا يفسر أحاديث الصفات، ونحن لا
نفسرها.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: قَدْ صَنَّفَ أَبُو عُبَيْدٍ
كِتَابَ "غَرِيْبِ الحَدِيْثِ" وَمَا تَعرَّضَ لأَخْبَارِ
الصِّفَاتِ الإِلَهِيَّةِ بِتَأْوِيلٍ أَبَداً، وَلاَ
فَسَّرَ مِنْهَا شَيْئاً، وَقَدْ أَخَبَرَ بأنه ما لحق
أحدا يفسرها,
__________
1 صحيح: راجع تخريجنا له في الجزء الثاني عشر بتعليقنا رقم
"247".
(1/63)
فَلَو كَانَ -وَاللهِ- تَفْسِيْرُهَا
سَائِغاً، أَوْ حَتماً، لأَوْشَكَ أَنْ يَكُوْنَ
اهْتِمَامُهُم بِذَلِكَ فَوْقَ اهْتِمَامِهِم
بِأَحَادِيْثِ الفُرُوْعِ وَالآدَابِ، فَلَمَّا لَمْ
يَتعَرَّضُوا لَهَا بِتَأْوِيلٍ وَأَقَرُّوهَا عَلَى مَا
وَرَدَتْ عَلَيْهِ، عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الحَقُّ
الَّذِي لاَ حَيْدَةَ عنه.
وقال في "السير" "7/ 209":
كَانَتِ الأَهوَاءُ وَالبِدَعُ خَامِلَةً فِي زَمَنِ
اللَّيْثِ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَالسُّنَنُ ظَاهِرَةٌ
عَزِيْزَةٌ، فَأَمَّا فِي زَمَنِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ،
وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، فَظَهَرَتِ البِدعَةُ،
وَامْتُحِنَ أَئِمَّةُ الأَثَرِ وَرَفَعَ أَهْلُ
الأَهوَاءِ رءوسهم بدخول الدولة معهم، فاحتاج العلاء إِلَى
مُجَادَلَتِهِم بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ كَثُرَ
ذَلِكَ، واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول، فكان
الجِدَالَ، وَاشتَدَّ النِزَاعُ، وَتَوَلَّدَتِ الشُّبَهُ،
نَسْأَلُ اللهَ العافية.
هذه هي عقيدة شيخ الإسلام العلامة الحافظ الذهبي -رحمه
الله- في صفات الله -عز وجل، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة
التي كان عليها سلف الأمة الصحابة- رضي الله عنهم- ومن
تابعهم خير القرون. وها هو يرد على من قال أن الإيمان
مخلوق والقرآن مخلوق، يرد على هذه الأقوال المنحرفة بأنصع
بيان وأشفى حجة:
قال في "السير" "10/ 215":
وَرد عَليَّ كِتَابٌ مِنْ نَاحِيَة شيرَازَ أَنَّ فضلك
الصائغ قَالَ بنَاحِيَتهِم: إِنَّ الإِيْمَان مَخْلُوْق
فَبلغنِي أَنَّهُم أخرجوه من البلد بأعوان.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ
الْفُضُول، وَالسكوتُ أَوْلَى، وَالَّذِي صَحَّ عَنِ
السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ الأَثر أَنَّ الإِيْمَان قَوْلٌ
وَعملٌ، وَبلاَ رَيْبٍ أَنَّ أَعْمَالنَا مَخْلُوْقَةٌ،
لِقَوْلِهِ -تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا
تَعْمَلُونَ} [الصَّافَاتُ: 96] ، فصحَّ أَنَّ بَعْض
الإِيْمَان مَخْلُوْقٌ.
وَقولُنَا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، فَمِنْ إِيْمَاننَا،
فَتَلَفُّظنَا بِهَا أَيْضاً مِنْ أَعْمَالنَا. وَأَمَّا
مَاهِيَّةُ الكَلِمَةِ المَلْفُوْظَةِ، فَهِيَ غَيْرُ
مَخْلُوْقَةٍ، لأَنَّهَا مِنَ القُرْآن، أعاذنا الله من
الفتن والهوى.
وقال "10/ 271-272":
قَالَ أَحْمَدُ بنُ كَامِلٍ القَاضِي، أَخْبَرَنِي أَبُو
عَبْدِ اللهِ الوَرَّاقُ: أَنَّهُ كَانَ يُورق عَلَى
دَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ، وَأَنَّهُ سَمِعَهُ يُسْأَلُ عَنِ
القُرَآنِ، فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي فِي اللَّوْحِ
المَحْفُوْظِ: فَغَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَأَمَّا الَّذِي هُوَ
بَيْنَ النَّاسِ فمخلوق.
(1/64)
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَذِهِ
التَّفرِقَةُ وَالتَّفْصِيلُ مَا قَالَهَا أَحَدٌ
قَبْلَهُ، فِيمَا عَلِمْتُ، وَمَا زَالَ المُسْلِمُوْنَ
عَلَى أَنَّ القُرَآنَ العَظِيْمَ كَلاَمُ اللهِ
وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيْلُهُ، حَتَّى أَظْهَرَ المَأْمُوْنَ
القَوْلَ: بِأَنَّهُ مَخْلُوْقٌ، وَظَهَرَتْ مَقَالَةُ
المُعْتَزِلَةِ، فَثَبَتَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ
حَنْبَلٍ، وَأَئِمَةُ السُّنَّةِ عَلَى القَوْلِ:
بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، إِلَى أَنْ ظَهَرَتْ
مَقَالَةُ حُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ الكرابيسي، وهي: أن القرآن
كلام غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَأَنَّ أَلْفَاظَنَا بِهِ
مَخْلُوْقَةٌ، فَأَنْكَرَ الإِمَامُ أَحْمَدُ ذَلِكَ،
وَعَدَّهُ بِدْعَةً، وَقَالَ: مَنْ قَالَ لَفْظِي
بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ، يُرِيْدُ بِهِ القُرْآنَ فهو
جهمي. وقال أيضا: مَنْ قَالَ: لَفْظي بِالقُرْآنِ غَيْرُ
مَخْلُوْقٍ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. فَزَجَرَ عَنِ الخَوْضِ
فِي ذَلِكَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَأَمَّا دَاوُدُ فَقَالَ: القُرْآنُ مُحْدَثٌ فَقَامَ
عَلَى دَاوُدَ خَلْقٌ مِن أَئِمَّةِ الحَدِيْثِ،
وَأَنْكَرُوا قَولَهُ وَبَدَّعُوْهُ، وَجَاءَ مِنْ
بَعْدِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، فَقَالُوا:
كَلاَمُ اللهِ مَعْنَىً قَائِمٌ بِالنَّفْسِ، وَهَذِهِ
الكُتُبُ المُنْزَلَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَدَقَّقُوا
وَعَمَّقُوا، فَنَسْأَلُ اللهَ الهُدَى وَاتِّبَاعَ
الحَقِّ، فَالقُرْآنُ العَظِيْمُ، حُرُوْفُهُ وَمَعَانِيهُ
وَأَلفَاظُهُ كَلاَمُ رَبِّ العَالِمِيْنَ، غَيْرُ
مَخْلُوْقٍ، وَتَلَفُّظُنَا بِهِ وَأَصْوَاتُنَا بِهِ مِنْ
أَعْمَالنَا المَخْلُوْقَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زَيِّنُوا القُرْآنَ
بِأَصْوَاتِكُم".
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ المَلْفُوْظُ لاَ يَسْتَقِلُّ
إِلاَّ بِتَلَفُّظِنَا، وَالمَكْتُوْبُ لاَ يَنْفَكُّ عَنْ
كِتَابةٍ، وَالمَتْلُو لاَ يُسْمَعُ إِلاَّ بِتِلاَوَةِ
قال، صَعُبُ فَهْمُ المَسْأَلَةِ وَعَسُرَ إِفْرَازُ
اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ المَلْفُوْظُ مِنَ اللَّفْظِ
الَّذِي يُعْنَى بِهِ التَّلَفُّظُ، فَالذِّهِنُ يَعْلَمُ
الفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ هَذَا، وَالخَوْضُ فِي
هَذَا خَطِرٌ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ فِي الدِّيْنِ-
وَفِي المَسْأَلَةِ بُحُوْثٌ طَوِيْلَةٌ، الكَفُّ عَنْهَا
أَوْلَى، وَلاَ سِيَّمَا فِي هَذِهِ الأزمنة المزمنة.
وقال في "السير" "7/ 138":
نَهَى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أَنْ يُبْنَى
عَلَى القُبُوْرِ، وَلَو انْدَفَنَ النَّاسُ فِي
بُيُوْتِهِم، لَصَارَتِ المَقْبَرَةُ وَالبُيُوْتُ شَيْئاً
وَاحِداً، وَالصَّلاَةُ فِي المَقْبَرَةِ فمنهي عنها نهي
كراهة أَوْ نَهْيَ تَحْرِيْمٍ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: "أَفْضَلُ صَلاَةِ الرَّجُلِ فِي
بَيْتِهِ إِلاَّ المَكْتُوبَةَ" 1.
فَنَاسَبَ ذَلِكَ أَلاَ تُتَّخَذَ المَسَاكِنُ قُبُوراً.
وَأَمَّا دَفْنُهُ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ -صَلَوَاتُ اللهِ
عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ- فَمُخْتَصٌّ بِهِ، كَمَا خُصَّ
بِبَسطِ قَطِيْفَةٍ تَحْتَه فِي لَحْدِهِ، وَكمَا خُصَّ
بِأَنْ صَلُّوا عَلَيْهِ فُرَادَى بِلاَ إِمَامٍ، فَكَانَ
هُوَ إمامهم حيا وميتا في
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "731"، ومسلم "781" وقد خرجته في
المصدر المشار إليه.
(1/65)
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَكَمَا خُصَّ
بِتَأْخَيْرِ دَفْنِهِ يَوْمَيْنِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيْرُ
أُمَّتِهِ، لأَنَّهُ هُوَ أُمِنَ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ،
بِخِلاَفِنَا، ثُمَّ إِنَّهُم أَخَّرُوْهُ حَتَّى صَلُّوا
كُلُّهُم عَلَيْهِ، دَاخِلَ بَيْتِهِ، فَطَالَ لِذَلِكَ
الأَمْرُ، وَلأَنَّهُم تَرَدَّدُوا شَطْرَ اليَوْمِ
الأَوَّلِ فِي مَوْتِهِ، حَتَّى قَدِمَ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيْقُ مِنَ السُّنْحِ، فهذا كان سبب التأخير.
ويرد الحافظ -رحمه الله- ببيان ناصع وجواب ساطع على ترهات
الصوفية وأباطيلهم وعلى أهل الحلول والاتحاد منهم:
قال في "السير" "9/ 550":
مَتَى رَأَيْتَ الصُّوْفِيَّ مُكِبّاً عَلَى الحَدِيْثِ،
فَثِقْ بِهِ، وَمَتَى رَأَيْتَهُ نَائِياً عَنِ
الحَدِيْثِ، فَلاَ تَفرَحْ بِهِ، لاَ سيِّمَا إِذَا
انْضَافَ إِلَى جَهلِهِ بِالحَدِيْثِ عُكُوفٌ عَلَى
تُرَّهَاتِ الصُّوْفِيَّةِ، وَرُمُوْزِ البَاطِنِيَّةِ
نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ كَمَا قَالَ ابْنُ
المُبَارَكِ:
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّيْنَ إِلاَّ المُلُوْكُ ...
وَأَحْبَارُ سوء ورهبانها
وقال في "السير" "11/ 211":
قال السلمي: وحكي عن الحلاج أَنَّهُ رُؤيَ وَاقفاً فِي
الموقفِ، وَالنَّاسُ فِي الدُّعَاءِ وَهُوَ يَقُوْلُ:
أُنزِّهك عَمَّا قَرَفَكَ بِهِ عبَادُك، وَأَبرأُ إِلَيْكَ
مِمَّا وَحَّدكَ بِهِ الموحِّدُوْنَ!!
فعقب الذهبي -رحمه الله- "11/ 211-212" بقوله:
قُلْتُ: هَذَا عينُ الزَّنْدَقَةِ، فَإِنَّهُ تَبَرَّأَ
مِمَّا وَحَّدَ اللهَ بِهِ الموحِّدُوْنَ الَّذِيْنَ هُمُ
الصَّحَابَةُ وَالتَّابعُوْنَ وَسَائِرُ الأُمَّةِ، فَهَلْ
وَحَّدُوهُ تَعَالَى إِلاَّ بِكلمَةِ الإِخْلاَصِ التِي
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَنْ قَالَهَا مِنْ قَلْبِهِ، فقد حرم ماله ودمه".
وَهِيَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ومحمدا
رَسُوْلُ اللهِ، فَإِذَا برِئَ الصُّوْفِيُّ مِنْهَا،
فَهُوَ ملعُوْنٌ زِنْدِيْقٌ، وَهُوَ صُوفِيُّ الزَّيِّ
وَالظَّاهِرِ، مُتستِّرٌ بِالنَّسَبِ إِلَى العَارفينَ،
وَفِي البَاطنِ فَهُوَ مِنْ صُوفيَّةِ الفَلاَسِفَةِ
أَعدَاءِ الرُّسُلِ، كَمَا كَانَ جَمَاعَةٌ فِي أَيَّامِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منتسبُوْنَ
إِلَى صُحْبَتِهِ وَإِلَى ملَّتِهِ، وَهُم فِي البَاطنِ
مِنْ مَرَدَةِ المُنَافقينَ، قَدْ لاَ يَعْرِفُهُم نَبِيُّ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَعْلَمُ
بِهِم قَالَ الله -تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التَّوبَةُ:
101] ، فَإِذَا جَازَ عَلَى سَيِّدِ البشرِ أَنْ لاَ
يَعْلَمَ ببَعْضِ المُنَافِقينَ وَهُم مَعَهُ فِي
المَدِيْنَةِ سنوَاتٍ، فَبِالأَوْلَى أَنْ يَخفَى حَالُ
جَمَاعَةٍ مِنَ المُنَافِقينَ الفَارغينَ عَنْ دينِ
الإِسْلاَمِ بَعْدَهُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- عَلَى
العُلَمَاءِ مِنْ أُمَّتِه، فَمَا يَنْبَغِي لَكَ يَا
فَقِيْهُ أَنْ تُبَادرَ إِلَى
(1/66)
تكفير المسلم. إلا ببرهان قطعي، كا لاَ
يسوَغُ لَكَ أَنْ تعتقدَ العِرفَانَ وَالوِلاَيَةَ
فِيْمَنْ قَدْ تَبرهنَ زَغَلُهُ، وَانْهَتَكَ بَاطنُهُ
وَزَنْدَقَتُه، فَلاَ هَذَا وَلاَ هَذَا، بَلِ العَدلُ
أَنَّ مَنْ رَآهُ المُسْلِمُوْنَ صَالِحاً مُحسِناً،
فَهُوَ كَذَلِكَ، لأنهم شهداء لله فِي أَرضِهِ، إِذِ
الأُمَّةُ لاَ تَجتمعُ عَلَى ضَلاَلَةٍ، وَأَنَّ مَنْ
رَآهُ المُسْلِمُوْنَ فَاجراً أَوْ مُنَافقاً أَوْ
مُبْطِلاً، فَهُوَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ كان طائفة من
الأمة تضلله، وأن طائفة مِنَ الأُمَّةِ تُثْنِي عَلَيْهِ
وَتبجِّلُهُ، وَطَائِفَةٌ ثَالثَةٌ تقِفُ فِيْهِ
وَتتورَّعُ مِنَ الحطِّ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِمَّنْ
يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَضَ عَنْهُ، وَأَنْ يفوَّضَ أَمرُه
إِلَى اللهِ، وَأَنَّ يُسْتَغْفَرَ لَهُ فِي الجُمْلَةِ؛
لأَنَّ إِسْلاَمَهُ أَصْليٌّ بيقينٍ, وضلالُه مشكوكٌ
فِيْهِ، فَبِهَذَا تَسْتريحُ، وَيصفُو قَلْبُكَ مِنَ
الغِلِّ لِلْمُؤْمِنينَ.
ثمَّ اعْلمْ أَنَّ أَهْلَ القِبْلَةِ كلَّهُم، مُؤْمِنَهُم
وَفَاسقَهُم, وَسُنِّيَهُم وَمُبْتَدِعَهُم -سِوَى
الصَّحَابَةِ- لَمْ يُجمعُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ
سَعِيْدٌ نَاجٍ، وَلَمْ يُجمعُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ
شقيٌّ هَالكٌ, فَهَذَا الصِّدِّيقُ فردُ الأُمَّةِ، قَدْ
علمتَ تَفَرُّقَهُم فِيْهِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ، وَكَذَلِكَ
عُثْمَانُ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ، وَكَذَلِكَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ, وَكَذَلِكَ الحجَّاجُ، وَكَذَلِكَ
المَأْمُوْنُ، وَكَذَلِكَ بشرٌ المَرِيسِيُّ، وَكَذَلِكَ
أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَالشَّافِعِيُّ, وَالبُخَارِيُّ،
وَالنَّسَائِيُّ، وَهَلُمَّ جَرّاً مِنَ الأَعيَانِ فِي
الخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَى يَوْمكَ هَذَا، فَمَا مِنْ
إِمَامٍ كَامِلٍ فِي الخَيْرِ، إِلاَّ وَثَمَّ أُنَاسٌ
مِنْ جهلَةِ المُسْلِمِيْنَ وَمُبْتَدِعِيهِم يذمُّونَه،
وَيحطُّونَ عَلَيْهِ، وما من رأس في البدعَةِ
وَالتَّجَهُّمِ وَالرَّفضِ إِلاَّ وَلَهُ أُنَاسٌ
يَنْتصرُوْنَ لَهُ, وَيَذُبُّونَ عَنْهُ، وَيدينُوْنَ
بِقَولِه بِهوَىً وَجهلٍ، وَإِنَّمَا العِبْرَةُ بِقَولِ
جُمْهُوْرِ الأُمَّةِ الخَالينَ مِنَ الهوَى وَالجَهْلِ،
المتَّصِفِينَ بِالوَرَعِ وَالعِلْمِ.
فَتَدبّرْ -يَا عَبْدَ اللهِ- نحْلَةَ الحَلاَّجِ الَّذِي
هُوَ مِنْ رءوس القرَامِطَةِ، وَدعَاةِ الزَّنْدَقَةِ،
وَأَنِصْفْ وَتَوَرَّعْ وَاتَّقِ ذَلِكَ، وَحَاسِبْ
نَفْسكَ فَإِنْ تبرهَنَ لَكَ أَنَّ شَمَائِلَ هَذَا
المَرْءِ شَمَائِلُ عدوٍّ لِلإِسْلاَمِ، مُحبٍّ
للرِّئاسَةِ، حريصٍ عَلَى الظُهُوْرِ بباطلٍ وَبحقٍّ،
فَتبرَّأْ مِنْ نِحْلتِه، وَإِنْ تبرهنَ لَكَ -وَالعيَاذُ
بِاللهِ- أَنَّهُ كَانَ وَالحَالَةِ هَذِهِ مُحقّاً
هَادِياً مهدِيّاً فَجِدِّدْ إِسْلاَمَكَ، وَاسْتغثْ
بربِّكَ أَنْ يُوَفِّقَكَ لِلْحقِّ، وَأَنْ يُثَبِّتَ
قَلْبَكَ عَلَى دِيْنِهِ، فَإِنَّمَا الهُدَى نُورٌ الله
يقذِفُهُ اللهُ فِي قلبِ عبدِه المُسْلِمِ، وَلاَ قُوَّةَ
إِلاَّ بِاللهِ، وَإِن شككتَ وَلَمْ تَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ،
وَتبرَّأَتَ مِمَّا رُمِي بِهِ، أَرحتَ نَفْسكَ، ولم يسألك
الله عنه أصلا.
وقال في "السير" "12/ 17-18":
سئل عبد الله بن منازل الزاهد عن شيخ الصوفية أبي
إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ شَيْبَان القِرْمِيْسِينِيُّ
زَاهدُ الجَبَل، فَقَالَ: هُوَ حُجَّةٌ الله عَلَى
الفُقَرَاء، وَأَهْلِ المعاملات والآداب.
(1/67)
وَعَنْ إِبْرَاهِيْمَ قَالَ: مَنْ أَرَادَ
أَنْ يتعطَّل ويتبطل، فليلزم الرخص.
وَقَالَ: عِلْمُ الفَنَاء وَالبَقَاء يَدُور عَلَى
إِخْلاَص الوَحْدَانيَّة، وَصحَّةِ العبوديَّة، وَمَا
كَانَ غَيْرَ هَذَا فهو من المغالطة والزندقة.
فعقب الذهبي -رحمه الله تعالى- "12/ 18" بقوله:
قُلْتُ: صَدَقتَ وَاللهِ، فَإِنَّ الفَنَاء وَالبَقَاء
مِنْ تُرَّهَات الصُّوْفِيَّة, أَطْلَقَهُ بَعْضهُم،
فَدَخَلَ مِنْ بَابه كل إلحادي وكل زِنْدِيْق، وَقَالُوا:
مَا سِوَى الله بَاطِلٌ فَانٍ، وَاللهِ تَعَالَى هُوَ
البَاقِي، وَهُوَ هَذِهِ الكَائِنَات، وَمَا ثَمَّ شَيْء
غَيْره.
ويَقُوْلُ شَاعرهُم:
وَمَا أَنْتَ غَيْرَ الكُون ... بَلْ أَنْتَ عَيْنُه
ويَقُوْلُ آخر:
وَمَا ثَمَّ إِلاَّ اللهُ لَيْسَ سِوَاهُ
فَانظر إِلَى هَذَا الْمُرُوق وَالضَّلاَل، بَلْ كُلُّ مَا
سِوَى الله محدَثٌ مَوْجُود، قَالَ الله -تَعَالَى:
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59] .
وإنما أراد قدماء الصوفية الفناء نسيَانَ المخلوقَات،
وَتركَهَا، وَفنَاء النَّفس عَنِ التَّشَاغُل بِمَا سِوَى
الله، وَلاَ يُسَلَّمُ إِلَيْهِم هَذَا أَيْضاً، بَلْ
أَمرنَا اللهُ وَرَسُوْلُه بِالتَّشَاغل بِالمخلوقَات
ورؤيتها والإقبال عليها، وتعظيم خالقها قال تَعَالَى:
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف:
185] ، وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] ، وقال عليه
السلام: "حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاء وَالطِّيب" 1.
وَقَالَ: "كَأَنَّك علمتَ حُبَّنَا لِلْحم".
وَكَانَ يحِبُّ عَائِشَة وَيحبُّ أَباهَا، ويحب أسامة،
ويحب سبطيه، ويحب الحلواء
__________
1 حسن: أخرجه النسائي "7/ 61"، وأحمد "3/ 28"، وقد خرجته
في الجزء الثاني عشر بتعليقنا رقم "19" فراجعه ثمت.
(1/68)
وَالعَسَل، وَيحبّ جَبَل أُحُد، وَيحبُّ
وَطَنه، وَيحبُّ الأَنْصَار، إِلَى أَشيَاء لاَ تحصَى
مِمَّا لاَ يغني المؤمن عنها قط.
