سير أعلام
النبلاء، ط الحديث الهجرة الأولى إلى
الحبشة ثم الثانية:
قال يعقوب الفسوي في "تاريخه": حدثني العباس بن عبد
العظيم، قال: حدثني بشار بن موسى الخفاف، قال: حدثنا الحسن
بن زياد البرجمي -إمام مسجد محمد بن واسع- قال: حدثنا
قتادة, قال: أول من هاجر إلى الله بأهله عثمان بن عفان.
قال: سمعت النضر بن أنس يقول: سمعت أبا حمزة يعني أنس بن
مالك، يقول: خرج عثمان برقية بِنْتِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحبشة، فأبطأ خبرهم،
فقدمت امرأة من قريش, فقالت: يا محمد قد رأيت ختنك ومعه
امرأته، فقال: "على أي حال رأيتهما؟ " قالت: رأيته حمل
امرأته على حمار من هذه الدبابة، وهو يسوقها، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "صحبهما الله، إن عثمان أول من
هاجر بأهله بعد لوط".
ورواه يحيى بن أبي طالب، عن بشار.
عن عبد الله بن إدريس، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثني
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
وعروة، وعبد الله بن أبي بكر، وصلت الحديث عن أبي بكر، عن
أم سلمة, قالت: لما أمرنا بالخروج إلى الحبشة، قَالَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رأى
ما يصيبنا من البلاء: "الحقوا بأرض الحبشة فإن بها ملكا لا
يظلم عنده أحد، فأقيموا ببلاده حتى يجعل الله مخرجا مما
أنتم فيه". فقدمنا عليه فاطمأننا في بلاده ... الحديث.
قال البغوي في تاسع "المخلصيات": وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ،
عَنْ عُمَيْرِ بنِ إِسْحَاقَ، عن عمرو بن العاص بعض هذا
الحديث.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق: فَلَمَّا رَأَى رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يصيب أصحابه
من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانة من الله، ومن
عمه، وأنه لا يقدر أن يمنعهم من البلاء، قال لهم: "لو
خرجتم إلى أرض الحبشة, فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي
أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه" فخرج عند
ذلك المسلمون مخافة الفتنة، وفرارا بدينهم إلى الله. فخرج
عثمان بزوجته، وأبو حذيفة ولد عتبة بن ربيعة بن عبد شمس
بزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو فولدت له بالحبشة محمدا،
والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير العبدري، وعبد الرحمن بن
عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وزوجته أم سلمة أم
المؤمنين، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعامر بن ربيعة حليف آل
الخطاب، وامرأته ليلى بنت
(1/230)
أبي حثمة العدوية، وأبو سبرة بن أبي رهم بن
عبد العزى العامري، وسهيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب
الحارثين, فكانوا أول من هاجر إلى الحبشة.
قال: ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون إلى
الحبشة. ثم سمى ابن إسحاق جماعتهم، وقال: فكان جميع من لحق
بأرض الحبشة، أو ولد بها، ثلاثة وثمانين رجلا، فعبدوا الله
وحمدوا جوار النجاشي, فقال عبد الله بن الحارث بن قيس
السهمي:
يا راكبا بلغن عني مغلغلة ... من كان يرجو بلاغ الله
والدين
كل امرئ من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون
أنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تنجي من الذل والمخزاة
والهون
فلا تقيموا على ذل الحياة وخز ... ي في الممات وعيب غير
مأمون
إنا تبعنا نبي الله واطرحوا ... قول النبي وعالوا في
الموازين
فاجعل عذابك في القوم الذي بغوا ... وعائذ بك أن يعلوا
فيطغوني
وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف ابن عمه، وكان
يؤذيه:
أتيم بن عوف والذي جاء بغضة ... ومن دونه الشرمان والبرك
أكتع
أأخرجتني من بطن مكة أيمنا ... وأسكنتني في سرح بيضاء نقذع
تريش نبالا لا يواتيك ريشها ... وتبري نبالا ريشها لك أجمع
وحاربت أقواما كراما أعزة ... وأهلكت أقواما بهم كنت تفزع
ستعلم إن نابتك يوما ملمة ... وأسلمك الأرياش ما كنت تصنع
وقال موسى بن عقبة: ثم إن قريشا ائتمروا واشتد مكرهم،
وهموا بقتل رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَوْ إخراجه، فعرضوا على قومه أن يعطوهم ديته
ويقتلوه، فأبوا حمية. وَلَمَّا دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم شعب بني عبد المطلب، أمر
أصحابه بالخروج إلى الحبشة فخرجوا مرتين؛ رجع الذين خرجوا
في المرة الأولى حين أنزلت سورة "النجم"، وكان المشركون
يقولون: لو كان محمد يذكر آلهتنا بخير قررناه وأصحابه،
ولكنه لا يذكر من حالفه من اليهود والنصارى بمثل ما يذكر
به آلهتنا من الشتم، والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يتمنى هداهم، فأنزلت: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ
وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم:
19، 20] ، فألقى الشيطان عندها كلمات "وإنهن الغرانيق
العلا، وإن شفاعتهن ترتجى" فوقعت في قلب كل مشرك بمكة,
وذلت بها
(1/231)
ألسنتهم وتباشروا بها. وقالوا: إن محمدا قد
رجع إلى ديننا. فلما بلغ آخر النجم سجد صلى الله عليه وسلم
وسجد كل من حضر من مسلم أو مشرك، غير أن الوليد بن المغيرة
كان شيخا كبيرا رفع ملء كفيه ترابا فسجد عليه، فعجب
الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود، بسجود رسول الله
صلى الله عليه وسلم، عجب المسلمون بسجود المشركين معهم،
ولم يكن المسلمون سمعوا ما ألقى الشيطان، وأما المشركون
فاطمأنوا إلى رسول الله صلى الله عله وسلم وأصحابه، لما
ألقى في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وحدثهم
الشيطان أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قد قرأها في السجدة، فسجدوا تعظيما لآلهتهم.
وفشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان، حتى بلغت أرض
الحبشة ومن بها من المسلمين؛ عثمان بن مظعون وأصحابه،
وحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا، وأن المسلمين قد
آمنوا بمكة، فأقبلوا سراعا، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان،
وأنزلت: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ
وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الآيات، فلما بين الله
قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم
وعداوتهم1.
وكان عثمان بن مظعون وأصحابه، فيمن رجع، فلم يستطيعوا أن
يدخلوا مكة إلا بجوار، فأجار الوليد بن المغيرة عثمان بن
مظعون، فلما رأى عثمان ما يلقى أصحابه من البلاء، وعذب
طائفة منهم بالسياط والنار، وعثمان معافى لا يعرض له،
استحب البلاء، فقال للوليد: يا عم قد أجرتني، وأحب أن
تخرجني إلى عشيرتك فتبرأ مني. فقال: يابن أخي لعل أحدا
آذاك أو شتمك؟ قال: لا والله ما اعترض لي أحد ولا آذاني.
فلما أبى إلا أن يتبرأ منه أخرجه إلى المسجد، وقريش فيه،
كأحفل ما كانوا، ولبيد بن ربيعة الشاعر ينشدهم، فأخذ
الوليد بيد عثمان وقال: إن هذا قد حملني على أن أتبرأ من
جواره، وإني أشهدكم أني بريء منه، إلا أن يشاء. فقال
عثمان: صدق، أنا والله أكرهته على ذلك، وهو مني بريء. ثم
جلس مع القوم فنالوا منه.
__________
1 حديث باطل: أرسله الزهري، قال ابن كثير في "تفسيره" "3/
239": قد ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق، وما كان من
رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظنا منهم أن مشركي
قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة
من وجه صحيح والله أعلم. ثم قال ابن كثير في تفسيره "3/
240" بعد أن ساق مرسل الزهري: قلت: وقد ذكرها محمد بن
إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات والله
أعلم.
قلت: وهذا مما يؤيد بطلان هذه القصة لانقطاعها مع مخالفة
ذلك لعصمة الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولولا
ضيق المقام لأوعبنا طرقها، ولبينا وهاء هذه الطرق وبطلانها
إذ كيف يقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى
لرسوله صلى الله عليه وسلم.
(1/232)
قال موسى: وخرج جعفر بن أبي طالب وأصحابه
فرارا بدينهم إلى الحبشة، فبعثت قُرَيْشٌ عَمْرَو بنَ
العَاصِ، وَعُمَارَةَ بنَ الوَلِيْدِ ابن المغيرة،
وأمروهما أن يسرعا ففعلا، وأهدوا للنجاشي فرسا وجبة ديباج،
وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا، فقبل النجاشي هديتهم، وأجلس
عمرا على سريره، فقال: إن بأرضك رجالا منا سفهاء ليسوا على
دينك ولا ديننا، فادفعهم إلينا. فقال: حتى أكلمهم وأعلم
على أي شيء هم. فقال عمرو: هم أصحاب الرجل الذي خرج فينا،
وإنهم لا يشهدون أن عيسى ابن الله، ولا يسجدون لك إذا
دخلوا. فأرسل النجاشي إلى جعفر وأصحابه، فلم يسجد له جعفر
ولا أصحابه وحيوه بالسلام، فقال عمرو: ألم نخبرك خبر
القوم. فقال النجاشي: حدثوني أيها الرهط، ما لكم لا تحيوني
كما يحييني من أتاني من قومكم؟ وأخبروني ما تقولون في عيسى
وما دينكم؟ أنصارى أنتم؟ قالوا: لا. قال: أفيهود أنتم؟
قالوا: لا. قال: فعلى دين قومكم؟ قالوا: لا. قال: فما
دينكم؟ قالوا: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قالوا: نعبد
الله وحده ولا نشرك به شيئا. قال: من جاءكم بهذا؟ قالوا:
جاءنا به رجل منا قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله كما بعث
الرسل إلى من كان قبلنا، فأمرنا بالبر والصدقة والوفاء
والأمانة، ونهانا أن نعبد الأوثان، وأمرنا أن نعبد الله،
فصدقناه، وعرفنا كلام الله، فعادانا قومنا وعادوه وكذبوه،
وأرادونا على عبادة الأصنام، ففررنا إليك بديننا ودمائنا
من قومنا. فقال النجاشي: والله إن خرج هذا الأمر إلا من
المشكاة التي خرج منها أمر عيسى. قال: وأما التحية فإن
رسولنا أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام، فحييناك بها،
وأما عيسى فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم،
وروح منه وابن العذراء البتول. فخفض النجاشي يده إلى
الأرض، وأخذ عودا فقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن
هذا العود. فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت هذا الحبشة
لتخلعنك. فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا، وما
أطاع الله الناس فيَّ حين رد إليَّ ملكي، فأنا أطيع الناس
في دين الله! معاذ الله من ذلك. وكان أبو النجاشي ملك
الحبشة، فمات والنجاشي صبي، فأوصى إلى أخيه أن إليك ملك
قومك حتى يبلغ ابني، فإذا بلغ فله الملك. فرغب أخوه في
الملك، فباع النجاشي لتاجر، وبادر بإخراجه إلى السفينة،
فأخذ الله عمه قعصا1 فمات، فجاءت الحبشة بالتاجر، وأخذوا
النجاشي فملكوه، وزعموا أن التاجر قال: ما لي بد من غلامي
أو مالي. قال النجاشي: صدق، ادفعوا إليه ماله. قال: فقال
النجاشي حين كلمه جعفر: ردوا إلى هذا هديته -يعني عمرا-
والله لو رشوني على هذا دبر
__________
1 قعصه وأقعصته: إذا قتلته قتلا سريعا.
(1/233)
ذهب -والدبر بلغته الجبل- ما قبلته، وقال
لجعفر وأصحابه: امكثوا آمنين، وأمر لهم بما يصلحهم من
الرزق. وألقى الله العداوة بين عمرو وعمارة بن الوليد في
مسيرهما، فمكر به عمرو وقال: إِنَّكَ رَجُلٌ جَمِيْلٌ،
فَاذْهَبْ إِلَى امْرَأَةِ النَّجَاشِيِّ فَتَحَدَّثْ
عِنْدَهَا إِذَا خَرَجَ زَوْجُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ عَوْنٌ
لَنَا فِي حَاجَتِنَا. فَرَاسَلَهَا عُمَارَةُ حَتَّى دخل
عليها، فلما دخل عليها انطلق عمرو إلى النجاشي، فقال: إن
صاحبي هذا صاحب نساء، وإنه يريد أهلك فاعلم علم ذلك. فبعث
النجاشي، فإذا عمارة عند امرأته، فأمر به فنفخ في إحليله
شحوة ثم ألقي في جزيرة من البحر فجن، وصار مع الوحش، ورجع
عمرو خائب السعي.
وقال البكائي قال ابن إسحاق: حدثني الزُّهْرِيِّ، عَنْ
أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أم سلمة،
قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا
بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى
دِيْنِنَا، وَعَبَدْنَا الله تعالى، لا نؤذي، ولا نسمع ما
نكره، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشاً ائْتَمَرُوا أَنْ
يَبْعَثُوا إلى النجاشي رجلين جلدين, وأن يهدوا للنجاشي،
فبعثوا بالهدايا مع عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن
العاص. وذكر القصة بطولها، وستأتي إن شاء الله، رواها
جماعة، عن ابن إسحاق.
وذكر الواقدي أن الهجرة الثانية كانت سنة خمسة من المبعث.
وقال حُدَيْجُ بنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،
عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عتبة، عن ابن مسعود، قال: بعثنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ونحن ثمانون
رجلا، ومعنا جعفر، وعثمان بن مظعون، وبعثت قريش عمارة،
وعمرو بن العاص، وبعثوا معهما بهدية إلى النجاشي، فلما
دخلا عليه سجدا له، وبعثا إليه بالهدية، قالا: إن ناسا من
قومنا رغبوا عن ديننا، وقد نزلوا أرضك. فبعث إليهم، فقال
لنا جعفر: أنا خطيبكم اليوم. قال: فاتبعوه حتى دخلوا على
النجاشي، فلم يسجدوا له، فقال: وما لكم لم تسجدوا للملك؟
فقال: إن الله قد بعث إلينا نبيه, فأمرنا أن لا نسجد إلا
لله. فقال النجاشي: وما ذاك؟ قال عمرو: إنهم يخالفونك في
عيسى. قال: فما تقولون في عيسى وأمه؟ قال: نقول كما قال
الله، هو رُوْحُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى
العَذْرَاءِ البَتُوْلِ1، التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها2
ولد. فتناول النجاشي عودا، فقال: يا معشر القسيسين
والرهبان، ما تزيدون على ما يقول هؤلاء ما يزن هذا،
__________
1 البتول: المنقطعة عن الرجال، لا شهوة لها فيهم، وبها
سميت مريم أم المسيح -عليهما السلام، وسميت فاطمة البتول
لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا، وقيل:
لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى.
2 ولم يفرضها: من الافتراض، والفرض: القطع، أي: لم يؤثر
فيها ولد قبل المسيح.
(1/234)
فمرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، وأنا أشهد
أنه نبي، ولوددت أني عنده فأحمل نعليه -أو قال أخدمه-
فانزلوا حيث شئتم من أرضي. فجاء ابن مسعود فشهد بدرا. رواه
أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن حديج1.
وقال عبيد الله بن موسى: أخبرنا إِسْرَائِيْلُ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ نَنْطَلِقَ مَعَ جَعْفَرٍ إلى الحبشة. وساق
كحديث حديج.
ويظهر لي أن إسرائيل وهم فيه، دخل عليه حديث في حديث، وإلا
أين كان أبو موسى الأشعري ذلك الوقت.
رجعنا إلى تمام الحديث الذي سقناه عن أم سلمة قالت: فلم
يبق بطريق من بطارقة النجاشي إلا دفعا إليه هدية، قبل أن
يكلما النجاشي, وأخبرا ذلك البطريق بقصدهما، ليشير على
الملك بدفع المسلمين إليهم، ثم قربا هدايا النجاشي فقبلها،
ثم كلماه فقالا: أيها الملك إنه قدم إلى بلادك مِنَّا
غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِيْنَ قَوْمِهِم، وَلَمْ
يدخلوا في دينك، جاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن، ولا
أنت، فقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من أقاربهم لتردهم
عليهم، فَهُمْ أَعْلَى بِهِم عَيْناً، وَأَعْلَمُ بِمَا
عَابُوا عليهم. قالت: ولم يكن أبغض إلى عبد الله بن أبي
ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي، فقالت
بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قَوْمَهُم أَعْلَى بِهِم
عَيْناً، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عليهم من دينهم،
فأسلمهم إليهما. فغضب ثم قال: لاها الله إذن لا أسلمهم
إليهما، ولا يكاد قوم جَاوَرُوْنِي، وَنَزَلُوا بِلاَدِي،
وَاخْتَارُوْنِي عَلَى مَنْ سِوَايَ، حتى أدعوهم فأسألهم
عما تقولان. فأرسل إلى الصحابة فدعاهم، فلما جاءوا وقد دعا
النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم، سألهم فقال: ما دينكم؟
فكان الذي كلمه جعفر، فقال: أيها الملك، كُنَّا قَوْماً
أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ
المَيْتَةَ، وَنَأْتِي الفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ
الأَرْحَامَ، وَنُسِيْءُ الجِوَارَ، وَيَأْكُلُ القَوِيُّ
مِنَّا الضَّعِيْفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ, حَتَّى بَعَثَ
اللهُ إِلَيْنَا رَسُوْلاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ،
وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى
اللهِ
__________
1 ضعيف: أخرجه الطيالسي "346"، وأحمد "1/ 461"، والبيهقي
في "الدلائل" "2/ 298" من طريق حديج بن معاوية، به.
وأورده الهيثمي في "المجمع" "6/ 24" وقال: "رواه الطبراني،
وفيه حديج بن معاوية، وثقه أبو حاتم، وقال: في بعض حديثه
ضعف، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات".
قلت: إسناده ضعيف، فيه علتان: الأولى: حديج بن معاوية،
ضعفه ابن معين والنسائي. وقال البخاري يتكلمون في بعض
حديثه. الثانية: أبو إسحاق، هو عمرو بن عبد الله السبيعي،
مدلس، وقد عنعنه.
(1/235)
لنوحده ونعبده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا
من الحجارة، وأمرنا بالصدق والأمانة وصلة الرحم -وعدد عليه
أمور الإسلام- فصدقناه وَاتَّبَعْنَاهُ، فَعَدَا عَلَيْنَا
قَوْمُنَا فَعَذَّبُوْنَا، وَفَتَنُوْنَا عَنْ ديننا،
وضيقوا علينا، فخرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك،
وَرَجَوْنَا أَنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا
المَلِكُ. قالت: فقال: وهل مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ
اللهِ مِنْ شيء؟ قال جعفر: نعم، وقرأ عليه صدرا من {كهيعص}
[مريم: 1] ، فبكى والله النجاشي، حتى أخضل لحيته، وبكت
أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ:
إِنَّ هَذَا، وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوْسَى لَيَخْرُجُ
مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا، فلا والله لا
أسلمهم إليكما ولا يكاد. قالت: فلما خرجا من عنده قال
عمرو: والله لآتينهم غدا بما أستأصل به خضراءهم. فقال له
ابن أَبِي رَبِيْعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ
فِيْنَا: لاَ تفعل، فإن لهم أرحاما. قَالَ: وَاللهِ
لأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُم يَزْعُمُوْنَ أَنَّ عِيْسَى عبد.
ثم غدا عليه، فقال له ذلك، فطلبنا، قَالَتْ: وَلَمْ
يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا، فَاجْتَمَعَ القَوْمُ، ثم قال
بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟
قالوا: نقول, والله، ما قال الله، كائنا في ذلك مَا كَانَ،
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُم: ما تقولون في
عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول: هُوَ
عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ، وَرُوْحُهُ، وَكَلِمَتُهُ،
أَلْقَاهَا إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عُوْداً
ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيْسَى مَا قلت هذا العود.
فتناخرت بطارقته حوله، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ،
وَاللهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُم سُيُوْمٌ بأرضى -والسيوم:
الآمنون- مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي
دبرا من ذهب، وأني آذيت رجلا منكم، ردوا هداياهما فلا حاجة
لي فيها، فَوَاللهِ مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ
حِيْنَ رَدَّ عليَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيْهِ،
وَمَا أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده
مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به. قالت: فإنا على ذلك، إذ
نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا
حزنًا حزنا قط كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا
أن يظهر ذلك الرجل عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِي رَجُلٌ
لاَ يَعْرِفُ مِنْ حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. فسار
إليه النجاشي، وكان بينهما عَرْضُ النِّيْلِ، فَقَالَ
أَصْحَابُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يحضر الوقعة، ثم
يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير: أنا، فَنَفَخُوا لَهُ
قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ سبح عليها حتى
خرج إلى ناحية النيل التي بها يلتقي القوم، ثم انطلق حتى
حضرهم، ودعونا الله تعالى للنجاشي، فإنا لعلى ذلك، إذ طلع
الزبير يسعى فلمع بثوبه، وهو يقول: ألا أبشروا، فقد ظهر
النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده.
(1/236)
قال الزهري: فحدثت عروة بن الزبير هذا
الحديث فقال: هل تدري ما قوله: ما أخذ الله مني الرشوة إلى
آخره؟ قلت: لا. قال: فإن عائشة أم المؤمنين حَدَّثَتْنِي
أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَلِكَ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلَدٌ إِلاَّ النَّجَاشِيُّ، وَكَانَ لِلنَّجَاشِيِّ عم
من صلبه اثنا عشر رجلا، فقالت الحبشة: لو أنا قتلنا هذا
وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ، فَإِنَّهُ لاَ وَلَدَ لَهُ غَيْرَ
هذا الغلام، ولأخيه اثنا عشر ولدا، فتوارثوا ملكه من بعده
بقيت الحبشة بعد دَهْراً، فَعَدَوْا عَلَى أَبِي
النَّجَاشِيِّ فَقَتَلُوْهُ، وَمَلَّكُوا أخاه.
فمكثوا حينا، ونشأ النجاشي مع عمه، فكان لبيبا حازما
فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ، وَنَزَلَ مِنْهُ بِكُلِّ
مَنْزِلَةٍ، فَلَمَّا رَأَتِ الحَبَشَةُ مَكَانَهُ مِنْهُ
قَالَتْ بينها: والله لقد غلب هذا على عمه، وإنا لنتخوف أن
يملكه علينا، وإن ملك ليقتلنا بأبيه، فكلموا الملك، فقال:
ويلكم، قتلت أباه بالأمس، وأقتله اليوم! بل أخرجه من
بلادكم. قالت: فخرجوا به فباعوه لتاجر بستمائة درهم، فقذفه
في سفينة وانطلق به، حتى إذا كان آخر النهار، هاجت سحابة،
فَخَرَجَ عَمُّهُ يَسْتَمْطِرُ تَحْتَهَا، فَأَصَابَتْهُ
صَاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ، ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هو
محمق ليس في ولده خير، فمرج الأمر، فقالوا: تعلموا،
وَاللهِ أَنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لاَ يُقِيْمُ أَمْرَكُمْ
غيره للذي بعتموه غدوة.
فخرجوا في طلبه فأدركوه، وأخذوه من التاجر، ثم جاءوا بِهِ
فَعَقَدُوا عَلَيْهِ التَّاجَ، وَأَقْعَدُوْهُ عَلَى
سَرِيْرِ ملكه، فجاء التاجر فقال: مالي. قالوا: لا نعطيك
شيئا، فكلمه، فأمرهم فقال: أعطوه دراهمه أو عبده. قالوا:
بل نعطيه دراهمه، فكان ذلك أول ما خبر من عدله، رضي الله
عنه.
وروى يزيد بن رومان، عن عروة، قال: إنما كان يكلم النجاشي
عثمان بن عفان، رضي الله عنه.
أخبرنا إبراهيم بن حمد، وجماعة، قالوا: أخبرنا ابن ملاعب،
قال: حدثنا الأرموي، قال: أخبرنا جابر بن ياسين، قال:
أخبرنا المخلص، قال: حدثنا البغوي، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ أَبَانٍ، قال: حدثنا أسد بن عمرو
البجلي، عن مجالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر, عن
أبيه، قال: بعثت قريش عمرا وعمارة بهدية إلى النجاشي
ليؤذوا المهاجرين، وذكر الحديث، فقال النجاشي: أعبيد هم
لكم؟ قالوا: لا. قال: فلكم عليهم دين؟ قالوا: لا. قال:
فخلوهم فقال عمرو: إنهم يقولون في عيسى غير ما تقول فأرسل
إلينا، وكانت الدعوة الثانية أشد علينا، فقال: ما يقول
صاحبكم فِي عِيْسَى؟ قَالَ: يَقُوْلُ هُوَ رُوْحُ اللهِ
وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول. فقال: ادعوا لي فلانا القس،
وفلانا الراهب، فأتاه أناس منهم، فقال: ما تقولون في عيسى؟
قالوا: أنت أعلمنا. قال: وأخذ شيئا من
(1/237)
الأرض، فقال: ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل
هذا. ثم قال: أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم.
فنادى: من آذى أحدا منهم فأغرمه أربعة دراهم، ثم قال:
أيكفيكم؟ قلنا: لا. فأضعفها، قال: فلما ظهر النبي صلى الله
عليه وسلم وهاجر أخبرناه، قال فرودنا وحملنا، ثُمَّ قَالَ:
أَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا صَنَعْتُ إِلَيْكُم، وَأَنَا
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وأنه رسول الله،
وقل له يستغفر لي. فأتينا المدينة، فتلقاني النبي صلى الله
عليه وسلم فاعتنقني وقال: "ما أدري أنا بقدوم جعفر أفرح أم
بفتح خيبر؟ "، وقال: "اللهم اغفر للنجاشي". ثلاث مرات،
وقال المسلمون: آمين1.
__________
1 ضعيف: أخرجه الطبراني في "الكبير" "2/ 1478" من طريق أبي
كريب، قال، حدثنا أسد بن عمرو الكوفي، به.
وأورده الهيثمي في "المجمع" "6/ 30" وقال: "رواه الطبراني
من طريق أسد بن عمرو، عن مجالد وكلاهما ضعيف، وقد وثقا".
قلت: إسناده ضعيف، فيه علتان: أسد بن عمرو، أبو المنذر
البجلي، قال يزيد بن هارون: لا يحل الأخذ عنه. وقال يحيى:
كذوب ليس بشيء. وقال البخاري: ضعيف.
وقال ابن حبان: كان يسوي الحديث على مذهب أبي حنيفة.
والعلة الثانية: مجالد بن سعيد، قال النسائي: ليس بالقوي.
وقال الدارقطني: ضعيف. وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد
يضعفه.
(1/238)
إسلام ضماد:
داود بن أبي هند، عن عمرو بن سعيد، عَنْ سَعِيْدِ بنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: قدم ضماد مكة، وهو من
أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الرياح، فسمع سفهاء من سفهاء
الناس يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: آتي هذا الرجل لعل
الله أن يشفيه على يدي. قال: فلقيت محمدا فقلت: إني أرقي
من هذه الرياح، وإن الله يشفي على يدي من يشاء، فهلم. فقال
محمد: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل
له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ له". "ثلاث مرات"، وأن محمدا
عبده ورسوله، أما بعد. فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة،
وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات
ولقد بلغن قاموس البحر، فهلم يدك أبايعك على الإسلام.
فبايعه رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ له: "وعلى قومك". فقال: وعلى قومي. فَبُعِثَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَرِيَّةً، فمروا بقوم ضماد، فقال صاحب الجيش للسرية: هل
أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم مطهرة.
فقال: ردوها عليهم فإنهم قوم ضماد. أخرجه مسلم1.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "868" من طريق عبد الأعلى "وهو أبو
همام" حدثنا داود به.
(1/239)
إسلام الجن:
قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] ، وقال:
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ
رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وأنزل فيهم سورة الجن.
وقال أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قال: ما قرأ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله
صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق
عكاظ, وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم
الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا:
حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما
حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق
الأرض ومغاربها. قال: فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو
تهامة إلى رسول الله وهو بنخلة، عامدا إلى سوق عكاظ، وهو
يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له،
فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك
حين رجعوا إلى قومهم فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا
عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ
نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} ، فأنزلت: {قُلْ أُوحِيَ
إِلَيَّ} [الجن: 1] ، متفق عليه1.
ويحمل قول ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم، يعني أول
ما سمعت الجن القرآن، ثم إن داعي الجن أتى النبي صلى الله
عليه وسلم كما في خبر ابن مسعود، وابن مسعود قد حفظ
القصتين، فقال سفيان الثوري عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ، عَنْ
عَبْدِ اللهِ قال: هبطوا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة،
فلما سمعوه أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا سبعة أحدهم زوبعة،
فأنزل الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا
مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] .
وقال مسعر، عن معن، قال: حدثنا أبي، قال: سألت مسروقا: من
آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن؟ فقال:
حدثني أبوك، يعني ابن مسعود: أنه آذنته بهم شجرة. متفق
عليه2.
وقال داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، قال: قلت لابن
مسعود: هل صحب
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "773"، ومسلم "449".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3859"، ومسلم "450" "153" من طريق
أبي أسامة، عن مسعر، به.
(1/240)
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الجن منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منا أحد،
ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة، فقلنا اغتيل، استطير، ما فعل؟
فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح -أو
قال: في السحر- إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فقلنا: يا
رسول الله، فذكروا الذي كانوا فيه، فقال: "إنه أتاني داعي
الجن فأتيتهم فقرأت عليهم". فانطلق فأرانا آثارهم وآثار
نيرانهم. رواه مسلم1.
وقد جاء ما يخالف هذا، فقال عبد الله بن صالح: حدثني
الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو
عثمان بن سنة الخزاعي من أهل الشام، أنه سمع ابن مسعود
يقول: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال لأصحابه، وهو بمكة: "من أحب منكم أن يحضر
الليل أمر الجن فليفعل". فلم يحضر منهم أحد غيري حتى إذا
كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم
انطلق حتى قام، فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة، حالت
بيني وبينه، حتى سمعت ما أسمع صوته، ثم انطلقوا وطفقوا
يتقطعون مثل قطع السحاب، ذاهبين، حتى ما بقي منهم رهط،
وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فانطلق
فتبرز، ثم أتاني فقال: "ما فعل الرهط؟ " فقلت: هم أولئك يا
رسول الله، فأخذ عظما وروثا فأعطاهم إياه زادا، ثم نهى أن
يستطيب أحد بعظم أو بروث. أخرجه النسائي من حديث يونس.
وقال سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، أن ابن مسعود
أبصر زطًّا1 في بعض الطريق فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء
الزط، قال: ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن، وكانوا
مستثفرين يتبع بعضهم بعضًا. صحيح.
يقال: استثفر الرجل بثوبه، إذا أخذ ذيله من بين فخذيه إلى
حجزته فغرزه. وكذا يقال في الكلب، إذا جعل ذنبه بين فخذيه،
ومنه قوله للحائض: استثفري.
وقال عثمان بن عمرو بن فارس، عن مستمر بن الريان، عن أبي
الجوزاء، عن ابن مسعود، قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم ليلة الجن، حتى أتى الحجون فخط عليَّ خطًّا، ثم
تقدم إليهم، فازدحموا عليه، فقال سيد لهم يقال له وردان:
إني أنا أرحلهم عنك، فقال: إني لن يجيرني من الله أحد.
وقال زهير بن محمد التميمي، عن ابن المنكدر، عن جابر، قال:
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "450" "150" حدثنا محمد بن المثنى،
حدثنا عبد الأعلى، عن داود، به.
2 الزط: جنس من السودان والهند.
(1/241)
"الرحمن"، ثم قال: "ما لي أراكم سكوتًا؟
لَلْجن كانوا أحسن ردًّا منكم، ما قرأت عليهم هذه الآية من
مرة {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:
13] ، إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد".
زهير ضعيف.
وقال عَمْرُو بنُ يَحْيَى بنِ سَعِيْدِ بنِ عَمْرٍو بن
العاص، عن جده سعيد، قال: كان أبو هريرة يَتْبَعُ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإداوة لوضوئه.
فذكر الحديث، وفيه: "أتاني جن نصيبين فسألوني الزاد، فدعوت
الله لهم أن لا يمروا بروثة، ولا بعظم إلا وجدوا طعامًا".
أخرجه البخاري1. ويدخل هذا الباب في باب شجاعته صلى الله
عليه وسلم وقوة قلبه.
ومنه حديث مُحَمَّدِ بنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّ عفريتًا من الجن تفلَّتَ عليَّ البارحة ليقطع عليَّ
صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته وأردت أن أربطه إلى سارية
من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي
سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] ، فرددته
خاسئًا". وفي لفظ: "فأخذته فذغته". يعني خنقته، متفق
عليه2.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3860" حدثنا موسى بن إسماعيل،
حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "2/ 298" والبخاري "4808"، ومسلم
"541"، والبيهقي "2/ 219"، والبغوي "746" من طرق عن شعبة،
عن محمد بن زياد، به.
(1/242)
فصل: فيما ورد من هواتف الجان وأقوال
الكهان
قال ابن وهب: أخبرنا عمر بن محمد، قال: حدثني سالم بن عبد
الله، عن أبيه، قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء
قط إني لأظنه كذا، إلا كان كما يظن، فبينا عمر جالس إذ مر
به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في
الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، على الرجل، فَدُعيَ له، فقال
له عمر: لقد أخطأ ظني أو أنك على دينك في الجاهلية، أو لقد
كنت كاهنهم. فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم،
قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني. فقال: كنت كاهنهم في
الجاهلية. فقال: ما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينا أنا
جالس جاءتني أعرف فيها الفزع قالت:
ألم تر الجن وإبلاسها ... ويأسها بعد وإبلاسها
ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ... وإياسها من أنساكها
قال عمر: صدق، بينا أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل
فذبحه، فصرخ منه صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول:
لا إله إلا الله. فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما
وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا
إله إلا الله. قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، فأعاد
قوله، قال: فقمت فما نشبت أن قيل هذا نبي1. أخرجه البخاري
عن رجل عنه هكذا. وظاهره أن عمر بنفسه سمع الصارخ من
العجل، وسائر الروايات تدل على أن الكاهن هو الذي سمع.
فروى يحيى بن أيوب، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن سليمان،
عن محمد بن عبد الله بن عمرو، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، قَالَ: بَيْنَمَا رجل مار، فقال عمر: قد كنت مرة
ذا فراسة، وليس لي رئي، ألم يكن قد كان هذا الرجل ينظر
ويقول في الكهانة، ادعوه لي، فدعوه، فقال عمر: من أين
قدمت؟ قال: من الشام. قال: فأين تريد؟ قال: أردت هذا
البيت، ولم أكن أخرج حتى آتيك. قال: هل كنت تنظر في
الكهانة؟ قال: نعم. قال: فحدثني. قال: إني ذات ليلة بواد،
إذ سمعت صائحا يقول: يا جليح، خبر نجيح، رجل يصيح، يقول:
لا إله إلا الله، الجن وإياسها، والإنس وإبلاسها، والخيل
وأحلاسها، فقلت: من هذا؟ إن هذا لخبر يئست منه الجن،
وأبلست منه الإنس، وأعلمت فيه الخيل، فما حال الحول حتى
بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3866" حدثنا يحيى بن سليمان، قال
حدثني ابن وهب، به.
(1/243)
ورواه الوليد بن مزيد العذري، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بنِ يَزِيْدَ بنِ جَابِرٍ، عن ابن مسكين
الأنصاري، قال: بينا عمر جالس. وهذا منقطع. ورواه حجاج بن
أرطاة، عن مجاهد. ويروى عن ابن كثير أحد القراء، عن مجاهد
موقوفا.
ويشبه أن يكون هذا الكاهن هو سواد بن قارب المذكور في حديث
أحمد بن موسى الحمار الكوفي، قال: حدثنا زياد بن يزيد
القصري، قال: حدثنا محمد بن تراس الكوفي، قال: حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرٍ بنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عن
البراء، قال: بينا عمر يخطب إذ قال: أفيكم سواد بن قارب؟
فلم يجبه أحد تلك السنة، فلما كانت السنة المقبلة قال:
أفيكم سواد بن قارب؟ قالوا: وما سواد بن قارب؟ قال: كان
بدء إسلامه شيئا عجبا، فبينا نحن كذلك، إذ طلع سواد بن
قارب، فقال له: حدثنا ببدء إسلامك يا سواد، قال: كنت نازلا
بالهند، وكان لي رئي من الجن، فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ
جاءني في منامي ذلك، قال: قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، قد
بعث رسول من لؤي بن غالب, ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وأنجاسها ... وشدها العيس بأحلاسا
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... وآسم بعينيك إلى راسها
يا سواد! إن الله قد بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد، فلما
كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني، ثم قال:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ليس قداماها كأذنابها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى نابها
فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فأنبهني، ثم قال:
عجبت للجن وتخبارها ... وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ليس ذوو الشر كأخيارها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... ما مؤمنو الجن ككفارها
فوقع في قلبي حب الإسلام، وشددت رحلي، حَتَّى أَتَيْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا هو
بالمدينة، والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني قال: "مرحبا
بسواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك". قلت: يا رسول الله قد
قلت شعرا فاسمعه مني:
(1/244)
أتاني رئي بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما
قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك نبي من لؤي بن غالب
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت ... بي الذغلب الوجناء عند
السباسب1
فأشهد أن الله لا شيء غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين شفاعة ... إلى الله يابن الأكرمين
الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب
الذوائب
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن
قارب
فَضَحِكَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَالَ لي: "أفلحت يا سواد! " فقال له عمر: هل
يأتيك رئيك الآن؟ قال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم
العوض كتاب الله من الجن.
