سير أعلام
النبلاء، ط الحديث بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
من مولده -صلى الله عليه وسلم- إلى هجرته الشريفة:
ذكر نسب سيد البشر:
محمد رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَبُو القاسم سيد المرسلين وخاتم النبيين.
هو مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ
واسم عبد المطلب شيبة, ابن هاشم واسمه عمرو, ابن عبد مناف
واسمه المغيرة، ابن قصي واسمه زيد بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ
بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبِ بنِ فِهْرِ بنِ
مَالِكِ بن النضر بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة، واسمه عامر
بنِ إِلْيَاسَ بنِ مُضَرَ بنِ نِزَارِ بنِ مَعَدِّ بنِ
عدنان، وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم -صلى الله عليهما
وعلى نبينا وسلم- بإجماع الناس.
لكن اختلفوا فيما بين عدنان وبين إسماعيل من الآباء1،
فقيل: بينهما تسعة آباء، وقيل: سبعة، وقيل مثل ذلك عن
جماعة. لكن اختلفوا في أسماء بعض الآباء، وقيل: بينهما
خمسة عشر أبا، وقيل: بينهما أربعون أبا وهو بعيد وقد ورد
عن طائفة من العرب ذلك.
وأما عروة بن الزبير، فقال: ما وجدنا من يعرف ما وراء
عدنان ولا قحطان إلا تخرصا.
وعن ابن عباس قال: بين معد بن عدنان وبين إسماعيل ثلاثون
أبا، قاله هشام ابن الكلبي النسابة، عن أبيه، عن أبي صالح،
عن ابن عباس، ولكن هشام وأبوه متروكان2.
وجاء بهذا الإسناد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا انتهى إلى عدنان أمسك ويقول:
__________
1 النسب ما بين عدنان إلى اسماعيل بن إبراهيم مختلف فيه،
وأما من النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان فمتفق عليه.
وروى الطبراني بإسناد جيد عن عائشة قالت: "استقام نسب
الناس إلى معد بن عدنان" كذا قال الحافظ في "الفتح" "6/
528-529".
2 هشام بن محمد بن السائب الكلبي، أبو المنذر الأخباري
النسابة العلامة، روى عن أبيه أبي النضر الكلبي المفسر.
قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: إِنَّمَا كَانَ صَاحِبَ
سَمَرٍ وَنَسَبٍ، مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَداً يُحَدِّثُ
عنه. وقال الدارقطني وغيره: متروك. وقال ابن عساكر: رافضي،
ليس بثقة، وأما أبوه؛ فهو محمد بن السائب الكلبي، أبو
النضر الكوفي المفسر النسابة الأخباري. قال البخاري: أبو
النضر الكلبي تركه يحيى وابن مهدي، وقال الدارقطني وجماعة:
متروك، وقال الجوزجاني وغيره كذاب. لذا فالأثر ضعيف جدا.
(1/143)
"كذب النسابون" قال الله تعالى:
{وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38] 1.
وقال أبو الأسود يتيم عروة: سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي
حثمة، وكان من أعلم قريش بأنسابها وأشعارها يقول: ما وجدنا
أحدا يعلم ما وراء معد بن عدنان في شعر شاعر ولا علم
عالم2.
قال هشام ابن الكلبي: سمعت من يقول: إن معدا كان على عهد
عيسى ابن مريم، عليه السلام.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بنُ عَبْدِ البَرِّ: كَانَ قوم من
السلف منهم عبد الله بن مسعود، ومحمد بن كعب القرظي، وعمرو
بن ميمون الأودي إذا تلوا: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9] ، قالوا:
كذب النسابون. قال أبو عمر: ومعنى هذا عندنا على غير ما
ذهبوا إليه، وإنما المعنى فيها والله أعلم: تكذيب من ادعى
إحصاء بني آدم. وأما أنساب العرب فإن أهل العلم بأيامها
وأنسابها قد وعوا وحفظوا جماهيرها وأمهات قبائلها،
واختلفوا في بعض فروع ذلك.
والذي عليه أئمة هذا الشأن أنه: عدنان بن أدد بن مقوم بن
ناحور ابن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن
إبراهيم الخليل ابن آزر، واسمه تارح، ابن ناحور بن ساروح
بن راعو بن فالخ بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح
عليه السلام بن لامك بن متوشلخ ابن خنوخ، وهو إدريس عليه
السلام بن يرد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم أبي
البشر عليه السلام قال: وهذا الذي اعتمده محمد بن إسحاق في
السيرة3، وقد اختلف أصحاب ابن إسحاق عليه في بعض الأسماء.
__________
1 ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد "1/ 65"، وفيه هشام بن محمد بن
السائب الكلبي، وأبوه، وهما متروكان كما علمت.
وفيه أبو صالح باذام، مولى أم هانئ، فإنه ضعيف، مدلس فهذه
ثلاث علل في هذا الإسناد.
2 حسن: أخرجه ابن سعد "1/ 58" في طبقاته قال: أخبرنا خالد
بن خداش، أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة،
عن أبي الأسود قال: سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة
يقول ... فذكره.
قلت: إسناده حسن، عبد الله بن لهيعة، صدوق، وقد روى عنه
عبد الله بن وهب، وهو من أعدل من روى عنه، فأمنا شرا
اختلاطه. وأبو الأسود، يتيم عروة، هو محمد بن عبد الرحمن
النوفلي، الأسدي المدني، ثقة، من صغار التابعين، روى له
الجماعة.
3 ذكره ابن هشام في "السيرة" "1/ 21" ط، دار الحديث بتحقيق
جمال ثابت، ومحمد محمود، وسيد إبراهيم ووقع في هذه الطبقة
"ابن ساروغ" بدل "ابن ساروح". وأثبته المحققون كما في
"المنتظم" "1/ 258".
(1/144)
قال ابن سعد: الأمر عندنا الإمساك عما وراء
عدنان إلى إسماعيل1.
وروى سلمة الأبرش، عن ابن إسحاق هذا النسب إلى يشجب سواء،
ثم خالفه فقال: يشجب بن يانش بن ساروغ بن كعب بن العوام بن
قيذار بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهم السلام.
وقال ابن إسحاق: يذكرون أن عمر إسماعيل مائة وثلاثون سنة،
وأنه دفن في الحجر مع أمه هاجر.
وقال عبد الملك بن هشام: حدثني خلاد بن قرة بن خالد
السدوسي، عن شيبان بن زهير، عن قتادة، قال: إبراهيم خليل
الله هو ابن تارح بن ناحور بن أشرع بن أرغو بن فالخ بن
عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ
بن هنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قاين بن أنوش بن شيث بن آدم.
وَرَوَى عَبْدُ المُنْعِمِ بنُ إِدْرِيْسَ، عَنْ أَبِيْهِ،
عن وهب بن منبه، أنه وجد نسب إبراهيم -عليه السلام- في
التوراة: إبراهيم بن تارح بن ناحور بن شروغ بن أرغو بن
فالغ بن عابر شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن
متشالخ بن خنوخ، وهو إدريس بن يارد بن مهلاييل بن قينان بن
أنوش بن شيث بن آدم2.
وقال ابن سعد: حدثنا هشام ابن الكلبي، قال: علمني أبي وأنا
غلام نسب النبي صلى الله عليه وسلم محمد، الطيب المبارك
ولد عبد الله بن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد بنِ
هَاشِمٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بنُ عَبْدِ مَنَافٍ، واسمه
المغيرة بن قصي، واسمه زيد بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ بنِ
كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبِ بنِ فِهْرِ بنِ مَالِكِ
بنِ النَّضْرِ بنِ كِنَانَةَ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مدركة بنِ
إِلْيَاسَ بنِ مُضَرَ بنِ نِزَارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عدنان3.
__________
1 ذكره ابن سعد في "الطبقات" "1/ 58" وقال: الأمر عندنا
على الانتهاء إلى معد بن عدنان، ثم الإمساك عما وراء ذلك
إلى إسماعيل بن إبراهيم.
2 ضعيف جدا: فيه عبد المنعم بن إدريس اليماني، مشهور قصاص،
ليس يعتمد عليه، تركه غير واحد؛ وأفصح أحمد بن حنبل فقال:
كان يكذب على وهب بن منبه وقال البخاري: ذاهب الحديث. وقال
ابن حبان: يضع الحديث على أبيه وعلى غيره.
3 ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 55-56"، آفته
هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأبوه؛ فهما متروكان كما
أسلفنا الكلام عليهما قريبا.
(1/145)
قال أبي: وبين معد وإسماعيل نيف وثلاثون
أبا، وكان لا يسميهم ولا ينفذهم.
قلت: وسائر هذه الأسماء أعجمية، وبعضها لا يمكن ضبطه بالخط
إلا تقريبا.
وقد قيل في قوله تعالى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ}
[المعارج: 13] ، فصيلة النبي صلى الله عليه وسلم بنو عبد
المطلب أعمامه وبنو أعمامه، وأما فخذه فبنو هاشم. قال:
وبنو عبد مناف بطنه، وقريش عمارته، وبنو كنانة قبيلته،
ومضر شعبته.
قال الأوزاعي: حدثني شداد أبو عمار، قال: حدثني وَاثِلَةَ
بنِ الأَسْقَعِ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد
إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى هاشما من قريش،
واصطفاني من بني هاشم" رواه مسلم1.
وأمه آمنة بنت وهب بن عَبْدِ مَنَافٍ بنِ زُهْرَةَ بنِ
كِلاَبِ، فهي أقرب نسبا إلى كلاب من زوجها عبد الله برجل.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "4/ 107"، ومسلم "2276"، والترمذي
"3605"، "3606" من طرق عن الأوزاعي، به.
(1/146)
مولده المبارك صلى
الله عليه وسلم:
أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق، قال: أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بنُ أَبِي الفَتْحِ، وَالفَتْحُ بنُ عَبْدِ
اللهِ، قَالاَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ الفقيه،
قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد ابن النقور، قال:
أخبرنا علي بن عمر الحربي، قال: حدثنا أحمد بن الحسن
الصوفي، قال: حدثنا يحيى ابن معين، قال: حدثنا حجاج بن
محمد، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عَنْ
سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ولد عام الفيل"1.
صحيح.
وقال ابن إسحاق: حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن
مخرمة، عن أبيه، عن جده قيس بن مخرمة بن عبد المطلب، قال:
"ولدت أَنَا وَرَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عام الفيل. كنا لِدَّينِ"2 أخرجه الترمذي،
وإسناده حسن.
وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثنا سليمان النوفلي، عن
أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، قَالَ: وُلِدَ رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفيل،
وكانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة، وبني البيت على رأس خمس
وعشرين سنة من الفيل. وتنبأ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رأس أربعين سنة من الفيل.
__________
1 حسن لغيره: أخرجه ابن سعد "1/ 101"، والبزار "226" كشف
الأستار، والحاكم "2/ 603"، والطبراني في "الكبير" "12/
12432"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "1/ 75-76" من طريق
حجاج بن محمد، به.
قلت: إسناده ضعيف، فيه محمد بن إسحاق، مدلس، وقد عنعنه لكن
الحديث يرتقي للحسن لغيره بالطريقين الآتيين كما في
التعليق الآتي.
2 حسن لغيره: أخرجه أحمد "4/ 215"، والترمذي "3619"،
والحاكم "2/ 603"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "1/ 76-77"،
وأبو نعيم في "دلائل النبوة" "85" من طرق عن ابن إسحاق، عن
المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة به.
قلت: إسناده ضعيف، آفته المطلب بن عبد الله بن قيس بن
مخرمة المطلبي، فإنه مجهول، لذا قال الحافظ في "التقريب":
مقبول أي عند المتابعة، وقد توبع وأما محمد بن إسحاق فقد
صرح بالتحديث عند الترمذي وغيره. وأخرجه ابن سعد "1/ 101"
من طريق حكيم بن محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه
عن قيس بن مخرمة به.
قلت: إسناده ضعيف، آفته محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة،
فإنه مجهول؛ لذا قال الحافظ في "التقريب": "مقبول" أي عند
المتابعة، وقد توبع بالطريق الأول، فالحديث حسن. بمجموع
الطريقين.
أما حكيم بن محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة فهو صدوق
كما قال الحافظ في "التقريب" وقيس ابن مخرمة هو ابن المطلب
بن عبد مناف المطلبي المكي, صحابي، كان أحد المؤلفة, ثم
حسن إسلامه.
(1/147)
وقال شباب العصفري1: حدثنا يحيى بن محمد،
قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، قال: حدثني الزبير بن
موسى، عن أبي الحويرث، قال: سمعت قباث بن أشيم يقول: "أنا
أَسَنُّ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وهو أكبر مني، وقفت بي أمي على روث الفيل محيلا
أعقله، وولد رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَامَ الفيل" يحيى هو أبو زكير، وشيخه متروك
الحديث.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: بعث الله محمدا صلى
الله عليه وسلم على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة،
وكان بين مبعثه وبين أصحاب الفيل سبعون سنة كذا قال.
وقد قال إبراهيم بن المنذر وغيره: هذا وهم لا يشك فيه أحد
من علمائنا. إن رسول الله ولد عام الفيل وبعث على رأس
أربعين سنة من الفيل.
وقال يَعْقُوْبُ القُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بنِ أَبِي
المُغِيْرَةِ، عن ابن أبزى، قال: كان بين الفيل وبين مولد
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشرُ
سنين. وهذا قول منقطع.
وأضعف منه ما روى محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وهو ضعيف
قال: حدثنا عقبة بن مكرم، قال: حدثنا السيب بن شريك، عن
شعيب بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:
حمل بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي عاشوراء المحرم وولد يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة خلت
من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل2. وهذا حديث
ساقط كما ترى.
وأوهى منه ما يروى عن الكلبي -وهو متهم ساقط- عن أبي صالح
باذام، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وُلِدَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الفيل بخمس عشرة
سنة قد تقدم ما يبين كذب هذا القول عن ابن عباس بإسناد
صحيح.
قال خليفة بن خياط: المجمع عليه أنه ولد عام الفيل.
وقال الزبير بن بكار: حدثنا محمد بن حسن عن عبد السلام بن
عبد الله عن معروف بن خربوذ، وغيره من أهل العلم، قالوا:
وُلِدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَامَ الفيل، وسميت قريش "آل الله" وعظمت في العرب. ولد
لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، وقيل: من رمضان يوم
الإثنين حين طلع الفجر.
__________
1 شباب العصفري، هو خَلِيْفَةُ بنُ خَيَّاطِ بنِ
خَلِيْفَةَ بنِ خَيَّاطٍ الإمام الحافظ العلامة الأخباري،
أبو عمرو العُصْفُرِيُّ البَصْرِيُّ، وَيُلَقَّبُ
بِشَبَابٍ، صَاحِبُ "التَّارِيْخِ" وَكِتَابِ "الطبقات"،
وغير ذلك. ترجم له المصنف في كتابه هذا "السير" برقم ترجمة
عام "1918"، وبتعليقنا رقم "401" في المجلد السابع فراجعها
ثمت إذا رمت زيادة.
2 ضعيف جدا: وفيه أيضا المسيب بن شريك قال أحمد: تركه
الناس وقال مسلم وجماعة: متروك.
(1/148)
وقال أبو قتادة الأنصاري: سأل أعرابي
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: ما تقول في صوم يوم الإثنين؟ قال: "ذاك يوم ولدت
فيه وفيه أوحي إليّ" 1. أخرجه مسلم.
وقال عُثْمَانَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الوَقَّاصِيِّ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن سعيد بن المسيب وغيره، أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد في
ليلة الإثنين من ربيع الأول عند ابهرار النهار2.
وروى ابن إسحاق قال: حدثني صَالِحُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، عن يَحْيَى بنُ عَبْدِ
اللهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أسعد بن زرارة، قَالَ:
حَدَّثَنِي مَنْ شِئْتُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِي، عن حسان بن
ثابت، قال: إني والله لغلام يفعة، إذ سمعت يهوديا وهو على
أطمة3 يثرب يصرخ: يا معشر يهود، فلما اجتمعوا إليه، قالوا:
ويلك ما لك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي يبعث به الليلة.
وقال ابْنِ لَهِيْعَةَ عَنْ خَالِدِ بنِ أَبِي عِمْرَانَ،
عن حنش عن ابن عباس قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم
الاثنين ونبئ يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الإثنين، وقدم
المدينة يوم الاثنين وفتح مكة يوم الاثنين، ونزلت سورة
المائدة يوم الإثنين، وتوفي يوم الإثنين4.
رواه أحمد في مسنده، وأخرجه الفسوي في تاريخه.
وقال شيخنا أبو محمد الدمياطي في "السيرة" من تأليفه، عَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ، قَالَ: وُلِدَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَوْم
الإثنين لعشر ليال خلون من ربيع الأول، وكان قدوم أصحاب
الفيل قبل ذلك في النصف من المحرم5.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1162" "197" من طريق محمد بن جعفر،
حدثنا شعبة، عن غيلان بن جرير، سمع عبد الله بن معبد
الزماني، عن أبي قتادة الأنصاري به.
2 ضعيف: لإرساله.
3 الأطم بالضم: الأبنية المرتفعة كالحصون. وجمعه آطام.
4 ضعيف: أخرجه أحمد "1/ 277"، والطبراني "12984"، والبيهقي
في "دلائل النبوة" "7/ 233، 234" من طريق عبد الله بن
لهيعة، به.
قلت: إسناده ضعيف، آفته عبد الله بن لهيعة، أجمعوا على
ضعفه لسوء حفظه بعد احتراق كتبه. لكن يغني عنه حديث أبي
قتادة الأنصاري المتقدم وفيه: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن صوم يوم الإثنين؟ قال:
"ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أنزل علي فيه".
ويغني عنه أيضا ما رواه البخاري "1387" عن عائشة أن أبا
بكر قال لها في أي يوم تُوُفِّيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: يوم الإثنين. قال:
فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الإثنين.
5 ضعيف: لإرساله، أبو جعفر محمد بن علي، هو أَبُو جَعْفَرٍ
البَاقِرُ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بنِ
عَلِيِّ بنِ أبي طالب من صغار التابعين، فبينه وَبَيْنَ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفاوز
تنقطع دونها أعناق المطي.
(1/149)
وقال أبو معشر نجيح: ولد لاثنتي عشرة ليلة
خلت من ربيع الأول.
قال الدمياطي: والصحيح قول أبي جعفر، قال: ويقال: إنه ولد
في العشرين من نيسان.
وقال أبو أحمد الحاكم: ولد بعد الفيل بثلاثين يوما. قاله
بعضهم. قال: وقيل: بعده بأربعين يوما.
قلت: لا أبعد أن الغلط وقع من هنا على من قال ثلاثين عاما
أو أربعين عاما فكأنه أراد أن يقول يوما فقال عاما.
وقال الوليد بن مسلم، عن شعيب بن أبي حمزة، عن عطاء
الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس أن عبد المطلب: ختن
النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسماه
محمدا1.
وهذا أصح مما رواه ابن سعد: أخبرنا يونس بن عطاء المكي،
قال: حدثنا الحكم بن أبان العدني، قال حدثنا عكرمة، عن ابن
عباس، عن أبيه العباس قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم
مختونا مسرورا، فأعجب ذلك عبد المطلب وحظي عنده وقال:
ليكونن لابني هذا شأن2.
تابعه سليمان بن سلمة الخبائري، عن يونس، لكن أدخل فيه بين
يونس والحكم: عثمان ابن ربيعة الصدائي.
قال شيخنا الدمياطي: ويروى عن أبي بكرة، قال: ختن جبريل
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
طهر قلبه3.
قلت: هذا منكر.
__________
1 ضعيف: فيه الوليد بن مسلم مدلس يدلس تدليس التسوية وقد
عنعنه.
2 منكر: أخرجه ابن سعد "1/ 103" قال أخبرنا يونس بن عطاء
المكي، به.
وأورده ابن كثير في "البداية والنهاية" "2/ 269-270" ثم
قال في إثره بعد أن ذكر طرقا له: "وقد ادعى بعضهم صحته لما
ورد له من الطرق حتى زعم بعضهم أنه متواتر! وفي هذا كله
نظر.
ومعنى مختونا: أي مقطوع الختان. ومسرورا: أي مقطوع السرة
من بطن أمه.
3 منكر: أورده الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" "2/
270" ط. دار الحديث وقال: قد روى الحافظ ابن عساكر من طريق
عبد الرحمن بن عيينة البصري، حدثنا علي بن محمد المدائني
السلمي، حدثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زيادة، عن أبيه،
عن أبي بكرة: أن جبريل ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين
طهر قلبه".
وقال ابن كثير في إثره: وهذا غريب جدا.
(1/150)
أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته:
الزهري, عن محمد بن جبير بن مطعم, عن أبيه قَالَ: سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ:
"إن لي اسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو
الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي،
وأنا العاقب" 1. قال الزهري: والعاقب: الذي ليس بعده نبي.
متفق عليه وقال الزهري: وقد سماه الله رءوفا رحيما.
وقال حماد بن سلمة، عن جعفر بن أبي وحشية، عن نافع بن جبير
بن مطعم عن أبيه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "أنا محمد، وأنا أحمد،
وأنا الحاشر، وأنا الماحي، والخاتم، والعاقب" 2. وهذا
إسناد قوي حسن.
وجاء بلفظ آخر، قال: "أنا أحمد، ومحمد، والمقفى، والحاشر،
ونبي الرحمة، ونبي الملحمة" 3.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ،
قال: حدثني خَالِدِ بنِ يَزِيْدَ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ أَبِي
هلال عن عقبة بن مسلم عن نافع بن جبير بن مطعم: أنه دخل
على عبد الملك بن مروان فقال له: أتحصي أسماء رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كان جبير
يعدها؟ قال: نعم هي ستة: محمد، وأحمد، وخاتم وحاشر وعاقب
وماحي.
فأما حاشر فبعث مع الساعة نذيرا لكم، وأما عاقب فإنه عقب
الأنبياء وأما ماحي فإن الله محا به سيئات من اتبعه.
__________
1 صحيح: أخرجه عبد الرزاق "19657"، والحميدي "555"، وابن
أبي شيبة "11/ 457"، وأحمد "4/ 80 و84"، وابن سعد في
"الطبقات" "1/ 105"، والبخاري "3532"، "4896"، ومسلم
"2354"، والترمذي "2840"، وفي "الشمائل" "359" والدارمي
"2/ 317-318" والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" "2/ 50"،
والآجري في "الشريعة" "ص462"، والطبراني في "الكبير"
"1520-1530"، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" "19"، والبيهقي
في "دلائل النبوة" "1/ 152-153 و153 و154"، والبغوي "3629"
و"3630" من طرق عن الزهري، به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "4/ 81 و84" من طريق حماد بن سلمة به.
3 صحيح: أخرجه أحمد "4/ 404" من طريق المسعودي، ومسلم
"2355" من طريق الأعمش كلاهما عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ،
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عن أبي موسى الأشعري قَالَ: كَانَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يسمي لنا
نفسه أسماء فقال: "أنا محمد وأحمد والمقفى والحاشر ونبي
التوبة ونبي الرحمة".
وقوله: "المقفى" قال شمر: هو بمعنى العاقب. وقال ابن
الأعرابي: هو المتبع للأنبياء. يقال: قفوته أقفوه وقفيته
أقفيه، إذا اتبعته وقافية كل شيء آخره.
(1/151)
وقال عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي
موسى الأشعري، قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: "أنا محمد،
وأحمد، والحاشر، والمقفى، ونبي التوبة، والملحمة" رواه
مسلم1.
وقال وَكِيْعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ
النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، قال: "أيها الناس إنما
أنا رحمة مهداة" 2.
ورواه زياد بن يحيى الحساني، عن سعير بن الخمس، عن
الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
موصولا.
وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
وقال وكيع، عن إسماعيل الأزرق، عن ابن عمر، عن ابن
الحنفية، قال: يس محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن بعضهم، قَالَ: لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم فِي القرآن خمسة أسماء: محمد، وأحمد، وعبد الله،
ويس، وطه.
وقيل: طه، لغة لعك، أي: يا رجل، فإذا قلت لعكي: يا رجل لم
يلتفت، وإذا قلت له: طه التفت إليك نقل هذا الكَلْبِيُّ،
عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ والكلبي متروك.
فعلى هذا القول لا يكون طه من أسمائه.
وقد وصفه الله تعالى في كتابه فقال: رسولا، ونبيا أميا
وشاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا
منيرا، ورءوفا رحيما، ومذكرا، ومدثرا ومزملا وهاديا، إلى
غير ذلك.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2355". وراجع تخريجنا السابق.
2 حسن لغيره: أخرجه ابن سعد "1/ 192" أخبرنا وسميع بن
الجراح، به.
وله شاهد عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "إنما أنا رحمة
مهداة".
أخرجه البزار "2369" كشف الأستار، والطبراني في "الصغير"
"1/ 95"، و"الأوسط" "2981"، وابن الأعرابي في "معجمه"،
والحاكم "1/ 35"، والقضاعي في "الشهاب" "1160" من طريق أبي
الخطاب زياد بن يحيى، عن مالك بن سعير، عن الأَعْمَشُ،
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، به. ومالك بن
سعير، صدوق فالإسناد حسن.
(1/152)
ومن أسمائه: الضحوك، والقتال. جاء في بعض
الآثار عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا الضحوك أنا
القتال".
وقال ابن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
الصادق المصدوق1، وفي التوراة فيما بلغنا أنه حرز للأميين،
وأن اسمه المتوكل2.
ومن أسمائه: الأمين. وكانت قريش تدعوه به قبل نبوته. ومن
أسمائه: الفاتح، وقثم.
وقال علي بن زيد بن جدعان: تذاكروا أحسن بيت قالته العرب،
فقالوا: قول أبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وقال عاصم بن أبي النجود، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ
اللهِ، قَالَ: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض
طرق المدينة، فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا نبي
الرحمة، ونبي التوبة، والمقفى، وأنا الحاشر، ونبي الملحمة"
3 قالك المقفى الذي ليس بعده نبي. رواه الترمذي في
"الشمائل" وإسناده حسن، وقد رواه حماد بن سلمة، عن عاصم،
فقال: عن زر، عن حذيفة نحوه.
ويروى بإسناد واه عن أبي الطفيل، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لي عشرة أسماء، فذكر
منها الفاتح، والخاتم.
قلت: وأكثر ما سقنا من أسمائه صفات له لا أسماء أعلام، وقد
تواتر أن كنيته أبو القاسم.
__________
1 صحيح: أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ "6594", وَمُسْلِمٌ
"2643" مِنْ طَرِيْقِ الأَعْمَشِ، عَنْ زيد بن وهب، عن عبد
الله بن مسعود، به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "2/ 174"، والبخاري "2125" من طريق
فليح حدثنا هلال، عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن
عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قلت: أخبرني عن صفَةِ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته
في القرآن: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للاميين، أنت عبدي ورسولي,
سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا
يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى
يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح
بها أعين عمي وآذان صم وقلوب غلف".
3 حسن: أخرجه الترمذي في "الشمائل" "360". وعاصم بن أبي
النجود صدوق حسن الحديث.
(1/153)
قال ابْنِ سِيْرِيْنَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تسموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي".
متفق عليه1.
وقال محمد بن عَجْلاَنَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم: "لا تجمعوا اسمي، وكنيتي، أنا أبو القاسم،
الله يعطي وأنا أقسم" 2.
وقال ابن لهيعة، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس، قال: لما ولد
إِبْرَاهِيْمَ ابْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من مارية كاد يقع في نفسه منه، حتى أتاه جبريل
-عليه السلام- فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم. ابن
لهيعة ضعيف.