وقال في "السير" "12/ 28":
قال الحَافِظ شَيْخُ الإِسْلاَمِ أَبُو سَعِيْدٍ بنُ
الأَعْرَابِيِّ البصري الصوفي: عِلْمُ المعْرفَة غَيْرُ
محصورٍ لاَ نهَايَة لَهُ وَلاَ لوُجُوده، وَلاَ لِذَوْقِهِ
إِلَى أَنْ قَالَ -وَلَقَدْ أَحسن فِي المَقَال: فَإِذَا
سَمِعْتُ الرَّجُل يَسْأَل عَنِ الجَمْع أَوِ الفَنَاء،
أَوْ يُجِيْب فِيْهِمَا، فَاعلمْ أَنَّهُ فَارغٌ، لَيْسَ
مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ إِذْ أَهلُهمَا لاَ يَسْأَلُوْنَ
عَنْهُ لِعْلمهم أنه لا يدرك بالوصف.
فعقب الذهبي -رحمه الله- "12/ 28-29":
قُلْتُ: إِي وَاللهِ، دقَّقُوا وَعمَّقُوا، وَخَاضُوا فِي
أسرار عظيمة، ما مَعَهُم عَلَى دَعْوَاهُم فِيْهَا سِوَى
ظنٍّ وَخيَالٍ، ولا الوجود لتِلْك الأَحْوَال مِنَ
الفَنَاء وَالمحو وَالصَّحو وَالسُّكر إلا مجرد خطرات
ووساوس، وما تفوه بعبارتهم صِدِّيْق وَلاَ صَاحِبٌ، وَلاَ
إِمَامٌ مِنَ التَّابِعِيْنَ. فإن طالبتهم بدعاويهم مقتول,
وَقَالُوا: مَحْجُوب، وَإِن سَلَّمت لَهُم قِيَادك تخبَّط
مَا مَعَكَ مِنَ الإِيْمَان، وَهبَطَ بِك الحَال عَلَى
الحَيْرَة وَالمُحَال، وَرَمَقْت العُبَّاد بِعَين
المَقْت، وَأَهْل القُرْآن، وَالحَدِيْثِ بِعَين البُعْد،
وَقُلْتَ: مسَاكين محجوبُوْنَ فلاَ حَوْلَ وَلاَ قوَّة
إِلاَّ بِاللهِ.
فَإِنَّمَا التَّصَوُّف وَالتَأَلُّه وَالسُّلوك
وَالسَّيْر وَالمَحَبَّة مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
الرِّضَا عَنِ اللهِ، وَلزوم تَقْوَى الله، وَالجِهَادِ
فِي سَبِيْل الله، وَالتَأَدُّب بآدَاب الشَّريعَة مِنَ
التِّلاَوَة بترتيلٍ وَتدبُّرٍ وَالقِيَامِ بخَشْيَةٍ
وَخشوعٍ، وَصَوْمِ وَقتٍ، وَإِفطَار وَقت، وَبَذْلَ
المَعْرُوْف، وَكَثْرَة الإِيثَار، وَتَعْلِيم العَوَام،
وَالتَّوَاضع لِلْمُؤْمِنين, وَالتعزُّز عَلَى الكَافرين،
وَمَعَ هَذَا فَالله يَهْدِي مَنْ يَشَاء إِلَى صرَاطٍ
مُسْتَقِيْمٍ.
وَالعَالِمُ إِذَا عَرِيَ مِنَ التَّصوف وَالتَألُّه،
فَهُوَ فَارغ، كَمَا أَنَّ الصُّوْفِيّ إِذَا عَرِيَ مِنْ
عِلْمِ السُّنَّة، زَلَّ سوَاءِ السَّبيل.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ مِنْ عُلَمَاء
الصُّوْفِيَّة، فترَاهُ لاَ يَقْبَلُ شَيْئاً مِنِ
اصطلاحات القوم إلا بحجة.
(1/69)
وقال في "السير" "12/ 116":
قال الخلدي شَيْخ الصُّوْفِيَّة أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ
بنُ مُحَمَّدِ بن نصير: مضيتُ إِلَى عَبَّاس الدُّوْرِيّ،
وَأَنَا حَدَث، فكتبتُ عَنْهُ مَجْلِساً، وَخَرَجْتُ
فلقينِي صُوفيٌ، فَقَالَ: أَيشٍ هَذَا؟ فَأَريتُه فَقَالَ:
وَيْحَك، تَدَعُ عِلْمَ الخِرَق، وَتَأَخذُ عِلْم الوَرَق!
ثُمَّ خرَّق الأَورَاق، فَدَخَلَ كَلاَمُه فِي قلبِي, فَلم
أَعدْ إِلَى عَبَّاس، ووقفت بعرفة ستا وخمسين وقفة.
فعقب الذهبي بقوله: ماذا إِلاَّ صُوفيٌّ جَاهِلٌ يمزِّق
الأَحَادِيْثَ النَّبويَة، وَيحُضُّ على أمر مجهول، ما
أحوجه إلى العلم.
وقال في "السير" "9/ 336":
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: أَملَى عَلَيَّ أَحْمَدُ بنُ
عَاصِمٍ الحَكِيْمُ: النَّاسُ ثَلاَثُ طَبَقَاتٍ:
مَطْبُوْعٌ غَالِبٌ، وهم المؤمنون فإذا غفلوا، ذكوا،
وَمَطْبُوْعٌ مَغْلُوْبٌ، فَإِذَا بُصِّرُوا، أَبْصَرُوا
وَرَجَعُوا بِقُوَّةِ العَقْلِ، وَمَطْبُوْعٌ مَغْلُوْبٌ
غَيْرُ ذِي طِبَاعٍ، وَلاَ سبيل إلى رد هذا بالمواعظ.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: فَمَا الظَّنُّ إِذَا كَانَ
وَاعِظُ النَّاسِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ عَبْدَ بَطْنِهِ
وَشَهْوَتِهِ، وَلَهُ قَلْبٌ عَرِيٌّ مِنَ الحُزْنِ
وَالخَوْفِ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ فِسْقٌ
مَكِيْنٌ، أَوِ انْحَلاَلٌ مِنَ الدِّيْنِ، فَقَدْ خَابَ
وَخَسِرَ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يفضحه الله تعالى.
وقال في "السير" "9/ 349":
قال أحمد بن حنبل في هشام بن عمار: أنه طياش لأنه بلغه
أَنَّهُ قَالَ فِي خُطبَتِهِ: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي تجلى
لخلقه بخلقه".
فعقب الذهبي بقوله: هذه الكلمة لا ينبغي إِطْلاَقُهَا،
وَإِنْ كَانَ لَهَا مَعْنَىً صَحِيْحٌ، لَكِنْ يَحْتَجُّ
بِهَا الحُلُوْلِيُّ وَالاتِّحَادِيُّ، وَمَا بَلَغَنَا
أَنَّه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تَجَلَّى لِشَيْءٍ إِلاَّ
بَجَبَلِ الطُّورِ فَصَيَّرَهُ دَكّاً. وَفِي تَجَلِّيْهِ
لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اخْتِلاَفٌ أَنكَرَتْهُ عَائِشَةُ وَأَثْبَتَهُ ابْنُ
عباس.
وقال في "السير" "10/ 50":
قال ابن عيينة: غضب الله داء لا دواء له.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: دواؤُهُ كَثْرَةُ
الاسْتِغْفَارِ بِالأَسحَارِ، وَالتَّوبَةُ النَّصوحُ.
ويبين الحافظ الذهبي فساد مذهب الفلاسفة ويحذر من كتبهم
بأوجز عبارة وأخصر بيان:
(1/70)
قال في "السير" "14/ 270":
قد ألف أبو حامد محمد بن محمد الشافعي الغزالي فِي ذَمِّ
الفَلاَسِفَة كِتَاب "التهَافت" وَكَشَفَ عوَارهُم،
وَوَافقهُم فِي موَاضِع ظنّاً مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ حقٌّ,
أَوْ مُوَافِقٌ لِلملَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ
بِالآثَار وَلاَ خِبْرَةٌ بِالسُّنَنِ النَّبويَّة
القَاضِيَة عَلَى العَقْل، وَحُبِّبَ إِلَيْهِ إِدمَانُ
النَّظَر فِي كِتَاب "رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَا"
وَهُوَ دَاءٌ عُضَال، وَجَرَبٌ مُرْدٍ، وَسُمٌّ قَتَّالٌ،
وَلَوْلاَ أَنَّ أَبَا حَامِد مِنْ كِبَارِ الأَذكيَاء،
وَخيَارِ المُخلِصينَ، لَتَلِفَ, فَالحِذَارَ الحِذَارَ
مِنْ هَذِهِ الكُتُب وَاهرُبُوا بدينكُم من شبه الأوائل،
وإلا وَقعتُم فِي الحَيْرَةِ فَمَنْ رَام النَّجَاةَ
وَالفوز فَليلزمِ العُبُوديَّة وَليُدْمِنِ الاسْتغَاثَةَ
بِاللهِ وَليبتهِلْ إِلَى مَوْلاَهُ فِي الثَّبَاتِ عَلَى
الإِسْلاَمِ، وَأَنْ يُتوفَّى عَلَى إِيْمَانِ
الصَّحَابَة, وَسَادَةِ التَّابِعِيْنَ، وَاللهُ الْمُوفق،
فَبِحُسْنِ قَصْدِ العَالِمِ يُغْفَرُ لَهُ وَيَنجُو، إِنْ
شاء الله.
وقال في "السير" "12/ 185":
قَالَ أَبُو إِسْمَاعِيْلَ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ
الأَنْصَارِيُّ مؤلف كتاب "ذم الكلام": سمعت عبد الصمد بنِ
مُحَمَّدٍ, سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: أَنكرُوا عَلَى أبي
حاتم ابن حِبَّانَ قولَهُ: "النُّبُوَّةُ": "العِلْمُ
وَالعملُ"، فحكمُوا عَلَيْهِ بالزندقة، وهجر، وكتب فيه إلى
الخليفة، فكتب بقتله.
فعقب الذهبي -رحمه الله- "12/ 185-186" بقوله:
قُلْتُ: هَذِهِ حِكَايَةٌ غريبَةٌ، وَابنُ حِبَّانَ فَمِنْ
كبارِ الأَئِمَةِ، وَلَسْنَا نَدَّعِي فِيْهِ العِصْمَةَ
مِنَ الخَطَأِ، لَكِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ الَّتِي
أَطلقَهَا، قَدْ يُطلقُهَا المُسْلِمُ، وَيُطلقُهَا
الزِّنديقُ الفيلسوفُ، فَإِطلاَقُ المُسْلِمِ لها لا
ينبغي، لكن يعتذر عنه، فتقول: لَمْ يُردْ حصرَ المبتدأِ
فِي الخَبَرِ، وَنظيرُ ذَلِكَ قولُهُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
وَالسَّلاَمُ: "الحَجُّ عَرَفَةٌ". وَمعلومٌ أَنَّ
الحَاجَّ لاَ يصيرُ بِمُجَرَّدِ الوُقُوْفِ بِعَرَفَةِ
حَاجّاً، بَلْ بَقِيَ عَلَيْهِ فروضٌ وَواجبَاتٌ،
وَإِنَّمَا ذكرَ مُهمَّ الحَجِّ. وَكَذَا هَذَا ذكرَ
مُهمَّ النُّبُوَّةِ، إِذْ مِنْ أَكملِ صفَاتِ النَّبِيِّ
كمَالُ العِلْمِ وَالعملِ، فَلاَ يَكُون أَحدٌ نَبِيّاً
إِلاَّ بوجودِهِمَا، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ برَّزَ فِيْهِمَا
نَبِيّاً، لأَنَّ النُّبُوَّةَ مَوْهِبَةٌ مِنَ الحَقِّ
تَعَالَى، لاَ حِيْلَةَ للعبدِ فِي اكتسَابِهَا، بَلْ
بِهَا يتولَّدُ العِلْمُ اللَّدُنِّيُّ وَالعملُ
الصَّالِحُ.
وَأَمَّا الفيلسوفُ فَيَقُوْلُ: النُّبُوَّةُ مكتسبَةٌ
يُنْتجُهَا العِلْمُ وَالعملُ، فَهَذَا كفرٌ، وَلاَ
يريدُهُ أَبُو حَاتِمٍ أَصلاًَ، وَحَاشَاهُ، وَإِنْ كَانَ
فِي تقَاسيمِهِ مِنَ الأَقوَالِ، وَالتَّأَويلاَتِ
البعيدة، والأحاديث المنكرة، وعجائب، وَقَدِ اعترفَ أَنَّ
"صحيحَهُ" لاَ يقدرُ عَلَى الكشفِ مِنْهُ إِلاَّ مَنْ
حِفْظَهُ، كمنْ عِنْدَهُ مصحفٌ لاَ يقدرُ عَلَى مَوْضِعِ
آيَةٍ يريدُهَا منه إلا من يحفظه.
(1/71)
وقال في "السير" "11/ 321":
قال واعظ بلخ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ الفَضْلِ
بنِ العباس البلخي: ذَهَابُ الإِسْلاَمِ مِنْ أَرْبَعَةٍ
لاَ يَعْملُوْنَ بِمَا يَعْلَمُوْنَ، وَيَعْمَلُوْنَ بِمَا
لاَ يَعْلَمُوْنَ، وَلاَ يَتَعَلَّمُوْنَ مَا لاَ
يَعلَمُوْنَ، وَيَمنَعُوْنَ النَّاسَ مِنَ العِلْمِ.
فعقب الذهبي -رحمه الله- بقوله: قلت: هذه نعوت رءوس
العَرَبِ وَالتُّركِ وَخَلْقٍ مِنْ جَهَلَةِ العَامَّةِ،
فَلَو عَمِلُوا بِيَسِيْرِ مَا عَرَفُوا، لأَفلَحُوا
وَلَوْ وَقَفُوا عن العمل بالبدعة، لَوُفِّقُوا، وَلَوْ
فَتَّشُوا عَنْ دِيْنِهِم وَسَأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ
-لاَ أَهْلَ الحِيَلِ وَالمَكْرِ- لَسَعِدُوا، بَلْ
يُعرِضُونَ عَنِ التَّعَلُّمِ تِيْهاً وَكَسَلاً،
فَوَاحِدَةٌ مِن هَذِهِ الخِلاَلِ مُرْدِيَةٌ، فَكَيْفَ
بِهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ؟! فَمَا ظَنُّكَ إِذَا انْضَمَّ
إِلَيْهَا كِبْرٌ، وَفُجُورٌ، وَإِجرَامٌ وَتَجَهْرُمٌ
عَلَى اللهِ؟! نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.
وقال في "السير" "11/ 393":
قال زاهر بن أحمد السرخسي: لَمَّا قَرُبَ حُضُوْرُ أَجل
أَبِي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ فِي دَارِي بِبَغْدَادَ،
دعَانِي فَأَتَيْتُه، فَقَالَ: اشهدْ عليَّ أَنِّي لاَ
أَكفِّر أَحَداً مِنْ أَهْلِ القِبْلَة، لأَنَّ الكلَّ
يُشيَرَوْنَ إِلَى معبودٍ وَاحِد، وإنما هذا كله اختلاف
العبادات.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: وَبنحو هَذَا أَدين، وَكَذَا
كَانَ شَيْخُنَا ابْنُ تيمِيَّة فِي أَوَاخِرِ أَيَّامه
يَقُوْلُ: أَنَا لاَ أَكفر أَحَداً مِنَ الأُمَّة،
وَيَقُوْلُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لاَ يُحَافِظُ عَلى الْوضُوء إِلاَّ مُؤْمِنٌ"
1، فَمَنْ لاَزَمَ الصَّلَوَاتِ بوضوء فهو مسلم.
هذه هي عقيدة الحافظ العلامة شمس الدين الذهبي رحمه الله،
وهي عقيدة أهل السنة والجماعة التي كان عليها سلف الأمة
الصحابة العظماء ومن تابعهم رضي الله عنهم أجمعين. ثم يبين
أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلي -وكذا سائر الأنبياء-
وأنه عاش أميا ومات أميا.
قال في "السير" "7/ 570":
النبي صلى الله عليه وسلم لا يَبْلَى، وَلاَ تَأْكلُ
الأَرْضُ جَسَدَهُ، وَلاَ يَتَغَيَّرُ رِيْحُهُ، بَلْ هُوَ
الآنَ -وَمَا زَالَ- أَطْيَبُ رِيْحاً مِنَ المِسْكِ
وَهُوَ حَيٌّ فِي لَحْدِهِ، حَيَاةَ مِثْلِهِ فِي
البَرزَخِ الَّتِي هِيَ أَكمَلُ مِنْ حَيَاةِ سَائِرِ
النَّبِيِّينَ، وَحَيَاتُهُم بِلاَ رَيْبٍ أَتَمُّ
وَأَشرَفُ مِنْ حَيَاةِ الشُّهدَاءِ الَّذِيْنَ هُم بنص
الكتاب: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ
__________
1 صحيح: راجع تخريجنا له في الجزء الحادي عشر بتعليقنا رقم
"440".
(1/72)
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آلُ عِمْرَانَ:
169] ، وَهَؤُلاَءِ حَيَاتُهُم الآنَ الَّتِي فِي عَالِمِ
البَرْزَخِ حَقٌّ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ حَيَاةَ
الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلاَ حَيَاةَ أَهْلِ
الجَنَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَهُم شِبْهٌ بِحَيَاةِ
أَهْلِ الكَهْفِ. وَمِنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ آدَمَ
وَمُوْسَى لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ مُوْسَى، وَحَجَّهُ
آدَمُ بِالعِلْمِ السَّابِقِ، كَانَ اجْتِمَاعُهُمَا
حَقّاً، وَهُمَا فِي عَالِمِ البَرْزَخِ، وَكَذَلِكَ
نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أخبر أنه رأى في
السموات آدم، وموسى، وإبراهيم، وإدريس، وعيسى، صلى الله
وسلم عليهم، وطالت محاورته مع مُوْسَى، هَذَا كُلُّه
حَقٌّ، وَالَّذِي مِنْهُم لَمْ يَذُقِ المَوْتَ بَعْدُ،
هُوَ عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
فما زال نبينا طَيِّباً مُطَيَّباً، وَإِنَّ الأَرْضَ
مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا أَكلُ أَجْسَادِ الأَنْبِيَاءِ،
وَهَذَا شَيْءٌ سَبِيْلُهُ التَّوقِيْفُ، وَمَا عَنَّفَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- لَمَّا قَالُوا لَهُ
بِلاَ عِلْمٍ: وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْك
وَقَدْ أَرَمْتَ؟ يَعْنِي: قَدْ بَلِيتَ. فَقَالَ: "إِنَّ
اللهَ حَرَّمَ على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء".
وقال في "السير" "11/ 116":
عَنْ عَوْنِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِيْهِ
قَالَ: مَا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى قرأَ وَكَتَبَ1.
فعقب الذهبي "11/ 116-118" بقوله:
قُلْتُ: لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَتَبَ شَيْئاً, إِلاَّ مَا فِي "صَحِيْح
البُخَارِيِّ" مِنْ أَنَّهُ يَوْمَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَة
كَتَبَ اسْمَهُ "مُحَمَّد بن عَبْدِ اللهِ"2.
وَاحتجَّ بِذَلِكَ القَاضِي أَبُو الوَلِيْدِ البَاجِي،
وَقَامَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاء الأَنْدَلُس
بِالإِنْكَار، وَبدَّعُوهُ حَتَّى كَفَّرَهُ بَعْضهُم.
وَالخَطْبُ يَسِيْر، فَمَا خَرَجَ عَنْ كَونه أُمِّياً
بِكِتَابَةِ اسْمه الكَرِيْم، فجَمَاعَةٌ مِنَ المُلُوك
مَا عَلِمُوا مِنَ الكِتَابَة سِوَى مُجَرَّد العلاَمَة،
وَمَا عدَّهُمُ النَّاسُ بِذَلِكَ كَاتِبِين، بَلْ هُم
أُمِّيُّون، فَلاَ عِبْرَةَ بِالنَادرِ، وَإِنَّمَا الحكمُ
للغَالِب, وَاللهُ -تَعَالَى- فَمَنْ حِكْمَتِهِ لَمْ
يُلْهِم نَبِيَّه تَعَلُّمَ الكِتَابَة، وَلاَ قِرَاءة
الكُتُبِ حَسْماً لمَادَةِ المُبْطِلِيْن، كَمَا قَالَ
-تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ
كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ
الْمُبْطِلُونَ} [الْعَنْكَبُوت: 48] ، وَمَعَ هَذَا
فَقَدِ افتَرَوْا وَقَالُوا: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5] ،
فانظر إلى قحة
__________
1 ضعيف: في إسناده مجالد، وهو ابن سعيد، أجمعوا على ضعفه.
2 صحيح: أخرجه البخاري "2698"، ومسلم "1783" من حديث
البراء بن عازب رضي الله عنه.
(1/73)
المعَانِدِ، فَمَنِ الَّذِي كَانَ
بِمَكَّةَ وَقتَ المَبْعثَ يَدْرِي أَخْبَارَ الرُّسْلِ
وَالأُمم الخَاليَة؟ مَا كَانَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ بِهَذِهِ
الصِّفَةِ أَصلاً. ثُمَّ مَا المَانعُ مِنْ تعلُّم
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَةَ
اسْمِهِ وَاسمِ أَبِيْهِ مَعَ فرط ذكَائِه، وَقوَةِ
فَهمِه، وَدوَام مُجَالسته لِمَنْ يَكْتُبُ بَيْنَ
يَدَيْهِ الوَحْيَ وَالكُتُبَ إِلَى مُلُوْك الطوَائِف، ثم
هذا خاتمه في يده، وَنَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ1.
فَلاَ يَظنُّ عَاقلٌ أَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- مَا
تعقَّلَ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّه يَقْتَضِي أَنَّهُ عرف
كِتَابَة اسْمِه وَاسمِ أَبِيْهِ، وَقَدْ أَخبر اللهُ
بِأَنَّهُ -صلوَات الله عَلَيْهِ- مَا كَانَ يَدْرِي مَا
الكِتَاب ثُمَّ علمه الله ما لم يكن يعلم، ثم الكتاب
صِفَةُ مَدْحٍ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
[الْعلق: 4-5] ، فَلَمَّا بلَّغَ الرِّسَالَة، وَدَخَلَ
النَّاسُ فِي دين الله أَفواجاً، شَاءَ اللهُ لنبيِّه أَنْ
يَتَعَلَّم الكِتَابَة النَّادرَة الَّتِي لاَ يَخْرُج
بِمثلِهَا عَنْ أَنْ يَكُوْنَ أُمِياً، ثُمَّ هُوَ
القَائِلُ: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمَيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ
نَحْسُبُ" 2. فصدقَ إِخبارُهُ بذلك، إذا الحُكم للغَالِب،
فنفَى عَنْهُ وَعَنْ أُمته الكِتَابَة وَالحِسَاب لِندُور
ذَلِكَ فِيهِم وَقِلَّته، وَإِلاَّ فَقَدْ كَانَ فِيهِم
كُتَّابُ الوَحِي وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ فِيهِم مَنْ
يَحسُب، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإِسرَاء: 12] .
وَمِنْ عِلمهُم الفَرَائِضُ، وَهِيَ تَحتَاجُ إِلَى حِسَاب
وَعَوْل، وَهُوَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فينفي عَنِ
الأُمَّةِ الحِسَاب، فعَلمنَا أَنَّ المنفيَّ كمَالُ علم
ذَلِكَ وَدقَائِقه الَّتِي يَقُوْم بِهَا القِبْطُ
وَالأَوَائِل، فَإِنَّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ
دين الإِسْلاَم وَلله الْحَمد.