هذا حديث منكر بالمرة، ومحمد بن تراس وزياد مجهولان لا
تقبل روايتهما، وأخاف أن يكون موضوعا على أبي بكر بن عياش،
ولكن أصل الحديث مشهور.
وقد قال أبو يعلى الموصلي، وعلي بن شيبان: حدثنا يحيى بن
حجر الشامي، قال: حدثنا علي بن منصور الأبناوي، قال: حدثنا
أبو عبد الرحمن الوقاصي، عن محمد بن كعب القرظي، قال:
بينما عمر جالس إذ مر به رجل، فقال قائل: أتعرف هذا؟ قال:
ومن هو؟ قال: سواد بن قارب، فأرسل إليه عمر فقال: أنت سواد
بن قارب؟ قال: نعم. قال: أنت الذي أتاه رئيه بظهور
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ:
نِعْمَ. قال: فأنت على كهانتك. فغضب وقال: ما استقبلني
بهذا أحد منذ أسلمت. قال عمر: سبحان الله ما كنا عليه من
الشرك أعظم، قال: فأخبرني بإتيانك رئيك بظهور رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: بينا أنا
ذات ليلة بين النائم واليقظان، إذ أتاني فضربني برجله،
وقال: قم يا سواد بن قارب اسمع مقالتي واعقل، إن كنت تعقل،
إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى عبادة الله، ثم
ذكر الشعر قريبا مما تقدم، ثم أنشأ عمر يقول: كنا يوما في
حي من قريش يقال لهم: آل ذريح, وقد ذبحوا عجلا، والجزار
يعالجه
__________
1 الذعلب الوجناء والذعلبة: الناقة السريعة، شبهت
بالذعلبة، وهي النعامة لسرعتها. وجمع الذعلبة الذعاليب.
والسباسب والبسابس: القفار، واحدها سبسب وبسبس قاله أبو
عبيد. وقال أبو خيرة: السبسب: الأرض الجدبة.
(1/245)
إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا
هو يقول: يا آل ذريح، أمر نجيح، صائح يصيح، بلسان فصيح،
يشهد أن لا إله إلا الله.
أبو عبد الرحمن اسمه عثمان بن عبد الرحمن، متفق على تركه،
وعلي بن منصور فيه جهالة، مع أن الحديث منقطع.
وقد رواه الحسن بن سفيان، ومحمد بن عبد الوهاب الفراء، عن
بشر بن حجر أخي يحيى بن حجر، عن علي بن منصور، عن عثمان بن
عبد الرحمن، بنحوه.
وقال ابن عدي في "كامله": حدثنا الوليد بن حماد، بالرملة،
قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، قال: حدثنا الحكم بن
يعلى المحاربي، قال: حدثنا أبو معمر عباد بن عبد الصمد،
قال: سمعت سعيد بن جبير، يقول: أخبرني سواد بن قارب قال:
كنت نائما على جبل من جبال الشراة، فأتاني آت فضربني برجله
وقال: قم يا سواد أتى رسول من لؤي بن غالب، فذكر الحديث.
كذا فيه سعيد يقول: أخبرني سواد، وعباد ليس بثقة يأتي
بالطامات.
وقال معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين، قال: أول ما سمع
بالمدينة أن امرأة من أهل يثرب تدعى فطيمة، كان لها تابع
من الجن، فجاء يوما فوقع على جدارها، فقالت: ما لك لا
تدخل؟ فقال: إنه قد بعث نبي يحرم الزنى. فحدثت بذلك المرأة
عن تابعها من الجن، فكان أول خبر تحدث به بالمدينة.
وقال يحيى بن يوسف الزمي: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بنُ
عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيْلٍ،
عن جابر، قال: أول خبر قدم عن النبي صلى الله عليه وسلم
بالمدينة أن امرأة كان لها تابع، فجاء في صورة طائر حتى
وقع على حائط دراهم، فقالت له المرأة: انزل. قال: لا. إنه
قد بعث بمكة نبي يحرم الزنى، قد منع منا القرار.
في الباب عدة أحاديث عامتها واهية الأسانيد.
(1/246)
انشقاق القمر:
قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا
سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا
أَهْوَاءَهُمْ} [القمر: 1-3] ، قال: شيبان، عن قتادة، عن
أنس: إن أهل مكة سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم أن
يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين. أخرجاه1 من حديث
شيبان، لكن لم يقل البخاري مرتين.
وقال معمر، عن قتادة، عن أنس مثله، وزاد: "فانشق فرقتين".
وللبخاري نحو منه، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة. وأخرجاه من
حديث شعبة عن قتادة.
وقال ابن عيينة وغيره: عَنِ ابْنِ أَبِي نُجِيْحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنِ أبي معمر، عن ابن مسعود، قال: رأيت القمر
منشقا شقتين بمكة، قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم شقة
على أبي قبيس، وشقة على السويداء، فقالوا: سحر القمر.
لفظ عبد الرزاق، عن ابن عيينة، وأراد "قبل مخرج النبي صلى
الله عليه وسلم" يعني إلى المدينة.
أخرجاه من حديث ابن عيينة، ولفظه: انشق القمر عَلَى عَهْدِ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شقتين،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا" 2.
وأخرجاه عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش، قال: حدثنا
إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله، قال: انفلق القمر،
وَنَحْنُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم، فصارت فلقة من وراء الجبل، وفلقة دونه، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا". وأخرجاه من حديث شعبة،
عن الأعمش.
وقال أبو داود الطيالسي في "مسنده": حدثنا أبو عوانة، عن
مغيرة، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوْقٍ، عَنْ عَبْدِ
الله، قال: انشق القمر عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي
كبشة فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا
يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فجاء السفار فقالوا: ذلك صحيح.
وقال هشيم، عن مغيرة، نحوه.
وقال بَكْرُ بنُ مُضَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بنِ رَبِيْعَةَ، عن
عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4867"، ومسلم "2802".
2 صحيح: أخرجه البخاري "4864" و"4865"، ومسلم "2800".
(1/247)
ابن عتبة، عن ابن عباس أنه قال: إن القمر
انشق على زَمَانِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. متفق عليه من حديث بكر1.
وقال شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِد، عَنِ
ابْنِ عمر، في قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ} [القمر: 1] ، قال: قد كان ذلك عَلَى عَهْدِ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انشق
فلقتين، فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"اللَّهُمَّ اشهد". أخرجه مسلم2.
وقال ابراهيم بن طهمان، وهشيم، عن حصين، عن جبير بن محمد
بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: انشق القمر، ونحن
بمكة عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وكذا رواه أبو كدينة، والمفضل بن يونس، عن
حصين. ورواه محمد بن كثير، عن أخيه سليمان بن كثير، عن
حصين، عن محمد بن جبير، عن أبيه. والأول أصح.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4866"، ومسلم "2803".
2 صحيح: أخرجه مسلم "2801".
(1/248)
باب: ويسألونك عن
الروح
قال يحيى بن أبي زائدة, عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن
ابن عباس، قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه
هذا الرجل. فقالوا: سلوه عن الروح، فنزلت: {وَيَسْأَلونَكَ
عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [الإسراء: 85] ، قالوا: نحن لم
نؤت من العلم إلا قليلا؟ وقد أوتينا التوراة فيها حكم
الله، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا. قال: فنزلت:
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي}
[الكهف: 109] ، وهذا إسناد صحيح1.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، قال: حدثني رجل من أهل مكة، عَنْ
سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن مشركي
قريش، بعثوا النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار
اليهود بالمدينة، وقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم
صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ووصفوا لهم أمره ببعض قوله، فقالت لهم أحبار اليهود:
سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل.
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم، فإنه
كان لهم حديث عجب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض
ومغاربها وما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هو. فقدما مكة،
فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد،
قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فجاءوا رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يا
محمد أخبرنا، وسألوه، فقال: "أخبركم غدا"، ولم يستثن،
فانصرفوا عنه، فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في
ذلك وحيا، ولم يأته جبريل، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا:
وعدنا غدا واليوم خمس عشر. وأحزن رسول الله صلى الله عليه
وسلم مكث الوحي، ثم جاءه جبريل بسورة أصحاب الكهف فيها
معاتبته إياه على حزنه، وخبر الفتية والرجل الطواف، وقال:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي} [الإسراء: 85] 2.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "1/ 255"، والترمذي "3140"، وأبو يعلى
"2501"، والحاكم "2/ 531"، والبيهقي في "دلائل" "2/ 269"
من طريق يحيى بن أبي زائدة به.
2 ضعيف: لأجل الرجل المبهم في الإسناد.
(1/249)
وأما حديث ابن مسعود1، فيدل على أن سؤال
اليهود عن الروح كان بالمدينة.
ولعله صلى الله عليه وسلم سئل مرتين.
وقال جرير بن عبد الحميد، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ جَعْفَرِ
بنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قال: سأل أهل مكة رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي
عنهم الجبال فيزرعوا فيها. فقال الله: إن شئت آتيناهم ما
سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من كان قبلهم، وإن شئت
أن أستأني بهم. لعلنا نستحيي منهم، وأنزل الله: {وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ
بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59] ، حديث صحيح2. ورواه
سلمة بن كهيل، عن عمران، عن ابن عباس، وروي عن أيوب، عن
سعيد بن جبير.
__________
1 حديث ابن مسعود: أخرجه البخاري "4721"، ومسلم "2794"
حَدَّثَنَا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا
أبي، حدثنا الأعمش، حدثني إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ،
عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: بينما أنا أمشي مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حرث وهو متكئ على
عسيب، إذ مر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن
الروح. فقالوا: ما رابكم إليه؟ لا يستقبلكم بشيء تكرهونه.
فقالوا: سلوه. فقام إليه بعضهم فسأله عن الروح. قال: فأسكت
النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئا. فعلمت أنه
يوحى إليه, قال: فقمت مكاني. فلما نزل الوحي قال:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}
[الإسراء: 85] .
2 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه أحمد "1/ 258"، والبزار
"2225" كشف الأستار، والنسائي في "الكبرى" "11290"، وابن
جرير في "تفسيره" "15/ 108"، والحاكم "2/ 362"، والبيهقي
في "دلائل النبوة" "2/ 271" من طرق عن جرير بن عبد الحميد،
به.
(1/250)
ذكر أذية المشركين للنبي صلى الله عليه
وسلم وللمسلمين:
الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيْرٍ، قَالَ:
حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، قال: حدثني عروة، قال: سألت
عبد الله بن عمرو قلت: حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول
الله صلى الله عليه وسلم. قال: أقبل عقبة بن أبي معيط
والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة، فلوى ثوبه في
عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه، فدفعه
عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم
قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ
وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:
28] أخرجه البخاري1.
ورواه ابن إسحاق، عن يحيى بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ،
عَنْ عَبْدِ اللهِ.
ورواه سليمان بن بلال، وعبدة2، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ،
عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عمرو بن العاص. وهذه علة ظاهرة، لكن
رواه محمد بن فليح، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ أَبِيْه، عَنْ
عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، فهذا ترجيح للأول.
وقال سفيان، وشعبة، واللفظ له، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال:
سمعت عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله، قال: بينما رسول
الله صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، وثم سلى
بعير، فقالوا: من يأخذ سلى هذا الجزور فيقذفه على ظهره.
فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهره صلى الله عليه وسلم،
وجاءت فاطمة فأخذته عن ظهره، ودعت على من صنع ذلك، قال عبد
الله: فما رَأَيتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دعا عليهم إلا يومئذ فقال: "اللهم عليك الملأ من
قريش، اللهم عليك أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة
بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف" -أو أبي ابن
خلف، شك شعبة، ولم يشك سفيان أنه أمية- قال عبد الله: فقد
رأيتهم قتلوا يوم بدر وألقوا في القليب، غير أن أمية كان
رجلا بادنا، فتقطع قبل أن يبلغ به البئر. أخرجاه3 من حديث
شعبة، ومن حديث سفيان.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4815" حدثنا علي بن عبد الله،
حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الاوزاعي، به.
2 هو عبدة بن سليمان الكلابي، أبو محمد الكوفي، قيل: اسمه
عبد الرحمن، وعبدة لقب، وكلاب إخوة رؤاس من قيس عيلان،
وقال محمد بن سعد: عبدة بن سليمان بن حاجب بن زرارة بن عبد
الرحمن بن صرد بن سمير بن مليل بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي
بَكْرٍ بنِ كلاب. والذي أدرك الإسلام وأسلم صرد.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3854"، ومسلم "1794" من طريق أبي
إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، عن ابن مسعود، به.
(1/251)
وقال مسلم1: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ
عُمَرَ بنِ أَبَانٍ، قال: أخبرنا عبد الرحيم بن سليمان، عن
زكريا، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، قال:
بينما رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُصَلِّي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت
جزور بالأمس، فقال: أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلى2 جزور
فيضعه على كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقاهم3، فأخذه فوضعه
بين كتفيه، فضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض، وأنا قائم
أنظر لو كانت لي منعة طرحته، والنبي صلى الله عليه وسلم ما
يرفع رأسه، فجاءت فاطمة، وهي جويرية فطرحته عنه وسبتهم،
فلما قضى صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا
ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: "اللهم عليك بقريش"
ثلاثا، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، ثم
قال: "اللهم عليك بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن
ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي
معيط". وذكر السابع ولم أحفظه.
فوالذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر،
ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر4.
وقال زائدة، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ،
قال: إن أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سَبْعَةٌ:
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ،
وَصُهَيْبٌ، وَبِلاَلٌ، وَالمِقْدَادُ. فَأَمَّا رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللهُ
بعمه أبي طالب. وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللهُ
بِقَوْمِهِ. وَأَمَّا سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم
أدراع الحديد، وأوقفوهم في الشم، فما من أَحَدٌ إِلاَّ
وَقَدْ وَاتَاهُم عَلَى مَا أَرَادُوا غير بِلاَلٌ،
فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللهِ، وَهَانَ
عَلَى قَوْمِهِ، فَأَعْطَوْهُ الوِلْدَانَ فَجَعَلُوا
يَطُوْفُوْنَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُوْلُ:
أَحَدٌ أحد. حديث صحيح.
وقال هشام الدستوائي، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ
جَابِرٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مر بعمار وأهله، وهم يعذبون، فقال: "أبشروا آل
عمار فإن موعدكم الجنة".
وقال الثوري، عن منصور، عن مجاهد، قال: كان أول شهيد في
الإسلام أم عمار سمية، طعنها أبو جهل بحربة في قبلها.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1794" "107".
2 سلا: هو اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة
وسائر الحيوان. وهي من الآدمية المشيمة.
3 أي بعثته نفسه الخبيثة من دونه فأسرع السير، وهو عقبة بن
أبي معيط كما صرح به مسلم في الرواية الثانية "1794"
"108".
4 القليب: هي البئر التي لم تطو. وإنما ضعوا في القليب
تحقيرا لهم، ولئلا يتأذى الناس برائحتهم، وليس هو دفنا،
لأن الحربي لا يجب دفنه.
(1/252)
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ
بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ أبا بكر أعتق ممن كان
يعذب في الله سبعة، فذكر منهم الزنيرة، قال: فذهب بصرها،
وكانت ممن يعذب في الله على الإسلام، فتأبى إلا الإسلام،
فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت:
كلا والله، ما هو كذلك. فرد الله عليها بصرها.
وقال إسماعيل بن أبي خالد وغيره: حدثنا قيس، قال: سمعت
خبابا يقول: أَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد برده في ظل الكعبة، وقد
لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله؟
فقعد وهو محمر وجهه فقال: "إن كان من كان قبلكم ليمشط
أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه
ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما
يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن هذا الامر حتى يسير الراكب من
صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجل" 1. متفق عليه،
وزاد البخاري من حديث بيان بن بشر: "والذئب على غنمه".
وقال البكائي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني حكيم بن جبير، عن
سعيد بن جبير, قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون مِنْ
أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من
العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن
كانوا ليضربون أحدهم، يجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر على
أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما
سألوه من الفتنة، حتى يقولون له: اللات والعزى إلهك من دون
الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: أهذا
الجعل إلهك من دون الله، فيقول: نعم، افتداء منهم مما
يبلغون من جهده.
وحدثني الزبير بن عكاشة، أنه حدث، أن رجالا من بني مخزوم
مشوا إلى هشام بن الوليد، حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد،
وكانوا قد أجمعوا أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد أسلموا،
منهم سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، قال: فقالوا له
وخشوا "شرهم"2: إنا قد أردنا أن تعاتب هؤلاء الفتية على
هذا الدين الذي قد أحدثوا، فإنا نأمن بذلك في "غيرهم"2.
قال: هذا فعليكم به فعاتبوه، يعني أخاه الوليد، ثم إياكم
ونفسه، وقال:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3852"، وأبو داود "2649" من طريق
إسماعيل، به.
2 في الأصل: "شره"، والصواب: "شرهم"، والتصويب من سيرة ابن
هشام "1/ 226" ط. دار الحديث. وكذا وقع: "غيره"، والصواب:
"غيرهم".
(1/253)
ألا لا تقتلن أخي عييش ... فيبقى بيننا
أبدا تلاحي
احذروا على نفسه، فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم
رجلا، [قال: فقالوا: اللهم العنه، ومن يغزر بهذا الخبيث،
فوالله لو أصيب في أيدينا لقتل أشرفنا رجلا. قال: فتركوه
ونزعوا عنه] 1.
فتركوه، فكان ذلك مما دفع الله به عنه.
وقال عمرو بن دينار، فيما رواه عنه ابن عيينة: لما قدم
عمرو بن العاص من الحبشة جلس في بيته فقالوا: ما شأنه، ما
له لا يخرج؟ فقال: إن أصحمة يزعم أن صاحبكم نبي.
ويروى عن ابن إسحاق، من طريق محمد بن حميد الرازي، أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلى
النجاشي يدعوه إلى الإسلام، وذلك مع عمرو بن أمية الضمري،
وأن النجاشي كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد
رسول الله صلى الله عليه وسلم من النجاشي أصحمة بن أبجر،
سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أنك رسول
الله، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب
العالمين، وقد بعثت إليك أريحا ابني، فإني لا أملك إلا
نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت، يا رسول الله.
قال يونس، عن ابن إسحاق: كان اسم النجاشي مصحمة، وهو
بالعربية عطية، وإنما النجاشي اسم الملك، كقولك كسرى
وهرقل.
وفي حديث جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى على أصحمة النجاشي، وأما قوله:
"مصحمة" فلفظ غريب.
__________
1 ما بين المعكوفين سقط في النص، استدركناه من سيرة ابن
هشام. ط. دار الحديث "1/ 226".
(1/254)
ذكر شعب أبي طالب
والصحيفة:
قال موسى بن عقبة، عن الزهري، قال: ثم إنهم اشتدوا على
المسلمين كأشد ما كانوا، حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد
عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم علانية. فلما رأى أبو طالب عملهم جمع
بني أبيه وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم
وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا، فلما
عرفت قريش أن القوم قد منعوه أجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم
ولا يبايعوهم، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم
للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق، لا يقبلوا
من بني هاشم أبدا صلحا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه
للقتل.
فلبث بنو هاشم في شعبهم، يعني ثلاث سنين، واشتد عليهم
البلاء، وقطعوا عنهم الأسواق، وكان أبو طالب إذا نام الناس
أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فاضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد مكرا به واغتياله،
فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته فاضطجع عَلَى
فِرَاشِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فراش ذلك
فينام عليه. فلما كان رأس ثلاث سنين، تلاوم رجال من بني
عبد مناف، ومن بني قصي، ورجال أمهاتهم من نساء بني هاشم،
ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم
من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه.
وبعث الله على صحيفتهم الأرضة، فلحست كل ما كان فيها من
عهد وميثاق، ويقال: كانت معلقة في سقف البيت، فلم تترك
اسما لله إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم،
فأطلع الله رسوله على ذلك، فأخبر به أبا طالب، فقال أبو
طالب: لا والثواقب ما كذبني. فانطلق يمشي بعصابة من بني
عبد المطلب، حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش، فأنكروا
ذلك، فقال أبو طالب: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم،
فائتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها، فلعله أن يكون بيننا
وبينكم صلح. فأتوا بها وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا
وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل
واحد، جعلتموه خطرا للهلكة.
قال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف، إن
ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني، أن الله برئ من هذه
الصحيفة، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم
وقطيعتكم، فإن كان كما قال، فأفيقوا، فوالله لا نسلمه أبدا
حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي قال باطلا، دفعناه
إليكم، فرضوا وفتحوا الصحيفة، فلما رأتها قريش كالذي قال
(1/255)
أبو طالب، قالوا: والله إن كان هذا قط إلا
سحرا من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا لكفرهم، فقال بنو عبد
المطلب: إن أولى بالكذب والسحر غيرنا، فكيف ترون، وإنا
نعلم أن الذي اجتمعتم عليه قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر
من أمرنا، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد الصحيفة،
وهي في أيديكم، أفنحن السحرة أم أنتم؟ فقال أبو البختري،
ومطعم بن عدي، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة، وزمعة بن
الأسود، وهشام بن عمرو -وكانت الصحيفة عنده، وهو من بني
عامر بن لؤي- في رجال من أشرافهم: نحن برآء مما في هذه
الصحيفة. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل.
وذكر نحو هذه القصة ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي
الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.
وذكر ابن إسحاق نحوا من هذا، وقال: حدثني حسين بن عبد الله
أن أبا لهب -يعني حين فارق قومه من الشعب- لقي هندا بنت
عتبة بن ربيعة، فقال لها: هل نصرت اللات والعزى وفارقت من
فارقها؟ قالت: نعم فجزاك الله خيرا أبا عتبة.
وأقام بنو هاشم سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا، لا يصل إليهم
شيء إلا سرا مستخفى به. وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي
حكيم بن حزام بن خويلد، ومعه غلام يحمل قمحا، يريد به عمته
خديجة -رضي الله عنها- وهي في الشعب فتعلق به، وقال: أتذهب
بالطعام إلى بني هاشم، والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك
بمكة. فجاءه أبو البختري بن هشام، فقال: ما لك وله! قال:
يحمل الطعام إلى بني هاشم! قال: طعام كان لعمته عنده
أفتمنعه أن يأتيها بطعامها، خل سبيل الرجل. فأبى أبو جهل
حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ له أبو البختري لحي بعير،
فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا، وحمزة يرى ذلك، يكرهون أن
يبلغ ذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُه، فيشمتوا بهم، قال: ورسول الله صلى
الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا، سرا وجهرا.
وقال موسى بن عقبة: فلما أفسد الله الصحيفة، خَرَجَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورهطه،
فعاشوا وخالطوا الناس.
(1/256)
باب: إنا كفيناك
المستهزئين
قال الثوري، عن جعفر بن إياس، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قول الله -عز وجل: {إِنَّا
كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر: 95] ، قال:
المستهزئون: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث
الزهري، وأبو زمعة الأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد
العزى، والحارث بن عيطل السهمي، والعاص بن وائل، فأتاه
جبريل فشكاهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه، فأراه
الوليد، وأومأ جبريل إلى أبجله1 فقال: "ما صنعت"؟ قال:
كفيته. ثم أراه الأسود، فأومأ جبريل إلى عينيه، فقال: "ما
صنعت"؟ قال: كفيته. ثم أراه أبا زمعة، فأومأ إلى رأسه،
فقال: "ما صنعت"؟ قال: كفيته، ثم أراه الحارث، فأومأ إلى
رأسه أو بطنه، وقال: كفيته. ومر به العاص فأومأ إلى أخمصه،
وقال: كفيته. فأما الوليد، فمر برجل من خزاعة، وهو يريش
نبلا له فأصاب أبجله فقطعها، وأما الأسود فعمي، وأما ابن
عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث فأخذه
الماء الأصفر في بطنه، حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها،
وأما العاص فدخل في رأسله شبرقة2، حتى امتلأت فمات منها،
وقال غيره: إن ركب إلى الطائف حمارا فربظ به على شوكة،
فدخلت في أخمصه فمات منها. حديث صحيح.
__________
1 الأبجل: عرق في باطن الذراع، وهو من الفرس والبعير
بمنزلة الأكحل من الإنسان وقيل: هو عرق غليظ في الرجل فيما
بين العصب والعظم.
2 شبرقة: الشبرق: نبت حجازي يؤكل وله شوك، وإذا يبس سمي
الضريع.
(1/257)
دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على
قريش بالسِّنَة:
قال الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوْقٍ،
قَالَ: بينما رجل يحدث في المسجد، إذ قال فيما يقول:
{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ، قال:
دخان يكون يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم،
ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكمة، فقمنا فدخلنا على عبد
الله بن مسعود فأخبرناه، فقال: أيها الناس من علم منكم
علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، إن من العلم
أن يقول العالم لما لا يعلم الله أعلم، قال الله لرسوله:
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا
مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] . وسأحدثكم عن الدخان: إن
قريشا لما استعصت عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبطئوا عن الإسلام قال: "اللهم أعني
عليهم بسبع كسبع يوسف". فأصابتهم سنة فحصت كل شيء حتى
أكلوا الجيف والميتة، حتى إن أحدهم كان يرى ما بينه وبين
السماء كهيئة الدخان من الجوع، ثم دعوا فكشف عنهم، يعني
قولهم: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا
مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] ، ثم قرأ عبد الله: {إِنَّا
كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}
[الدخان: 15] ، قال: فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم بدر
{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] ،
قال عبد الله: يوم بدر فانتقم منهم. متفق عليه1.
وقال علي بن ثابت الدهان -وقد توفي سنة تسع عشرة ومائتين:
أخبرنا أسباط بن نصر، عن منصور، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ
مَسْرُوْقٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قال: لما رَأَى رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الناس إدبارا
قال: "اللهم سبع كسبع يوسف". فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة
والجلود والعظام، فجاءه أبو سفيان وغيره، فقال: إنك تزعم
أنك بعثت رحمة، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فدعا
فسقوا الغيث.
قال ابن مسعود: مضت آية الدخان، وهو الجوع الذي أصابهم،
وآية الروم، والبطشة الكبرى، وانشقاق القمر. وأخرجا من
حديث الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوْقٍ،
قَالَ عبد الله: خمس قد مضين: اللزام2، والروم، والدخان،
والقمر، والبطشة3.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4822"، ومسلم "2798" من طريق
الأعمش به.
2 اللزام: الفيصل جدا. وقوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ
فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77] ، أي: عذابا
لازما لكم؛ قال الزجاج: قال أبو عبيدة: فيصلا. قالوا: وهو
ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر، وهي البطشة الكبرى.
3 صحيح: أخرجه مسلم "2798" "41".
(1/258)
وقال أيوب وغيره، عن عكرمة، عن ابن عباس،
قال: جاء أبو سفيان إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستغيث من الجوع، لأنهم لم يجدوا شيئا،
حتى أكلوا العِلهز1 بالدم، فنزلت: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ
بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا
يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] .
__________
1 العلهز: هو شيء يتخذونه في سني المجاعة، يخلطون الدم
بأوبار الإبل ثم يشوونه بالنار ويأكلونه. وقيل غير ذلك.
(1/259)
ذكر الروم:
وقال أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة،
عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال:
كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل
كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم، لأنهم
أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر، فذكره للنبي صلى
الله عليه وسلم فقال: "أما إنهم سيظهرون". فذكر أبو بكر
لهم ذلك، فقالوا: اجعل بيننا وبينكم أجلا، فجعل بينهم أجلَ
خمسِ سنين فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر لِرَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "ألا جعلته
-أراه قال- دون العشرة"، قال: فظهرت الروم بعد ذلك. فذلك
قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ
وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ
سِنِينَ} [الروم: 2-4] .
قال سفيان الثوري: وسمعت أنهم ظهروا يوم بدر.
وقال الحسين بن الحسن بن عطية العوفي: حدثني أبي، عن جدي،
عن ابن عباس: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1، 2] قال: قد
مضى ذلك وغلبتهم فارس، ثم غلبتهم الروم بعد ذلك، ولقي نبي
الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب، والتقت الروم وفارس،
فنصر الله النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين، ونصر
الروم على مشركي العجم، ففرح المؤمنون بنصر الله إياهم
ونصر أهل الكتاب.
قال عطية: فسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك، فقال: التقينا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن ومشركو العرب، والتقت
الروم وفارس، فنصرنا الله على المشركين، ونصر الله أهل
الكتاب على المجوس، ففرحنا بنصرنا ونصرهم1.
وقال الليث: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قَالَ: أَخْبَرَنِي
عُبَيْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، قال: لما
نزلت هاتان الآيتان -يعني أول الروم- ناحب أبو بكر بعض
المشركين -يعني راهن قبل أن يحرم القمار- على شيء، إن لم
تغلب فارس في سبع سنين، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لم فعلت؟ فكل ما دون العشر بضع". فكان ظهور فارس
على الروم في سبع
__________
1 ضعيف: أخرجه الترمذي "2935" و"3192" من طريق المعتمر بن
سليمان، عن أبيه، عن سليمان الأعمش، عن عطية، به.
وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
قلت: إسناده ضعيف، آفته عطية العوفي، فإنه ضعيف.
(1/260)
سنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لم فعلت"؟ فكان ظهور فارس على الروم في تسع سنين، ثم أظهر
الله الروم عليهم زمن الحديبية، ففرح بذلك المسلمون.
وقال ابن أبي عروبة، عن قتادة {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}
[الروم: 3] ، قال: غلبهم أهل فارس على أدنى الشام، قال:
فصدق المسلمون ربهم، وعرفوا أن الروم سيظهرون بعد،
فاقتمروا هم والمشركون على خمس قلائص، وأجلوا بينهم خمس
سنين، فولي قمار المسلمين أبو بكر، وولي قمار المشركين أبي
بن خلف، وذلك قبل أن ينهى عن القمار، فجاء الأجل، ولم تظهر
الروم، فسأل المشركون قمارهم، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ألم تكونوا أحقاء أن تؤجلوا أجلا دون العشر،
فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر, فزايدوهم ومدوهم في
الأجل". ففعلوا، فأظهر الله الروم عند رأس السبع من قمارهم
الأول، وكان ذلك مرجعهم من الحديبية، وفرح المسلمون بذلك.
وقال الوليد بن مسلم: حدثنا أسيد الكلابي، أنه سمع العلاء
بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه، قال: رأيت غلبة فارس
الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين
فارس والروم، وظهورهم على الشام والعراق، كل ذلك في خمس
عشرة سنة.
(1/261)
ثم توفي عمه أبو
طالب وزوجته خديجة:
يقال في قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ
وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26] أنها نزلت
في أبي طالب ونزل فيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] .
قال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن عباس
يقول في قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قال: نزلت
في أبي طالب، كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم وينأى عنه.
ورواه حمزة الزيات، عن حبيب، فقال: عَنْ سَعِيْدِ بنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وقال مَعْمَرٌ، عَنِ الزُهْرِيِّ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ
المُسَيِّبِ، عَنْ أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة
دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل،
وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا عم قل:
لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله". فقالا: أي أبا
طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب! قال: فكان آخر كلمة أن
قال: على ملة عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". فنزلت: {مَا كَانَ
لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113، 114] الآيتين، ونزلت:
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] ، أخرجه
مسلم1.
وللبخاري مثله من حديث شعيب بن أبي حمزة.
وقد حكى عن أبي طالب، واسمه عبد مناف، ابنه علي، وأبو
رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
ابن عون، عن عمرو بن سعيد، أن أبا طالب، قال: كنت بذي
المجاز مع ابن أخي، فعطشت، فشكوت إليه، فأهوى بعقبه إلى
الأرض، فنبع الماء فشربت.
وعن بعض التابعين، قال: لم يكن أحد يسود في الجاهلية إلا
بمال، إلا أبو طالب وعتبة بن ربيعة.
قلت: ولأبي طالب شعر جيد مدون في السيرة وغيرها.
وفي "مسند أحمد" من حديث يَحْيَى بنُ سَلَمَةَ بنِ
كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عن حبة العرني، قال: رأيت عليا
ضحك على المنبر حتى بدت نواجذه، ثم ذكر قول أبي طالب، ظهر
علينا أبو
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4675"، ومسلم "24".
(1/262)
طالب وَأَنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نصلي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان
يابن أخي؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام
فقال: ما بالذي تصنعان من بأس، ولكن الله لا تعلوني استى
أبدا، فضحكت تعجبا من قول أبي1.
وروى معتمر بن سليمان، عن أبيه أن قريشا أظهروا لبني عبد
المطلب العداوة والشتم، فجمع أبو طالب رهطه، فقاموا بين
أستار الكعبة يدعون الله على من ظلمهم، وقال أبو طالب: إن
أبى قومنا إلا البغي علينا فعجل نصرنا، وحل بينهم، وبين
الذي يريدون من قتل ابن أخي، ثم دخل بآله الشعب.
ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض
أهله، عن ابن عباس، قال: لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم
أبا طالب قال: "أي عم، قل: لا إله إلا الله أستحل لك بها
الشفاعة". قال: يابن أخي، والله لولا أن تكون سبة على أهل
بيتك، يرون أني قلتها جزعا من الموت، لقلتها، لا أقولها
إلا لأسرك بها، فلما ثقل أبو طالب رؤي يحرك شفتيه، فأصغى
إليه أخوه العباس ثم رفع عنه فقال: يا رسول الله! قد والله
قالها، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لم أسمع".
قلت: هذا لا يصح، ولو كان سمعه العباس يقولها لما سأل
النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هل نفعت عمك بشيء، ولما
قال علي بعد موته، يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد
مات. صح أن عمرو بن دينار روى عن أبي سعيد بن رافع، قال:
سألت ابن عمر: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}
[القصص: 56] ، نزلت في أبي طالب؟ قال: نعم.
زيد بن الحباب، قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن إسحاق بن عبد
الله بن الحارث، عن العباس، أنه سأل النبي صلى الله عليه
وسلم ما ترجو لأبي طالب؟ قال: "كل الخير من ربي".
أيوب، عن ابن سيرين، قال: لما اختصر أبو طالب دعا النبي
صلى الله عليه وسلم، قال: يابن أخي إذا أنا مت فأت
أَخْوَالَكَ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَإِنَّهُم أَمنَعُ
النَّاسِ لما في بيوتهم.
قال عروة بن الزبير: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زالت قريش كاعة عني حتى مات عمي.
كاعة: جمع كائع، وهو الجبان، يقال: كع: إذا جبن وانقبض.
__________
1 ضعيف جدا: أخرجه الطيالسي "188"، وأحمد "1/ 99"، والبزار
"751"، وأبو يعلى "447" من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، به.
قلت: إسناده ضعيف جدا، فيه علتان: الأولى: يحيى بن سلمة بن
كهيل، متروك الحديث، وفي حديثه عن أبيه مناكير. والعلة
الثانية: حبة العرني، ضعيف.
(1/263)
وقال يزيد بن كيسان: حدثني أبو حَازِمٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لعمه: "قل: لا إله إلا الله
أشهد لك بها يوم القيامة". فقال: لولا أن تعيرني قريش،
يقولون: إنما حمله عليه الجزع لأقررت بها عينك. فأنزل
الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية. أخرجه
مسلم1.
وقال أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ،
عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ الحَارِثِ بنِ نَوْفَلٍ، عَنْ
العباس أنه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه
كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "نعم. هو في ضحضاح من النار،
ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" 2. أخرجاه وكذلك
رواه السفيانان، عن عبد الملك.
وقال الليث، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي
سعيد الخدري، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يقول -وذكر عنده عمه أبو طالب
فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من
النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه" 3. أخرجاه.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي
عثمان، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أهون أهل النار عذابا
أبو طالب منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه". مسلم4.
وقال الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا مات أبو طالب
أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ:
إِنَّ عَمَّكَ الشيخ الضال قد مات. قال: "اذهب فوار أباك
ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني". فأتيته فأمرني فاغتسلت، ثم
دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء5.
ورواه الطيالسي في "مسنده" عن شعبة.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "25".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3883"، ومسلم "209" "357" من طريق
عبد الملك بن عمير، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3885"، ومسلم "210" "360" من طريق
ليث، به.
4 صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة "13/ 157-158"، وأحمد "1/
290"، ومسلم "212"، وأبو عوانة "1/ 98"، والحاكم "4/ 581"،
والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 348" من طرق عن حماد بن
سلمة، به.
5 ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة "3/ 269"، "12/ 67"، وأحمد "1/
131"، وابن سعد "1/ 124"، وأبو داود "3214"، والنسائي في
"المجتبى" "4/ 79"، وفي "الكبرى" "195"، وفي "الخصائص"
"149"، والدارقطني في "العلل" "4/ 146"، والبيهقي في
"السنن" "3/ 398"، وفي "الدلائل" "2/ 348-349" من طرق عن
سفيان الثوري، به.
(1/264)
عن أبي إسحاق فزاد بعد اذهب فواره: "فقلت:
إنه مات مشركا" قال: "اذهب فواره" وفي حديث تصريح السماع
من ناجية قال: شهدت عليا يقول: وهذا حديث حسن متصل.
وقال عبد الله بن إدريس: حدثنا محمد بن إسحاق، عمن حدثه،
عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن جعفر، قال: لما مات أبو
طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من قريش،
فألقى عليه ترابا، فرجع إلى بيته، فأتت بنته تمسح عن وجهه
التراب وتبكي فجعل يقول: "أي بنية لا تبكين، فإن الله مانع
أباك"، ويقول ما بين ذلك: "ما نالت مني قريش شيئا أكرهه
حتى مات أبو طالب". غريب مرسل.