__________
1 صحيح: أخرجه عبد الرزاق "19866"، وابن أبي شيبة "8/
671"، وأحمد "2/ 248، 260، 270، 392، 491، 499"، والبخاري
"3539"، "6188"، ومسلم "2134"، وأبو داود "4965"، وابن
ماجه "3735"، والدارمي "2/ 291-292"، وأبو نعيم في
"الحلية" "8/ 295"، وفي "تاريخ أصبهان" "2/ 143"، والبيهقي
في "السنن" "9/ 308"، وفي "الآداب" "613"، والبغوي "3363"
من طرق عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيْرِيْنَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ به.
وورد عن أنس بن مالك: عند أحمد "3/ 114، 121، 189"، وابن
أبي شيبة "8/ 671"، والبخاري "2120"، "3537"، وفي "الأدب
المفرد" "837"، "845"، ومسلم "2131"، والترمذي "2844"،
وأبو يعلى "3787"، "3811"، والبيهقي "9/ 308، 309"،
والبغوي "3364" من طرق عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك به.
2 حسن: أخرجه أحمد "2/ 433"، والبخاري في "الأدب المفرد"
"844"، والترمذي "2841" من طريق محمد بن عجلان به.
قلت: إسناده حسن, محمد بن عجلان صدوق كما قال الحافظ في
"التقريب".
(1/154)
ذكر ما ورد في قصة
سطيح, وخمود النيران ليلة المولد
وانشقاق الإيوان:
قال ابن أبي الدنيا وغيره: حدثنا علي بن حرب الطائي، قال:
أخبرنا أبو أيوب يعلى بن عمران البجلي، قال: حدثني مخزوم
بن هانئ المخزومي، عن أبيه، وكان قد أتت عليه مائة وخمسون
سنة، قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى
الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى1، وسقطت منه أربع عشرة
شرفة, وغاضت بحيرة ساوة2، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل
ذلك بألف عام، ورأى الموبذان3 إبلا صعابا تقود خيلا عرابا4
قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ما
رأى من شأن إيوانه فصبر عليه تشجعا، ثم رأى أن لا يستر ذلك
عن وزرائه ومرازبته5، فلبس تاجه وقعد على سريره وجمعهم،
فلما اجتمعوا عنده، قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا
إلا أن يخبرنا الملك، فبينا هم على ذلك أورد عليهم كتاب
بخمود النار، فازداد غما إلى غمه، فقال الموبذان: وأنا قد
رأيت -أصلح الله الملك- في هذه الليلة رؤيا، ثم قص عليه
رؤياه فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون في
ناحية العرب، وكان أعلمهم في أنفسهم فكتب كسرى عند ذلك:
"من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد، فوجه
إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه. فوجه إليه بعبد
المسيح بن حيان ابن بقيلة الغساني، فلما قدم، عليه قال له:
هل لك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليسألني الملك فإن
كان عندي علم وإلا أخبرته بمن يعلمه فأخبره بما رأى، فقال:
علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح، قال:
فائته فسله عما سألتك وائتني بجوابه، فركب حتى أتى على
سطيح وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وحياه فلم يحر سطيح
جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول:
__________
1 ارتجس إيوان كسرى: أي اضطرب وتحرك حركة سمع لها صوت.
2 غاضت بحيرة ساوة: أي غار ماؤها وذهب.
3 الموبذان: قاضي القضاة.
4 الخيل العراب المعربة: قال الكسائي: المعرب من الخيل:
الذي ليس فيه عرق هجين. والأنثى معربة؛ وإبل عراب كذلك،
وقد قالوا: خيل أعرب، وإبل أعرب.
5 المرازبة: من الفرس معرب، الواحد مرزبان بضم الزاي، وهو
الفارس الشجاع، المقدم على القوم دون الملك.
(1/155)
أصم أم يسمع غطريف1 اليمن ... أم فاد
فازلم2 به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن ... أتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن حجن ... أزرق بهم الناب صرار الأذن
أبيض فضفاض الرداء والبدن ... رسول قيل العجم يسرى للوسن
يجوب في الأرض علنداة3 شجن4 ... ترفعني وجن5 وتهوي بي وجن
لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن ... كأنما حثحث من حضنى ثكن6
حتى أتى عاري الحآجي والقطن ... تلفه في الريح بوغاء7
الدمن8
فقال سطيح: عبد المسيح، جاء إلى سطيح، وقد أوفى على
الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود
النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا
عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، يا عبد المسيح
إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة،
وخمدت نار فارس, فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك
وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح
مكانه، وسار عبد المسيح إلى رحله، وهو يقول:
شمر فإنك ماضي الهم شمير ... لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار
دهارير
__________
1الغطريف والغطارف: السيد الشريف السخي الكثير الخير.
2 أزلم: أي ذهب مسرعا.
3 العلنداة: الناقة من الإبل العظيمة الطويلة.
4 شجن: أي ناقة متداخلة الخلق كأنها شجرة متشجنة أي متصلة
الأغصان بعضها ببعض ويروى: شزن بالزاي.
5 الوجن: الأرض الغليظة الصلبة.
6 حثحث من حضنى ثكن: جاء في حديث سطيح ومعناه: أي حث وأسرع
يقال حثه على الشيء وحثحثه. وثكن: جبل معروف، وقيل: جبل
حجازي بفتح الثاء والكاف.
7 البوغاء: التراب عامة. وقيل: هي التربة الرخوة التي
كأنها ذريرة.
8 الدمن: البعر.
(1/156)
فربما ربما أضحضوا بمنزلة ... تهاب صولهم
الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور ومهجور
وهم بنو الأم إما إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ
ومنصور
والخير والشر مصفودان في قرن ... فالخير متبع والشر محذور
فلما قدم على كسرى أخبره بقول سطيح، فقال كسرى: إلى متى
يملك منا أربعة عشر ملكا تكون أمور، فملك منهم عشرة أربع
سنين، وملك الباقون إلى آخر خلافة عثمان -رضي الله عنه-
هذا حديث منكر غريب.
وبإسنادي إلى البكائي، عن ابن إسحاق، قال كان ربيعة بن نصر
ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة, فرأى رؤيا هالته وفظع
منها، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل
مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني
فأخبروني بها وبتأويلها.
قالوا: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها. قال: إني إن أخبرتكم
بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها
إلا من عرفها. فقيل له: إن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى
سطيح وشق فإنه ليس أحد أعلم منهما، فبعث إليهما فقدم سطيح
قبل شق، فقال له: رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض
تهمة1، فأكلت منها كل ذات جمجمة. قال: ما أخطأت منها شيئا،
فما تأويلها؟
فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش،
فليملكن ما بين أبين إلى جرش.
فقال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو
كائن أفي زمانه أم بعده؟
قال: بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من
السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع
لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون هاربين.
قال: من يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم ذي يزن،
يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن. قال: أفيدوم
ذلك؟ قال: بل ينقطع بنبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي.
قال: وممن هو؟ قال: من ولد فهر بن مالك بن النضر، يكون
الملك في قومه إلى آخر
__________
1 التهمة: حكى ابن قتيبة في "غريب الحديث" عن الزيادي، عن
الأصمعي أن التهمة الأرض المنصوبة إلى البحر، قال: وكأنها
مصدر من تهامة.
(1/157)
الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم،
يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى
فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟ قال: نعم والشفق
والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.
ثم قدم عليه شق، فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح
لينظر أيتفقان. قال: نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت
بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما قال ذلك عرف
أنهما قد اتفقا فوقع في نفسه فجهز أهل بيته إلى العراق،
وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ،
فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ولد ربيعة بن نصر: النعمان بن
المنذر، فهو في نسب اليمن: النعمان بن المنذر بن النعمان
بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر.
(1/158)
باب: منه
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "خرجت من لدن آدم من نكاح غير
سفاح" 1.
هذا حديث ضعيف، فيه متروكان: الواقدي، وأبو بكر بن أبي
سبرة.
وورد مثله عن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين, عن
أبيه، عن جده، عن علي بن الحسين، عن علي، وهو منقطع إن صح
عن جعفر بن محمد، ولكن معناه صحيح.
وقال خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ شَقِيْقٍ،
عَنِ ابْنِ أَبِي الجَدْعَاءِ، قَالَ قُلْتُ: يَا رسول
الله، متى كنت نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد".
وقال منصور بن سعد، وإبراهيم بن طهمان واللفظ له: قال:
حدثنا بُدَيْلِ بنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ
شَقِيق، عَنْ مَيْسَرَة الفجر، قال: سألت رسول الله صلى
الله عليه وسلم متى كنت نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح
والجسد" 2.
وقال الترمذي: حدثنا الوليد بن شجاع، قال: حدثنا الوليد بن
مسلم، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بنِ أَبِي
كَثِيْرٍ، عَنْ أَبِي سلمة, عن أبي هريرة: سئل النبي صلى
الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ قال: "بين خلق آدم
ونفخ الروح فيه" قال الترمذي: حسن غريب.
__________
1 حسن لغيره: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" من حديث ابن
عباس، وفيه متروكان كما قال المصنف.
وورد من طريق علي بن أبي طالب مرفوعا بلفظ: "خرجت من نكاح،
ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم
يصبني من سفاح الجاهلية شيء".
أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي"
"ص136"، والسهمي في "تاريخ جرجان "ص318-319"، والطبراني في
"الأوسط" "4728"، وفيه محمد بن جعفر بن محمد بن علي، تكلم
فيه كما قال الذهبي في "الميزان".
وورد من حديث أبي جعفر الباقر مرسلا: أخرجه البيهقي "7/
190"، وعبد الرزاق في "المصنف" وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ
كما في "الدر المنثور". وهو مرسل يشهد لحديث علي بن أبي
طالب، رضي الله عنه.
2 صحيح: أخرجه أحمد "5/ 59"، وفي "السنة" "ص111" حدثنا عبد
الرحمن بن مهدي، حدثنا منصور بن سعد، عَنْ بديل، عَنْ
عَبْد اللهِ بن شَقِيق، به.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "410"، وأبو نعيم في
"الحلية" "9/ 53" من طرق عن ابن مهدي، به.
وأخرجه ابن أبي عاصم "411" ثنا هدبة بن خالد، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عن عبد
الله بن شقيق، عن رجل قال: قلت: يا رسول الله متى بعثت
نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد".
(1/159)
قلت: لولا لين في الوليد بن مسلم لصححه
الترمذي.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي ثَوْرُ بنُ يَزِيْدَ، عَنْ خَالِدِ بنِ
مَعْدَانَ، عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك قال: "دعوة أبي
إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأن نورا خرج
منها أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام".
وروينا بإسناد حسن -إن شاء الله- عن العرباض بن سارية
أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: "إني عبد الله وخاتم النبيين، وإن آدم
لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك: دعوة أبي إبراهيم
وبشارة عيسى لي، ورؤيا أمي التي رأت" 1. وإن أَمْ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأت حين وضعته
نورا أضاءت منه قصور الشام.
ورواه الليث، وابن وهب، عن معاوية بن صالح، سمع سعيد بن
سويد يحدث عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض،
فذكره.
ورواه أبو بكر بن أبي مريم الغساني، عن سعيد بن سويد، عن
العرباض نفسه.
وقال فرج بن فَضالة: حدثنا لقمان بن عامر، قال: سمعت أبا
أمامة، قال قلت: يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟ قال:
"دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور
أضاءت منه قصور الشام". رواه أحمد في "مسنده"2 عن أبي
النضر، عن فرج.
قوله: "لمنجدل" أي ملقى، وأما دعوة إبراهيم فقوله:
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:
129] ، وبشارة عيسى قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي
مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدْ} [الصف: 6] .
وقال أبو ضمرة: حدثنا جعفر بن محمد، عَنْ أَبِيْهِ، أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
"قسم الله الأرض نصفين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف على
ثلاثة فكنت في خير ثلث منها، ثم اختار العرب من الناس، ثم
اختار قريشا من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش ثم
__________
1 حسن: أخرجه أحمد "4/ 128" من حديث العرباض بن سارية
السلمي، به.
2 حسن: أخرجه أحمد "5/ 262" حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج،
به.
قلت: إسناده حسن، فرج بن فضالة، هو ابن النعمان التنوخي
الشامي، قال أبو حاتم: صدوق لا يحتج به. وقال ابن معين
صالح الحديث. وضعفه النسائي والدارقطني. ولقمان بن عامر،
صدوق ويشهد له الطريق السابق.
(1/160)
اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثم
اختارني من بني عبد المطلب". هذا حديث مرسل.
وروى زَحْرَ بنَ حِصْنٍ، عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بنِ منهب،
قال: سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة يَقُوْلُ: هَاجَرْتُ
إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوْكٍ، فَسَمِعْتُ العَبَّاسَ،
يَقُوْلُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنِّي أُرِيْدُ أَنْ أمتدحك
فقال: "لا يفضض الله فاك". فقال:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلاَلِ وَفِي ...
مُسْتَوْدَعٍ حيث يخصف الورق
ثُمَّ هَبَطْتَ البِلاَدَ لاَ بَشَرٌ ... أَنْتَ وَلاَ
مُضْغَةٌ وَلاَ عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِيْنَ وَقَدْ ... أَلْجَمَ
نَسْراً وَأَهْلَهُ الغَرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ ... إِذَا مَضَى
عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ المُهَيْمِنُ مِنْ ... خِنْدِفَ
عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْـ ... ـأَرْضُ
وَضَاءتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذلك الضياء وفي النْـ ... ـنُور وسبل الرشاد
نخترق
الظلال: ظلال الجنة قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] ، والمستودع: هو
الموضع الذي كان فيه آدم وحواء يخصفان عليهما من الورق،
أي: يضمان بعضه إلى بعض يتستران به، ثم هبطت إلى الدنيا في
صلب آدم، وأنت لا بشر ولا مضغة.
وقوله: "تركب السفين" يعني: في صلب نوح. وصالب لغة غريبة
في الصلب، ويجوز في الصلب الفتحتان كسقم وسقم.
والطبق: القرن، أي: كلما مضى عالم وقرن جاء قرن، ولأن
القرن يطبق الأرض بسكناه بها. ومنه قوله -عليه السلام- في
الاستسقاء: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا طبقا غدقا" 1، أي:
يطبق الأرض. وأما قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ
طَبَقٍ} [الانشقاق: 19] ، أي: حالا بعد حال.
والنطق: جمع نطاق وهو ما يشد به الوسط ومنه المنطقة. أي:
أنت أوسط قومك نسبا. وجعله في علياء وجعلهم تحته نطاقا.
وضاءت: لغة في أضاءت.
__________
1 صحيح: أخرجه أبو داود "1169" من حديث جابر بن عبد الله،
به.
(1/161)
وأرضعته ثويبة:
وأرضعته ثويبة جارية أبي لهب عمه، مع عمه حمزة، ومع أبي
سلمة بن عبد الأسد المخزومي، رضي الله عنهما.
قال شعيب، عن الزهري، عن عروة: إن زينب بنت أبي سلمة وأمها
أخبرته، أن أم حبيبة أخبرتهما، قالت: قلت: يا رسول الله!
انكح أختي بنت أبي سفيان. قال: "أوتحبين ذلك؟ ". قلت: لست
لك بمخلية وأحب إلي من شركني في خير أختي. قال: "إن ذلك لا
يحل لي". فقلت: يا رسول الله إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح
درة بنت أبي سلمة. فقال: "والله لو لم تكن ربيبتي في حجري
ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة
ثويبة، فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن". أخرجه
البخاري1.
وقال عروة في سياق البخاري: ثويبة مولاة أبي لهب، أعتقها،
فأرضعت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَمَّا مَاتَ أبو لهب رآه بعض أهله في النوم بشر حيبة،
يعني: حالة فقال له: ماذا لقيت؟ قال: لم ألق بعدكم رخاء
غير أني أسقيت في هذه مني بعتاقتي ثويبة. وأشار إلى النقرة
التي بين الإبهام والتي تليها.
ثم أرضعته حليمة السعدية:
ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، وأخذته معها إلى
أرضها، فأقام معها في بني سعد نحو أربع سنين، ثم ردته إلى
أمه.
قال يحيى بن أبي زائدة: قال محمد بن إسحاق عن جهم بن أبي
جهم، عن عبد الله جعفر، عن حليمة بنت الحارث أَمْ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السعدية، قالت:
خرجت في نسوة نلتمس الرضعاء بمكة على أتان لي قمراء2 قد
أذمت بالركب3، وخرجنا في سنة شهباء4 لم تبق شيئا، ومعنا
شارف5 لنا، والله إن تبض6 علينا بقطرة، ومع صبي لي لن ننام
ليلنا
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "5101"، ومسلم "1449"، وأبو داود
"2056".
2 قمراء: القمرة: لون إلى الخضرة، وقيل: بياض فيه كدرة.
3 أذمت بالركب: أي حبستهم لضعفها وانقطاع سيرها.
4 سنة شهباء: إذا كانت مجدبة، بيضاء من الجدب، لا يرى فيها
خضرة؛ وقيل الشهباء: التي ليس فيها مطر.
5 الشارف: الناقة التي قد أسنت. وقال ابن الأعرابي:
الشارف: الناقة الهمة والجمع شرف، وشوارف.
6 تبض: أي ترشح.
(1/162)
مع بكائه، فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة
إلا عرض عَلَيْهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فتأباه، وإنما كنا نرجو كرامة رضاعه من أبيه،
وكان يتيما، فلم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت صبيا، غيري.
فقلت لزوجي: لأرجعن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فأتيته
فأخذته، فقال زوجي: عسى الله أن يجعل فيه خيرا. قالت:
فوالله ما هو إلا أن جعلته في حجري فأقبل عليه ثديي بما
شاء من اللبن، فشرب وشرب أخوه حتى رويا، وقام زوجي إلى
شارفنا من الليل، فإذا بها حافل، فحلب وشربنا حتى روينا،
فبتنا شباعا رواء، وقد نام صبياننا، قال أبوه: والله يا
حليمة ما أراك إلا قد أصبت نسمة مباركة، ثم خرجنا، فوالله
لخرجت أتاني أمام الركب قد قطعتهن حتى ما يتعلق بها أحد،
فقدمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن بكر، فقدمنا على أجدب
أرض الله، فوالذي نفسي بيده إن كانوا ليسرحون أغنامهم
ويسرح راعي غنمي، فتروح غنمي بطانا لبنا حفلا، وتروح
أغنامهم جياعا، فيقول لرعاتهم: ويلكم ألا تسرحون حيث يسرح
راعي حليمة؟ فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه راعينا، فتروح
أغنامهم جياعا ما بها من لبن، وتروح غنمي لبنا حفلا.
شق الصدر:
فكان صلى الله عليه وسلم يشب في يومه شباب الصبي في الشهر،
ويشب في الشهر شباب الصبى في سنة، قالت: فقدمنا على أمه
فقلنا لها: ردي علينا ابني فإنا نخشى عليه وباء مكة قالت:
ونحن أضن شيء به مما رأينا من بركته، قالت: ارجعا به، فمكث
عندنا شهرين فبينا هو يلعب وأخوه خلف البيوت يرعيان بهما
لنا، إذ جاء أخوه يشتد، فقال: أدركا أخي قد جاءه رجلان
فشقا بطنه، فخرجنا نشتد، فأتيناه وهو قائم منتقع اللون،
فاعتنقه أبوه وأنا، ثم قال: ما لك يا بني؟ قال: "أتاني
رجلان فأضجعاني ثم شقا بطني فوالله ما أدري ما صنعا".
فرجعنا به. قالت: يقول أبوه: يا حليمة ما أرى هذا الغلام
إلا قد أصيب، فانطلقي فلنرده إلى أهله. فرجعنا به إليها،
فقالت: ما ردكما به؟ فقلت: كفلناه وأدينا الحق، ثم تخوفنا
عليه الأحداث.
فقالت: والله ما ذاك بكما، فأخبراني خبركما، فما زالت بنا
حتى أخبرناها. قالت:
فتخوفتما عليه؟ كلا والله إن لابني هذا شأنا إني حملت به
فلم أحمل حملا قط كان أخف منه ولا أعظم بركة، ثم رأيت نورا
كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت لي أعناق الإبل ببصرى،
ثم وضعته فما وقع كما يقع الصبيان، وقع واضعا يديه بالأرض
رافعا رأسه إلى السماء، دعاه، والحقا شأنكما1. هذا حديث
جيد الإسناد.
__________
1 ضعيف: أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية لابن هشام
"1/ 122-124" ط. دار الحديث =
(1/163)
قال أبو عاصم النبيل: أخبرني جعفر بن يحيى،
قال: أخبرنا عمارة بن ثوبان أن أبا الطفيل أخبره، قَالَ:
رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وأقبلت إليه امرأة حتى دنت منه، فبسط لها رداءه
فقلت: من هذه؟ فقالوا: أمه التي أرضعته. أخرجه أبو داود1.
قال مسلم: حدثنا شيبان، قال: حدثنا، حماد، قال: حدثنا
ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاه جبريل وهو يلعب مع
الغلمان، فأخذه فصرعه فشق قلبه، فاستخرج منه علقة، فقال:
هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم
لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه،
يعني مرضعته، فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه منتقع
اللون.
قال أنس: قد كنت أرى أثر المخيط في صدره2.
وقال بَقِيَّةُ، عَنْ بَحِيْرِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ
بنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَمْرو
السلمي، عن عتبة بن عبد، فذكر نحوا من حديث أنس. وهو صحيح
أيضا، وزاد فيه: "فرحلت -يعني ظئره3- بعيرا، فحملتني على
الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت: أديت أمانتي
وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت، فلم يعرها ذلك، وقالت: إني
رأيت خرج مني نور أضاء منه قصور الشام.
وقال سليمان بن المغيرة، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ،
قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم: "أتيت وأنا في أهلي، فانطلق بي إلى زمزم فشرح صدري،
ثم أتيت بطست من ذهب ممتلئة حكمة وإيمانا فحشى بها صدري
-قال أنس: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا أثره- فعرج
بي الملك إلى السماء الدنيا" وذكر حديث المعراج.
__________
= قال: قال ابن إسحاق: وحدثني جهم بن أبي جهم مولى الحارث
بن حاطب الجمحي، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرِ بنِ أَبِي
طَالِبٍ، أو عمن حدثه عنه قال: كانت حليمة بنت أبي ذؤيب
السعدية أَمْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّتِي أرضعته ... " فذكره في حديث طويل.
قلت: إسناده ضعيف، آفته جهم بن أبي جهم. قال المصنف: لا
يعرف.
1 ضعيف: أخرجه أبو داود "5144"، وفيه عمارة بن ثوبان،
حجازي, مستور، وفيه جعفر بن يحيى بن ثوبان، مجهول أيضا لذا
قال الحافظ في "التقريب" "مقبول" أي عند المتابعة.
2 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 121، 149، 288", ومسلم "162"
"261"، وأبو يعلى "3374" و"3507" وأبو نعيم في "الدلائل"
"168"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 146"، والبغوي "3708" من
طرق عن حماد بن سلمة، به. وقوله: "لأمَهُ": معناه جمعه وضم
بعضه إلى بعض.
3 ظئره: المرضعة غير ولدها، ويقع على الذكر والأنثى.
(1/164)
وقد روى نحوه شريك بن أبي نمر، عن أنس، عن
أبي ذر وكذلك رواه الزهري، عن أنس، عن أبي ذر أيضا. وأما
قتادة فرواه عن أنس، عن مالك بن صعصعة، نحوه.
وإنما ذكرت هذا ليعرف أن جبريل شرح صدره مرتين: في صغره
ووقت الإسراء به.
وفاة والده:
وتوفي "عبد الله" أبوه، وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمانية
وعشرون شهرا. وقيل: أقل من ذلك.
وقيل: وهو حمل توفي بالمدينة غريبا، وكان قدمها ليمتار
تمرا، وقيل: بل مر بها مريضا راجعا من الشام، فروى محمد بن
كعب القرظي وغيره: أن عبد الله بن عبد المطلب خرج إلى
الشام إلى غزة في عير تحمل تجارات، فلما قفلوا مروا
بالمدينة وعبد الله مريض، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي
بن النجار، فأقام عندهم مريضا مدة شهر، فبلغ ذلك عبد
المطلب، فبعث إليه الحارث وهو أكبر ولده؛ فوجده قد مات؛
ودفن في دار النابغة أحد بني النجار؛ والنبي صلى الله عليه
وسلم يومئذ حمل، على الصحيح. وعاش عبد الله خمسا وعشرين
سنة، قال الواقدي: وذلك أثبت الأقاويل في سنة وفاته.
وترك عبد الله من الميراث أم أيمن وخمسة أجمال وغنما، فورث
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وفاة أمه وكفالة جده وعمه:
وتوفيت أمه "آمنة" بالأبواء وهي راجعة به -صلى الله عليه
وسلم- إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي ابن النجار،
وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم. وقيل: ابن أربع سنين.
فلما مات ودفنت، حملته أم أيمن مولاته إلى مكة إلى جده،
فكان في كفالته إلى أن توفي جده، وللنبي صلى الله عليه
وسلم ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب.
قال عمرو بن عون: أخبرنا خالد بنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ
دَاوُدَ بنِ أَبِي هند، عن عباس بن عبد الرحمن، عن كندير
بن سعيد، عن أبيه، قال: حججت في الجاهلية، فإذا رجل يطوف
بالبيت ويرتجز يقول:
رب رد إليّ راكبي محمدا ... يا رب رده واصطنع عندي يدا
قلت: من هذا؟ قال: عبد المطلب، ذهبت إبل له فأرسل ابن ابنه
في طلبها، ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها، وقد احتبس
عليه فما برحت حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم وجاء
بالإبل. فقال: يا بني لقد حزنت عليك حزنا؛ لا تفارقني
أبدا.
(1/165)
وقال خارجة بن مصعب، عن بَهْزُ بنُ
حَكِيْمِ بنِ مُعَاوِيَةَ بن حَيْدَةَ، عن أبيه، عن جده،
أن حيدة بن معاوية اعتمر في الجاهلية1، فذكر نحوا من حديث
كندير عن أبيه.
وقال إبراهيم بن محمد الشافعي، عن أبيه، عن أبان بن
الوليد، عن أبان بن تغلب، قال: حدثني جلهمة بن عرفطة، قال:
إني لبالقاع من نمرة، إذ أقبلت عير من أعلى نجد، فلما حاذت
الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه عن عجز بعير، فجاء حتى تعلق
بأستار الكعبة، ثم نادى يا رب البنية أجرني؛ وإذا شيخ وسيم
قسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء، فقال: ما شأنك يا
غلام، فأنا من آل الله وأجير من استجار به؟ قال: إن أبي
مات وأنا صغير، وإن هذا استعبدني، وقد كنت أسمع أن لله
بيتا يمنع من الظلم، فلما رأيته استجرت به. فقال له
القرشي: قد أجرتك يا غلام، قال: وحبس الله يد الجندعي إلى
عنقه. قال جلهمة: فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة وكان
قعدد2 الحي، فقال: إن لهذا الشيخ ابنا يعني أبا طالب. قال:
فهويت رحلي نحو تهامة، أكسع بها الجدود، وأعلوا بها
الكذان3، حتى انتهيت إلى المسجد الحرام، وإذا قريش عزين4،
قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون، فقائل منهم يقول: اعتمدوا
اللات والعزى؛ وقائل يقول: اعتمدوا لمناة الثالثة الأخرى.
وقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم
باقية إبراهيم -عليه السلام- وسلالة إسماعيل؟ قالوا له:
كأنك عنيت أبا طالب. قال: إيهًا. فقاموا بأجمعهم، وقمت
معهم فدققنا عليه بابه، فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر،
عليه إزار قد اتشح به، فثاروا إليه فقالوا: يا أبا طالب
أقحط الوادي، وأجدب العباد فهلم فاستسق؛ فقال: رويدكم زوال
الشمس وهبوب الريح؛ فلما زاغت الشمس أو كادت، خرج أبو طالب
معه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله
أغيلمة؛ فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بأصبعه
الغلام، وبصبصت الأغيلمة حوله وما في السماء قزعة، فأقبل
السحاب من ههنا وههنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي،
وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:
__________
1 ضعيف جدا: آفته خارجة بن مصعب, أبو الحجاج السرخسي
الفقيه، وهاه أحمد.
وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال أيضا: كذاب وقال البخاري:
تركه ابن المبارك، ووكيع.
2 قعدد: القريب من الجد الأكبر.
3 الكذان: الحجارة التي ليست بصلبة، وهي حجارة كأنها المدر
فيها رخاوة، وربما كانت نخرة.
4 عزين: متفرقين واحدها عزة.
(1/166)
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع
اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفضائل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة ... ووزان صدق وزنه غير عائل
وقال عبد الله بن شبيب وهو ضعيف: حدثنا أحمد بن محمد
الأزرقي، قال: حدثني سعيد بن سالم، قال: حدثنا ابن جريج،
قال: كنا مع عطاء، فقال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت أبي
يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة، وأحسنهم وجها، ما
رآه أحد قط إلا أحبه، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه
غيره، ولا يجلس عليه معه أحد، وكان الندي من قريش حرب بن
أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش؛ فَجَاءَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غلام لم يبلغ
فجلس على المفرش، فجبذه رجل فبكى؛ فقال عبد المطلب -وذلك
بعدما كف بصره: ما لابني يبكي؟ قالوا له: إنه أراد أن يجلس
على المفرش فمنعوه، فقال: دعوا ابني يجلس عليه، فإنه يحس
من نفسه شرفا، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي
قبله ولا بعده1. قال: ومات عبد المطلب، والنبي صلى الله
عليه وسلم ابن ثمان سنين، وكان خلف جنازة عبد المطلب يبكي
حتى دفن بالحجون2.
وقد رعى الغنم:
فروى عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم: "ما من نبي إلا وقد رعى الغنم". قالوا:
وأنت يا رسول الله؟ قال: "نعم، كنت أرعاها بالقراريط لأهل
مكة". رواه البخاري3.
وقال أبو سلمة، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ
اللهِ صلى الله عليه وسلم بمر الظهران نجتني الكباث، فقال:
"عليكم بالأسود منه فإنه أطيب". قلنا: وكنت ترعى الغنم يا
رسول الله؟ قال: "نعم وهل من نبي إلا قد رعاها". متفق
عليه4.
__________
1 ضعيف جدا: آفته عبد الله بن شبيب، أبو سعيد الربعي،
أخباري علامة، لكنه واه. قال أبو أحمد الحاكم: ذاهب
الحديث. وقال ابن حبان: يقلب الأخبار ويسرقها.
2 الحجون: موضع بمكة ناحية من البيت وقال الجوهري: الحجون،
بفتح الحاء، جبل بمكة وهي مقبرة.
3 صحيح: أخرجه البخاري "2262" حدثنا أحمد بن محمد المكي
حدثنا عمرو بن يحيى، به.
قوله: "قراريط": جمع قيراط، وهو جزء من الدينار أو الدرهم.
4 صحيح: أخرجه البخاري " 3406"، ومسلم "2050" وقوله:
الكباث: بالفتح. قال ابن سيدة: نضيج ثمر الأراك؛ وقيل: هو
ما لم ينضج منه؛ وقيل: هو حمله إذا كان متفرقا، واحدته:
كباثة.
(1/167)
سفره مع عمه إن صح:
قال قراد أبو نوح: حَدَّثَنَا يُوْنُسُ بنُ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي مُوْسَى
الأَشْعَرِيِّ، عن أبيه، قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه
محمد صلى الله عليه وسلم وأشياخ من قريش؛ فلما أشرفوا على
الراهب نزلوا فخرج إليهم، وكان قبل ذلك لا يخرج إليهم،
فجعل يتخللهم وهم يحلون رحالهم؛ حتى جاء فأخذ بيده صلى
الله عليه وسلم فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب
العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أشياخ قريش:
وما علمك بهذا؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر
ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني لأعرفه
بخاتم النبوة، أسفل "عرصوف"1 كتفه مثل التفاحة. ثم رجع
فصنع لهم طعاما؛ فلما أتاهم به كان صلى الله عليه وسلم في
رعية الإبل، قال: فأرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله،
فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه -يعني إلى فيء شجرة-
فلما جلس مال فيء الشجرة عليه, فقال: انظروا فيء الشجرة
مال عليه, قال: فبينا هو قائم عليه يناشدهم أن لا يذهبوا
به إلى الروم، فإن الروم لو رأوه عرفوه بصفته فقتلوه؛
فالتفت فإذا بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم
الراهب، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج
في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا قد بعث إليه ناس، وإنا
أخبرنا فبعثنا إلى طريقك هذا؛ قال: أفرأيتم أمرا أراد الله
أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال:
فتابعوه وأقاموا معه، قال: فأتاهم فقال: أنشدكم بالله أيكم
وليه؟ قال أبو طالب: أنا؛ فلم يزل يناشده حتى رده أبو
طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا، وزوده الراهب من الكعك
والزيت.
تفرد به قراد، واسمه عبد الرحمن بن غزوان، ثقة، احتج به
البخاري والنسائي؛ ورواه الناس عن قراد، وحسنه الترمذي.
وهو حديث منكر جدا؛ وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين،
فإنه أصغر مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بسنتين ونصف؛ وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن
أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد؛ وأيضا،
فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة؟
لأن ظل الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر
النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أبا طالب قط بقول الراهب،
ولا تذاكرته قريش، ولا حكته أولئك الأشياخ، مع
__________
1 في الأصل: "غرضوف" بالغين والضاد المعجمتين، وهو تصحيف،
والصواب: بالعين والصاد المهملتين. والعرصوف والعرصاف:
العقب المستطيل، وأكثر ما يعنى به عقب المتنين والجنبين.
والمراد: أسفل العظم المستطيل الذي يشد رأسا الكتفين.
(1/168)
توفر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك،
فلو وقع لاشتهر بينهم أيما اشتهار، ولبقي عنده صلى الله
عليه وسلم حس من النبوة؛ ولما أنكر مجيء الوحي إليه، أولا
بغار حراء وأتى خديجة خائفا على عقله، ولما ذهب إلى شواهق
الجبال ليرمي نفسه صلى الله عليه وسلم. وأيضا فلو أثر هذا
الخوف في أبي طالب ورده، كيف كنت تطيب نفسه أن يمكنه من
السفر إلى الشام تاجرا لخديجة؟
وفي الحديث ألفاظ منكرة، تشبه ألفاظ الطرقية، مع أن ابن
عائذ روى معناه في مغازيه دون قوله: "وبعث معه أبو بكر
بلالا" إلى آخره، فقال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني
أبو داود سليمان بن موسى، فذكره بمعناه.
وقال ابن إسحاق في "السيرة": إن أبا طالب خرج إلى الشام
تاجرا في ركب، ومعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام،
فلما نزلوا بصرى، وبها بحيرا الراهب في صومعته، وكان أعلم
أهل النصرانية؛ ولم يزل في تلك الصومعة قط راهب يصير إليه
علمهم عن كتاب فيهم فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا؛ عن كابر
قال: فنزلوا قريبا من الصومعة، فصنع بحيرا طعاما، وذلك
فيما يزعمون عن شيء رآه حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين
القوم، فنزل بظل شجرة، فنزل بحيرا من صومعته، وقد أمر بذلك
الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فجاءوه فقال رجل منهم: يا
بحيرا ما كنت تصنع هذا، فما شأنك؟ قال: نعم، ولكنكم ضيف،
وأحببت أن أكرمكم، فاجتمعوا، وتخلف رسول الله صلى الله
عليه وسلم لصغره في رحالهم. فلما نظر بحيرا فيهم ولم يره،
قال: يا معشر قريش لا يتخلف أحد عن طعامي هذا. قالوا: ما
تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا. قال: فلا تفعلوا،
ادعوه. فقال رجل: واللات والعزى إن هذا للؤم بنا، يتخلف
ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا، ثم قام
واحتضنه، وأقبل به فلما رآه بحيرا جعل يلحظه شديدا، وينظر
إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا
شبعوا وتفرقوا قام بحيرا، فقال: يا غلام أسألك باللات
والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، فزعموا أنه قال: لا
تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط.
فقال له: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فجعل يسأله
عن أشياء من حاله، فتوافق ما عنده من الصفة. ثم نظر فيه
أثر خاتم النبوة، فأقبل على أبي طالب، فقال: ما هو منك؟
قال: ابني. قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن
أخي. قال: ارجع به واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه
وعرفوا منه ما عرفته ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك شأن.
فخرج به أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته.
وذكر الحديث.
وقال معتمر بن سليمان: حدثني أبي، عن أبي مجلز: أن أبا
طالب سافر إلى الشام ومعه
(1/169)
محمد، فنزل منزلا، فأتاه راهب، فقال: فيكم
رجل صالح، ثم قال: أين أبو هذا الغلام؟ قال أبو طالب: ها
أنذا وليه. قال: احتفظ به ولا تذهب به إلى الشام، إن
اليهود قوم حسد، وإني أخشاهم عليه. فرده.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ،
قال: حدثني عبد الله بن جعفر وجماعة، عن داود بن الحصين،
أن أبا طالب خرج تاجرا إلى الشام، ومعه محمد، فنزلوا
ببحيرا ... الحديث.
وروى يونس عن ابن شهاب حديثا طويلا فيه: فلما ناهز
الاحتلام، ارتحل به أبو طالب تاجرا، فنزل تيماء فرآه حبر
من يهود تيماء، فقال لأبي طالب: ما هذا الغلام؟ قال: هو
ابن أخي، قال: فوالله إن قدمت به الشام لا تصل به إلى أهلك
أبدا، لتقتلنه اليهود إنه عدوهم.
فرجع به أبو طالب من تيماء إلى مكة.
قال ابن إسحاق: كأن رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِيمَا ذكر لي- يحدث عما كان الله
تعالى يحفظه به في صغره، قال: "لقد رأيتني في غلمان من
قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب الغلمان به، كلنا قد تعرى
وجعل إزاره على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم
كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراها، لكمة وجيعة، وقال: شد
عليك إزارك، فأخذته فشددته، ثم جعلت أحمل الحجارة على
رقبتي".
قال ابن إسحاق: وهاجت حرب الفجار ولرسول الله صلى الله
عليه وسلم عشرون سنة، سميت بذلك لما استحلت كنانة وقيس
عيلان في الحرب من المحارم بينهم، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "كنت أنبل على أعمامي". أي أرد عنهم نبل عدوهم
إذا رموهم. وكان قائد قريش حرب بن أمية.
(1/170)
شأن خديجة:
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خُوَيْلِدِ بنِ أَسَدِ بنِ
عَبْدِ العُزَّى بنِ قصي وهي أقرب منه صلى الله عليه وسلم
إلى قصي برجل، كانت، امرأة تاجرة ذات شرف ومال، وكانت
تستأجر الرجال في مالها، وكانت قريش تجارا، فَعَرَضَتْ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يخرج في مال لها إلى الشام، ومعه غلام اسمه ميسرة، فخرج
إلى الشام، فنزل تحت شجرة بقرب صومعة، فأطل الراهب إلى
ميسرة فقال: من هذا؟ فقال: رجل من قريش، قال: ما نزل تحت
هذه الشجرة إلا نبي. ثم باع النبي صلى الله عليه وسلم
تجارته وتعوض ورجع، فكان ميسرة -فيما يزعمون- إذا اشتد
الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير.
روى قصة خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الشام تاجرا،
المحاملي، عن عبد الله بن شبيب وهو واه، قال: حدثنا أبو
بكر بن شيبة، قال: حدثني عمر بن أبي بكر العدوي، قال:
حدثني بن شيبة، قال: حدثتني عميرة بنت عَبْدِ اللهِ بنِ
كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، عَنْ أم سعد بنت سعد بن الربيع، عن
نفيسة بنت منية أخت يعلى، قالت: لَمَّا بَلَغَ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خمسا وعشرين سنة. فذكر
الحديث بطوله، وهو حديث منكر. قال: فلما قدم مكة باعت
خديجة ما جاء به فأضعف أو قريبا. وحدثها ميسرة عن قول
الراهب، وعن الملكين، وكانت لبيبة حازمة، فبعثت إليه تقول:
يابن عمي، إني قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وصدق وحسن
خلقك، ثم عرضت عليه نفسها، فقال ذلك لأعمامه، فجاء معه
حمزة عمه حتى دخل على خويلد فخطبها منه، وأصدقها النبي صلى
الله عليه وسلم عشرين بكرة، فلم يتزوج عليها حتى ماتت،
وتزوجها وعمره خمس وعشرون سنة.
وقال أحمد في "مسنده": حدثنا أبو كامل، قال: حدثنا حماد،
عَنْ عَمَّارِ بنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عباس -فيما
يحسب حماد: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذكر خديجة، وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه، فصنعت
هي طعاما وشرابا، فدعت أبها وزمرا من قريش، فطعموا وشربوا
حتى ثملوا، فقالت لأبيها: إن محمدا يخطبني فزوجني إياه،
فزوجها إياه، فخلقته وألبسته حلة كعادتهم، فلما صحا نظر،
فإذا هو مخلق، فقال: ما شأني؟ فقالت: زوجتني محمدا. فقال:
وأنا أزوج يتيم أبي طالب! لا لعمري، فقالت: أما تستحيي؟
تريد أن تسفه نفسك عند قريش بأنك كنت سكران، فلم تزل به
حتى رضي1.
__________
1 ضعيف: أخرجه أحمد "1/ 312". شك أحمد بن حنبل في وصله فقد
قال الرواة عنه: "فيما يحسب حماد" ولم يجزم, وقد دلسه
حماد. =
(1/171)
وقد روى طرفا منه الأعمش، عن أبي خالد
الوالبي، عن جابر بن سمرة أو غيره.
وأولاده كلهم من خديجة سوى إبراهيم، وهم: القاسم، والطيب,
والطاهر، وماتوا صغارا رضعا قبل المبعث، ورقية، وزينب، وأم
كلثوم, وفاطمة -رضي الله عنهم- فرقية، وأم كلثوم زوجتا
عثمان بن عفان، وزينب زوجة أبي العاص بن الربيع بن عبد
شمس، وفاطمة زوجة علي، رضي الله عنهم أجمعين.
بنيان الكعبة:
قال ابن إسحاق: فلما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين
سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك
ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما فوق القامة،
فأرادوا رفعها وتسقيفها, وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة
فتحطمت، فأخذوا خشبها وأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة نجار
قبطي، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها, وكانت حية تخرج
من بئر الكعبة التي كانت يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم،
فتشرف على جدار الكعبة، فكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا
يدنو منها أحد إلا احزألت1 وكشت2 وفتحت فاها، فكانوا
يهابونها، فبينا هي يوما تشرف على جدار الكعبة بعث الله
إليها طائرا فاختطفها، فذهب بها,
__________
= وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 73" من طريق مسلم بن
إبراهيم، قال حدثنا حماد بن سلمة, عن علي بن زيد، عَنْ
عَمَّارِ بنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عباس أن أبا
خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو -أظنه قال- سكران،
فالحديث مداره على علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
وأخرجه الطبراني "12838" من طريق سليمان بن جرير، عن حماد
بن سلمة، به.
وأخرج ابن سعد في "الطبقات" "1/ 132" قَالَ أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ، عن محمد بن عبد الله بن سلم، عن
أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، وعن ابْنِ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ،
عَنْ عَائِشَةَ وعن ابْنُ أَبِي حَبِيْبَةَ عَنْ دَاوُدَ
بنِ الحُصَيْنِ، عن عكرمة، عن ابن عباس قالوا: إن عمها
عمرو بن أسد زوجها رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَإِنْ أَبَاهَا مَاتَ قبل الفجار.
والصواب أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار، وأن عمها
عمرو بن أسد زوجها رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَهَذَا ما قاله الزبير بن بكار وغيره. وذكره
السهيلي في "الروض الأنف" "1/ 213". وقاله ابن الأثير في
"أسد الغابة" "7/ 81", وقاله أيضا المبرد، وغيره. وقوله:
"خلقته": أي طيبته.
1 احزألت: أي رفعت ذنبها.
2 كشت: كشت الأفعى تكش كشا وكشيشا: وهو صوت جلدها إذا حكت
بعضها ببعض وقيل الكشيش للأنثى من الأساود. وقيل: الكشيش
للأفعى.
وقيل: الكشيش صوت تخرجه الأفعى من فيها؛ عن كراع، وقيل:
كشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فمها فإن ذلك فحيحها.
(1/172)
قال: فاستبشروا بذلك، ثم هابوا هدمها. فقال
الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول وهو
يقول: اللهم لم ترع، اللهم لا نريد إلا خيرا. ثم هدم من
ناحية الركنين، وهدموا حتى بلغوا أساس إبراهيم -عليه
السلام- فإذا حجارة خضر آخذ بعضها ببعض. ثم بنوا، فلما بلغ
البنيان موضع الركن، يعني الحجر الأسود، اختصموا فيمن
يضعه، وحرصت كل قبيلة على ذلك حتى تحاربوا ومكثوا أربع
ليال. ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتناصفوا فزعموا أن أبا
أمية بن المغيرة, وكان أسن قريش، قال: اجعلوا بينكم فيما
تختلفون أول من يدخل من باب المسجد، ففعلوا، فكان أول من
دخل عليهم رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا به،
فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر فقال: "هاتوا لي ثوبا".
فأتوا به، فأخذ الركن بيده فوضعه في الثوب، ثم قال: "لتأخذ
كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا". ففعلوا، حتى
إذا بلغوا به موضعه وضعه هو صلى الله عليه وسلم بيده وبنى
عليه.
وقال ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم الحلم أجمرت
امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة
فاحترقت، فهدموها حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت
قريش في الركن: أي القبائل تضعه؟ قالوا: تعالوا نحكم أول
من يطلع علينا. فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو غلام عليه وشاح نمرة، حكموه، فأمر بالركن فوضع في ثوب,
ثم أخذ سيد كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا
إليه الركن، فكان هو يضعه، ثم طفق لا يزداد على السن إلا
رضا حتى دعوه الأمين، قبل أن ينزل عليه وحي، وطفقوا لا
ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها.
ويروى عن عروة ومجاهد وغيرهما: أن البيت بني قبل المبعث
بخمس عشرة سنة.
وقال داود بن عبد الرحمن العطار: حدثنا ابن خثيم، عن أبي
الطفيل، قال: قلت له: يا خال، حدثني عن شأن الكعبة قبل أن
تبنيها قريش. قال: كان برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق،
وتوضع الكسوة على الجدر ثم تدلى، ثم إن سفينة للروم أقبلت،
حتى إذا كانت بالشعيبة انكسرت، فسمعت بها قريش فركبوا
إليها وأخذوا خشبها، ورومي يقال له: بلقوم نجار بان، فلما
قدموا مكة، قالوا: لو بنينا بيت ربنا -عز وجل- فاجتمعوا
لذلك ونقلوا الحجارة من أجياد الضواحي، فبينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ينقل إذ انكشفت نمرته فنودي: يا محمد
عورتك، فذلك أول ما نودي، والله أعلم. فما رؤيت له عورة
بعد.
وقال أبو الأحوص، عن سماك بن حرب: إن إبراهيم صلى الله
عليه وسلم بنى البيت -وذكر الحديث- إلى أن قال: فمر عليه
الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، فمر عليه الدهر فانهدم،
فبنته جرهم، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته قريش. وذكر في
الحديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود مكانه.
(1/173)
وقال يونس، عن ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ،
عَنْ عَائِشَةَ, قَالَتْ: ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة
-رجل وامرأة من جرهم- زنيا في الكعبة فمسخا حجرين.
وقال موسى بن عقبة: إنما حمل قريشا على بناء الكعبة أن
السيل كان يأتي من فوقها من فوق الردم الذي صنعوه فأخربه،
فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له مليح سرق طيب
الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بناءها وأن يرفعوا بابها حتى لا
يدخلها إلا من شاءوا، فأعدوا لذلك نفقة وعمالا.
وقال زكريا بن إسحاق: حدثنا عمرو بن دينار أنه سمع جابرا
يقول: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كان ينقل الحجارة للكعبة مع قريش وعليه إزار،
فقال له عمه العباس: يابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على
منكب دون الحجارة، ففعل ذلك، فسقط مغشيا عليه، فما رؤي بعد
ذلك اليوم عريانا. متفق عليه1. وأخرجاه أيضا من حديث ابن
جريج.
وقال معمر، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ،
عن أبي الطفيل، قال: لما بنى البيت كان الناس ينقلون
الحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم معهم، فأخذ الثوب فوضعه
على عاتقه فنودي: "لا تكشف عورتك" فألقى الحجر ولبس ثوبه.
رواه أحمد في "مسنده"2.
وقال عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي: حَدَّثَنَا عَمْرُو
بنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، عن أبيه، قال: كنت أنا وابن أخي ننقل
الحجارة على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس
اتزرنا فبينا هو أمامي خر على وجهه منبطحا، فجئت أسعى
وألقيت حجري، وهو ينظر إلى السماء، فقلت: ما شأنك؟ فقام
وأخذ إزاره وقال: "نهيت أن أمشي عريانا". فكنت أكتمها
الناس مخافة أن يقولوا مجنون. رواه قيس بن الربيع بنحوه،
عن سماك.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِي هند،
عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا تشاجروا في الحجر أن يضعه أول
من يدخل من هذا الباب، فكان أول من دخل النبي صلى الله
عليه وسلم فقالوا: قد جاء الأمين.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "1582"، ومسلم "340" "77".
2 حسن: أخرجه أحمد "5/ 455" حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا
معمر، به.
قلت: إسناده حسن، فيه عبد الله بن عثمان بن خثيم، صدوق كما
قال الحافظ في "التقريب".
(1/174)
مسلم الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه،
قال: جلس رجال من قريش فتذاكروا بنيان الكعبة، فقالوا:
كانت مبنية برضم يابس، وكان بابها بالأرض، ولم يكن لها
سقف، وإنما تدلى الكسوة على الجدر، وتربط من أعلى الجدر من
بطنها، وكان في بطن الكعبة عن يمين الداخل جب يكون فيه ما
يهدي للكعبة منذ زمن جرهم، وذلك أنه عدا على ذلك الجب قوم
من جرهم فسرقوا ما به، فبعث الله تلك الحية فحرست الكعبة،
وما فيها خمسمائة سنة إلى أن بنتها قريش، وكان قرنا الكبش
معلقين في بطنها مع معاليق من حلية. إلى أن قال: حتى يطيق
الحجر منها ثلاثون رجلا يحرك الحجر منها، فترتج جوانبها،
قد تشبك بعضها ببعض، فأدخل الوليد بن المغيرة عتلة بين
إصبعين حجرين فانفلقت منه فلقة، فأخذها رجل فنزت من يده
حتى عادت في مكانها، وطارت من تحتها برقة كادت أن تخطف
أبصارهم، ورجفت مكة بأسرها، فأمسكوا. إلى أن قال: وقلت
النفقة عن عمارة البيت، فأجمعوا على أن يقصروا عن القواعد
ويحجروا ما يقدرون ويتركوا بقيته في الحجر، ففعلوا ذلك
وتركوا ستة أذرع وشبرا، ورفعوا بابها وكسوها بالحجارة حتى
لا يدخلها السيل ولا يدخلها إلا من أرادوا، وبنوها بساف من
حجارة وساف من خشب، حتى انتهوا إلى موضع الركن فتنافسوا في
وضعه. إلى أن قال: فرفعوها بمدماك حجارة ومدماك خشب، حتى
بلغوا السقف، فقال لهم باقوم النجار الرومي: أتحبون أن
تجعلوا سقفها مكنسا أو مسطحا؟ قالوا: بل مسطحا. وجعلوا فيه
ست دعائم في صفين, وجعلوا ارتفاعها من ظاهرها ثمانية عشر
ذراعا وقد كانت قبل تسعة أذرع، وجعلوا درجة من خشب في
بطنها يصعد منها إلى ظهرها، وزوقوا سقفها وحيطانها من
بطنها ودعائمها، وصوروا فيها الأنبياء والملائكة والشجر،
وصوروا إبراهيم يستقسم بالأزلام، وصوروا عيسى وأمه، وكانوا
أخرجوا ما في جب الكعبة من حلية ومال وقرني الكبش، وجعلوه
عند أبي طلحة العبدري، وأخرجوا منها هبل، فنصب عند المقام
حتى فرغوا فأعادوا جميع ذلك ثم ستروها بحبرات يمانية.
وفي الحديث عن أبي نجيح، عن أبيه، عن حويطب بن عبد العزى
وغيره: فلما كان يوم الفتح دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى البيت, فأمر بثوب فبل بماء
وأمر بطمس تلك الصور، ووضع كفيه على صورة عيسى وأمه وقال:
"امحوا الجميع إلا ما تحت يدي". رواه الأزرقي.
ابن جريج, قال: سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي
رباح، وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟ قال:
نعم أدركت تمثال مريم مزوقا في حجرها عيسى قاعد، وكان في
البيت ستة أعمدة سواري، وكان تمثال عيسى ومريم في العمود
الذي يلي
(1/175)
الباب: فقلت لعطاء: متى هلك؟ قال: في
الحريق زمن ابن الزبير، قلت: أعلى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعني كان؟ قال: لا
أدري، وإني لأظنه قد كان على عهده.
قال داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج: ثم عاودت عطاء بعد
حين فقال: تمثال عيسى وأمه في الوسطى من السواري.
قال الأزرقي: حدثنا داود العطار، عن عمرو بن دينار، قال:
أدركت في الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيسى وأمه، قال داود:
فأخبرني بعض الحجبة عن مسافع بن شيبة: أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يا شيبة امح كل
صورة إلا ما تحت يدي". قال: فرفع يده عن عيسى ابن مريم
وأمه.
قال الأزرقي، عن سعيد بن سالم: حدثني يزيد بن عياض بن
جعدبة، عن ابن شهاب: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الكعبة وفيها صورة الملائكة،
فرأى صورة إبراهيم فقال: "قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم
بالأزلام". ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها فقال: "امحو
ما فيها إلا صورة مريم". ثم ساقه الأزرقي بإسناد آخر
بنحوه، وهو مرسل، لكن قول عطاء وعمرو ثابت، وهذا أمر لم
نسمع به إلى اليوم.