فَإِنَّ القِبْطَ عَمَّقُوا فِي الحسَاب وَالجَبْر،
وَأَشيَاء تُضيِّعُ الزَّمَان وَأَربَابُ الهَيْئَة
تكلَّمُوا فِي سَير النُّجُوْم وَالشَّمْس وَالقَمَر،
وَالكسوف وَالقِرَان3 بِأُمُور طَوِيْلَة لَمْ يَأْتِ
الشَّرْعُ بِهَا، فَلَمَّا ذكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الشُّهُور وَمعرفَتَهَا بَيَّنَ أَنَّ
معرفَتَهَا لَيْسَتْ بِالطُّرق الَّتِي يَفْعَلهَا
المنَجِّم وَأَصْحَابُ التَّقْوِيم، وَأَنَّ ذَلِكَ لاَ
نعبأُ بِهِ فِي ديننَا، وَلاَ نحسُبُ الشهرَ بِذَلِكَ
أَبَداً، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الشهرَ بِالرُّؤْيَة فَقط،
فَيَكُوْن تِسْعاً وَعِشْرِيْنَ، أَوْ بتكملَة
ثَلاَثِيْنَ، فَلاَ نَحتَاجُ مَعَ الثَّلاَثِيْنَ إِلَى
تكلُّف رؤية.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "5875"، ومسلم "2092" "56" وقد
خرجته في الجزء الحادي عشر بتعليقنا رقم "106".
2 صحيح: أخرجه البخاري "1913"، ومسلم "1080" "15" وقد
خرجته في الجزء الحادي عشر بتعليقنا رقم "107" فراجعه ثمت.
3 القران: يعني قران الكواكب.
(1/74)
وَأَمَّا الشِّعْرُ فنزَّهَهُ الله
تَعَالَى عَنِ الشِّعرِ قَالَ -تَعَالَى: {وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] ،
فَمَا قَالَ الشِّعر مَعَ كَثْرَتِهِ وَجُوْدَتِهِ فِي
قُرَيْش، وَجَرَيَان قرَائِحِهِم بِهِ، وَقَدْ يقعُ شَيْءٌ
نَادرٌ فِي كَلاَمهِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- مَوزُوناً،
فَمَا صَارَ بِذَلِكَ شَاعِراً قَطُّ، كَقَوْلِه:
أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ
المُطَّلِبْ
وَقَوْله:
هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيْتِ ... وَفِي سَبِيْلِ
الله ما لقيت
وَمِثلُ هَذَا قَدْ يقعُ فِي كتب الفِقْه وَالطِّبِّ
وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَقَع اتِّفَاقاً، وَلاَ يقصِدُهُ
المُؤلِّف وَلاَ يشعرُ بِهِ، أَفَيَقُوْلُ مُسْلِمٌ قَطُّ:
إِنَّ قوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ
رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] ، هُوَ بَيْت؟! مَعَاذَ اللهِ
وَإِنَّمَا صَادَفَ وَزناً فِي الجُمْلَةِ، وَاللهُ
أَعْلَمُ.
وقال في "السير" "13/ 208":
المشركُون وَالكتَابيُّون وَغَيْرُهُم عَرَفُوا اللهَ
-تَعَالَى- بِمعنَى أنهم لم يحجدوه، وَعَرَفُوا أَنَّهُ
خَالِقُهُم، قَالَ -تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزُّخرف: 87] ،
وَقَالَ: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إِبْرَاهِيْم: 10]
فَهَؤُلاَءِ لَمْ يُنْكِرُوا البَارِئَ، وَلاَ جحدوا
الصَّانعَ، بَلْ عَرَفُوهُ، وَإِنَّمَا جَهِلُوا نُعُوتَهُ
المُقَدَّسَة، وقالوا عليه ما لا يعلمون، والمؤمن يعرف
رَبَّهُ بِصِفَاتِ الكَمَال، وَنفَى عَنْهُ سمَاتِ
النَّقْصِ فِي الجُمْلَةِ، وآمن بِرَبِّهِ، وَكفَّ عَمَّا
لاَ يعلَمُ، فَبهَذَا يتبيَّنُ لَكَ أَنَّ الكَافِر عَرَفَ
اللهَ مِنْ وَجْهٍ، وَجَهِلَهُ مِنْ وُجُوه، وَالنبيُّون
عرفُوا اللهَ تَعَالَى، وَبَعْضُهُم أَكملُ مَعْرِفَةً
لله، وَالأَوْلِيَاءُ فَعَرفُوهُ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً،
وَلَكِنَّهَا دُوْنَ مَعْرِفَةِ الأَنْبِيَاء، ثُمَّ
المُؤْمِنُوْنَ العَالِمُوْنَ بعدَهُم، ثُمَّ
الصَّالِحُوْنَ دونَهُم. فَالنَّاسُ فِي مَعْرِفَةِ
رَبِّهم مُتَفَاوِتُوْنَ، كَمَا أَنَّ إِيْمَانَهُم
يَزِيْدُ وَيَنْقُص، بَلْ وَكَذَلِكَ الأُمَّةُ فِي
الإِيْمَانِ بِنَبِيِّهم وَالمعرفَةِ لَهُ عَلَى مرَاتب،
فَأَرفعُهُم فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مثلاً،
ثم عدد مِنَ السَّابِقِيْن، ثُمَّ سَائِر الصَّحَابَة,
ثُمَّ عُلَمَاءُ التَّابِعِيْنَ، إِلَى أَنْ تَنْتَهِي
المعرفَةُ بِهِ وَالإِيْمَانُ بِهِ إِلَى أَعْرَابِيٍّ
جَاهِلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ نسَاء القرى، ودون كذلك وذلك
القول في معرفة الناس لدين الإسلام.
وقال في "السير" "8/ 145":
قال هَارُوْنُ بنُ عَبْدِ اللهِ الحَمَّالُ: مَا رَأَيْتُ
أَخْشَعَ للهِ مِنْ وَكِيْعٍ، وَكَانَ عَبْدُ المَجِيْدِ
بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ أَبِي رَوَّادٍ أخشع منه.
(1/75)
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: خُشُوْعُ
وَكِيْعٍ مَعَ إِمَامَتِهِ فِي السُّنَّةِ، جعله مقدما،
بخلاف خشوع هذا المرجئ -عبد المجيد عبد العزيز عَفَا اللهُ
عَنْهُ- أَعَاذنَا اللهُ وَإِيَّاكُم مِنْ مُخَالَفَةِ
السُّنَّةِ، وَقَدْ كَانَ عَلَى الإِرْجَاءِ عَدَدٌ
كَثِيْرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ، فَهَلاَّ عُدَّ
مَذْهَباً، وَهُوَ قَوْلُهُم: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقّاً عِنْد
اللهِ السَّاعَةَ مَعَ اعْتِرَافِهِم بِأَنَّهُم لاَ
يَدْرُوْنَ بِمَا يموت عليهم المُسْلِمُ مِنْ كُفْرٍ أَوْ
إِيْمَانٍ، وَهَذِهِ قَوْلَةٌ خَفِيْفَةٌ, وَإِنَّمَا
الصَّعْبُ مِنْ قَوْلِ غُلاَةِ المُرْجِئَةِ: إِنَّ
الإِيْمَانَ هُوَ الاعتِقَادُ بِالأَفْئِدَةِ، وَإِنَّ
تَارِكَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، وَشَارِبَ الخَمْرِ،
وَقَاتِلَ الأَنْفُسِ، وَالزَّانِيَ، وَجَمِيْعَ هَؤُلاَءِ
يَكُوْنُوْن مُؤْمِنِيْنَ كَامِلِي الإِيْمَانِ، وَلاَ
يَدْخُلُوْنَ النَّارَ وَلاَ يُعَذَّبُوْنَ أَبَداً.
فَرَدُّوا أَحَادِيْثَ الشَّفَاعَةِ المُتَوَاتِرَةَ،
وَجَسَّرُوا كُلَّ فَاسِقٍ وَقَاطِعِ طَرِيْقٍ على
الموبقات نعوذ بالله من الخذلان.
وقال الذهبي في "السير" "11/ 312":
كل من أحب الشيخين فليس بغال، بلى مَنْ تَعَرَّضَ لَهُمَا
بِشَيْءٍ مِنْ تَنَقُّصٍ فَإِنَّهُ رَافِضِيٌّ غَالٍ،
فَإِنْ سَبَّ، فَهُوَ مِنْ شِرَارِ الرَّافِضَةِ، فَإِنْ
كَفَّرَ، فَقَدْ بَاءَ بِالكُفْرِ، وَاسْتَحَقَّ الخزي.
وقال في "السير" "12/ 419":
لَيْسَ تَفْضِيْلُ عَلِيٍّ بِرَفضٍ، وَلاَ هُوَ ببدعَةٌ،
بَلْ قَدْ ذَهبَ إِلَيْهِ خَلقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ
والتابعين، فكل من عثمان وعلي ذي فضل وسابقة وجهاد، وهما
مُتَقَارِبَانِ فِي العِلْمِ وَالجَلاَلَة، وَلعلَّهُمَا
فِي الآخِرَةِ مُتسَاويَانِ فِي الدَّرَجَةِ، وَهُمَا مِنْ
سَادَةِ الشُّهَدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَلَكِنَّ
جُمُهورَ الأُمَّةِ عَلَى تَرَجيْحِ عُثْمَانَ عَلَى
الإِمَامِ عَلِيٍّ، وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ وَالخَطْبُ فِي
ذَلِكَ يسيرٌ، وَالأَفضَلُ مِنْهُمَا -بِلاَ شكٍّ- أَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ، مَنْ خَالفَ فِي ذَا فَهُوَ شِيعِيٌّ
جَلدٌ، وَمَنْ أَبغضَ الشَّيْخَيْنِ وَاعتقدَ صِحَّةَ
إِمَامَتِهِمَا فَهُوَ رَافضيٌّ مَقِيتٌ، وَمَنْ
سَبَّهُمَا وَاعتقدَ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِإِمَامَيْ هُدَى
فَهُوَ من غلاة الرافضة، أبعدهم الله.
وقال في "السير" "13/ 231":
قَالَ ابْنُ حَزْم: الإِمَامِيَّةُ كُلُّهُم عَلَى أَنَّ
القُرْآن مُبَدَّلٌ، وَفِيْهِ زيَادَةٌ وَنقصٌ سِوَى
المُرْتَضَى، فَإِنَّهُ كَفَّر مَنْ قَالَ ذَلِكَ،
وَكَذَلِكَ صَاحِباهُ أبو يعلى الطوسي، وأبو القاسم
الرازي.
فعقب الذهبي بقوله: وفي تواليف المرتضى -أبي طالب علي بن
حسين بن موسى- سَبُّ أَصْحَابِ رَسُوْل اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ علمٍ
لاَ ينفع.
(1/76)
هكذا يتبرأ الحافظ -رحمه الله- من سب
الصحابة الكرام، وممن بدل القرآن، وهذه هي عقيدة أهل السنة
والجماعة، وما كان عليه سلف الأمة قد أبانها الحافظ في
أقواله المبثوثة في هذا الكتاب العظيم وفي ردوده على أهل
الزيغ والضلال بيانا ساطعا يستضيء به كل باحث عن الحق.
لقد كان الحافظ الذهبي -رحمه الله- رأسا في علوم الحديث،
وألف فيها كتبا كثيرة اعتمد عليها كثير من العلماء إلى
يومنا هذا، وكانت له آراء حديثية هامة تهم كل عامل ومشتغل
بهذا العلم الشريف، هذه الأقوال والآراء مبثوثة في كتابه
"السير"، وسائر كتبه، نذكر بعض هذه الأقوال والآراء
ليستضيء بها كل مشتغل بهذا العلم الجليل، وليقف القارئ على
هذه المكانة السنية التي تبوأها هذا الحافظ الجليل حتى
أصبح يشار إليه بالبنان بين أكابر علماء الحديث، فدونك
أيها القارئ الكريم هذه الأقوال والآراء:
قال في "السير" "7/ 115":
قال جماعة سليمان بن حرب: سمعت حماد بن زيد يَقُوْلُ فِي
قَوْلِهِ: {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ} [الحُجُرَاتُ: 2] قَالَ: أَرَى رَفْعَ
الصَّوْتِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَرَفعِ الصَّوْتِ
عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، إِذَا قُرِئَ حَدِيْثُهُ وَجَبَ
عَلَيْكَ أَنْ تنصت له، كما تنصت للقرآن يعمر.
وقال في "السير" "9/ 7":
يَنْبَغِي لِلْمُحَدِّثِ أَنْ لاَ يُشْهِرَ الأَحَادِيْثَ
الَّتِي يَتَشَبَّثُ بِظَاهِرِهَا أَعدَاءُ السُّنَنِ مِنَ
الجَهْمِيَّةِ، وَأَهْلِ الأَهْوَاءِ، وَالأَحَادِيْثَ
الَّتِي فِيْهَا صِفَاتٌ لَمْ تَثْبُتْ، فَإِنَّكَ لَنْ
تُحَدِّثَ قَوْماً. بِحَدِيْثٍ لاَ تَبْلُغُهُ
عُقُوْلُهُم، إِلاَّ كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِم، فَلاَ
تَكْتُمِ العِلْمَ الَّذِي هُوَ عِلْمٌ، وَلاَ تَبْذُلْهُ
لِلْجَهَلَةِ الَّذِيْنَ يَشْغَبُوْنَ عَلَيْكَ، أَوِ
الَّذِيْنَ يَفْهَمُونَ مِنْهُ ما يضرهم.
وقال في "السير" "9/ 22":
قَالَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: حَدِّثُوا النَّاسَ
بِمَا يَعْرِفُوْنَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُوْنَ. وَقَدْ
صحَّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَتَمَ حَدِيْثاً كَثِيْراً
مِمَّا لاَ يَحْتَاجُهُ المُسْلِمُ فِي دِيْنِهِ، وَكَانَ
يَقُوْلُ: لَوْ بَثَثْتُهُ فِيْكُم لَقُطِعَ هَذَا
البُلْعُومُ. وَلَيْسَ هذا من باب كتمان العلم فِي شَيْءٍ،
فَإِنَّ العِلْمَ الوَاجِبَ يَجِبُ بَثُّهُ وَنَشْرُهُ،
وَيَجِبُ عَلَى الأُمَّةِ حِفْظُهُ، وَالعِلْمُ الَّذِي
فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ مِمَّا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ
يَتَعَيَّنُ نقله ويتأكد
(1/77)
نشرهن وَيَنْبَغِي لِلأُمَّةِ نَقْلُهُ،
وَالعِلْمُ المُبَاحُ لاَ يَجِبُ بَثُّهُ، وَلاَ يَنْبَغِي
أَنْ يَدْخُلَ فِيْهِ إِلاَّ خَوَاصُّ العُلَمَاءِ.
وَالعِلْمُ الَّذِي يَحْرُمُ تَعَلُّمُهُ وَنَشْرُهُ:
عِلْمُ الأَوَائِلِ، وَإِلَهِيَّاتُ الفَلاَسِفَةِ،
وَبَعْضُ رِيَاضَتِهِم -بَلْ أَكْثَرُهُ- وَعِلْمُ
السِّحْرِ، وَالسِّيْمِيَاءُ، وَالكِيْمِيَاءُ،
وَالشَّعْبَذَةُ، وَالحِيَلُ، وَنَشْرُ الأَحَادِيْثِ
المَوْضُوْعَةِ، وَكَثِيْرٌ مِنَ القَصَصِ البَاطِلَةِ أو
المنكرة، وسيرة البطال المختلفة، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ،
وَرَسَائِلُ إِخْوَانِ الصَّفَا، وَشِعْرٌ يُعَرَّضُ
فِيْهِ إِلَى الجَنَابِ النَّبَوِيِّ، فَالعُلُوْمُ
البَاطِلَةُ كَثِيْرَةٌ جِدّاً فَلْتُحْذَرْ، وَمَنِ
ابْتُلِيَ بِالنَّظَرِ فِيْهَا لِلْفُرْجَةِ
وَالمَعْرِفَةِ مِنَ الأَذْكِيَاءِ فَلْيُقَلِّلْ مِنْ
ذَلِكَ، وَلْيُطَالِعْهُ وَحْدَهُ وَلْيَسْتَغْفِرِ اللهَ
تَعَالَى وَلْيَلْتَجِئْ إِلَى التَّوْحِيْدِ،
وَالدُّعَاءِ بِالعَافِيَةِ فِي الدِّيْنِ، وَكَذَلِكَ
أَحَادِيْثُ كَثِيْرَةٌ مَكْذُوْبَةٌ وَرَدَتْ فِي
الصِّفَاتِ، لاَ يَحِلُّ بَثُّهَا إلا للتحذير مِنِ
اعْتِقَادِهَا، وَإِنْ أَمْكَنَ إِعْدَامُهَا، فَحَسَنٌ،
اللَّهُمَّ فَاحْفَظْ عَلَيْنَا إِيْمَانَنَا وَلاَ
قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ.
وقال في "السير" "7/ 458":
أَكْثَرَ الأَئِمَّةُ عَلَى التَّشَدِيْدِ فِي أَحَادِيْثِ
الأَحكَامِ، والترخيص قليلا، لا كل الترخيص في الفضائل
والرقاق، فَيَقْبَلُوْنَ فِي ذَلِكَ مَا ضَعُفَ
إِسْنَادُهُ لاَ مَا اتُّهِم رُوَاتُهُ، فَإِنَّ
الأَحَادِيْثَ المَوْضُوْعَةَ وَالأَحَادِيْثَ
الشَّدِيْدَةَ الوَهنِ، لاَ يَلْتَفِتُوْنَ إِلَيْهَا،
بَلْ يَرْوُونَهَا لِلتَّحذِيرِ مِنْهَا، وَالهَتْكِ
لِحَالِهَا، فَمَنْ دَلَّسَهَا، أَوْ غطى تباينها، فَهُوَ
جَانٍ عَلَى السُّنَّةِ، خَائِنٌ للهِ وَرَسُوْلِه، فَإِنْ
كَانَ يَجْهَلُ ذَلِكَ، فَقَدْ يُعْذَرُ بِالجَهْلِ،
وَلَكِنْ سَلُوا أَهْلَ الذِّكرِ إِنْ كُنْتُم لاَ تعلمون.
وقال في "السير" "12/ 168":
كان الحفاظ يطلقون لفظة "ثقة" على الشيخ الذي سماعه
بقرَاءةِ مُتْقِنٍ، وَإِثْبَاتِ عدلٍ، وَترخَّصُوا فِي
تسمِيته بِالثِّقَةِ، وَإِنَّمَا الثِّقَةُ فِي عُرفِ
أَئِمَّةِ النَّقْدِ كَانَتْ تقعُ عَلَى العَدْلِ فِي
نَفْسِهِ، المُتْقِنُ لِمَا حَمَلَهُ، الضَابطُ لِمَا
نقلَ، وَلَهُ فَهْمٌ ومعرفة بالفن، فتوسع المتأخرون.
وقال في "السير" "10/ 341":
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ بَرَكَةَ الحَلَبِيّ: سَمِعْتُ
عُثْمَان بن خُرَّزَاذ يَقُوْلُ: يحتَاجُ صَاحِب
الحَدِيْثِ إِلَى خَمْسٍ، فَإِن عَدِمَتْ وَاحِدَةٌ فَهِيَ
نقصٌ، يحتَاجُ إِلَى عقلٍ جَيِّدٍ، وَدينٍ، وَضَبطٍ،
وَحذَاقَةٍ بِالصِّنَاعَة، مع أمانة تعرف منه.
(1/78)
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: الأَمَانَةُ
جُزء مِنَ الدِّين، وَالضَّبْطُ دَاخلٌ فِي الحِذْق،
فَالَّذِي يحتَاج إِلَيْهِ الحَافِظُ أَن يَكُون تقياً
ذكياً، نَحْوِيّاً لُغَوِيّاً زكياً حَيِيّاً، سَلَفياً،
يَكْفِيهِ أَنْ يَكتبَ بِيَدِهِ مائَتَي مُجَلَّد، ويحصل
من الدواوين المعتبرة خمسمائة مجلَّد، وَأَنَّ لاَ يَفْتُر
مِنْ طَلَب العِلْم إِلَى المَمَات، بنيَّةٍ خَالصَةٍ
وَتواضُعٍ، وَإِلاَّ فَلاَ يتعن.
وقال في "السير" "9/ 129-130":
نحن لاَ نَدَّعِي العِصْمَةَ فِي أَئِمَّةِ الجَرحِ
وَالتَّعدِيلِ، لَكِنْ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ صَوَاباً،
وَأَنْدَرُهُمْ خَطَأً، وَأَشَدُّهُم إِنصَافاً،
وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ التَّحَامُلِ، وَإِذَا اتَّفَقُوا
عَلَى تَعدِيلٍ أَوْ جَرْحٍ، فَتَمَسَّكْ بِهِ، وَاعضُضْ
عَلَيْهِ بِنَاجِذَيْكَ، وَلاَ تَتَجَاوَزْهُ، فَتَنْدَمَ،
وَمَنْ شَذَّ مِنْهُم، فَلاَ عِبْرَةَ بِهِ، فَخَلِّ
عَنْكَ العَنَاءَ، وَأَعطِ القَوسَ بَارِيَهَا، فَوَاللهِ
لَوْلاَ الحُفَّاظُ الأَكَابِرُ، لَخَطَبَتِ
الزَّنَادِقَةُ عَلَى المَنَابِرِ، وَلَئِنْ خَطَبَ
خَاطِبٌ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ، فَإِنَّمَا هُوَ بِسَيفِ
الإِسْلاَمِ، وَبِلِسَانِ الشَّرِيعَةِ، وَبِجَاهِ
السُّنَّةِ، وَبِإِظهَارِ مُتَابَعَةِ مَا جَاءَ بِهِ
الرَّسُوْلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعُوْذُ
بِاللهِ مِنْ الخذلان.
وقال في "السير" "10/ 104":
من نظر في كلام البخاري فِي الجرحِ وَالتعديلِ عَلِمَ
وَرعَهُ فِي الكَلاَمِ فِي النَّاسِ، وَإِنصَافَهُ
فِيْمَنْ يُضَعِّفُهُ، فَإِنَّهُ أَكْثَر مَا يَقُوْلُ:
مُنْكَرُ الحَدِيْثِ، سَكَتُوا عَنْهُ، فِيْهِ نظرٌ،
وَنَحْو هَذَا. وَقَلَّ أَنْ يَقُوْلَ: فُلاَنٌ كَذَّابٌ،
أَوْ كَانَ يَضَعُ الحَدِيْثَ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: إِذَا
قُلْتُ: فُلاَنٌ فِي حَدِيْثِهِ نَظَرٌ، فهو منهم وَاهٍ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لاَ يُحَاسبُنِي اللهُ أَنِّي
اغتبْتُ أَحَداً، وَهَذَا هُوَ وَاللهِ غَايَةُ الوَرَعِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ الوَرَّاقُ: سَمِعْتُهُ
-يَعْنِي: البُخَارِيَّ- يَقُوْلُ: لاَ يَكُوْنُ لِي خصمٌ
فِي الآخِرَةِ، فَقُلْتُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ
يَنْقِمُونَ عَلَيْكَ فِي كِتَابِ "التَّارِيْخ"
وَيَقُوْلُوْنَ: فِيْهِ اغتيَابُ النَّاسِ، فَقَالَ:
إِنَّمَا روينَا ذَلِكَ رِوَايَةً لَمْ نَقُلْهُ مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِنَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِئْسَ مَوْلَى العَشِيْرَةِ"
يَعْنِي حَدِيْث عَائِشَةَ1. وسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: مَا
اغتبْتُ أَحَداً قَطُّ مُنْذُ عَلِمتُ أَنَّ الغِيبَةَ
تَضُرُّ أهلها. وقال الحافظ في "الميزان" "1/ 6": نقل ابن
القطان أن البخاري قال: كل من قلت فيه: منكر الحديث فلا
تحل الرواية عنه.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "6/ 38"، والحميدي "249"، والبخاري
"6054"، "6131"، ومسلم "2591" "73" وغيرهم وقد خرجته في
الموضع المشار إليه، فراجعه ثمت.