وروي عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عارض جنازة أبي طالب، فقال: "وصلتك رحم يا عم
وجزيت خيرا" تفرد به إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي.
وهو منكر الحديث يروي عنه عيسى غنجار، والفضل السيناني.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن
ابن عباس، قال: لما أُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا طالب في مرضه قال: "أي عم، قل: لا
إله إلا الله أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة". فقال:
يابن أخي والله لولا أن تكون سبة عليك وعلى أهل بيتك من
بعدي يرون أني قلتها جزعا حين نزل بي الموت لقلتها، لا
أقولها إلا لأسرك بها، فلما ثقل أبو طالب رؤي يحرك شفتيه،
فأصغى إليه العباس ليستمع قوله، فرفع العباس عنه، فقال: يا
رسول الله، قد والله قال الكلمة التي سألته، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "لم أسمع".
إسناده ضعيف لأن فيه مجهولا، وأيضا، فكان العباس ذلك الوقت
على جاهليته، ولهذا إن صح الحديث لم يقبل النبي صلى الله
عليه وسلم روايته وقال له: لم أسمع، وقد تقدم أنه بعد
إسلامه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان
يحوطك ويغضب لك، فلو كان العباس عنده علم من إسلام أخيه
أبي طالب لما قال هذا، ولما سكت عند قول النبي صلى الله
عليه وسلم: "هو في ضحضاح من النار"، ولقال: إني سمعته
يقول: لا إله إلا الله، ولكن الرافضة قوم بهت.
__________
= وأخرجه الشافعي في "مسنده" "1/ 207"، والطيالسي "120"،
وأحمد "1/ 97"، والنسائي "1/ 110"، وابن الجارود "550"،
والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 248" من طريق شعبة، عن أبي
إسحاق، به.
قلت: إسناده ضعيف، فيه علتان: الأولى: أبو إسحاق، هو
السبيعي، مدلس، مشهور بالتدليس، وقد عنعنه. الثانية: ناجية
بن كعب، هو الأسدي، مجهول.
(1/265)
وقال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد رضي
الله عنها وأبا طالب ماتا في عام واحد فتتابعت عَلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصائب
بهلاكهما.
وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام، كان يسكن إليها.
وذكر الواقدي أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين،
وأنهما توفيا في ذلك العام، وتوفيت خديجة قبل أبي طالب
بخمسة وثلاثين يوما.
وذكر أبو عبد الله الحاكم أن موتها كان بعد موت أبي طالب
بثلاثة أيام، وكذا قال غيره.
وهي خديجة بنت خُوَيْلِدِ بنِ أَسَدِ بنِ عَبْدِ العُزَّى
بنِ قصي الأسدية.
قال الزبير بن بكار: كانت تدعى في الجاهلية الطاهرة، وأمها
فاطمة بنت زائدة بن الأصم العامرية. وكانت خديجة تحت أبي
هالة بن زرارة التميمي، واختلف في اسم أبي هالة، ثم خلف
عليها بعده عتيق بن عائذ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ
مَخْزُوْمٍ، ثم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن إسحاق: بل تزوجها أبو هالة بعد عتيق. وكانت وزيرة
صدق على الإسلام.
وعن عَائِشَةَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ خَدِيْجَةُ قَبْلَ
أَنْ تُفْرَضَ الصلاة، وقيل: كان موتها في رمضان، ودفنت
بالحجون، وقيل: إنها عاشت خمسا وستين سنة.
وقال الزبير: تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها أربعون
سنة، وأقامت معه أربعا وعشرين سنة.
قال مروان بن معاوية الفزاري، عَنْ وَائِلِ بنِ دَاوُدَ،
عَنْ عَبْدِ اللهِ البَهِيِّ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ:
كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا كان
خَدِيْجَةَ لَمْ يَكَدْ يَسْأَمُ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَيْهَا،
واستغفار لها، فذكرها يوما، فاحتملتني الغَيْرَةُ،
فَقُلْتُ: لَقَدْ عَوَّضَكَ اللهُ مِنْ كَبِيْرَةِ السن،
فَرَأَيْتُهُ غَضِبَ غَضَباً أُسْقِطْتُ فِي خَلَدَي،
وَقُلْتُ في نفسي: اللهم إنك إِنْ أَذْهَبْتَ غَضَبَ
رَسُوْلِكَ عَنِّي لَمْ أَعُدْ إلى ذكرها بِسُوْءٍ،
فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا لَقِيْتُ قَالَ: "كَيْفَ قُلْتِ! وَاللهِ
لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وآوتني إذ رفضني الناس،
وصدقتني إذ كذبني النَّاسُ، وَرُزِقْتُ مِنْهَا الوَلَدَ،
وَحُرِمْتُمُوْهُ مِنِّي". قَالَتْ: فغدا وراح عليَّ بها
شهرا.
وقال هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ
عَائِشَةَ، قالت: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ
عَلَى خَدِيْجَةَ، مِمَّا كُنْتُ أَسْمَعُ مِنْ ذِكْرِ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا،
وَمَا تَزَوَّجَنِي إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهَا بِثَلاَثِ
(1/266)
سِنِيْنَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ
يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ
صَخَبَ فِيْهِ ولا نصب1.
متفق عليه.
وقال الزهري: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة2.
وقال ابن فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ،
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُوْلُ: أَتَى جِبْرِيْلُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
هَذِهِ خَدِيْجَةُ، أَتَتْكَ معها إناء فيه إدام طَعَامٌ
أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا
السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ
فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيْهِ ولا نصب3.
متفق عليه.
وقال عبد الله بن جعفر: سمعت عليا رضي الله عنه يَقُوْلُ:
سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: "خَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ
خُوَيْلِدٍ، وخير نسائها مريم بنت عمران" 4. أخرجه مسلم.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3816"، ومسلم "2435".
2 ضعيف جدا: لإعضاله، فبين الزهري وخديجة رضي الله عنها
مفاوز تنقطع دونها أعناق المطي.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3820"، ومسلم "2432".
4 صحيح: أخرجه البخاري "3815"، ومسلم "2430".
(1/267)
ذكر الاسراء برسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَسْجِدِ الأقصى:
قال موسى بن عقبة، عن الزهري: أسري برسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى بيت المقدس قبل الهجرة بسنة.
وكذا قال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ.
وقال أبو إسماعيل الترمذي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن
العلاء بن الضحاك الزبيدي بن زبريق، قال: حدثا عمرو بن
الحارث، عن عبد الله بن سالم، عن الزبيدي محمد بن الوليد،
قال: حدثنا الوليد بن عبد الرحمن، أن جبير بن نفير قال:
حدثنا شداد بن أوس، قال: قلنا يا رسول الله كيف أسري بك؟
قال: "صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتما، فأتاني جبريل
بدابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل، فقال: اركب، فاستصعب
عليّ، فرازها1 بأذنها، ثم حملني عليها، فانطلقت تهوي بنا،
يقع حافرها حيث أدرك طرفها، حتى بلغنا أرضا ذات نخل،
فأنزلني فقال: صل. فصليت، ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟
قلت: الله أعلم. قال: صليت بيثرب، صليت بطيبة. فانطلقت
تهوي بنا، يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم بلغنا أرضا،
فقال: انزل فصل. ففعلت، ثم ركبنا. قال: أتدري أين صليت؟
قلت: الله أعلم. قال صليت بمدين عند شجرة موسى -عليه
السلام- ثم انطلقت تهوي بنا، يقع حافرها حيث أدرك طرفها،
ثم بلغنا أرضا بدت لنا قصور، فقال: انزل، فصليت وركبنا.
فقال لي: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى. ثم انطلق بي حتى
دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد فربط
فيه دابته، ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر،
فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما
أخذني، فأتيت بإناءين لبن وعسل، أرسل إليَّ بهما جميعا،
فعدلت بينهما، ثم هداني الله فأخذت اللبن، فشربت حتى قرعت2
به جبيني، وبين يدي شيخ متكئ على مثراة له، فقال: أخذ
صاحبك الفطرة إنه ليهدى. ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي
الذي في المدينة فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابي"3. قلت:
يا رسول الله، كيف وجدتها؟ قال: "مثل الحمأة4 السخنة. ثم
انصرف بي، فمررنا بعير لقريش،
__________
1 رازها: أي اختبرها.
2 قرعت: أي ضربه، يعني أنه شرب جميع ما فيه.
3 الزرابي: واحدتها الزربية: وهي الطنفسة، وقيل: البساط ذو
الخمل. وتكسر زايها وتفتح وتضم.
4 الحمأة والحمأ: اللين الأسود المنتن. قال أبو عبيدة:
واحدة الحمإ حمأة كقصبة، واحدة القصب.
(1/268)
بمكان كذا وكذا، قد ضلوا بعيرا لهم، قد
جمعه فلان، فسلمت عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمد. ثم
أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة، فأتاني أبو بكر فقال: أين كنت
الليلة، فقد التمستك في مظانك؟ قلت: علمت أني أتيت بيت
المقدس الليلة، فقال: يا رسول الله إنه مسيرة شهر، فصفه
لي. قال: ففتح لي صراط كأني أنظر إليه، لا يسألني عن شيء
إلا أنبأته عنه. قال: أشهد أنك رسول الله. فقال المشركون:
انظروا إلى ابن أبي كبشة، يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة.
فقال: إني مررت بعير لكم، بمكان كذا، وقد أضلوا بعيرا لهم،
فجمعه فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا، ثم كذا، ويأتونكم يوم
كذا، يقدمهم جمل آدم، عليه مسح أسود، وغرارتان سوداوان.
فلما كان اليوم، أشرف الناس ينظرون حتى كان قريبا من نصف
النهار، حين أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل"1.
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح.
قلت: ابن زبريق تكلم فيه النسائي. وقال أبو حاتم: شيخ.
قال حماد بن سلمة: حدثنا أبو حمزة، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ،
عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ، أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "أتيت
بالبراق فركبته خلف جبريل، فسار بنا، فكان إذا أتى على جبل
ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه، فسار بنا في أرض
فيحاء طيبة، فأتينا على رجل قائم يصلي، فقال: من هذا معك
يا جبريل؟ قال: أخوك محمد، فرحب ودعا بالبركة، وقال: سل
لأمتك اليسر". ثم سار, فذكر أنه مر على موسى وعيسى، قال:
"ثم أتينا على مصابيح فقلت: ما هذا؟ قال: هذه شجرة أبيك
إبراهيم، تحب أن تدنو منها؟ قلت: نعم. فدنونا منها، فرحب
بي، ثم مضينا حتى أتينا بيت المقدس, ونشر لي الأنبياء من
سمى الله ومن لم يسم، وصليت بهم إلا هؤلاء النفر الثلاثة:
موسى، وعيسى، وإبراهيم، فربطت الدابة بالحلقة التي تربط
بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فقربت لي الأنبياء، من سمى
الله منهم، ومن لم يسم، فصليت بهم".
هذا حديث غريب، وأبو حمزة هو ميمون، ضعف.
وقال يُوْنُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ
المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُتِيَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
1 ضعيف: أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 357"، وآفته
إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيري الحمصي، قال أبو داود:
ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. وكذبه محدث حمص محمد بن
عوف الطائي.
(1/269)
ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن،
فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي
هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك. متفق عليه1.
قرأت على القاضي سليمان بن حمزة، أخبركم محمد بن عبد
الواحد الحافظ, قال: أخبرنا الفضل بن الحسين، قال: أخبرنا
علي بن الحسن الموازيني، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن،
قال: أخبرنا يوسف القاضي, قال: أخبرنا أبو يعلى التميمي،
قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الوساوسي, قال: حدثنا ضمرة، عن
يحيى بن أبي عمرو الشيباني، عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن
أم هانئ، قَالَتْ: دَخَلَ عليَّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغَلَس2 وأنا على فراشي فقال:
"شعرت أني نمت الليلة في المسجد الحرام، فأتى جبريل فذهب
بي إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض، فوق الحمار، ودون
البغل، مضطرب الأذنين, فركبته، وكان يضع حافره مد بصره،
إذا أخذ بي في هبوط طالت يداه، وقصرت رجلاه، وإذا أخذ بي
في صعود طالت رجلاه وقصرت يداه، وجبريل لا يفوتني، حتى
انتهينا إلى بيت المقدس، فأوثقه بالحلقة التي كانت
الأنبياء توثق بها، فنشر لي رهط من الأنبياء، فيهم
إبراهيم، وموسى، وعيسى، فصليت بهم وكلمتهم، وأتيت بإناءين
أحمر وأبيض، فشربت الأبيض فقال لي جبريل: شربت اللبن وتركت
الخمر، لو شربت الخمر لارتدت أمتك. ثم ركبته إلى المسجد
الحرام، فصليت به الغداة". قالت: فتعلقت بردائه، وقلت:
أنشدك الله يابن عم أن تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك.
فضرب بيده على ردائه فانتزعه من يدي، فارتفع عن بطنه،
فنظرت إلى عكنه فوق إزاره وكأنه طي القراطيس، وإذا نور
ساطع عند فؤاده، يكاد يختطف بصري، فخررت ساجدة، فلما رفعت
رأسي إذا هو قد خرج، فقلت لجاريتي نبعة: ويحك اتبعيه
فانظري. فلما رجعت أخبرتني أنه انتهى إلى قريش في الحطيم،
فيهم المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة،
فقص عليهم مسراه، فقال عمرو كالمستهزئ: صفهم لي. قال: "أما
عيسى ففوق الربعة، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد الشعر،
تعلوه صهبة، كأنه عروة بن مسعود الثقفي، وأما موسى فضخم،
آدم، طوال، كأنه من رجال شنوءة كثير الشعر، غائر العينين،
متراكب الأسنان، مقلص الشفتين، خارج اللثة، عابس، وأما
إبراهيم، فوالله لأشبه الناس بي خَلْقا وخُلُقا". فضجوا
وأعظموا ذلك، فقال المطعم: كل
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3394" و"4709" و"5576"، ومسلم
"168"، والنسائي "8/ 312"، والبيهقي في "السنن" "8/ 286"،
وفي "دلائل النبوة" "2/ 357" من طرق عن الزهري، به.
2 الغلس: ظلام آخر الليل.
(1/270)
أمرك كان قبل اليوم أممًا، غير قولك اليوم،
أنا أشهد أنك كاذب! نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس
شهرا، أتيته في ليلة!
وذكر باقي الحديث، وهو حديث غريب، الوساوسي ضعيف تفرد به.
وقال مسلم: حدثنا محمد بن رافع، قال: حدثنا حجين بن
المثنى، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ أَبِي
سَلَمَةَ، عَنْ عبد الله بن الفضل الهاشمي، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لقد رأيتني في
الحجر، وقريش تسألني عن مسراي، فسألوني عن أشياء من بيت
المقدس لم أثبتها، فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه الله
لي، أنظر إليه، ما يسألونني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد
رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي فإذا
رجل ضرب جعد، كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم قائم
يصلي, أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا
إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم -يعني نفسه- فحانت
الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل: يا محمد
هذا مالك صاحب النار، فسلم عليه, فالتفت إليه, فبدأني
بالسلام" 1.
وقد رواه أبو سلمة أيضا، عن جابر مختصرا.
قال الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة،
قال: سمعت جابر بن عبد الله يحدث، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يقول: "لما كذبتني
قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم
عن آياته، وأنا أنظر إليه". أخرجاه2.
وقال إِبْرَاهِيْمَ بنِ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بنِ
كَيْسَانَ، عن ابن شهاب: سمعت ابن المسيب يقول: أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين
انتهى إلى بيت المقدس لقي فيه إبراهيم وموسى، وعيسى، ثم
أخبر أنه أسري به، فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه.
وذكر الحديث وهذا مرسل.
وقال محمد بن كثير المصِّيصي: حدثنا مَعْمر، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى،
أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن آمن، وسعوا إلى أبي
بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "172" "278" حدثني زهير بن حرب، حدثنا
حجين بن المثنى، به.
2 صحيح: أخرجه عبد الرزاق "5/ 329"، وأحمد "3/ 377
و377-378"، والبخاري "3886" و"4710"، ومسلم "170"،
والترمذي "3132"، وأبو عوانة "1/ 124 و125 و131", وابن
منده "738" و"739"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "2/ 359"،
والبغوي "3762" من طريق الزهري، به.
(1/271)
بيت المقدس! قال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم.
قال: لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا: وتصدقه! قال: نعم إني
لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو
روحة. فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
وقال معتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه، سمع أنسا يقول:
حدثني بعض أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ به مر على موسى وهو يصلي في
قبره. وذكر الحديث.
وقال عبد العزيز بن عمران بن مقلاص الفقيه، ويونس،
وغيرهما: حدثنا ابن وهب قال: حدثني يعقوب بن عبد الرحمن
الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بنِ هَاشِمِ بنِ عُتْبَةَ
بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عن أنس بن مالك، قال: لما جاء جبريل
-عليه السلام- إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبراق، كأنها أمرت ذنبها، فقال لها
جبريل: مه يا براق! فوالله إن ركبك مثله. وسار رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هو
بعجوز على جانب الطريق، فقال: "ما هذه يا جبريل؟ " قال له:
سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير فإذا شيء يدعوه
متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد، فقال جبريل: سر يا
محمد. فسار ما شاء الله أن يسير، قال: فلقيه خلق من الخلق
فقالوا: السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر فرد
السلام، فانتهى إلى بيت المقدس، فعرض عليه الماء، والخمر،
واللبن، فتناول اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو
شربت الماء لغرقت أمتك وغرقت، ولو شربت الخمر لغويت وغوت
أمتك. ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء، فأمهم رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الليلة،
ثم قال له جبريل: أما العجوز فلم يبق من الدنيا إلى ما بقي
من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه، فذاك عدو
الله إبليس، أراد أن تميل إليه، وأما الذين سلموا عليك
فإبراهيم، وموسى، وعيسى.
أنبئنا عن ابن كليب، عن ابن بيان، قال: أخبرنا بشر ابن
القاضي، قال: حدثنا محمد بن الحسن اليقطيني، قال: أخبرنا
محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدثنا أبو عمر ابن النحاس،
قال: حدثنا الوليد، قال: حدثني الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ
يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيْرٍ، عَنْ أَبِي سلمة قال: رؤي
عبادة بن الصامت على حائط بيت المقدس يبكي فقيل: ما يبكيك؟
فقال: من ههنا حدثنا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رأى ملكا يقلب جمرا كالقطف.
إسناده جيد.
وقال النضر بن شميل، وروح، وغندر: أخبرنا عوف، قال: حدثنا
زرارة بن أوفى، قال: قال ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لما كانت ليلة
أسري بي، ثم أصبحت بمكة، فظعت بأمري، وعلمت بأن الناس
يكذبوني". قال: فقعد معتزلا حزينا، فمر به أبو جهل، فجاء
فجلس فقال كالمستهزئ: هل كان من شَيْءٌ؟ فَقَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "نعم". قال: ما
(1/272)
هو؟ قال: "إني أسري بي الليلة" قال: إلى
أين؟ قال: "إلى بيت المقدس". قال: ثم أصبحت بين أظهرنا!
قال: "نعم". قال: فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث،
فدعا قومه، فقال: أرأيت إن دعوت إليك قومك أتحدثهم بما
حدثتني؟ قال: "نعم". فدعا قومه فقال: يا معشر بني كعب بن
لؤي هلم، فانتقضت المجالس، فجاءوا حتى جلسوا إليهما، فقال:
حدثهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أسري بي
الليلة". قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس". قالوا:
ثم أصبحت بين ظهرينا! قال: "نعم". قال: فمن بين مصفر وواضع
يده على رأسه مستعجب للكذب، زعم, قال: وفي القوم من قد
سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد فقال: هل تستطيع أن تنعت
لنا المسجد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذهبت
أنعت، فما زلت حتى التبس علي بعض النعت"، قال: فجيء
بالمسجد حتى وضع دون دار عقيل أو عقال قال: فنعته وأنا
أنظر إليه. فقالوا: أما النعت فقد والله أصاب ورواه هوذة،
عن عوف.
مسلم بن إبراهيم: قال: حدثنا الحارث بن عبيد، قال: حدثنا
أبو عمران، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "بينما أنا قاعد ذات يوم،
إذا دخل جبريل، فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة فيها مثل
وكري الطائر، فقعد في واحدة، وقعدت في أخرى، فارتفعت حتى
سدت الخافقين، فلو شئت أن أمس السماء لمسست، وأنا أقلب
طرفي فالتفت إلى جبريل، فإذا هو لاطئ، فعرفت فضل علمه
بالله، وفتح لي باب السماء ورأيت النور الأعظم، ثم أوحى
الله إليَّ ما شاء أن يوحى".
إسناده جيد حسن، والحارث من رجال مسلم.
سعيد بن منصور: حدثنا أبو معشر، عن أبي وهب مَوْلَى أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَيْلَةَ أسري به، قال: "يا جبريل إن قومي لا يصدقوني"
قال: يصدقك أبو بكر وهو الصديق.
رواه إسحاق بن سليمان، عن يزيد بن هارون، قال: أخبرنا
مسعر، عن أبي وهب هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس،
قال: فحدثهم صلى الله عليه وسلم بعلامة بيت المقدس،
فارتدوا كفارا، فضرب الله رقابهم مع أبي جهل. وقال أبو
جهل: يخوفنا محمد بشجرة الزقوم، هاتوا تمرا وزبدا، فتزقموا
ورأى الدجال في صورته رؤيا عين، ليس برؤيا منام، وعيسى،
وموسى، وإبراهيم. وذكر الحديث.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ، عَنْ
حُذَيْفَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم أتي بالبراق، وهو
(1/273)
دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل، فلم
يزايلا ظهره هو وجبريل، حتى انتهيا به إلى بيت المقدس،
فصعد به جبريل إلى السماء، فاستفتح جبريل، فأراه الجنة
والنار، ثم قال لي: هل صلى في بيت المقدس؟ قلت: نعم. قال:
اسمك يا أصلع. قلت: زر بن حبيش. قال: فأين تجده صلاها؟
فتأولت الآية: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ
لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] قال: فإنه لو صلى لصليتم كما
تصلون في المسجد الحرام قلت: لحذيفة: أربط الدابة بالحلقة
التي كانت تربط بها الأنبياء؟ قال: أكان يخاف أن تذهب منه
وقد أتاه الله بها. كأن حذيفة لم يبلغه أنه صلى في المسجد
الأقصى, ولا ربط البراق بالحلقة.
وقال ابن عيينة، عن عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس {وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] قال: هي رؤيا عين أريها رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أسرى
به.
{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:
60] قال: هي شجرة الزقوم. أخرجه البخاري1.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3888" حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان
به.
(1/274)
ذكر معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى
السماء:
قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا
فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}
[النجم: 5-11] ، وقال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى،
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13، 14] ، تفسير
ذلك: قال زائدة وغيره، عن أبي إسحاق الشيباني، قال: سألت
زر بن حبيش عن قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ
أَدْنَى} فقال: حدثنا عبد الله بن مسعود، أنه رأى جبريل له
ستمائة جناح أخرجاه1.
وروى شعبة، عن الشيباني هذا، لكن قال: سألته عن قوله
تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}
[النَّجْمُ: 18] ، فذكر أنه رأى جبريل له ستمائة جناح.
وقال البخاري: قبيصة: حدثنا سفيان، عَنِ الأَعْمَشُ، عَنْ
إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ
{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال: رأى
رفرفا أخضر قد ملأ الأفق2.
وقال حماد بن سلمة: حدثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] ، قَالَ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: رأيت
جبريل عند سدرة، عليه ستمائة جناح، ينفض من ريشه التهاويل
الدر والياقوت. عاصم بن بهدلة القارئ، ليس بالقوي.
وقال مالك بن مغول، عن الزبير بن عدي، عن طلحة بن مصرف، عن
مرة الهمداني، عن ابن مسعود، قال: لما أسري بالنبي صلى
الله عليه وسلم فانتهى إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء
السادسة -كذا قال- وإليها ينتهي ما يصعد به، حتى يقبض
منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، حتى يقبض منها
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] ،
قال: غشيها فراش من ذهب، وأعطي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَواتُ الخمس، وخواتيم
سورة البقرة, وغفر لمن لا يشكر بالله من أمته المقحمات3.
أخرجه مسلم.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3232"، ومسلم "174" من طريق أبي
إسحاق الشيباني به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4858" حدثنا قبيصة، به.
وأخرجه البخاري "3233" حدثنا حفص بن عمر، شعبة عن الأعمش
به.
3 صحيح: أخرجه مسلم "173" حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أبو أسامة، حدثنا مالك بن
مغول، به. وقوله "المقحمات": معناه الذنوب العظام الكبائر
التي تهلك أصحابها وتوردهم النار وتقحمهم فيها والتقحم:
الوقوع في المهالك. والمعنى: من مات من هذه الأمة غير مشرك
بالله غفر له المقحمات.
(1/275)
وقال إِسْرَائِيْلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ يَزِيْدَ، عَنْ عَبْدِ الله
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] ، قَالَ:
رَأَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جبريل عليه حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض.
وقال عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] ، قال: رأى
جبريل -عليه السلام- أخرجه مسلم1.
وقال زكريا بن أبي زائدة، عن ابن أشوع، عن الشعبي، عن
مسروق، قال: قلت لعائشة: فأين قوله تعالى: {دَنَا
فَتَدَلَّى} ؟ قالت: إنما ذاك جبريل، كان يأتيه في صورة
الرجل، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته،
فسد أفق السماء. متفق عليه2.
وقال ابن لهيعة: حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة أن
نبي الله -عليه السلام- كان أول شأنه يرى المنام، فكان أول
ما رأى جبريل بأجياد، أنه خرج لبعض حاجته، فصرخ به: يا
محمد يا محمد فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا، ثم نظر، فلم
ير شيئا، فرفع بصره، فإذا هو ثانيا إحدى رجليه على الأخرى
في الأفق، فقال: يا محمد جبريل جبريل، يسكنه، فهرب حتى دخل
في الناس، فنظر فلم ير شيئا، ثم رجع فنظر فرآه، فذلك قوله
تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ
وَمَا غَوَى} [النجم: 1-2] .
محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن ابن عباس
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهَى} قال: دنا ربه منه فتدلى، فكان قاب قوسين أو
أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى قال ابن عباس: قد رآه النبي
صلى الله عليه وسلم. إسناده حسن.
أخبرنا التاج عبد الخالق، قال: أخبرنا ابن قدامة، قال:
أخبرنا أبو زرعة، قال: أخبرنا المقدمي، قال: أخبرنا القاسم
بن أبي المنذر، قال: حدثنا ابن سلمة، قال: أخبرنا ابن
ماجة، قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ،
قَالَ: حدثنا الحسن بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن علي بن
زيد، عن أبي الصلت، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أتيت ليلة
أسري بي على قوم، بطونهم كالبيوت، فيها الحيات، ترى من
خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "175" حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا علي بن مسهر، عن عبد الملك،
به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4855"، ومسلم "177" من طريق
الشعبي، عن مسروق؛ به.
(1/276)
يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا" رواه
أحمد في "مسنده"1 عن الحسن، وعفان، عن حماد وزاد فيه:
"رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة". أبو
الصلت مجهول.
أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن المرداوي، قال: أَخْبَرَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ الفَقِيْهُ،
قال: أخبرنا هبة الله بن الحسن بن هلال، قال: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللهِ بنُ عَلِيِّ بنِ زِكْرِيّ سنة أربع وثمانين
وأربعمائة, قال: أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله، قال:
أخبرنا أبو جعفر محمد بن عمرو، قال: حدثنا سعدان بن نصر،
قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ
الأَنْصَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عون، قال: أنبأنا القاسم بن
محمد، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ
مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى
رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الفِرْيَةَ عَلَى اللهِ،
وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيْلَ مَرَّتَيْنِ فِي صُوْرَتِهِ
وَخَلْقِهِ، سَادّاً مَا بَيْنَ الأُفُق. أَخرجه
البُخَارِيُّ2 عَنْ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي
الثَّلْجِ، عن الأنصاري.
قلت: قد اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- في رؤية محمد صلى
الله عليه وسلم ربه، فأنكرتها عائشة، وأما الروايات عن ابن
مسعود، فإنما فيها تفسير ما في النجم، وليس في قوله ما يدل
على نفي الرؤية لله. وذكرها في الصحيح وغيره.
وقال يونس، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ
أبو ذر يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل
جبريل -عليه السلام- ففرج صدري, ثم غسله من ماء زمزم، ثم
جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا ثم أفرغها في صدري، ثم
أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فقال
لخازنها: افتح، قال: من هذا؟ قال: جبريل قال: هل معك أحد؟
قال: نعم محمد. قال: أرسل إليه؟ قال: نعم ففتح، فلما علونا
السماء الدنيا، إذا رجل عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة،
فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال:
مرحبا بالنبي الصالح، والابن الصالح. قلت: يا جبريل من
هذا؟ [قال هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم
بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل
النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى] 3
__________
1 ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة "14/ 307"، وأحمد "2/ 363"،
وابن ماجه "2273" من طريق حماد ابن سلمة، عن علي بن زيد،
به.
قلت: إسناده ضعيف، فيه علتان: الأولى: علي بن زيد، هو ابن
جدعان، ضعيف لسوء حفظه والثانية: أبو الصلت, مجهول.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3234" حدثنا محمد بن عَبْدُ اللهِ
بنُ إِسْمَاعِيْلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عبد الله
الأنصاري، به.
3 في الأصل: عبارة وقع بها سقط وتكرار لبعض الألفاظ صوبناه
من حديث مسلم "163".
(1/277)
ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية،
فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال خازن
السماء الدنيا، ففتح".
قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات: آدم، وإدريس، وعيسى،
وموسى، وإبراهيم، ولم يثبت -يعني أبا ذر- كيف منازلهم، غير
أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في
السادسة، فلما مر جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم
بإدريس، قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قال: ثم
مر، "قلت: من هذا؟ قال: إدريس، قال: ثم مررت بموسى فقال:
مرحبا بالنبي الصالح، والأخ الصالح. قلت: من هذا؟ قال:
موسى. ثم مررت بعيسى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ
الصالح. قلت: من هذا؟ قال: عيسى. ثم مررت بإبراهيم، فقال:
مرحبا بالنبي الصالح، والابن الصالح. قلت: من هذا؟ قال:
إبراهيم".
قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة
الأنصاري كانا يَقُوْلاَنِ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى
أسمع فيه صريف الأقلام" 1.
قال ابن شهاب: قال ابن حزم، وأنس بن مالك: قَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ففرض الله -عز
وجل- على أمتي خمسين صلاة، قال: فرجعت بذلك حتى أمر بموسى،
فقال: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قلت: فرض عليهم خمسين صلاة.
قال موسى: فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك. قال: فراجعت
ربي، فوضع عني شطرها، فرجعت إلى موسى فأخبرته، قال: فراجع
ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعت ربي فقال: هي خمس وهي
خمسون لا يبدل القول لدي. فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى
ربك. فقلت: قد استحييت من ربي. قال: ثم انطلق بي حتى أتى
سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت
الجنة، فإذا فيها جنابذ 2 اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك".
أخبرنا بهذا الحديث يحيى بن أحمد المقرئ بالإسكندرية،
ومحمد بن حسين الفوى بمصر، قالا: أخبرنا محمد بن عماد،
قال: أخبرنا عبد الله بن رفاعة، قال: أخبرنا علي بن الحسن
الشافعي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عمر البزار، قال:
حدثنا أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ
عَمْرٍو، المَدِيْنِيّ، قال: حدثنا أبو موسى يونس بن عبد
الأعلى الصدفي، قال:
__________
1- صحيح: أخرجه مسلم "163" حدثني حرملة بن يحيى التجيبي،
أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس، عن ابن شهاب، به.
وصريف الأقلام: تصويتها حال الكتابة، قال الخطابي: هو صوت
ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه وما ينسخونه
من اللوح المحفوظ.
2 جنابذ: هي القباب. واحدتها جنبذة. والحديث عند مسلم
"163".
(1/278)
حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، فذكره.
رواه مسلم1 عن حرملة، عن ابن وهب. وروى النسائي شطره
الثاني من قول ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس،
وأبا حبة، إلى آخره، عن يونس، فوافقناه بعلو.
وقد أخرجه البخاري من حديث الليث، عن يونس وتابعه عقيل، عن
الزهري.
وقال همام: سمعت قادة يحدث، عن أنس، أن مالك بن صعصعة
حدثه، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حدثهم عن ليلة أسري به، قال: "بينما أنا في
الحطيم" وربما قال قتادة: في الحجر "مضطجعا إذ أتاني آت"
فجعل يقول لصاحبه الأوسط بين الثلاثة قال: فأتاني وقد سمعت
قتادة يقول: "فشق ما بين هذه إلى هذه"، قال قتادة: قلت
لجارود، وهو إلى جنبي: ما يعني؟ قال: من ثغرة نحره إلى
شعرته؟ قال: "فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوء
إيمانا، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون
البغل، وفوق الحمار أبيض" فقال له الجارود: هو البراق يا
أبا حمزة؟ قال: نعم. "يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه،
فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح، قيل: من
هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل
إليه؟ قال: نعم قال: مرحبا به ونعم المجيء جاء. ففتح له،
فلما خلصت فإذا آدم فيها، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه،
فسلمت عليه. فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح،
والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح،
قيل: من هذا؟ قال جبريل: قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل:
وقد أرسل إليه؟ [قال: نعم قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء.
ففتح. فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة. قال: هذا
يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ
الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة
فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال:
محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به فنعم
المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم
عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي
الصالح، ثم صعد بي] 2 حتى السماء الرابعة فاستفتح، فقيل:
من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله
عليه وسلم قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به
ونعم المجيء جاء. قال: ففتح، فلما خلصت فإذا إدريس، قال:
هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت ورد، ثم قال: مرحبا بالأخ
الصالح والنبي
__________
1 صحيح: راجع تعليقنا السابق.
2 سقط من الأصل استدركناه من حديث البخاري "3887"
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بنُ
يحيى به.
(1/279)
الصالح. ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة،
فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال:
محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم
المجيء جاء. قال: ففتح، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا
هارون فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا
بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد حتى أتى السماء
السادسة، فاستفتح, فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن
معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا
به ونعم المجيء جاء. قال: ففتح، فلما خلصت فإذا موسى -عليه
السلام- فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ
الصالح والنبي الصالح، قال: فلما جاوزت بكى، فقيل له: ما
يبكيك؟ قال: أبكي لأنه غلام بعث بعدي يدخل الجنة من أمته
أكثر ممن يدخلها من أمتي. ثم صعد حتى أتى السماء السابعة،
فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال:
محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم فقال: مرحبا به ونعم
المجيء جاء. ففتح فلما خلصت فإذا إبراهيم -عليه السلام-
قال: هذا [أبوك] 1 فسلم عليه فسلمت عليه، فرد، وقال: مرحبا
بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم رفعت إلى سدرة المنتهى.
فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة،
فقال: هذه سدرة المنتهى. وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان،
ونهران ظاهران. فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان
فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رفع
البيت المعمور، [ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن،
وإناء من عسل] 2، فأخذت اللبن. فقال: هذه الفطرة التي أنت
عليها وأمتك. قال: ثم فرضت عليَّ الصلاة، خمسون صلاة في كل
يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمسين
صلاة في كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فإني قد خبرت
الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى
ربك فسله التخفيف لأمتك، قال: فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت
إلى موسى، فقال: بما أمرت؟ قلت: بأربعين صلاة كل يوم. قال:
إن أمتك لا تستطيعها فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فرجعت
فوضع عني عشرا أخر، ثم رجعت إلى موسى". فذكر الحديث إلى أن
قال: "إن أمتك لا تستطيع بخمس صلوات كل يوم، وإني خبرت
الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، ارجع إلى
ربك فاسأله التخفيف. قلت: قد سألت ربي حتى استحييت، ولكن
أرضى وأسلم. فلما نفرت ناداني مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت
عن عبادي". أخرجه البخاري، عن هدبة عنه3.
__________
1 في الأصل: [هذا إبراهيم] ، والصواب: [هذا أبوك] ، كما في
البخاري "3887" عن هدبة، به.
2 ما بين المعكوفين سقط في الأصل، وما أثبتناه من رواية
البخاري "3887" عن هدبة بن خالد، به.
3 أخرجه البخاري "3887" حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بنُ خَالِدٍ،
حَدَّثَنَا هَمَّامُ بنُ يحيى، به.
(1/280)
وقال مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي
أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، قال: حدثنا أنس، عن مالك بن
صَعْصَعَةَ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: فذكر نحوه، وزاد فيه: فأتيت بطست من ذهب
ممتلئ حكمة وإيمانا، فشق من النحر إلى مراق البطن، فغسل
بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيمانا. أخرجه مسلم بطوله.
وقال سَعِيْدُ بنُ أَبِي عَرُوْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أنس، عن مالك بن صعصعة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بينما أنا عند البيت، بين
النائم واليقظان، إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين
الرجلين. قال: فأتيت فانطلق بي، ثم أتيت بسطت من ذهب فيه
من ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا". قال قتادة: قلت
لصاحبي: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني. "فاستخرج قلبي فغسل
بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، وحشي". أو قال: كنز إيمانا
وحكمة -شك سعيد- "ثم أتيت بدابة أبيض يقال له البراق، فوق
الحمار ودون البغل، يقع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه
ومعي صاحبي لا يفارقني، فانطلقنا حتى أتينا السماء
الدنيا".