أخبرنا سليمان بن حمزة، قال: أخبرنا محمد بن عبد الواحد،
قال: أخبرنا محمد بن أحمد، أن فاطمة بنت عبد الله أخبرتهم،
قالت: أخبرنا ابن بريدة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا
إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خثيم،
عن أبي الطفيل، قال: كانت الكعبة في الجاهلية مبنية
بالرضم، ليس فيها مدر، وكانت قدر ما نقتحمها، وكانت غير
مسقوفة، إنما توضع ثيابها عليها، ثم تسدل عليها سدلا، وكان
الركن الأسود موضوعا على سورها باديا، وكانت ذات ركنين
كهيئة الحلقة، فأقبلت سفينة من أرض الروم فانكسرت بقرب
جدة، فخرجت قريش ليأخذوا خشبها، فوجدوا رجلا روميا عندها،
فأخذوا الخشب، وكانت السفينة تريد الحبشة، وكان الرومي
الذي في السفينة نجارا، فقدموا به وبالخشب، فقالت قريش:
نبني بهذا الذي في السفينة بيت ربنا، لما أرادوا هدمه إذا
هم بحية على سور البيت، مثل قطعة الجائز سوداء الظهر،
بيضاء البطن، فجعلت كلما دنا أحد إلى البيت ليهدم أو يأخذ
من حجارته، سعت إليه فاتحة فاها، فاجتمعت قريش عند المقام
فعجوا إلى الله وقالوا: ربنا لم ترع، أردنا تشريف بيتك
وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك، وإلا فما بدا لك فافعل.
فسمعوا خوارا في السماء، فإذا هم بطائر أسود الظهر، أبيض
البطن، والرجلين، أعظم من النسر، فغرز مخلابه في رأس
الحية، حتى انطلق بها يجرها، ذنبها أعظم من كذا وكذا
ساقطا، فانطلق بها نحو أجياد، فهدمتها قريش، وجعلوا
يبنونها بحجارة الوادي، تحملها قريش على رقابها، فرفعوا في
السماء عشرين ذراعا، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل
(1/176)
حجارة من أجياد، وعليه نمرة، فضاقت عليه
النمرة، فذهب يضعها على عاتقه، فبرزت عورته من صغر النمرة،
فنودي: يا محمد، خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد ذلك. وكان
بين بنيان الكعبة، وبين ما أنزل عليه خمس سنين. هذا حديث
صحيح.
وقد روى نحوه داود العطار، عن ابن خثيم.
ورواه محمد بن كثير المصيصي، عن عبد الله بن واقد، عَنْ
عَبْدِ اللهِ بنِ عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ، عن نافع بن
سرجس، قال: سألت أبا الطفيل، فذكر نحوه.
وقال عبد الصمد بن النعمان: حدثنا ثابت بن يزيد، قال:
حدثنا هلال بن خباب، عن مجاهد، عن مولاه، أنه حدثه أنه كان
فيمن يبني الكعبة في الجاهلية، قال: ولى حجر أنا نحته بيدي
أعبده من دون الله، فأجيء باللبن الخاثر الذي أنفسه على
نفسي فأصبه عليه، فيجيء الكلب فيلحسه، ثم يشغر فيبول،
فبنينا حتى بلغنا الحجر، وما يرى الحجر منا أحد، فإذا هو
وسط حجارتنا، مثل رأس الرجل، يكاد يتراءى منه وجه الرجل،
فقال بطن من قريش: نحن نضعه، وقال آخرون: بل نحن نضعه.
فقالوا: اجعلوا بينكم حكما. قالوا: أول رجل يطلع من الفج،
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتاكم الأمين،
فقالوا له، فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم، فأخذوا بنواحيه
معه، فوضعه هو. اسم مولى مجاهد: السائب بن عبد الله.
وقال إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن جاهد عَنْ عَبْدِ
اللهِ بنِ عَمْرٍو، قَالَ: كَانَ البيت قبل الأرض بألفي
سنة {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق: 3] ، قال: من
تحته مدا. وروى نحوه عن منصور، عن مجاهد.
ما عصمه الله به من أمر الجاهلية:
ومما عصم الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من أمر
الجاهلية أن قريشا كانوا يسمون الحمس، يعني الأشداء
الأقوياء، وكانوا يقفون في الحرم بمزدلفة، ولا يقفون مع
الناس بعرفة، يفعلون رياسة وبأوا1، وخالفوا بذلك شعائر
إبراهيم عليه السلام في جملة ما خالفوا. فروى البخاري
ومسلم من حديث جبير بن مطعم، قال: أضللت بعيرا لي يوم
عرفة، فخرجت أطلبه بعرفة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم
واقفا مع الناس بعرفة، فقلت: هذا من الحمس، فما شاء ههنا؟
2.
__________
1 بأوا: كبرا
2 صحيح: أخرجه البخاري "1664"، ومسلم "1220" من طريق سفيان
بن عيينة، عن عمرو، حدثنا محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه،
به.
(1/177)
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الله بن
قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن الحنفية، عن أبيه، عن
جده، سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُوْلُ: "ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية إلا
مرتين، عصمني الله، قلت ليلة لفتى من قريش: أبصر لي غنمي
حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما تسمر الفتيان. قال: نعم،
فخرجت حتى جئت أدنى دار من دور مكة، فسمعت غناء وصوت دفوف
ومزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج، فلهوت بذلك حتى
غلبتني عيني، فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى
صاحبي، ثم فعلت ليلة أخرى مثل ذلك فوالله ما هممت بعدها
بسوء مما يعمله أهل الجاهلية، حتى أكرمني الله بنبوته"1.
وروى مسعر، عن العباس بن ذريح، عن زياد النخعي، قال: حدثنا
عمار بن ياسر أنهم سألوا رسول الله صلى لله عليه وسلم: هل
أتيت في الجاهلية شيئا حراما؟ قال: "لا، وقد كنت معه على
ميعادين، أما أحدهما فحال بيني وبينه سامر قومي، والآخر
غلتني عيني"2 أو كما قال.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ،
قال: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ
حسين
__________
1 منكر: أخرجه الحاكم "4/ 245"، والبيهقي في "دلائل
النبوة" "2/ 33-34" من طريق محمد بن إسحاق، به.
وقال الحاكم في إثره: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"،
ووافقه الذهبي في "التلخيص" وقال الحافظ ابن كثير في
"البداية والنهاية" "2/ 292" ط. دار الحديث:
"وهذا حديث غريب جدا، وقد يكون عن علي نفسه، ويكون قوله في
آخره: "حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته". مقحما والله
أعلم". ا. هـ.
قلت: كذا قال الحافظ ابن كثير، ولعل قوله هو الصواب، فمتن
الحديث تمجه العقول والأفهام التي ما فتئت تستروح بالنظر
في دواوين السنة الصحيحة بله الأحاديث الضعيفة والموضوعة
والمنكرة التي بينها العلماء فكل من له اطلاع لا جرم أنه
يشمئز قلبه ويمج عقله ما ورد يه. ولقد أبعد الحاكم والذهبي
النجعة بتصحيحهما هذا الحديث على شرط مسلم، وهذا من
تساهلهما والله تعالى أعلى وأعلم.
2 منكر: فيه زياد بن عبد الله النخعي، قال الدارقطني:
مجهول، تفرد عنه عباس بن ذريح. وأورده ابن أبي حاتم في
"الجرح والتعديل" "1/ ق2/ 536" ولم يذكر فيه جرحا ولا
تعديلا. ومتن الحديث منكر يمجه كل من له اطلاع ونظر في
دواوين السنة المشرفة. وكيف يكون ذلك وقد نزع الله منه حظ
الشيطان في حادثة شق الصدر، والتي تكررت مرات عديدة ليكون
قلبه مؤهلا لاستقبال الوحي الإلهي دون تشويش ووسوسة
شيطانية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ
وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] .
(1/178)
ابن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن
عكرمة، عن ابن عباس قال: حدثتني أم أيمن، قالت: كان بوانة
صنما تحضره قريش، تعظمه وتنسك له النساك، ويحلقون رءوسهم
عنده، ويعكفون عنده يوما في السنة، وكان أبو طالب يكلم
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يحضر ذلك العيد، فيأبى، حتى رأيت أبا طالب غضب، ورأيت
عماته غضبن يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا نخاف عليك
مما تصنع من اجتناب آلهتنا، فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب
عنهم ما شاء الله، ثم رجع إلينا مرعوبا، فقلن: ما دهاك؟
قال: "إني أخشى أن يكون بي لمم". فقلن: ما كان الله
ليبتليك بالشيطان، وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي
رأيت؟ قال: "إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض
طويل يصيح: وراءك يا محمد لا تمسه". قالت: فما عاد إلى عيد
لهم حتى نبئ1.
وقال أبو أسامة: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو، عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عَنْ
أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: كان صنم من
نحاس يقال له: إساف أو نائلة يتمسح المشركون به إذا طافوا،
فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت
مسحت بِهِ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تمسه" قال زيد: فطفنا، فقلت في
نفسي: لأمسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "ألم تنه؟ ". هذا حديث حسن. وقد زاد
فيه بعضهم عن محمد بن عمرو بإسناده: قال زيد: فوالله ما
استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أنزل عليه.
وقال جرير بن عبد الحميد، عن سفيان الثَّوْرِيُّ، عَنْ
عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيْلٍ، عَنْ جَابِرٍ،
قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه،
وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله،
فقال: كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام قبيل؟
قال: فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم. تفرد
به جرير، وما أتى به عنه سوى شيخ البخاري عثمان بن أبي
شيبة. وهو منكر.
وقال إِبْرَاهِيْمُ بنُ طَهْمَانَ: أَخْبَرَنَا بُدَيْلُ
بنُ مَيْسَرَةَ, عن عبد الكريم، عن عبد الله بن شقيق، عن
أبيه، عن عبد الله بن أبي الحمساء، قال: بَايَعْتُ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيعا
قبل أن يبعث، فبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه
ذلك. قال: فنسيت يومي والغد, فأتيته
__________
1 ضعيف جدا: فيه ثلاث علل: الأولى: محمد بن عمر الواقدي،
متروك. والثانية: أبو بكر بن أبي سبرة، متروك أيضا. والعلة
الثالثة: الحُسَيْنِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ
بنِ عباس بن عبد المطلب، ضعيف كما قال الحافظ في
"التقريب".
(1/179)
في اليوم الثالث، فوجدته في مكانه، فقال:
"يا فتى لقد شققت علي، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك" أخرجه
أبو داود1.
وأخبرنا الخضر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: أخبرنا أبو محمد
بن البن، قال: أخبرنا جدي، قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن
أبي العلاء، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر، قال:
أخبرنا علي بن أبي العقب، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم,
قال: حدثنا محمد بن عائذ, قال: حدثني الوليد، قال: أخبرني
معاوية بن سلام، عن جده أبي سلام الأسود، عمن حَدَّثَهُ،
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: "بينا أنا بأعلى مكة، إذا براكب عليه سواد فقال: هل
بهذه القرية رجل يقال له: أحمد؟ فقلت: ما بها أحمد ولا
محمد غيري, فضرب ذراع راحلته فاستناخت، ثم أقبل حتى كشف عن
كتفي حتى نظر إلى الخاتم الذي بين كتفي فقال: أنت نبي
الله؟ قلت: ونبي أنا؟ قال: نعم. قلت: بم أبعث؟ قال: بضرب
أعناق قومك، قال: فهل من زاد؟ فخرجت حتى أتيت خديجة
فأخبرتها، فقالت: حريا أو خليقا أن لا يكون ذلك، فهي أكبر
كلمة تكلمت بها في أمري، فأتيته بالزاد فأخذه وقال: الحمد
لله الذي لم يمتني حتى زودني نبي الله صلى الله عليه وسلم
طعاما، وحمله لي في ثوبه"2.
__________
1 ضعيف: أخرجه أبو داود "4996" حدثنا محمد بن يحيى بن فارس
النيسابوري، حدثنا محمد بن سنان، حدثنا إبراهيم بن طهمان،
عن بديل، به.
قلت: إسناده ضعيف، آفته عبد الكريم وهو ابن عبد الله بن
شقيق العقيلي، مجهول؛ لذا قال الحافظ في "التقريب": أي عند
المتابعة وليس ثمة من تابعه.
ووقع في الإسناد وهم؛ وهو إيراد شقيق العقيلي في إسناد
الحديث. والصواب "عَبْدِ اللهِ بنِ شَقِيْقٍ، عَنْ عَبْدِ
اللهِ بن أبي الحمساء" لذا قال الحافظ في "التقريب": "شقيق
العقيلي، جاء في رواية موهومة". فالصواب ذكر الإسناد بدون
إيراد شقيق والد عبد الله والله تعالى أعلم.
2 في إسناده مجاهيل.
(1/180)
ذكر زيد بن عمرو بن
نفيل، رحمه الله:
قال موسى بن عقبة: أخبرني سالم أنه سمع أباه يُحَدِّثُ
عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل أسفل بلدح، وذلك قبل الوحي،
فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سُفْرَةً فِيْهَا
لَحْمٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ وَقَالَ: لا آكل مما يذبحون
على أنصابهم، أَنَا لاَ آكُلُ إِلاَّ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ
الله عليه. رواه البخاري؛ وزاد في آخره: فكان يعيب على
قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل من السماء
الماء، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ
تَذْبَحُوْنَهَا عَلَى غير اسم الله؟ إنكارا لذلك وإعظاما
له. ثم قال البخاري: قال موسى: حدثني سالم بن عبد الله،
ولا أعلم إلا يحدث به عن ابن عمر: أن زيد بن عمرو بن نفيل
خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من
اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم،
قال: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله.
قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله
شيئا أبدا وأنا أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما
أعلمه إلا أن يكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين
إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله.
فخرج زيد فلقي عالما من النصارى، فذكر له مثله فقال: لن
تكون على ديننا، حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما
أفر إلا من لعنة الله، فقال له كما قال اليهودي، فلما رأى
زيد قولهم في إبراهيم خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم
إني أشهدك أني على دين إبراهيم. وهكذا أخرجه البخاري.
وقال عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَيَحْيَى
بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، عَنْ
أَبِيْهِ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يوما حارا وَهُوَ مُرْدِفِي إِلَى
نُصُبٍ مِنَ الأَنْصَابِ، وَقَدْ ذَبَحْنَا لَهُ شَاةً
فَأَنْضَجْنَاهَا، فَلَقِيَنَا زَيْدُ بنُ عمرو بن نفيل،
فحيا كل واحد منهما صاحبه بتحية الجاهلية، فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا زَيْدُ
مَا لِي أَرَى قَوْمَكَ قَدْ شَنِفُوا لَكَ؟ قَالَ:
وَاللهِ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ ذلك لبغير نائلة ترة لِي
فِيْهِم, وَلَكِنِّي خَرَجْتُ أَبْتَغِي هَذَا الدِّيْنَ
حتى أقدم عَلَى أَحْبَارِ فَدَكٍ فَوَجَدْتُهُم
يَعْبُدُوْنَ اللهَ وَيُشْرِكُوْنَ به فقلت: ما هذا بالدين
الذي أبتغي، فقدمت الشام فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به،
فخرجت فقال لي شيخ منهم: إنك تسأل عَنْ دِيْنٍ مَا
نَعْلَمُ أَحَداً يَعْبُدُ اللهَ به إلا شيخ بالجزيرة،
فأتيته، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ:
مِنْ أهل بيت الله، قال: من أهل الشوك والقرظ؟ إِنَّ
الَّذِي تَطْلُبُ قَدْ ظَهَرَ بِبِلاَدِكَ، قَدْ بعث نبي
قد طَلَعَ نَجْمُهُ، وَجَمِيْعُ مَنْ رَأَيْتَهُم فِي
ضَلاَلٍ. قَالَ: فَلَمْ أُحِسَّ بِشَيْءٍ، قَالَ:
فَقَرَّبَ إِلَيْهِ السُّفْرَةَ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا
مُحَمَّدُ؟ قَالَ: شاة ذبحت للنصب قال: ما كنت لآكل مما لم
يذكر اسم الله عليه قال: فتفرقا. وذكر باقي الحديث.
(1/181)
وقال الليث، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ،
عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ،
قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ زَيْدَ بنَ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ
قَائِماً مُسْنِداً ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ يَقُوْلُ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ والله ما منكم أَحَدٌ عَلَى دِيْنِ
إِبْرَاهِيْمَ غَيْرِيْ. وَكَانَ يُحْيِي الموءودة،
يَقُوْلُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ
ابْنَتَهُ: "مه! لا تقتلها أنا أكفيك مئونتها".
فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لأَبِيْهَا:
"إِنْ شِئْتَ دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مئونتها". هذا
حديث صحيح.
وقال مُحَمَّدُ بنُ عَمْرِوٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ
أسامة بن زيد، عن أبيه، أن زيد بن عمرو بن نفيل مات، ثم
أنزل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يبعث يوم القيامة
أمة وحده". إسناده حسن.
أنبئت عن أبي الفخر أسعد، قال: أخبرتنا فاطمة، قالت:
أخبرنا ابن ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: أخبرنا علي
بن عبد العزيز، قال: أخبرنا عبد الله بن رجاء، قال: أخبرنا
المَسْعُوْدِيِّ، عَنْ نُفَيْلِ بنِ هِشَامِ بنِ سَعِيْدِ
بنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خرج أبي
وورقة بن نوفل يطلبان الدين حتى مرا بالشام، فأما ورقة
فتنصر، وأما زيد فقيل له: إن الذي تطلب أمامك، فانطلق حتى
الموصل، فإذا هو براهب، فقال: من أين أقبل صاحب الراحلة،
قال: من بيت إبراهيم، قال: ما تطلب؟ قال: الدين، فعرض عليه
النصرانية، فأبى أن يقبل وهو يقول: لبيك حقا، تعبدا ورقا،
البر أبغي لا الخال، وما مهجر كمن قال:
عذت بما عاذ به إبراهيم ... مستقبل القبلة وهو قائم
أنفي لك اللهم عان راغم ... مهما تجشمني فإني جاشم
ثم يخر فيسجد للكعبة. قال: فمر زيد بالنبي صلى الله عليه
وسلم وبزيد بن حارثة، وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعياه
فقال: يابن أخي لاَ آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ،
قَالَ: فما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل مما ذبح على
النصب من يومه ذاك حتى بعث.
قال: وجاء سعيد بن زيد إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رسول الله إن زيدا كان
كما رأيت، أو كما بلغك، فاستغفر له؟ قال: "نعم، فاستغفروا
له، فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده".
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: كانت قريش حين بنوا
الكعبة يتوافدون على كسوتها كل عام تعظيما لحقها، وكانوا
يطوفون بها، ويستغفرون الله عندها، ويذكرونه مع تعظيم
الأوان والشرك في ذبائحهم ودينهم كله.
(1/182)
وقد كَانَ نَفَرَ مِنْ قُرَيْشٍ: زَيْدُ
بنُ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ، وَوَرَقَةُ بنُ نَوْفَلٍ،
وَعُثْمَانُ بنُ الحويرث بن أسد، وهو ابن عم ورقة، وعبيد
الله بن جحش بن رئاب، وأمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم
حَضَرُوا قُرَيْشاً عِنْدَ وَثَنٍ لَهُم كَانُوا
يَذْبَحُوْنَ عِنْدَهُ لِعِيْدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ،
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا خَلاَ بعض أولئك النفر إلى بعض
وقالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فَقَالَ
قَائِلُهُمْ: تَعْلَمُنَّ وَاللهِ مَا قَوْمُكُمْ عَلَى
شيء, لقد أخطئوا دين إبراهيم وخالفوه، وما وثن يعبد لا يضر
ولا ينفع، فابغوا لأنفسكم، فَخَرَجُوا يَطْلُبُوْنَ
وَيَسِيْرُوْنَ فِي الأَرْضِ يَلْتَمِسُوْنَ أَهْلَ الكتاب
من اليهود والنصارى والملل كلها، يتبعون الحنفية دين
إبراهيم، فأما ورقة فتنصر، ولم يكن منهم أعدل شأنا من زيد
بن عمرو، اعتزل الأوثان وفارق الأديان إلا دين إبراهيم.
وقال الباغندي: حدثنا أبو سعيد الأشج, قال: حدثنا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ
عَائِشَةَ, قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَرَأَيْتُ
لِزَيْدِ بنِ عمرو بن نفيل دوحتين".
وقال البكائي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي هِشَامٌ،
عَنْ أَبِيْهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ،
قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ زَيْدَ بنَ عَمْرِو بنِ نفيل
شَيْخاً كَبِيْراً مُسنِداً ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ،
وَهُوَ يقول: يا معشر قريش، والذي نفسي بيده! ما أصبح منكم
أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أعلم أي
الوجوه أحب إليك عبدتك به، ثم يسجد على راحلته".
قال ابن إسحاق: فقال زيد في فراق دين قومه:
أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور
في أبيات.
قال ابن إسحاق: وكان الخطاب بن نفيل عمه وأخوه لأمه يعاتبه
ويؤذيه حتى أخرجه إلى أعلى مكة، فنزل حراء مقابل مكة، فإذا
دخل مكة سرا آذوه وأخرجوه، كراهية أن يفسد عليهم دينهم،
وأن يتابعه أحد. ثم خرج يطلب دين إبراهيم، فجال الشام
والجزيرة، إلى أن قال ابن إسحاق: فرد إلى مكة حتى إذا توسط
بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه.
(1/183)
باب:
أخبرتنا ست الأهل بنت علوان، قالت: أخبرنا البهاء عبد
الرحمن، قال: أخبرنا منوجهر بن محمد، قال: أخبرنا هبة الله
بن أحمد، قال: حدثنا الحسين بن علي بن بطحا، قال: أخبرنا
محمد بن الحسين الحراني، قال: أخبرنا محمد بن سعيد
الرسعني، قال: أخبرنا المعافى بن سليمان, قال: حَدَّثَنَا
فُلَيْحٌ، عَنْ هِلاَلِ بن عَلِيٍّ، عَنْ عطاء بن يسار،
قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص, فقلت: أخبرني عن
صفَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في التوراة فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته
في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] ، وحرزا
للاميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا
غليظ، ولا سخاب بالاسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن
يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن
يقولوا: لا إله الا الله، فيفتح به أعينا عميا، وآذانا
صما، وقلوبا غلفا. قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته،
فما اختلفا في حرف، إلا أن كعبا يقول بلغته: أعينا عمومى
وآذانا صمومى وقلوبا غلوفى. أخرجه البخاري عن العوقي، عن
فليح.
وقد رواه سعيد بن أبي هلال، عن هلال بن أسامة، عَنْ
عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن سلام، فذكره
نحوه. ثم قال عطاء: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعب
الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلام.
قلت: وهذا أصح فإن عطاء لم يدرك كعبا.
وروى نحوه أبو غسان مُحَمَّدُ بنُ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ
بنِ أَسْلَمَ, أن عبد الله بن سلام قال: صفة النبي صلى
الله عليه وسلم في التوراة، وذكر الحديث.
وروى عطاء بن السائب، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ عَبْدِ
اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ، عَنْ أبيه، قال: إن الله ابتعث نبيه
لإدخال رجل الجنة، فدخل الكنيسة، فإذا هو بيهود، وإذا
بيهودي يقرأ التوراة، فلما أتوا على صفة النبي صلى الله
عليه وسلم أمسكوا، وفي ناحية الكنيسة رجل مريض، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "ما لكم أمسكتم؟ " قال المريض: أتوا
على صفة نبي فأمسكوا، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة
فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته،
فقال هذه صفتك وأمتك أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ
(1/184)
إلا الله، وأنك رَسُوْلَ اللهِ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لوا
أخاكم". أخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده"1.
أخبرنا جماعة عن ابن اللتي أن أبا الوقت أخبره، قال:
أخبرنا الداوودي، قال: أخبرنا ابن حمويه، قال: أخبرنا عيسى
السمرقندي، قال: أخبرنا الدارمي، قال: أخبرنا مجاهد بن
موسى، قال: حدثنا معن بن عيسى، قال: حدثنا معاوية بن صالح،
عن أبي فروة، عن ابن عباس أنه سأل كعبا: كيف تجد نعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: نجده محمد بن
عبد الله، يولد بمكة، ويهاجر إلا طابة، ويكون ملكه بالشام،
وليس بفحاش ولا سخاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة
السيئة, ولكن يعفو ويغفر، أمته الحمادون، يحمدون الله في
كل سراء، ويكبرون الله على كل نجد، يوضئون أطرافهم،
ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في
قتالهم، دويهم في مساجدهم كدوي النحل، يسمع مناديهم في جو
السماء. قلت: يعني الأذان.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن أم الدرداء، قالت:
قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم
في التوراة. فذكر نحو حديث عطاء.
__________
1 ضعيف: أخرجه أحمد "1/ 416"، والطبراني في "الكبير"
"10295"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "6/ 272-273" من طريق
حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بنِ السَّائِبِ، به.
قلت: إسناده ضعيف، لانقطاعه بين أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ
عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ، وأبيه، فإنه لم يسمع منه.
وقد روى حماد بن سلمة عن عطاء قبل الاختلاط فانتفت هذه
العلة، وبقيت علة الانقطاع بين أبي عبيدة وأبيه عبد الله
بن مسعود.
(1/185)
قصة سلمان الفارسي:
قال ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بنُ عُمَرَ، عَنْ
مَحْمُوْدِ بنِ لَبِيْدٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً
مِنْ أهل فارس من أهل أصبهان، من قرية يقال لها: جي، وكان
أبي دهقان أرضه, وكان يحبني حبا شديدا، لم يحبه شيئا من
ماله ولا ولده، فما زال به حبه إياي حتى حبسني في البيت
كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار
الذي يوقدها، فلا أتركها تخبو ساعة، فكنت لذلك لا أعلم من
أمر الناس شيئا إلا ما أنا فيه، حتى بنى أبي بنيانا له،
وكانت له ضيعة فيها بعض العمل، فدعاني فقال: أي بني، إنه
قد شغلني ما ترى من بنياني عن ضيعتي هذه، ولا بد لي من
اطلاعها، فانطلق إليها فمرهم بكذا وكذا، ولا تحتبس علي
فإنك إن احتبست عني شغلني ذلك عن كل شيء. فخرجت أريد
ضيعته، فمررت بكنيسة للنصارى، فسمعت أصواتهم فقلت: ما هذا؟
قالوا: النصارى، فدخلت فأعجبني حالهم، فوالله ما زلت جالسا
عندهم حتى غربت الشمس، وبعث أبي في طلبي في كل وجه حتى
جئته حين أمسيت، ولم أذهب إلى ضعيفته فقال: أين كنت؟ قلت:
مررت بالنصارى، فأعجبني صلاتهم ودعاؤهم، فجلست أنظر كيف
يفعلون. قال: أي بني دينك ودين آبائك خير من دينهم. فقلت:
لا والله ما هو بخير من دينهم، هؤلاء قوم يعبدون الله،
ويدعونه ويصلون له، ونحن نعبد نارا نوقدها بأيدينا، إذا
تركناها ماتت. فخاف فجعل في رجلي حديدا وحبسني، فبعثت إلى
النصارى فقلت: أين أصل هذا الدين الذي أراكم عليه؟ فقالوا:
بالشام فقلت: فإذا قدم عليكم من هناك ناس فآذنوني. قالوا:
نفعل فقدم عليهم ناس من تجارهم فآذنوني بهم, فطرحت الحديد
من رجلي ولحقت بهم، فقدمت معهم الشام، فقلت: مَنْ أَفْضَلُ
أَهْلِ هَذَا الدِّيْنِ؟ قَالُوا: الأُسْقُفُ صاحب
الكنيسة. فجئته فقلت: إني قد أحببت أن أكون معك في كنيستك،
وأبعد الله فيها معك، وأتعلم منك الخير. قال: فكن معي قال:
فكنت معه، فكان رجل سوء، يأمر بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا
جمعوها له اكتنزها ولم يعطها المساكين، فأبغضته بغضا
شديدا، لما رأيت من حاله، فلم ينشب أن مات، فلما جاءوا
ليدفنوه قلت لهم: هذا رجل سوء، كان يأمركم بالصدقة
ويكتنزها. قالوا: وما علامة ذلك؟ قلت: أنا أخرج إليكم
كنزه، فأخرجت لهم سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوا
ذلك قالوا: والله لا يدفن أبدا، فصلبوه ورموه بالحجارة،
وجاءوا برجل فجعلوه مكانه، ولا والله يا ابن عباس، ما رأيت
رجلا قط لاَ يُصَلِّي الخَمْسَ، أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلَ
مِنْهُ، وأشد اجتهادا، ولا أزهد في الدنيا، ولا أدأب ليلا
ونهارا، وما أَعْلَمُنِي أَحَبَبْتُ شَيْئاً قَطُّ
قَبْلَهُ حُبَّهُ، فَلَمْ أزل معه حتى حضرته الوفاة، فقلت:
قَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللهِ فَمَاذَا
تَأْمُرُنِي؟ وَإِلَى
(1/186)
من توصيني؟ قال لي: أي بني، والله ما أعلمه
إلا بالموصل، فأته فَإِنَّكَ سَتَجِدُهُ عَلَى مِثْلِ
حَالِي.