(1/79)
وقال في "السير" "7/ 583":
كان يحيى بن سعيد القطان مُتَعَنِّتاً فِي نَقدِ
الرِّجَالِ، فَإِذَا رَأَيْتَهُ قَدْ وَثَّقَ شَيْخاً،
فَاعْتمِدْ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا لَيَّنَ أَحَداً،
فَتَأَنَّ فِي أَمرِهِ حَتَّى تَرَى قَوْلَ غَيْرِهِ
فِيْهِ، فَقَدْ لَيَّنَ مِثْلَ إِسْرَائِيْلَ، وَهَمَّامٍ،
وَجَمَاعَةٍ احْتَجَّ بِهِمُ الشَّيْخَانِ، وَلَهُ كِتَابٌ
فِي "الضُّعفَاءِ" لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، يَنْقُلُ مِنْهُ
ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، وَيَقعُ كَلاَمُهُ فِي
سُؤَالاَتِ عَلِيٍّ، وأبي حفص الصيرفي، وابن معين له.
وقال في "الميزان" "1/ 61":
لا يلتفت إلى قول الأزدي، فإن في لسانه في الجرح رهقا.
وقال الذهبي في "الميزان": لم يجتمع اثنان من علماء هذا
الشأن قط على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة.
وقال في "السير" "8/ 365":
كُلُّ تَغَيُّرٍ يُوْجَدُ فِي مَرَضِ المَوْتِ، فَلَيْسَ
بِقَادِحٍ فِي الثِّقَةِ، فَإِنَّ غَالِبَ النَّاسِ
يَعْتَرِيْهِم فِي المَرَضِ الحَادِّ نَحْوُ ذَلِكَ،
وَيَتِمُّ لَهُمْ وَقْتَ السِّيَاقِ وَقَبْلَهُ أَشَدُّ
مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا المَحْذُوْرُ أَنْ يَقَعَ
الاخْتِلاَطُ بِالثِّقَةِ، فَيُحَدِّثُ فِي حَالِ
اخْتِلاَطِهِ بِمَا يَضْطَرِبُ فِي إِسْنَادِهِ، أَوْ
متنه، فيخالف فيه.
وقال في "السير" "9/ 314":
كل أحد يتعلل قبل موته غَالِباً وَيَمْرَضُ، فَيَبْقَى
أَيَّامَ مَرَضِهِ مُتَغَيَّرَ القُوَّةِ الحَافِظَةِ،
وَيَمُوْتُ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ عَلَى تَغَيُّرِهِ، ثُمَّ
قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيْرٍ يَخْتَلِطُ ذِهنُهُ،
وَيَتَلاَشَى عِلْمُهُ، فَإِذَا قَضَى زَالَ بِالمَوْتِ
حِفْظُهُ، فَكَانَ مَاذَا؟ أَفَبِمِثْلِ هَذَا يُلَيَّنُ
عَالِمٌ قَطُّ؟ كَلاَّ والله.
وقال الحافظ في "السير" "7/ 115":
المدلس دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آلُ عِمْرَانَ: 188] ،
قُلْتُ: وَالمُدَلِّسُ فِيْهِ شَيْءٌ مِنَ الغِشِّ,
وَفِيْهِ عَدَمُ نُصحٍ لِلأُمَّةِ، لاَ سِيَّمَا إِذَا
دَلَّسَ الخَبَرَ الوَاهِي يُوْهِمُ أَنَّهُ صَحِيْحٌ،
فَهَذَا لاَ يَحِلُّ بِوَجْهٍ، بِخِلاَفِ بَاقِي أَقسَامِ
التَّدْلِيسِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ عبد الوارث بن سعيد:
التدليس ذل.
وقال في "السير" "9/ 313":
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَاكِمُ: إِسْحَاقُ، وَابْنُ
المبارك، ومحمد ابن يحيى هؤلاء دفنوا كتبهم.
(1/80)
فعقب الذهبي "9/ 314" بقوله:
قُلْتُ: هَذا فَعَلَهُ عِدَّةٍ مِنَ الأَئِمَّةِ، وَهُوَ
دَالٌّ أَنَّهُم لاَ يَرَوْنَ نَقْلَ العِلْمِ وِجَادَةً
فَإِنَّ الخَطَّ قد يَتَصَحَّفُ عَلَى النَّاقِلِ، وَقَدْ
يُمكِنُ أَنْ يُزَادَ فِي الخَطِّ حَرْفٌ، فَيُغَيِّرُ
المَعْنَى، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا اليَوْمَ فَقَدْ
اتَّسَعَ الخَرقُ, وَقَلَّ تَحْصِيْلُ العِلْمِ مِنْ
أَفْوَاهِ الرِّجَالِ، بَلْ وَمِنَ الكُتُبِ غَيْرِ
المَغْلُوْطَةِ، وَبَعْضُ النَّقَلَةِ للمسائل قد لا يحسن
أن يتهجى.
وقال في "السير" "9/ 326":
قال مطين: أوصى أبو كريب محمد بن العلاء بكتبه أن تدفن
فدفنت.
فعقب الذهبي "9/ 327" بقوله:
قُلْتُ: فَعَلَ هَذَا بِكُتُبِه مِنَ الدَّفْنِ وَالغَسلِ
وَالإِحرَاقِ عِدَّةٌ مِنَ الحُفَّاظِ خَوْفاً مِنْ أَنْ
يَظْفَرَ بِهَا مُحَدِّثٌ قَلِيْلُ الدِّيْنِ، فَيُغَيِّرَ
فِيْهَا، ويزيد فيها, فينسب ذلك إلى الحفاظ، أَوْ أَنَّ
أُصُوْلَه كَانَ فِيْهَا مَقَاطِيعُ وَوَاهِيَاتٌ مَا
حَدَّثَ بِهَا أَبَداً، وَإِنَّمَا انْتَخَبَ مِنْ
أُصُوْلِه مَا رَوَاهُ وَمَا بَقِيَ، فَرَغِبَ عَنْهُ،
وَمَا وَجَدُوا لِذَلِكَ سِوَى الإِعدَامِ فَلِهَذَا
وَنَحْوِهِ دفن -رحمه الله- كتبه.
وقال في "السير" "6/ 594":
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو
اليَمَانِ قال: دخلنا على شعيب بن أبي حمزة حَتَّى
احْتُضِرَ، فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبِي، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ
يَأْخُذَهَا فَلْيَأْخُذْهَا وَمَنْ أَرَادَ أَنْ
يَعْرِضَ، فَلْيَعرِضْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ,
فَلْيَسْمَعْهَا مِنِ ابني، فإنه سمعها مني.
فعقب عليه الذهبي "6/ 595" بقوله:
قُلْتُ: فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ عَامَّةَ مَا
يَرْوِيْهِ أَبُو اليَمَانِ عَنْهُ بِالإِجَازَةِ،
وَيُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ: بِأَخْبَرَنَا، وَرِوَايَاتُ
أَبِي اليَمَانِ عَنْهُ ثَابِتَةٌ فِي "الصَّحِيْحَيْنِ"،
وَذَلِكَ بِصِيغَةِ: أَخْبَرَنَا وَمَنْ رَوَى شَيْئاً
مِنَ العِلْمِ بِالإِجَازَةِ عَنْ مِثْلِ شُعَيْبِ بنِ
أَبِي حَمْزَةَ فِي إِتقَانِ كُتُبِهِ وَضَبطِهِ، فَذَلِكَ
حُجَّةٌ عِنْدَ المُحَقِّقِيْنَ، مَعَ اشْتِرَاطِ أَنْ
يَكُوْنَ الرَّاوِي بِالإِجَازَةِ ثِقَةً، ثَبْتاً
أَيْضاً، فَمَتَى فُقِدَ ضُبِطَ الكِتَابُ المُجَازُ،
وَإِتْقَانُهُ، وَتحَرِيْرُهُ، أَوْ إِتقَانُ المُجِيْزِ
أَوِ المُجَازُ لَهُ، انحَطَّ المَروِيُّ عن رتبة الاحتجاج
به. ومتى فقد الصِّفَاتُ كُلُّهَا، لَمْ تَصِحَّ
الرِّوَايَةُ عِنْدَ الجُمْهُوْرِ.
وَشُعَيْبٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فَقَدْ كَانَتْ كُتُبُهُ
نِهَايَةً فِي الحُسْنِ، وَالإِتقَانِ، وَالإِعْرَابِ،
وَعَرَفَ
(1/81)
هُوَ مَا يُجِيْزُ وَلِمَنْ أَجَازَ، بَلْ
رِوَايَةُ كُتُبِهِ بِالوِجَادَةِ كَافٍ فِي الحُجَّةِ،
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي اليَمَانِ عَنْهُ بِذَلِكَ دَلِيْلٌ
عَلَى إِطْلاَقِ: أَخْبَرَنَا فِي الإِجَازَةِ كَمَا
يَتَعَانَاهُ فُضَلاَءُ المُحَدِّثِيْنَ بِالمَغْرِبِ،
وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّدْلِيسِ، فَإِنَّهُ يُوهِمُ أنه
بالسماع. والله أعلم.
وقال في "السير" "6/ 571":
القَدَرِيُّ، وَالمُعْتَزِلِيُّ، وَالجَهْمِيُّ،
وَالرَّافِضِيُّ إِذَا عُلِمَ صِدْقُهُ فِي الحَدِيْثِ
وَتَقْوَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ دَاعِياً إِلَى بِدْعَتِهِ،
فَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ العُلَمَاءِ قَبُولُ
رِوَايَتِهِ، وَالعَمَلِ بِحَدِيْثِهِ، وَتَرَدَّدُوا فِي
الدَّاعِيَةِ، هَلْ يُؤْخَذُ عَنْهُ؟ فَذَهَبَ كَثِيْرٌ
مِنَ الحُفَّاظِ إِلَى تَجَنُّبِ حَدِيْثِهِ،
وَهُجْرَانِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُم: إِذَا عَلِمْنَا
صِدْقَهُ، وَكَانَ دَاعِيَةً، وَوَجَدْنَا عِنْدَهُ
سُنَّةً تَفَرَّدَ بِهَا، فَكَيْفَ يَسُوغُ لَنَا تَرْكُ
تِلْكَ السُّنَّةِ؟
فَجَمِيْعُ تَصَرُّفَاتِ أَئِمَّةِ الحَدِيْثِ تُؤْذِنُ
بِأَنَّ المُبتَدِعَ إِذَا لَمْ تُبِحْ بِدعَتُه خُرُوْجَه
مِنْ دَائِرَةِ الإِسْلاَمِ، وَلَمْ تُبِحْ دَمَهُ،
فَإِنَّ قَبُولَ مَا رَوَاهُ سَائِغٌ. وَهَذِهِ
المَسْأَلَةُ لَمْ تَتَبَرْهَنْ لِي كَمَا يَنْبَغِي،
وَالَّذِي اتَّضَحَ لِي مِنْهَا: أَنَّ مَنْ دخل في بدعة,
ولم يعد من رءوسها، وَلاَ أَمْعَنَ فِيْهَا، يُقْبَلُ
حَدِيْثُه، كَمَا مَثَّلَ الحافظ أبو زكريا يحيى بن معين
بقتادة، وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَسَعِيْدُ بنُ
أَبِي عَرُوْبَةَ، وَعَبْدُ الوارث، وغيرهم، وهم يقولون
بالقدر وهم ثقات، وحديثهم في كتب الإسلام لصدقهم وحفظهم.
وقال في "السير" "12/ 385":
كان أَبُو القَاسِمِ عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ عَبْدِ اللهِ
الداركي الشافعي يُتَّهَمُ بِالاِعْتِزَالِ وَكَانَ
رُبَّمَا يَخْتَارُ فِي الفَتْوَى، فيُقَال لَهُ فِي
ذَلِكَ، فَيَقُوْلُ: وَيْحَكمْ! حَدَّثَ فُلاَنٌ عَنْ
فُلاَنٍ، عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِكَذَا وَكَذَا، وَالأَخْذُ بِالحَدِيْثِ
أَوْلَى مِنَ الأَخْذِ بِقَولِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي
حَنِيْفَةَ.
فعقب الذهبي -رحمه الله- بقوله: هَذَا جَيِّدٌ، لَكِنْ
بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ بِذَلِكَ الحَدِيْثِ
إِمَامٌ مِنْ نُظَرَاءِ الإِمَامَيْنِ مِثْلُ مَالِكٍ،
أَوْ سُفْيَانَ، أَوِ الأَوْزَاعِيِّ، وَبأَنْ يَكُونَ
الحَدِيْثُ ثَابِتاً سَالِماً مِنْ عِلَّةٍ، وَبأَنْ لاَ
يَكُونَ حُجَّةُ أَبِي حَنِيْفَةَ وَالشَّافِعِيِّ
حَدِيْثاً صحيحاً معَارضاً للآخَرِ. أَمَّا مَنْ أَخَذَ
بِحَدِيْثٍ صَحِيْحٍ وَقَدْ تنكَّبَهُ سَائِرُ أَئِمَّةِ
الاِجتهَادِ، فَلاَ كَخَبَرِ: "فَإِنْ شَرِبَ فِي
الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ"، وَكَحَدِيْثِ: "لعن الله
السارق، يسرق البيضة، فتقطع يده".
وقال في السير "السير" "11/ 83":
قَالَ أَبُو سَعِيْدٍ بنُ يُوْنُسَ فِي "تَارِيْخِهِ"
كَانَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ إِمَاماً
حَافِظاً ثبتا.
(1/82)
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَذَا أَصحُّ،
فَإِنَّ ابْنَ يُوْنُسَ حَافِظٌ يَقِظٌ، وَقَدْ أَخَذَ
عَنِ النَّسَائِيِّ، وَهُوَ بِهِ عارف. ولم يكن أحد في رأس
الثلاثمائة أحفظ من النسائي، وهو أَحْذَقُ بِالحَدِيْثِ
وَعِلَلِهِ وَرِجَالِهِ مِنْ مُسْلِمٍ، وَمِنْ أَبِي
دَاوُدَ، وَمِنْ أَبِي عِيْسَى، وَهُوَ جَارٍ فِي
مِضْمَارِ البُخَارِيِّ, وَأَبِي زُرْعَةَ إِلاَّ أَنَّ
فِيْهِ قَلِيْلَ تَشَيُّعٍ وَانحِرَافٍ عَنْ خُصُومِ
الإِمَامِ عَلِيٍّ كمُعَاوِيَةَ، وَعَمْرو، وَاللهِ
يُسَامِحُهُ.
وَقَدْ صَنَّفَ "مُسْنَدَ عَلِيٍّ" وَكِتَاباً حَافِلاً
فِي الكُنَى، وَأَمَّا كِتَاب: "خَصَائِص عَلِيٍّ" فَهُوَ
دَاخِلٌ فِي "سُنَنِهِ الكبير"، وكذلك كتاب "عمل اليوم
والليلة"، وهو مجلد، وهو جملة من "السُّنَنِ الكَبِيْرِ"
فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَلَهُ كِتَابِ "التَّفْسِيْرِ" فِي
مُجَلَّدٍ، وَكِتَابِ "الضُّعَفَاءِ"، وَأَشيَاء وَالَّذِي
وقع لنا من "سننه" هو الكتاب "المجتبى" مِنْهُ، انتِخَابِ
أَبِي بَكْرٍ بنِ السُّنِّيّ، سَمِعْتُهُ مَلَفَّقاً مِنْ
جَمَاعَةٍ سَمِعُوهُ مِنِ ابْنِ بَاقَا بِرِوَايَتِهِ عَنْ
أَبِي زُرْعَةَ المَقْدِسِيِّ سَمَاعاً لِمُعْظَمِهِ،
وَإِجَازَةً لِفَوْتِ لَهُ مُحَدَّدٍ فِي الأَصْلِ. قَالَ
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ
حَمَدٍ الدوني، قال أخبرني القاضي أحمد بن الحسين الكار
حدثنا ابن السني، عنه.
وقال في "السير" "8/ 363-364":
مَا فَوْقَ عَفَّانَ أَحَدٌ فِي الثِّقَةِ، وَقَدْ
تَنَاكَدَ الحَافِظُ ابْنُ عَدِيٍّ بِإِيْرَادِهِ فِي
كِتَابِ "الكَامِلِ" لكِنَّهُ أَبْدَى أَنَّهُ ذَكَرَهُ
لِيَذُبَّ عَنْهُ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيْمَ بنَ أَبِي
دَاوُدَ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بنَ حَرْبٍ يَقُوْلُ:
أَتُرَى عَفَّانُ كَانَ يَضْبِطُ عَنْ شُعْبَةَ، وَاللهِ
لَوْ جَهَدَ جَهْدَهُ أَنْ يَضْبِطَ عَنْهُ حَدِيْثاً
وَاحِداً مَا قَدَرَ عليه، كان بطيئا رديء الفهم.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَفَّانُ أَشْهَرُ وَأَوْثَقُ
مِنْ أَنْ يُقَالَ فِيْهِ شَيْءٌ، وَلاَ أَعْلَمُ لَهُ
إِلاَّ أَحَادِيْثَ مَرَاسِيْلَ عَنْ حَمَّادِ بنِ
سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ، وَصَلَهَا، وَأَحَادِيْثَ
مَوْقُوْفَةً رَفَعَهَا، وَهَذَا مِمَّا لاَ يَنْقُصُهُ،
فَإِنَّ الثِّقَةَ قَدْ يَهِمُ، وَعَفَّانُ كَانَ قَدْ
رَحَلَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بنُ صَالِحٍ مِنْ مِصْرَ كَانَتْ
رِحْلَتُهُ إِلَيْهِ خَاصَّةً دون غيره.
وقال في تذكرة الحافظ "ص979": كلمة المفيد أول ما استعملت
لقبا في هذا الوقت قبل الثلاثمائة، والحافظ أعلى من المفيد
في العرف، كما أن الحجة فوق الثقة.
وقال في "السير" "10/ 512":
ما زلنا نَسْمَعُ بِهَذَا "التَّفْسِيْر" الكَبِيْر
لأَحْمَدَ عَلَى أَلْسِنَة الطَّلَبَة وَعُمْدَتَهُم
حِكَايَةُ ابْنِ المُنَادِي
(1/83)
هَذِهِ، وَهُوَ كَبِيْرٌ قَدْ سَمِعَ مِنْ
جَدِّهِ وَعَبَّاس الدُّوْرِيّ، وَمن عَبْد اللهِ بن
أَحْمَدَ، لَكِنْ مَا رأَينَا أَحَداً أَخْبَرَنَا عَنْ
وَجودِ هذا "التفسير"، ولا بعضه أو كُرَّاسَة مِنْهُ،
وَلَوْ كَانَ لَهُ وَجود، أَوْ لِشَيْءٍ مِنْهُ
لَنَسَخُوهُ، وَلاعتَنَى بِذَلِكَ طلبَةُ العِلْم،
وَلَحَصَّلُّوا ذَلِكَ، وَلنُقِل إِلَيْنَا، وَلاشْتُهِرَ،
وَلَتَنَافَسَ أَعيَانُ البَغْدَادِيِّيْنَ فِي تَحصِيله،
وَلَنَقَل مِنْهُ ابْنُ جَرِيْر فَمَنْ بَعْدَهُ فِي
تفَاسيرِهِم، وَلاَ -وَاللهِ- يَقْتَضِي أَنْ يَكُوْنَ
عِنْد الإِمَام أَحْمَد فِي التَّفْسِيْر مائَة أَلْف
وَعِشْرُوْنَ أَلف حَدِيْث، فَإِنَّ هَذَا يَكُون فِي قدر
"مُسْنَده" بَلْ أَكْثَر بِالضَّعْف، ثُمَّ الإِمَام
أَحْمَد لَوْ جَمَعَ شَيْئاً فِي ذَلِكَ، لكَانَ يَكُوْنُ
مُنَقَّحاً مهذَّباً عَنِ المشَاهير، فَيَصْغُر لِذَلِكَ
حَجْمه، وَلكَانَ يَكُوْنُ نَحْواً مِنْ عَشْرَة آلاَف
حَدِيْث بِالجَهْد، بَلِ أَقلّ.
ثُمَّ الإِمَام أَحْمَد كَانَ لاَ يرَى التَّصْنِيْف،
وَهَذَا كِتَاب "المُسْنَد" لَهُ لَمْ يصنِّفه هُوَ، وَلاَ
رتَّبه، وَلاَ اعتنَى بتَهْذِيْبه، بَلْ كَانَ يَرْوِيْهِ
لولده نسخا وأجزاء ويأمره: أن أضع هَذَا فِي مُسْنَدِ
فُلاَن، وَهَذَا فِي مُسْنَد فُلاَن، وَهَذَا التَّفْسِيْر
لاَ وُجود لَهُ، وَأَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ،
فَبغدَاد لَمْ تَزَل دَارَ الخُلَفَاء، وَقُبَّةَ
الإِسْلاَم، وَدَارَ الحَدِيْث, وَمحلَّةَ السُّنَن،
وَلَمْ يَزَلْ أَحْمَد فِيْهَا مُعَظَّماً فِي سَائِرِ
الأَعصَار، وَلَهُ تَلاَمِذَةٌ كِبَار، وَأَصْحَابُ
أَصْحَابٍ، وهلم جرا إلى الأمس حِيْنَ اسْتبَاحَهَا جَيْشُ
المَغُول، وَجَرَت بِهَا مِنَ الدِّمَاء سُيول، وَقَدِ
اشْتُهِرَ بِبَغْدَادَ "تَفْسِيْر" ابْن جَرِيْرٍ،
وَتَزَاحَمَ عَلَى تَحْصِيله العُلَمَاء، وَسَارَتْ بِهِ
الرُّكْبَان، وَلَمْ نعرِف مثلَه فِي مَعْنَاهُ، وَلاَ
أُلِّف قبلَه أَكبَرُ مِنْهُ، وَهُوَ فِي عِشْرِيْنَ
مُجَلَّدَةً، وَمَا يحْتَمل أَنْ يَكُوْنَ عِشْرِيْنَ
أَلْف حَدِيْث، بَلْ لَعَلَّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلف
إِسْنَادٍ، فخذه، فعده إن شئت.
وقال في "السير" "7/ 116":
لاَ أَعْلَمُ بَيْنَ العُلَمَاءِ نِزَاعاً فِي أَنَّ
حَمَّادَ بنَ زَيْدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، وَمِنْ
أتقن الحفاظ وأعدمهم غلظا على سعة ما روى رحمه الله.
وقال في "السير" "7/ 107":
كان حماد بن سلمة بَحْراً مِنْ بُحُورِ العِلْمِ، وَلَهُ
أَوهَامٌ فِي سَعَةِ مَا رَوَى، وَهُوَ صَدُوْقٌ، حُجَّةٌ
-إِنْ شَاءَ اللهُ- وَلَيْسَ هُوَ فِي الإِتقَانِ
كَحَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، وَتَحَايدَ البُخَارِيُّ إِخرَاجَ
حَدِيْثِهِ، إِلاَّ حَدِيْثاً خَرَّجَه فِي الرِّقَاقِ،
فَقَالَ: قَالَ لِي أَبُو الوَلِيْدِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ
بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُبَيٍّ،
وَلَمْ يَنحَطَّ حَدِيْثُه عَنْ رُتْبَةِ الحَسَنِ.