وساق الحديث كحديث همام، إلى قوله: البيت المعمور فزاد:
"يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، حتى إذا خرجوا منه لم يعودوا
فيه آخر ما عليهم".
قلت: وهذه زيادة رواها همام في حديثه، وهو أتقن من ابن أبي
عروبة، فقال: قال قتادة، فحدثنا الحسن، عن أبي هريرة أنه
رأي البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه.
ثم رجع إلى حديث أنس، وفي حديث ابن أبي عروبة: "في سدرة
المنتهى" إن ورقها مثل آذان الفيلة، ولفظه: "ثم أتيت على
موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة، قال: إني قد بلوت
الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة وإن أمتك لا
يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك. فرجعت، فحط
عني خمس صلوات، فما زلت أختلف بين ربي وبين موسى كلما أتيت
عليه، قال لي مثل مقالته، حتى رجعت بخمس صلوات، كل يوم،
فلما أتيت على موسى قال كمقالته، قلت: لقد رجعت إلى ربي
حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. فنوديت أن قد أمضيت، وخففت
عن عبادي، وجعلت بكل حسنة عشر أمثالها". أخرجه مسلم.
وقد رواه ثابت البناني، وشريك بن أبي نمر، عن أنس، فلم
يسنده لهما، لا عن أبي ذر، ولا عن مالك بن صعصعة، ولا بأس
بمثل ذلك، فإن مرسل الصحابي حجة.
قال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ،
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض، فركبته حتى أتينا ببيت
المقدس، فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت
(1/281)
فصليت فأتاني بإناءين خمر ولبن، فاخترت
اللبن، فقال: أصبت الفطرة. ثم عرج بي إلى السماء الدنيا،
فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: أنا جبريل. قيل: ومن
معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل، ففتح
لنا، فإذا بآدم".
فذكر الحديث وفيه: "فإذا بيوسف، وإذا هو قد أعطي شطر
الحسن، فرحب بي ودعا لي بخير". إلى أن قال لما فتح له
السماء السابعة: "فإذا بإبراهيم -عليه السلام- وإذا هو
مستند إلى البيت المعمور، فرحب بي، ودعا لي بخير، فإذا هو
يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى
سدرة المنتهى، فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها
كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت. فما
أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، قال: فدنا
فتدلى وأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليّ في كل يوم خمسون
صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، قال: ما فرض ربك على
أمتك؟ قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة. قال: ارجع إلى ربك
فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك؛ فإني قد بلوت بني
إسرائيل وجربتهم وخبرتهم. قال: فرجعت فقلت: أي رب خفف عن
أمتي. فحط عني خمسا، فرجعت حتى انتهيت إلى موسى، فقال: ما
فعلت؟ قلت: قد حط عني خمسا، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك،
ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك. فلم أزل أرجع بين ربي
وبين موسى حتى قال: هي خمس صلوات في كل يوم وليلة، بكل
صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة" 1. أخرجه مسلم دون قوله: فدنا
فتدلى، وذلك ثابت في رواية حجاج بن منهال، وهو ثبت في حماد
بن سلمة.
وقال سليمان بن بلال، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر،
قال: سمعت أنسا يقول، وذكر حديث الإسراء، وفيه: ثم عرج به
إلى السماء السابعة، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا
الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى
حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى2. أخرجه البخاري، عن عبد
العزيز بن عبد الله، عن سليمان.
وقال شيبان، عن قتادة، عن أبي العالية، قال: حدثنا ابن
عباس، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة
أسري بي موسى -عليه السلام- رجلا طوالا جعدا، كأنه من رجال
شنوءة، ورأيت عيسى مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط
الرأس". قال: ورأى مالكا خازن النار والدجال في آيات أراهن
الله إياه قال: {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ}
[السجدة: 23] ، فكان قتادة يفسرها أَنَّ نَبِيِّ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لقي موسى. أخرجه
مسلم.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "162" "259".
2 صحيح: أخرجه البخاري "7517".
(1/282)
وفي الصحيحين، من حَدِيْثِ سَعِيْدِ بنِ
المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أسري
به: "لقيت موسى وعيسى -ثم نعتهما- ورأيت إبراهيم، وأنا
أشبه ولده به" 1.
وقال مروان بن معاوية الفزاري، عن قنان النهمي، قال: حدثنا
أبو ظبيان الجنبي، قال: كنا جلوسا عند أبي عبيدة بن عبد
الله ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، فقال محمد لأبي عبيدة:
حدثنا عن أبيك ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال أبو عبيدة: لا، بل حدثنا أنت عن أبيك. قال: لو سألتني
قبل أن أسألك لفعلت. فأنشأ أبو عبيدة يحدث، قَالَ: قَالَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أتاني
جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل، فحملني عليه، فانطلق
يهوي بنا، كلما صعد عقبة استوت رجلاه مع يديه، وإذا هبط
استوت يداه مع رجليه، حتى مررنا برجل طوال سبط آدم، كأنه
من رجال أزد شنوءة، وهو يقول ويرفع صوته ويقول: أكرمته
وفضلته، فدفعنا إليه، فسلمنا، فرد السلام، فقال: من هذا
معك يا جبريل؟ قال: هذا أحمد. قال: مرحبا بالنبي الأمي
الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته. قال: ثم اندفعنا، فقلت: من
هذا يا جبريل؟ قال: موسى. قلت: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه
فيك. قلت: ويرفع صوته على ربه! قال: إن الله قد عرف له
حدته. قال: ثم اندفعنا حتى مررنا بشجرة كأن ثمرها السرج
وتحتها شيخ وعياله، فقال لي جبريل: اعمد إلى أبيك إبراهيم،
فسلمنا عليه فرد السلام وقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال:
ابنك أحمد. فقال: مرحبا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه
ونصح لأمته، يا بني إنك لاق ربك الليلة، فإن استطعت أن
تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل. قال: ثم اندفعنا حتى
انتهينا إلى المسجد الأقصى، فنزلت فربطت الدابة بالحلقة
التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها، ثم دخلت
المسجد فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أتيت
بكأسين من عسل ولبن، فأخذت اللبن فشربته، فضرب جبريل
منكبي، وقال: أصبت الفطرة ورب محمد. ثم أقيمت الصلاة،
فأممتهم، ثم انصرفنا فأقبلنا". هذا حديث حسن غريب.
فإن قيل: فقد صح عن ثابت، وسليمان التيمي، عَنْ أَنَسِ بنِ
مَالِكٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: "أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب
الأحمر، هو قائم يصلي في قبره"، وقد صح عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "رأيتني في جماعة
من الأنبياء، فإذا موسى يصلي، وذكر إبراهيم، وعيسى قال:
فحانت الصلاة فأممتهم". ومن حديث ابن المسيب أنه لقيهم في
بيت المقدس، فكيف الجمع بين هذه الأحاديث وبين ما تقدم، من
أن رأى هؤلاء الأنبياء في السموات، وأنه راجع موسى؟
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3437"، ومسلم "168".
(1/283)
فالجواب: أنهم مثلوا له، فرآهم غير مرة،
فرأى موسى في مسيرة قائما يصلي في قبره، ثم رآه ببيت
المقدس، ثم رآه في السماء السادسة هو وغيره، فعرج بهم، كما
عرج بنبينا صلوات الله على الجميع وسلامه، والأنبياء أحياء
عند ربهم كحياة الشهداء عند ربهم، وليست حياتهم كحياة أهل
الدنيا، ولا حياة أهل الآخرة، بل لون آخر، كما ورد أن حياة
الشهداء بأن جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُم فِي أَجْوَافِ
طَيْرٍ خُضْرٍ، تسرح في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت
العرش، فهم أحياء عند ربهم بهذا الاعتبار كما أخبر سبحانه
وتعالى، وأجسادهم في قبورهم. وهذه الأشياء أكبر من عقول
البشر، والإيمان بها واجب كما قال تعالى: {الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الفَضْلِ أَحْمَدُ بنُ هبَةِ اللهِ،
قال: أخبرنا أَبُو رَوْحٍ عَبْدُ المُعِزِّ بنُ مُحَمَّدٍ
كِتَابَةً، أن تميم بن أبي سعيد الجرجاني أخبرهم، قال:
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا أبو عمرو
بن حمدان، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدثنا
هدبة بن خالد، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ،
عَنْ عَطَاءِ بنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ
بِي بِرَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ
الرَّائِحَةُ يَا جِبْرِيْلُ؟ قَالَ: هَذِهِ مَاشِطَةُ
بِنْتِ فِرْعُوْنَ، كَانَتْ تُمَشِّطُهَا، فوقع المشط من
يدها، فقالت: باسم الله. قالت بنت فِرْعُوْنَ: أَبِي.
قَالَتْ: رَبِّي وَرَبُّ أَبِيْكِ. قَالَتْ: أَقُوْلُ لَهُ
إِذاً. قَالَتْ: قُوْلِي لَهُ. قَالَ لَهَا: أَوَلَكِ
رَبٌّ غَيْرِي! قَالَتْ: رَبِّي وَرَبُّكَ الَّذِي فِي
السَّمَاءِ. قَالَ: فَأَحْمَى لَهَا بَقَرَةً مِنْ
نُحَاسٍ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ:
وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ
وَلَدِي. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا لِمَا لَكِ
عَلَيْنَا مِنَ الحَقِّ. فألقى ولدها في البقرة، واحدا
وَاحِداً وَاحِداً، فَكَانَ آخِرَهُم صَبِيٌّ، فَقَالَ:
يَا أُمَّه اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الحَقِّ". قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَرْبَعَةٌ تَكَلَّمُوا وَهُم
صِبْيَانٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ بنت فرعون، وصبي جريج، وعيسى
ابن مريم، والرابع لا أحفظه. هذا حديث حسن.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ،
عن أبي بكر بن أبي سبرة وغيره، قالوا: كأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم يسأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كان
ليلة السبت لسبع عشرة خلت من رمضان، قبل الهجرة بثمانية
عشر شهرا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم في بيته
أتاه جبريل بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا، فعرج به إلى
السموات سماء سماء، فلقي فيها الأنبياء، وانتهى إلى سدرة
المنتهى.
قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن
زيد، الليثي، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده. قال محمد
بن عمر: وحدثنا موسى بن يعقوب الزمعي، عن
(1/284)
أبيه، عن جده، عن أم سلمة. وحدثنا موسى بن
يعقوب، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ. وحدثني إسحاق بن حازم، عن وهب بن كيسان، عن أبي
مرة، عن أم هانئ.
وحدثني عبد الله بن جعفر، عن زكريا بن عمرو، عَنِ ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، دخل حديث بعضهم في
بعض، قالوا: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة سبع
عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة من شعب أبي طالب إلى
بيت المقدس، وساق الحديث إلى أن قال: وقال بعضهم في
الحديث: فتفرقت بنو عبد المطلب يطلبونه حين فقد يلتمسونه،
حتى بلغ العباس ذا طوى، فجعل يصرخ: يا محمد يا محمد،
فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبيك". فقال: يابن
أخي عنيت قومك منذ الليلة، فأين كنت؟ قال: "أتيت من بيت
المقدس". قال: في ليلتك! قال: "نعم". قال: هل أصابك إلا
خير؟ قال: "ما أصابني إلا خير".
وقالت أم هانئ: ما أسري به إلا من بيتنا: نام عندنا تلك
الليلة بعد ما صلى العشاء، فلما كان قبل الفجر أنبهناه
للصبح، فقام، فلما صلى الصبح قال: "يا أم هانئ جئت بيت
المقدس، فصليت فيه، ثم صليت الغداة معكم". فقالت: لا تحدث
الناس فيكذبونك، قال: "والله لأحدثنهم". فأخبرهم فتعجبوا،
وساق الحديث.
فرق الواقدي، كما رأيت، بين الإسراء والمعراج، وجعلهما في
تاريخين.
وقال عبد الوهاب بن عطاء: أخبرنا راشد أبو محمد الحماني،
عَنْ أَبِي هَارُوْنَ العَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ
الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم أنه
قال له أصحابه: يا رسول الله أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها،
فقرأ أول {سُبْحَانَ} وقال: "بينا أنا نائم عشاء في المسجد
الحرام، إذ أتاني آت فأيقظني، فاستيقظت، فلم أر شيئا، ثم
عدت في النوم، ثم أيقظني، فاستيقظت، فلم أر شيئا، ثم نمت،
فأيقظني، فاستيقظت، فلم أر شيئا، فإذا أنا بهيئة خيال
فأتبعته بصري، حتى خرجت من المسجد، فإذا أنا بدابة أدنى
شبهه بدوابكم هذه بغالكم، مضطرب الأذنين، يقال له البراق،
وكانت الأنبياء تركبه قبلي، يقع حافره مد بصره، فركبته،
فبينا أنا أسير عليه إذ دعاني داع عن يميني: يا محمد
انظرني أسألك. فلم أجبه، فسرت، ثم دعاني داع عن يساري: يا
محمد انظرني أسألك. فلم أجبه، ثم إذا أنا بامرأة حاسرة عن
ذراعيها، وعليها من كل زينة، فقالت: يا محمد انظرني أسألك.
فلم ألتفت إليها، حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتي
بالحلقة، فأتاني جبريل بإناءين: خمر ولبن، فشربت اللبن،
فقال: أصبت الفطرة. فحدثت جبريل عن الداعي الذي عن يميني،
قال: ذاك داعي اليهود، لو أجبته لتهودت أمتك، والآخر داعي
النصارى، لو أجبته لتنصرت أمتك، وتلك المرأة الدنيا، لو
أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. ثم دخلت أنا
وجبريل بيت المقدس، فصلينا
(1/285)
ركعتين، ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه
أرواح بني آدم، فلم تر الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيتم
الميت حيث يشق بصره طامحا إلى السماء، فإنما يفعل ذلك عجبه
به، فصعدت أنا وجبريل، فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل، وهو
صاحب سماء الدنيا، وبين يديه سبعون ألف ملك، مع كل ملك
جنده مائة ألف ملك، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ
رَبِّكَ إِلَّا هُوْ} [المدثر: 31] ، فاستفتح جبريل، قيل:
من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أو قد
بعث إليه؟ قال: نعم. فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله
على صورته، تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح
طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليه أرواح
ذريته من الفجار، فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في
سجين.
ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأخونة - يعني بالخوان المائدة-
عليها لحم مشرح، ليس يقربها أحد، وإذا أنا بأخونة أخرى،
عليها لحم قد أروح، ونتن، وعندها أناس يأكلون منها: قلت:
يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال
ويأتون الحرام. قال: ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأقوام
بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر يقول: اللهم لا
تقم الساعة، وهم على سابلة آل فرعون، فتجيء السابلة
فتطؤهم، فسمتهم يضجون إلى الله، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء
من أمتك الذين يأكلون الربا. ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا
بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل، فتفتح أفواههم ويلقمون
الجمر، ثم يخرج من أسافلهم فيضجون، قلت: من هؤلاء؟ قال:
الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما. ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا
بنساء يعلقن بثديهن، فسمعتهن يضججن إلى الله، قلت: يا
جبريل من هؤلاء؟ قال: الزناة من أمتك. ثم مضيت هنيهة، فإذا
أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم، فيلقمون، فيقال له: كل
ما كنت تأكل من لحم أخيك، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء
الهمازون من أمتك اللمازون. ثم صعدت إلى السماء الثانية
فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، قد فضل على الناس بالحسن
كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب، قلت: يا جبريل من
هذا؟ قال: هذا أخوك يوسف، ومعه نفر من قومه. فسلمت عليه
وسلم علي، ثم صعدت إلى السماء الثالثة، فإذا أنا بيحيى
وعيسى ومعهما نفر من قومهما. ثم صعدت إلى الرابعة، فإذا
أنا بإدريس، ثم صعدت إلى السماء الخامسة، فإذا أنا بهارون
ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء، تكاد لحيته تصيب سرته من
طولها، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا المحبب في قومه،
هذا هارون بن عمران، ومعه نفر من قومه. فسلمت عليه، ثم
صعدت إلى السماء السادسة، فإذا أنا بموسى رجل آدم كثير
الشعر، لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دون القميص، وإذا هو
يقول: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا، بل هذا أكرم
على الله مني. قلت: من هذا؟ قال: موسى
(1/286)
ثم صعدت السابعة، فإذا أنا بإبراهيم، ساند
ظهره إلى البيت المعمور، فدخلته ودخل معي طائفة من أمتي،
عليهم ثياب بيض، ثم دفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا كل ورقة
منها تكاد أن تغطي هذه الأمة، وإذا فيها عين تجري، يقال
لها سلسبيل، فيشق منها نهران، أحدهما الكوثر والآخر نهر
الرحمة، فاغتسلت فيه، فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر،
ثم إني دفعت إلى الجنة، فاستقبلتني جارية، فقلت: لمن أنت؟
قالت: لزيد بن حارثة. ثم عرضت علي النار، ثم أغلقت، ثم إني
دفعت إلى سدرة المنتهى فتغشى لي، وكان بيني وبينه قاب
قوسين أو أدنى، قال: ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة،
وفرضت علي الصلاة خمسين، ثم دفعت إلى موسى" -فذكر مراجعته
في التخفيف. أنا اختصرت ذلك وغيره إلى أن قال- فقلت: "رجعت
إلى ربي حتى استحييته".
ثم أصبح بمكة يخبرهم بالعجائب، فقال: إني أتيت البارحة بيت
المقدس، وعرج بي إلى السماء، ورأيت كذا، ورأيت كذا، فقال
أبو جهل: ألا تعجبون مما يقول محمد، وذكر الحديث.
هذا حديث غريب عجيب حذفت نحو النصف منه، رواه يحيى بن أبي
طالب، عن عبد الوهاب، وهو صدوق، عن راشد الحماني، وهو
مشهور، روى عنه حماد بن زيد، وابن المبارك، وقال أبو حاتم:
صالح الحديث، عن أبي هارون عمارة بن جوين العبدي، وهو ضعيف
شيعي. وقد رواه عن أبي هارون أيضا هشيم، ونوح بن قيس
الحداني بطوله نحوه، حدث به عنهما قتيبة بن سعيد. ورواه
سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن روح بن القاسم، عن أبي
هارون العبدي بطوله. ورواه أسد بن موسى، عن مبارك بن
فضالة. ورواه عبد الرزاق، عن معمر. والحسن بن عرفة، عن
عمار بن محمد، كلهم عن أبي هارون، وبسياق مثل هذا الحديث
صار أبو هارون متروكا.
عَمْرُو بنُ دِيْنَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس:
{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ}
[الإسراء: 60] ، قال: رأي عين.
ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ،
عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أسري بروح رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو نائم على فراشه.
معمر عن قتادة عن الحسن، قال: أسري بروح رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو نائم على فراشه.
وقال إبراهيم بن حمزة الزبيري: حدثنا حاتم بن إسماعيل،
قال: حدثني عيسى بن ماهان، عَنِ الرَّبِيْعِ بنِ أَنَسٍ،
عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، عن أبي هريرة. "ح". وقال هاشم بن
القاسم،
(1/287)
ويونس بن بكير، وحجاج الأعور: حدثنا أبو
جعفر الرازي، وهو عيسى بن ماهان، عَنِ الرَّبِيْعِ بنِ
أَنَسٍ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، عن أبي هريرة أو غيره، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية {سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] ،
قال: أتي بفرس فحمل عليه، خطوه منتهى بصره، فسار وسار معه
جبريل، فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما
حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء
المهاجرون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبع مائة ضعف
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:
39] ، ثم أتى على قوم ترضخ رءوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت!
قال: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم
عن الصلاة. ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم
رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام عن الضريع والزقوم، ورضف
جهنم، قال: يا جبريل ما هؤلاء؟ قال: الذين لا يؤدون
الزكاة. ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها شيء إلا
قصعته، يقول الله تعالى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ
تُوعِدُونَ} [الأعراف: 86] ، ثم مر على رجل قد جمع حزمة
عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يريد أن يزيد عليها، قال: يا
جبريل ما هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة، لا يستطيع
أداءها، وهو يزيد عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم
وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت. قال:
يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة.
ثم نعت الجنة والنار، إلى أن قال: ثم سار حتى أتى بيت
المقدس، فدخل وصلى، ثم أتى أرواح الأنبياء فأثنوا على
ربهم.
وذكر حديثا طويلا في ثلاث ورقات كبار. تفرد به أبو جعفر
الرازي، وليس هو بالقوي، والحديث منكر يشبه كلام القصاص،
إنما أوردته للمعرفة لا للحجة.
وروى في المعراج إسحاق بن بشير، وليس بثقة، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عباس حديثا.
وقال مَعْمر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ، قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلاَة عَلَى النَّبِيِّ
صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم بمكة ركعتين ركعتين، فلما
خرج إلى المدينة فرضت أربعا، وأقرت صلاة السفر ركعتين1
أخرجه البخاري. آخر الإسراء.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3935".
(1/288)
زواجه صلى الله عليه وسلم بعائشة وسودة أمي
المؤمنين:
قال هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ،
قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم متوفى خديجة، قبل الهجرة، وَأَنَا ابْنَةُ
سِتٍّ، وَأُدْخِلْتُ عَلَيْهِ وَأَنَا ابْنَةُ تسع سنين
جَاءنِي نِسْوَةٌ وَأَنَا أَلْعَبُ عَلَى أُرْجُوْحَةٍ،
وَأَنَا مُجَمَّمَةٌ1، فَهَيَّأْنَنِي وَصَنَعْنَنِي،
ثُمَّ أَتَيْنَ بِي إِلَيْهِ. قال عروة: ومكثت عنده تسع
سنين2. وهذا حديث صحيح.
وقال أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ،
قَالَ: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة بثلاث سنين، فلبث سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيْباً مِنْ
ذَلِكَ، وَنَكَحَ عَائِشَةَ وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها
وهي ابنة تسع. أخرجه البخاري3 هكذا مرسلا.
وقال هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ
عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: "رأيتك في المنام مرتين، أرى أن رجلا يحملك
في سرقة 4 حرير فيقول: هذه امرأتك، فأكشف فأراك فأقول: إن
كان هذا من عند الله يمضه". متفق عليه5.
وقال عبد الله بن إِدْرِيْسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو،
عَنْ يَحْيَى بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ حَاطِبٍ، قَالَ:
قَالَتْ عائشة رضي الله عنها: لَمَّا مَاتَتْ خَدِيْجَةُ
جَاءتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيْمٍ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: أَلاَ
تَزَوَّجُ؟ قَالَ: "وَمَنْ"؟ قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْراً
وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّباً. قَالَ: "مَنِ البِكْرُ ومن
الثيب"؟ فقالت: أَمَّا البِكْرُ فَعَائِشَةُ ابْنَةُ
أَحَبِّ خَلْقِ اللهِ إِلَيْكَ. وَأَمَّا الثَّيِّبُ
فَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ
وَاتَّبَعَتْكَ. قَالَ: "اذْكُرِيْهِمَا عَلَيَّ".
قَالَتْ: فَأَتَيْتُ أُمَّ رُوْمَانَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ
رُوْمَانَ مَاذَا أَدْخَلَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الخَيْرِ
وَالبَرَكَةِ! قَالَتْ: مَاذَا؟ قَالَتْ: رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ عَائِشَةَ.
قَالَتْ: انْتَظِرِي فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ آتٍ. فَجَاءَ
أَبُو بَكْرٍ فَذَكَرَتْ ذلك له. فقال: أوتصلح لَهُ وَهِيَ
ابْنَةُ أَخِيْهِ؟ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَخُوْهُ وَهُوَ أخي وابنته
تصلح لي". قالت: وقام أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَتْ لِي أُمُّ
رُوْمَانَ: إِنَّ المطعم بن عدي قد كان ذَكَرَهَا عَلَى
ابْنِهِ، وَوَاللهِ مَا أُخْلِفُ وَعْداً قط، تعني أبا
بكر. قَالَتْ: فَأَتَى أَبُو بَكْرٍ المُطْعِمَ فَقَالَ:
مَا تقول في أمر هذه الجارية. قالت:
__________
1 الجمة من شعر الرأس: ما سقط على المنكبين.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3896"، ومسلم "1422" من طريق أبي
أسامة، عن هشام، به.
3 صحيح: راجع تخريجنا السابق.
4 سرقة حرير: أي قطعة من جيد الحرير، وجمعها سرق.
5 صحيح: أخرجه البخاري "3895"، ومسلم "2478" من طريق هشام
بن عروة، به.
(1/289)
فأقبل على امرأته فقال لها: مَا
تَقُوْلِيْنَ؟ فَأَقْبَلَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ:
لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليك تصبئه وتدخله فِي
دِيْنِكَ. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: ما
تقول أنت؟ فقال: إِنَّهَا لَتَقُوْلُ مَا تَسْمَعُ.
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ مِنَ
المَوْعِدِ شَيْءٌ، فَقَالَ لَهَا: قُوْلِي لِرَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فليأت. فَجَاءَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فملكها،
قالت: ثم انطلقت إلى سودة بنت زمعة، وأبوها شيخ كبير قد
جلس عن الموسم فحييته بتحية أهل الجاهلية وقلت: أنعم
صباحا. قال: من أنت؟ قلت: خولة بنت حكيم. فرحب بي وقال ما
شاء الله أن يقول، قلت: مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ
عَبْدِ المُطَّلِبِ يذكر سودة بنت زمعة. قال: كفؤ كريم،
ماذا تقول صاحبتك؟ قلت: تحب ذلك. قال: قولي له فليأت. قالت
فَجَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فملكها. قالت: وقدم عبد بن زمعة فجعل يحثو على رأسه
التراب، فقال بعد أن أسلم: إني لسفيه يوم أحثو على رأسي
التراب أن تَزَوَّجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سودة. إسناده حسن.
(1/290)
عرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل:
قال إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد،
عن جابر، قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعرِضُ نَفْسَه عَلَى النَّاسِ
بِالمَوْقِفِ فَيَقُوْلُ: "هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي
إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشاً قَدْ مَنَعُوْنِي أَنْ
أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي" أخرجه أبو داود1 عن محمد بن
كثير، عن إسرائيل، وهو على شرط البخاري.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في تلك السنين يعرض
نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم، لا
يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحدا
منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذاك، ومن كره
لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بي من الفتك، حتى
أبلغ رسالات ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء.
فلم يقبله أحد ويقولون: قومه أعلم به، أترون أن رجلا
يصلحنا وقد أفسد قومه، ولفظوه، فكان ذلك مما ذخر الله
للأنصار.
وتوفي أبو طالب، وابتلي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ ما كان، فعمد لثقيف بالطائف،
رجاء أن يؤوه، فوجد ثلاثة نفر منهم، هم سادة ثقيف: عبد
ياليل، وحبيب، ومسعود بنو عمرو، فعرض عليهم نفسه، وشكا
إليهم البلاء، وما انتهك منه قومه. فقال أحدهم: أنا أسرق
أستار الكعبة إن كان الله بعثك قط. وقال الآخر: أعجز على
الله أن يرسل غيرك. وقال الآخر: والله لا أكلمك بعد مجلسك
هذا، والله لئن كنت رسول الله لأنت أعظم شرفا وحقا من أن
أكلمك، ولئن كنت تكذب على الله، لأنت أشر من أكلمك.
وتهزؤوا به، وأفشوا في قومهم الذي راجعوه به، وقعدوا له
صفين على طريقه، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما
إلا رضخوهما بالحجارة، ودموا رجليه، فخلص منهم وهما تسيلان
الدماء، فعمد إلى حائط من حوائطهم، واستظل في ظل سمرة حبلة
منه، وهو مكروب موجع، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة، وشيبة
أخوه، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عدواتهما، فلما
رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداسا، وهو نصراني من
أهل نينوى، معه عنب، فلما جاء عداس، قَالَ لَهُ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أي أرض أنت
يا عداس"؟ قال: من أهل نينوى، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من مدينة الرجل
الصالح يونس بن متى"؟ فقال: وما يدريك من يونس بن متى؟
قال: "أنا رسول الله، والله أخبرني خبر يونس" فلما أخبره
خر عداس ساجدا
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 390"، وأبو داود "3734".
(1/291)
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يقبل
قدميه وهما تسيلان الدماء، فلما أبصر عتبة، وشيبة ما يصنع
غلامهما سكتا، فلما أتاهما قالا: ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت
قدميه؟ قال: هذا رجل صالح، أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول
بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى، فضحكا به، وقالا: لا
يفتنك عن نصرانيتك، فإنه رجل خداع. فرجع رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى مكة.
وقال يونس بن يزيد، عن الزهري: أخبرني عروة، أن عائشة
حدثته، أنها قَالَتْ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟
قال: "ما لقيت من قومك كان أشد منه، يوم العقبة إذ عرضت
نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما
أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا
بقرن الثعالب1، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني،
فنظرت فإذا هو جبريل، فناداني: إن الله قد سمع قول قومك لك
وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت
فيهم. ثم ناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد إن
الله قد سمع قومك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك
لتأمرني بما شئت، إن شئت يطبق عليهم الأخشبين"2. فَقَالَ
لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"بَلْ أرجو أن يخرج الله من أسرارهم -أو قال: من أصلابهم-
من يعبد الله لا يشرك به شيئا" 3. أخرجاه.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد
بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، وهم يومئذ سادتهم،
وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمر، وأخواه مسعود، وحبيب،
وعند أحدهم امرأة من قريش من جمح، فجلس إليهم ودعاهم إلى
الله، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك،
وقال الآخر: أما وجد الله من يرسله غيرك؟ وقال الآخر:
والله لا أكلمك.
وذكره كما في حديث ابن شهاب، وفيه زياد وهي: فلما اطمأن
صلى الله عليه وسلم قال فيما ذكر لي: "اللهم إليك أشكو ضعف
قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين، أنت رب
المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أو
إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن
عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور
__________
1 قرن الثعالب: موضع على مسافة يوم وليلة من مكة.
2 الأخشبان: الجبلان المطيفان بمكة، وهما أبو قبيس
والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان. والأخشب: كل جبل
خشن غليظ الحجارة.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3231"، ومسلم "1795".
(1/292)
وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات، وصلح
عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ
سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك" 1.
وحدثني حُسَيْنُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ
عباس، قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدث أبي، قال: إني لغلام
شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على
القبائل من العرب، يقول: "يا بني فلان إني رسول الله
إليكم، يأمركم أن تعبدوه لا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما
تعبدون من دونه، وأن تؤمنوا وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن
الله ما بعثني به". قال: وخلفه رجل أحول وضيء، له غديرتان،
عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من
قوله قال: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا
اللات والعزى وحلفاءكم من الحي من بني مالك بن أقيش، إلى
ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.
فقلت لأبي: من هذا؟ قال: هذا عمه عبد العزى أبو لهب.
وحدثني ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم أتى كندة في
منازلهم، وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله،
وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه.
وحدثني مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللهِ
بنِ حصين، أنه أتى كلبا في منازلهم، إلى
__________
1 ضعيف: أخرجه ابن إسحاق في "المغازي" -كما في "سيرة ابن
هشام"، "2/ 47-48" ومن طريقه الطبري في "تاريخه"، "1/ 554"
قال حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي مرسلا.
قلت: إسناده ضعيف لإرساله، محمد بن كعب القرظي، تابعي من
الطبقة الثالثة، ولد سنة أربعين على الصحيح، ووهم من قال
ولد فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فقد قال البخاري: إن أباه كان ممن لم ينبت يوم
قريظة فترك.
وأخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي"، "1901"،
والطبراني في "الكبير" مختصرا من طريق ابن إِسْحَاقَ، عَنْ
هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عبد الله بن
جعفر قال: لما توفي أبو طالب خرج ماشيا على قدميه إلى
الطائف، فدعاهم إلى الله، فلم يجيبوه، فأتى ظل شجرة، فصلى
ركعتين ثم قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي". الحديث مع
تغيير يسير في بعض ألفاظه.
وقال الهيثمي في "المجمع"، "6/ 35": "وفيه ابن إسحاق، وهو
مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات".
قلت: فالحديث يرسف في أغلال الضعف، ولا فكاك له؛ فمداره
على ابن إسحاق، وقد انفرد به، ولم يرو من غير طريقه.
وقوله "يتجهمني": أي يلقاني بالغلظة والوجه الكريه.
وقد ذكرت الحديث في كتابنا "الأرائك المصنوعة في الأحاديث
الضعيفة والموضوعة" المجلد الأول حديث رقم "205"ط. مكتبة
الدعوة بالأزهر فراجعه ثمت إن شئت يسر الله طبع بقية
مجلدات هذا الكتاب، وأكثر النفع به، وجعله في ميزان
حسناتنا وسائر أعمالنا بكرمه ومنه.
(1/293)
بطن منهم يقال له: بنو عبد الله، فدعاهم
إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول: يا بني عبد الله
إن الله قد أحسن اسم أبيكم، فدعاهم إلى الله فلم يقبلوا.
وحدثني بعض أصحابنا أنه أتى بني حنيفة في منازلهم، ودعاهم
إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح ردا
منهم.
وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله،
وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس:
والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم
قال له: أرأيت إن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من
خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: "الأمر إلى الله
يضعه حيث يشاء". قال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك؟ فإذا
أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك فأبوا
عليه.
وقال يونس بن بكير، عن إسحاق: حدثني عاصم بن عمرو بن
قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو
بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا، وكان سويد يسميه قومه
فيهم "الكامل" لسنه وجلده وشعره، فتصدى لَهُ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعاه إلى الله،
فقال سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي. فَقَالَ لَهُ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا
الذي معك"؟ قال: مجلة لقمان، يعني: حكمة لقمان، قال:
"اعرضها". فعرضها عليه، فقال: "إن هذا الكلام حسن، والذي
معي أفضل منه، قرآن أنزله الله علي". فتلا عليه القرآن،
ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن.
ثم انصرف فقدم المدينة على قومها، فلم يلبث أن قتلته
الخزرج، فكان رجال من قومه يقولون: إنا لنرى أنه قتل وهو
مسلم، وكان قتله يوم بعاث.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق، قال: وسويد الذي يقول:
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما
يفرى
مقالته كالشهد ما كان شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغرة
النحر
يسرك باديه وتحت أديمه ... تميمة غش تبترى عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتم ... من الغل والبغضاء بالنظر
الشزر
فرشني بخير طالما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا
يبري
(1/294)
حديث يوم بعاث 1:
قال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن
سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحيسر
أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس
بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع
بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال لهم: "هل
لكم إلى خير مما جئتم له"؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: "أنا رسول
الله بعثني الله إلى العباد". ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا
عليهم القرآن، فقال إياس، وكان غلاما حدثا: يا قوم هذا
والله خير مما جئتم له. فيأخذ أبو الحيسر حفنة من الحصباء،
فضرب بها وجه إياس، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير
هذا. فسكت، وقام النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وانصرفوا
إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم
يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من
حضره من قومي أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره
ويحمده ويسبحه حتى مات، وكانوا لا يشكون أنه مات مسلما.
وقد كان استشعر من الإسلام في ذلك المجلس، حين سَمِعَ مِنْ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
سمع.
وقال هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ
عَائِشَةَ، قالت: كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله،
فقدم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المَدِيْنَةَ، وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم -يعني:
وجرحوا- قدمه الله لرسوله في دخولهم في الإسلام. أخرجه
البخاري2.
__________
1 بعاث، بضم الباء، يوم مشهور كان فيه حرب بين الأوس
والخزرج، وبعاث اسم حصن للأوس، وبعضهم يقوله بالغين
المعجمة، وهو تصحيف.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3777" حدثنا عبيد بن إسماعيل،
حدثنا أبو أسامة، عن هشام، به.
وقوله "سرواتهم": بفتح المهملة والراء والواو أي خيارهم.
(1/295)
ذكر مبدأ خبر
الأنصار والعقبة الأولى:
قال أحمد بن المقدام العجلي: حدثنا هشام بن محمد الكلبي،
قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي عيسى بن خير، عن أبيه، قال:
سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس:
فَإِنْ يَسْلَمِ السَّعْدَانِ يُصْبِحْ مُحَمَّدٌ ...
بِمَكَّةَ لاَ يخشى خلاف المخالف
فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان؟ سعد بن بكر، سعد
تميم؟ فلما كان في الليلة الثانية سمعوا الهاتف يقول:
أيا سَعْدَ الأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِراً ... وَيَا
سَعْدُ سعد الخزرجين الغطارف
أَجِيْبَا إِلَى دَاعِي الهُدَى وَتَمَنَّيَا ... عَلَى
اللهِ فِي الفِرْدَوْسِ مُنْيَةَ عَارِفِ
فَإِنَّ ثَوَابَ اللهِ لِلطَّالِبِ الهُدَى ... جِنَانٌ
مِنَ الفِرْدَوْسِ ذَاتُ رَفَارِفِ
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ وَاللهِ سَعْدُ بنُ معاذ،
وسعد بن عبادة.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: لما أراد الله إظهار دينه،
وإعزاز نبيه، خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الموسم الذي لقيه فيه الأنصار، فعرض
نفسه على القبائل، كما كان يصنع، فبينا هو عند العقبة لقي
رهطا من الخزرج، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من
قومه، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لما لقيهم قال: "من أنتم"؟ قالوا: نفر من
الخزرج. قال: "أمن موالي يهود"؟ قالوا: نعم. قال: "أفلا
تجلسون أكلمكم"؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله
وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وكان مما صنع الله
به في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل
كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك وأوثان، وكانوا قد غزوهم
ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيا مبعوث
الآن، قد أظل زمانه، نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر،
ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه
للنبي الذي تواعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه
وأسلموا، وقالوا: إنا تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من
العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم
عليهم فندعوهم إلى أمرك, ونعرض عليهم الذي أجبناك به، إن
يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا.
قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر ستة من الخزرج: أسعد بن
زرارة، وعوف بن عفراء، ورافع بن مالك الزرقي، وقطبة بن
عامر السلمي، وعقبة بن عامر. رواه جرير بن حازم عن
(1/296)
ابن إسحاق، فقال بدل عقبة: معوذ بن عفراء،
وجابر بن عبد الله أحد بني عدي بن غنم.
فلما قدموا المدينة ذكروا لقومهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ودعوهم إلى الإسلام، وفشا فيهم ذكر رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كان العام
المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، وهي "العقبة الأولى"،
فبايعوا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب، وهم
أسعد بن زرارة، وعوف، ومعوذ ابنا الحارث وهما ابن عفراء،
وذكوان بن عبد قيس، ورافع بن مالك، وعبادة بن الصامت،
ويزيد بن ثعلبة البلوي، وعباس بن عبادة بن نضلة، وقطبة بن
عامر، وعقبة بن عامر، وهم من الخزرج، وأبو الهيثم ابن
التيهان، وعويم بن ساعدة، وهما من الأوس.
وقال يونس وجماعة، عن ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي
يَزِيْدُ بنُ أَبِي حَبِيْبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بنِ عبد الله
اليزني، عن أبي عبد الله الصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة،
قال: حدثني عبادة بن الصامت، قَالَ: بَايَعنَا رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ العقبة
الأولى، ونحن اثنا عشر رجلا، فبايعناه بيعة النساء على أن
لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل
أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا
نعصيه في معروف، وذلك قبل أن تفترض الحرب، فإن وفيتم بذلك
فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء غفر،
وإن شاء عذب.
أخرجاه عن قتيبة، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب. أخبرنا
الخضر بن عبد الرحمن، وإسماعيل بن أبي عمرو، قالا:
أَخْبَرَنَا الحَسَنُ بنُ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بنِ
الحَسَنِ بن البن، قال: أخبرنا جدي أبو القاسم الحسين،
قال: أَخْبَرَنَا أَبُو القَاسِمِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ
بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي العلاء سنة تسع وسبعين وأربعمائة،
قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عثمان المعدل، قال: أخبرنا علي
بن يعقوب، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم القرشي، قال:
أخبرنا محمد بن عائذ، قال: أخبرني إِسْمَاعِيْلُ بنُ
عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ،
عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن عبادة بن الصامت، قَالَ:
بَايَعنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى
النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وعلى أن نقول في الله عز وجل، لا تأخذنا فيه لومة
لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع
أنفسنا وأزواجنا، ولنا الجنة. رواه زهير بن معاوية، عن ابن
خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، أن عبادة قال
نحوه. خالفه داود بن عبد الرحمن العطار ويحيى بن سليم،
فرويا عن ابن خثيم هذا المتن بإسناد آخر، وهو عن أبي
الزبير عن جابر. وسيأتي.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فلما انصرف القوم, بَعَثَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصعب بن
(1/297)
عمير العبدري يقرئهم ويفقههم في الدين،
فنزل على أسعد بن زرارة، فحدثني عاصم ابن عمر أنه كان يصلي
بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض.
قال ابن إسحاق: وكان يسمى مصعب بالمدينة المقرئ.
وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، قال: كنت قائد
أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خَرَجْتُ بِهِ إِلَى
الجُمُعَةِ، فَسَمِعَ الأَذَانَ صَلَّى على أبي أمامة أسعد
بن زرارة، واستغفر، فقلت: يا أبه مالك إذا سمعت الأذان
للجمعة صليت على أبي أمامة! قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، كَانَ
أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بنا بالمدينة في هزم مِنْ حَرَّةِ
بَنِي بَيَاضَةَ يُقَالُ لَهُ نَقِيْعُ الخضمات. قلت: وكم
كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: فلما حضر الموسم حج
نفر من الأنصار، منهم معاذ بن عفراء، وأسعد بن زرارة،
ورافع بن مالك، وذكوان، وعبادة بن الصامت، وأبو عبد الرحمن
بن تغلب، وأبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة، فأتاهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم خبره، وقرأ عليهم
القرآن، فأيقنوا به واطمأنوا، وعرفوا ما كانوا يسمعون من
أهل الكتاب، فصدقوه، ثم قالوا: قد علمت الذي كان بين الأوس
والخزرج من سفك الدماء، ونحن حراص على ما أرشدك الله به،
مجتهدون لك بالنصيحة, وإنا نشير عليك برأينا، فامكث على
اسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنذكر لهم شأنك, وندعوهم إلى
الله، فلعل الله يصلح ذات بينهم، ويجمع لهم أمرهم فنواعدك
الموسم من قابل. فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ورجعوا إلى قومهم فدعوهم سرا وتلوا عليهم القرآن، حتى قل
دار من الأنصار إلا قد أسلم فيها ناس، ثم بعثوا إِلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن
عفراء، ورافع بن مالك أن ابعث إلينا رجلا من قبلك يفقهنا.
فبعث مصعب بن عمير، فنزل في بني تميم على أسعد يدعو الناس
سرا، ويفشو فيهم الإسلام ويكثر، ثم أقبل مصعب وأسعد، فجلسا
عند بئر بني مرق، وبعثا إلى رهط من الأنصار، فأتوهما
مستخفين، فأخبر بذلك سعد بن معاذ -ويقول بعض الناس: بل
أسيد بن حضير -فأتاهم في لأمته معه الرمح، حتى وقف عليهم،
فقال لأبي أمامة أسعد: علام أتيتنا في دورنا بهذا الوحيد
الغريب الطريد، يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه، لا
أراك بعدها تسيء من جوارنا. فقاموا، ثم إنهم عادوا مرة
أخرى لبئر بني مرق، أو قريبا منها، فذكروا لسعد بن معاذ
الثانية فجاءهم، فتواعدهم وعيدا دون وعيده الأول، فقال له
أسعد: يابن خالة، اسمع من قوله، فإن سمعت حقا فأجب إليه،
وإن سمعت منكرا فاردده بأهدى منه، فقال: ماذا يقول؟ فقرأ
عليه مصعب: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا
(1/298)
عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
[الزخرف: 1-3] ، فقال سعد: ما أسمع إلا ما أعرفه. فرجع سعد
وقد هداه الله، ولم يظهر لهما إسلامه، حتى رجع إلى قومه
فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام، وأظهر لهم إسلامه وقال:
من شك منكم فيه فليأت بأهدى منه، فوالله لقد جاء أمر
لتحزَّنَّ منه الرقاب. فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام
سعد بن معاذ، إلا من لا يذكر.
ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير، واشتدوا على أسعد،
فانتقل مصعب إلى سعد بن معاذ يدعو آمنا ويهدي الله به.
وأسلم عمرو بن الجموح، وكسرت أصنامهم، وكان المسلمون أعز
من بالمدينة، وكان مصعب أول من جمع الجمعة بالمدينة، ثم
رجع إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. هكذا قال ابن شهاب: إن مصعبا أول من جمع
بالمدينة.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن المغيرة
بن معيقيب، وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ،
أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير، يريد به دار بني عبد
الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن
زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر، وقالا: على بئر
مرق، فاجتمع إليهما ناس، وكان سعد وأسيد بن حضير سيدي بني
عبد الأشهل، فلما سمعا به قال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين
فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فلولا، أسعد بن
زرارة ابن خالتي كفيتك ذلك. فأخذ أسيد حربته، ثم أقبل
إليهما، فلما رآه أسعد قال: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق
الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه. قال: فوقف عليهما،
فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كان
لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن
رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره. قال: أنصف. ثم
ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه
القرآن، فقالا فيما بلغنا: والله لعرفنا في وجه الإسلام،
قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا
وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
قالا: تغتسل وتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم
تصلي. فقام فاغتسل وأسلم وركع ركعتين ثم قال لهما: إن
ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه من قومه أحد، وسأرسله
إليكما. ثم انصرف إلى سعد بن معاذ وقومه، وهم جلوس في
ناديهم، فلما رآه سعد مقبلا قال: أقسم بالله لقد جاءكم
أسيد بغير الوجه الذي ولى به، ثم قال له: ما فعلت؟ قال:
كلمت الرجلين، فما رأيت بهما بأسا، وقد تهيبتهما فقالا: لا
نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد
ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك. فقام سعد
مغضبا مبادرا متخوفا، فأخذ الحربة، وقال: والله ما أراك
أغنيت عنا شيئا. ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين
عرف أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما،
(1/299)
فوقف عليهما متبسما. ثم قال لأسعد: يا أبا
أمامة، والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت مني
هذا، أتغشانا في دارينا بما نكره! وقد قال أسعد لمصعب: أي
مصعب جاءك والله سيد من وراءه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم
اثنان. فقال: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه
قبلته، وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره. قال: أنصفت. فعرض عليه
الإسلام، وقرأ عليه القرآن، فعرفنا في وجهه، والله،
الإسلام قبل أن يتكلم به، لإشراقه وتسهله. ثم فعل كما عمل
أسيد، وأسلم، وأخذ حربته، وأقبل عامدا إلى نادي قومه، ومعه
أسيد, فلما رآه قومه، قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم
بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، قال: يا بني عبد الأشهل
كيف تعرفون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا
نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا.
فوالله ما أمسى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ رَجُلٌ
وَلاَ امرأة إلا مسلما ومسلمة، ورجع مصعب وأسعد إلى
منزلهما، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء
ومسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة،
ووائل، وواقف، وتلك أوس الله وهم من الأوس بن حارثة، وذلك
أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت، وهو صيفي، وكان شاعرا لهم
وقائدا، يستمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام، فلم
يزل على ذلك حتى مضت أحد والخندق.
(1/300)
العقبة الثانية:
قال يحيى بن سليم الطائفي، وداود العطار, وهذا لفظه: حدثنا
ابن خثيم، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بنُ عَبْدِ اللهِ،
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في المواسم: مجنة
وعكاظ، ومنى، يقول: "من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات
ربي وله الجنة"؟ فلا يجد، حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مضر
أو اليمن، فيأتيه قومه أو ذو رحمه يقول: احذر فتى قريش لا
يفتنك، يمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل، يشيرون
إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله له من يثرب، فيأتيه الرجل
منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون
بإسلامه، حتى لم يبق دار من يثرب إلا وفيها رهط يظهرون
الإسلام. ثم ائتمرنا واجتمعنا سبعين رجلا منا، فقلنا: حتى
متى نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في جبال مكة
ويخاف. فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا شعب
العقبة، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين، حتى توافينا عنده،
فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: "على السمع والطاعة
في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله،
لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم
يثرب، تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم،
ولكم الجنة". فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو
أصغر السبعين، إلا أنا، فقال: رويدا يا أهل يثرب، إنا لم
نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إن
إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم
السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم،
وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم
على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه فهو
أعذر لكم عند الله عز وجل. قلنا: أمط يدك يا أسعد، فوالله
لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، فقمنا إليه نبايعه رجلا
رجلا، يأخذ علينا شرطه، ويعطينا على ذلك الجنة.
زاد في وسطه يحيى بن سليم: فقال له عمه العباس: يابن أخي
لا أدري ما هذا القوم الذين جاءوك، إني ذو معرفة بأهل
يثرب. قال: فاجتمعا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس
في وجوهنا، قال: هؤلاء قوم لا أعرفهم أحداث، فقلنا: علام
نبايعك.
وقال أبو نعيم: حدثنا زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ،
قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم معه
عمه العباس، إلى السبعين من الأنصار، عند العقبة تحت
الشجرة، قال: ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم
من المشركين عينا. فقال أسعد: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم
سل لنفسك، ثم
(1/301)
أخبرنا ما لنا على الله. قال: "أسألكم لربي
أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن
تؤونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم". قَالُوا:
فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: "لكم الجنة".
قالوا: فلك ذلك.
وقال أبو نعيم: حدثنا زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ،
قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم معه
عمه العباس، إلى السبعين من الأنصار، عند العقبة تحت
الشجرة، قال: ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم
من المشركين عينا. فقال أسعد: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم
سل لنفسك، ثم أخبرنا ما لنا على الله. قال: "أسألكم لربي
أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا, وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن
تؤونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم". قَالُوا:
فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: "لكم الجنة".
قالوا: فلك ذلك.
ورواه أحمد بن حنبل، عَنْ يَحْيَى بنِ زَكَرِيَّا بن أَبِي
زَائِدَةَ، قال: أخبرنا مجالد، عن الشعبي، عن أبي مسعود
الأنصاري بنحوه، قال: وكان أبو مسعود أصغرهم سنا.
وقال ابن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، وعبد
الله بن أبي بكر، أن العباس بن عبادة بن نضلة أخا بني سالم
قال: يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنَّكُم
تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنها إذا
أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل، تركتموه وأسلمتموه، فمن
الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم
ترون أنكم مستضلعون به وافون له، فهو والله خير الدنيا
والآخرة. قال عاصم: فوالله ما قال العباس هذه المقالة إلا
ليشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بها العقد.
وقال ابن أبي بكر: ما قالها إلا ليؤخر بها أمر القوم تلك
الليلة، ليشهد أمرهم عبد الله بن أبي، فيكون أقوى. قالوا:
فما لنا بذلك يا رسول الله؟ قال: "الجنة". قالوا: ابسط
يدك.
وبايعوه، فقال عباس بن عبادة: إن شئت لنملين عليهم غدا
بأسيافنا، فقال: "لم أؤمر بذلك".
وقال الزهري -ورواه ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي
الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ- وقاله موسى بن عقبة، وهذا
لفظه: إن العام المقبل حج من الأنصار سبعون رجلا، أربعون
من ذوي أسنانهم وثلاثون من شبانهم، أصغرهم أبو مسعود عقبة
بن عمرو، وجابر بن عبد الله، فلقوه بالعقبة، ومع رسول الله
صلى الله عليه وسلم عمه العباس، فلما أخبرهم بما خصه الله
من النبوة والكرامة، ودعاهم إلى الإسلام وإلى البيعة
أجابوه، وقالوا: اشترط علينا لربك ولنفسك ما شئت. فقال:
"أشترط لربي أن لا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن
تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم". فلما طابت بذلك
أنفسهم من الشرط أخذ عليهم العباس المواثيق لرسول الله صلى
الله عليه وسلم بالوفاء، وعظم
(1/302)
العباس الذي بينهم وَبَيْنَ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر أن أم عبد المطلب
سلمى بنت عمرو بن زيد بن عدي بن النجار. وذكر الحديث
بطوله.
قال عروة: فجميع من شهد العقبة من الأنصار سبعون رجلا
وامرأة وقال ابن إسحاق: سبعون رجلا وامرأتان، إحداهما أم
عمارة وزوجها وابناهما.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: فحدثني معبد بن كعب بن
مالك بن القين، عن أخيه عبيد الله، عن أبيه كعب رضي الله
عنه قال: خرجنا في الحجة التي بايعنا فيها رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالعقبة مع مشركي قومنا، ومعنا البراء بن
معرور كبيرنا وسيدنا، حتى إذا كنا بظاهر البيداء، قال: يا
هؤلاء تعلمون أني قد رأيت رأيا، والله ما أدري توافقوني
عليه أم لا؟ فقلنا: وما هو يا أبا بشر؟ قال: إني قد أردت
أن أصلي إلى هذه البنية ولا أجعلها مني بظهر. فقلنا: لا
والله لا تفعل، والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه
وسلم يصلي إلا إلى الشام. قال: فإني والله لمصل إليها.
فكان إذا حضرت الصلاة توجه إلى الكعبة، وتوجهنا إلى الشام,
حتى قدمنا مكة، فقال لي البراء: يابن أخي انطلق بنا إِلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى
أسأله عما صنعت، فلقد وجدت في نفسي بخلافكم إياي. قال:
فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليبه وسلم فلقينا رجلا
بالأبطح، فقلنا: هل تدلنا على محمد؟ قال: وهل تعرفانه إن
رأيتماه؟ قلنا: لا والله. قال: فهل تعرفان العباس؟ فقلنا:
نعم، وقد كنا نعرفه، كان يختلف إلينا بالتجارة، فقال: إذا
دخلتما المسجد فانظرا العباس، فهو الرجل الذي معه. قال:
فدخلنا المَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعباس ناحية المسجد جالسين، فسلمنا،
ثم جلسنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تعرف
هذين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هَذَا البَرَاءُ بنُ
مَعْرُوْرٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كعب بن مالك، فوالله
ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشاعر"؟ قال:
نعم. فقال له البراء: يا رسول الله إني قد كنت رأيت في
سفري هذا رأيا، وقد أحببت أن أسألك عنه. قال: وما ذاك؟
قال: رَأَيْتُ أَنْ لاَ أَجْعَلَ هَذِهِ البَنِيَّةَ
مِنِّي بظهر فصليت إليها. فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ كُنْتَ عَلَى
قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا". فرجع إلى قِبْلَةِ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهله
يقولون: قد مات عليها، ونحن أعلم به، قد رجع إلى قِبْلَةِ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلى
معنا إلى الشام.
ثُمَّ وَاعَدَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم العقبة، أوسط أيام التشريق، ونحن سبعون رجلا للبيعة،
ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، وإنه لعلى
شركه، فأخذناه فقلنا: يا أبا جابر والله إنا لنرغب بك أن
تموت على ما أنت عليه، فتكون لهذه النار غدا حطبا، وإن
الله قد بعث رسولا يأمر بتوحيده وعبادته، وقد أسلم رجال من
قومك، وقد وَاعَدَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للبيعة. فأسلم وطهر ثيابه، وحضرها معنا
فكان نقيبا، فلما كانت الليلة التي وعدنا فيها رسول
(1/303)
الله صلى الله عليه وسلم بمنى أول الليل مع
قومنا، فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا تسلل
القطا، حتى اجتمعنا بالعقبة، فَأُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمه العباس، ليس معه
غيره، أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، فكان أول متكلم، فقال: يا
معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم، وهو في منعة من
قومه وبلاده، قد منعناه ممن هو على مثل رأينا منه، وقد أبى
إلا الانقطاع إليكم، وإلى ما دعوتموه إليه، فإن كنتم ترون
أنكم وافون له بما وعدتموه، فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم
تخشون من أنفسكم خذلانا فاتركوه في قومه، فإنه في منعة من
عشيرته وقومه. فقلنا: قد سمعنا ما قلت، تكلم يا رسول الله.
فتكلم ودعا إلى الله، وتلا القرآن، ورغب في الإسلام،
فأجبناه بالإيمان والتصديق له، وقلنا له: خذ لربك ولنفسك.
فقال: إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم منه أبناءكم
ونساءكم. فأجابه البراء بن معرور فقال: نعم والذي بعثك
بالحق نمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله
فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن
كابر. فعرض في الحديث أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا
رسول الله إن بيننا وبين أقوام حبالا، وإنا قاطعوها، فهل
عسيت إن الله أظهرك ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال: "بل الدم
الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم
وأحارب من حاربتم". فقال له البراء بن معرور: ابسط يدك يا
رسول الله نبايعك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا". فأخرجوهم له، فكان نقيب
بني النجار: أسعد بن زرارة، ونقيب بني سلمة: البراء بن
معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، ونقيب بني ساعدة: سعد
بن عبادة، والمنذر ابن عمرو، ونقيب بني زريق: رافع بن
مالك، ونقيب بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة،
وسعد بن الربيع، ونقيب بني عوف بن الخزرج: عبادة بن الصامت
-وبعضهم جعل بدل عبادة بن الصامت خارجة بن زيد- ونقيب بني
عمرو بن عوف: سعد بن خيثمة، ونقيب بني عبد الأشهل -وهم من
الأوس- أسيد بن حضير، وأبو الهيثم بن التيهان، قال: فأخذ
البراء بِيَدِ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَضَرَبَ عليها، وكان أول من بايع، وتتابع الناس
فبايعوا، فصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ -والله- صوت سمعته
قط، فقال: يا أهل الجباجب هل لكم من مذمم والصباة معه قد
اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب، أما والله لأفرغن لك،
ارفضوا إلى رحالكم". فقال العباس بن عبادة أخو بني سالم:
يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل
منى غدا بأسيافنا. فقال: "إنا لم نؤمر بذلك" فرحنا إلى
رحالنا فاضطجعنا، فلما أصبحنا، أقبلت جلة من قريش فيهم
الحارث بن هشام، فتى شاب وعليه نعلان له جديدتان، فقالوا:
يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا
لتستخرجوه من بين أظهرنا، وإنه والله ما من العرب أحد أبغض
(1/304)
إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.
فانبعث من هناك من قومنا من المشركين يحلفون لهم بالله، ما
كان من هذا من شيء، وما فعلناه. فلما تثور القوم لينطلقوا
قلت كلمة كأني أشركهم في الكلام: يا أبا جابر -يريد عبد
الله بن عمرو- أنت سيد من سادتنا وكهل من كهولنا، لا
تستطيع أن تتخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريش. فسمعه الحارث،
فرمى بهما إليّ وقال: والله لتلبسنهما. فقال أبو جابر:
مهلا أحفظت لعمر الله الرجل -يقول: أخجلته- اردد عليه
نعليه. فقلت: لا والله لا أردهما، فأل صالح إني لأرجو أن
أسلبه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: ثم
انصرفوا عنهم فأتوا عبد الله بن أبي يعني ابن سلول فسألوه،
فقال: إن هذا الأمر جسيم وما كان قومي ليتفوتوا عليّ
بمثله.
فانصرفوا عنه.
وقال ابن إدريس، عن ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: "ابعثوا منكم اثني
عشر نقيبا كفلاء على قومهم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن
مريم". فقال أسعد بن زرارة: نعم يا رسول الله، قال: فأنت
نقيب على قومك، ثم سمى النقباء كرواية معبد بن مالك.
وقال ابن وهب: حدثني مالك، قال: حدثني شيخ من الأنصار أن
جبريل -عليه السلام- كان يشير للنبي صلى الله عليه وسلم
إلى من يجعله نقيبا. قال مالك: كنت أعجب كيف جاء من قبيلة
رجل، ومن قبيلة رجلان، حتى حدثني هذا الشيخ أن جبريل كان
يشير إليهم يوم البيعة، قال مالك: وهم تسعة نقباء من
الخزرج، وثلاثة من الأوس.
وقال: ابن إسحاق:
تسمية من شهد العقبة:
قلت: تركت النقباء لأنهم قد تقدموا.
فمن الأوس: سلمة بن سلامة بن وقش.
مومن بني حارثة: ظهير بن رافع، وأبو بردة بن نيار، وبهير
بن الهيثم.
ومن بني عمرو بن عوف: رفاعة بن عبد المنذر -وعده ابن إسحاق
نقيبا عوض أبي الهيثم بن التيهان- وعبد الله بن جبير بن
النعمان أمير الرماة يوم أحد ويومئذ استشهد، ومعن بن عدي
قتل يوم اليمامة، وعويم بن ساعدة.
فجميع من شهد العقبة من الأوس أحد عشر رجلا.
(1/305)
ومن الخزرج من بني النجار: أبو أيوب خالد
بن زيد, ومعاذ بن عفراء وأخوه عوف، وعمارة بن حزم، وقتل
يوم اليمامة.
ومن بني عمرو بن مبذول: سهل بن عتيك، بدري.
ومن بني عمرو بن النجار، وهم بنو حديلة: أوس بن ثابت، وأبو
طلحة زيد بن سهل.
ومن بني مازن بن النجار: قيس بن أبي صعصعة، وعمرو بن غزية.
ومن بلحارث بن الخزرج: خارجة بن زيد، استشهد يوم أحد،
وبشير بن سعد، وعبد الله بن زيد صاحب النداء، وخلاد بن
سويد، استشهد يوم قريظة، وأبو مسعود عقبة بن عمرو.
ومن بني بياضة: زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، وخالد بن
قيس.
ومن بني زريق: ذكوان بن عبد قيس، وكان خرج إلى مكة، فكان
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقال له: مهاجري
أنصاري، واستشهد يوم أحد، وعباد بن قيس، والحارث بن قيس.
ومن بني سلمة: بشر بن البراء بن معرور ابن أحد النقباء،
وسنان ابن صيفي, والطفيل ابن النعمان، واستشهد يوم الخندق،
ومعقل بن المنذر، ومسعود بن يزيد, والضحاك بن حارثة، ويزيد
بن حرام، وجبار بن صخر، والطفيل بن مالك.
ومن بني غنم بن سواد: سليم بن عمرو، وقطبة بن عامر، ويزيد
بن عامر، وأبو اليسر كعب بن عمرو، وصيفي بن سواد.
ومن بني نابي بن عمرو: ثعلبة بن غنمة، وقتل بالخندق، وأخوه
عمرو، وعبس بن عامر، وعبد الله بن أنيس، وخالد بن عدي.
ومن بني حرام: جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ
حرام، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، وثابت بن الجذع، استشهد
بالطائف، وعمير بن الحارث، وخديج بن سلامة, ومعاذ بن جبل.
ومن بني عوف بن الخزرج: العباس بن عبادة، استشهد يوم أحد،
وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة البلوي حليف لهم، وعمرو بن
الحارث.
ومن بني سالم بن غنم بن عوف: رفاعة بن عمرو، وعقبة بن وهب.
ومن بني ساعدة: النقيبان سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو
الذي كان أميرا يوم بئر معونة فاستشهد.
(1/306)
وأما المرأتان: فأم منيع أسماء بنت عمرو بن
عدي، وأم عمارة نسيبة بنت كعب، حضرت ومعها زوجها زيد بن
عاصم بن كعب، وابناها حبيب وعبد الله، وحبيب هو الذي مثل
به مسيلمة الكذاب وقطعه عضوا عضوا.
قال ابن إسحاق: فلما تفرق الناس عن البيعة، فتشت قريش من
الغد عن الخبر والبيعة، فوجدوه حقا، فانطلقوا في طلب
القوم، فأدركوا سعد بن عبادة، وهرب منذر بن عمرو، فشدوا
يدي سعد إلى عنقه بنسعة، وكان ذا شعر كثير، فطفقوا يجبذونه
بجمته ويصكونه ويلكزونه، إلى أن جاء مطعم بن عدي، والحارث
بن أمية، وكان سعد يجبرهما إذا قدما المدينة فأطلقاه من
أيديهم وخليا سبيله.
قال: وكان معاذ بن عمرو بن الجموح قد شهد العقبة، وكان
أبوه من سادة بني سلمة، وقد اتخذ في داره صنما من خشب يقال
له مناف، فلما أسلم فتيان بني سلمة: معاذ بن جبل، وابنه
معاذ بن عمرو وغيرهما، كانوا يدخلون بالليل على صنمه
فيأخذونه ويطرحونه في بعض الحفر، وفيها عذر الناس، منكسا
على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على إلهنا في
هذه الليلة! ثم يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم
قال: أما والله لو أعلم من يصنع بك هذا لأخزيته. فإذا أمسى
ونام فعلوا به مثل ذلك، وفعل مرات، وفي الآخر علق عليه
سيفه، ثم قال: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن
كان فيك خير فامتنع، وهذا السيف معك. فلما كان الليل أخذوا
السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فعلقوه وربطوه به
وألقوه في جب عذره، فغدا عمرو فلم يجده، فخرج يتبعه حتى
وجدوه في البئر منكسا مقرونا بالكلب، فلما رآه أبصر شأنه،
وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه،
وقال:
تالله لَوْ كُنْتَ إِلَهاً لَمْ تَكُنْ ... أَنْتَ
وَكَلْبٌ وسط بئر في قرن
أف لمصرعك إلا مستدن ... الآن فتشناك عن سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزق وديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن
(1/307)
ذكر أول من هاجر إلى
المدينة:
عقيل وغيره، وعن الزهري عن عروة، عَنْ عَائِشَةَ: قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم للمسلمين بمكة:
"قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين". وهما
الحرتان. فهاجر من هاجر قبل المدينة عند ذلك، ورجع إلى
المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين،
وتجهز أبو بكر مهاجرا، فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى رسلك فإني أرجو أن
يؤذن لي". فقال أبو بكر: وترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال:
"نعم". فحبس أبو بكر نفسه عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليصحبه، وعلف راحلتين عنده ورق
السمر أربعة أشهر. أخرجه البخاري1.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق، قال: فلما أذن الله لنبيه في
الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة،
أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قومه بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بالأنصار،
فخرجوا أرسالا، فكان أول من هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد
إلى المدينة، هاجر إليها قبل العقبة الكبرى بسنة، وقد كان
قدم من الحبشة مكة، فآذته قريش، وبلغه أن جماعة من الأنصار
قد أسلموا، فهاجر إلى المدينة.
فعن أم سلمة، قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج رحل لي
بعيره، ثم حملني وابني عليه، ثم خرج بي يقودني. فلما رأته
رجال بني المغيرة قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا
عليها، هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد! فنزعوا خطام
البعير من يده، فأخذوني منه، وغضب عند ذلك رهط أبي سلمة،
فقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.
فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد
الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، فانطلق زوجي إذ فرقوا
بيننا، فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فلا أزال أبكي
حتى أمسي، سنة أو قريبا منها. حتى مر بي رجل من بني عمي
فرحمني، فقال: ألا تحرجون من هذه المسكينة، فرقتم بينها
وبين ولدها؟ فقالوا لي: الحقي بزوجك. قالت: ورد بنو عبد
الأسد إلي عند ذلك ابني. فارتحلت بعيري، ثم وضعت سلمة في
حجري، وخرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله،
قلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت
بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة العبدري، فقال: إلى أين يا
ابنة أبي أمية؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أوما معك
أحد؟ قالت: لا والله إلا الله وبني هذا. قال: والله
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3905" حدثنا يحيى بن بكير،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
به في حديث طويل.
(1/308)
ما لك من مترك. فأخذ بخطام البعير، فانطلق
معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب، أرى أنه أكرم
منه، كان أبدا إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني حتى
إذا نزلت استأخر ببعيري، فحط عنه، ثم قيده في الشجرة, ثم
تنحى إلى الشجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى
بعيري فرحله، ثم استأخر عني وقال: اركبي، فإذا ركبت
واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقادني حتى ينزل بي،
فلم يزل يصنع ذلك حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية
بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية، ثم انصرف
راجعا.
ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة: عامر بن ربيعة حليف بني
عدي بن كعب مع امرأته، ثم عبد الله بن جحش حليف بني أمية،
مع امرأته وأخيه أبي أحمد، وكان أبو أحمد ضرير البصر، وكان
يمشي بمكة بغير قائد، وكان شاعرا، وكانت عنده الفرعة بنت
أبي سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب، فنزل
هؤلاء بقباء على مبشر بن عبد المنذر.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: فلما اشتدوا عَلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأصحابه، أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أصحابه بالهجرة، فخرجوا رسلا رسلا، فخرج منهم
قبل مخرج رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَبُو سلمة وامرأته، وعامر بن ربيعة، وامرأته
أم عبد الله بنت أبي حثمة، ومصعب بن عمير، وعثمان بن
مظعون، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعبد الله بن جحش،
وعثمان بن الشريد، وعمار بن ياسر, ثم خرج عمر وعياش بن أبي
ربيعة وجماعة، فطلب أبو جهل والحارث بن هشام عياشا، وهو
أخوهم لأمهم، فقدموا المدينة فذكروا له حزن أمه، وأنها
حلفت لا يظلها سقف، وكان بها برا، فرق لها وصدقهم، فلما
خرجا به أوثقاه وقدما به مكة، فلم يزل بها إلى قبل الفتح.
قلت: وهو الذي كان يدعو له النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي القُنُوت: "اللهم أنج سلمة بن
هشام، وعياش بن أبي ربيعة". الحديث1.
قال ابن شهاب: وخرج عبد الرحمن بن عوف، فنزل على سعد بن
الربيع، وخرج عثمان، والزبير، وطلحة بن عبيد الله، وطائفة
ومكث ناس من الصحابة بمكة، حتى قدموا المدينة بعد مقدمه،
منهم: سعد بن أبي وقاص، على اختلاف فيه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "2932" حدثنا قبيصة حدثنا سفيان، عن
ابن ذكوان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به مرفوعا وتمامه:
"اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد،
اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من
المؤمنين، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسني
يوسف".
(1/309)
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني نافع، عن
ابن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، قال: لما اجتمعنا للهجرة
اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل،
وقلنا: الميعاد بيننا التناضب من أضاة بني غفار، فمن أصبح
منكم لم يأتها فقد حبس. فأصبحت عندها أنا وعياش، وحبس هشام
وفتن فافتتن وقدمنا المدينة فكنا نقول: ما الله بقابل من
هؤلاء توبة, قوم عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله، ثم
رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم في الدنيا فأنزلت: {قُلْ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}
[الزمر: 53] ، فكتبتها بيدي كتابا، ثم بعثت بها إلى هشام،
فقال هشام بن العاص: فلما قدمت عليَّ خرجت بها إلى ذي طوى
أصعد فيها النظر وأصوِّبه لأفهمها، فقلت: اللهم فهمنيها،
فعرفت إنما أنزلت فينا لما كنا نقول في أنفسنا، ويقال
فينا، فرجعت فجلست على بعيري، فلحقت برسول الله صلى الله
عليه وسلم، قال: فقتل هشام بأجنادين.
وقال عبد العزيز الدراوردي، عَنْ عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قال: قدمنا من مكة فنزلنا
العصبة عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة، وسالم مولى أبي حذيفة،
فكان يؤمهم سالم، لأنه كان أكثرهم قرآنا.
وقال إسرائيل، عن أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ، قَالَ:
أَوَّلُ مَنْ قدم علينا مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، فَقُلْنَا
لَهُ: مَا فَعَلَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هو مكانه وأصحابه على أثري ثم أتى بعد
عمرو بن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر، ثم عمار بن ياسر،
وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وبلال، ثم أتانا عمر بن
الخطاب في عشرين راكبا، ثم أَتَانَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر معه، فلم يقدم
عَلَيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى قرأت سورا من المفصل1. أخرجه مسلم.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ, عَنْ
عُرْوَةَ قال: ومكث رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الحج بقية ذي الحجة، والمحرم،
وصفر، وإن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم، على أن يأخذوا
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَإِمَّا أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه، فأخبره الله
بمكرهم في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا} [الأنفال: 30] ، الآية, فخرج رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر تحت الليل
قِبَل الغار بثور، وعمد عليٌّ فرقد عَلَى فِرَاشِ رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يواري عنه
العيون.
وكذا قال موسى بن عقبة، وزاد: فباتت قريش يختلفون ويأتمرون
أيهم يجثم على صاحب الفراش فيوثقه، إلى أن أصبحوا، فإذا هم
بعلي -رضي الله عنه- فسألوه عن
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3924" و"3925"، ولم يخرجه مسلم.
(1/310)
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم أنه لا
علم له به، فعلموا عند ذلك أنه قد خرج فارا منهم، فركبوا
في كل وجه يطلبونه.
وكذا قال ابن إسحاق، وقال: لما أيقنت قريش أن محمدا صلى
الله عليه وسلم قد بويع، وأمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم من كان بمكة من أصحابه أن يلحقوا بإخوانهم بالمدينة،
توامروا فيما بينهم فقالوا: الآن، فأجمعوا في أمر محمد
فوالله لكأنه قد كر عليكم بالرجال، فأثبتوه أو اقتلوه أو
أخرجوه.
فاجتمعوا له في دار الندوة ليقتلوه، فلما دخلوا الدار
اعترضهم الشيطان في صورة رجل جميل في بَتٍّ له فقال:
أأدخل؟ قالوا: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل نجد، سمع بالذي
اجتمعتم له، فأراد أن يحضره معكم فعسى أن لا يعدمكم منه
نصح ورأي. قالوا: أجل فادخل. فلما دخل قال بعضهم لبعض: قد
كان من الأمر ما قد علمتم، فأجمعوا رأيا في هذا الرجل،
فقال قائل: أرى أن تحبسوه. فقال النجدي: ماذا برأي، والله
لئن فعلتم ليخرجن رأيه وحديثه إلى من وراءه من أصحابه،
فأوشك أن ينتزعوه من أيديكم، ثم يغلبونكم على ما في أيديكم
من أمركم. فقال قائل منهم: بل نخرجه فننفيه, فإذا غيب عنا
وجهه وحديثه ما نبالي أين وقع؟ قال النجدي: ماذا برأي، أما
رأيتم حلاوة منطقه، وحسن حديثه، وغلبته على من يلقاه، ولئن
فعلتم ذلك ليدخل على قبيلة من قبائل العرب فأصفقت معه على
رأيه، ثم سار بهم إليكم حتى يطأكم بهم. فقال أبو جهل:
والله إن لي فيه لرأيا، ما أراكم وقعتم عليه، قالوا: وما
هو؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش غلاما جلدا
نهدا نسيبا وسيطا، ثم تعطوهم شفارا صارمة، فيضربوه ضربة
رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل، فلم تدر عبد
مناف بعد ذلك ما تصنع، ولم يقووا على حرب قومهم، وإنما
غايتهم عند ذلك أن يأخذوا العقل فتدونه لهم. قال النجدي:
لله در هذا الفتى، هذا الرأي وإلا فلا شيء، فتفرقوا على
ذلك واجتمعوا له، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر
وأمر أن لا ينام على فراشه تلك الليلة، فلم يبت موضعه، بل
بيَّتَ عليا في مضجعه. رواه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي،
عن أبيه.