فَلَمَّا مَاتَ لَحِقْتُ بِالمَوْصِلِ، فَأَتَيْتُ
صَاحِبَهَا فَوَجَدْتُهُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ مِنَ
الاجْتِهَادِ وَالزُّهْدِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ فلانا
أوصى بي إليك. قَالَ: فَأَقِمْ أَيْ بُنَيَّ، فَأَقَمْتُ
عِنْدَهُ عَلَى مِثْلِ أَمْرِ صَاحِبِهِ حَتَّى حَضَرَتْهُ
الوَفَاةُ، فَقُلْتُ: إِنَّ فُلاَناً أَوْصَى بِي
إِلَيْكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا تَرَى،
فَإِلَى مَنْ توصيني؟ قال: والله ما أعلمه إِلاَّ رَجُلاً
بِنَصِيْبِيْنَ. فَلَمَّا دَفَنَّاهُ لَحِقْتُ بِالآخَرِ،
فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِم، حَتَّى
حَضَرَهُ الموت فأوصى بي إلى رجل من عَمُّوْرِيَةَ
بِالرُّوْمِ، فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى مِثْلِ
حَالِهِم، فأقمت عنده واكتسبت حتى كانت لي غنيمة وبقيرات،
ثم احتضر فكلمته، فقال: أَيْ بُنَيَّ وَاللهِ مَا
أَعْلَمُهُ بَقِيَ أَحَدٌ على مثل ما كنا عليه، وَلَكِنْ
قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ مِنَ الحرم،
مهاجره بين حرتين؛ أَرْضٍ سَبْخَةٍ ذَاتِ نَخْلٍ، وَإِنَّ
فِيْهِ عَلاَمَاتٍ لاَ تَخْفَى، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ
النُّبُوَّةِ، يَأْكُلُ الهَدِيَّةَ وَلاَ يَأْكُلُ
الصَّدَقَةَ، فَإِنِ اسْتَطْعَتَ أَنْ تَخْلُصَ إِلَى
تِلْكَ البِلاَدِ فَافْعَلْ، فَإِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ
زَمَانُهُ.
فَلَمَّا وَارَيْنَاهُ أَقَمْتُ حَتَّى مَرَّ بِي رِجَالٌ
مِنْ تُجَّارِ العَرَبِ مِنْ كَلْبٍ، فقلت لهم: تحملوني
إلى أرض العرب، وأنا أعطيكم غنيمتي هذه وبقراتي؟ قَالُوا:
نَعَمْ. فَأَعْطَيْتُهُم إِيَّاهَا وَحَمَلُوْنِي، حَتَّى
إِذَا جاءوا بِي وَادِيَ القُرَى ظَلَمُوْنِي فَبَاعُوْنِي
عَبْداً مِنْ رَجُلٍ يَهُوْدِيٍّ بِوَادِي القُرَى،
فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّخْلَ، وَطَمِعْتُ أَنْ
يَكُوْنَ البَلَدَ الَّذِي نَعَتَ لِي صَاحِبِي، ومَا
حَقَّتْ عِنْدِي حَتَّى قَدِمَ رجل من بني قريظة فابتاعني،
فَخَرَجَ بِي حَتَّى قَدِمْنَا المَدِيْنَةَ، فَوَاللهِ
مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُ نَعْتَهَا
فَأَقَمْتُ في رقي.
وبعث الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَكَّةَ لاَ يُذْكَرُ لِي شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، مَعَ
مَا أَنَا فيه من الرق، حتى قدم قباء، وأنا أعمل لصاحبي في
نخله، فوالله إني لفيها، إذ جاء ابْنُ عَمٍّ لَهُ فَقَالَ:
يَا فُلاَنُ، قَاتَلَ الله بني قيلة، والله إنهم الآن
مُجْتَمِعُوْنَ عَلَى رَجُلٍ جَاءَ مِنْ مَكَّةَ،
يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُ نَبِيٌّ. فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلاَّ
أَنْ سَمِعْتُهَا فَأَخَذَتْنِي العُرَوَاءُ -يَقُوْلُ
الرِّعْدَةُ- حَتَّى ظَنَنْتُ لأَسْقُطَنَّ عَلَى
صَاحِبِي، وَنَزَلْتُ أَقُوْلُ: مَا هَذَا الخَبَرُ؟
فَرَفَعَ مَوْلاَيَ يَدَهُ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً
شَدِيْدَةً، وقال: مالك وَلِهَذَا، أَقْبِلْ عَلَى
عَمَلِكَ. فَقُلْتُ: لاَ شَيْءَ، إِنَّمَا سَمِعْتُ
خَبَراً فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَهُ، فَلَمَّا
أَمْسَيْتُ وَكَانَ عِنْدِي شَيْءٌ مِنْ طَعَامٍ،
فَحَمَلْتُهُ وَذَهَبْتُ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِقُبَاءَ فَقُلْتُ
لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَأَنَّ مَعَكَ
أَصْحَاباً لَكَ غُرَبَاءَ، وقد كان عندي شيء للصدقة،
فرأيتكم أحق من بهذه البلاد فهاكها فكل منه، فَأَمْسَكَ
وَقَالَ لأَصْحَابِهِ: "كُلُوا". فَقُلْتُ فِي نَفْسِي:
هذه واحدة، ثم
(1/187)
رجعت وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة، فجمعت شيئا ثم جئته به، فقلت: هذا هدية، فأكل
وأكل أصحابه، فقلت: هذه خلتان، ثم جئته وَهُوَ يَتْبَعُ
جِنَازَةً وَعَلَيَّ شَمْلَتَانِ لِي، وَهُوَ في أصحابه،
فاستدرت لأنظر إلى الخاتم، فلما رآني استدبرته عرف أني
أستثبت شيئا وصف لي، فوضع رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم
بين كتفيه، كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي،
فقال: تحول يا سلمان هكذا. فتحولت، فجلست بين يديه، وأحب
أن يسمع أصحابه حديثي عنه، فحدثته يابن عباس كما حدثتك.
فلما فرغت قال: "كاتب يا سلمان". فكاتبت صاحبي على
ثلاثمائة نخلة أحييها له وأربعين أوقية، فأعانني أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل ثلاثين ودية1 وعشرين
ودية وعشر, فَقَالَ لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فقر لها 2، فإذا فرغت فآذني حتى أكون
أنا الذي أضعها بيدي". ففقرتها وأعانني أصحابي، يقول: حفرت
لها حيث توضع حتى فرغنا منها، وخرج معي، فكنا نحمل إليه
الودي فيضعه بيده ويسوس عليها، فوالذي بعثه ما مات منها
ودية واحدة وبقيت علي الدراهم، فأتاه رجل من بعض المعادن
بمثل البيضة من الذهب فقال: "أين الفارسي؟ " فدعيت له
فقال: "خذ هذه فأد بها ما عليك". قلت: يا رسول الله! وأين
تقع هذه مما عليّ؟ قال: "فإن الله سيؤدي بها عنك". فوالذي
نفس سلمان بيده، لوزنت لهم منها أربعين أوقية فأديتها
إليهم وعتق سلمان. وحبسني الرق حتى فاتتني بدر وأحد، ثم
شهدت الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد.
قوله: قطن النار: جمع قاطن، أي: مقيم عندها، أو هو مصدر،
كرجل صوم وعدل.
وقال يونس بن بكير وغيره، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر
بن قتادة، قال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عُمَرَ بنَ عَبْدِ
العَزِيْزِ، قال: وجهت هذا من حديث سلمان, قال: حدثت عن
سلمان: أن صاحب عمورية قال له لما احتضر: ائت غيضتين من
أرض الشام، فإن رجلا يخرج من إحداهما إلى الأخرى في كل سنة
ليلة، يعترضه ذوو الأسقام، فلا يدعو لأحد به مرض إلا شفي،
فسله عن هذا الدين دين إبراهيم، فخرج حتى أقمت بها سنة،
حتى خرج تلك الليلة، وإنما كان يخرج مستجيزا، فخرج وغلبني
عليه الناس، حتى دخل في الغيضة، حتى ما بقي إلا منكبه،
فأخذت به فقلت: رحمك الله! الحنيفية دين إبراهيم؟ فقال:
تسأل عن شيء ما سأل عنه الناس اليوم، قد أَظَلَّكَ نَبِيٌّ
يَخْرُجُ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا البَيْتِ بهذا الحرم،
__________
1 الودي: بتشديد الياء: صغار النخل، الواحدة: ودية.
2 فقر لها: احفر لها موضعا تغرس فيه.
(1/188)
ويبعث بسفك الدم. فلما ذكر ذلك سلمان
لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "لَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَنِي يَا سَلْمَانُ لَقَدْ
رَأَيْتَ حواري عيسى ابن مريم"1.
وقال مسلمة بن علقمة المازني: حدثنا داود بن أبي هند، عن
سماك بن حرب، عن سلامة العجلي، قال: جاء ابْنُ أُخْتٍ لِي
مِنَ البَادِيَةِ يُقَالُ لَهُ: قدامة، فقال: أحب أن ألقى
سلمان الفارسي فأسلم عليه، فخرجنا إليه فوجدناه
بِالمَدَائِنِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى عِشْرِيْنَ
أَلْفاً، وَوَجَدْنَاهُ على سرير يسف خوصا فسلمنا عليه،
فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ هَذَا ابْنُ أخت لي قدم
علي من البادية، فَأَحَبَّ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْكَ.
قَالَ: وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ
وَبَرَكَاتُهُ. قُلْتُ: يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحِبُّكَ. قال:
أحبه الله. فتحدثنا وقلنا: يا أبا عبد الله، ألا تحدثنا عن
أصلك؟ قال: أما أصلي فأنا من أهل رامهرمز، كنا قوما مجوسا،
فأتى رجل نصراني من أهل الجَزِيْرَةِ كَانَتْ أُمُّهُ
مِنَّا، فَنَزَلَ فِيْنَا وَاتَّخَذَ فينا ديرا وكنت من
كتاب الفَارِسِيَّةِ، فَكَانَ لاَ يَزَالُ غُلاَمٌ مَعِي
فِي الكتاب يجيء مضروبا يبكي، قد ضربه أبواه، فَقُلْتُ
لَهُ يَوْماً: مَا يُبْكِيْكَ؟ قَالَ: يَضْرِبُنِي أبواي.
قلت: ولم يضربانك؟ فقال: آتي صاحب هَذَا الدَّيْرَ،
فَإِذَا عَلِمَا ذَلِكَ ضَرَبَانِي، وَأَنْتَ لَوْ
أَتَيْتَهُ سَمِعْتَ مِنْهُ حَدِيْثاً عَجَباً. قُلْتُ
فَاذْهَبْ بِي مَعَكَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَحَدَّثَنَا عَنْ
بَدْءِ الخلق وعن الجنة والنار، فحدثنا بأحاديث عجب، فكنت
أختلف إليه معه، وفطن لَنَا غِلْمَانٌ مِنَ الكُتَّابِ،
فَجَعَلُوا يَجِيْئُوْنَ مَعَنَا، فلما رأى ذلك أهل القرية
أتوه، فقالوا: يَا هَنَاة إِنَّكَ قَدْ جَاوَرْتَنَا
فَلَمْ تَرَ من جوارنا إِلاَّ الحَسَنَ، وَإِنَّا نَرَى
غِلْمَانَنَا يَخْتَلِفُوْنَ إِلَيْكَ، ونحن نخاف أن
تفسدهم علينا، اخْرُجْ عَنَّا. قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ
لِذَلِكَ الغُلاَمِ الذي كان يأتيه: اخرج معي. قال: لا
أستطيع ذلك. قُلْتُ: أَنَا أَخْرُجُ مَعَكَ، وَكُنْتُ
يَتِيْماً لاَ أب لي، فخرجت معه، فأخذنا جبل رامهرمز،
فجعلنا نمشي ونتوكل، ونأكل من ثمر الشجر، فقدمنا نصيبين،
فقال لي صاحبي: يا سلمان، إن ههنا قوما هم عباد أهل الأرض،
فأنا أحب أن ألقاهم. قال: فجئناهم يوم الأحد، وقد اجتمعوا،
فسلم عليها صاحبي، فَحَيَّوْهُ وَبَشُّوا بِهِ، وَقَالُوا:
أَيْنَ كَانَتْ غَيْبَتُكَ؟ فتحدثنا، ثم قال: قم يا سلمان،
فقلت: لاَ، دَعْنِي مَعَ هَؤُلاَءِ. قَالَ: إِنَّكَ لاَ
تطيق ما يطيقون، هؤلاء يصومون من الأَحَدَ إِلَى الأَحَدِ،
وَلاَ يَنَامُوْنَ هَذَا اللَّيْلَ. وَإِذَا فِيْهِم
رَجُلٌ مِنْ أَبْنَاءِ المُلُوْكِ تَرَكَ المُلْكَ
وَدَخَلَ فِي العِبَادَةِ، فَكُنْتُ فِيْهِم حَتَّى
أَمْسَيْنَا، فَجَعَلُوا يَذْهَبُوْنَ وَاحِداً وَاحِداً
إِلَى غَارِهِ الذي يكون فيه، فلما أمسينا قال ذاك الرجل
الذي من أبناء الملوك: هذا الغلام ما تضيعوه ليأخذه رجل
منكم. فقالوا: خذه أنت، فقال لي: هلم فذهب بي إلى غاره،
وقال لي: هذا
__________
1 ضعيف: لإبهام من روى عن عمر بن عبد العزيز، والانقطاع بل
الإعضال بين عمر بن عبد العزيز، وسلمان فبينهما مفاوز
تنقطع لها أعناق المطي.
(1/189)
خبز وهذا أدم فكل إِذَا غَرِثْتَ، وَصُمْ
إِذَا نَشِطْتَ، وَصَلِّ مَا بدا لك، ونم إذا كسلت. ثم قام
في صلاته فلم يكلمني، فأخذني الغم تلك السبعة الأيام لا
يكلمني أحد، حتى كان الأحد، وانصرف إلي، فذهبنا إلى مكانهم
الذي يجتمعون فيه في الأحد، فكانوا يفطرون فيه، ويلقى
بعضهم بعضا ويسلم بعضهم على بعض، ثم لا يلتقون إلى مثله،
قال: فرجعنا إلى منزلنا فقال لي مثل ما قال أول مرة، ثم لم
يكلمني إلى الأحد الآخر، فحدثت نفسي بالفرار فقلت: اصبر
أحدين أو ثلاثة فلما كان الأحد واجتمعوا، قال لهم: إني
أريد بيت المقدس. فقالوا: ما تريد إلى ذلك؟ قال: لا عهد لي
به. قالوا: إنا نخاف أن يحدث بك حدث فيليك غيرنا. قال:
فلما سمعته يذكر ذاك خرجت، فخرجنا أنا وهو، فَكَانَ
يَصُوْمُ مِنَ الأَحَدِ إِلَى الأَحَدِ، وَيُصَلِّي الليل
كله، ويمشي بالنهار، فإذا نزلنا قام يصلي، فأتينا بيت
المقدس، وعلى الباب مقعد يسأل فَقَالَ: أَعْطِنِي. قَالَ:
مَا مَعِي شَيْءٌ. فَدَخَلْنَا بيت المقدس، فلما رأوه بشوا
إليه واستبشروا به، فقال لهم: غلامي هذا فاستوصوا به،
فانطلقوا بي فَأَطْعَمُوْنِي خُبْزاً وَلَحْماً، وَدَخَلَ
فِي الصَّلاَةِ، فَلَمْ ينصرف إلى الأحد الآخر، ثم انصرف.
فقال: يا سلمان إني أريد أن أضع رأسي، فإذا بلغ الظل مكان
كذا فأيقظني. فبلغ الظل الذي قال، فلم أوقظه مأواة له مما
دأب من اجتهاده ونصبه، فاستيقظ مذعورا، فقال: يا سلمان،
ألم أكن قلت لك: إذا بلغ الظل مكان كذا فأيقظني؟ قلت: بلى،
ولكن إنما منعني مأواة لك من دأبك. قال: ويحك إني أكره أن
يفوتني شيء من الدهر لم أعمل لله فيه خيرا، ثم قال: اعلم
أن أفضل دين اليَوْمَ النَّصْرَانِيَّةُ قُلْتُ:
وَيَكُوْنُ بَعْدَ اليَوْمِ دِيْنٌ أفضل من النصرانية
-كَلِمَةٌ أُلْقِيَتْ عَلَى لِسَانِي- قَالَ: نَعَمْ،
يُوْشَكُ أن يبعث نبي يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين
كتفيه خاتم النبوة، فإذا أدركته فاتبعه وصدقه. قلت: وإن
أمرني أن أدع النصرانية؟ قال: نعم فإنه نبي لا يأمر إلا
بحق ولا يقول إلا حقا، والله لو أدركته ثم أمرني أن أقع في
النار لوقعتها.
ثم خرجنا من بيت المقدس، فمررنا على ذلك المقعد، فقال له:
دخلت فلم تعطني، وهذا تخرج فأعطني، فالتفت فلم ير حوله
أحدا، قال: أعطني يدك. فأخذه بيده، فقال: قم بإذن الله،
فقام صحيحا سويا، فتوجه نحو أهله فأتبعته بصري تعجبا مما
رأيت، وخرج صاحبي مسرعا وتبعته، فتلقاني رفقة من كلب،
فسبوني فحملوني على بعير وشدوني وثاقا، فتداولني البياع
حتى سقطت إلى المدينة، فاشتراني رجل من الأنصار، فجعلني في
حائط له ومن ثم تعلمت عمل الخوص، أشتري بدرهم خوصا فأعمله
فأبيعه بدرهمين، فأنفق درهما، أحب أن آكل من عمل يدي. وهو
يومئذ أمير على عشرين ألفا. قال: فبلغنا ونحن بالمدينة أن
(1/190)
رَجُلاً قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعُمُ
أَنَّ اللهَ أرسله، فمكثنا ما شاء الله أن نمكث، فهاجر
إلينا، فقلت: لأجربنه، فذهبت فاشتريت لحم جزور بدرهم، ثم
طبخته، فجعلت قصعة من ثريد، فاحتملتها حتى أتيته بها على
عاتقي حتى وضعتها بين يديه. فقال: "أصدقة أم هدية؟ " قلت:
صدقة فقال لأصحابه: "كلوا بسم الله". وأمسك ولم يأكل،
فمكثت أياما، ثم اشتريت لحما فأصنعه أيضا وأتيته به، فقال:
"ما هذه؟ " قلت: هدية. فقال لأصحابه: "كلوا بسم الله" وأكل
معهم. قال: فنظرت فرأيت بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة
الحمامة، فأسلمت، ثم قلت له: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَيُّ
قَوْمٍ النَّصَارَى؟ قَالَ: "لا خير فيهم". ثم سألته بعد
أيام قَالَ: "لاَ خَيْرَ فِيْهِم وَلاَ فِيْمَنْ
يُحِبُّهُم". قلت في نفسي: فأنا وَاللهِ أُحِبُّهُم،
قَالَ: وَذَاكَ حِيْنَ بَعَثَ السَّرَايَا وَجَرَّدَ
السَّيْفَ، فَسَرِيَّةٌ تَدْخُلُ وَسرِيَّةٌ تَخْرُجُ،
وَالسَّيْفُ يقطر. قلت يحدث بي الآن أني أحبهم، فيبعث
فَيَضْرِبَ عُنُقِي، فَقَعَدْتُ فِي البَيْتِ، فَجَاءنِي
الرَّسُوْلُ ذات يوم فقال: يا سلمان أجب.
قلت: هذا والله الذي كنت أحذر. فانتهيت إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتبسم وقال:
"أبشر يا سلمان فَقَدْ فَرَّجَ اللهُ عَنْكَ". ثُمَّ تَلاَ
عَلَيَّ هؤلاء الآيات: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} ، إلى قوله:
{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القَصَصُ:
52-54] ، قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَقَدْ
سَمِعْتُهُ يقول: لَوْ أَدْرَكْتُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ
أَقَعَ فِي النَّارِ لوقعتها.
هذا حديث منكر غريب، والذي قبله أصح، وقد تفرد مسلمة بهذا،
وهو ممن احتج به مسلم، ووثقه ابن معين، وأما أحمد بن حنبل
فضعفه، رواه قيس بن حفص الدارمي شيخ البخاري عنه.
وقال عبد الله بن عبد القدوس: حدثنا عبيد المكتب، قال:
أخبرنا أبو الطفيل، قال: حدثني سلمان، قال: كنت مِنْ
أَهْلِ جَيٍّ، وَكَانَ أَهْلُ قَرْيَتِي يَعْبُدُوْنَ
الخيل البلق، فكنت أَعْرِفُ أَنَّهُم لَيْسُوا عَلَى
شَيْءٍ، فَقِيْلَ لِي: إن الدين الذي تطلب بالمغرب، فخرجت
حتى أتيت الموصل، فسألت عن أفضل رجل بها، فدللت على رجل في
صومعة، ثم ذكر نحوه. كما قال الطبراني، قال: وقال في آخره:
فقلت لصاحبي: بعني نفسي. قال: على أن تنبت لي مائة نخلة،
فإذا نبتن جِئْنِي بِوَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ.
فَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فأخبرته، فقال: اشتر نفسك بالذي سألك، وائتني
بدلو من ماء النهر التي كنت تسقي منها ذلك النخل. قال:
فدعا لي، ثم سقيتها، فوالله لقد غرست مائة فما غادرت منها
نخلة إلا نبتت، فَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته أن النخل قد نبتن،
فَأَعْطَانِي قِطْعَةً مِنْ ذَهَبٍ، فَانْطَلَقْتُ بِهَا
فَوَضَعْتُهَا في كفة
(1/191)
الميزان، ووضع في الجانب الآخر نواة، قال:
فوالله ما استعلت القطعة الذهب من الأرض، قال: وجئت إِلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فأخبرته، فأعتقني1.
علي بن عاصم، قال: أخبرنا حَاتِمُ بنُ أَبِي صَغِيْرَةَ،
عَنْ سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ صُوْحَانَ،
أَنَّ رَجُلَيْنِ من أهل الكوفة كانا صديقين ولهما إخاء،
وقد أحبا أن يسمعا حديثك كيف كان أول إسلامك؟ قال: فقال
سلمان: كنت يتيما من رامهرمز، وكان ابن دهقان2 رامهرمز
يَخْتَلِفُ إِلَى مُعَلِّمٍ يُعَلِّمُهُ، فَلَزِمْتُهُ
لأَكُوْنَ فِي كَنَفِهِ، وَكَانَ لِي أَخٌ أَكْبَرُ
مِنِّي، وَكَانَ مستغنيا في نفسه، وكنت غلاما فقيرا، فكان
إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظه فإذا تفرقوا خرج فتقنع
بثوبه، ثم يصعد الجبل متنكرا، فقلت: لم لا تذهب بي معك؟
فقال: أَنْتَ غُلاَمٌ وَأَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ مِنْكَ
شَيْءٌ. قُلْتُ: لاَ تَخَفْ. قَالَ: فَإِنَّ فِي هَذَا
الجبل قوما في برطيل، لهم عبادة يزعمون أنا عبدة النيران،
وأنا على غير دين فأستأذن لك. قال: فاستأذنهم ثم واعدني
وقال: اخرج في وقت كذا، ولا يعلم بك أحد، فإن أبي إن علم
بهم قتلهم. قال: فصعدنا إليهم. قال علي -وأراه قَالَ-
وَهُمْ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ. قَالَ: وَكَأَنَّ الروح قد
خرجت مِنْهُمْ مِنَ العِبَادَةِ يَصُوْمُوْنَ النَّهَارَ،
وَيَقُوْمُوْنَ اللَّيْلَ، يأكلون الشجر وما وجدوا، فقعدنا
إليهم فذكرنا الحديث بطوله، وفيه: أن الملك شعر بهم،
فخرجوا، وصحبهم سلمان إلى الموصل، واجتمع بعابد من بقايا
أهل الكتاب، فذكر من عبادته وجوعه شيئا مفرطا، وأنه صحبه
إلى بيت المقدس، فرأى مقعدا فأقامه، فحملت على المقعد
أثاثه ليسرع إلى أهله، فانملس مني صاحبي، فتبعت أثره، فلم
أظفر به، فأخذني ناس من كلب وباعوني، فاشترتني امْرَأَةٌ
مِنَ الأَنْصَارِ، فَجَعَلَتْنِي فِي حَائِطٍ لَهَا وقدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتراني أبو بكر فأعتقني.
وهذا الحديث يشبه حديث مسلمة المازني، لأن الحديثين يرجعان
إلى سماك، ولكن قال
__________
1 منكر: أخرجه الحاكم "3/ 603" من طريق سعيد بن سليمان
الواسطي، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، به.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد!! ورده الحافظ الذهبي
في "التلخيص" بقوله: "قلت: ابن عبد القدوس ساقط".
قلت: الحديث منكر كما قال المصنف في ترجمة سلمان في
"السير"، وفيه عبد الله بن عبد القدوس، كوفي رافضي، كان
خشبيا. قال يحيى: ليس بشيء، رافضي خبيث. وقال النسائي
وغيره: ليس بثقة. وأما عبيد المكتب، فهو عبيد بن مهران،
الكوفي, المكتب، وهو ثقة.
2 الدهقان: فارس معرب، وهو بكسر الدال وضمها: رئيس القرية
ومقدم التناء وأصحاب الزراعة. ونونه أصلية، لقولهم تدهقن
الرجل، وله دهقنة بموضع كذا، وقيل النون زائدة، وهو من
الدهق: الامتلاء.
(1/192)
هنا عن زيد بن صوحان، فهو منقطع، فإنه لم
يدرك زيد بن صوحان، وعلي بن عاصم ضعيف كثير الوهم، والله
أعلم.
عمرو العنقزي: أخبرنا إِسْرَائِيْلُ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي قُرَّةَ الكِنْدِيِّ، عَنْ
سَلْمَانَ، قَالَ: كَانَ أَبِي مِنَ الأساورة فأسلمني
الكتاب، فكنت أختلف ومعي غلامان، فإذا رجعا دخلا على راهب
أو قس، فدخلت مَعَهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا، أَلَمْ
أَنْهَكُمَا أَنْ تُدْخِلاَ علي أَحَداً. فَكُنْتُ
أَخْتَلِفُ حَتَّى كُنْتُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُمَا،
فَقَالَ لِي: يَا سَلْمَانُ، إِنِّي أُحِبُّ أن أخرج من
هذه الأرض. قلت: وأنا مَعَكَ فَأَتَى قَرْيَةً
فَنَزَلَهَا, وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا حُضِرَ قَالَ: احْفِرْ عِنْدَ رَأْسِي، فحفرت
فَاسْتَخْرَجْتُ جَرَّةً مِنْ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: ضَعْهَا
عَلَى صدري، فَجَعَلَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ
وَيَقُوْلُ: وَيْلٌ لِلْقَنَّائِيْنَ! قَالَ: وَمَاتَ
فَاجْتَمَعَ القِسِّيْسُوْنَ وَالرُّهْبَانُ، وَهَمَمْتُ
أَنْ أَحْتَمِلَ المَالَ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ عَصَمَنِي،
فقلت للرهبان، فوثب شباب مِنْ أَهْلِ القَرْيَةِ،
فَقَالُوا: هَذَا مَالُ أَبِيْنَا كانت سريته تختلف إليه،
فقلت لأولئك: دُلُّوْنِي عَلَى عَالِمٍ أَكُوْنُ مَعَهُ.
قَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ مِنْ رَاهِبٍ
بِحِمْصَ. فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ إِلاَّ
طَلَبُ العِلْمِ. قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي لاَ
أَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ مِنْ رَجُلٍ يَأْتِي بَيْتَ
المَقْدِسِ كُلَّ سنة في هذا الشهر. فانطلقت فوجدت حماره
واقفا، فخرج فقصصت عليه، فقال: اجلس ههنا حتى أرجع إليك.
فذهب فلم يرجع إلى العام المقبل، فقال: وإنك لههنا بَعْدُ؟
قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَداً فِي
الأَرْضِ أَعْلَمَ مِنْ رَجُلٍ يَخْرُجُ بِأَرْضِ
تَيْمَاءَ وَهُوَ نَبِيٌّ وَهَذَا زَمَانُهُ، وَإِنِ
انْطَلَقْتَ الآنَ وَافَقْتَهُ، وَفِيْهِ ثَلاَثٌ: خَاتَمُ
النُّبُوَّةِ، ولا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية. وذكر
الحديث.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ: حَدَّثَنَا يَزِيْدُ بنُ أَبِي
حَبِيْبٍ، قال: حدثني السلم بن الصلت، عن أبي الطفيل، عن
سلمان، قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ جَيٍّ
مَدِيْنَةِ أَصْبَهَانَ، فَأَتَيْتُ رَجُلاً يَتَحَرَّجُ
مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، فَسَأَلْتُهُ: أَيُّ الدِّيْنِ
أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أحدا غير راهب بالموصل،
فذهبت إليه. وذكر الحديث، وفيه: فأتيت حجازيا، فقلت:
تحملني إلى المدينة؟ قال: ما تعطيني؟ قلت: أنا لَكَ
عَبْدٌ. فَلَمَّا قَدِمْتُ جَعَلَنِي فِي نَخْلِهِ،
فَكُنْتُ أَسْتَقِي كَمَا يَسْتَقِي البَعِيْرُ حَتَّى
دَبِرَ ظهري وصدري من ذلك، ولا أجد أحدا يَفْقَهُ
كَلاَمِي، حَتَّى جَاءتْ عَجُوْزٌ فَارِسِيَّةٌ تَسْتَقِي،
فقلت لها: أين هذا الرجل الذي خرج؟ فدلتني عليه، فجمعت
تمرا وجئت فقربته إليه. وذكر الحديث.
(1/193)
ذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم:
قال الزهري، عن عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَوَّلُ
مَا بُدِئَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الوَحي الرُّؤْيَا الصالحة ثم حبب إليه
الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه، أي: يتعبد الليالي
ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها،
حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ،
قال: "فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد،
ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني
الثانية فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ.
فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني
الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ} ". حتى بلغ إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:
1-5] ، قَالَتْ: فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ1
حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيْجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُوْنِي"
2. فَزَمَّلُوْهُ حَتَّى ذَهَبَ عنه الروع فقال: "يا خديجة
ما لي! ". وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ وَقَالَ: "قَدْ خَشِيْتُ
[عَلَى نَفْسِي] ". فَقَالَتْ لَهُ: كَلاَّ أَبْشِرْ
فَوَاللهِ لاَ يُخْزِيْكَ الله إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ
وَتَصْدُقُ الحَدِيْثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ [وتكسب
المعدوم، وتقري الضيف] ، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت
به خديجة إِلَى ابْنِ عَمِّهَا وَرقَةَ بنِ نَوْفَلِ بنِ
أسد بن عبد العزى، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي
الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الخط العربي، فكتب
بِالعَرَبِيَّةِ مِنَ الإِنْجِيْلِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ
يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخاً قَدْ عَمِيَ. فَقَالَتْ:
اسْمَعْ من ابن أخيك. فقال: يابن أخي ما ترى؟ فأخبره، فقال
ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا
حين يخرجك قومك، قال: "أومخرجي هم"؟. قال: نعم، إنه لم يأت
أحد بما جئت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك
نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي3.
فروى الترمذي، عن أبي موسى الأنصاري، عن يُوْنُسُ بنُ
بُكَيْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَبْدِ الرحمن، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
ورقة، فقالت له خديجة: إنه -يا رسول الله- كان صدقك، وإنه
مات قبل أن تظهر. فقال: "رأيته في المنام عليه ثياب بيض،
ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك".
__________
1 بوادره: جمع بادرة، وهي لحمة بين المنكب والعتق، وتبدر
عند الغضب.
2 زملوني: أي غطوني.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3"، ومسلم "160" من طريق ابن شهاب
به.
ووقع عند مسلم: "وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب الإنجيل
بالعربية ما شاء الله أن يكتب".
ووقع عند البخاري: "وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من
الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب".
تنبيه: ما وضعته بين معكوفين سقط استدركته من صحيح مسلم
فاللفظ له.
(1/194)
وجاء من مراسيل عُرْوَةَ أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "رأيت لورقة
جنة أو جنتين".
وقال الزهري، عن عروة، عن عائشة: "وفتر الوحي فترة، حتى
حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا، وغدا مرارا
يتردى من شواهق الجبال، وكلما أوفى بذروة ليلقي نفسه، تبدى
له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك
جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا
لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال مثل
ذلك. رواه أحمد في "مسنده" والبخاري1.
وقال هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قَالَ: بَعَثَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأربعين
سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة،
فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين. رواه البخاري2.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، قال: أنزل
على رسول الله صلى الله وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة،
فمكث بمكة عشرا وبالمدينة عشرا.
وقال محمد بن أبي عدي، عن دَاوُدُ بنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، قَالَ: نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين
سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة
والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته
جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، ومات وهو ابن
ثلاث وستين.
أخبرنا أبو المعالي الأبرقوهي، قال: أخبرنا عبد القوي بن
الجباب، قال: أخبرنا عبد الله بن رفاعة، قال: أخبرنا علي
بن الحسن الخلعي، قال: أخبرنا أبو محمد بن النحاس، قال:
أخبرنا عبد الله بن الورد، قال: أخبرنا عبد الرحيم بن عبد
الله البرقي، قال: حدثنا عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا
زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق، قال: كانت
الأحبار والرهبان وكهان العرب قد تحدثوا بأمر محمد صلى
الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب من زمانه، أما أهل
الكتاب فعمَّا وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان
عهد إليهم أنبياؤهم من شأنه
__________
1 مرسل: أخرجه أحمد "6/ 233"، والبخاري "6982"، فهو من
بلاغات الزهري كما وقع في رواية من أخرجاه: "وفتر الوحي
فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا
غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال". وقال
الحافظ في "الفتح" "12/ 359": "ومعنى الكلام أن في جملة ما
وصل إلينا من خَبَرَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه القصة هو من بلاغات الزهري وليس
موصولا".
قلت: وهو مدرج في الحديث.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3851" و"3902" من طريق هشام، به.
(1/195)
وأما الكهان فأتتهم الشياطين بما استرقت من
السمع، وأنها قد حجبت عن استراق السمع ورميت بالشهب. قال
الله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ
لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا
رَصَدًا} [الجن: 9] ، فلما سمعت الجن القرآن من النبي صلى
الله عليه وسلم عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك، لئلا
يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلتبس الأمر فآمنوا وصدقوا
وولوا إلى قومهم منذرين.
حدثني يعقوب بن عتبة أنه بلغه أن أول العرب فزع للرمي
بالنجوم ثقيف، فجاءوا إلى عمرو بن أمية وكان أدهى العرب،
فقالوا: ألا ترى ما حدث؟ قال: بلى، فانظروا فإن كان معالم
النجوم التي يهتدى بها وتعرف بها الأنواء هي التي يرمى
بها، فهي والله طي الدنيا وهلاك أهلها، وإن كانت نجوما
غيرها، وهي ثابتة على حالها، فهذا أمر أراد الله به هذا
الخلق فما هو.
قلت: روى حديث يعقوب بنحوه حصين، عن الشعبي، لكن قال:
فأتوا عبد ياليل بن عمرو الثقفي، وكان قد عمي.
وقد جاء غير حديث بأسانيد واهية أن غير واحد من الكهان
أخبره رئية من الجن بأسجاع ورجز، فيها ذكر مبعث النبي صلى
الله عليه وسلم وسمع من هواتف الجان من ذلك أشياء.
وبالإسناد إلى ابن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة
عن رجال من قومه، قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة
الله وهداه لنا، أنا كنا نسمع من يهود، وكنا أصحاب أوثان،
وهم أهل كتاب، وكان لا يزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا
منهم قالوا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه
قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجبناه
حين دعانا، وعرفنا ما كان يتوعدونا به، فبادرناهم إليه،
فآمنا به وكفروا به، ففي ذلك نزل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ
كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا} [البقرة: 89] ، الآيات.
حدثني صَالِحُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بنِ عَوْفٍ، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلامة بن وقش،
قال: كان لنا جار يهودي، فخرج يوما حتى وقف على بني عبد
الأشهل، وأنا يومئذ أحدثهم سنا، فذكر القيامة والحساب
والميزان والجنة والنار، قال ذلك لقوم أصحاب أوثان لا يرون
بعثا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، أوترى هذا كائنا
أن الناس يبعثون! قال: نعم. قالوا: فما آية ذلك؟ قال: نبي
مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار إلى مكة واليمن. قالوا:
ومتى نراه؟ قال: فنظر إليَّ وأنا حدث فقال: إن يستنفد هذا
الغلام عمره
(1/196)
يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل
والنهار حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو حي بين
أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا له: ويحك يا
فلان، ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت! قال: بلى، ولكن ليس
به.
حدثني عاصم بن عمر، عن شيخ من بني قريظة، قال لي: هل تدري
عم كان الإسلام لثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن
عبيد، نفر من إخوة بني قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم، ثم
كانوا سادتهم في الإسلام؟ قلت: لا والله، قال: إن رجلا من
يهود الشام يقال له: ابن التيهان قدم علينا قبل الإسلام
بسنين، فحل بين أظهرنا، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي
الخمس أفضل منه، فأقام عندنا فكان إذا قحط عنا المطر
يأمرنا بالصدقة ويستسقي لنا، فوالله ما يبرح من مجلسه حتى
نسقى، قد فعل ذلك غير مرتين ولا ثلاث، ثم حضرته الوفاة،
فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من
أرض الخمر والخمير، إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم.
قال: إنما قدمت أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه، وهذه البلدة
مهاجره، كنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا
تسبقن إليه يا معشر يهود، إنه يبعث بسفك الدماء وسبي
الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. فلما بعث
محمد صلى الله عليه وسلم وحاصر خيبر قال هؤلاء الفتية،
وكانوا شبابا أحداثا: يا بني قريظة، والله إنه للنبي الذي
كان عهد إليكم فيه ابن التيهان. قالوا: ليس به فنزل هؤلاء
وأسلموا وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم.
وبه، قال ابن إسحاق: وكانت خديجة قد ذكرت لعمها ورقة بن
نوفل، وكان قد قرأ الكتب وتنصر، ما حدثها ميسرة من قول
الراهب وإظلال الملكين، فقال: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن
محمدا لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أن لهذه الأمة نبيا ينتظر
زمانه، قال: وجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول: حتى متى؟ وقال:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود قوما ... ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا
(1/197)
فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه
فلوجا
فيا ليتني إذا ما كنت ذاكم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا
فإن يبقوا وأبق تكن أمور ... يضج الكافرون لا ضجيجا
وقال سليمان بن معاذ الضبي، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ
بنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم: "إن بمكة لحجرا يسلم عليّ ليالي بعثت إني
لأعرفه الآن" 1. رواه أبو داود.
وقال يحيى بن أبي كثير: حدثنا أبو سلمة، قال: سألت جابرا:
أي القرآن أنزل أول {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:
1] ، أو {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ؟ فقال: ألا
أحدثكم بما حدثني بِهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: "إني جاورت بحراء شهرا، فلما
قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت أمامي
وخلفي، وعن يميني وشمالي، فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى
السماء، فإذا هو على عرش في الهواء -يعني الملك- فأخذني
رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، ثم صبوا عليّ الماء،
فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ}
" 2. [المدثر: 1، 2] .
وقال الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر: سَمِعْتُ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدث عن فترة
الوحي، قال: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت
رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين
السماء والأرض، فجئثت منه رعبا، فرجعت، فقلت: زملوني
فدثروني، ونزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله:
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ". [المدثر: 1-5] ، وهي الأوثان.
متفق عليه3. وهو نص في {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} نزلت
بعد فترة الوحي الأول، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فكان
الوحي الأول للنبوة والثاني للرسالة.
__________
1 حسن: أخرجه الطيالسي "1907"، وأحمد "5/ 89، 95، 105"،
وابن أبي شيبة "11/ 464". ومسلم "2277"، والترمذي "3624"،
والدارمي "1/ 21"، والطبراني في "الكبير" "1907" و"1961"
و"1965" و"2028"، وفي "الأوسط" "2033"، وفي "الصغير"
"167"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 153"، والبغوي
"3709" من طرق عن سماك بن حرب، به.
قلت: إسناده حسن، سماك بن حرب، صدوق كما قال الحافظ في
"التقريب".
2 صحيح: أخرجه البخاري "4924" حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا
عبد الصمد، حدثنا حرب، حدثنا يحيى، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4"، ومسلم "161" "255" من طريق ابن
شهاب، به.
(1/198)
فأول من آمن به خديجة رضي الله عنها:
قال عز الدين أبو الحسن ابن الأَثِيْرِ: خَدِيْجَةُ
أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ أَسْلَمَ بِإِجْمَاعِ المسلمين، لم
يتقدمها رجل ولا امرأة.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمُوْسَى بنُ
عُقْبَةَ، وَابْنُ إسحاق، والواقدي، وسعيد بن يحيى الأموي،
وغيرهم: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَرَسُوْلِهِ:
خَدِيْجَةُ، وَأَبُو بكر، وعليّ.
وقال حسان بن ثابت وجماعة: أبو بكر أول من أسلم.
وقال غير واحد: بل علي.
وعن ابن عباس: فيهما قولان، لكن أسلم علي وله عشر سنين أو
نحوها على الصحيح، وقيل: وله ثمان سنين، وقيل: تسع، وقيل:
اثنتا عشرة، وقيل: خمس عشرة، وهو قول شاذ، فإن ابنه محمدا،
وأبا جعفر الباقر، وأبا إسحاق السبيعي وغيرهم، قالوا: توفي
وله ثلاث وستون سنة. فهذا يقضي بأنه أسلم وله عشر سنين،
حتى إن سفيان بن عيينة روى عن جعفر الصادق، عن أبيه، قال:
قتل علي وله ثمان وخمسون سنة.
وقال ابن إسحاق: أول ذكر آمن بالله علي -رضي الله عنه- وهو
ابن عشر سنين، ثم أسلم زَيْدٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أسلم أبو بكر.
وقال الزهري: كانت خديجة أول من آمن بالله، وقبل الرسول
رسالة ربه وانصرف إلى بيته، وجعل لا يمر على شجرة ولا صخرة
إلا سلمت عليه، فلما دخل على خديجة قال: "أرأيتك الذي كنت
أحدثك أني رأيته في المنام، فإنه جبريل استعلن لي، أرسله
إليّ ربي". وأخبرها بالوحي. فقالت: أبشر، فوالله لا يفعل
الله بك إلا خيرا، فاقبل الذي جاءك من الله فإنه حق، ثم
انطلقت إلى عداس غلام عتبة بن ربيعة، وكان نصرانيا من أهل
نينوى فقالت: أذكرك الله إلا ما أخبرتني، هل عندك علم من
جبريل؟ فقال عداس: قدوس قدوس. قالت: أخبرني بعلمك فيه.
قال: فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى،
وعيسى -عليهما السلام- فرجعت من عنده إلى ورقة. فذكر
الحديث.
وقد رواه ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ بن الزبير بنحو منه، وزاد: ففتح جبريل عينا من
ماء فتوضأ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فوضأ وجه
ويديه إلى المرفقين، ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين، ثم نضح
فرجه، وسجد سجدتين مواجه البيت، ففعل النبي صلى الله عليه
وسلم كما رأى جبريل يفعل.
(1/199)
من معجزاته الأول:
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي عَبْدِ المَلِكِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي
سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي، عن بعض أهل العلم، أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين
أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة، كان لا يمر بحجر ولا
شجر إلا سلم عليه وسمع منه، وكان يخرج إلى حراء في كل عام
شهرا من السنة ينسك فيه.
وقال سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني لأعرف حجرا بمكة
كان يسلم عليّ قبل أن أبعث". أخرجه مسلم1.
وقال الوليد بن أبي ثورة وغيره، عن إسماعيل السدي، عن عباد
بن عبد الله، عن علي -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ مَعَ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بمكة، فخرج في
بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام
عليك يا رسول الله. أخرجه الترمذي2، وقال: غريب.
وقال يوسف بن يعقوب القاضي: حدثنا أبو الربيع، قال: أخبرنا
أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك،
قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من
مكة، قد خضبه أهل مكة بالدماء، قال: ما لك؟ قال: "خضبني
هؤلاء بالدماء وفعلوا وفعلوا". قال: تريد أن أريك آية؟
قال: "نعم". قال: ادع تلك الشجرة. فدعاها رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فجاءت تخط الأرض حتى قامت بين يديه، قال:
مرها فلترجع إلى مكانها قال: ارجعي إلى مكانك فرجعت فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبي". هذا حديث صحيح3.
وقال ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان، قال: سمعت عبد الله
بن الزبير يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا
عبيد الله عن كيف كان بدء ما ابتدئ بِهِ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من
__________
1 حسن: تقدم تخريجنا له قريبا برقم تعليق "92".
2 ضعيف: أخرجه الترمذي "3626" حدثنا عباد بن يعقوب الكوفي،
حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن السدي، عن عباد بن أبي يزيد،
عن علي بن أبي طالب، به.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
قلت: يشير الترمذي إلى ضعف الحديث بقوله: "حديث غريب" وهذا
مشهور في اصطلاحه يعرفه الأصاغر بله الأكابر من طلاب علم
الحديث، وفي الإسناد علتان:
الأولى: الوليد بن عبد الله بن أبي ثور الهمداني الكوفي،
ضعيف. والعلة الثانية: عباد بن أبي يزيد، أو ابن يزيد
الكوفي، مجهول. أما السدي، فهو إسماعيل بن عبد الرحمن
السدي صدوق يهم.
3 صحيح: أخرجه ابن ماجه "4028".
(1/200)
النبوة حين جاءه جبريل. فقال عبيد بن عمير:
كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة
شهرا، وكان ذلك مما تتحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث
التبرر.
قال ابن إسحاق: فكان يجاور ذلك في كل سنة، يطعم من جاءه من
المساكين، فإذا قضى جواره من شهره، كان أول ما يبدأ به
الكعبة، فيطوف ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي
أراد الله كرامته، وذلك الشهر رمضان، خرج صلى الله عليه
وسلم إلى حراء ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه
الله فيها برسالته، جاءه جبريل بأمر الله تعالى. قَالَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جاءني
وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال اقرأ. قلت: ما
أقرأ؟ قال: فغتني1 به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال:
اقرأ. قلت: وما أقرأ؟ فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني
فقال: اقرأ. قلت: وما أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن
يعود لي بمثل ما صنع بي فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}
إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ، فقرأتها ثم
انتهى عني، وهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتابا". في
هذا المكان زيادة، زادا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وهي:
"ولم يكن في خلق الله أحد أبغض إليّ من شاعر أو مجنون فكنت
لا أطيق أنظر إليهما، فقلت: إن الأبعد -يعني نفسه- لشاعر
أو مجنون، ثم قلت: لا تحدث عني قريش بهذا أبدا، لأعمدن إلى
حالق من الجبل فلأطرحن نفسي فلأستريحن، فخرجت حتى إذا كنت
في وسط من الجبل، سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت
رسول الله وأنا جبريل، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل
في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، فقال: يا محمد أنت
رسول الله وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم ولا
أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في
ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا حتى بعثت خديجة
رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف
في مكاني ذلك. ثم انصرف عني، فانصرفت إلى أهلي، حتى أتيت
خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها فقالت: يا أبا القاسم
أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا أعلى مكة
ورجعوا. ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يابن عمي واثبت
فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة".
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل،
وهو ابن عمها، وكان قد تنصر وقرأ الكتب، فأخبرته بما رأى
وسمع، فقال ورقة: قدوس، والذي نفسي بيده لئن كنت
__________
1 الغت والغط سواء، كأنه أراد عصرني عصرا شديدا حتى وجدت
منه المشقة كما يجد من يغمس في الماء قهرا.
(1/201)
صدقت يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر
الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت.
فرجعت خديجة إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى جواره طاف الكعبة،
فلقيه ورقة وهو يطوف فقال: أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره،
فقال: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك
الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذنه ولتخرجنه
ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا
يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه.
وقال موسى بن عقبة في "مغازيه": كان صلى الله عليه وسلم
فيما بلغنا أول ما رأى أن الله أراه رؤيا في المنام، فشق
ذلك عليه، فذكرها لخديجة، فعصمها الله وشرح صدرها
بالتصديق، فقالت: أبشر. ثم أخبرها أنه رأى بطنه شق ثم طهر
وغسل ثم أعيد كما كان، قالت: هذا والله خير فأبشر. ثم
استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة، فأجلسه في مجلس كريم معجب
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُوْلُ: أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك1 فيه الياقوت
واللؤلؤ، فبشره برسالة الله -عز وجل- حتى اطمأن.
الذي فيها من شق بطنه يحتمل أن يكون أخبرها بما تم له في
صغره ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى، ثم شق مرة ثالثة حين عرج
به إلى السماء.
وقال ابن بكير عن ابن إسحاق، فأنشد ورقة:
إن يك حقا يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر
منزل
يفوز به من فاز فيها بتوبة ... ويشقى به العاني الغوي
المظلل
فسبحان من تهوى الرياح بأمره ... ومن هو في الأيام ما شاء
يفعل
ومن عرشه فوق السماوات كلها ... وأقضاؤه في خلقه لا تبدل
وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي
حَكِيْمٍ أن خديجة قَالَتْ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي ابن عم، إن استطعت أن
تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك. قال: "نعم" قال:
فَلَمَّا جَاءهُ قَالَ: "يَا خَدِيْجَةُ هَذَا
جِبْرِيْلُ". قالت: ابن عم قم فاجلس على فخذي اليسرى، فقام
فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم". قالت: فتحول فاقعد
على فخذي اليمنى. فتحول فقعد على فخذها، قالت: هل تراه؟
قال: "نعم". قالت: فاجلس في
__________
1 الدرنوك: ستر له خمل، وجمعه درانك.
(1/202)
حجري. ففعل، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم".
فتحسرت فألقت خمارها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: "لا". قالت:
اثبت وأبشر فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان. قال: وحدثت
عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت
حسين تحدث هذا الحديث، عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول:
أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب
عند ذلك جبريل، فقالت: إن هذا لملك وما هو بشيطان.
وقال أبو صالح: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيْلٍ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، قال: أخبرني محمد بن عباد بن جعفر المخزومي
أنه سمع بعض علمائهم يقول: كان أول ما أنزل الله على نبيه:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ}
[العلق: 1-5] ، فقالوا: هذا صدرها الذي أنزل عَلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم
حراء، ثم أنزل آخرها بعد بما شاء الله.
وقال ابن إسحاق: ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالتنزيل في رمضان، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [القدر: 1] ، وقال
تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}
[الدخان: 3] .
قال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
همز جبريل بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت عين، فتوضأ
جبريل ومحمد عليهما السلام ثم صلى ركعتين ورجع، قد أقر
الله عينه، وطابت نفسه، فأخذ بيد خديجة، حتى أتى بها العين
فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم صلى ركعتين هو وخديجة، ثم كان هو
وخديجة يصليان سرا، ثم إن عليا جاء بعد ذلك بيوم فوجدهما
يصليان فقال علي: ما هذا يا محمد؟ فقال: "دين اصطفاه الله
لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده وكفر باللات
والعزى". فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست
بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب. وكره رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يفشي عليه سره قبل
أن يستعلن عليه أمره، فقال له: "يا علي! إن لم تسلم
فاكتم". فمكث علي تلك الليلة ثم أوقع الله في قلبه
الإسلام، فأصبح فجاء إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبقي يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم
إسلامه.
وأسلم زيد بن حارثة فمكثا قريبا من شهر، يختلف علي إِلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَكَانَ مما أنعم الله على علي أنه كان فِي حَجْرِ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ
الإسلام.
وقال سلمة بن الفضل، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:
أصابت قريشا أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس عمه -وكان موسرا:
"إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى،
(1/203)
فانطلق لنخفف عنه من عياله". فأخذ النبي
صلى الله عليه وسلم عليا، فضمه إليه، فلم يزل مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي وآمن
به.
وقال الدراوردي، عن عمر بن عبد الله، عن محمد بن كعب
القرظي، قال: إن أول من أسلم خديجة، وأول رجلين أسلما أبو
بكر وعلي، وإن أبا بكر أول من أظهر الإسلام، وإن عليا كان
يكتم الإسلام فرقا من أبيه، حتى لقيه أبوه فقال: أسلمت؟
قال: نعم، قال: وازر ابن عمك وانصره. وقال: أسلم علي قبل
أبي بكر.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ الحصين التميمي أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر،
إلا أبا بكر، ما عتم منه حين ذكرته وما تردد فيه".
وقال إسرائيل، عن ابن إسحاق، عن أبي ميسرة أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا
برز، سمع من يناديه، يا محمد، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا،
فأسر ذلك إلى أبي بكر، وكان نديما له في الجاهلية.
(1/204)
إسلام السابقين
الأولين:
قال ابن إسحاق: ذكر بعض أهل العلم أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا حضرت الصلاة،
خرج إلى شعاب مكة ومعه علي فيصليان فإذا أمسيا رجعا، ثم إن
أبا طالب عبر عليهما وهما يصليان، فقال للنبي صلى الله
عليه وسلم: يابن أخي ما هذا؟ قال: "أي عم هذا دين الله
ودين ملائكته ورسله ودين إبراهيم، بعثني الله به رسولا إلى
العباد وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى
الهدى وأحق من أجابني وأعانني". فقال أبو طالب: أي ابن أخي
لا أستطيع أن أفارق دين آبائي، ولكن والله لا يخلص إليك
بشيء تكرهه ما بقيت، ولم يكلم عليا بشيء يكره، فزعموا أنه
قال: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فاتبعه. ثم أسلم زيد بن
حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول ذكر
أسلم، وصلى بعد علي، رضي الله عنهما.