وَمُسْلِمٌ رَوَى لَهُ فِي الأُصُوْلِ، عَنْ ثَابِتٍ
وَحُمَيْدٍ، لِكَوْنِهِ خَبِيْراً بهما.
(1/84)
وقد عقد الحافظ فصلا في غاية الأهمية في
التمييز بين الحمادين، حماد بن زيد، وحماد بن سلمة،
والسفيانين سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة لن يجده الباحث
في مكان غير هذا الكتاب، فقال -رحمه الله- في السير" "7/
118":
فَصْلٌ: اشْتَرَكَ الحَمَّادَانِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ
كَثِيْرٍ مِنَ المَشَايِخِ، وَرَوَى عَنْهُمَا جَمِيْعاً
جَمَاعَةٌ مِنَ المُحَدِّثِيْنَ فَرُبَّمَا رَوَى الرَّجُل
مِنْهُم عَنْ حَمَّادٍ، لَمْ يَنْسِبْهُ، فَلاَ يُعْرَفُ
أَيُّ الحَمَّادَيْنِ هُوَ إلا بقرينة، فإن عرى السند عن
القَرَائِنِ، وَذَلِكَ قَلِيْلٌ لَمْ نَقطَعْ بِأَنَّهُ
ابْنُ زَيْدٍ، وَلاَ أَنَّهُ ابْنُ سَلَمَةَ، بَلْ
نَتَرَدَّدُ، أَوْ نُقدِّرُه ابْنَ سَلَمَةَ، وَنَقُوْلُ:
هَذَا الحَدِيْثُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، إِذْ مُسْلِمٌ
قَدِ احْتَجَّ بِهِمَا جَمِيْعاً.
فَمِنْ شُيُوْخِهِمَا مَعاً: أَنَسُ بنُ سِيْرِيْنَ،
وَأَيُّوْبُ، وَالأَزْرَقُ بنُ قَيْسٍ، وَإِسْحَاقُ بنُ
سُوَيْدٍ، وَبُرْدُ بنُ سِنَانٍ، وَبِشْرُ بنُ حَرْبٍ،
وَبَهْزُ بنُ حَكِيْمٍ، وَثَابِتٌ، وَالجَعْدُ أَبُو
عُثْمَانَ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيْلُ، وَخَالِدٌ الحَذَّاءُ،
وَدَاوُدُ بنُ أَبِي هِنْدٍ، وَالجُرَيْرِيُّ، وَشُعَيْبُ
بنُ الحَبْحَابِ، وَعَاصِمُ بنُ أبي النجود، وابن عون،
وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس، وَعُبَيْدُ اللهِ بنُ
عُمَرَ، وَعَطَاءُ بنُ السَّائِبِ، وَعَلِيُّ بنُ زَيْدٍ،
وَعَمْرُو بنُ دِيْنَارٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ زِيَادٍ،
وَمُحَمَّدُ بنُ وَاسِعٍ، وَمَطَرٌ الوَرَّاقُ، وَأَبُو
جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ, وَهِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، وَهِشَامُ
بنُ حَسَّانٍ، وَيَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ الأَنْصَارِيُّ،
وَيَحْيَى بنُ عَتِيْقٍ، وَيُوْنُسُ بنُ عُبَيْدٍ.
وَحَدَّثَ عَنِ الحَمَّادَيْنِ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ
مَهْدِيٍّ، وَوَكِيْعٌ، وَعَفَّانُ، وَحَجَّاجُ بنُ
مِنْهَالٍ، وَسُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ وَشَيْبَانُ،
وَالقَعْنَبِيُّ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ مُعَاوِيَةَ
الجُمَحِيُّ، وَعَبْدُ الأَعْلَى بنُ حَمَّادٍ، وَأَبُو
النُّعْمَانِ عَارِمٌ، وَمُوْسَى بن إسماعيل -لكن ماله
عَنْ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ سِوَى حَدِيْثٍ وَاحِدٍ-
وَمُؤَمَّلُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ، وَهُدْبَةُ، وَيَحْيَى بنُ
حَسَّانٍ، وَيُوْنُسُ بنُ مُحَمَّدٍ المُؤَدِّبُ،
وَغَيْرُهُم.
وَالحُفَّاظُ المُخْتَصُّوْنَ بِالإِكثَارِ،
وَبِالرِّوَايَةِ عَنْ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ: بَهْزُ بنُ
أَسَدٍ، وَحِبَّانُ بنُ هِلاَلٍ، وَالحَسَنُ الأَشْيَبُ،
وَعُمَرُ بنُ عَاصِمٍ.
وَالمُخْتَصُّوْنَ بِحَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، الَّذِيْنَ مَا
لَحِقُوا ابْنَ سَلَمَةَ، فَهُم أَكْثَرُ وَأَوضَحُ:
كَعَلِيِّ بنِ المَدِيْنِيِّ، وَأَحْمَدَ بنِ عَبْدَةَ،
وَأَحْمَدَ بنِ المِقْدَامِ، وَبِشْرِ بنِ مُعَاذٍ
العَقَدِيِّ، وَخَالِدِ بنِ خِدَاشٍ، وَخَلَفِ بنِ
هِشَامٍ، وَزَكَرِيَّا بنِ عَدِيٍّ، وَسَعِيْدِ بنِ
مَنْصُوْرٍ، وَأَبِي الرَّبِيْعِ الزهراني، والقواريري،
وعمرو بن عوف، وَقُتَيْبَةَ بنِ سَعِيْدٍ، وَمُحَمَّدِ بنِ
أَبِي بَكْرٍ المُقَدَّمِيِّ, وَلُوَيْنَ، وَمُحَمَّدِ بنِ
عِيْسَى بنِ الطَّبَّاعِ، وَمُحَمَّدِ بنِ عُبَيْدِ بنِ
حِسَابٍ، وَمُسَدَّدٍ، وَيَحْيَى بنِ حَبِيْبٍ، وَيَحْيَى
بنِ يَحْيَى التَّمِيْمِيِّ، وَعِدَّةٍ من أقرانهم
(1/85)
فَإِذَا رَأَيتَ الرَّجُلَ مِنْ هَؤُلاَءِ
الطَّبَقَةِ قَدْ رَوَى عَنْ حَمَّادٍ وَأَبْهَمَهُ،
عَلِمتَ أَنَّهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَأَنَّ هَذَا لَمْ يُدرِكْ
حَمَّادَ بنَ سَلَمَةَ، وَكَذَا إِذَا رَوَى رَجُلٌ
مِمَّنْ لَقِيَهُمَا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ،
وَسَكَتَ، نَظَرَتَ فِي شَيْخِ حَمَّادٍ مَنْ هُوَ؟ فَإِنْ
رَأَيتَهُ مِنْ شُيُوْخِهِمَا عَلَى الاشْتِرَاكِ،
تَردَّدْتَ، وَإِنْ رَأَيتَه مِنْ شُيُوْخِ أَحَدِهِمَا
عَلَى الاخْتِصَاصِ وَالتَّفرُّدِ، عَرَفْتَه بِشُيُوْخِه
المُخْتَصِّيْنَ بِهِ، ثُمَّ عَادَةُ عَفَّانَ لاَ يَرْوِي
عَنْ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ إِلاَّ وَيَنسِبُهُ, وَرُبَّمَا
رَوَى عَنْ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ فَلاَ يَنسِبُهُ،
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ، وَهُدْبَةُ
بنُ خَالِدٍ، فَأَمَّا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ، فَعَلَى
العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ عَارِمٌ يَفْعَلُ،
فَإِذَا قَالاَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، فَهُوَ ابْنُ
زَيْدٍ, وَمَتَى قَالَ مُوْسَى التَّبُوْذَكِيُّ:
حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، فَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، فَهُوَ
راويته وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَيَقَعُ مِثْلُ هَذَا الاشْتِرَاكِ سَوَاءً فِي
السُّفْيَانَيْنِ, فَأَصْحَابُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ
كِبَارٌ قُدَمَاءُ، وَأَصْحَابُ ابْنِ عُيَيْنَةَ صِغَارٌ،
لَمْ يُدْرِكُوا الثَّوْرِيَّ، وَذَلِكَ أَبْيَنُ، فَمَتَى
رَأَيتَ القَدِيْمَ قَدْ رَوَى، فقال حدثنا سفيان، وأبهم،
فهو الثوري، هم كَوَكِيْعٍ وَابْنِ مَهْدِيٍّ
وَالفِرْيَابِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ. فَإِنَّ رَوَى وَاحِدٌ
مِنْهُم عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بَيَّنَهُ، فَأَمَّا
الَّذِي لَمْ يَلْحَقِ الثَّوْرِيَّ، وَأَدْرَكَ ابْنَ
عُيَيْنَةَ، فَلاَ يَحْتَاجُ أَنْ يَنْسِبَهُ، لِعَدَمِ
الإِلْبَاسِ فعليك بمعرفة طبقات الناس.
وقال في "السير" "10/ 374":
عن ابْنِ مَاجَهْ قَالَ: عَرَضْتُ هَذِهِ "السُّنَنَ"
عَلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، فَنَظَر فِيْهِ،
وَقَالَ: أَظُنُّ إِنْ وَقَعَ هَذَا فِي أَيْدِي النَّاسِ
تَعَطَّلَتْ هَذِهِ الجَوَامِعُ، أَوْ أَكْثَرُهَا، ثُمَّ
قَالَ: لَعَلَّ لاَ يَكُونُ فِيْهِ تَمَامُ ثَلاَثِيْنَ
حَدِيْثاً، مِمَّا في إسناده ضعف، أو نحو ذا.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: قَدْ كَانَ ابْنُ مَاجَهْ
حَافِظاً نَاقِداً صادقا، واسع العلم، وغنما غَضَّ مِنْ
رُتْبَةِ "سُنَنِهِ" مَا فِي الكِتَابِ مِنَ
المَنَاكِيْرِ، وَقَلِيْلٌ مِنَ المَوْضُوْعَاتِ، وَقَوْلُ
أَبِي زُرْعَةَ -إِنْ صَحَّ- فَإِنَّمَا عَنَى
بِثَلاَثِيْنَ حَدِيْثاً؛ الأحاديث المطروحة السَّاقِطَةِ،
وَأَمَّا الأَحَادِيْث الَّتِي لاَ تَقُوْمُ بِهَا حجة
فكثيرة، لعلها نحو الألف.
وقال في "السير" "10/ 179":
لَيْسَ فِي "صَحِيْحِ مُسْلِمٍ" مِنَ العوَالِي إِلاَّ مَا
قلَّ، كَالقَعْنَبِيّ عَنْ أَفلح بن حُمَيْد، ثُمَّ
حَدِيْث حَمَّاد بن سَلَمَةَ، وَهَمَّام، وَمَالِك،
وَاللَّيْث، وَلَيْسَ فِي الكِتَاب حَدِيْث عَال لشُعْبَة،
ولا للثوري، ولا لإسرائيل، وهو كِتَاب نَفِيس كَامِل فِي
مَعْنَاهُ، فَلَمَّا رَآهُ الحافظ أُعجبُوا بِهِ، وَلَمْ
(1/86)
يَسْمَعُوهُ لِنُزُولِهِ، فعمدُوا إِلَى
أَحَادِيْث الكِتَاب، فسَاقوهَا مِنْ مرويَّاتِهم عَالِيَة
بدرجَة وَبِدَرَجَتَيْنِ، وَنَحْو ذَلِكَ, حَتَّى أَتَوا
عَلَى الجَمِيْع هَكَذَا، وَسَمَّوهُ: "الْمُسْتَخْرج
عَلَى صَحِيْح مُسْلِم". فعلَ ذَلِكَ عِدَّة مِنْ فُرْسَان
الحَدِيْث، مِنْهُم: أَبُو بكر مُحَمَّد بن محمد بن رجاء،
وأبو عوانة يعقوب بن إِسْحَاقَ الإِسْفَرَايِيْنِي -وَزَاد
فِي كِتَابِهِ متوناً مَعْرُوْفَة بَعْضهَا لَيِّنٌ-
وَالزَّاهِدُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بن حمدون
الحِيْرِيّ، وَأَبُو الوَلِيْدِ حَسَّان بن مُحَمَّدٍ
الفَقِيْه، وَأَبُو حَامِدٍ أَحْمَد بن مُحَمَّدٍ
الشَّاركِي الهَرَوِيّ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ
عَبْدِ اللهِ بنِ زَكَرِيَّا الجوزقِي، وَالإِمَامُ أَبُو
عَلِيٍّ المَاسَرْجِسِي، وَأَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَد بن
عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ الأصبهاني، وآخرون لا يحضرني
ذكرهم الآن.
وقال في "السير" "10/ 181":
مسلم بن الحجاج -لحدة في خلقه- انحرف عَنِ البُخَارِيّ،
وَلَمْ يَذْكُر لَهُ حَدِيْثاً، وَلاَ سَمَّاهُ فِي
"صَحِيْحِهِ"، بَلِ افتَتَح الكِتَاب بِالحط عَلَى مَنْ
اشْترط اللُّقِي لِمَنْ رَوَى عَنْهُ بصيغَة: عَنْ،
وَادَّعَى الإِجْمَاع فِي أَنَّ المعَاصرَة كَافيَةٌ،
وَلاَ يتَوَقَّف فِي ذَلِكَ عَلَى العِلْم
بِالتقَائِهِمَا، وَوبخ مِنِ اشْترط ذَلِكَ. وَإِنَّمَا
يَقُوْلُ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيّ، وَشَيْخه
عَلِيّ بن المَدِيْنِيِّ، وَهُوَ الأَصوب الأَقْوَى.
وَلَيْسَ هَذَا موضع بسط هذه المسألة.
وقال في "السير" "10/ 182":
قال الحَاكِمُ: أَرَادَ مُسْلِم أَنْ يخرج "الصَّحِيْح"
عَلَى ثَلاَثَة أَقسَام، وَعَلَى ثَلاَث طَبَقَات مِنَ
الرُّوَاة، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا فِي صَدْر خطبَته، فَلَمْ
يقدّر لَهُ إِلاَّ الفرَاغ مِنَ الطَّبَقَة الأُوْلَى،
وَمَاتَ ثُمَّ ذكر الحَاكِم مَقَالَة هِيَ مُجَرّد دعوَى.
فَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَذْكُر مِنَ الأَحَادِيْث إِلاَّ
مَا رَوَاهُ صحَابِي مَشْهُوْر لَهُ رَاويَان ثِقَتَانِ
فَأَكْثَر ثُمَّ يَرْوِيْهِ عَنْهُ أَيْضاً رَاويَان
ثِقَتَانِ فَأَكْثَر، ثُمَّ كَذَلِكَ مِنْ بَعْدهُم.
فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الجَيَّانِي: المرَاد بِهَذَا أَنَّ
هَذَا الصَّحَابِيّ أَوْ هَذَا التَّابِعِيّ قَدْ رَوَى
عَنْهُ رَجُلاَنِ، خَرَجَ بِهِمَا عَنْ حدّ الجهَالَة.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَالَّذِي تَأَوّله الحَاكِم عَلَى
مُسْلِم من اخترام المنيَة لَهُ قَبْل اسْتيفَاء غَرَضه
إِلاَّ مِنَ الطَّبَقَة الأُوْلَى، فَأَنَا أَقُوْل:
إِنَّك إِذَا نظرت فِي تَقْسِيم مُسْلِم فِي كِتَابِهِ
الحَدِيْث عَلَى ثَلاَث طَبَقَات مِنَ النَّاس عَلَى غَيْر
تكرَار، فَذَكَرَ أَنَّ الْقسم الأَوّل حَدِيْث الحُفَّاظ،
ثُمَّ قَالَ: إِذَا انقضَى هَذَا، أَتبعته بأَحَادِيْث
مَنْ لَمْ يُوصف بِالحذق وَالإِتْقَان. وَذكر أَنَّهُم
لاَحقُوْنَ بالطبقة
(1/87)
الأُوْلَى، فَهَؤُلاَءِ مَذْكُوْرُوْنَ فِي
كِتَابِهِ لِمَنْ تدبر الأَبْوَاب. وَالطَّبَقَة
الثَّانِيَة: قَوْم تَكَلَّمَ فِيْهِم قَوْم، وَزكَّاهُم
آخرُوْنَ، فَخَرَجَ حَدِيْثهُم عَمَّنْ ضعّف أَوِ اتهُم
بِبدعَة، وَكَذَلِكَ فعل البُخَارِيّ.
ثُمَّ قَالَ القَاضِي عِيَاض: فعِنْدِي أَنَّهُ أَتَى
بطَبَقَاتِهِ الثَّلاَث في كتابه، وطرح الطبقة الرابعة.
فعقب الذهبي "10/ 182-183" بقوله:
قُلْتُ: بَلْ خَرَّجَ حَدِيْث الطَّبَقَة الأُوْلَى،
وَحَدِيْث الثَّانِيَة إِلاَّ النَّزْر القَلِيْل مِمَّا
يَسْتَنكره لأَهْلِ الطَّبَقَة الثَّانِيَة. ثُمَّ خَرَجَ
لأَهْلِ الطَّبَقَة الثَّالِثَة أَحَادِيْث لَيْسَتْ
بِالكَثِيْرَة فِي الشوَاهد وَالاعتبَارَات وَالمتَابعَات،
وَقلَّ أَن خَرَّجَ لَهُم فِي الأُصُوْل شَيْئاً، وَلَوِ
اسْتوعبت أَحَادِيْث أَهْل هَذِهِ الطَّبَقَة فِي
"الصَّحِيْحِ", لجَاءَ الكِتَاب فِي حجم مَا هُوَ مَرَّةً
أُخْرَى، وَلنزل كِتَابهُ بِذَلِكَ الاسْتيعَاب عَنْ
رُتْبَة الصّحَّة، وَهُم كعَطَاء بن السَّائِبِ، وَلَيْث,
وَيَزِيْد بن أَبِي زِيَادٍ, وَأَبَان بن صمعَة،
وَمُحَمَّد بن إِسْحَاقَ وَمُحَمَّد بن عَمْرِو بنِ
عَلْقَمَةَ وَطَائِفَة أَمْثَالهم فَلَمْ يخرج لَهُم
إِلاَّ الحَدِيْث بَعْد الحَدِيْث إِذَا كَانَ لَهُ أَصْل
وَإِنَّمَا يَسُوق أَحَادِيْث هَؤُلاَءِ وَيُكثر مِنْهَا
أَحْمَد في "مسنده"، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيّ
وَغَيْرهُم فَإِذَا انحطُوا إِلَى إِخْرَاج أَحَادِيْث
الضُّعَفَاء الَّذِيْنَ هُم أَهْل الطَّبَقَة الرابعة،
اختاروا منها، لم يَسْتَوعبُوهَا عَلَى حسب آرَائِهِم
وَاجْتِهَادَاتهم فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَهْل الطَّبَقَة الخَامِسَة، كمن أُجمع عَلَى
اطرَاحه وَتركه لعدم فَهمه وَضَبطه، أَوْ لِكَوْنِهِ
مُتهماً، فَينْدر أَنْ يخرّج لَهُم أَحْمَد،
وَالنَّسَائِيّ. وَيورد لَهُم أَبُو عِيْسَى فَيُبَيِّنهُ
بِحَسب اجْتِهَاده، لَكِنَّه قَلِيْل. وَيورد لَهُم ابْن
مَاجَهْ أَحَادِيْث قَلِيْلَة وَلاَ يبين وَاللهُ
أَعْلَمُ. وَقلّ مَا يُورد مِنْهَا أَبُو دَاوُدَ فَإِنْ
أَورد بَيْنَهُ فِي غَالِب الأَوقَات.
وَأَمَّا أَهْل الطَّبَقَة السَّادِسَة: كغلاَة
الرَّافِضَة، وَالجَهْمِيَّة الدعَاة، وَكَالكَذَّابين
وَالوضَّاعِين، وَكَالمَتْرُوْكِيْنَ المهتوكين، كعمر بن
الصبح, ومحمد بن المصلوب, ونوح بن أبي مريم، وأحمد ابن
الجُويبارِي, وَأَبِي حُذَيْفَةَ البُخَارِيّ، فَمَا لَهُم
فِي الكُتُب حَرْف مَا عدَا عُمَر, فَإِنَّ ابْنَ مَاجَهْ
خَرَّجَ لَهُ حَدِيْثاً وَاحِداً1 فَلَمْ يُصب. وكذا خرج
ابن ماجه للواقدي حديث واحدا، فدلس اسمه وأبهمه2.
__________
1، 2 راجع تعليقنا رقم "186"، "187" في الجزء العاشر
"ص183".
(1/88)
وقال في "السير" "9/ 284":
في الصحيحين أحاديث قليلة فِي "المُسْنَدِ"، لَكِنْ قَدْ
يُقَالُ: لاَ تَرِدُ على قولهن فَإِنَّ المُسْلِمِيْنَ مَا
اخْتَلَفُوا فِيْهَا ثُمَّ مَا يَلزَمُ مِنْ هَذَا
القَوْلِ: أَنَّ مَا وُجِدَ فِيْهِ أَنْ يَكُوْنَ حُجَّةً،
فَفِيْهِ جُمْلَةٌ مِنَ الأحاديث الضعيفة ما يَسُوغُ
نَقلُهَا، وَلاَ يَجِبُ الاحْتِجَاجُ بِهَا، وَفِيْهِ
أَحَادِيْثُ مَعْدُوْدَةٌ شِبْهُ مَوْضُوْعَةٍ،
وَلَكِنَّهَا قَطْرَةٌ فِي بَحرٍ وَفِي غُضُوْنِ
"المُسْنَدِ" زِيَادَاتٌ. جَمَّةٌ لِعَبْدِ الله بن أحمد.
وقال الحافظ في "السير" "14/ 276":
كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي فيه من
الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كَثِيْر لَوْلاَ مَا
فِيْهِ مِنْ آدَاب وَرسوم وزهد من طرائف الحكمَاء
وَمُنحَرِفِي الصُّوْفِيَّة، نَسْأَل اللهَ عِلْماً
نَافِعاً، تَدْرِي مَا العِلْمُ النَّافِع؟ هُوَ مَا نَزل
بِهِ القُرْآنُ، وَفسَّره الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلاً وَفعلاً، وَلَمْ يَأْت نَهْي
عَنْهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: "مَنْ
رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" 1 فَعَلَيْك يَا
أَخِي بتدبُّر كِتَاب اللهِ، وَبإِدمَان النَّظَر فِي
"الصَّحِيْحَيْنِ" و"سنن النسائي"، و"رياض النواوي"
و"أذكاره"، تُفْلِحْ وَتُنْجِحْ، وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ
عُبَّادِ الفَلاَسِفَة، وَوظَائِفِ أهل الرياضات، وجوع
الرهبان، وخطاب طيش رءوس أَصْحَابِ الخلوَات، فُكُلُّ
الخَيْر فِي مُتَابعَة الحنِيفِيَة السَّمحَة، فَواغوثَاهُ
بِاللهِ. اللَّهُمَّ اهدِنَا إِلَى صرَاطك المستقيم.