حدثنا ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن
ابن عباس "ح". قال ابن إسحاق: وحدثني الكلبي عن باذان مولى
أم هانئ, عن ابن عباس، فذكر معنى الحديث، وزاد فيه: وأذن
الله عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه بالمدينة "الأنفال" يذكر
نعمته عليه وبلاءه عنده {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} [الأنفال: 30] .
(1/311)
سياق خروج النبي صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا:
قال عقيل: قال ابن شهاب: وأخبرني عروة أن عائشة زَوْجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:
لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِيْنَانِ
الدِّيْنَ، ولم يمر علينا يوم إلا ويأتينا فِيْهِ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرفي النهار بكرة
وعشيا, فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل أرض
الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة وهو سيد
القارة, قال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي،
فأريد أن أسبح في الأرض وأعبد ربي. قال: إن مثلك لا يخرج،
إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف،
وتعين على نوائب الحق, وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك
ببلادك. وارتحل ابن الدغنة مع أبي بكر، فطاف في أشراف
قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرُج مثله ولا يخرَج،
أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري
الضيف، ويعين على نوائب الحق! فأنفذت قريش جوار ابن
الدغنة، وقالوا له: مر أبا بكر يعبد ربه في داره, فليصل
وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى
أن يفتن أبناؤنا ونساؤنا. فقال ذلك لأبي بكر، فلبث يعبد
ربه ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا
لأبي بكر، فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز، فيصلي فيه ويقرأ
القرآن، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون
وينظرون إليه، وكان أبو بكر لا يكاد يملك دمعه حين يقرأ،
فأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم،
فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في
داره، وإنه جاوز ذلك، وابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن
الصلاة والقراءة، وإنا قد خشينا أن يفتن أبناؤنا ونساؤنا،
فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن
أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك جوارك، فإنا قد
كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت
عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عقدت
لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إليَّ ذمتي،
فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. قال
أبو بكر: أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله. ورسول الله صلى
الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم للمسلمين: "قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل
بين لابتين". وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين
ذكر رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجع
إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة وتجهز أبو بكر
مهاجرا فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي".
قال: هل ترجو بأبي أنت ذلك؟ قال: "نعم". فحبس أبو بكر نفسه
عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر.
فبينا نحن جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة، قيل لأبي بكر:
هذا رسول الله مقبلا متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا
(1/312)
فيها. فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، أما
والله إن جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء
واستأذن، فأذن له فدخل، فقال لأبي بكر: "أخرج من عندك".
قال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله. فقال:
"اخرج فقد أذن لي في الخروج". قال: فخذ مني إحدى راحلتي.
قال: "بالثمن". قالت عائشة: فجهزتهما أحث الجهاز، فصنعنا
لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من
نطاقها فأوكت به الجراب، فبذلك كانت تسمى "ذات النطاقين"،
ثم لحق رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَبُو بكر بغار في جبل يقال له ثور، فمكثا فيه ثلاث
ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب لقن
ثقف، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح في قريش بمكة كبائت، فلا
يسمع أمرا يكيدون به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين
يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر
منحة، ويريح عليهما حين تذهب ساعة من الليل، فيبيتان في
رسل منحتهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك
كل ليلة من الليالي الثلاث. واستأجر رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر رجلا من بني الديل
هاديا خريتا، قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل، وهو
على جاهليته، فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور،
فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث، فارتحلا، وانطلق عامر بن
فهيرة والدليل الديلي، فأخذ بهما في طريق الساحل. أخرجه
البخاري1.
عن عمر -رضي الله عنه- قال: والله لليلة من أبي بكر ويوم
خير من عمر، خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هاربا من أهل مكة ليلا، فتبعه أبو بكر،
فجعل يمشي مرة أمامه، ومرة خلفه يحرسه، فمشي رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليلته حتى حفيت رجلاه، فلما رآهما أبو بكر
حمله على كاهله، حتى أتى به فم الغار، وكان فيه خرق فيه
حيات، فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء يُؤْذِي رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فألقمه قدمه،
فجعلن يضربنه ويلسعنه -الحيات والأفاعي- ودموعه تتحدر،
ورسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ:
{لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ، وأما
يومه، فلما ارتدت العرب قلت: يا خليفة رسول الله تألف
الناس وارفق بهم، فقال: جبار في الجاهلية خوار في الإسلام،
بم أتألفهم أبشعر مفتعل أم بقول مفترى! وذكر الحديث.
وهو منكر، سكت عنه البيهقي، وساقه من حديث يحيى بن أبي
طالب، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي، قال:
حدثني فرات بن السائب، عن ميمون، عن ضبة بن محصن، عن عمر.
وآفته من هذا الراسبي فإنه ليس بثقة، مع كونه مجهولا، ذكره
الخطيب في تاريخه فغمزه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3905".
(1/313)
وقال الأسود بن عامر: حدثنا إسرائيل، عن
الأسود، عن جندب، قال: كان أَبُو بَكْرٍ مَعَ رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في الغار، فأصاب يده حجر
فقال:
إن أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيْتِ ... وَفِي سَبِيْلِ
اللهِ ما لقيت
الأسود: هو ابن قيس، سمع من جندب البجلي، واحتجا به في
الصحيحين.
وقال همام: حدثنا ثابت، عن أنس أن أبا بكر حدثه، قَالَ:
كُنْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في
الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم ينظر إلى تحت قدميه
لأبصرنا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "يَا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
متفق عليه1.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ أنهم ركبوا في كل وجه يطلبون النبي صلى الله عليه
وسلم، وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم به، ويجعلون لهم
الجعل العظيم إلى أن قال: فأجاز بهما الدليل أسفل مكة، ثم
مضى بهما حتى جاء الساحل أسفل من عسفان ثم سلك في أمج، ثم
أجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا، ثم سلك في
الخرار، ثم أجاز على ثنية المرة، ثم سلك نقعا، مدلجة ثقيف،
ثم استبطن مدلجة محاج، ثم بطن مرجح ذي العصوين، ثم أجاز
القاحة، ثم هبط للعرج، ثم أجاز في ثنية الغابر عن يمين
ركوبة، ثم هبط بطن رئم ثم قدم قباء من قبل العالية.
وقال مسلم بن إبراهيم: حدثنا عون بن عمرو القيسي, قال:
سمعت أبا مصعب المكي، قال: أدركت المغيرة بن شعبة وأنس بن
مالك وزيد بن أرقم، فسمعتهم يتحدثون أن النبي صلى الله
عليه وسلم ليلة الغار أمر الله بشجرة فنبتت في وجه النبي
صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر الله العنكبوت فنسجت
فسترته، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقعتا بفم الغار،
وأقبل فتيان قريش بعصيهم وسيوفهم، فجاء رجل ثم رجع إلى
الباقين فقال: رأيت حمامتين بفم الغار، فعلمت أنه ليس فيه
أحد.
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: اشترى أبو
بكر من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب:
مر البراء فليحمله إلى رحلي، فقال له عازب: لا حتى تحدثنا
كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما،
والمشركون يطلبونكما.
قال: أدلجنا من مكة ليلا، فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى
أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل نأوي
إليه، فإذا صخرة فانتهيت إليها، فإذا بقية ظل لها فسويته،
ثم
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3653"، ومسلم "2381".
(1/314)
فرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة،
ثم قلت: اضطجع يا رسول الله. فاضطجع, ثم ذهبت أنفض ما حولي
هل أرى من الطلب أحدا، فإذا براعي غنم يسوق غنمه إلى
الصخرة, ويريد منها الذي أريد، يعني الظل، فسألته: لمن
أنت؟ فقال: لرجل من قريش، فسماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك
من لبن؟ قال: نعم. قلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم. فأمرته،
فاعتقل شاة من غنمه، وأمرته أن ينفض ضرعها من التراب، ثم
أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا، فضرب إحداهما على الأخرى،
فحلب لي كثبة من لبن، وقد رويت معي لرسول الله صلى الله
عليه وسلم إداوة، على فمها خرقة، فصببت على اللبن حتى برد
أسفله، فَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فوافيته وقد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله.
فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل. قال: فارتحلنا
والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك
بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول
الله. قال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:
40] ، فلما أن دنا منا، وكان بيننا وبينه قيد رمحين أو
ثلاثة، قلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله. وبكيت،
فقال: "ما يبكيك"؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكني
إنما أبكي عليك. فدعا عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اللهم اكفناه بما
شئت". فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها، فوثب عنها، ثم
قال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني
مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه
كنانتي فخذ منها سهما، فإنك ستمر بإبلي وغنمي بمكان كذا
وكذا، فخذ منها حاجتك، فقال رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ حاجة لنا في إبلك وغنمك". ودعا
له، فانطلق راجعا إلى أصحابه، ومضى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا معه حتى قدمنا المدينة
ليلا1. أخرجاه من حديث زهير بن معاوية، سمعت أبا إسحاق،
قال سمعت البراء. وأخرج البخاري حديث إسرائيل، عن عبد الله
بن رجاء، عنه.
وقال عقيل، عن الزهري: أخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي
أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا
رسل كفار قريش يجعلون فِي رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر دية كل واحد منهما في قتله أو
أسره، فبينا أنا جالس في مجلس قومي بني مدلج، أقبل رجل
منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد
رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه. قال سراقة:
فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم، ولكن رأيت فلانا
وفلانا، انطلقوا باغين، ثم قلَّ ما لبثتُ في المجلس حتى
قمت فدخلت بيتي، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي فتهبطها من
وراء أكمة فتحبسها عليَّ، فأخذت برمحي
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3615"، ومسلم "3014".
(1/315)
وخرجت من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض،
وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب
بي، حتى إذا دنوت منهم عثرت بي فرسي فخررت, فقمت فأهويت
بيدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها
أضرهم أو لا أضرهم، فخرج الذي أكره: لا أضرهم، فركبت فرسي
وعصيت الأزلام، فرفعتها تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر
التلفت, ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغت الركبتين، فخررت
عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يداها، فلما استوت
قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان،
فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره "لا أضرهم"، فناديتهما
بالأمان، فوقفا لي وركبت فرسي حتى جئتهما، ووقع في نفسي
حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهما، أنه سيظهر رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ له: إن
قومك قد جعلوا فيكما الدية، وأخبرتهما أخبار ما يريد الناس
بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزءوني شيئا، ولم
يسألني، إلا أن قال: "أخف عنا". فسألته أن يكتب لي كتاب
موادعة آمن به، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أدم
مضى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أخرجه البخاري1.
وقال موسى بن عقبة: حدثنا ابن شهاب الزهري، قال: حدثني عبد
الرحمن بن مالك بن جعشم المدلجي أن أباه أخبره، أن أخاه
سراقة بن جعشم أخبره، ثم ساق الحديث، وزاد فيه: وأخرجت
سلاحي ثم لبست لأمتي، وفيه: فكتب لي أبو بكر، ثم ألقاه إلي
فرجعت فسكت، فلم أذكر شيئا مما كان حتى فتح الله مكة، وفرغ
رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين خرجت لألقاه ومعي
الكتاب، فدخلت بين كتيبة من كتائب الأنصار، فطفقوا
يقرعونني بالرماح ويقولون: إليك إليك، حتى دنوت مِنْ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على
ناقته، أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة، فرفعت يدي
بالكتاب فقلت: يا رسول الله هذا كتابك. فقال: "يوم وفاء
وبر ادن". قال: فأسلمت، ثم ذكرت شيئا أسأل عنه رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابن شهاب:
سأله عن الضالة وشيء آخر، قال: فانصرفت وسقت إِلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدقتي.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثت عن أسماء بنت أبي بكر
أنها قالت: لما خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر، أتى نفر من قريش، فيهم
أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر، فَخَرَجتُ إِلَيْهِمْ،
فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوْكِ؟ قُلْتُ: لاَ أدري والله أين
أبي، فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشا خبيثا- فلطمني على خدي
لطمة طرح منها قرطي.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3906".
(1/316)
وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير
أن أباه حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خَرَجَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج
معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف أو
ستة آلاف درهم، فانطلق به معه، فدخل علينا جدي أبو قحافة
-وقد ذهب بصره- فقال: والله إني لأراه فجعكم بماله مع
نفسه. قالت: قلت: كلا يا أبه، قد ترك لنا خيرا كثيرا.
قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة من البيت كان أبي يضع
فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك
على هذا المال فوضع يده عليه فقال: لا بأس إذا كان قد ترك
لكم هذا فقد أحسن, وفي هذا بلاغ لكم، قالت: ولا والله ما
ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن أسكن الشيخ.
وحدثني الزهري، أن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم حدثه، عن
أبيه، عن عمه سراقة بن مالك بن جعشم، قال: لما خَرَجَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة
مهاجرا، جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده، قال: فبينا أنا
جالس، أقبل رجل منا فقال: والله لقد رأيت ركبا ثلاثة مروا
علي آنفا، إني لأراهم محمدا وأصحابه، فأومأت إليه، يعني أن
اسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم، قال:
لعله، فمكثت قليلا، ثم قمت فدخلت بيتي، فذكر نحو ما تقدم.
قال: وحدثت عن أسماء بنت أبي بكر قالت: فمكثنا ثلاث ليال
ما ندري أين وَجْهِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة
يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبعونه،
ويسمعون صوته، حتى خرج من أعلى مكة، وهو يَقُوْلُ:
جَزَى اللهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رفيقين
حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت: فعرفنا حيث وَجْهِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ وجهه إلى المدينة.
قلت: قد سقت خبر أم معبد بطوله في صفته صلى الله عليه
وسلم، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ:
حَدَّثَنَا عبد الرحمن ابن الأصبهاني، قال: سمعت عبد
الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بكر الصديق قال: خَرَجْتُ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ مكة،
فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فَنَظَرَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيت متنحيا، فقصد
إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة، فقالت: يا عبدي
الله
(1/317)
إنما أنا امرأة وليس معي أحد، فعليكما
بعظيم الحي إن أردتم القرى. قال: فلم يجبها، وذلك عند
المساء، فجاء ابن لها بأعنز له يسوقها، فقالت له: يا بني
انطلق بهذه العنز والشفرة إليهما فقل: اذبحا هذه وكلا
وأطعمانا، فلما جاء قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انطلق بالشفرة وجئني بالقدح" قال:
إنها قد عزبت وليس لها لبن. قال: "انطلق". فانطلق فجاء
بقدح، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها، ثم حلب حتى
ملأ القدح، ثم قال: "انطلق به إلى أمك". فشربت حتى رويت،
ثم جاء به فقال: "انطلق بهذه وجئني بأخرى".
ففعل بها كذلك، ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بأخرى، ففعل بها
كذلك، ثم شرب صلى الله عليه وسلم، قال: فبتنا ليلتنا ثم
انطلقنا، فكانت تسميه "المبارك"، وكثر غنمها حتى جلبت جلبا
إلى المدينة، فمر أبو بكر فرآه ابنها فعرفه فقال: يا أمه
إن هذا الرجل الذي كان مع المبارك. فقامت إليه فقالت: يا
عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: وما تدرين من هو!
قالت: لا، قال: هو النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأدخلني
عليه، فأدخلها عليه فأطعمها وأعطاها.
رواه محمد بن عمران بن أبي ليلى، وأسد بن موسى، عن يحيى،
وإسناده نظيف لكن منقطع بين أبي بكر، وعبد الرحمن بن أبي
ليلى.
أوس بن عبد الله بن بريدة: أخبرنا الحسين بنُ وَاقِدٍ،
عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يتفاءل، وكانت
قريش قد جعلت مائة من الإبل لمن يرده عليهم، فركب بريدة في
سبعين من بني سهم، فلقي نبي الله ليلا فقال له: "من أنت"؟
قال: بريدة. فالتفت إلى أبي بكر فقال: "برد أمرنا وصلح".
ثم قال: "وممن"؟ قال: من أسلم. قال لأبي بكر: "سلمنا". ثم
قال: "ممن"؟ قال: من بني سهم. قال: "خرج سهمك". فأسلم
بريدة والذين معه جميعا، فلما أصبحوا قال بريدة للنبي صلى
الله عليه وسلم: لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، فحل
عمامته ثم شدها في رمح، ثم مشى بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: يا نبي الله تنزل
عليَّ. قال: إن ناقتي مأمورة فسار حتى وقفت على باب أبي
أيوب فبركت. قلت: أوس متروك.
وقال الحافظ أبو الوليد الطيالسي: حدثنا عبيد الله بن إياد
بن لقيط، قال: حدثنا أبي، عن قيس بن النعمان، قال: لما
انطلق النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَبُو بَكْرٍ مستخفيين مروا بعبد يرعى غنما فاستسقياه
اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقا حملت
أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها لبن. فقال: "ادع بها".
فدعا بها، فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها
ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم
حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال: الراعي: بالله من
أنت، فوالله ما رأيت مثلك قط؟ قال: "أتكتم علي حتى
أخبرك"؟. قال: نعم. قال: "فإني محمد رسول الله". فقال: أنت
الذي تزعم قريش أنه
(1/318)
صابئ؟ قال: "إنهم ليقولون ذلك". قال: فأشهد
أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا
نبي، وأنا متبعك. قال: "إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك
أني قد ظهرت فائتنا".
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
فحدثني مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ
عُرْوَةَ بن الزبير، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عُوَيْمِ
بنِ سَاعِدَةَ، عن رجال من قومه، قالوا: لما بلغنا مخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، كنا نخرج كل غداة
فنجلس له بظاهر الحرة، نلجأ إلى ظل الجدر حتى تغلبنا عليه
الشمس, ثم نرجع إلى رحالنا، حتى إذا كان اليوم الذي جاء
فِيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا رجعنا جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرآه رجل من اليهود،
فنادى: يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء، فخرجنا ورسول الله
صلى الله عليه وسلم قد أناخ إلى ظل هو وأبو بكر، والله ما
ندري أيهما أسن، هما في سن واحدة، حتى رأينا أبا بكر ينحاز
له عن الظل، فعرفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك،
وقد قال قائل منهم: إن أبا بكر قام فأظل رسول الله صلى
الله عليه وسلم بردائه، فعرفناه.
وقال محمد بن حمير، عن إبراهيم بن أبي عبلة: حدثني عقبة بن
وساج، عَنْ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قدم، يعني المدينة، وليس في أصحابه
أشمط غير أبي بكر، فغفلها بالحناء والكتم1 أخرجه البخاري،
من حديث محمد بن حمير.
وقال شعبة: أنبأنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: أول
من قدم علينا من الصحابة مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم،
وكانا يقرئان القرآن، ثم جاء عمار، وبلال، وسعد، ثم جاء
عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، ثم جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رأيت أهل
المدينة فرحوا بشيء قط فرحهم به، حتى رأيت الولائد
والصبيان يسعون في الطرق يقولون: جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا قدم المدينة حتى
تعلمت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] في
مثلها من المفصل. خ2.
وقال إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء، في حديث الرحل، قال
أبو بكر: ومضى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَا معه، حتى قدمنا المدينة ليلا، فتنازعه
القوم أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إني أنزل الليلة على بني النجار أخوال بني عبد المطلب
أكرمهم بذلك". وقدم الناس حين قدمنا المدينة، في الطريق
وعلى البيوت، والغلمان والخدم يقولون: جاء رسول الله،
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3919".
2 صحيح: تقدم تخريجنا له قريبا برقم "218".
(1/319)
جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله أكبر جاء محمد صلى الله عليه
وسلم، فلما أصبح انطلق فنزل حيث أمر. متفق عليه.
وقال هاشم بن القاسم: حدثنا سليمان -هو ابن المغيرة- عن
ثابت، عن أنس، قال: إني لأسعى في الغلمان يقولون: "جاء
محمد"، وأسعى ولا أرى شيئا، ثم يقولون: "جاء محمد"، فأسعى،
حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر فكمنا في
بعض جدار المدينة، ثم بعثا رجلا من أهل البادية ليؤذن بهما
الأنصار، قال: استقبلهما زهاء خمس مائة من الأنصار، حتى
انتهوا إليهما، فقالوا: انطلقا آمنين مطاعين. فأقبل
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَصَاحِبُهُ بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة، حتى إن العواتق
لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ قال: فما
رأينا منظرا شبها به يومئذ. صحيح.
وقال الوليد بن محمد الموقري وغيره، عن الزهري، قال:
فأخبرني عروة أن الزبير كان في ركب تجار بالشام، فقفلوا
إلى مكة، فعارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر
بثياب بياض، وسمع المسلمون بمخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه، حتى
يردهم نحر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظاره،
فلما أووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود أطما من آطامهم
لشأنه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين
يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا
معشر العريب هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى
السلاح، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة،
فعدل بهم رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَاتَ اليمين، حتى نزل في بني عمرو بن عوف من
الأنصار، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو
بكر يذكر الناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا،
فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه
وسلم يحسبه أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرفوا
رسول الله عند ذلك، فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة
ليلة.
وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، فصلى فيه، ثم ركب راحلته
فسار، فمشى معه الناس، حتى بركت بالمدينة عند مسجده صلى
الله عليه وسلم، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين،
وكان مربدا للتمر لسهل وسهيل، غلامين يتيمين أخوين في حجر
أسعد بن زرارة من بني النجار، فقال حين بركت به راحلته:
"هذا إن شاء الله المنزل". ثم دعا الغلامين فساومهما
المربد ليتخذه مسجدا، فقال: بل نهبه لك. فأبى حتى ابتاعه
وبناه.
وقال عبد الوارث بن سعيد وغيره: حدثنا أبو التياح، عن أنس،
قال: لما قدم
(1/320)
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ المدينة نزل في علوم المدينة في بني عمرو بن
عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني
النجار، فجاءوا متقلدين سيوفهم، فكأني أنظر إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر ردفه،
وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب. متفق
عليه.
وقال عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم المدينة مر على عبد الله بن
أبي وهو جالس على ظهر الطريق، فوقف عَلَيْهِ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر أن يدعوه
إلى المنزل، وهو يومئذ سيد أهل المدينة في أنفسهم، فقال
عبد الله: انظر الذين دعوك فأتهم، فعمد إلى سعد بن خيثمة،
فنزل عليه في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال، واتخذ مكانه
مسجدا فكان يصلي فيه، ثم بناه بنو عمرو، فهو الذي أسس على
التقوى والرضوان.
ثم إنه ركب يوم الجمعة، فمر على بني سالم، فجمع فيهم,
وكانت أول جمعة صلاها حين قدم المدينة، واستقبل بيت
المقدس، فلا أبصرته اليهود صلى قبلتهم طمعوا فيه للذي
يجدونه مكتوبا عندهم، ثم ارتحل فاجتمعت له الأنصار يعظمون
دين الله بذلك، يمشون حول نَاقَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لاَ يزال أحدهم ينازع صاحبه
زمام الناقة، فقال: "خلوا سبيل الناقة، فإنما أنزل حيث
أنزلني الله". حتى انتهى إلى دار أبي أيوب في بني غنم،
فبركت على الباب، فنزل، ثم دخل دار أبي أيوب، فنزل عليه
حتى ابتنى مسجده ومسكنه في بني غنم، وكان المسجد موضعا
للتمر لابني أخي أسعد بن زرارة، فأعطاه رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وأعطى ابني أخيه مكانه نخلا له في بني بياضة،
فقالوا: نعطيه رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لاَ نأخذ له ثمنا، وبنى النبي صلى الله عليه
وسلم لحمزة ولعلي ولجعفر، وهم بأرض الحبشة، وجعل مسكنهم في
مسكنه، وجعل أبوابهم في المسجد مع بابه، ثم إنه بدا له،
فصرف باب حمزة وجعفر. كذا قال: وهم بأرض الحبشة، وإنما كان
علي بمكة. رواه ابن عائذ، عن محمد بن شعيب، عنه.
وقال موسى بن عقبة: يقال: لما دنا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر من المدينة، وقدم
طلحة بن عبيد الله من الشام، خرج طلحة عامدا إلى مكة، لما
ذكر لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر، خرج إما متلقيا لهما، وإما عامدا
عمده بمكة، ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام، فلما
لقيه أعطاه الثياب، فلبس رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر منها.
وقال الوليد بن مسلم، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ يَزِيْدَ،
عَنْ أَبِي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه: قَدِمَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة
يوم الإثنين، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فأقام
بالمدينة عشر سنين.
(1/321)
وقال ابن إسحاق: المعروف أنه قدم المدينة
يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، قال:
ومنهم من يقول لليلتين مضتا منه. رواه يونس وغيره، عن ابن
إسحاق.
وقال عبد الله بن إدريس: حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن
جعفر، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عويم، قال: أخبرني بعض
قومي، قَالَ: قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الإثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت
من ربيع الأول، فأقام بقباء بقية يومه وثلاثة أيام, وخرج
يوم الجمعة على ناقته القصواء، وبنو عمرو بن عوف يزعمون
أنه لبث فيهم ثماني عشرة ليلة.
وقال زكريا بن إسحاق: حدثنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس،
قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشرة،
وتوفي وهو ابن ثلاث وستين. متفق عليه.
وقال سفيان بن عيينة: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن
عجوز لهم، قالت: رأيت ابن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس
الأنصاري, كان يروي هذه الأبيات:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو ألفى صديقا مواتبا
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير
داعيا
فلما أتانا واطمأنت به النوى ... وأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وأصبح ما يخشى ظلامه ظالم ... بعيد ولا يخشى من الناس
راعيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغي
والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعا وإن كان الحبيب
المواسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره ... وأن كتاب الله أصبح هاديا
وقال عَبْدُ الوَارِثِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ
صُهَيْبٍ، عَنِ أَنَسٍ قَالَ: أقبل نبي اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِيْنَةِ، وهو مردف
أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم
شاب لا يعرف -يريد دخول الشيب في لحيته دونه لا في السن-
قال أنس: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا
الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا رجل يهديني السبيل. فيحسب
الحاسب أنه يعني الطريق، وإنما يعني طريق الخير. فإذا هو
بفارس قد لحقهم، فقال: يا نبي الله هذا فارس قد لحق، فقال:
"اللهم اصرعه" فصرعه فرسه، ثم قامت تحمحم. فقال: يا نبي
الله مرني بم شئت. قال: "تقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق
بنا" قال: فكان أول النهار جاهدا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآخر النهار مسلحة له،
فَنَزَلَ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جانب الحرة، وأرسل إلى الأنصار، فجاءوا رسول الله، فسلموا
عليهما. فقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركبا وحفوا
(1/322)
حولهما بالسلاح، فقيل في المدينة: جاء رسول
الله، جاء رسول الله وأقبل حتى نزل إلى جانب بيت أبي أيوب،
قال: فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في
نخل لأهله، يخترف لهم منه، فعجل أن يضع التي يخترف فيها
فجاءه وهي معه، فسمع من نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أهله، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أي بيوت أهلنا أقرب"؟ فقال أبو أيوب: أنا
يا نبي الله هذه داري، قال: "اذهب فهيء لنا مقيلا" فذهب
فهيأ لهما مقيلا، ثم جاء فقال: يا نبي الله قد هيأت لكما
مقيلا، قوما على بركة الله فقيلا.
فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم، جاء عبد الله بن
سلام، فقال: أشهد أنك رسول الله حقا، وأنك جئت بحق، ولقد
علمت يهود أني سيدهم وأعلمهم. وذكر الحديث1 أخرجه البخاري.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3911".
(1/323)
السنة الأولى من
الهجرة:
روى البخاري في صحيحه1 من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة
أن المسلمين بالمدينة سمعوا مخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فكانوا يغدون إلى الحرة ينتظرونه، حتى يردهم حر
الشمس، فانقلبوا يوما، فأوفى يهودي على أطم فبصر برسول
الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب،
فأخبرني عُرْوَةَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا
تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير -رضي الله عنه- رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض.
قال: فلم يملك اليهودي أن صاح، يا معشر العرب، هذا جدكم
الذي تنتظرون. فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوه بظهر
الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف
يوم الإثنين مع ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس فطفق من لم
يعرف رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى أبي بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأقبل أبو بكر يظله بردائه، فعرف الناس عند ذَلِكَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلبث
في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس مسجدهم. ثم ركب
راحلته وسار حوله الناس يمشون، حتى بركت به مكان المسجد،
وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين -وكان مربدا لسهل
وسهيل- فدعاهما فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل
نهبه لك يا رسول الله. ثم بناه مسجدا، وكان ينقل اللبن
معهم ويقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره
وخرج البخاري من حديث أبي إسحاق عن البراء حديث الهجرة
بطوله.
وخرج من حديث عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ صُهَيْبٍ عَنِ أَنَسٍ
قَالَ: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو
مردف أبا بكر. وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي صلى الله عليه
وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا بين
يديك؟ فيقول: رجل يهديني الطريق، وإنما يعني طريق الخير
إلى أن قال:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3906" من طريق ابن شهاب، به.
وقال الحافظ في "الفتح": هو موصول بإسناد حديث عائشة، وقد
أفرده البيهقي في "الدلائل" وقبله الحاكم في "الإكليل" من
طريق ابن إسحاق "حدثني محمد بن مسلم هو الزهري، به" وكذلك
أورده الإسماعيلي منفردا من طريق معمر والمعافى في الجليس
من طريق صالح بن كيسان كلاهما عن الزهري.
(1/324)
فَنَزَلَ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار،
فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليهما،
وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركبا، وحفوا دونهما بالسلاح.
فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله، فأقبل يسير
حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب، وذكر الحديث.
وروينا بإسناد حسن، عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه
قَالَ: قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم المدينة يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع
الأول، فأقام في المدينة عشر سنين.
وقال محمد بن إسحاق: فقدم ضحى يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت
من ربيع الأول، فأقام في بني عمرو بن عوف؛ فيما قيل؛ يوم
الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، ثم ظعن يوم الجمعة،
فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاها بمن معه. وكان
مكان المسجد؛ مربدا لغلامين يتيمين، وهما سهل وسهيل ابنا
رافع بن عمرو من بني النجار فيما قال موسى بن عقبة، وكانا
في حجر أسعد بن زرارة.
وقال ابن إسحاق: كان المربد لسهل وسهيل ابني عمرو، وكانا
في حجر معاذ بن عفراء.
وغلط ابن مندة فقال: كان لسهل وسهيل ابني بيضاء، وإنما
ابنا بيضاء من المهاجرين.
وأسس رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامته ببني عمرو بن
عوف مسجد قباء. وصلى الجمعة في بني سالم في بطن الوادي.
فخرج معه رجال منهم، وهم: العباس بن عبادة، وعتبان بن
مالك، فسألوه أن ينزل عندهم ويقيم فيهم، فقال: "خلوا
الناقة فإنها مأمورة". وسار والأنصار حوله حتى أتى بني
بياضة، فتلقاه زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، فدعوه إلى
النزول فيهم، فقال: "دعوها فإنها مأمورة". فأتى دور بني
عدي بن النجار؛ وهم أخوال عبد المطلب؛ فتلقاه سليط بن قيس،
ورجال من بني عدي، فدعوه إلى النزول والبقاء عندهم، فقال:
"دعوها فإنها مأمورة". ومشى حتى أتى دور بني مالك بن
النجار، فبركت الناقة في موضع المسجد، وهو مربد تمر
لغلامين يتيمين. وكان فيه نخل وخرب، وقبور للمشركين. فلم
ينزل عن ظهرها، فقامت ومشت قليلا، وهو صلى الله عليه وسلم
لا يهيجها، ثم التفت فكرت إلى مكانها وبركت فيه، فنزل عنها
فأخذ أبو أيوب الأنصاري رحلها فحمله إلى داره. ونزل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ
من دار أبي أيوب. فلم يزل ساكنا عند أبي أيوب حتى بنى
مسجده وحُجَرَه في المربد. وكان قد طلب شراءه فأبت بنو
النجار من بيعه، وبذلوه لله وعوضوا اليتيمين. فأمر بالقبور
فنبشت، وبالخرب فسويت. وبنى عضادتيه بالحجارة، وجعل سواريه
من جذوع النخل، وسقفه بالجريد, وعمل فيه المسلمون حسبة.
(1/325)
فمات أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري تلك
الأيام بالذبحة. وكان من سادة الأنصار ومن نقبائهم
الأبرار. ووجد النبي صلى الله عليه وسلم وجدا لموته، وكان
قد كواه. ولم يجعل على بني النجار بعده نقيبا وقال: أنا
نقيبكم. فكانوا يفخرون بذلك.
وكانت يثرب لم تمصر، وإنما كانت قرى مفرقة: بنو مالك بن
النجار في قرية، وهي مثل المحلة، وهي دار بني فلان. كما
الحديث: "خير دور الأنصار دار بني النجار" 1.
وكان بنو عدي بن النجار لهم دار، وبنو مازن بن النجار
كذلك، وبنو سالم كذلك، وبنو ساعدة كذلك، وبنو الحارث بن
الخزرج كذلك، وبنو عمرو بن عوف كذلك، وبنو عبد الأشهل كذلك
وسائر بطون الأنصار كذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"وفي كل دور الأنصار خير" 2.
وأمر -عليه السلام- بأن تبنى المساجد في الدور. فالدار
-كما قلنا- هي القرية. ودار بني عوف هي قباء. فوقع بناء
مسجده صلى الله عليه وسلم في بني مالك بن النجار، وكانت
قرية صغيرة.
وخرج البخاري من حديث أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل في بني عمرو بن عوف، فأقام
فيهم أربع عشرة ليلة. ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا.
وآخى في هذه المدة بين المهاجرين والأنصار. ثم فرضت
الزكاة. وأسلم الحبر عبد الله بن سلام، وأناس من اليهود،
وكفر سائر اليهود.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "5/ 424-425"، والبخاري "1481"
و"3791"، ومسلم "ص1786"، "1392"، "12" من طريق عمرو بن
يحيى, عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي حميد
الساعدي، به.
2 صحيح: راجع تخريجنا السابق فهو جزء من هذا الحديث.
(1/326)
قصة إسلام ابن سلام:
قال عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ صُهَيْبٍ، عَنِ أَنَسٍ، قَالَ:
جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله حقا. ولقد
علمت يهود أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ،
وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ، فادعهم فَسَلْهُمْ
عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أسلمت. فأرسل
إليهم فأتوا، فقال لهم: "يا معشر يهود، ويلكم اتقوا الله،
فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله
فأسلموا". قالوا: ما نعلمه، فأعاد ذلك عليهم ثلاثا. ثم
قال: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام"؟ قالوا: ذلك
سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ
أَعْلَمِنَا. قَالَ: "أفرأيتم إن أسلم"؟ قالوا: حاش لله،
ما كان ليسلم. قال: "يابن سلام اخرج عليهم". فخرج عليهم،
فقال: ويلكم اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إِنَّكُمْ
لَتَعْلَمُوْنَ أَنَّهُ رَسُوْلُ اللهِ حَقّاً، قَالُوا:
كَذَبْتَ. فَأَخْرَجَهُمْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه البخاري بأطول منه1.
وأخرج من حديث حميد عن أنس، قال: سمع عبد الله بن سلام
بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في أرض، فأتى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا
يعلمهن إِلاَّ نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟
وَمَا أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى
أمه؟ قال: "أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيْلُ آنفاً". قَالَ:
ذَاكَ عَدُوُّ اليهود من الملائكة. قال: ثم قرأ: {قُلْ
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ
عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 97] ، "أما أول أشراط الساعة،
فنار تخرج على الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام
يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وغذا سبق ماء الرجل ماء
المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة نزع إلى
أمه". فتشهد وقال: إِنَّ اليَهُوْدَ قَوْمٌ بُهْتٌ،
وَإِنَّهُم إِنْ يَعْلَمُوا بإسلامي قبل أن تسألهم عني
بهتوني. فجاءوا، فقال: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم"
قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: "أرأيتم
إن أسلم"؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج فَقَالَ:
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّ
مُحَمَّداً رَسُوْلُ اللهِ. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ
شرنا، وتنقصوه. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله2.
وقال عوف الأعرابي، عَنْ زُرَارَةُ بنُ أَوْفَى، عَنْ
عَبْدِ اللهِ بنِ سلام قال: لما قدم رسول
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3911" حدثني محمد، حدثني عبد
الصمد، حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 108"، والبخاري "3329" و"3938"
و"4480"، والبيهقي في "دلائل النبوة"، "2/ 528-529"،
والبغوي في "شرح السنة" "3769" من طرق عن حميد، به.
(1/327)
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المَدِيْنَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قبله، قالوا: قَدِمَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فجئت
لأنظر، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ
لَيْسَ بِوَجْهِ كذاب. فكان أول شيء سمعته منه أن قال:
"أيها الناس، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وَصِلُوا
الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ،
تَدْخُلُوا الجنة بسلام" 1. صحيح.
وروى أَسْبَاطُ بنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي
مالك، وأبي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ
عَنِ ابن مسعود وعن ناس مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {وَلَمَّا
جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] ؛ قال: كانت العرب تمر
باليهود فيؤذونهم وكانوا يجدون محمدا في التوراة، فيسألون
الله أن يبعثه فيقاتلون معه العرب. فلما جاءهم ما عرفوا
كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "5/ 451"، والترمذي "2485"، وابن ماجه
"1334"، "3251"، والدارمي "1/ 340"، والحاكم "3/ 13" من
طرق عن عوف بن أبي جميلة، به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.