وكان حكيم بن حزام قدم من الشام برقيق، فدخلت عليه خديجة
بنت خويلد فقال: اختاري أي هؤلاء الغلماء شئت فهو لك،
فاختارت زيدا، فأخذته، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم
فاستوهبه، فوهبته له، فأعتقه وتبناه قبل الوحي، ثم قدم
أبوه حارثة لموجدته عليه وجزعه فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ شئت فأقم عندي، وإن
شئت فانطلق مع أبيك". قال: بل أقيم عندك، وكان يدعى زيد بن
محمد، فلما نزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] ،
قال: أنا زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محببا سهلا،
وكان أنسب قريش لقريش، وكان تاجرا ذا خلق ومعروف، فجعل لما
أسلم يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه، ممن
يغشاه، ويجلس إليه، فأسلم بدعائه: عثمان، والزبير، وعبد
الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص،
فجاء بهم إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حين أسلموا وصلوا، فكان هؤلاء النفر الثمانية
أول من سبق بالإسلام وصلوا وصدقوا.
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري،
وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله
المخزومي، وَالأَرْقَمُ بنُ أَبِي الأَرْقَمِ بنِ أَسَدِ
بنِ عَبْدِ الله المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي، وأخواه
قدامة وعبد الله، وعبيدة بنُ الحَارِثِ بنِ المُطَّلِبِ
بنِ عَبْدِ مَنَافٍ المُطَّلِبِيُّ، وَسَعِيْدُ بنُ زَيْدِ
بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ العدوي، وامرأته فاطمة أخت عمر
بن الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وخباب بن الأرت حَلِيْفُ
بَنِي زُهْرَةَ، وَعُمَيْرُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ أخو سعد،
وعبد الله بن مسعود، وَسَلِيْطُ بنُ عَمْرِو بنِ عَبْدِ
شَمْسٍ العَامِرِيُّ، وأخوه حاطب، وَعَيَّاشُ بنُ أَبِي
رَبِيْعَةَ بنِ المُغِيْرَةِ المَخْزُوْمِيُّ، وامرأته
أسماء, وخنيس بن حذافة السهمي، وعامر
(1/205)
ابن ربيعة حليف آل الخطاب، وعبد الله وأبو
أحمد ابنا جحش بن رئاب الأسدي، وجعفر بن أبي طالب،
وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَحَاطِبُ بنُ
الحَارِثِ الجمحي، وامرأته فاطمة بنت المجلل، وأخوه خطاب،
وامرأته فكيهة بنت يسار، ومعمر بن الحارث أخوهما، والسائب
بن عُثْمَانَ بنِ مَظْعُوْنٍ، وَالمُطَّلِبُ بنُ أَزْهَرَ
بنِ عبد عوف العدوي الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف،
والنحام وهو نعيم بن عبد الله بن أسد العدوي، وعامر بن
فهيرة مولى أبي بكر، وَخَالِدُ بنُ سَعِيْدِ بنِ العَاصِ
بنِ أُمَيَّةَ، وامرأته أمينة بنت خلف، وحاطب بن عمرو،
وأبو حذيفة مهشم ابن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله
حَلِيْفُ بَنِي عَدِيٍّ، وَخَالِدٌ، وَعَامِرٌ، وَعَاقِلٌ،
وَإِيَاسٌ بنو البكير حلفاء بني عدي، وعمار بن ياسر حليف
بني مخزوم، وصهيب بن سنان النمري حليف بني تميم.
وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان، عن
مخرمة بن سليمان الوالبي، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة،
قال: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في
صومعته يقول: سلوا أهل الموسم، أفيهم أحد من أهل الحرم؟
قال طلحة: قلت: نعم أنا. فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن
أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي
يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم ومهاجره إلى
نخل وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة: فوقع في
قلبي، فأسرعت إلى مكة، فقلت: هل من حدث؟ قالوا: نعم، محمد
بن عبد الله الأمين تنبأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة، فدخلت
عليه فقلت: اتبعت هذا الرجل؟ قال: نعم، فانطلق فاتبعه.
فأخبره طلحة بما قال الراهب، فخرج به حتى دخلا عَلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم
طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فلما أسلم
أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدهما في
حبل واحد، ولم تمنعهما بنو تيم، وكان نوفل يدعى "أسد
قريش"، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة: القرينين.
وقال إسماعيل بن مجالد، عَنْ بَيَانِ بنِ بِشْرٍ، عَنْ
وَبَرَةَ، عَنْ همام، قال: سمعت عمار بن ياسر يقول:
رَأَيتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَا مَعَهُ إِلاَّ خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ
وَأَبُو بكر. أخرجه البخاري1.
قلت: ولم يذكر عليا لأنه كان صغيرا ابن عشر سنين.
وقال العباس بن سالم، وَيَحْيَى بنُ أَبِي كَثِيْرٍ، عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ، عن عمرو بن عبسة، قال:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3660" حدثنا أحمد بن أبي الطيب،
حدثنا إسماعيل بن مجالد، به.
(1/206)
أَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بمكة مستخفيا، فَقُلْتُ: مَا
أَنْتَ؟ قَالَ: "نَبِيٌّ". قُلْتُ: وَمَا النبي؟ قال:
"رسول الله" قلت: الله أرسلك؟ قال: "نعم". قلت: بم أرسلك؟
قال: "بأن يعبد الله وتكسر الأوثان وتوصل الأرحام". قلت:
نعم ما أرسلك به، فمن تبعك؟ قال: "حر وعبد". يعني أبا بكر
وبلال، فكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا رابع أو ربع،
فأسلمت وقلت: أتبعك يا رسول الله، قال: "لا، ولكن الحق
بقومك، فإذا أخبرت بأني قد خرجت فاتبعني" أخرجه مسلم1.
وقال هاشم بن هاشم، عن ابن المسيب، أنه سمع سعد بن أبي
وقاص يقول: لقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام. أخرجه
البخاري2.
وقال زائدة، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ،
قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سبعة:
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو
بَكْرٍ، وعمار وأمه، وصهيب، وبلال، والمقداد. تفرد به يحيى
بن أبي بكير.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن سعيد بن زيد، قال:
والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي وأخته على الإسلام، قبل
أن يسلم عمر, ولو أن أحدا ارفض للذي صنعتم بعثمان لكان.
أخرجه البخاري3.
وقال الطيالسي في "مسنده": حدثنا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ،
عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود،
قال: كنت يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة فأتى
عليَّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأبو بكر، وقد فرا من المشركين فقالا: "يا غلام هل عندك
لبن تسقينا"؟ قلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما. فقالا: "هل
عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل". قلت: نعم، فأتيتهما
بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم
الضرع فدعا، فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة منقعرة، فحلب
فيها، ثم شربا وسقياني، ثم قال للضرع: "اقلص". فقلص فلما
كان بعد، أَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فقلت: علمني من هذا القول الطيب، يعني القرآن
فقال: "إنك غلام معلم". فأخذت من فيه سبعين سورة ما
ينازعني فيها أحد4.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "832"، والنسائي "1/ 283-284"، وابن
ماجه "1364".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3727" حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ
بنُ مُوْسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زائدة، حدثنا
هَاشِمِ بنِ هَاشِمِ بنِ عُتْبَةَ بنِ أَبِي وقاص، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3862" وتمامه: " ... ولو أن أحدا
ارفض للذي صنعتم بعثمان لكان محقوقا أن يرفض" وقوله: ارفض:
أي زال من مكانه.
4 حسن: أخرجه أحمد "1/ 379، 462"، والطبراني في "الكبير"
"8456" وعاصم هو ابن النجود، صدوق، حسن الحديث.
(1/207)
فصل: في دعوة النبي
صلى الله عليه وسله عشيرته إلى الله وما لقى من قومه
وقال جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي
هريرة، قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، دعا النبي صلى الله عليه
وسلم قريشا، فاجتمعوا فعم وخص، فقال: "يا بني كعب بن لؤي
أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم
من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني
عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا
أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من
النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من
الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها". أخرجه مسلم1
عن قتيبة وزهير، عن جرير، واتفقا عليه من حديث الزهري، عن
ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة.
وقال سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن قبيصة بن المخارق،
وزهير بن عمرو، قالا: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، انطلق رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى رضمة من جبل، فعلاها ثم نادى: "يا بني
عبد مناف، إني نذير، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو
فانطلق يربأ أهله، فخشي أن يسبقوه فهتف: يا صباحاه" 2.
أخرجه مسلم.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل، واستكتمني
اسمه، عن ابن عباس، عن علي، قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، قَالَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عرفت
أني إن بادأت قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت عليها، فجاءني
جبريل فقال: يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك".
قال علي: فدعاني فقال: "يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر
عشيرتي الأقربين، فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما
أكره، فصمت، ثم جاءني جبريل فقال: إن لم تفعل ما أمرت به
عذبك ربك، فاصنع لنا يا علي رجل شاة على صاع من طعام وأعد
لنا عس لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب". ففعلت, فاجتمعوا
له، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون، فيهم
أعمامه أبو طالب، وحمزة والعباس، وأبو لهب، فقدمت إليهم
تلك الجفنة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حذية،
فشقها بأسنانه، ثم رمى بها في نواحيها وقال: "كلوا باسم
الله". فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم،
والله إن كان الرجل منهم يأكل
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4771"، ومسلم "204".
2 صحيح: أخرجه مسلم "207".
(1/208)
مثلها، ثم قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسقهم يا علي". فجئت بذلك
القعب، فشربوا منه حتى نهلوا جميعا، وايم الله إن كان
الرجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد النبي صلى الله عليه
وسلم أن يتكلم بدره أبو لهب فقال: لهدما سحركم صاحبكم.
فتفرقوا ولم يكلمهم، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغد: "عد لنا يا علي بمثل
ما صنعت بالأمس". ففعلت وجمعتهم، فصنع رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صنع بالأمس،
فأكلوا حتى نهلوا، وشربوا من ذلك القعب حتى نهلوا، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بني
عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه
بأفضل مما جئتكم، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة".
قال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: بلغني أن ابن إسحاق إنما
سمعه من عبد الغفار بن القاسم أبي مريم، عن المنهال بن
عمرو، عن عبد الله بن الحارث.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: فكان بين ما أخفى النبي صلى الله
عليه وسلم أمره إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين.
وقال الأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيْدِ
بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لما نزلت
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ،
ورهطك منهم المخلصين خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صعد الصفا فهتف؛ يا صباحاه.
قالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه،
فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل،
أكنتم مصدقي". قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: "فإني نذير
لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبا لك، ألهذا
جمعتنا، ثم قام، فنزلت: "تبت يدا أبي لهب وقد تب". كذا قرأ
الأعمش. متفق عليه1 إلا "وقد تب" فعند بعض أصحاب الأعمش،
وهي في صحيح مسلم.
وقال ابن عيينة: حدثنا الوليد بن كثير، عن ابن تدرس، عن
أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي
لَهَبٍ} [المسد: 1] ، أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب، ولها
ولولة، وفي يدها فهر وهي تقول:
مذمما أبينا ... ودينه قلينا
وأمره عصينا
والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال أبو بكر: يا
رسول الله قد أقبلت وأخاف أن تراك. قال:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4971"، ومسلم "208" "355".
(1/209)
إنها لن تراني، وقرأ قرآنا فاعتصم به وقرأ:
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا
مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] ، فوقفت على أبي بكر، ولم تر
النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أخبرت أن صاحبك
هجاني, فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولت وهي تقول قد
علمت قريش أني ابنة سيدها.
روى نحوه علي بن مسهر، عن سعيد بن كثير، عن أبيه، عن
أسماء.
وقال أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: "انظروا قريشا كيف يصرف الله عني شتمهم
ولعنهم، يشتمون مذمما ويلعنون مذمما، وأنا محمد". أخرجه
البخاري1.
وقال ابن إسحاق: وفشا الإسلام بمكة ثم أمر الله رسوله
فقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، وقال: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا
النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89] قال: وكان أصحاب
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا
سعد بن أبي وقاص في نفر بشعب، إذ ظهر عليهم نفر من
المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليهم وقاتلوهم، فضرب
سعد رجلا من المشركين بلحي بعير فشجه، فكان أول دم في
الإسلام، فلما بادأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه
وصدع بالإسلام، لم يبعد منه ولم يردوا عليه -فيما بلغني-
حتى عاب آلهتهم، فأعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته،
فحدب عليه عمه أبو طالب، ومنعه وقام دونه، فلما رأت قريش
أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه
عليه، ورأوا أن عمه يمنعه مشوا إلى أبي طالب فكلموه،
وقالوا: إما أن تكفه عن آلهتنا وعن الكلام في ديننا، وإما
أن تخلي بيننا وبينه. فقال لهم قولا رفيقا، وردهم ردا
جميلا، فانصرفوا. ثم بعد ذلك تباعد الرجال وتضاغنوا،
وأكثرت قريش ذكر رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وحض بعضهم بعضا عليه، ومشوا إلى أبي طالب مرة
أخرى، فقالوا: إن لك نسبا وشرفا فينا، وإنا قد استنهيناك
من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله ما نصبر على شتم
آلهتنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه أو ننازله وإياك في ذلك،
حتى يهلك أحد الفريقين. ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب
فراق قومه وعداوته لهم، ولم يطلب نفسا أن يسلم رسول الله
صلى الله عليه وسلم لهم ولا أن يخذله.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ طَلْحَةَ بنِ يَحْيَى بن
عبيد الله، عن موسى بن طلحة قال: أخبرني عقيل بن أبي طالب،
قال: جاءت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك هذا
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3533".
(1/210)
قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا،
فقال: يا عقيل انطلق فائتني بمحمد. فانطلقت إليه فاستخرجته
من حفش أو كبس -يقول: بيت صغير- فلما أتاهم قال أبو طالب:
إن بني عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم
فانته عن أذاهم. فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره
إلى السماء، فقال: "أترون هذه الشمس"؟ قالوا: نعم، قال:
"فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها
شعلة". فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي قط فارجعوا.
رواه البخاري في "التاريخ" عن أبي كريب، عن يونس1.
وقال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة أن قريشا
حين قالت لأبي طالب ما قالوا، بَعَثَ إِلَيَّ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يابن
أخي إن قومك قد جاءوا إليَّ فقالوا: كذا وكذا، فأبق عليَّ
وعلى نفسك, ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قد بدا
لعمه بداء وأنه خاذله ومسلمه، فقال: "يا عم لو وضعوا الشمس
في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره
الله أو أهلك فيه ما تركته". ثم استعبر رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قام، فلما ولى
ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يابن أخي. فأقبل إليه فقال:
اذهب فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك أبدا2.
قال ابن إسحاق فيما رواه عنه يونس: ثم قال أبو طالب في ذلك
شعرا.
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فامض لأمرك ما عليك غضاضة ... أبشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... فلقد صدقت وكنت قدما أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وقال الحارث بن عبيد: حدثنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق،
عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يحرس حتى نزلت: {وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ، فأخرج رأسه من
القبة فقال لهم: "أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله".
وقال محمد بن عمرو بن علقمة عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة
بن عباد الدؤلي، قال:
__________
1 حسن: أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "4/ 1/ 51"،
وابن عساكر "11/ 363/ 1" و"19 /11 /201" من طريق يونس بن
بكير، به.
2 ضعيف: أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة هشام "1/ 186" ط. دار
الحديث, وإسناده ضعيف لإعضاله، يعقوب بن عتبة من ثقات
أتباع التابعين، مات سنة "128هـ".
(1/211)
رأيت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِسُوْقِ ذِي المجاز يتبع الناس في منازلهم
يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه، وهو يقول:
لا يغرنكم عن دينكم ودين آبائكم. قلت: من هذا؟ قالوا: أبو
لهب.
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ
أَبِيْهِ, عن ربيعة بن عباد من بني الديل، وكان جاهليا
فأسلم، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بذي المجاز1، وهو يمشي بين ظهراني الناس يقول:
"يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا
إله إلا الله تفلحوا" 2. ووراءه أبو لهب. فذكر الحديث. قال
ربيعة: وأنا يومئذ أزفر القربة لأهلي.
وقال شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن رجل من كنانة، قَالَ:
رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بسوق ذي المجاز، وهو يقول: "قولوا: لا إله إلا
الله تفلحوا". وإذا خلفه رجل يَسفي عليه التراب، فإذا هو
أبو جهل ويقول: لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد أن
تتركوا عبادة اللات والعزى. إسناده قوي.
وقال المعتمر بن سليمان، عن أبيه: حدثني نُعَيْمِ بنِ
أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قيل:
نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على
رقبته ولأعفرن وجهه. فَأُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي ليطأ على رقبته، فما
فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له:
ما لك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا
عضوا". أخرجه مسلم3.
وقال عكرمة، عن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا
يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه. فبلغ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لَوْ فعل لأخذته
الملائكة عيانا". أخرجه البخاري4.
وقال محمد بن إسحاق: ثم إن قريشا أتوا أبا طالب فقالوا: يا
أبا طالب هذا عمارة بن
__________
1 ذو المجاز: موضع سوق لمكة في الجاهلية بعرفة على فرسخ
منها، كانت تقام إذا أهل هلال ذي الحجة وتستمر إلى يوم
التروية، وهو الثامن من ذي الحجة كما في "معجم البلدان"
"5/ 55".
2 حسن: أخرجه أحمد "3/ 492". فيه عبد الرحمن بن أبي
الزناد، عبد الله بن ذكوان، صدوق كما قال الحافظ في
"التقريب" وبقية رجاله ثقات.
3 صحيح: أخرجه مسلم "2797".
4 صحيح: أخرجه البخاري "4958" حدثنا يحيى, حدثنا عبد
الرزاق، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، به.
(1/212)
الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك
عقله ونصرته واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا
الذي قد خالف دينك ودين آبائك نقتله، فإنما رجل كرجل.
فقال: بئس والله ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم،
وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدا. فقال
المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد
أنصفك قومك وشهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن
تقبل منهم شيئا. فقال: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت
خذلاني ومظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك. فحقب الأمر،
وحميت الحرب، وتنابذ القوم، فقال أبو طالب:
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم ... ألا ليت حظي من حياطتكم
بكر1
من الخور حبحاب2 كثير رغاؤه ... يرش على الساقين من بوله
قطر
أرى أخوينا من أبينا وأمنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا
الأمر
أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثلما ينبذ الجمر
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي شيخ من أهل مصر، منذ بضع وأربعين سنة، عن
عكرمة، عن ابن عباس في قصة طويلة جرت بين المشركين وبين
النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قام عنهم قال أبو جهل: يا
معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم
آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا، وإني أعاهد الله
لأجلسن له غدا بحجر، فإذا سجد فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك
بنو عبد مناف ما بدا لهم. فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا
وجلس، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقام يصلي بين
الركنين الأسود واليماني، وكان يصلي إلى الشام، وجلست قريش
في أنديتها ينظرون، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع
مرعوبا منتقعا لونه، قد يبست يداه على حجره، حتى قذف به من
يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟
فقال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم فلما دنوت منه عرض لي
دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته3
ولا أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني.
__________
1 البكر: الفتي من الناس. والبكرة بمنزلة الفتاة، والقلوص
بمنزلة الجارية.
2 الحبحاب: الصغير الجسم، المتداخل العظام.
3 القصرة: بالتحريك: أصل العنق. قال اللحياني: إنما يقال
لأصل العنق: قصرة إذا غلظت، والجمع قصر.
(1/213)
قال ابن إسحاق: فذكر لي أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ذاك جبريل
-عليه السلام- لو دنا مني لأخذه.
وقال المحاربي وغيره، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن
ابن عباس، قال: مر أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو
يصلي، فقال: ألم أنهك عن أن تصلي يا محمد؟ لقد علمت ما
بهذا أحد أكثر ناديا مني. فانتهره النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال جبريل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ، سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17، 18] ، والله لو دعا ناديه
لأخذته زبانية العذاب.
وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، قال: أخبرنا محمد بن علي
الصنعاني بمكة، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
أَيُّوْبَ، عن عكرمة، عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة
جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فقرأ عليه القرآن، فكأن رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه
فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟
قال: ليعطوك فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله. قال: قد علمت
أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر
لها، أو أنك كاره له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل
أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيدته مني، ولا
بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله
إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر
أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما
تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى
أفكر فيه. فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره،
فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] ،
يعني الآيات. هكذا رواه الحاكم موصولا. ورواه معمر، عن
عباد بن منصور، عن عكرمة مرسلا. ورواه مختصرا حماد بن زيد،
عن أيوب، عن عكرمة مرسلا.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن
عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش، وكان ذا سن
فيهم، وقد حضر الموسم، فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم
فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا
تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا. قالوا: فقل وأقم لنا رأيا. قال:
بل أنتم فقولوا وأنا أسمع. قالوا: نقول كاهن. فقال: ما هو
بكاهن، لقد رأيت الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن وسحره.
فقالوا: نقول مجنون. فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا
الجنون، وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قال:
فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه
وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار
وسحرهم، فما هو بنفثه ولا
(1/214)
عقده. فقالوا: ما تقول يا أبا عبد شمس؟
قال: والله إن لقوله حلاوة وإن أصله لغدق وإن فرعه لجني،
فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب
القول أن نقول ساحر يفرق بين المرء وبين ابنه وبين المرء
وبين أخيه وبين عشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون
للناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه. فأنزل
في الوليد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى قوله:
{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 11-26] ، وأنزل الله في
الذين كانوا معه: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}
[الحجر: 91] ، أي: أصنافا، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] .
وقال ابن بكير، عن ابن إسحاق، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن
عباس، قال: قام النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، فقال: يا
معشر قريش، إنه والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله،
لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم
حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب،
وجاءكم بما جاءكم، قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، ولا
بكاهن، ولا بشاعر، قد رأينا هؤلاء وسمعنا كلامهم، فانظروا
في شأنكم. وكان النضر من شياطين قريش، ممن يُؤْذِي
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وينصب
له العداوة.
وقال محمد بن فضيل: حدثنا الأجلح، عن الذيال بن حرملة،
عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ أبو جهل
والملأ من قريش: لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم
رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر، فكلمه ثم أتانا ببيان
من أمره. فقال عتبة: لقد سمعت بقول السحرة والكهانة
والشعر، وعلمت من ذلك علماء، وما يخفى عليّ إن كان كذلك.
فأتاه، فلما أتاه قال له عتبة: يا محمد أنت خير أم هاشم؟
أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فلم يجبه،
قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك
الرياسة عقدنا لك ألويتنا، فكنت رأسنا ما بقيت, وإن كان بك
الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت، وإن
كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك
من بعدك، وَرَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَاكِتٌ، فلما فرغ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم،
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". [فصلت: 2] ،
فقرأ حتى بلغ {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ
عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، فأمسك عتبة على فيه، وناشده
الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم، فقال
أبو جهل: يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى
محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا
بنا إليه. فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا
إلا أنك صبوت، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك ما يغنيك
(1/215)
عن طعام محمد. فغضب وأقسم بالله لا يكلم
محمدا أبدا، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني
أتيته، فقص عليهم القصة، فأجابني بشيء والله ما هو بسحر
ولا شعر ولا كهانة، قرأ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ} ". [فصلت: 1-3] ، حتى بلغ {أَنْذَرْتُكُمْ
صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ،
فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا
إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب. رواه يحيى
بن معين عنه.
وقال داود بن عمرو الضبي: حدثنا المثنى بن زرعة، عن محمد
بن إسحاق، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا
قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة {حم،
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أتى
أصحابه فقال لهم: يا قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني
فيما بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت
أذناي قط كلاما مثله، وما دريت ما أرد عليه.
قال ابن إسحاق: حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب
القرظي، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، لما أسلم حمزة قالوا
له: يا أبا الوليد كلم محمدا. فأتاه فقال: يابن أخي إنك
منا حيث علمت من البسطة والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك
بأمر عظيم، فرقت به بينهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم،
فاسمع مني. قال: قل يا أبا الوليد. قال: إن كنت تريد مالا
جمعنا لك، حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك
وملكناك، وإن كان الذي يأتيك رئيا طلبنا لك الطب. حتى إذا
فرغ قال: فاسمع مني. قال: أفعل. قال:
{حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 1-3] ، ومضى، فأنصت عتبة،
وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، فلما انتهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة سجد، ثم قال: "قد
سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك". فقام إلى أصحابه، فقال
بعضهم: نحلف والله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي
ذهب به. فلما جلس قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت
قولا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا
بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي،
خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله
ليكونن لقوله نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن
يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس
به. قالوا: سحرك والله بلسانه. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا
ما بدا لكم.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري. قال: حدثت أن أبا
جهل، وأبا سفيان, والأخنس بن شريق خرجوا ليلة يلتمسون
يتسمعون مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وهو يصلي في جوف بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسا،
وكلا لا يعلم بمكان صاحبه، فلما أصبحوا تفرقوا
(1/216)
فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقالوا: لا نعود
فلو رآنا بعض السفهاء لوقع في نفسه شيء، ثم عادوا لمثل
ليلتهم، فلما تفرقوا تلاقوا فتلاوموا كذلك، فلما كان في
الليلة الثالثة وأصبحوا جمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا
يعودوا، ثم إن الأخنس بن شريق أتى أبا سفيان في بيته،
فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا
ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها.
فقال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم أتى أبا جهل فقال: ما
رأيك؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف،
أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا
تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه
الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبدا
ولا نصدقه. فقام الأخنس عنه.
وقال يونس بن بكير، عَنْ هِشَامِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ
بنِ أَسْلَمَ، عن المغيرة بن شعبة، قال: إن أول يوم عرفت
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّيْ
أمشي أنا وأبو جهل، إذ لَقِيْنَا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لأبي جهل: "يا أبا
الحكم هلم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله". فقال أبو
جهل: يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا، هل تريد إلا أن
نشهد أن قد بلغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حقا ما
اتبعتك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عليَّ
فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا:
فينا الحجابة، فقلنا: نعم، فقالوا: ففينا الندوة، قلنا:
نعم، ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم، وقالوا: فينا
السقاية، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت
الركب قالوا: منا نبي. والله لا أفعل.