وقال في "السير" "14/ 277":
قَالَ أَبُو الفَرَجِ ابْن الجَوْزِيّ: صَنَّفَ أَبُو
حَامِدٍ "الإِحيَاء" وَملأَه بِالأَحَادِيْث البَاطِلَة،
وَلَمْ يَعلم بطلاَنهَا، وَتَكلّم عَلَى الْكَشْف وَخَرَجَ
عَنْ قَانُوْنِ الفِقْه وَقَالَ: إِنَّ المُرَادَ
بِالكَوْكَب وَالقَمَر وَالشَّمْس اللوَاتِي رَآهن
إِبْرَاهِيْم أَنوَار هِيَ حُجُبُ الله عَزَّ وَجَلَّ،
وَلَمْ يُرد هَذِهِ المَعْرُوْفَات! وَهَذَا مِنْ جنس
كَلاَمِ البَاطِنِيَّة، وَقَدْ ردَّ ابْنُ الجَوْزِيّ
عَلَى أَبِي حَامِد فِي كِتَابِ "الإِحيَاء" وبين خطأ في
مجلدات، سماه كتاب "الأحياء".
وقال في "السير" "12/ 187":
قَرَأْتُ بخطِّ الحَافِظِ الضِّيَاءِ فِي جُزءٍ علَّقَهُ
مآخِذَ عَلَى كِتَابِ ابْنِ حِبَّانَ فَقَالَ فِي حديث أنس
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "5063"، ومسلم "1401"، والنسائي "6/
60"، وأحمد "3/ 241، 259، 285" من حديث أنس بن مالك.
(1/89)
فِي "الوصَالِ"1: فِيْهِ دليلٌ عَلَى أَنَّ
الأَخبارَ الَّتِي فِيْهَا وضعُ الحَجَرِ عَلَى بطنِهِ
مِنَ الجوع كلها بواطيل، وإنما معناها الحجر، وَهُوَ طرفُ
الرِّدَاءِ، إِذ اللهُ يُطعمُ رسولَهُ، وما يغني الحجر من
الجوع2.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: فَقَدْ سَاقَ فِي كِتَابِهِ
حَدِيْثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي خُرُوْجِ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ مِنَ الجوعِ، فلقِيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ. فَقَالَ: "أَخْرَجَنِي
الَّذِي أَخْرَجَكُمَا" فدلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُطعَمُ
وَيُسقَى فِي الوصَالِ خَاصَّةً.
وَقَالَ فِي حَدِيْثِ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِرَجُلٍ: "أَصُمْتَ مِنْ سررِ شَعْبَانَ شَيْئاً؟ ".
قَالَ: لاَ قَالَ: "إِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمِينِ" 3
فَهَذِهِ لفظَةُ استخبار، يريد الإعلام ينفي جواز ذلك
كالمنكر عَلَيْهِ لَوْ فعلَهُ، كقولِهِ لعَائِشَةٍ:
"تَسْتُرينَ الجُدُرَ" 4، وَأَمْرُهُ بصومِ يَوْمَينِ مِنْ
شَوَّالٍ، أَرَادَ بِهِ انتهَاءَ السّرَارِ. وَذَلِكَ فِي
الشّهرِ الكَاملِ وَالسّرَارُ في الشهر الناقص يوم واحد.
ثم قال "12/ 188": قُلْنَا لَوْ كَانَ مُنْكراً عَلَيْهِ
لمَا أَمرَهُ بالقضاء.
وقال في "السير" "7/ 599":
وهم أَبُو حَاتِمٍ حَيْثُ حَكَى أَنَّ البُخَارِيَّ
تَكَلَّمَ فِي أَبِي تُمَيْلَةَ، وَمَشَى عَلَى ذَلِكَ
أَبُو الفَرَجِ ابْنُ الجَوْزِيِّ. وَلَمْ أَرَ ذِكْراً
لأَبِي تُمَيْلَةَ فِي كِتَابِ "الضُّعَفَاءِ"
لِلْبُخَارِيِّ، لاَ فِي الكَبِيْرِ وَلاَ الصَّغِيْرِ.
ثُمَّ إِنَّ البُخَارِيَّ قَدِ احْتَجَّ بِأَبِي
تُمَيْلَةَ، وَقَدْ كَانَ مُحَدِّثَ مَرْوَ مع الفضل بن
موسى السيناني.
وقال في "السير" "8/ 15":
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا
حَرْمَلَةُ: سَمِعْتُ ابْنَ وَهْبٍ يَقُوْلُ: نَذَرتُ
أَنِّي كلما
__________
1 هو: ما ورد عن أنس -رضي الله عنه- قال: واصل رسول الله
صلى الله عليه وسلم في أول شهر رمضان فواصل ناس من
المسلمين فبلغه ذلك فقال: لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا،
يدع المتعمقون تعمقهم، إنكم لستم مثلي، "أو قال" إني لست
مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني" أخرجه أحمد، وابن أبي
شيبة، والبخاري "7241"، ومسلم "1107"، وراجع تخريجنا له في
الموضع المشار إليه.
2 قد ثبت وضع صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه من الجوع
عند البخاري "4101"، وأحمد "3/ 300" من حديث جابر بن عبد
الله.
3 صحيح: أخرجه البخاري "1983" ومسلم "1161" من حديث عمران
بن حصين.
4 صحيح: أخرجه أحمد "6/ 247"، ومسلم "2107".
(1/90)
اغْتَبْتُ إِنْسَاناً أَنْ أَصُوْمَ
يَوْماً، فَأَجْهَدَنِي، فَكُنْتُ أَغْتَابُ وَأَصُوْمُ،
فَنَوَيْتُ أَنِّي كُلَمَّا اغْتَبتُ إِنْسَاناً أَنْ
أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ، فَمِنْ حُبِّ الدَّرَاهِمِ
تَرَكتُ الغيبة.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: هَكَذَا -وَاللهِ- كَانَ
العُلَمَاءُ، وَهَذَا هُوَ ثَمَرَةُ العِلْمِ النَّافِعِ
وَعَبْدُ اللهِ حُجَّةٌ مُطْلَقاً، وَحَدِيْثُهُ كَثِيْرٌ
فِي الصِّحَاحِ، وَفِي دَوَاوِيْنِ الإِسْلاَمِ،
وَحَسْبُكَ بِالنَّسَائِيِّ وَتَعَنُّتِهِ فِي النَّقْدِ
حَيْثُ يَقُوْلُ: وَابْنُ وَهْبٍ ثِقَةٌ، مَا أَعْلَمُهُ
رَوَى عَنِ الثقات حديثا منكرا.
ثم قال الذهبي "8/ 15-16":
قُلْتُ: أَكْثَرَ فِي تَوَالِيْفِهِ مِنَ المَقَاطِيْعِ
وَالمُعْضَلاَتِ، وَأَكْثَرَ عَنِ ابْنِ سَمْعَانَ
وَبَابتِهِ، وَقَدْ تَمَعْقَلَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ عَلَى
ابْنِ وَهْبٍ فِي أَخذِهِ لِلْحَدِيْثِ، وَأَنَّهُ كَانَ
يَتَرَخَّصُ فِي الأَخذِ، وَسَوَاءٌ تَرَخَّصَ وَرَأَى
ذَلِكَ سَائِغاً، أَوْ تَشَدَّدَ، فَمَنْ يَرْوِي مائَةَ
أَلْفِ حَدِيْثٍ، وَيَنْدُرُ المُنْكَرُ فِي سَعَةِ مَا
رَوَى فَإِلَيْهِ المُنْتَهَى فِي الإِتْقَانِ.
وقال في "السير" "13/ 365":
تصانيف البَيْهَقِيّ عَظِيْمَةُ الْقدر، غزِيْرَةُ
الفَوَائِد، قلَّ مَنْ جَوَّد تَوَالِيفَهُ مِثْل الإِمَام
أَبِي بَكْرٍ، فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَعتَنِي
بِهَؤُلاَءِ سِيمَا "سُننَه الكَبِيْر" وَقَدْ قَدِمَ
قَبْلَ مَوْته بِسَنَة أَوْ أَكْثَر إِلَى نَيْسَابُوْرَ،
وَتَكَاثر عَلَيْهِ الطلبَةُ، وَسَمِعُوا مِنْهُ كُتُبهُ،
وَجُلِبَتْ إِلَى العِرَاقِ وَالشَّام وَالنَّوَاحِي،
وَاعْتَنَى بِهَا الحَافِظُ أَبُو القَاسِمِ الدِّمَشْقِيّ
وَسَمِعَهَا مِنْ أَصْحَابِ البَيْهَقِيّ، وَنقلَهَا إِلَى
دِمَشْقَ هُوَ وَأَبُو الحَسَنِ المُرَادِيّ.
وَبَلَغَنَا عَنْ إِمَام الحَرَمَيْنِ أَبِي المَعَالِي
الجُوَيْنِيّ قَالَ: مَا مِنْ فَقِيْهٍ شَافعِيٍّ إِلاَّ
وَللشَافعِيّ عَلَيْهِ مِنَّةٌ إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ
البَيْهَقِيّ، فَإِنَّ المِنَّةَ لَهُ عَلَى الشَّافِعِيّ
لِتَصَانِيْفه في نصرة مذهبه.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: أَصَاب أَبُو المَعَالِي،
هَكَذَا هُوَ، وَلَوْ شَاءَ البَيْهَقِيّ أَنْ يَعمل
لِنَفْسِهِ مَذْهَباً يَجتهد فِيْهِ, لَكَانَ قَادِراً
عَلَى ذَلِكَ، لسعَة علُوْمه، وَمَعْرِفَته بِالاخْتِلاَف،
وَلِهَذَا ترَاهُ يُلوِّح بِنَصْر مَسَائِل مما صح فيها
الحديث.
(1/91)
سابعا تصانيفه
صنف -رحمه الله- تصانيف كثيرة في مختلف العلوم، واختصر
كثيرا من تآليف المتقدمين والمتأخرين، وكتب علما كثيرا.
وقد سار بجملة من هذه المصنفات الركبان في أقطار البلدان،
فمن هذه المصنفات:
1- تاريخ الإسلام، وهو مطبوع متداول.
2- سير أعلام النبلاء، وهو هذا الذي بين يديك.
3- دول الإسلام. وهو مطبوع بحيدر أباد.
4- الإشارة إلى وفيات الأعيان، والمنتقى من تاريخ الإسلام.
5- الإعلام بوفيات الأعلام.
6- العباب في التاريخ.
7- العبر في خبر من غبر، وهو مطبوع بالكويت بتحقيق الدكتور
صلاح الدين المنجد، والدكتور فؤاد السيد.
8- تجريد أسماء الصحابة، وهو مطبوع بحيدر أباد، وطبقات
أخرى.
9- تذكرة الحفاظ.
10- المعين في طبقات المحدثين. وهو مطبوع بتحقيق الدكتور
محمد زينهم البدوي وطبعة أخرى بتحقيق الدكتور همام سعيد.
11- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة. وهو
مطبوع متداول.
12- الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم. وهو
مطبوع بالقاهرة.
13- ميزان الاعتدال في نقد الرجال. وهو مطبوع متداول.
14- المغني في الضعفاء. وهو مطبوع متداول.
15- المشتبه في معرفة ما يشتبه ويتصحف من الأسماء والأنساب
والكنى والألقاب مما اتفق وضعا واختلف نطقا، وهو مطبوع
متداول.
(1/92)
16- أخبار قضاة دمشق.
17- معجم الشيوخ الكبير وهو مطبوع بمكتبة الصديق بالطائف.
18- معجم شيوخه الأوسط.
19- معجم شيوخه الصغير.
20- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار. وهو مطبوع
بالقاهرة.
21- المرتجل في الكنى. أورده كارل بروكلمان في "تاريخ
الأدب العربي" "2/ 59".
22- هالة البدر في عدد أهل بدر.
23- ترجمة السلفي -وهو المحدث أبو طاهر أحمد بن محمد
الأصبهاني المتوفى سنة "576هـ".
24- ترجمة الشافعي.
25- ترجمة مالك بن أنس.
26- ترجمة الشيخ الموفق. وهو أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ
بنُ أَحْمَدَ بنِ قدامة المقدسي، صاحب كتاب "المغني"
المتوفى سنة "620هـ".
27- كسر وثن رتن -وهو رتن الهندي، شيخ دجال كذاب ظهر بعد
الستمائة فادعى الصحبة ومات سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.
28- بيان زغل العلم والطلب. وهو مطبوع متداول.
29- جزء في فضل آية الكرسي.
30- كتاب في أحاديث الصفات.
31- جزء في الشفاعة.
32- كتاب العرش -أورده كارل بروكلمان في "تاريخ الأدب
العربي" "1/ 47".
33- العلو للعلي الغفار. وهو مطبوع متداول.
34- الكبائر. وهو مطبوع متداول.
(1/93)
35- مسألة دوام النار.
36- مسألة الغيبة.
37- مسألة الوعيد.
38- كتاب اللباس.
39- كتاب الوتر.
40- كتاب تحريم أدبار النساء.
41- جزء في صلاة التسبيح.
42- جزء في دعاء المكروب.
43- التعزية الحسنة بالأعزة.
44- كشف الكربة عند فقد الأحبة.
45- الموقظة في علم مصطلح الحديث. وهو مطبوع متداول.
46- منية الطالب لأعز المطالب.
47- طرق أحاديث النزول.
48- كتاب الزيادة المضطربة.
49- العذب السلسل في الحديث المرسل.
50- كتاب التمسك بالسنة. وهو مما اختصره من كتب المتقدمين.
51- التلخيص من كتاب المستدرك على الصحيحين للحافظ أبي عبد
الله الحاكم، رحمه الله وهو مطبوع بهامش مستدرك الحاكم.
52- مختصر سنن البيهقي الكبرى. وهو مطبوع.
53- مختصر المحلى.
54- مختصر الزهد للبيهقي.
55- مختصر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
(1/94)
56- مختصر سلاح المؤمن في الأدعية المأثورة
لابن الإمام وهو أبو الفتح محمد بن محمد بن علي المصري
المتوفى سنة "745هـ".
57- مختصر الفاروق في الصفات لشيخ الإسلام الأنصاري.
58- مختصر القدر للبيهقي.
59- مختصر المدخل إلى كتاب السنن للبيهقي.
60- مختصر وفيات الأعيان لابن خلكان.
61- مختصر الضعفاء لابن الجوزي.
62- مختصر تاريخ دمشق.
63- كتاب النبلاء في شيوخ السنة وهو مختصر من كتاب "المعجم
المشتمل على أسماء شيوخ الأئمة النبل" لابن عساكر.
64- المنتقى من مسند عبد بن حميد.
65- المنتقى من مسند أبي عوانة.
66- منتقى الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر.
ثامنا منهجه في كتابه
قسم الحافظ كتاب السير إلى خمس وثلاثين طبقة في أربعة عشر
مجلدا، ولم يسر فيه على نسق واحد، فالطبقة الثالثة
والثلاثون تمتد من سنة "618هـ" وهي سنة وفاة ابن راجح
الجماعيلي الحنبلي إلى سنة "635هـ" وهي سنة وفاة مكرم بن
محمد بن حمزة بن أبي الصقر.
فاستوعبت هذه الطبقة سبعة عشر عاما.
وأما الطبقة الرابعة والثلاثون فبدأت من سنة "636هـ" وهي
سنة وفاة أبي الفضل جعفر ابن علي الهمداني إلى سنة "652هـ"
وهي سنة وفاة ابن علان القيس الدمشقي. وقد استوعبت ستة عشر
عاما.
أما الطبقة الخامسة والثلاثون فبدأت من سنة "653هـ" وهي
سنة وفاة إسماعيل بن حامد القوصي إلى سنة "739هـ". وهي سنة
رؤية الحافظ الذهبي -رحمه الله- لقليج قان ولد المعز عند
قاضي القضاة تقي الدين السبكي. فاستوعبت هذه الطبقة ستة
وثمانين عاما بينما امتدت
(1/95)
الطبقة التاسعة عشرة من سنة "334هـ" وهي
سنة وفاة الوَزِيْرُ العَادلُ عَلِيُّ بنُ عِيْسَى بنِ
دَاوُدَ بنِ الجَرَّاحِ، وحتى سنة "343هـ"، وهي سنة وفاة
أبي العباس محمد بن إسحاق الضبعي، فاستوعبت هذه الطبقة تسع
سنوات حسب.
وقد تناولت هذه الطبقات الخمس والثلاثون جميع العصور من
أول عصر الصحابة إلى عصر المؤلف.
وقد بلغت عدد تراجم المترجمين "5964" ترجمة، وقد كرر بعض
هذه التراجم، وقد ترجم فيها لجميع الأعلام في مشارق الأرض
ومغاربها من ملوك، وخلفاء، وأمراء، ووزراء، وأطباء ومحدثين
وفقهاء ونحاة وشعراء وزهاد وفلاسفة ومتكلمين غير أن
اهتمامه الأكبر كان بالمحدثين الذي عني بهم أيما عناية فقد
كان رحمه الله شديد الإجلال والإكبار لهم، ولا غرو فهم
الذين ينافحون عن السنة المشرفة، ومعرفة تراجم هؤلاء
المحدثين وبيان شيوخهم وتلامذتهم، كلام العلماء عليهم جرحا
وتعديلا مما يساعد في دراسة الأسانيد، والحكم عليها بما
يليق بها من صحة أو ضعف ونحوه.
كما جعل الحافظ الصحابة طبقة واحدة، لكنه قسم الصحابة إلى
قسمين؛ قسم كبار الصحابة، وقسم لصغار الصحابة، لكنه وضع
تراجم العشرة المبشرين بالجنة في مقدمة تراجم الصحابة. ولم
يرتب بقية الصحابة تبعا للحوادث الزمنية؛ فجعل الحافظ
الذهبي تراجم أمهات المؤمنين وبنات رسول الله صلى الله
عليه وسلم في مواضع متتالية -ليكون القارئ على علم بسيرهم-
لكنه وضع ترجمة أم المؤمنين سودة بنت زمعة التي تزوجها
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
خديجة -رضي الله عنها- وضعها بعد ترجمة جويرية، ووضع ترجمة
عائشة في إثر ترجمة خديجة -رضي الله عنهما- فلم يرتب
التراجم على الأحداث الزمنية، ولم يسر على نسق خاص في
ترتيب تراجم الصحابة، رضي الله عنهم.
وقسم الحافظ رحمه الله تعالى التابعين إلى ست طبقات طبقة
كبراء التابعين، وتبدأ من مَرْوَانَ بنِ الحَكَمِ بنِ
أَبِي العَاصِ بنِ أمية المتوفى سنة "65هـ" وتنتهي في سنة
"93هـ" وهي السنة التي توفي فيها صفوان بن محرز.
ثم الطبقة الثانية من التابعين؛ وتبدأ بأبي سلمة بن عبد
الرحمن بن عوف، والمتوفى سنة "94هـ" والتي امتدت إلى سنة
"107هـ"، وهي السنة التي مات فيها الشاعر الفحل كثير عزة.
(1/96)
ثم الطبقة الثالثة من التابعين؛ والتي
بدأها بمعاوية بن قرة، المتوفى سنة "113هـ"، والتي امتدت
إلى سنة "127هـ" والتي مات فيها أبو إسحاق عمرو بن عبد
الله السبيعي.
أما الطبقة الرابعة من التابعين؛ والتي بدأها بمنصور بن
المعتمر، المتوفى سنة "133هـ"، وامتدت إلى سنة "150هـ"
والتي توفي فيها حبيب المعلم.
ثم الطبقة الخامسة من التابعين؛ والتي بدأها بجعفر بن محمد
بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، والمتوفى سنة
"128هـ", وامتدت إلى سنة "156هـ"، والتي توفي فيها عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بنُ زِيَادِ بنِ أَنْعُمَ الإِفْرِيْقِيُّ.
أما الطبقة السادسة من التابعين؛ وهي طبقة صغار التابعين،
والتي بدأها بسعيد بن أبي عروبة، والمتوفى في سنة "156هـ"،
وامتدت إلى سنة "161هـ"، وهي السنة التي توفي فيها يزيد بن
إبراهيم التستري، أبو سعيد البصري.
والملاحظ أنه لم يرتب التراجم في الطبقات على سنة الوفاة،
فتراه مثلا ينهي الطبقة الرابعة بحبيب المعلم المتوفى سنة
"150هـ", ويبدأ الطبقة الخامسة بجعفر بن محمد بنِ عَلِيِّ
بنِ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبي طالب المتوفى سنة
"128هـ".
وقد جمع الحافظ -رحمه الله- بين الإخوة والأقارب في طبقة
واحدة، جمع في الطبقة الثانية من التابعين بين أَبِي
سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ المتوفى سنة
"104هـ"، وأخيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، المتوفى سنة
"96هـ" لكنه وضع ترجمة أبي سلمة بن عبد الرحمن قبل ترجمة
أخيه إبراهيم بن عبد الرحمن، وبين وفاتيهما ثماني سنوات،
وكان الأولى أن يقدم إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الذي
توفي قبل أخيه أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ
عَوْفٍ، والذي تأخر عنه في الوفاة، فلم يراع سنة الوفاة
بينهما.
كما في الطبقة الثامنة والعشرين بين أخوين، وهما الملك
شهاب الدين أبي القاسم محمود بن تاج الملوك بوري بن
الأتابك طغتكين الذي قتل في سنة "533هـ"، وأخيه جمال الدين
أبي المظفر محمد الذي توفي بعد أخيه بعشرة أشهر.
كما يجمع الحافظ بين الآباء والأبناء في طبقة واحدة، وإن
تباعدت سني وفاتهم، ففي الطبقة الثلاثين وضع ترجمة قاضي
القضاة أبي طَالِبٍ رَوْحُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ
أحمد الحديثي البغدادي المتوفى سنة "570هـ" وأعقبه بابنه
أبي المعالي عبد الملك بن روح، المتوفى
(1/97)
سنة "570هـ"، وبين قاضي القضاة كمال الدين
أبي الفضل مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ القَاسِمِ بنِ
مظفر بن الشهرزوري الموصلي، المتوفى سنة "572هـ" وابنه
قاضي القضاة أبي حامد محمد، المتوفى سنة "586هـ" مع
التباعد بين سنتي وفاتيهما.
وفي الطبقة الثلاثين أيضا جمع بين أبي المَحَامِدِ
حَمَّادُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ إِسْمَاعِيْلَ بنِ
الصفاري، المتوفى سنة "576هـ"، وأبيه العلامة ركن الدين
أبي إسحاق إبراهيم، ولم يذكر له الحافظ سنة وفاة. وقد وضع
ترجمتيهما متتاليتين.
وفي الطبقة الثلاثين أيضا جمع بين السلطان صلاح الدين يوسف
بن نَجْمِ الدِّيْنِ أَيُّوْبَ بنِ شَاذِي بنِ مَرْوَانَ،
المتوفى سنة "589هـ"، وجمعه مع بنيه في تراجم متتالية، وهم
أبو الفتح عماد الدين عثمان بنُ السُّلْطَانِ صَلاَحِ
الدِّيْنِ يُوْسُفَ بنِ أَيُّوْبَ، المتوفى سنة "595هـ"،
وابنه الفاضل أبو الحسن علي بن يوسف، المتوفى سنة "622هـ"،
وابنه الظاهر سلطان حلب، غياث الدين أبو منصور، غَازِي
ابْنِ السُّلْطَانِ صَلاَحِ الدِّيْنِ يُوْسُفَ بنِ أيوب،
المتوفى سنة "613هـ". وقد جمع الحافظ بينهم مع تباعد سني
وفاتهم ووفاة أبيهم السلطان صلاح الدين.