قلت: وهو كما قالا.
وقوله: "انجفل الناس قبله" أي ذهبوا إليه مسرعين.
(1/328)
قصة بناء المسجد:
قال أبو التياح، عن أنس: فأرسل رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى ملأ بني النجار فجاءوا فقال: "يا بني النجار،
ثامنوني بحائطكم هذا". قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا
إلى الله. فكان فيه ما أقول لكم: كان فيه قبور المشركين،
وكان فيه خرب ونخل. فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع. فصفوا
النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة، وجعلوا ينقلون الصخر،
وهم يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم،
ويقولون:
اللهم لا خير إلا خير الآخره ... فانصر الأنصار والمهاجره
متفق عليه1. وفي رواية: فاغفر للأنصار.
وقال موسى بن عقبة, عن ابن شهاب، في
قصة بناء المسجد: فطفق
هو وأصحابه ينقلون اللبن، ويقول وهو ينقل اللبن معهم:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره
قال ابن شهاب: فتمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعر
رجل من المسلمين لم يسم في الحديث. ولم يبلغني في الحديث
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تمثل ببيت شعر غير هذه الأبيات.
ذكره البخاري في صحيحه.
وقال صالح بن كيسان: حدثنا نافع أن عبد الله أخبره أن
المسجد كان عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب
النخل. فلم يزد فيه أبو بكر شيئا. وزاد فيه عمر، وبناه على
بنيانه فِي عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا. وغيره
__________
1 صحيح: أخرجه الطيالسي "2085"، وأحمد "3/ 211-212"،
والبخاري "428" و"1868" و"2106" و"2771" و"2774" و"2779"
و"3932"، ومسلم "524" "9"، وأبو داود "453"، والنسائي "2/
39-40"، والبيهقي "2/ 438"، والبغوي "3765" من طرق عن عبد
الوارث بن سعيد، عن أبي التياح، به.
(1/329)
عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره
بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة،
وسقفه بالساج. أخرجه البخاري1.
وقال حماد بن سلمة، عن أبي سنان، عن يعلى بن شداد، عن
عبادة، أن الأنصار جمعوا مالا، فأتوا به النبي صلى الله
عليه وسلم فقالوا: ابن بهذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي
تحت هذا الجريد؟ فقال: "ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش
كعريش موسى".
وروي عن الحسن البصري في قوله: "كعريش موسى"؛ قال: إذا رفع
يده بلغ العريش، يعني السقف.
وقال عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق بن علي، عن أبيه قال:
بنيت مع النبي صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة، فكان
يقول: قربوا اليمامي من الطين، فإنه من أحسنكم له بناء.
وقال أبو سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المسجد الذي أسس على
التقوى مسجدي هذا أخرجه مسلم بأطول منه2.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلاَةٌ فِي
مَسْجِدِي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا
مسجد الكعبة". صحيح3.
وقال أبو سعيد: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين
لبنتين؛ يعني في بناء المسجد،
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "446" حدثنا علي بن عبد الله، قال
حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال حدثني أبي، عن صالح بن
كيسان، به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 8 و89"، ومسلم "1398"، والترمذي
"3099"، والنسائي "2/ 36"، والحاكم "1/ 487" و"2/ 334" من
حديث أبي سعيد الخدري، به.
3 صحيح: ورد من حديث أبي هريرة, وابن عمر، وسعد بن أبي
وقاص, وجبير بن مطعم، وَجَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ،
وَعَبْدِ اللهِ بنِ الزبير، رضي الله عنهم جميعا.
فمن حديث أبي هريرة: أخرجه مسلم "1394"، والدارمي "1/
330"، وأحمد "2/ 528" من طرق عنه، به مرفوعا وإسناده صحيح.
وأما حديث ابن عمر: فقد أخرجه مسلم "1395" والدارمي "1/
330" من طريق عبيد الله، عن نافع، عنه، به. وإسناده صحيح.
وأما حديث سعد بن أبي وقاص: فهو عند أحمد "1/ 184". وأجتزئ
بما ذكرت لعدم الإطالة، وقد خرجت الحديث بإسهاب في كتاب
"الجواب الباهر في زوار المقابر" ط. دار الجيل بيروت لبنان
"ص23".
(1/330)
فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفض
عنه التراب ويقول: "ويح عمار، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ
البَاغِيَةُ، يَدْعُوْهُم إِلَى الجَنَّةِ وَيدْعُوْنَهُ
إلى النار". أخرجه البخاري1 دون قوله: "تقتله الفئة
الباغية"، وهي زيادة ثابتة الإسناد.
ونافق طائفة من الأوس والخزرج، فأظهروا الإسلام مداراة
لقومهم. فممن ذكر منهم: من أهل قباء: الحارث بن سويد بن
الصامت، وكان أخوه خلاد رجلا صالحا، وأخوه الجلاس، دون
خلاد في الصلاح.
ومن المنافقين: نبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، وأبو
حبيبة ابن الأزعر أحد من بنى مسجد الضرار، وجارية بن عامر،
وابناه: زيد ومجمع -وقيل: لم يصح عن مجمع النفاق، وإنما
ذكر فيهم لأن قومه جعلوه إمام مسجد الضرار- وعباد بن حنيف،
وأخواه سهل وعثمان من فضلاء الصحابة.
ومنهم: بشر، ورافع، ابنا زيد، ومربع، وأوس، ابنا قيظي،
وحاطب بن أمية، ورافع بن وديعة، وزيد بن عمرو، وعمرو بن
قيس؛ ثلاثتهم من بني النجار، والجد بن قيس الخزرجي؛ من بني
جشم، وعبد الله بن أبي بن سلول، من بني عوف بن الخزرج،
وكان رئيس القوم.
وممن أظهر الإيمان من اليهود ونافق بعد: سعد بن حنيف، وزيد
بن اللصيت، ورافع بن حرملة، ورفاعة بن زيد بن التابوت،
وكنانة بن صوريا.
ومات فيها: البراء بن معرور السلمي أحد نقباء العقبة -رضي
الله عنه- وهو أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة
العقبة، وكان كبير الشأن.
وتلاحق المهاجرون الذين تأخروا بمكة بالنبي صلى الله عليه
وسلم فلم يبق إلا محبوس أو مفتون، ولم
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 90-91"، والبخاري "447" و"2812" من
طريق خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، عن أبي سعيد، به.
وأخرجه أحمد "3/ 5"، والطيالسي "2168" من طريق داود، عن
أبي نضرة، عن أبي سعيد، به.
وأخرجه أحمد "3/ 28" وابن سعد "3/ 252" من طريق شعبة, عن
عمرو بن دينار، عن هشام، عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: "وَيْحَ
ابْنِ سُمَيَّةَ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ،
يَدْعُوْهُم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار".
وقد خرجت الحديث بإسهاب في عدة مواضع من كتاب "منهاج السنة
النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" منها تعليق رقم
"186" بالجزء الرابع, وغيره من مواضع فراجعه ثمت إن شئت
زيادة.
(1/331)
يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها،
إلا أوس الله، وهم حي من الأوس؛ فإنهم أقاموا على شركهم.
ومات فيها: الوليد بن المغيرة المخزومي والد خالد، والعاص
بن وائل السهمي والد عمرو بمكة على الكفر.
وكذلك: أبو أحيحة سعيد بن العاص الأموي توفي بماله
بالطائف.
وفيها: أرِيَ الأذان عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب،
فشرع الأذان على ما رأيا.
وفي شهر رمضان عقد النبي صلى الله عليه وسلم لواء لحمزة بن
عبد المطلب يعترض عيرا لقريش. وهو أول لواء عقد في
الإسلام.
وفيها: بعث النبي صلى الله عليه وسلم حارثة وأبا رافع إلى
مكة لينقلا بناته وسودة أم المؤمنين.
وفي ذي القعدة عقد لواء لسعد بن أبي وقاص، ليغير على حي من
بني كنانة أو بني جهينة. ذكره الواقدي.
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن محمد بن إِسْحَاقَ،
عَنْ يَزِيْدَ بنِ رُوْمَانَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَدِمَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المَدِيْنَةَ، فكان أول راية عقدها راية عبيدة بن الحارث.
وفيها: آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَ المهاجرين والأنصار، على المواساة والحق.
وقد روى أبو داود الطيالسي، عن سليمان بن معاذ، عَنْ
سِمَاكٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
آخَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بين المهاجرين والأنصار، وورث بعضهم من بعض، حتى نزلت:
{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}
[الأنفال: 75] 1.
والسبب في قلة من توفي في هذا العام وما بعده من السنين،
أن المسلمين كانوا قليلين بالنسبة إلى من بعدهم فإن
الإسلام لم يكن إلا ببعض الحجاز، أو من هاجر إلى الحبشة.
وفي خلافة عمر -رضي الله عنه- بل وقبلها انتشر الإسلام في
الأقاليم، فبهذا يظهر لك سبب قلة من توفي في صدر الإسلام،
وسبب كثرة من توفي في زمان التابعين فمن بعدهم.
__________
1 ضعيف: أخرجه الطيالسي "2676" حدثنا سليمان، به.
قلت: إسناده ضعيف، فيه علتان: الأولى: سليمان، بن قرم بن
معاذ، أبو داود البصري النحوي، سيئ الحفظ. والعلة الثانية:
سماك، هو ابن حرب، صدوق، لكن روايته عن عكرمة خاصة مضطربة،
وقد تغير بأخرة.
(1/332)
وكان في هذا القرب أبو قيس بن الأسلت بن
جشم بن وائل الأوسي الشاعر، وكان يعدل بقيس بن الخطيم في
الشجاعة والشعر، وكان يحض الأوس على الإسلام، وكان قبل
الهجرة يتأله ويدعي الحنيفية، ويحض قريشا على الإسلام،
فقال قصيدته المشهورة التي أولها:
أيا راكبا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتمو ... لنا قادة قد يقتدى
بالذوائب
روى الواقدي عن رجاله قالوا: خرج ابن الأسلت إلى الشام،
فتعرض آل جفنة فوصلوه، وسأل الرهبان فدعوه إلى دينهم فلم
يرده، فقال له راهب: أنت تريد دين الحنيفية، وهذا وراءك من
حيث خرجت. ثم إنه قدم مكة معتمرا، فلقي زيد بن عمرو بن
نفيل، فقص عليه أمره، فكان أبو قيس بعد يقول: ليس أحد على
دين إبراهيم إلا أنا وزيد. فلما قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة؛ وقد أسلمت
الخزرج والأوس، إلا ما كان من أوس الله فإنها وقفت مع ابن
الأسلت، وكان فارسها وخطيبها، وشهد يوم بعاث، فقيل له: يا
أبا قيس، هذا صاحبك الذي كنت تصف. قال: رجل قد بعث بالحق.
ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فعرض عليه شرائع الإسلام، فقال: ما أحسن هذا
وأجمله، أنظر في أمري. وكاد أن يسلم، فلقيه عبد الله ابن
أبي، فأخبره بشأنه فقال: كرهت والله حرب الخزرج. فغضب
وقال: والله لا أسلم سنة. فمات قبل السنة.
فروى عن ابْنُ أَبِي حَبِيْبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بنِ
الحُصَيْنِ، عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: لقد سمع يوحد
عند الموت، والله أعلم.
(1/333)
سنة اثنتين من
الهجرة:
غزوة الأبواء:
في صفرها غزوة الأبواء، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من
المدينة غازيا، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ
ودان يريد قريشا وبني ضمرة، فوادع بني ضمرة بن عبد مناة بن
كنانة، وعقد ذلك معه سيدهم مخشي بن عمرو، ثم رجع إلى
المدينة. وودان على أربع مراحل.
بعث حمزة:
ثم في أحد الربيعين بعث عمه حمزة في ثلاثين راكبا من
المهاجرين إلى سيف البحر من ناحية العيص، فلقي أبا جهل في
ثلاث مائة. وقال الزهري: في مائة وثلاثين راكبا. وكان مجدي
بن عمرو الجهني وقومه حلفاء الفريقين جميعا، فحجز بينهم
مجدي بن عمرو الجهني.
بعث عبيدة:
وبعث في هذه المدة عُبَيْدَةُ بنُ الحَارِثِ بنِ
المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مناف، في ستين راكبا أو نحوهم من
المهاجرين، فنهض حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة،
فلقي بها جمعا من قريش، عليهم عكرمة بن أبي جهل، وقيل مكرز
بن حفص، فلم يكن بينهم قتال. إلا أن سعد بن أبي وقاص كان
في ذلك البعث، فرمى بسهم، فكان أول سهم رمي في سبيل الله.
وفر من الكفار يومئذ إلى المسلمين: المقداد بن عمرو
البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان المازني حليف بني
عبد مناف، وكان مسلمين, ولكنهما خرجا ليتوصلا بالمشركين.
(1/334)
غزوة بواط، وغزوة
العشيرة
غزوة بواط:
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول غازيا،
فاستعمل على المدينة السائب أخا عثمان بن مظعون، حتى بلغ
بواط من ناحية رضوى ثم رجع ولم يلق حربا.
غزوة العشيرة:
وخرج غازيا في جمادى الأولى, واستخلف على المدينة أبا سلمة
بن عبد الأسد، حتى بلغ العشيرة، فأقام هناك أياما، ووادع
بني مدلج. ثم رجع فأقام بالمدينة أياما. والعشيرة من بطن
ينبع.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن محمد بن خشيم عن
محمد بن كعب القرظي قال: حدثني أبوك محمد بن خثيم
المحاربي، عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب
رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع. فلما نزلها رسول الله
صلى الله عليه وسلم أقام بها شهرا، فصالح بها بني مدلج،
فقال لي علي: هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء؛ نفرا من
بني مدلج يعملون في عين لهم؛ ننظر كيف يعملون؟ فأتيناهم
فنظرنا إليهم ساعة، ثم غشينا النوم فنمنا، فوالله ما أهبنا
إِلاَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بقدمه، فجلسنا، فيومئذ قال لعلي: "يا أبا تراب". لما عليه
من التراب.
(1/334)
بدر الأولى:
وخرج في جمادى الآخرة في طلب كرز بن جابر الفهري، وكان قد
أغار على سرح المدينة، فبلغ صلى الله عليه وسلم وادي
سَفَوان من ناحية بدر، فلم يلق حربا، وسميت بدرا الأولى،
ولم يدرك كُرْزا.
سرية سعد بن أبي وقاص:
وبعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية من المهاجرين، فبلغ
الخوار، ثم رجع إلى المدينة.
بعث عبد الله بن جحش:
قال عروة: ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم -في رجب- عبد
الله بن جحش الأسدي، ومعه ثمانية، وكتب معه كتابا، وأمره
أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين. فلما قرأ الكتاب وجده: إذا
نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بين نخلة والطائف، فترصد
لنا قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر عبد الله في
الكتاب قال لأصحابه: قد أَمَرَنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أمضي إلى نخلة، ونهاني أن
أستكره أحدا منكم. فمن كان يريد الشهادة فلينطلق، ومن كره
الموت فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله. فمضى ومضى
معه الثمانية، وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن،
وعتبة بن غزوان، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد
بن عبد الله التميمي، وسهيل بن بيضاء الفهري، وخالد بن
البكير.
فسلك بهم على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفُرْع يقال
له بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرا
لهما، فتخلفا في طلبه. ومضى عبد الله بمن بقي حتى نزل
بنخلة. فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما، وفيها عمرو
بن الحضرمي وجماعة. فلما رآهم القوم هابوهم. فأشرف لهم
عكاشة؛ وكان قد حلق رأسه؛ فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عمار
لا بأس عليكم منهم.
(1/335)
وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر رجب،
فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم
فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر
الحرام. وترددوا, ثم أجمعوا على قتلهم وأخذ تجارتهم، فرمى
واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي فقتله، واستأسروا عثمان
بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله.
وأقبل ابن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا
المدينة وعزلوا خمس ما غنموا للنبي صلى الله عليه وسلم،
فنزل القرآن كذلك. وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن
الحضرمي، فنزلت: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ
قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]
، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم الفداء في الأسيرين فأما
عثمان فمات بمكة كافرا، وأما الحكم فأسلم واستشهد ببئر
معونة.
وصرفت القبلة في رجب، أو قريبا منه، والله أعلم.
(1/336)
غزوة بدر الكبرى: من
السيرة لابن إسحاق، رواية البكائي
قال ابن إسحاق: سمع النبي صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان
بن حرب قد أقبل من الشام في عير لقريش وتجارة عظيمة، فيها
ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش، منهم: مخرمة بن نوفل،
وَعَمْرُو بنُ العَاصِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عليه وسلم: "هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل
الله ينفلكموها". فانتدب الناس، فخف بعضهم, وثقل بعض، ظنا
منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلقى حربا. واستشعر
أبو سفيان فجهز منذرا إلى قريش يستنفرهم إلى أموالهم.
فأسرعوا الخروج، ولم يتخلف من أشرافهم أحد، إلا أن أبا لهب
قد بعث مكانه العاص أخا أبي جهل. ولم يخرج أحد من بني عدي
بن كعب. وكان أمية بن خلف شيخا جسيما فأجمع القعود. فأتاه
عقبة بن أبي معيط -وهو في المسجد- بمجمرة وبخور وضعها بين
يديه، وقال: أبا علي، استجمر! فإنما أنت من النساء. قال:
قبحك الله، ثم تجهز وخرج معهم. وخرج النبي صلى الله عليه
وسلم في ثامن رمضان، واستعمل على المدينة عمرو بن أم مكتوم
على الصلاة. ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على
المدينة ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير. وكان أمام رسول
الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان؛ إحداهما مع علي،
والأخرى مع رجل أنصاري. وكانت راية الأنصار مع سعد بن
معاذ.
فكان مع المسلمين سبعون بعيرا يعتقبونها، وكانوا يوم بدر
ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي، ومرثد بن أبي
مرثد يعتقبون بعيرا. وكان أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن
عوف يعتقبون بعيرا. فلما قرب النبي صلى الله عليه وسلم من
الصفراء بعث اثنين يتجسسان أمر أبي سفيان. وأتاه الخبر
بخروج نفير قريش، فاستشار الناس، فقالوا خيرا. وقال
المقداد بن عمرو: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن
معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو
(1/336)
إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت
وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت
بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم له خيرا ودعا له.
وقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله لو استعرضت بنا هذا
البحر لخضناه معك. فسر رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَه، وقال: "سيروا وأبشروا، فإن
ربي قد وعدني إحدى الطائفتين: إما العير وإما النفير".
وسار حتى نزل قريبا من بدر. فلما أمسى بعث عليا والزبير
وسعدا في نفر إلى بدر يلتمسون الخبر. فأصابوا راوية لقريش
فيها أسلم وأبو يسار من مواليهم، فأتوا بهما النبي صلى
الله عليه وسلم. فسألوهما فقالا: نحن سقاة لقريش. فكره
الصحابة هذا الخبر ورجوا أن يكونوا سقاة للعير. فجعلوا
يضربونهما، فإذا آلمهما الضرب قالا: نحن من عير أبي سفيان.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما سلم قال: "إذا
صدقا ضربتموهما، وإذا كذبا تركتموهما". ثم قال: "أخبراني
أين قريش"؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب. فسألهما: "كم ينحرون
كل يوم"؟ قالا: عشرا من الإبل أو تسعا: فقال: "القوم ما
بين التسعمائة إلى الألف".
وأما اللذان بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم يتجسسان،
فأناخا بقرب ماء بدر واستقيا في شنهما، ومجدي بن عمرو
بقربهما لم يفطنا به، فسمعا جاريتين من حواري الحي تقول
إحداهما للأخرى: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد، فأعمل لهم
ثم أقضيك. فصرفهما مجدي، وكان عينا لأبي سفيان. فرجعا
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَاهُ. ولما قرب أبو سفيان من بدر تقدم وحده حتى
أتى ماء بدر فقال لمجدي: هل أحسست أحدا؟ فذكر له الراكبين،
فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته،
فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع سريعا
فصرف العير عن طريقها، وأخذ طريق الساحل فنجى، وأرسل يخبر
قريشا أنه قد نجا فارجعوا. فأبى أبو جهل، وقال: والله لا
نرجع حتى نرد ماء بدر، ونقيم عليه ثلاثا، فتهابنا العرب
أبدا.
ورجع الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ببني زهرة كلهم،
وكان فيهم مطاعا.
ثم نزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادي.
وسبق النبي صلى الله عليه وسلم إلى ماء بدر، ومنع قريشا من
السبق إلى الماء مطر عظيم لم يصب المسلمين منه إلا ما لبد
لهم الأرض. فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من
مياه بدر إلى المدينة فقال الحباب بن المنذر بن عمرو بن
الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله
فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب
والمكيدة؟ فقال: "بل هو الرأي والحرب
(1/337)
بالنّاس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي،
قال: قد فعلت، أنت علي بذلك، إنما هو حليفي فعلي عقله وما
أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية -والحنظلية أم أبي جهل-
فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة خطيبا
فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا
وأصحابه شيئا, والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في
وجه الرجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه وابن خاله أو رجلا
من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن
أصابوه فذاك، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما
تريدون.
قال حكيم: فأتيت أبا جهل فوجدته قد شد درعا من جرابها فهو
يهيؤها فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة قد أرسلني بكذا
وكذا. فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه. كلا،
والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة
ما قال، ولكنه قد رأى محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه
قد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال: هذا
حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم
فانشد خفرتك ومقتل أخيك. فقام عامر فكشف رأسه وصرخ:
واعمراه، واعمراه. فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوسقوا
على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس رأي عتبة الذي
دعاهم إليه.
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره، قال: سيعلم
مصفر استه من انتفخ سحره. ثم التمس عتبة بيضة لرأسه، فما
وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته، فاعتجر على رأسه
ببرد له.
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي -وكان شرسا سيئ الخلق-
فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن
دونه. وأتاه فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه-
فالتقيا فضربه حمزة فقطع ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على
ظهره تشخب رجله دما. ثم جاء إلى الحوض حتى اقتحم فيه ليبر
يمينه، واتبعه حمزة فقتله في الحوض.
ثم إن عتبة بن ربيعة خرج للمبارزة بين أخيه شيبة، وابنه
الوليد بن عتبة، ودعوا للمبارزة، فخرج إليه عوف ومعوذ ابنا
عفراء وآخر من الأنصار. فقالوا: من أنتم؟ قالوا: من
الأنصار. قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ليخرج إلينا أكفاؤنا
من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا
عبيدة بن الحارث، ويا حمزة، ويا علي". فلما دنوا منهم،
قالوا: من أنتم؟ فتسموا لهم. فقال: أكفاء كرام فبارز عبيدة
-وكان أسن القوم- عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي
الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله. وأما علي فلم
يمهل الوليد أن قتله. واختلف عتبة
(1/338)
بالنّاس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي،
قال: قد فعلت، أنت علي بذلك، إنما هو حليفي فعلي عقله وما
أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية -والحنظلية أم أبي جهل-
فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة خطيبا
فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا
وأصحابه شيئا, والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في
وجه الرجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه وابن خاله أو رجلا
من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن
أصابوه فذاك، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما
تريدون.
قال حكيم: فأتيت أبا جهل فوجدته قد شد درعا من جرابها فهو
يهيؤها فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة قد أرسلني بكذا
وكذا. فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه. كلا،
والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة
ما قال، ولكنه قد رأى محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه
قد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال: هذا
حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم
فانشد خفرتك ومقتل أخيك. فقام عامر فكشف رأسه وصرخ:
واعمراه، واعمراه. فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوسقوا
على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس رأي عتبة الذي
دعاهم إليه.
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره، قال: سيعلم
مصفر استه من انتفخ سحره. ثم التمس عتبة بيضة لرأسه، فما
وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته، فاعتجر على رأسه
ببرد له.
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي -وكان شرسا سيئ الخلق-
فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن
دونه. وأتاه فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه-
فالتقيا فضربه حمزة فقطع ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على
ظهره تشخب رجله دما. ثم جاء إلى الحوض حتى اقتحم فيه ليبر
يمينه، واتبعه حمزة فقتله في الحوض.
ثم إن عتبة بن ربيعة خرج للمبارزة بين أخيه شيبة، وابنه
الوليد بن عتبة، ودعوا للمبارزة، فخرج إليه عوف ومعوذ ابنا
عفراء وآخر من الأنصار. فقالوا: من أنتم؟ قالوا: من
الأنصار. قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ليخرج إلينا أكفاؤنا
من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا
عبيدة بن الحارث، ويا حمزة، ويا علي". فلما دنوا منهم،
قالوا: من أنتم؟ فتسموا لهم. فقال: أكفاء كرام فبارز عبيدة
-وكان أسن القوم- عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي
الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله. وأما علي فلم
يمهل الوليد أن قتله. واختلف عتبة
(1/339)
وعبيدة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه.
وكر علي وحمزة على عتبة فدففا عليه.
واحتملا عبيدة إلى أصحابهما.
والصحيح كما سيأتي إنما بارز حمزة عتبة، وعلي شيبة, والله
أعلم. ثم تزاحف الجمعان. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم
أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم وقال: "انضحوهم عنكم
بالنبل". وهو صلى الله عليه وسلم في العريش، ومعه أبو بكر،
وذلك يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة رمضان.
قال سفيان، عن قتادة: إن وقعة بدر صبيحة يوم الجمعة سابع
عشر رمضان. وقال قرة بن خالد: سألت عبد الرحمن بن القاسم
عن ليلة القدر، فقال: كان زيد بن ثابت يعظم سابع عشرة
ويقول: هي وقعة بدر. وكذلك قال إسماعيل السدي وغيره في
تاريخ يوم بدر، وقاله عروة بن الزبير، ورواه خالد بن عبد
الله الواسطي عن عمرو بن يحيى عَنْ عَامِرِ بنِ عَبْدِ
اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أبيه عن عامر بن ربيعة قال:
كانت صبيحة بدر سبع عشرة من رمضان؛ لكن روى قتيبة عن جرير
عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ
ابن مسعود في ليلة القدر قال: تحروها لإحدى عشرة بقين،
صبيحتها يوم بدر، كذا قال ابن مسعود1 والمشهور ما قبله.
ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف بنفسه، ورجع
إلى العريش ومعه أبو بكر فقط، فجعل يناشد ربه ويقول: "يا
رب إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في الأرض". وأبو بكر
يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما
وعدك. ثم خفق صلى الله عليه وسلم فانتبه وقال: "أبشر يا
أبا بكر، أتاك النصر، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على
ثنايا النقع".
فرمي مهجع -مولى عمر- بسهم، فكان أول قتيل في سبيل الله.
ثم رمي حارثة بن سراقة النجاري بسهم وهو يشرب من الحوض،
فقتل.
ثم خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى الناس يحرضهم على القتال، فقاتل عمير بن
الحمام حتى قتل، ثم قاتل عوف ابن عفراء -وهي أمه- حتى قتل.
ثم أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رمى المشركين بحفنة من الحصباء وقال: "شاهت
الوجوه". وقال لأصحابه: "شدوا عليهم". فكانت الهزيمة، وقتل
الله من قتل من صناديد الكفر: فقتل سبعون وأسر مثلهم.
__________
1 الصواب ما رواه ابن عمر مرفوعا بلفظ: "ليلة القدر
التمسوها في العشر الأواخر، وإن ضعف أحدكم أو عجز فلا
يغلبن عن السبع البواقي" أخرجه الطيالسي "1912"، وأحمد "2/
44 و75 و91"، ومسلم "1165" "209". وروى مسلم "1165" "210"
"211" عن ابن عمر مرفوعا: "من كان ملتمسها فليلتمسها في
العشر الأواخر".
(1/340)
ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العريش،
وقام سعد بن معاذ على الباب بالسيف في نفر من الأنصار،
يخافون عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كرة العدو.
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لأصحابه: "إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد
أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي أحدا من بني
هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث
فلا يقتله، ومن لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما خرج
مستكرها". فقال أبو حذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا
ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف. فبلغت
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
لعمر: "يا أبا حفص أيضرب وجه عَمِّ رَسُوْل اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيف"؟. فقال عمر: دعني
فلأضرب عنق هذا المنافق. فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا آمن
من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا، إلا
أن تكفرها عني الشهادة. فاستشهد يوم اليمامة.
وكان أبو البختري أكف القوم عن رسول الله، وقام في نقض
الصحيفة، فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار.
فَقَالَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قد نهانا عن قتلك. فقال: وزميلي جنادة الليثي؟
فقال المجذر: لا والله ما أمرنا إلا بك وحدك. فقال: لأموتن
أنا وهو، لا يتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على
الحياة. فاقتتلا، فقتله المجذر. ثم أَتَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: والذي بعثك
بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر، فآتيك به، فأبى إلا أن
يقاتلني.
وعن عبد الرحمن بن عوف: كان أمية بن خلف صديقا لي بمكة،
قال: فمررت به ومعي أدراع قد استلبتها، فقال لي: هل لك
فيَّ، فأنا خير لك من الأدراع؟ قلت: نعم، ها الله إذًا.
وطرحت الأدراع، فأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت
كاليوم قط. أما لكم حاجة في اللبن؟ يعني: من أسرني افتديت
منه بإبل كثيرة اللبن. ثم جئت أمشي بهما، قال لي أمية:
من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قلت: حمزة قال: ذاك
الذي فعل بنا الأفاعيل.
فوالله إني لأقودهما، إذ رآه بلال؛ وكان يعذب بلالا بمكة،
فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف؟ لا نجوت إن نجا.
قلت: أي بلال، أبأسيري؟ قال: لا نجوت إن نجا. قال: أتسمع
يابن السوداء ما تقول؟ ثم صرخ بلال بأعلى صوته: يا أنصار
الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال:
فأحاطوا بنا، وأنا أذب عنه. فأخلف رجل السيف، فضرب رجل
ابنه فوقع، فصاح أمية صيحة عظيمة، فقلت: انج بنفسك، ولا
نجاء، فوالله ما أغني عنك شيئا.
فهبروهما بأسيافهم، فكان يقول: رحم الله بلالا، ذهبت
أدراعي، وفجعني بأسيري.
وعن ابن عباس، عن رجل من غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي
حتى أصعدنا في جبل
(1/341)
يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر
الدائرة على من تكون، فننتهب مع من ينتهب.
فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعت فيها حمحمة
الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم1، فأما ابن عمي
فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم
تماسكت.
رواه عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، عمن حدثه،
عن ابن عباس.
وروى الذي بعده ابن حزم عمن حدثه من بني ساعدة عن أبي أسيد
مالك بن ربيعة قال:
لو كان معي بصري وكنت ببدر لأريتكم الشعب الذي خرجت منه
الملائكة.
قال ابن إسحاق: فحدثني أبي، عن رجال، عن أبي داود المازني،
قَالَ: إِنِّي لأَتْبَعُ رَجُلاً مِنَ المُشْرِكِيْنَ
يَوْمَ بدر لأضربه بالسيف، إذ وقع رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ
يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أنه قتله غيري.
وعن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
وأما أبو جهل بن هشام فاحتمى في مثل الحرجة -وهو الشجر
الملتف- وبقي أصحابه يقولون: أبو الحكم لا يوصل إليه. قال
معاذ بن عمرو بن الجموح: فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت
نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت2 قدمه بنصف
ساقه. فوالله ما أشبهها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت
مرضخة النوى حين يضرب بها. فضربني ابنه عكرمة على عاتقي
فطرح يدي, فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد
قاتلت عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لأَسْحَبُهَا خَلْفِي.
فَلَمَّا آذَتْنِي وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها
حتى طرحتها. قال: ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى زَمَنِ
عُثْمَانَ.
ثم مر بأبي جهل معوذ ابن عَفْرَاءَ، فَضَرَبَهُ حَتَّى
أَثْبَتَهُ, وَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، وقاتل مُعَوِّذُ
حَتَّى قُتِلَ، وَقُتِلَ أَخُوْهُ عَوْفٌ قَبْلَهُ، واسم
أبيهما: الحارث بن رفاعة بن الحارث الزرقي.
ثم مر عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر النبي صلى الله
عليه وسلم بالتماسه، وقال فيما بلغنا: "إن خفي عليكم في
القتلى فانظروا إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت أنا وهو
يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان، ونحن غلامان؛ وكنت أشف
3 منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبته
__________
1 حيزوم: اسم فرس جبريل، عليه السلام. وقال الجوهري: حيزوم
اسم فرس من خيل الملائكة.
2 أطنت: أي قطعت.
3 أشف منه: أي أكبر منه قليلا.
(1/342)
فجحش 1 فيها". قال ابن مسعود: فوجدته بآخر
رمق، فوضعت رجلي على عنقه. وقد كان ضبث2 بي مرة بمكة،
فآذاني ولكزني. فقلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال:
وبماذا أخزاني، وهل فوق رجل قتلتموه؟ أخبرني لمن الدائرة
اليوم؟ قلت: لله ولرسوله، ثم قال: لقد ارتقيت يا رويعي
الغنم مرتقى صعبا. قال: فاحتززت رأسه وجئت بِهِ رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا
رَسُوْلَ الله! هذا رأس عدو الله أبي جهل. قال: "آلله الذي
لا إله غيره"؟. قلت: نعم. وألقيت رأسه بَيْنَ يَدَيْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم أمر بالقتلى أن يطرحوا في قليب هناك. فطرحوا فيه إلا ما
كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه فملأها، فذهبوا
ليخرجوه فتزايل، فأقروه به، وألقوا عليه التراب فغيبوه.
فلما ألقوا في القليب، وقف عليهم النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا أهل القليب هل
وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا".
فقالوا: يا رسول الله أتنادي قوما قد جيفوا؟ فقال: "ما
أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا".
وفي رواية: فناداهم في جوف الليل: "يا عتبة بن ربيعة، ويا
شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام".
فعدد من كان في القليب.
زاد ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه
وسلم قال: "يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم؛
كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس،
وقاتلتموني ونصرني الناس".
وعن أنس: لما سحب عتبة بن ربيعة إلى القليب نَظَرَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجه
أبي حذيفة ابنه، فإذا هو كئيب متغير. فقال: "لعلك قد دخلك
من شأن أبيك شيء"؟. قال: لا والله ما شككت في أبي ولا في
مصرعه، ولكني كنت أعرف منه رأيا وحلما، فكنت أرجو أن يسلم،
فلما رأيت ما أصابه وما مات عليه أحزنني ذلك. فَدَعَا لَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ
لَهُ خيرا.
وكان الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه بن
المغيرة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن
خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج قد أسلموا، فَلَمَّا
هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حبسهم آباؤهم وعشائرهم، وفتنوهم عن الدين فافتتنوا -نعوذ
بالله من فتنة الدين-
__________
1 جحش: أي انخدش جلده وانسحج "أي انقشر".
2 ضبث بي: أي قبض علي. يقال ضبثت على الشيء إذا قبضت عليه.
(1/343)
ثم ساروا مع قومهم يوم بدر، فقتلوا جميعا.
وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] .
وعن عبادة بن الصامت قال: فينا أهل بدر نزلت الأنفال حين
تنازعنا في الغنيمة وساءت فيها أخلاقنا، فنزعه الله من
أيدينا وجعله إلى رسوله، فقسمه بين المسلمين على السواء.
ثم بعث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَبْدِ اللهِ بنِ رواحة، وزيد بن حارثة، بشيرين إلى
المدينة. قال أسامة: أتانا الخبر حين سوينا على رُقَيَّةُ
بِنْتُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قبرها، كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع
عثمان.
ثم قفل رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَعَهُ الأسارى؛ فيهم: عقبة بن أبي معيط والنضر بن
الحارث. فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل، فلما أتى
الروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بالفتح، فقال لهم سلمة بن
سلامة: ما الذي تهنئونا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز
ضلعا كالبدن المعقلة فنحرناها. فتبسم رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "أي ابن أخي،
أولئك الملأ". يعني الأشراف والرؤساء.
ثم قتل النضر بن الحارث العبدري بالصفراء، وقتل بعرق
الظبية عقبة بن أبي معيط، فقال عقبة حين أمر النبي صلى
الله عليه وسلم بقتله: فمن للصبية يا محمد؟ قال: النار.
فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وقيل: علي.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بنِ السَّائِبِ،
عن الشعبي قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل
عقبة قال: أتقتلني يا محمد من بين قريش؟ قال: "نعم، أتدرون
ما صنع هذا بي؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على
عنقي وغمزها، فما رفع حتى ظننت أن عيني ستندران، وجاء مرة
أخرى بسلى شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة
فغسلته عن رأسي".
واستشهد يوم بدر:
مهجع وَذُوْ الشِّمَالَيْنِ عُمَيْرُ بنُ عَبْدِ عَمْرٍو
الخُزَاعِيُّ، وعاقل بن البكير، وصفوان بن بيضاء، وعمير بن
أبي وقاص أخو سعد، وعبيدة بنُ الحَارِثِ بنِ المُطَّلِبِ
بنِ عَبْدِ مَنَافٍ المطلبي الذي قطع رجله عتبة، مات بعد
يومين بالصفراء. وهؤلاء من المهاجرين.
وعمير بن الحمام، وابنا عفراء، وحارثة بن سراقة، ويزيد بن
الحارث فُسحُم، وَرَافِعُ بنُ المُعَلَّى الزُّرَقِيُّ،
وَسَعْدُ بنُ خَيْثَمَةَ الأَوْسِيُّ، وَمُبَشِّرُ بنُ
عَبْدِ المُنْذِرِ أَخُو أبي لبابة.