وقال ابن إسحاق: ثم إن قريشا وثبت كل قبيلة على من أسلم
منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، فمنع الله رسوله صلى
الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، فقام أبو طالب فدعا بني
هاشم وبني عبد المطلب إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى
الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه،
إلا ما كان من الخاسر أبي لهب، فجعل أبو طالب يمدحهم ويذكر
قديمهم، ويذكر فضل محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في ذلك
أشعارا، ثم إنه لما خشي دهماء العرب أن يركبوه مع قومه،
لما انتشر ذكره قال قصيدته التي منها:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى
والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو
المزايل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه
بالوصائل
أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل
(1/217)
وفيها يقول:
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم نحوكم غير عزل ... ببيض حديث عهدها بالصياقل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة وفواضل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد ... وإخوته دأب المحب المواصل
فمن مثله في الناس أي مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند
التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلها ليس عنه بغافل
فوالله لولا أن أجيء بسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جدا غير قول
التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول
الأباطل
فأصبح فينا أحمد ذو أرومة ... يقصر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل
فلما انتشر ذكر رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بين العرب ذكر بالمدينة، ولم يكن حي من العرب
أعلم بِأَمْرِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِيْنَ ذكر، وقبل أن يذكر، من الأوس والخزرج,
وذلك لما كانوا يسمعون من الأحبار، وكانوا حلفاء يعني
اليهود في بلادهم. وكان أبو قيس بن الأسلت يحب قريشا, وكان
لهم صهرا، وعنده أرنب ابنة أسد بن عبد العزى, وكان يقيم
بمكة السنين بزوجته، فقال:
أيا راكبا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب
رسول امرئ قد راعه ذات بينكم ... على النأي محزون بذلك
ناصب
أعيذكم بالله من شر صنعكم ... وشر تباغيكم ودس العقارب
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... هي الغول للأقصين أو
للأقارب
(1/218)
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم ... لنا غاية
قد نهتدي بالذوائب
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين
الأخاشب
فعندكم منه بلاء مصدق ... غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم ... جنود المليك بين ساف
وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى أهله ملجيش غير عصائب
أبو يكسوم: ملك أصحاب الفيل.
وقال ابن إسحاق: فحدثني يَحْيَى بنُ عُرْوَةَ بنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ
عَمْرٍو، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت أصابت قريش مِنْ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا
كانوا يظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم
يوما في الحجر, فذكروا رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه
من أمر هذا الرجل قط، قد سفه أحلامنا، وسب آلهتنا, وفعل
وفعل. فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستلم
الركن وطاف بالبيت، فلما مر غمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك
في وجهه، فلما مر الثانية غمزوه، فلما مر الثالثة غمزوه،
فوقف, فقال: "أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده
لقد جئتكم بالذبح". قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما فيهم
رجل إلا كأن على رأسه طائرا واقع، حتى إن أشدهم فيه وطأة
ليرفؤه1 بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا
أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا. فانصرف صلى الله عليه
وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم،
فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى
إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه. فبينا هم في ذلك، إذ طلع
النبي صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد،
فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ فيقول: "نعم".
فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، فقام أبو بكر دونهم
يبكي ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ
اللَّهُ} [غافر: 28] ، ثم انصرفوا عنه، فحدثني بعض آل أبي
بكر، أن أم كلثوم بنت أبي بكر قالت: لقد رجع أبو بكر يومئذ
وقد صدعوا فرق رأسه مما جذبوه بلحيته، وكان كثير الشعر.
__________
1 يرفؤه: أي يسكنه من الرعب.
(1/219)
إسلام أبي ذر، رضي
الله عنه:
وقال سُلَيْمَانُ بنُ المُغِيْرَةِ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ
بنُ هِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ الصَّامِتِ قَالَ:
قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارَ،
وَكَانُوا يُحِلُّوْنَ الشَّهْرَ الحَرَامَ، فَخَرَجْتُ
أنا وأخي أنيس وأمنا، فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي
مال وهيئة فأكرمنا, فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ، فَقَالُوا:
إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ عَنْ أهلك خالف إليهم أنيس. فجاء
خالنا فنثا1 علينا ما قيل له. فقلت له: أَمَّا مَا مَضَى
مِنْ مَعْرُوْفِكَ، فَقَدْ كَدَّرْتَهُ ولا جماع لك فيما
بعد، فقربنا صرمتنا2 فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا ثوبه،
فجعل يبكي، فانطلقنا فنزلنا بِحَضْرَةِ مَكَّةَ،
فَنَافَرَ3 أُنَيْسٌ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مثلها،
فأتينا الكاهن فخير4 أنيسا، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها.
قال: وقد صليت يابن أَخِي قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاَثٍ سنين،
فقلت: لمن؟ قال لله. قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث
يوجهني اللهُ أُصَلِّي عِشَاءً, حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ
آخر الليل ألقيت كأني خفاء -يعني الثوب- حتى تعلوني الشمس.
فَقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي
حتى آتيك. فأتى مكة فراث -أي أبطأ- عليَّ، ثم أتاني فقلت
ما حبسك؟ قال: لقيت رجلا بمكة يزعم أن الله أرسله على
دينك. قلت: ما يقول الناس؟ قال: يقولون: إنه شاعر، وساحر،
وكاهن، وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ. فَقَالَ:
لَقَدْ سَمِعْتُ قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولو وَضَعْتُ
قَوْلَهُ عَلَى أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ, فَمَا يَلْتَئِمُ
على لسان أحد بعدي أنه شعر، ووالله إنه لصادق، وإنهم
لكاذبون قال: قلت له: هل أنت كافيني حتى أنطلق فأنظر؟ قال:
نعم، وكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا.
فأتيت مكة، فتضعفت رجلا، فقلت: أين هذا الذي تدعونه
الصابئ؟ قال: فأشار إلى الصَّابِئُ. قَالَ: فَمَالَ عليَّ
أَهْلُ الوَادِي بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ، حَتَّى
خَرَرْتُ مَغْشِيّاً عليَّ، فَارْتَفَعْتُ حِيْنَ
ارْتَفَعْتُ، كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ، فَأَتَيْتُ
زَمْزَمَ فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، فدخلت بين
الكعبة وأستارها، ولقد لبثت يابن أخي ثلاثين من بين ليلة
ويوم، وما لِي طَعَامٌ إِلاَّ مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ
حَتَّى تكسرت عكن بطني5، وما
__________
1 نثا: أي أشاع وأذاع وأفشى.
2 صرمتنا: قطعة من الإبل. وتطلق أيضا على القطعة من الغنم.
3 نافر: أي فاخر. والمنافرة: المفاخرة والمحاكمة.
4 خير: قال ابن الأثير: فضل وغلب.
5 عكن بطني: الأطواء في البطن من السمن. وواحدة العكن
عكنة، وتعكن البطن: صار ذا عكن.
(1/220)
وجدت على كبدي سخفة جوع1. فبينما أهل مكة،
في قمراء إضحيان، قد ضرب الله على أصمخة أهل مكة فما يطوف
بالبيت أحد غير امرأتين، فأتتا عليَّ، وهما تدعوان
إِسَافاً وَنَائِلَةَ، فَأَتَتَا عَلَيَّ فِي
طَوَافِهِمَا، فَقُلْتُ: أنكحا أحدهما الأخرى. قال: فما
تناهتا عن قولهما -وفي لفظ: فما ثناهما ذلك عما قالتا-
فَأَتَتَا عَلَيَّ فَقُلْتُ: هَنٌ مِثْلُ الخَشَبَةِ،
غَيْرَ أني لا أكنى. فانطلقتا تولولان، وتقولان: لو كان
ههنا أحد من أنفارنا. فاستقبلهما رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر، وهما هابطان من
الجبل، فقالا لهما: مَا لَكُمَا؟ قَالَتَا: الصَّابِئُ
بَيْنَ الكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا. قالا: ما قال لكما؟
قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم. فَجَاءَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبه، فاستلم الحجر،
ثم طافا، فلما قضى صلاته أتيته، فكنت أول من حياه بتحية
الإسلام. فقال: "وعليك ورحمة الله". ثم قال: "ممن أنت؟ "
قلت: من غفار، فأهوى بيده فوضعها على جبينه فَقُلْتُ فِي
نَفْسِي: كَرِهَ أَنِّي انْتَمَيْتُ إِلَى غفار، فأهويت
لآخذ بيده، فقدعني صاحبه، وكان أعلم به مني, ثم رفع رأسه،
فقال: "متى كنت ههنا؟ " قلت: قد كنت ههنا منذ ثلاثين بين
ليلة ويوما. قَالَ: "فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟ " قُلْتُ:
مَا كَانَ لي طعام إلا ماء زمزم. فقال: "إنها مباركة، إنها
طعام طعم، وشفاء سقم". فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله
في طعامه الليلة. ففعل، فانطلقا، وانطلقت معهما، حتى فتح
أَبُو بَكْرٍ بَاباً، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زبيب
الطائف، فكان ذلك أول طعام أكلته بها. قال: فغبرت ما غبرت
ثم أَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "إني قد وجهت إلى أرض ذات نخل لا
أحسبها إِلاَّ يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي
قَوْمَكَ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ
وَيَأْجُرَكَ فِيْهِم؟ ". فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا فقال
لي: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ
وَصَدَّقْتُ. ثم أتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما.
فأسلمت، ثم احتملا حتى أتينا قومنا غفار، فأسلم نصفهم
قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِيْنَةَ، وكان يؤمهم خفاف بن
إيماء بن رحضة الغفاري، وكان سيدهم يومئذ، وقال بقيتهم:
إذا قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أسلمنا، فقدم المدينة فأسلم بقيتهم. وَجَاءتْ
أَسْلَمُ فَقَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ إِخْوَانُنَا،
نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، فَأَسْلَمُوا
فَقَالَ: "غِفَارُ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ
سَالَمَهَا اللهُ". أخرجه مسلم2 عن هدبة، عن سليمان.
وفي الصحيحين من حديث مثنى بن سعيد، عن أبي جمرة الضبعي،
أن ابن عباس
__________
1 سخفة جوع: يعني رقته وهزاله. والسخف بالفتح: رقة العيش,
وبالضم: رقة العقل، وقيل هي الخفة التي تعتري الإنسان إذا
جاع من السخف وهي الخفة في العقل وغيره.
2 صحيح: أخرجه مسلم "2473" في آخر حديث طويل.
(1/221)
حدثهم بإسلام أبي ذر، قال: أرسلت أخي فرجع
وقال: رأيت رجلا يأمر بالخير. فلم يشفني, فأتيت مكة، فجعلت
لا أعرفه، وأشرب من زمزم، فمر بي عليٌّ، فقال: كأنك
غَرِيْبٌ. قُلتُ: نَعَمْ قَالَ: انْطَلِقْ إِلَى
المَنْزِلِ فانطلقت معه، فلم أسأله، فلما أصبحنا، جئت
المسجد، ثم مر بي عليٌّ، فقال: أما آن لك أن تعود؟ قلت:
لا. قال: ما أمرك؟ قلت: إن كتمت عليَّ أخبرتك, ثم قلت:
بلغنا أنه خرج نبي. قال: قد رشدت فاتبعني. فأتينا النبي
صلى الله عليه وسلم فقلت: اعرض عليَّ الإسلام. فعرضه
عليَّ، فأسلمت، فقال: اكتم إسلامك وارجع إلى قومك. قلت:
والله لأصرخن بها بين أظهرهم، فجاء في المسجد, فقال: يا
معاشر قريش أشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ
مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ. فَقَالُوا: قُوْمُوا
إِلَى هَذَا الصَّابِئ فَقَامُوا، فَضُرِبْتُ لأَمُوْتَ،
فَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عليَّ وقال: تقتلون،
ويلكم رجلا من بني غِفَارَ، وَمَتْجَرُكُم وَمَمَرُّكُم
عَلَى غِفَارَ؟! فَأَطْلَقُوا عَنِّي. ثم فعلت من الغد
كذلك، وأدركني العباس أيضا1.
وقال النضر بن محمد اليمامي: حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي
زميل سماك بن الوليد، عَنْ مَالِكِ بنِ مَرْثَدٍ، عَنْ
أَبِيْهِ، عَنْ أبي ذر قال: كنت ربع الإسلام، أسلم قبل
ثلاثة نفر، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام
عليك يا رسول الله، أشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ،
وَأَنَّ مُحَمَّداً عبده ورسوله، فرأيت الاستبشار في وجهه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3681"، ومسلم "2474".
(1/222)
إسلام حمزة، رضي
الله عنه:
وقال ابن إسحاق: حدثني رجل من أسلم، كان واعية، أن أبا جهل
مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه،
فلم يكلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن
جدعان، تسمع، ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادي قريش عند
الكعبة, فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل
متوشحا قوسه، راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص، وكان إذا
رجع من قنصه بدأ بالطواف بالكعبة، وكان أعز فتى في قريش،
وأشده شكيمة، فلما مر بالمولاة قالت له: يا أبا عمارة ما
لقي ابن أخيك آنفا من أبي الحكم، وجده ههنا جالسا فآذاه
وسبه وبلغ منه، ولم يكلمه محمد. فاحتمل حمزة الغضب، لما
أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى مغذا لأبي جهل، فلما
رآه جالسا في القوم أقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع
القوس، فضربه بها، فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه! فأنا
على دينه أقول ما يقول، فرد على ذلك إن استطعت، فقامت رجال
من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل:
دعوا أبا عمارة فوالله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، وتم
حمزة على إسلامه، فلما أسلم، عرفت قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد عز وامتنع،
وأن حمزة -رضي الله عنه- سيمنعه، فكفوا بعض الشيء.
(1/223)
إسلام عمر, رضي الله عنه:
قال عبد بن حميد وغيره: حدثنا أبو عامر العقدي، قال: حدثنا
خارجة بن عبد الله بنُ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين
إليك: بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام" 1. وروى نحوه
عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ دِيْنَارٍ، عَنِ ابْنِ عمر.
وقال مُبَارَك بن فَضَالَة، عَنْ عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"اللهم أعز الدين بعمر".
وقال عبد العزيز الأويسي: حدثنا الماجشون بن أبي سلمة،
عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة".
قال إسماعيل بن أبي خالد: حدثنا قيس، قال ابن مسعود: ما
زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
أخرجه البخاري2.
وقال أحمد في "مسنده": حدثنا أبو المغيرة، قال: حدثنا
صفوان, قال: حدثنا شريح بن عبيد قال: قال عمر: خرجت أتعرض
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد سبقني إلى
المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من
تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر، كما قالت قريش، فقرأ:
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ
شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40، 41]
الآيات، فوقع في قلبي الإسلام كل موقع3.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي، عن
عبد الله بن المؤمل، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ
جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ أول إسلام عمر أن عمر قال: ضرب أختي
المخاض ليلا،
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "2/ 95"، وفي "فضائل الصحابة" "312"،
وابن سعد "3/ 267" والترمذي "3681"، والبيهقي في "دلائل
النبوة" "2/ 215-216" من طريق أبي عامر العقدي، به.
2 صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة "12/ 22-23"، وابن سعد "3/
270"، وعبد الله في زيادته على "فضائل الصحابة" "368"
و"372"، والبخاري "3684"، والطبراني "8821" و"8822"،
والحاكم "3/ 84"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 211"،
والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 215" من طرق عن إسماعيل بن
أبي خالد، به.
3 ضعيف: أخرجه أحمد "1/ 17"، وهو ضعيف لانقطاعه بين شريح
بن عبيد، وعمر بن الخطاب، فإنه لم يدركه.
(1/224)
فخرجت من البيت، فدخلت في أستار الكعبة في
ليلة قرة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل الحجر،
وعليه تبان1، فصلى ما شاء الله، ثم انصرف، فسمعت شيئا لم
أسمع مثله، فخرج، فاتبعته فقال: "من هذا؟ " قلت: عمر. قال:
"يا عمر ما تدعني ليلا ولا نهارا"، فخشيت أن يدعو عليَّ
فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وأنك
رسول الله. فقال: "يا عمر أسره". قلت: لا والذي بعثك بالحق
لأعلننه، كما أعلنت الشرك.
وقال محمد بن عبيد الله ابن المنادى: حدثنا إسحاق الأزرق،
قال: حدثنا القاسم بن عثمان البصري، عن أنس بن مالك، قال:
خرج عمر -رضي الله عنه- متقلدا السيف، فلقيه رجل من بني
زهرة فقال له: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدا.
قال: فكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة، وقد قتلت محمدا؟
فقال: ما أراك إلا قد صبوت. قال: أفلا أدلك على العجب، إن
ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك. فمشى عمر فأتاهما، وعندهما
خباب، فلما سمع بحس عمر توارى في البيت، فدخل فقال: ما هذه
الهينمة؟ وكانوا يقرءون "طه"، قالا: ما عدا حديثا تحدثناه
بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما؟ فقال له ختنه: يا عمر إن
كان الحق في غير دينك. فوثب عليه فوطئه وطئا شديدا, فجاءت
أخته لتدفعه عن زوجها، فنفحها نفحة بيده فدمّى وجهها،
فقالت وهي غضبى: وإن كان الحق في غير دينك إني أشهد أَنْ
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عبده ورسوله.
فقال عمر: أعطوني الكتاب الذي هو عندكم فأقرؤه، وكان عمر
يقرأ الكتاب، فقالت أخته: إنك رجس، وإنه لا يمسه إلا
المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ، فقام فتوضأ، ثم أخذ الكتاب
فقرأ: {طه} حتى انتهى إلى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي} [طه: 1-14] ، فقال عمر: دلوا على محمد، فلما
سمع خباب قول عمر خرج فقال: أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون
دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس: "اللهم
أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام". وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم في أصل الدار التي في أصل الصفا.
فانطلق عمر حتى أتى الدار وعلى بابها حمزة، وطلحة، وناس،
فقال حمزة: هذا عمر، إن يرد الله به خيرا يسلم وإن يرد غير
ذلك يكن قتله علينا هينا. قال: والنبي صلى الله عليه وسلم
داخل يوحى إليه، فخرج حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه
وحمائل السيف فقال: "ما أنت منته يا عمر حتى ينزل الله بك
من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة؟ فهذا عمر!
اللهم أعز الإسلام بعمر". فقال عمر: أَشْهَدُ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَأَنَّكَ عبد الله ورسوله.
__________
1 تبان: سروال صغير يستر العورة المغلظة فقط، ويكثر لبسه
الملاحون.
(1/225)
وقد رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وقال
فيه: زوج أخته سعيد بن زيد بن عمرو.
وقال ابن عيينة، عن عمرو، عن ابن عمر، قال: إني لعلى سطح،
فرأيت الناس مجتمعين على رجل وهم يقولون: صبأ عمر، صبأ
عمر. فجاء العاص بن وائل عليه قباء ديباج، فقال: إن كان
عمر قد صبأ فمه أنا له جار. قال فتفرق الناس عنه. قال:
فعجبت من عزه. أخرجه البخاري1 عن ابن المديني، عنه.
قال البكائي, عن ابن إسحاق: حدثني نافع، عن ابن عمر، قال:
لما أسلم عمر، قال: أي قريش أثقل للحديث؟ قيل: جميل بن
معمر الجمحي. فغدا عليه، قال ابن عمر: وغدوت أتبع أثره
وأنا غلام أعقل، حتى جاءه، فقال: أعلمت أني أسلمت؟ فوالله
ما راجعه حتى قام يجر رداءه، حتى قام على باب المسجد صرخ
بأعلى صوته: يا معشر قريش، ألا إن ابن الخطاب قد صبأ قال:
يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت. وثاروا إليه فما برح
يقاتلهم، ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم. قال: وطلح2
فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف
بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها
لنا. فبينا هو على ذلك إذ أقبل شيخ عليه حلة حبرة، وقميص
موشى، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر.
قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون! أترون بني
كعب بن عدي يسلمون! خلوا عنه. قال: فوالله لكأنما كانوا
ثوبا كشط عنه، فقلت لأبي بعد أن هاجر: يا أبة، من الرجل
الذي زجر القوم عنك؟ قال: العاص بن وائل.
أخرجه ابن حبان، من حديث جرير بن حازم، عن ابن إسحاق.
وقال إسحاق بن إبراهيم الحنيني، عن أسامة بنُ زَيْدِ بنِ
أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جده، قال: قال لنا عمر: كنت
أشد الناس عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فبينا أنا في يوم حار بالهاجرة، في بعض طريق
مكة، إذ لقيني رجل فقال: عجبا لك يابن الخطاب، إنك تزعم
أنك وأنك، وقد دخل علينا الأمر في بيتك. قلت: وما ذاك؟
قال: أختك قد أسلمت. فرجعت مغضبا حتى قرعت الباب، وَقَدْ
كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا
أسلم الرجل والرجلان ممن لا شيء له ضمهما إلى من في
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3865" حدثنا علي بن عبد الله،
حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، به.
2 طلح: أي أعيا، يقال: طلح يطلح طلوحا فهو طليح.
(1/226)
يده سعة فينالان من فضل طعامه، وقد كان ضم
إلى زوج أختي رجلين, فلما قرعت الباب قيل: من هذا؟ قلت:
عمر. فتبادروا فاختفوا مني, وقد كانوا يقرءون صحيفة بين
أيديهم وتركوها أو نسوها، فقامت أختي تفتح الباب، فقلت: يا
عدوة نفسها، أصبوت. وضربتها بشيء في يدي على رأسها، فسال
الدم وبكت، فقالت: يابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد
صبوت. قال: ودخلت حتى جلست على السرير، فنظرت إلى الصحيفة
فقلت: ما هذا؟ ناولنيها. قالت: لست من أهلها، أنت لا تطهر
من الجنابة، وهذا كتاب لا يمسه إلا المطهرون. فما زلت بها
حتى ناولتنيها، ففتحتها، فإذا فيها: "بسم الله الرحمن
الرحيم", فكلما مررت باسم من أسماء الله عز وجل ذعرت منه
فألقيت الصحيفة ثم رجعت إلى نفسي فتناولتها، فإذا فيها:
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
فذعرت، فقرأت إلى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}
[الحديد: 1-7] ، فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللهَ. فخرجوا متبادرين وكبروا، وقالوا: أبشر
فَإِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دعا يوم الإثنين فقال: "اللهم أعز دينك بأحب الرجلين إليك
إما أبو جهل وإما عمر". ودلوني عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بيت بأسفل الصفا، فخرجت
حتى قرعت الباب، فقالوا: من؟ قلت: ابن الخطاب، وقد علموا
شدتي عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فما اجترأ أحد يفتح الباب، حتى قال: "افتحوا
له". ففتحوا لي، فأخذ رجلان بعضدي، حتى أتيا بِيَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
"خلوا عنه". ثم أخذ بمجامع قميصي وجذبني إليه، ثم قال:
"أسلم يابن الخطاب, اللهم اهده". فتشهدت، فكبر المسلمون
تكبيرة سمعت بفجاج مكة، وكانوا مستخفين, فلم أشأ أن أرى
رجلا يضرب ويضرب إلا رأيته، ولا يصيبني من ذلك شيء، فجئت
خالي وكان شريفا، فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت:
ابن الخطاب وقد صبوت. قال: لا تفعل. ثم دخل وأجاف الباب
دوني. فقلت: ما هذا شيء. فذهبت إلى رجل من عظماء قريش،
فناديته، فخرج إليّ، فقلت مثل مقالتي لخالي، وقال لي مثل
ما قال خالي، فدخل وأجاف الباب دوني, فقلت: ما هذا شيء، إن
المسلمين يضربون وأنا لا أضرب، فقال لي رجل: أتحب أن يعلم
بإسلامك؟ قلت: نعم. قال: فإذا جلس الناس في الحجر فأت
فلانا -لرجل لم يكن يكتم السر- فقل له فيما بينك وبينه:
إني قد صبوت، فإنه قلما يكتم السر. فجئت، وقد اجتمع الناس
في الحجر، فقلت فيما بيني وبينه: إني قد صبوت. قال: أوقد
فعلت؟ قلت: نعم. فنادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ،
فبادروا إليَّ، فما زلت أضربهم ويضربوني، واجتمع عليَّ
الناس، قال خالي: ما هذه الجماعة؟ قيل: عمر قد صبأ، فقام
على الحجر، فأشار بكمه: ألا إني قد أجرت ابن أختي،
(1/227)
فتكشفوا عني، فكنت لا أشاء أن أرى رجلا من
المسلمين يضرِب ويضرَب إلا رأيته، فقلت: ما هذا شيء حتى
يصيبني, فأتيت خالي فقلت: جوارك رد عليك، فما زلت أضرِب
وأضرَب حتى أعز الله الإسلام.
ويروى عن ابن عباس بإسناد ضعيف، قال: سألت عمر، لأي شيء
سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، فخرجت إلى
المسجد، فأسرع أبو جهل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسبه،
فأخبر حمزة، فأخذ قوسه وجاء إلى المسجد، إلى حلقة قريش
التي فيها أبو جهل، فاتكأ على قوسه مقابل أبي جهل، فنظر
إليه، فعرف أبو جهل الشر في وجهه، فقال: ما لك يا أبا
عمارة, فرفع القوس فضرب بها أخدعيه، فقطعه فسالت الدماء،
فأصلحت ذلك قريش مخافة الشر، قال: ورسول الله صلى الله
عليه وسلم مختف في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي،
فانطلق حمزة فأسلم. وخرجت بعده بثلاثة أيام، فإذا فلان
المخزومي فقلت: أرغبت عن دين آبائك واتبعت دين محمد؟ قال:
إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقا مني، قلت: ومن هو؟
قال: أختك وختنك. فانطلقت فوجدت همهمة، فدخلت فقلت: ما
هذا؟ فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني ضربته
وأدميته، فقامت إليَّ أختي فأخذت برأسه، وقالت: قد كان ذلك
على رغم أنفك. فاستحييت حين رأيت الدماء، فجلست وقلت:
أروني هذا الكتاب. فقالت: إنه لا يمسه إلا المطهرون. فقمت
فاغتسلت، فأخرجوا إليَّ صحيفة فيها: "بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قلت: أسماء طيبة طاهرة. {طه، مَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} إلى قوله:
{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [ط: 1-8] ، فتعظمت في
صدري، وقلت: مِنْ هذا فرت قريش. فأسلمت، وقلت: أين
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَتْ: فإنه في دار الأرقم. فأتيت فضربت الباب، فاستجمع
القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر.
قال: وعمر! افتحوا له الباب، فإن أقبل قبلنا منه، وإن أدبر
قتلناه. فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم، فخرج فتشهد عمر، فكبر أهل الدار تكبيرة
سمعها أهل المسجد. قلت: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ قال:
"بلى". قلت: ففيم الاختفاء. فخرجنا صفين أنا في أحدهما،
وحمزة في الآخر، حتى دخلنا المسجد، فنظرت قريش إليَّ وإلى
حمزة، فأصابتهم كآبة شديدة, فسماني رسول الله صلى الله
عليه وسلم "الفاروق" يومئذ، وفرق بين الحق والباطل.
وقال الوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ
اللهِ، عَنِ الزهري، عن ابن المسيب، قال: أسلم عمر بعد
أربعين رجلا وعشر نسوة، فلما أسلم ظهر الإسلام بمكة.
(1/228)
وقال الواقدي: حدثنا معمر، عن الزهري أن
عمر أسلم بعد أن دخل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دَارَ الأَرْقَمِ، وبعد أربعين أو نيف وأربعين
من رجال ونساء، فلما أسلم نزل جبريل فقال: يا محمد استبشر
أهل السماء بإسلام عمر.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: كان إسلام عمر بعد خروج
من خرج من الصحابة إلى الحبشة. فحدثني عبد الرحمن بن
الحارث، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر ابن ربيعة، عن
أمه ليلى، قالت: كان عمر من أشد الناس علينا في إسلامنا،
فلما تهيأنا للخروج إلى الحبشة، جاءني عمر، وأنا على بعير،
نريد أن نتوجه، فقال: إلى أين يا أم عبد الله؟ فقلت: قد
آذيتمونا في ديننا، فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى في
عبادة الله. فقال: صحبكم الله، ثم ذهب، فجاء زوجي عامر بن
ربيعة فأخبرته بما رأيت من رقة عمر بن الخطاب، فقال: ترجين
أن يسلم؟ قلت: نعم. قال: فوالله لا يسلم حتى يسلم حمار
الخطاب. يعني من شدته على المسلمين.
قال يونس، عن ابن إسحاق: والمسلمون يومئذ بضع وأربعون
رجلا، وإحدى عشرة امرأة.
(1/229)
|