ثم ذكر الحافظ أخا السلطان صلاح الدين في نفس الطبقة، وهو
صاحب اليمن سَيْفُ الإِسْلاَمِ، طُغْتِكِيْنُ بنُ
أَيُّوْبَ بنِ شَاذِي، المتوفى في شوال سنة "593هـ".
لقد كان الذهبي ذا علم ثر في كتابة التراجم، ولا غرو فهو
الذي ألف تاريخ الإسلام الذي حوى تراجم كثيرة، وتذكرة
الحفاظ، والعبر، وميزان الاعتدال، وغيرها من كتب التراجم،
فكان -رحمه الله- موسوعة معرفية في هذا العلم، وكان من
بعده من العلماء وطلاب العلم عيال على هذه الكتب التي أثرت
المكتبة الإسلامية، وأغنت العلماء في مجال طالما يحتاجون
إليه في دراساتهم الحديثية والتاريخية. ولطالما بحثت عن
ترجمة لأحد العلماء أو رواة الأحاديث فلم أجدها في كتب
متداولة، وأقف على طلبتي في "السير"، فلا ريب أنه كتاب
واسع استوعب كثيرا من تراجم الأعلام؛ ملوك وخلفاء وأمراء
وولاة ووزراء وأطباء ومحدثين وفقهاء ونحاة، وشعراء، وزهاد،
وفلاسفة ومتكلمين في مشارق الأرض ومغاربها لكنه عني أيما
عناية بتراجم المحدثين الذين كان عظيم الإجلال والإكبار
لهم، فهم الذين يحمون بيضة الإسلام، وينافحون عن حياض
السنة المشرفة المصدر الثاني للتشريع، ودراسة تراجم هؤلاء
المحدثين، ومعرفة شيوخهم وتلامذتهم وكلام العلماء عليهم
جرحا وتعديلا مما يعوزه كل دارس للأسانيد؛ لكي يقف على
درجة من صحة أو ضعف وغيره.
(1/98)
وقد اعتنى الحافظ الذهبي -رحمه الله- بنقد
المترجمين، والرد على بعض الأخطاء والانحرافات العقدية
والفقهية والحديثية يراه القارئ الكريم في ردوده المبثوثة
في تراجم الكتاب. وقد ذكرت مبحثا خاصا في هذه التقدمة
لآرائه العقدية والفقهية والحديثية، وذكرت بعضا من أقوال
المترجمين وتعقب الحافظ الذهبي لهم، ورده عليهم بالأدلة
النقلية والعقلية التي يقيم بها الحجة ساطعة على مخالفيه
مما يدل على رسوخ قدمه في العلوم الشرعية وتمكنه فيها.
وقد اعتنى الحافظ أيضا بنقد المترجمين من رواة الأحاديث
فيورد كلام علماء الجرح والتعديل في الرجل المترجم له، وقد
يرجح رأيا على آخر في الرجل ويدلل عليه؛ فيقول الحافظ
-رحمه الله- في "السير" "6/ 563": قَالَ أَحْمَدُ بنُ
حَنْبَلٍ: بَلَغَ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّ مَالِكاً لَمْ
يَأْخُذْ بِحَدِيْثِ "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ" فَقَالَ:
يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ،
ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَوْرَعُ وَأَقْوَلُ بالحق من
مالك.
فتعقبه الذهبي "6/ 564" بقوله:
قُلْتُ: لَوْ كَانَ وَرِعاً كَمَا يَنْبَغِي، لَمَا قَالَ
هَذَا الكَلاَمَ القَبِيْحَ فِي حَقِّ إِمَامٍ عَظِيْمٍ،
فَمَالِكٌ إِنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِظَاهِرِ الحَدِيْثِ،
لأَنَّهُ رَآهُ مَنْسُوْخاً. وَقِيْلَ: عَمِلَ بِهِ،
وَحَمَلَ قَوْلَه: "حَتَّى يَتَفَرَّقَا" عَلَى
التَّلَفُّظِ بِالإِيجَابِ وَالقَبُولِ، فَمَالِكٌ فِي
هَذَا الحَدِيْثِ، وَفِي كُلِّ حَدِيْثٍ لَهُ أَجْرٌ وَلاَ
بُدَّ، فَإِنْ أَصَابَ، ازْدَادَ أَجراً آخَرَ، وَإِنَّمَا
يَرَى السَّيْفَ عَلَى مَنْ أخطأ في اجتهاد الحرورية -أي
الخوارج- وَبِكُلِّ حَالٍ: فَكَلاَمُ الأَقْرَانِ
بَعْضِهِم فِي بَعْضٍ لاَ يُعَوَّلُ عَلَى كَثِيْرٍ
مِنْهُ، فَلاَ نَقَصَتْ جَلاَلَةُ مَالِكٍ بِقَوْلِ ابْنِ
أَبِي ذِئْبٍ فِيْهِ، وَلاَ ضَعَّفَ العُلَمَاءُ ابْنَ
أَبِي ذِئْبٍ بِمَقَالَتِهِ هَذِهِ، بَلْ هُمَا عَالِمَا
المَدِيْنَةِ فِي زَمَانِهِمَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-
وَلَمْ يُسنِدْهَا الإِمَامُ أَحْمَدُ، فلعلها لم تصح.
وقال في "السير" "6/ 567":
قَالَ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ: قُلْتُ لِيَحْيَى: مَا
حَالُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي الزُّهْرِيِّ؟ فَقَالَ:
ابْنُ أبي ذئب ثقة.
فعقب الذهبي بقوله: قُلْتُ: هُوَ ثِقَةٌ مَرْضِيٌّ، وَقَدْ
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عُثْمَانَ بنِ أَبِي شَيْبَةَ:
سَأَلْتُ عَلِيّاً عَنْهُ، فَقَالَ: كَانَ عِنْدَنَا
ثِقَةً، وَكَانُوا يُوَهِّنُوْنَهُ فِي أَشْيَاءَ رَوَاهَا
عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَسُئِلَ عَنْهُ أحمد، فوثقه، ولم يرضه
في الزهري.
(1/99)
وتراه يرجح بين راو حافظ، وراو آخر من
معاصريه، فقال في "السير" "7/ 107": كان حماد بن سلمة
بَحْراً مِنْ بُحُورِ العِلْمِ، وَلَهُ أَوهَامٌ فِي
سَعَةِ مَا رَوَى، وَهُوَ صَدُوْقٌ، حُجَّةٌ -إِنْ شَاءَ
اللهُ- وَلَيْسَ هُوَ فِي الإِتقَانِ كَحَمَّادِ بنِ
زَيْدٍ، وَتَحَايدَ البُخَارِيُّ إِخرَاجَ حَدِيْثِهِ
إِلاَّ حَدِيْثاً خَرَّجَه فِي الرِّقَاقِ، فَقَالَ: قَالَ
لِي أَبُو الوَلِيْدِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ،
عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُبَيٍّ. وَلَمْ يَنحَطَّ
حَدِيْثُه عَنْ رُتْبَةِ الحَسَنِ. وَمُسْلِمٌ رَوَى لَهُ
فِي الأُصُوْلِ، عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ، لِكَوْنِهِ
خَبِيْراً بهما.
ثم عقد الحافظ الذهبي -رحمه الله- فصلا في "السير" "7/
118" وهو في غاية الأهمية لكل علماء الحديث وطلابه في
التمييز بين الحمادين: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وفي
التمييز بين السفيانين: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة.
وهذا يبين سعة علمه -رحمه الله- وعلو كعبه في علوم الحديث.
كما انتقد الحافظ -رحمه الله- بعض علماء الجرح والتعديل في
توثيق الرجال وتجريحهم فقال -رحمه الله- في "السير" "7/
583": كان يحيى بن سعيد القطان مُتَعَنِّتاً فِي نَقدِ
الرِّجَالِ، فَإِذَا رَأَيْتَهُ قَدْ وَثَّقَ شَيْخاً،
فَاعْتمِدْ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا لَيَّنَ أَحَداً
فَتَأَنَّ فِي أَمرِهِ حَتَّى تَرَى قَوْلَ غَيْرِهِ
فِيْهِ، فَقَدْ لَيَّنَ مِثْلَ إِسْرَائِيْلَ، وَهَمَّامٍ
وجماعة احتج بهم الشيخان.
وقال في "الميزان" "1/ 61":
لا يلتفت إلى قول الأزدي، فإن في لسانه في الجرح رهقا.
وقال في "السير" "7/ 599":
وهم أَبُو حَاتِمٍ حَيْثُ حَكَى أَنَّ البُخَارِيَّ
تَكَلَّمَ فِي أَبِي تُمَيْلَةَ، وَمَشَى عَلَى ذَلِكَ
أَبُو الفَرَجِ ابْنُ الجَوْزِيِّ. وَلَمْ أَرَ ذِكْراً
لأَبِي تُمَيْلَةَ فِي كِتَابِ "الضُّعَفَاءِ"
لِلْبُخَارِيِّ لاَ فِي الكَبِيْرِ وَلاَ الصَّغِيْرِ.
ثُمَّ إِنَّ البُخَارِيَّ قَدِ احْتَجَّ بِأَبِي
تُمَيْلَةَ، وَقَدْ كَانَ مُحَدِّثَ مَرْوَ مع الفضل ابن
موسى السيناني.
ويبين الحافظ -رحمه الله- متن يرد حديث المختلط، فيقول
-رحمه الله تعالى- في "السير" "8/ 365": كُلُّ تَغَيُّرٍ
يُوْجَدُ فِي مَرَضِ المَوْتِ، فَلَيْسَ بِقَادِحٍ فِي
الثِّقَةِ، فَإِنَّ غَالِبَ النَّاسِ يَعْتَرِيْهِم فِي
المَرَضِ الحَادِّ نَحْوُ ذَلِكَ، وَيَتِمُّ لَهُمْ وَقْتَ
السِّيَاقِ وَقَبْلَهُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا
المَحْذُوْرُ أَنْ يَقَعَ الاخْتِلاَطُ بِالثِّقَةِ،
فَيُحَدِّثُ فِي حَالِ اخْتِلاَطِهِ بِمَا يَضْطَرِبُ فِي
إِسْنَادِهِ، أَوْ متنه، فيخالف فيه.
(1/100)
وانتقد -رحمه الله- أحاديث في "المسند" لم
ترد في "الصحيحين" فقال في "السير" "9/ 284": فِي
الصَّحِيْحَيْنِ أَحَادِيْثُ قَلِيْلَةٌ لَيْسَتْ فِي
"المُسْنَدِ"، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: لاَ تَرِدُ عَلَى
قَوْلِهِ، فَإِنَّ المُسْلِمِيْنَ مَا اخْتَلَفُوا
فِيْهَا، ثُمَّ مَا يَلزَمُ مِنْ هَذَا القَوْلِ: أَنَّ
مَا وُجِدَ فيه أن يكون حجة، فيه جُمْلَةٌ مِنَ
الأَحَادِيْثِ الضَّعِيفَةِ مِمَّا يَسُوغُ نَقلُهَا،
وَلاَ يَجِبُ الاحْتِجَاجُ بِهَا، وَفِيْهِ أَحَادِيْثُ
مَعْدُوْدَةٌ شِبْهُ مَوْضُوْعَةٍ، وَلَكِنَّهَا قَطْرَةٌ
فِي بَحرٍ. وَفِي غُضُوْنِ "المُسْنَدِ" زِيَادَاتٌ
جَمَّةٌ لِعَبْدِ اللهِ بنِ أحمد.
وينتقد الأحاديث التي وردت في كتاب "إحياء علوم الدين"
لأبي حامد الغزالي؛ فقال في "السير" "14/ 276": كتاب
"إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي فيه من الأحاديث
الباطلة جملة، وفيه خير كَثِيْر لَوْلاَ مَا فِيْهِ مِنْ
آدَاب، وَرسوم، وَزُهْد مِنْ طرَائِق الحكمَاء،
وَمُنحَرِفِي الصُّوْفِيَّة، نَسْأَل الله علما نافعا.
وتراه ينتقد أحاديث سنن ابن ماجه؛ فقال في "السير" "10/
374": قَدْ كَانَ ابْنُ مَاجَهْ حَافِظاً نَاقِداً
صَادِقاً، واسع العلم، وإنما غَضَّ مِنْ رُتْبَةِ
"سُنَنِهِ" مَا فِي الكِتَابِ من المناكير، وقليل من
الموضوعات. وفيه أحاديث لا تقوم بها حجة نحو الألف.
وكثيرا ما يورد الحافظ -رحمه الله تعالى- في تراجم علماء
الحديث ورواته أحاديث رووها بأسانيد لأنفسهم، فيعقب الحافظ
عليها فيقول مثلا: إسناده واه، أو إسناده ضعيف، أو إسناده
صحيح، ونحو ذلك. وقد وقع هذا كثيرا في تراجم رواة الأحاديث
ولا يترك الحافظ هاتيك الأحاديث دون نقد لها، أو حكم على
أسانيدها فكثير ما يقول: هذا حديث صحيح، أو ضعيف، أو
موضوع.
وهذا وفق ما يراه من حال هاتيك الأحاديث التي سبر حالها
فقال -رحمه الله- في "السير": في "3/ 447-448": قِيْلَ:
إِنَّ كُلَّ حَدِيْثٍ فِيْهِ يَا حُمَيْرَاءُ, لم يصح،
وأوهى ذلك تَشْمِيْسُ المَاءِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا: "لَا تَفْعَلِي يَا
حُمَيْرَاءُ، فَإِنَّهُ يورث البرص". فإنه خبر موضوع.
لذا فقد قال الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني -رحمه الله:
أعجبني منه ما يعانيه في تصانيف من أنه لا يتعدى حديثا
يورده حتى يتبين ما فيه من ضعف متن، أو ظلام إسناد، أو طعن
في رواته، وهذا لم أر غيره يراعى هذه الفايدة فيما يورده.
وأورد هذا الحافظ صلاح الدين الصفدي، تلميذ الذهبي في
كتابه "الوافي بالوفيات" "2/ 163".
(1/101)
ويبين بلسان وقلم الناقد الحاذق أن كلام
الأقران بعضهم في بعض غير مقبول، فيقول -رحمه الله- في
"السير" "6/ 496": لَسْنَا نَدَّعِي فِي أَئِمَّةِ
الجَرْحِ وَالتَّعْدِيْلِ العِصْمَةَ مِنَ الغَلَطِ
النَّادِرِ. وَلاَ مِنَ الكَلاَمِ بنَفَسٍ حَادٍّ فِيْمَنْ
بَيْنَهُم وَبَيْنَهُ شَحنَاءُ وَإِحْنَةٌ، وَقَدْ عُلِمَ
أَنَّ كَثِيْراً مِنْ كَلاَمِ الأَقْرَانِ بَعْضِهِم فِي
بَعْضٍ مُهدَرٌ، لاَ عِبْرَةَ بِهِ، وَلاَ سيما إذا وثق
الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف.
ومحمد بن إسحاق، ومالك بن أنس كل منهما قد نال من صاحبه،
لكنه أَثَّرَ كَلاَمُ مَالِكٍ فِي مُحَمَّدٍ بَعْضَ
اللِّيْنِ، وَلَمْ يُؤثِّرْ كَلاَمُ مُحَمَّدٍ فِيْهِ
وَلاَ ذَرَّةٍ، وارتفع مالك، وصار كالنجم، والآخر فَلَهُ
ارْتفَاعٌ بِحَسْبِهِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي السِّيَرِ،
وَأَمَّا فِي أَحَادِيْثِ الأَحكَامِ، فَيَنحَطُّ
حَدِيْثُه فِيْهَا عَنْ رُتْبَةِ الصِّحَّةِ إِلَى
رُتْبَةِ الحَسَنِ، إِلاَّ فيما شذ فيه، فإنه يعد منكرا.
هكذا يبين قلمه ولسانه عن موهبة نقدية تنبئ عن علم ثر في
الجرح والتعديل، وسائر علوم الحديث، وهي انتقادات منصفة
ليس فيها حيف أو انحراف عن الجادة.
وقد أطال الحافظ -رحمه الله- بعض تراجم الأعلام وقصر بعضا
آخر، وذلك حسب حال المترجم ومنزلته العلمية أو الأدبية أو
الاجتماعية، وقد اتبع منهجا خاصا في صياغة الترجمة فيذكر
لقب المترجم وكنيته واسمه ونسبته، ثم يذكر تاريخ ولادته،
وشيوخه، وتلاميذه، كما يذكر مؤلفاته وآثاره العلمية، ثم
يذكر مكانته العلمية من خلال أقوال العلماء فيه، ثم يذكر
تاريخ الوفاة، وربما يذكر عدة أقوال في تاريخ وفاة
المترجم، ويرجح بينها. ويذكر من مات مع هذا المترجم في هذه
السنة من الأعلام.
تاسعا: أهمية كتاب السير بين كتب التراجم:
لا جرم أن كتاب سير أعلام النبلاء من أعظم كتب التراجم
التي حوت قدرا كبيرا من تراجم الأعلام في مشارق الأرض
ومغاربا خلفاء، وملوك وأمراء ووزراء وأطباء، ومحدثين
وفقهاء ونحاة وشعراء وزهاد وفلاسفة ومتكلمين أوعب فيها
الحافظ -رحمه الله تعالى- تراجم حقبة كبيرة من الزمن ربت
على السبعمائة عام من عصر الصحابة -رضي الله عنهم- إلى
عصره الذي عاش فيه، وهي موسوعة معرفية هامة ينهل منها كل
المتخصصين في التاريخ، والحديث، والنحو والشعر والفلسفة
وعلم الكلام، وغيرها من المعارف.
(1/102)
وهذا الكتاب الفذ يعد تصويرا صادقا لا كانت
عليه الأمة الإسلامية من تقدم وازدهار في كافة العلوم
المعرفية، فهؤلاء هم علماء الأمة ومؤرخوها وشعراؤها الذين
لا يزالون مفخرة للعرب والمسلمين في مختلف العصور، فما وجد
هذا الحشد الهائل من العلماء، والمؤرخين، والنحاة والشعراء
وغيرهم في أمة من الأمم.
وهؤلاء هم الملوك والأمراء الذين فتحوا البلاد، ونافحوا عن
المقدسات، قد سطر التاريخ بطولاتهم بأحرف من نور يستضيء
بسيرتهم أبناء الأمة الإسلامية من ملوك ورؤساء وعلماء فلا
جرم أن يكونوا مفخرة للعرب والمسلمين في مختلف الدهور
والعصور.
إن هذا الكتاب الفذ بهذا الحشد الهائل من العلماء،
والمؤرخين، والشعراء لخير شاهد على أن أمة أنجبت هذا الحشد
الكبير لهي أمة تقدس العلم والمعرفة، وهي حقيقة بأن ينظر
إليها بعين الإجلال والإكبار.
ولا جرم أن هذا الكتاب بهذا الحجم الضخم من التراجم سيكون
مقصد كل متعلم وباحث عن المعرفة فإذا أراد التوسع في سيرة
أي علم من الأعلام فسيجد طلبته ومقصده في هذا الكتاب، وإذا
لم يجد ترجمة في الكتب المتداولة فسيجدها في هذا الكتاب
العظيم.
إن هذا الكتاب العظيم بهذه التراجم الكثيرة، والتي توسع
فيها عن تراجم "تاريخ الإسلام" بأخباره الكثيرة، ومادته
العلمية الثرة لهو حقيق بإجلال وإكبار كل العلماء على
مختلف تخصصاتهم العلمية. فرحم الله عالمنا الحافظ الذهبي
الذي ختم حياته بهذا المؤلف العظيم رحمة واسعة، وحشرنا في
زمرته إنه سميع مجيب كريم جواد.
عاشرا وفاته:
قال تلميذه الأديب العلامة الشيخ صلاح الدين أبو الصفاء
الصدفي في كتابه "الوافي بالوفيات" "2/ 165": أخبرني
العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي قال: عدت
الحافظ شم الدين الذهبي ليلة مات، فقلت له: كيف تجدك؟ قال:
في السياق. وكان قد أضر -رحمه الله تعالى- قبل موته بأربع
سنين أو أكثر بماء نزل في عينيه، فكان يتأذى ويغضب إذا قيل
له: لو قدحت هذه لرجع إليك بصرك. ويقول: ليس هذا بماء،
وأنا أعرف بنفسي؛ لأنني ما زال بصري ينقص قليلا قليلا إلى
أن تكامل عدمه. ثم سأله: أدخل وقت المغرب؟ فقال له الوالد:
ألم تصل العصر؟ فقال: بلى ولكن لم أصل المغرب إلى الآن، ثم
(1/103)
سأله الشيخ تقي الدين علي السبكي -رحمه
الله- عن الجمع بين المغرب والعشاء تقديما، فأفتاه بذلك،
ففعله، ومات بعد العشاء قبل نصف الليل1 ليلة الإثنين ثالث
ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة بدمشق، بالمدرسة
المنسوبة لأم الصالح، في قاعة سكنه، وصلي عليه يوم الإثنين
صلاة الظهر في جامع دمشق، ودفن بباب الصغيرة وحضر الصلاة
عليه تلميذه تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي السكبي-
صاحب "طبقات الشافعية الكبرى"- وقال في "الطبقات" "9/
106": أنشدنا شيخنا الذهبي، من لفظه لنفسه2:
تولى شباب كأن لم يكن ... وأقبل شيب علينا تولى
ومن عاين المنحنى والنقى ... فما بعد هذين إلا المصلى
ثم قال الشيخ عبد الوهاب بن علي السبكي تاج الدين: وأنشدنا
لنفسه، وأرسلها معي إلى الوالد رحمه الله، وهي فيما أراه
آخر شعر قاله، لأن ذلك كان في مرض موته، قبل موته بيومين
أو ثلاثة.
قال الحافظ الذهبي -رحمه الله- في آخر شعر قاله- يمدح به
تقي الدين علي السبكي، والد تاج الدين عبد الوهاب صاحب
الطبقات:
تقي الدين يا قاضي الممالك ... ومن نحن العبيد وأنت مالك
بلغت المجد في دين ودنيا ... ونلت من العلوم مدى كمالك
ففي الأحكام أقضانا علي ... وفي الخدام مع أنس بن مالك
وكابن معين في حفظ ونقد ... وفي الفتيا كسفيان ومالك
وفخر الدين في جدل وبحث ... وفي النحو المبرد وابن مالك
وتسكن عند رضوان قريبا ... كما زحزحت عن نيران مالك
تشفع في أناس في فراء ... لتكسوهم ولو من رأس مالك
لتعطى في اليمين كتاب خير ... ولا تعطى كتابك في شمالك
ورثاه تقي الدين علي السكبي، فقال:
__________
1 طبقات الشافعية للسبكي "9/ 105-106".
2 البيتان في: شذرات الذهب "6/ 155"، وذيول تذكرة الحفاظ
"37".
(1/104)
لما قضى شيخنا وعالمنا ... ومات في التاريخ
والنسب
قلت عجيب وحق ذا عجبا ... كيف تخطى البلى إلى الذهب
ورثاه صلاح الدين الصفدي، فقال:
أشمس الدين غبت وكل شمس ... يغيب وزال عنا ظل فضلك
وكم ورخت أنت وفاة شخص ... وما ورخت قط وفاة مثلك
ورثاه تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي بقصيدة مطلعها:
من للحديث وللسارين في الطلب ... من بعد موت الإمام الحافظ
الذهبي
من للرواية للأخبار ينشرها ... بين البرية من عجم ومن عرب
من للدراية والآثار يحفظها ... بالنقد من وضع أهل الغي
والكذب
من للصناعة يدري حل معضلها ... حتى يريك جلاء الشك والريب
من للجماعة أهل العلم تلبسهم ... أعلامه الغر من أبرادها
القشب
من للتخاريج يبديها ويدخل في ... أبوابها فاتحا للمقفل
الأشب
من في القراءات بين الناس نافعهم ... وعاصم ركنها في
الججفل اللجب
من للخطابة لما لاح يرفل في ... ثوب السواد كبدر لاح في
سحب1
ومن هذه القصيدة:
وإن تغب ذات شمس الدين لا عجب ... فأي شمس رأيناها ولم تغب
هو الإمام الذي روت روايته ... وطبق الأرض من طلابه النجب
مهذب القول لاعي ولجلجة ... مثبت النقل سامي القصد والحسب
ثبت صدوق خبير حافظ يقظ ... في النقل أصدق أنباء من الكتب
كالزهر في حسب والزهر في نسب ... والنهر في حدب والدهر في
رتب2
__________
1 طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين عبد الوهاب بن علي
السبكي "9/ 109".
2 طبقات الشافعية الكبرى "9/ 110-111".
(1/105)
وقد ترك الذهبي أولادا ثلاثة كانوا من
العلماء، وهم:
1- ابنته أم سلمة: سمعت مع أبيها من عيسى بن عبد الرحمن بن
معالي بن حمد، أبي محمد الصالحي السمسار ومطعم الأشجار،
المتوفى سنة "719هـ1320م"، قال الحافظ الذهبي في "معجم
شيوخه الكبير" "2/ 86": "قلت: وسمعه معي ولداي عبد الله
وأم سلمى". وقد أجاز لها ولوالدها شيخ المستنصرية الإمام
العالم المحدث الصادق الخير رشيد الدِّيْنِ أَبُو عَبْدِ
اللهِ مُحَمَّدُ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ أَبِي
القاسم البغدادي، المتوفى سنة "707هـ-1307م" كما قال
الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 204" أجاز لنا
مروياته غير مرة أولها في سنة خمس وتسعين وستمائة
"695هـ-1296م" وأجاز لبنتي أم سلمة وقد كان انفرد بأجزاء
عوالي الأول الكبير من المخلصات، وجزء ابن كرامة، وتاسع
الجعديات، والأطعمة للدارمي، والأول من عوالي ابن البطر،
وجزء ابن محمش، وجزء ابن بالويه، والخامس والسادس من حديث
ابن صاعد، وجزء ابن المنذر، ودرجات التائبين، ولمع ابن
السراج في التصوف.
2- ابنه أبو هريرة، عبد الرحمن: قرأ هو ووالده على عمة
الحافظ الذهبي: ست الأهل بنت عثمان بن قايماز بن عبد الله،
أم محمد المتوفاة سنة "729هـ1329م" كما قال الحافظ الذهبي
في "معجم شيوخه الكبير" "1/ 285".
وسمع هو ووالده الحافظ الذهبي من عبد المحسن بن إبراهيم بن
خولان الصالحي، المتوفى سنة "722هـ" كما قال في "معجم
شيوخه الكبير" "1/ 416".
وسمع مع أبيه من فاطمة بنت الإمام القدوة عز الدين
إِبْرَاهِيْمُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ
أَحْمَدَ الصالحية الحنبلية، قال الحافظ الذهبي في "معجم
شيوخه الكبير" "2/ 102": "روت لنا نسخة أبي مسهر، وجزء
الفراتي، سمعهما معي ابني عبد الرحمن".
وسمع مع أبيه من محمد بن أحمد الزراد الحريري الصالحي،
المتوفى سنة "726هـ-1326م". قال الحافظ في "معجم شيوخه
الكبير" "2/ 170": سمعت منه مع ولدي عبد الرحمن جزء ابن
عرفة، وجزء ابن فيل، والبطاقة والجمعة ونسخة إبراهيم بن
سعد، وجزء الفراتي، ونسخة أبي مسهر، وجزء الكسائي، ومعه من
الذكر لابن فارس، وفضائل معاوية، وفوائد نصر، وجزء ابن
الفرات، والعلم لأبي خيثمة.
(1/106)
وأجاز له الشيخ محمد بنُ عَبْدِ الحَمِيْدِ
بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ خلف، أبو الفضل القرشي المصري
المؤدب، المتوفى سنة "716هـ-1316م" كما قال الحافظ الذهبي
في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 206".
وسمع مع والده من الشيخ محمد بن علي بن سالم بن رضوان
المزي، أبي عبد الله المؤذن النجار، المتوفى سنة
"722هـ-1322م"، قال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير"
"2/ 238-239":
سمعت منه مع ابني عبد الرحمن جزء ابن فيل، ونسخة إبراهيم
بن سعد، والجمعة، وجزء البطاقة.
توفي ابنه أبو هريرة عبد الرحمن سنة "799هـ" كما قال
الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" "2/ 449". وعاش نيفا
وثمانين سنة كما في "معجم الشيوخ الكبير" "1/ 416".
3- ابنه أبو الدرداء عبد الله: سمع مع أبيه من الشيخ عيسى
بن عبد الرحمن بن معالي بن حمد، أبي محمد الصالحي السمسار
في العقار ومطعم الأشجار، المتوفى سنة "719هـ-1320م" كما
قال الحافظ الذهبي في "معجم شيوخه الكبير" "2/ 86":
قلت: وسمعه معي ولداي عبد الله وأم سلمى. مات عبد الله بن
الحافظ الذهبي في ذي الحجة سنة "754هـ" كما قال الحافظ ابن
حجر في "الدرر الكامنة" "2/ 392".
(1/107)
حادي عشر:
ترجمة موجزة عن محقق الكتاب محمد أيمن الشبراوي، عفا الله
عنه.
مولده ونسبه ونشأته:
هو أبو يعلى القويسني السلفي، محمد أيمن بن عبد الله بن
حسن بن محمد الشبراوي.
ولد سنة "1376هـ-1955م" في مدينة الجيزة المصرية التي كان
يعمل بها والده موظفا بالبريد. وهو منسوب إلى مدينة قويسنا
بمحافظة المنوفية المصرية.
مشايخه:
1- الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، محدث اليمن وعالمها،
المتوفى في جمادى الأولى سنة "1422هـ" له مصنفات مشهورة في
علم الحديث.
2- العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، رحمه الله
تعالى، والمتوفى في رجب "1420هـ"، وهو محدث الشام، له
مصنفات وتآليف مشهورة كثيرة منها سلسلة الأحاديث الضعيفة
والموضوعة، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، وكتاب إرواء الغليل
في تخريج أحاديث منار السبيل، وكتب كثيرة.
3- الأديب الشيخ محمد بن إبراهيم شقرة، ومدير المسجد
الأقصى بوزارة الأوقاف الأردنية، وإمام مسجد صلاح الدين
-عمان الأردن.
تلامذته:
تتلمذ على يده كثير من طلبة العلم في علم الحديث الذي شرح
أصوله مرات عديدة، كما شرح أصول الفقه لبعض طلاب العلم.
وقرأ عليه تلامذة كثيرون في مصر وخارجها. منهم من كان يبحث
في الدراسات العليا في كلية الشريعة قسم الحديث، وأفاد
كثيرا من طلاب العلم في بحوثهم وفي رسائلهم في الماجستير
والدكتوراة خاصة في علم الحديث الذي حاز فيه قصب السبق،
ولم ير فيه مثل نفسه تحت أديم سماء مصر.
(1/108)
مصنفاته:
له مصنفات كثيرة، وتحقيقات، وفهارس علمية لكثير من كتب
السنة طبع أغلبها بلبنان ومصر، من هذه الكتب:
1- الأرائك المصنوعة في الأحاديث الضعيفة والموضوعة، تأليف
له في ثلاث مجلدات، كل مجلد يتضمن أربعمائة حديث،
والمجلدات الثلاث تتضمن "1200" حديث كلها أحاديث مشهورة
تدور على ألسنة الخطباء والوعاظ والمتكلمين في إذاعات
القرآن الكريم، وقد استوعب طرق هذه الأحاديث، وتكلم على
هذه الطرق جرحا وتعديلا بإسهاب، وحكم على كل حديث بما يليق
بحاله، وليس فيها حديث واحد ذكره الشيخ الألباني إلا عدة
أحاديث يسيرة انتقدها عليه من مخالفة في حكم، أو زيادة علة
أغفل الكلام عليها الشيخ الألباني -رحمه الله- أو زيادة
مصادر عزو لم يعز إليها الشيخ رحمه الله. وقد طبع المجلد
الأول من هذه المجلدات الثلاث بمكتبة الدعوة بالأزهر سنة
"1420هـ-2000م"، يسر الله طبع بقية هذه المجلدات، وأكثر
النفع بها، وجعلها في ميزان حسناته بكرمه ومنه إنه سميع
مجيب كريم جواد.
2- أين الله؟ هل هو في كل مكان؟! هي رسالة ألفها في إثبات
علو الله تعالى على عرشه فوق سماواته، وضمنه مقدمة، وأربعة
فصول وخاتمة ورد فيها على ثمان شبه من شبه القائلين بأن
الله في كل مكان تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وكل
هذه الشبه مما تلهج بها ألسنة الخالفين المخالفين. وقد دحض
هذه الشبه بالدليل. وهو مطبوع متداول.
3- داء الرياء القاتل وعلاجه الناجع، كتاب ألفه في بيان
داء الرياء، وعلاماته، وأنواعه، ودوافعه وعلاجه من اثني
عشر طريقة، وهو مطبوع متداول.
4- النفاق وأثره السيئ في الأمة، كتاب ألفه ليقف المسلمون
على خطورة هذا الداء العضال وقسمه إلى مقدمة وخمسة مباحث
تضمنت: معنى النفاق لغة وشرعا، وصفات المنافقين، وأخطار
النفاق والمنافقين، وكيف يعامل المؤمنون المنافقين،
والعلاج الناجع للنفاق، وأتبع هذه المباحث الخمسة بخاتمة
تعد زبدة البحث وخلاصته. وهو مطبوع متداول.
(1/109)
5- أحكام الصيام، أوعب فيه جميع أحكام
الصيام، ورد فيه على شبه القائلين بإخراج زكاة الفطر
نقودا، ودحض حجتهم من ستة وجوه، وهو مطبوع بدار العقيدة
بالإسكندرية.
6- الشقاء والسعادة في ضوء الكتاب والسنة، كتاب ألفه لبيان
حقيقة السعادة ومصادرها، والشقاء وأسبابه، وقد قسمه إلى
مقدمة، وأربعة مباحث تتضمن: معنى السعادة لغة وشرعا،
وأسباب وهمية لحصول السعادة، وأسباب الشقاء وعدم السعادة،
وأسباب السعادة وذيله بخاتمة, وهو مطبوع بدار العقيدة
بالإسكندرية.
7- بغية المستفيد في تحقيق وتخريج تيسير العزيز الحميد شرح
كتاب التوحيد، وهو مطبوع في مجلد كبير ضخم مع كتاب تيسير
العزيز الحميد. ط. عالم الكتب بيروت - لبنان سنة
"1419هـ-1999م".
8- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية لابن
تيمية، ط. دار الحديث، ويقع في ثمانية أجزاء، وفي أربع
مجلدات. خرج فيها أحاديثه، وعلق عليه بتعليقات نافعة، وقدم
له بمقدمة ضافية، تكلم فيها بإسهاب عن سبعة عشر أصلا من
أصول الشيعة الإمامية، وتعد هذه المقدمة مرجعا لمن أراد
معرفة أصول الشيعة الإمامية.
9- تراجم الخلفاء الراشدين، تأليف محمد رضا. قدم فيه
للكتاب وخرج فيه ما ورد فيه من أحاديث تخريجا علميا دقيقا،
وصدر كل حديث بما يناسبه من حكم، وضبط نصه، وعلق عليه بما
يفيد العامة بله الخاصة من العلماء وطلاب العلم، وهو مطبوع
بدار الحديث بالقاهرة سنة "1425هـ-2004م".
10- سير أعلام النبلاء، للحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن
عثمان الذهبي، خرج فيه جميع أحاديث الكتاب الذي يقع في ستة
عشر مجلدا، غير الفهارس العلمية الدقيقة له، وقد حكم على
كل حديث بما يناسبه من صحة، أو ضعف، وغيره. وذكر مصادر كل
ترجمة من تراجم الكتاب التي بلغت "5964" ترجمة، ترجم فيها
الذهبي لجميع الأعلام في مشارق الأرض ومغاربها من ملوك،
وخلفاء، وأمراء، ووزراء، وأطباء، ومحدثين، وفقهاء ونحاة،
وشعراء، وزهاد, وفلاسفة، ومتكلمين.
وقدم للكتاب بمقدمة ضافية تعد مرجعا كبيرا، وترجمة واسعة
للحافظ الذهبي رحمه
(1/110)
الله، تضمنت نشأة الذهبي، وبيئته السياسية،
والدينية، والعلمية، ورحلاته في طلب العلم، وشيوخه،
وتلامذته، ومنزلته العلمية، وأقوال العلماء فيه، وآراءه
وأقواله في العقيدة والفقه والحديث، وتصانيفه وآثاره
العلمية، ومنهجه في كتابه السير، وأهمية كتاب السير بين
كتب التراجم، وبيان تاريخ وفاته، ومن ترك من أولاد. فجاءت
ترجمة ضافية لا يستغني عنها كل باحث أو طالب علم. وهو هذا
الكتاب الذي بين يديك أخي القارئ غفر الله لمؤلفه، ومحققه،
ومن قام على طبعه ونشره وهو مطبوع بدار الحديث بالقاهرة
سنة "1427-2006م".
11- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تأليف الحافظ
السيوطي، حققه وخرج أحاديثه. ط. دار الحديث القاهرة سنة
"1423هـ-2002م".
12- الجواب الباهر في زوار المقابر، لابن تيمية، خرج
أحاديثه، وعلق عليه. ط. دار الجيل, بيروت, لبنان سنة
"1417هـ-1997م".
13- مكان رأس الحسين، لابن تيمية، خرج أحاديثه وعلق عليه.
ط. دار الجيل، بيروت, لبنان سنة "1417هـ-1997م".
14- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لابن تيمية.
ط. دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان سنة "1409هـ-1998م"
خرج أحاديثه وعلق عليه.
15- شرح العقيدة الواسطية، لابن تيمية شرح الشيخ خليل
هراس، خرج أحاديثه، وعلق عليه، وقدم له بمقدمة هامة، وشرح
ما فيه من غريب الألفاظ، وزور له فهارس علمية شاملة أوعبت
كل ما في الكتاب.
16- فتح المغيث بترتيب ما في سنن النسائي من الأثر
والحديث. ط. دار الجيل بيروت, لبنان سنة "1411هـ-1991م".
وط. دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان سنة "1408هـ-1988م".
17- فهرس مسند الحميدي. مطبوع مع مسند الحميدي بدار الكتب
العلمية سنة "1408هـ-1988م".
18- هداية المحتار إلى ترتيب كشف الأستار عن زوائد البزار،
ط. دار الجيل بيروت لبنان سنة "1411هـ-1991م". وط. دار
الكتب العلمية سنة "1408هـ-1988م"
(1/111)
19- السرر الموضوعة في ترتيب اللآلئ
المصنوعة. ط. دار الجيل, بيروت, لبنان سنة "1417هـ-1997م".
20- الروض الباسم في ترتيب السنة لابن أبي عاصم. ط. دار
الجيل, بيروت, لبنان سنة "1417هـ-1997م".
21- فهارس صحيح ابن خزيمة. ط. دار الكتب العلمية, بيروت,
لبنان سنة "1408هـ-1988م".
22- فهرس تفسير ابن كثير. دار الجيل بيروت لبنان. وقد أعده
بطريقتين فرتبه على أوائل أطراف الأحاديث، ورتبه على
مسانيد الرواة، وأحال فيها القارئ إلى رقم الآية، واسم
السورة التي يوجد بها الحديث، لينتفع كل من يتملك أي طبعة
من تفسير ابن كثير.
وكتب أخرى كثيرة تخرج له قريبا قريبا تقبل الله منه
بأسمائه وصفاته، وجعلها في ميزان حسناته ثقيلة ثقيلة،
وأكثر النفع بها بكرمه ومنه وسعة فضله, وجزى الله خيرا كل
من ساهم في نشرها بالقول أو الفعل.
(1/112)
ثاني عشر: منهجنا في تحقيق الكتاب:
1- عولت في تحقيق هذا الكتاب على النسخة الخطية الموجودة
في دار الكتب المصرية بالقاهرة المحروسة تحت رقم عام
"12195" حديث، والمصورة عن الأصل الموجود بمكتبة أحمد
الثالث باستنبول رقم "2910-13"، وتقع في إحدى عشر مجلدا,
وقد بلغت عدد لوحات كل مجلد من هذه المجلدات الإحدى عشرة
على التوالي:
"252، 285، 293، 293، 292، 292، 288، 289، 290, 288، 319"
لوحة عن نسخة مكتبة أحمد الثالث باستانبول. وكل لوحة تحتوي
على صفحتين، متقابلتين. ومتوسط سطور كل صفحة "24" أو"25"
سطرا، وعدد كلمات السطر "14" كلمة. وكتب على هذه الأجزاء
تاريخ نسخها؛ فالجزء الرابع كتب عليه: تم الفَرَاغُ مِنْ
نَسْخِهِ فِي سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلاَثِيْنَ وسبعمائة. وأما
الجزء العاشر فكتب عليه: كان الفرَاغُ
مِنْهُ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ شهر رجب
سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. وأما الجزء الحادي عشر فقد كتب
عليه: تم الفراغ من نسخه لَيْلَةَ الاثْنَيْن لِثِنْتَي
عَشْرةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ شهر ذي الحجة سنة "741هـ",
وَهِيَ أَولُ نُسْخَةٍ نُسخت مِنْ خطِّ المُصَنِّفِ. وأما
الجزء الثاني عشر فكتب على الصفحة الأخيرة منه: كان
الفَراغُ مِن كِتَابَتِه لَيلةَ الجُمعةِ لِثَلاثٍ بَقِينَ
من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة والحمد لله
وحده وصلواته وسلامه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيْماً.
أما الجزء الثالث عشر فقد كتب ناسخه على الصفحة الأخيرة:
تَمَّ الجُزءُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ سِيَرِ أَعلاَمِ
النُّبَلاَءِ للشَيْخِ الإِمَامِ العَالِمِ العَاملِ
الحُجَّة النَّاقِدِ البَارِعِ جَامِعِ أَشْتَاتِ
الفُنُوْنِ مُؤَرِّخِ الإِسْلاَمِ شَمْسِ الدِّيْنِ أَبُو
عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ عُثْمَانَ
الذَّهَبِيِّ فَسَحَ اللهُ فِي مُدَّتَه وَهِيَ أَوَّلُ
نُسْخَةٍ نُسِخَتْ مِنْ خَطِّ المُصَنِّفِ وَقُوْبِلَتْ
عَلَى حَسَبِ الإِمْكَانِ وَكَانَ الفرَاغُ مِنْهُ
لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ سَنَةَ ثلاث
وأربعين وسبعمائة والحمد لله وحده وصلى الله على محمد.
فالواضح أن هذه النسخة كتبت في حياة المؤلف من نسخة مكتوبة
بخطه، والخط في جميع الأجزاء واحد، لكنه لم يبين اسم
الناسخ كما هو معتاد في كتابة الناسخ لاسمه حين الفراغ من
النسخ. لكن بوجه عام فالنسخة مكتوبة بخط جيد مقروء، وفي
بعض صفحاتها تضبيب طولي، وهو نادر فيها مما لا يكاد يخلو
منه مخطوط. وقد اعتمدت على بعض النسخ المطبوعة وكان أضبطها
طبعة مؤسسة الرسالة.
(1/113)
2- رجعت إلى كتب السنن والمسانيد والمعاجم
وبعض المصادر التي أخذ عنها المؤلف، وعارضت عليها، ما
أورده من أحاديث وآثار وأقوال، وهو شيء كثير، وعدد كبير،
وقد أصلحت ما وقع فيه من خطأ.
3- ضبطت النص ونسقته تنسيقا يعين على قراءته، وفهمه، وضبطت
ما أشكل من أسماء الرواة والأعلام وكناهم، كما ضبطت
المواضع والبلدان والمبهمات والغريب حتى تقرأ على نحو صحيح
صائب معتمدا على أوثق وأفضل المصادر التي بينت ذلك أفضل
بيان.
4- نبهت على ما ظهر لي من تصحيفات وقعت في الطبعة المذكورة
التي اعتمدت عليها.
5- قمت بدراسة الأحاديث والآثار التي ذكرها المؤلف، وصدرت
كل حديث بما يناسبه من صحة أو ضعف وغيره، وقد أحيل القارئ
إلى مراجعة الحديث والكلام عليه بإسهاب في بعض كتبي مثل:
الأرائك المصنوعة في الأحاديث الضعيفة والموضوعة، أو بغية
المستفيد في تحقيق وتخريج تيسير العزيز الحميد، أو منهاج
السنة النبوية لابن تيمية بتخريجنا وتعليقنا، أو الجواب
الباهر في زوار المقابر بتخريجنا وتعليقنا، وغيرها من
كتبي.
6- ذكرت مصادر ترجمة كل علم من الأعلام ليرجع إليها من رام
زيادة، وقد قصدت فيها استيعاب المصادر، وذلك حسب ما تيسر
لي منها.
7- شرحت الغوامض من المصطلحات والمبهمات والغريب، وعرفت
ببعض الأماكن والبلدان، كما عرفت ببعض الأعلام من أصحاب
النحل، أو ممن وردوا بالأسانيد، ليكون الكتاب سهلا ميسورا
أمام القارئ.
8- قدمت للكتاب بمقدمة ضافية بينت فيها: نشأة الذهبي
وبيئته السياسية والدينية والعلمية، ورحلاته في طلب العلم،
وشيوخه، وتلامذته، ومنزلته العلمية وأقوال العلماء فيه،
وآراءه في العقيدة والفقه والحديث، وتصانيفه وآثاره
العلمية، ومنهجه في كتابه. كما بينت أهمية كتاب السير بين
كتب التراجم، وبينت تاريخ وفاته، ومن ترك من أولاد، فجاءت
ترجمة ضافية للحافظ الذهبي لا يستغني عنها أي باحث أو طالب
علم.
(1/114)
9- زورت فهرسا لكل جزء بأسماء المترجمين
على ترتيب المؤلف، وفهرسا آخر على نسق حروف المعجم، ثم
زورت فهرسا عاما لجميع أجزاء الكتاب يشتمل على فهرس بجميع
المترجمين على حروف المعجم، وفهرس للأحاديث والآثار، وفهرس
للأشعار الواردة في الكتاب وقد بذلت الجهد والوسع في تحقيق
هذا الكتاب العظيم على النحو الذي يرضي جماهير العلماء
وطلاب العلم. أسأل الله عز وجل بأسمائه وصفاته أن ينفع
بهذا الكتاب مؤلفه، ومحققه، وناشره وكل من ساعد على نشره
أو الإفادة منه بالقول أو الفعل. وصل اللهم على محمد وعلى
آله وصحبه وسلم صلاة وتسليما ملء السموات وملء الأرض وملء
ما شاء من شيء بعد.
كتبه: أبو يعلى
محمد أيمن الشبراوي
عفا الله عنه بكرمه ومنه
(1/115)
صور المخطوطة
(1/117)
|