فالجملة أربعة عشر رجلا.
وقتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وهما ابنا أربعين ومائة سنة.
وكان شيبة أكبر بثلاث سنين.
(1/344)
قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب
قريش: الحسمان بن عبد الله الخزاعي.
فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة، وشيبة, وأبو جهل، وأمية،
وزمعة بن الأسود، ونبيه، ومنبه، وأبو البختري بن هشام.
فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في
الحجر: والله إن يعقل هذا فسلوه عني. فقالوا: ما فعل
صفوان؟ قال: ها هو ذاك جالسا، قد والله رأيت أباه وأخاه
حين قتلا.
وعن أبي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كُنْتُ غُلاَماً لِلعَبَّاسِ
وَكَانَ الإِسْلاَمُ قَدْ دَخَلَنَا أهل البيت، فأسلم
العباس وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره الخلاف ويكتم
إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه. وكان أبو لهب قد
تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر بمصاب قريش كبته الله
وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزة, وكنت رجلا ضعيفا، وكنت
أنحت الأقداح في حجرة زمزم، فإني لجالس أنحت أقداحي، وعندي
أم الفضل، وقد سرنا الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر،
حتى جلس على طنب1 الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري. فبينا هو
جالس إذ قال الناس: هذا أَبُو سُفْيَانَ بنُ الحَارِثِ بنِ
عَبْدِ المُطَّلِبِ قد قدم. فقال أبو لهب: إليَّ، فعندك
الخبر. قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال: يابن أخي،
أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا
القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسرونا، وايم
الله ما لمت الناس، لقينا "رجالا بيضا"2 على خيل بلق3 بين
السماء والأرض، والله ما تليق4 شيئا ولا يقوم لها شيء.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله
الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة قال:
وثاورته، فحملني وضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت
رجلا ضعيفا. فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة،
فأخذته فضربته به ضربة, فلقت في رأسه شجة منكرة، وقالت:
استضعفته أن غاب عنه سيده؟ فقام موليا ذليلا، فوالله ما
عاش إلا سبع ليال, حتى رماه الله بالعدسة فقتلته. وكانت
قريش تتقي هذه العدسة كما يتقى الطاعون، حتى قال رجل من
قريش لابنيه: ويحكما؟ ألا تستحيان أن أباكما
__________
1 الطنب: الطرف والناحية.
2 في الأصل: "رجال بيض"، وهو خطأ نحوي، والصواب: "رجالا
بيضا" وهو ما أثبتناه.
3 البلق: سواد وبياض، وكذلك البلقة، بالضم. قال ابن سيده:
البلق والبلقة مصدر الأبلق ارتفاع التحجيل إلى الفخذين.
4 ما تليق شيئا: أي لم يلق شيئا إلا قطعه حسامه.
(1/345)
قد أنتن في بيته ألا تدفنانه؟ فقالا: نخشى
عدوى هذه القرحة. فقال: انطلقا فأنا أعينكما فوالله ما
غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد. ثم احتملوه إلى أعلى
مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رضموا عليه الحجارة.
رواه محمد بن إسحاق من طريق يونس بن بكير عنه بمعناه. قال:
حدثني الحُسَيْنِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ
عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: حدثني أبو رَافِعٍ
مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: ناحت قريش
على قتلاها ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه
فيشمتوا بكم.
وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة،
وعقيل، والحارث فكان يحب أن يبكي عليهم.
قال ابن إسحاق: ثم بعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مكرز
بن حفص في فداء سهيل بن عمرو، فقال عمر: دعني يا رسول الله
أنزع ثنيتي سهيل يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن
أبدا، فقال: "لا أمثل به فيمثل الله بي، وعسى أن يقوم
مقاما لا تذمه". فقام في أهل مكة بَعْدَ وَفَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنحو من
خطبة أبي بكر الصديق، وحسن إسلامه.
وانسل المطلب بن أبي وداعة، ففدى أباه بأربعة آلاف درهم،
وانطلق به.
وبعثت زينب بِنْتِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس،
بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على
أبي العاص. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ
رَقَّ لَهَا, وَقَالَ: "إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا
لَهَا أَسِيْرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا". قَالُوا:
نَعَمْ، يا رسول الله. وَأَطْلَقُوْهُ.
فَأَخَذَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يُخْلِيَ سَبِيْلَ زَيْنَبَ, وَكَانَتْ
مِنَ المُسْتَضْعَفِيْنَ مِنَ النِّسَاءِ، وَاسْتَكْتَمَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ذلك, وبعث زيد بن
حارثة ورجلا من الانصار، فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر
بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها. وَذَلِكَ بَعْد
بَدْرٍ بِشَهْرٍ.
فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو العَاصِ مَكَّةَ أَمَرَهَا
بِاللُّحُوْقِ بِأَبِيْهَا، فَتَجَهَّزَتْ فَقَدَّمَ أخو
زوجها كنانة بن الربيع بعيرا، فركبته وأخذ قوسه وكنانته،
ثم خرج بها نهارا يقودها. فتحدث بذلك رجال، فَخَرَجُوا فِي
طَلَبِهَا، فَبَرَكَ كِنَانَةُ وَنَثَرَ كِنَانَتَهُ لما
أدركوها لذي طُوَى، فَرَوَّعَهَا هَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ
بِالرُّمْحِ. فَقَالَ كنانة: والله لا يدنو مني رجل إلا
وضعت فيه سهما. فتكركر الناس عنه وأتى أبو سفيان في جلة من
قريش، فقال: أيها الرجل كف عَنَّا نَبْلَكَ حَتَّى
نُكَلِّمَكَ. فَكَفَّ فَوَقَفَ
(1/346)
عليه أبو سفيان فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ
تُصِبْ، خَرَجْتَ بِالمَرْأَةِ عَلَى رءوس النَّاسِ
عَلاَنِيَةً، وَقَدْ عَرَفْتَ مُصِيْبَتَنَا وَنَكْبَتَنَا
وَمَا دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه
علانية أن ذلك على ذل أصابنا، وأن ذلك منا وهن وضعف،
وَلَعَمْرِي مَا بِنَا بِحَبْسِهَا عَنْ أَبِيْهَا مِنْ
حاجة، ولكن ارجع بالمرأة، حتى إذا هدأت الأَصْوَاتُ،
وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّا رَدَدْنَاهَا، فَسُلَّهَا
سِرّاً وألحقها بأبيها. قال: ففعل، ثم خرج بها ليلا،
بَعْدَ لَيَالٍ، فَسَلَّمَهَا إِلَى زَيْدٍ وَصَاحِبِهِ،
فَقَدِمَا بها على النبي صلى الله عليه وسلم فأقامت عنده.
فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الفَتْحِ، خَرَجَ أَبُو العَاصِ
تاجرا إلى الشام بماله، وبمال كَثِيْرٍ لقُرَيْشٍ،
فَلَمَّا رَجَعَ لَقِيَتْهُ سَرِيَّةٌ فَأَصَابُوا ما معه،
وأعجزهم هاربا، فقدموا بما أصابوا. وأقبل أبو العاص فِي
اللَّيْلِ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ، فَاسْتَجَارَ
بها فأجارته، وجاء في طلب ماله. فلما خرج صلى الله عليه
وسلم إلى الصبح وكبر وكبر الناس معه، صَرَخَتْ زَيْنَبُ
مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ
أَجَرْتُ أَبَا العَاصِ بنَ الرَّبِيْعِ.
وَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى السَّرِيَّةِ الَّذِيْنَ أَصَابُوا مَالَهُ فَقَالَ:
"إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ،
وَقَدْ أَصَبْتُمْ لَهُ مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي
له، فَإِنَّا نُحِبَّ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ
فَيْءُ الله الذي أفاء عليكم، فَأَنْتُم أَحَقُّ بِهِ".
قَالُوا: بَلْ نَرُدُّهُ فَرَدُّوْهُ كُلَّهُ. ثُمَّ
ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَأَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي
مَالٍ مَالَهُ. ثُمَّ قَالَ: يا معشر قريش، هل بقي لأحد
منكم عندي مال؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك
وفيا كريما. قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ،
وَاللهِ مَا منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أَنْ
تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْلَ أَمْوَالِكُم.
ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَدَّ
عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
زَيْنَبَ على النكاح الأول، لم يحدث شيئا.
ومن الأسارى: الوليد بن الوليد بن المغيرة المخزومي، أسره
عبد الله بن جحش، وقيل: سليط المازني.
وقدم في فدائه أخواه: خالد بن الوليد، وهشام بن الوليد،
فافتكاه بأربعة آلاف درهم، وذهبا به.
فلما افتدي أسلم، فقيل له في ذلك فقال: كرهت أن يظنوا بي
أني جزعت من الأسر، فحبسوه بمكة، وكان رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعُو له في القنوت، ثم
هرب ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية،
وتوفي قديما؛ لعل فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فبكته أم سلمة، وهي بنت عمه:
(1/347)
يا عين فابكي للوليـ ... ـد بن الوليد بن
المغيره
قد كان عيثا في السنيـ ... ـن ورحمة فينا وميره1
ضخم الدسيعة2 ماجدا ... يسمو إلى طلب الوتيره
مثل الوليد بن الوليد ... أبي الوليد كفى العشيره
ومن الأسرى: أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي. كان محتاجا
ذا بنات، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: قد عرفت أني لا
مال لي، وأني ذو حاجة وعيال، فامنن عليَّ. فمن عليه، وشرط
عليه أن لا يظاهر عليه أحدا.
وقال عروة بن الزبير: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن
أمية، بعد مصاب أهل بدر بيسير، في الحجر، وكان عمير من
شياطين قريش، وممن يؤذي المسلمين، وكان ابنه وهيب في
الأسرى، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: "والله ما
في العيش بعدهم خير"3. فقال عمير: صدقت، والله لولا دين
عليّ ليس عندي له قضاء، وعيال أخشى عليهم، لركبت إلى محمد
حتى أقتله، فإن لي فيهم علة؛ ابني أسير في أيديهم.
فاغتنمها صفوان فقال: عليّ دينك وعيالك. قال: فاكتم عليّ.
ثم شحذ سيفه وسمه، ومضى إلى المدينة.
فبينا عمر في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، إذ نظر
عمر إلى عمير حين أناخ على باب المسجد متوشحا بالسيف.
فقال: هذا الكلب عدو الله عمير، قال: وهو الذي حزرنا يوم
بدر. ثم دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: هذا عمير. قال: أدخله عليّ. فأقبل عمر
حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه، فلببه به، وقال لرجال ممن
كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده
واحذروا عليه هذا الخبيث. ثم دخل به, فقال عليه السلام:
"أرسله يا عمر، ادن يا عمير". فدنا، ثم قال: أنعموا صباحا،
قال: "فما جاء بك"؟. قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم.
قال: "فما بال السيف في عنقك"؟. قال: قبحها الله من سيوف،
وهل أغنت شيئا؟ قال: "اصدقني ما الذي جئت له". قال: ما جئت
إلا لذلك. قال: "بلى، قعدت أنت وصفوان في الحجر". وقص له
ما قالا. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ
وَأَنَّكَ رسوله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتينا به
من خبر السماء، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا
__________
1 الميرة: الطعام.
2 الدسيعة: مائدة الرجل إذا كانت كريمة.
3 وقع في الأصل "والله أنَّ في العيش بعدهم لخير"،
والصواب: ما أثبتناه وهو ما يقتضيه السياق.
(1/348)
وصفوان فوالله لأعلم ما أتاك به إلا الله،
فالحمد لله الذي هداني للإسلام. فقال: النبي صلى الله عليه
وسلم: "فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن وأطلقوا له
أسيره". ففعلوا.
ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله،
شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي
فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله ورسوله، لعل الله أن يهديهم،
وإلا آذيتهم في دينهم. فأذن له ولحق بمكة. وكان صفوان يعد
قريشا يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر.
وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكبا فأخبره عن
إسلامه، فحلف لا يكلمه أبدا ولا ينفعه بشيء أبدا. ثم أقام
يدعو إلى الإسلام، ويؤذي المشركين، فأسلم على يديه ناس
كثير.
بقية أحديث غزوة بدر:
وهي كالشرح لما قدمناه، منها:
قال إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله
بن مَسْعُوْدٍ، قَالَ: انْطَلَقَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ
مُعْتَمِراً: فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ
-وَكَانَ أُمَيَّةُ ينزل عليه إذا سافر إلى الشام- فقال
لسعد: انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ
وَغَفِلَ النَّاسُ فطف قال: فبينما هو يَطُوْفُ إِذْ
أَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: مَنِ أنت. قال: سعد. قال:
أتطوف آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه، وتلاحيا. فقال أمية
لسعد: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الحَكَمِ
فَإِنَّهُ سيد أهل الوادي. فقال: والله لئن منعتني أن أطوف
بالبيت لأقطعن عليك متجرك بالشام. وجعل أُمَيَّةُ
يَقُوْلُ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ. فَغَضِبَ وَقَالَ: دعنا
منكم، فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ، قَالَ:
إِيَّايَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قال: والله ما يكذب محمد فكاد أن
يحدث، فرجع فقال لامرأته: أتعلمين ما قال أخي اليثربي؟
قالت: وما قال؟ قال: زعم أن محمدا يزعم أنه قاتلي. قالت:
فوالله ما يكذب. فلما خرجوا لبدر وجاء الصريخ قالت له
امرأته: أما علمت ما قال اليثربي! قال: فإني إذن لا أخرج.
فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ
الوَادِي فَسِرْ مَعَنَا يَوْماً أَوْ يَوْمَيْنِ. فسار
معهم، فقتل. أخرجه البخاري1.
وأخرجه أيضا من حديث إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق
السبيعي، عن أبيه، عن جده، وفيه: فلما استنفر أبو جهل
الناس وقال: أدركوا عيركم، كره أمية أن يخرج، فأتاه أبو
جهل فقال: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس تخلفت -وأنت
سيد أهل الوادي- تخلفوا
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3632" حدثني أحمد بن إسحاق،
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بنُ مُوْسَى، حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيْلُ، به.
(1/349)
معك فلم يزل به حتى قال: إذ غلبتني فوالله
لأشترين أجود بعير مكة. ثم قال: يا أم صفوان جهزيني فما
أريد أن أجوز معهم إلا قريبا. فلما خرج أخذ لا ينزل منزلا
إلا عقل بعيره، فلم يزل بذاك حتى قتله الله ببدر.
البخاري1.
وذكر الزهري قال: إنما خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن خرج من أصحابه يريدون عير
قريش التي قدم بها أبو سفيان من الشام، حتى جمع الله بين
الفئتين من غير ميعاد. قال الله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى
وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ
لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال: 42] .
رؤيا عاتكة:
قال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ
بنِ عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس.
"ح" قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة، قالا:
رأت عاتكة بنت عبد المطلب فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم
بن عمرو الغفاري على قريش مكة بثلاث ليال، رؤيا، فأصبحت
عاتكة فأعظمتها، فبعثت إلى أخيها العباس فقالت له: يا أخي
لقد رأيت الليلة رؤيا ليدخلن منها على قومك شر وبلاء.
فقال: وما هي؟ قالت: رأيت فيما يرى النائم أن رجلا أقبل
على بعير له فوقف بالأبطح فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم
في ثلاث، فاجتمعوا إليه، ثم أرى بعيره دخل به المسجد
واجتمع الناس إليه. ثم مثل به بعيره فإذا هو على رأس
الكعبة، فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث. ثم أرى
بعيره مثل به على رأس أبي قبيس، فقال: انفروا يا آل غدر
لمصارعكم في ثلاث. ثم أخذ صخرة فأرسلها من رأس الجبل
فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت في أسفله ارفضت2 فما بقيت دار
من دور قومك ولا بيت إلا دخل فيه بعضها.
فقال العباس: والله إن هذه لرؤيا، فاكتميها. فقالت: أنت
فاكتمها، لئن بلغت هذه قريشا ليؤذننا. فخرج العباس من
عندها، فلقي الوليد بن عتبة -وكان له صديقا- فذكرها له
واستكتمه، فذكرها الوليد لأبيه، فتحدث بها، ففشا الحديث،
فقال العباس: والله إني لغاد
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3950" حدثني أحمد بن عثمان، حدثنا
شريح بن مسلمة، حدثنا إبراهيم بن يوسف، به.
2 ارفضت: أي تفرقت.
(1/350)
إلى الكعبة لأطوف بها، فإذا أبو جهل في نفر
يتحدثون عن رؤيا عاتكة، فقال أبو جهل: يا أبا الفضل تعال.
فجلست إليه فقال: متى حدثت هذه النبية فيكم؟ ما رضيتم يا
بني عبد المطلب أن ينبأ رجالكم حتى تنبأ نساؤكم، سنتربص
بكم هذه الثلاث التي ذكرت عاتكة، فإن كان حقا فسيكون، وإلا
كتبنا عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
قال: فوالله ما كان إليه مني من كبير، إلا أني أنكرت ما
قالت، وقلت: ما رأت شيئا ولا سمعت بهذا، فلما أمسيت لم تبق
امرأة من بني عبد المطلب إلى أتتني فقلن: صبرتم لهذا
الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت
تسمع، فلم يكن عندك في ذلك غير. فقلت: قد والله صدقتن وما
كان عندي في ذلك من غير إلا أني أنكرت، ولا تعرضن له، فإن
عاد لأكفينه.
فغدوت في اليوم الثالث أتعرض له ليقول شيئا فأشاتمه،
فوالله إني لمقبل نحوه، وكان رجلا حديد الوجه، حديد النظر،
حديد اللسان، إذ ولى نحو باب المسجد يشتد، فقلت في نفسي:
اللهم العنه، كل هذا فرقا أن أشاتمه. وإذا هو قد سمع ما لم
أسمع، صوت ضمضم بن عمرو، وهو واقف بعيره بالأبطح؛ قد حول
رحله وشق قميصه وجدع بعيره؛ يقول: يا معشر قريش، اللطيمة
اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض لها محمد، فالغوث
الغوث! فشغله ذلك عني، وشغلني عنه، فلم يكن إلا الجهاز حتى
خرجنا، فأصاب قريشا ما أصابهم يوم بدر، فقالت عاتكة:
ألم تكن الرؤيا بحق وجاءكم ... بتصديقها فل من القوم هارب
فقلتم ولم أكذب كذبت وإنما ... يكذبنا بالصدق من هو كاذب
وقال أبو إسحاق: سمعت البراء يقول: استصغرت أنا وابن عمر
يوم بدر. وكنا -أصحاب محمد- نتحدث أن عدة أهل بدر ثلاثمائة
وبضعة عشر، كعدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وما
جازه إلا مؤمن. أخرجه البخاري1.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3955" و"3956" من طريق شعبة، عن
أبي إسحاق، عن البراء قال: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر،
وكان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين، والأنصار نيفا
وأربعين ومائتين. وأخرجه البخاري "3957" حدثنا عمرو بن
خالد، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء -رضي
الله عنه- يقول: حدثني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ممن
شهد بدرا أنهم كانوا عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه
النهر: بضعة عشر وثلاثمائة. قال البراء: لا والله ما جاوز
النهر إلا مؤمن. وأخرجه البخاري "3958" حدثنا عبد الله بن
رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، به.
(1/351)
وقال: سمعت البراء يقول: كان المهاجرون يوم
بدر نيفا وثمانين. أخرجه البخاري1.
وقال ابن لهيعة: حدثني يزيد بن أبي حبيب، حدثني أسلم أبو
عمران أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: قَالَ لَنَا
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ونحن
بالمدينة: "هل لكم أن نخرج فنلقى العير لعل الله يغنمنا"؟.
قلنا: نعم. فخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين أمرنا أن
نتعاد، ففعلنا، فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا،
فأخبرناه بعدتنا، فسر بذلك وحمد الله، وقال: "عدة أصحاب
طالوت".
وقال ابن وهب: حَدَّثَنِي حُيَيُّ بنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ
أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ
بنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خرج يوم بدر بثلاثمائة وخمسة عشر من المقاتلة
كما خرج طالوت فدعا لهم رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ خرج فقال: "اللهم إنهم حفاة
فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع
فأشبعهم". ففتح الله لهم، فانقلبوا وما منهم رجل إلا وقد
رجع بجمل أو جملين، واكتسوا وشبعوا.
وقال أبو إسحاق، عن البراء، قال: لم يكن يوم بدر فارس غير
المقداد.
وقال أبو إسحاق، عن حارثة بن مضرب: إن عليا قال: لقد
رأيتنا ليلة بدر وما منا أحد إلا وهو نائم إِلاَّ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ يصلي
إلى شجرة ويدعو حتى أصبح، ولقد رأيتنا وما منا أحد فارس
يومئذ إلا المقداد. رواه شعبة عنه.
ومن وجه آخر عن علي، قال: ما كان معنا إلا فرسان. فرس
للزبير وفرس للمقداد بن الأسود.
وعن إِسْمَاعِيْلَ بنَ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ البَهِيِّ،
قَالَ: كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
الله عليه وسلم فارسان، الزبير على الميمنة، والمقداد على
الميسرة.
وقال عروة: كان عَلَى الزُّبَيْرِ يَوْمَ بَدْرٍ عمَامَةٌ
صَفْرَاءُ، فَنَزَلَ جبريل على سيما الزبير.
__________
1 الذي رواه البخاري "3956" عن البراء قال: استصغرت أنا
وابن عمر يوم بدر، وكان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين،
والأنصار نيفا وأربعين ومائتين.
وقال الحافظ في "الفتح": وقد وقع عند الحاكم من طريق عبد
الملك بن إبراهيم الجسري، عن شعبة في هذا الحديث: "إن
المهاجرين كانوا نيفا وثمانين" وهو خطأ في هذه الرواية
لإطباق أصحاب شعبة على ما وقع في البخاري -أي في الحديث
"3956"- وفيه "نيفا على ستين".
(1/352)
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ،
عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قال: كنا يوم بدر نتعاقب
ثلاثة على بعير، فكان علي وأبو لبابة زميلي رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فكان إذا حانت عقبة رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقولان له: اركب حتى نمشي فيقول: "إني لست بأغنى
عن الأجر منكما، ولا أنتما بأقوى على المشي مني".
المشهور عند أهل المغازي: مرثد بن أبي مرثد الغنوي بدل أبي
لبابة، فإن أبا لبابة رده النبي صلى الله عليه وسلم
واستخلفه على المدينة.
وقال معمر: سمعت الزهري يقول: لم يشهد بدرا إلا قرشي أو
أنصاري أو حليف لهما.
وعن الحسن، قال: كان فيهم اثنا عشر من الموالي.
وقال عمرو العنقزي: حدثنا إسرائيل، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،
عَنْ حَارِثَةَ بنِ مُضَرِّبٍ، عن علي عنه قال: أخذنا
رجلين يوم بدر، أحدهما عربي والآخر مولى، فأفلت العربي
وأخذنا المولى؛ مولى لعقبة بن أبي معيط؛ فقلنا: كم هم؟
قال: كثير عددهم شديد بأسهم, فجعلنا نضربه، حتى انتهينا
بِهِ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فأبى أن يخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "كم ينحرون من الجزر"؟. فقال: في كل يوم عشرا. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القوم ألف، لكل جزور
مائة".
وقال يونس، عن ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ
بنُ أَبِي بكر، أن سعد بن معاذ قَالَ لِرَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: إلا نبني لك عريشا، فتكون
فيه، وننيخ لك ركائبك ونلقى عدونا، فإن أظهرنا الله عليهم
فذاك، وإن تكن الأخرى فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا
من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حبا منهم،
ولو علموا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، ويوادونك
وينصرونك. فأثنى عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرا ودعا له. فبني لرسول الله صلى
الله عليه وسلم عريش، فكان فيه وأبو بكر ما معهما غيرهما.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن
مخارق، عن طارق بن شهاب، سمع ابن مسعود يقول: شهدت من
المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه كان أحب إلي مما عدل به:
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَهُوَ يَدْعُو على المشركين فقال: لا نقول لك كما قال قوم
موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا
هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، ولكن نقاتل عن يمينك
وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك، قال: فَرَأَيْتُ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشرق
لذلك، وسره1.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3952" و"4609" حدثنا أبو نعيم،
حدثنا إسرائيل، به.
(1/353)
وقال مسلم وأبو داود: حَدَّثَنَا حَمَّادُ
بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ندب أصحابه
فانطلق إلى بدر، فإذا هم بروايا قريش, فيها عبد أسود لبني
الحجاج، فأخذه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا
يسألونه: أين أبو سفيان؟ فيقول: والله ما لي بشيء من أمره
علم، ولكن هذه قريش قد جاءت، فيهم أبو جهل، وعتبة، وشيبة
ابنا ربيعة، وأمية بن خلف. قال: فإذا قال لهم ذلك ضربوه،
فيقول: دعوني دعوني أخبركم. فإذا تركوه قال كقوله سواء،
والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يسمع ذلك فلما انصرف،
قال: "والذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدقكم وتدعونه
إذا كذبكم، هذه قريش قد أقبلت لتمنع أبا سفيان".
قال أنس: وَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "هَذَا مصرع فلان غدا". ووضع يده على الأرض,
"وهذا مصرع فلان" , ووضع يده على الأرض، "وهذا مصرع فلان"،
ووضع يده على الأرض.
قال: والذي نفسي بيده ما جاوز أحد منهم عن موضع يده صلى
الله عليه وسلم قال: فأمر بهم رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بأرجلهم، فسحبوا
فألقوا في قليب بدر1. صحيح.
وقال حماد أيضا، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاور
حين بلغه إقبال أبي سفيان، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم
تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة -كذا قال، والمعروف
ابن معاذ- فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده
لو أمرتنا أَنْ نُخِيْضَهَا البَحْرَ لأَخَضْنَاهَا،
وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نضرب أكبادها إلى برك الغماد
لفعلنا. قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس،
فانطلقوا حتى نزلوا بدرا وساق الحديث المذكور قبل هذا.
أخرجه مسلم2.
ورواه أيضا من حديث سليمان بن المغيرة أخصر منه عن ثابت،
عن أنس: حدثنا عمر، قَالَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليخبرنا عن مصارع القوم
بالأمس: هذا مصرع فلان إن شاء الله غدا، هذا مصرع فلان إن
شاء الله غدا. فوالذي بعثه بالحق، ما أخطئوا تلك الحدود،
وجعلوا يصرعون حولها، ثم ألقوا في القليب.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 219-220 و257-258"، ومسلم "1779"،
وأبو داود "2681" من طرق عن حماد بن سلمة، به.
2 صحيح: أخرجه مسلم "1779" حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، به.
وقوله: "أن نخيضها البحر لأخضناها": يعني الخيل. أي لو
أمرتنا بإدخال خيولنا في البحر وتمشيتنا إياها فيه لفعلنا.
برك الغماد: موضع من وراء مكة بخمس ليال بناحية الساحل.
وقيل: بلدتان وقال القاضي عياض وغيره: هو موضع بأقاصي هجر.
(1/354)
وجاء النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان،
هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا".
فقلت: يا رسول الله أتكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال:
"والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا
يستطيعون أن يردوا عليّ".
وقال شعبة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ
عَلِيٍّ، قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على
فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إِلاَّ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت سمرة يصلي
ويبكي، حتى أصبح.
وقال أبو عَلِيٍّ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ المَجِيْدِ
الحَنَفِيِّ: حدثنا عُبَيْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بنِ مَوْهبٍ، قال: أخبرني إسماعيل بن عون بنِ عُبَيْدِ
اللهِ بنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ
بنِ عُمَرَ بنِ علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي،
قال: لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال، ثم جئت لأنظر
إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ما فعل، فجئت فإذا هو ساجد يقول: يا حي يا قيوم، يا حي يا
قيوم، لا يزيد عليها. فرجعت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد
يقول أيضا. غريب.
وقال الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ, عَنِ عبد الله، قال: ما سمعت مناشدا ينشد حقا
أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر, جعل يقول:
"اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا
تعبد". ثم التفت وكأن شق وجهه القمر؛ فقال: "كأنما أنظر
إلى مصارع القوم عشية".
وقال خالد, عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وهو
في قبته يوم بدر: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن
شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا". فأخذ أبو بكر بيده فقال:
حسبك حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك؛ وهو في الدرع.
فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ
أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القَمَرُ: 45، 46] ، أخرجه البخاري.
وقال عكرمة بن عمار: حدثني أبو زميل سماك الحنفي، قال:
حدثني ابن عباس، عن عمر، قال: لما كان يوم بدر نَظَرَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى
المشركين وهم ألف, وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا.
فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه مادا يديه
مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه
فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله
كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله: {إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي
مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}
[الأنفال: 9] ، فأمده الله بالملائكة فحدثني ابن
(1/355)
عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ
يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط
فوقه وصوت الفارس: أقدم حيزوم. إذ نظر إلى المشرك أمامه
فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه
كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري، فحدث ذَلِكَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: "صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة". فقتلوا يومئذ
سبعين، وأسروا سبعين. أخرجه مسلم1.
وقال سلامة بن روح، عن عقيل، حدثني ابن شهاب قال: قال
أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ أبو
أسيد الساعدي بعدما ذهب بصره: يابن أخي، والله لو كنت أنا
وأنت ببدر، ثم أطلق الله لي بصري لأريتك الشعب الذي خرجت
علينا منه الملائكة، غير شك ولا تمار.
وقال الوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَبِيْبَةَ،
عَنْ دَاوُدَ بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس. وحدثنا
موسى بن محمد بن إبراهيم، عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يا أبا بكر
أبشر هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين
السماء والأرض. فلما نزل إلى الأرض، تغيب عني ساعة ثم طلع،
على ثناياه النقع يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته".
وقال عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يوم بدر: "هذا
جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب". أخرجه البخاري2.
وقال موسى بن يعقوب الزمعي: حدثني أبو الحويرث، قال: حدثني
محمد بن جبير بن مطعم أنه سمع عليا -رضي الله عنه- خطب
الناس فقال: بينما أنا أمتح3 من قليب بدر إذ جاءت ريح
شديدة لم أر مثلها ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة كالتي
قبلها، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة,
وكانت الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة، وجاءت ريح
ثالثة كان فيها إسرافيل في ألف. فلما هزم الله أعداءه
حملني رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى فرسه, فجرت بي، فوقعت على عقبي، فدعوت الله فأمسكت،
فلما استويت عليها طعنت بيدي هذه في القوم حتى اختضب هذا،
وأشار إلى إبطه. غريب، وموسى فيه ضعف.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1763" حدثنا هناد بن السري، حدثنا ابن
المبارك، عن عكرمة بن عمار، به. قوله "خطم أنفه": الخط
الأثر على الأنف.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3995" و"4041" حدثني إبراهيم بن
موسى، أخبرنا عبد الوهاب، حدثنا خالد، عن عكرمة، به.
3 أمتح: أستقي من البئر بالدلو من أعلى البئر.
(1/356)
وقوله: "حملني على فرسه" لا يعرف إلا من
هذا الوجه.
وقال يحيى بن بكير: حدثني محمد بن يحيى بن زكريا الحميري،
قال: حدثنا العلاء بن كثير، قال: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ
بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ المسور بن مخرمة، قال: حدثني
أبو أمامة بن سهل، قال: قال أبي: يا بني لقد رأيتنا يوم
بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن
جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لاَ أَتَّهِمُ،
عَنِ مقسم، عن ابن عباس، قال: كان سيما الملائكة يوم بدر
عمائم بيضا قد أرسلوها في ظهورهم ويوم حنين عمائم حمرا،
ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون
فيما سواه من الأيام عددا ومددا.
وجاء في قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ
آمَنُوا} [الأنفال: 12] ؛ ذكر الواقدي، عن إبراهيم بن أبي
حبيبة؛ حدثه عن داود بن الحصين، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الملك يتصور في صورة من
يعرفون من الناس، يثبتونهم، فيقول: إني قد دنوت منهم
فسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا. إلى غير ذلك من
القول.
وقال إِسْرَائِيْلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
حَارِثَةَ، عَنْ علي، قال: لما قدمنا المدينة، أصبنا من
ثمارها فاجتويناها وأصابنا بها وعك، فكان النبي صلى الله
عليه وسلم يتخبر عن بدر. فلما بلغنا أن المشركين قد
أقبلوا، سَارَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى بدر -وهي بئر- فسبقنا المشركين إليها،
فوجدنا فيها رجلين: رجلا من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط.
أما القرشي فانفلت، وأما مولى عقبة فأخذناه فجعلنا نقول
له: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم.
فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، حتى انتهوا بِهِ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
لَهُ: "كم القوم"؟ قال: هم كثير عددهم شديد بأسهم، فجهد أن
يخبره كم هم فأبى, ثم سأله: "كم ينحرون كل يوم من الجزور"؟
فقال: عشرة. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "القوم
ألف، كل جزور بمائة وتبعها".
ثم إنه أصابنا من الليل طش1 من مطر، فانطلقنا تحت الشجر
والحجف2 نستظل تحتها. وبات رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعُو ربه ويقول: "اللهم إن تهلك هذه
العصابة لا تعبد في
__________
1 الطش: الضعيف القليل.
2 الجحفة: الترس وجمعها حجف، قيل: هي من الجلود خاصة،
وقيل: هي من جلود الإبل مقورة.
(1/357)
الأرض". فلما طلع الفجر نادى رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "الصلاة جامعة". فجاء الناس من تحت الشجر
والحجف والجرف1 فصلى بِنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحض على القتال، ثم قال: "إن جمع قريش
عند هذه الضلع الحمراء من الجبل". فلما دنا القوم منا
وضايقناهم إذا رجل منهم يسير في القوم على جمل أحمر، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي ناد لي حمزة -وكان
أقربهم من المشركين- من صاحب الجمل الأحمر؟ وماذا يقول
لهم"؟. ثم قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إن يك في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون
صاحب الجمل الأحمر". فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة،
وهو ينهى عن القتال ويقول: يا قوم إني أرى أقواما مستميتين
لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي
وقولوا: جبن عتبة. وقد تعلمون أني لست بأجبنكم. فسمع بذلك
أبو جهل فقال: أنت تقول هذا؟ والله لو غيرك يقول هذا
لأعضضته. قد ملئت جوفك رعبا، فقال: إياي تعني يا مصفر
استه؟ ستعلم اليوم أينا أجبن؟
فبرز عتبة وابنه الوليد وأخوه حمية، فقال: من يبارز؟ فخرج
من الأنصار شببة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن يبارزنا
من بني عمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا
علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة بن الحارث". فقتل الله عتبة،
وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة. فقتلنا
منهم سبعين وأسرنا سبعين، فجاء رجل من الأنصار قصير برجل
من بني هاشم أسيرا فقال الرجل: إن هذا والله ما أسرني،
ولقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق, ما
أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله
فقال: "اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم". قال: فأسر من بني
عبد المطلب: العباس، وعقيل، ونوفل بن الحارث.
وقال إسحاق بن منصور السلولي: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيْلُ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ عبد
الله، قال: لقد قلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى
جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. فأسرنا رجلا, فقلت:
كم كنتم؟ قال: ألفا.
وقال سليمان بن المغيرة، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم
بدر: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض". قال: يقول
عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله عرضها السموات
والأرض؟ فقال: "نعم". قال: بخ بخ! قال: "ما يحملك على
قولك: بخ بخ"؟. قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن
أكون من أهلها. قال: "فإنك من أهلها". فأخرج
__________
1 الجرف: موضع الخصب والكلأ الملتف، وهي أماكن رعي الإبل.
(1/358)
تميرات من قرنه1 فجعل يأكل منهن، ثم قال:
لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى
بهن، ثم قاتل حتى قتل. أخرجه مسلم2.
وقال عبد الرحمن بن الغسيل، عن حمزة بن أبي أسيد, عَنْ
أَبِيْهِ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم حين اصطففنا يوم بدر: إذا أكثبوهم؛ يعني:
إذا غشوكم، فارموهم بالنبل، واستبقوا نبلكم. أخرجه
البخاري3.
وروى عُمَرُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ عروة بن
الزبير، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار
المهاجرين يوم بدر: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا
بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله. وسمى خيله:
خيل الله.
أخبرنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الخَالِقِ بنُ عَبْدِ
السَّلاَمِ، وابنة عمه ست الأهل بنت علوان -سنة ثلاث
وتسعين- وآخرون قالوا: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم
الفقيه، قال: أنبأتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أخبرنا الحسين
بن طلحة، قال: أخبرنا أبو عمر بعد الواحد بن مهدي، قال:
حدثنا الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمود بن خداش، قال:
حدثنا هشيم, قال: أخبرنا أبو هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن
عباد، قال: سمعت أبا ذر -رضي الله عنه- يقسم قسما:
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]
، أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة
بن الحارث -رضي الله عنهم- وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة،
والوليد بن عتبة4.
أخرجه البخاري عن يعقوب الدورقي وغيره، ومسلم عن عمرو بن
زرارة، عن هشيم، عن أبي هاشم يحيى بن دينار الرماني
الواسطي، عن أبي مجلز لاحق بن حميد السدوسي البصري. وهو من
الأبدال العوالي.
وعبيدة بنُ الحَارِثِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ
بنِ قُصَيِّ المطلبي، أمه ثقفية, وكان أسن من النبي صلى
الله عليه وسلم بعشر سنين، أسلم هو وأبو سلمة بن عبد الأسد
وعثمان بن مظعون في وقت.
__________
1 قرنه: أي جعبة النشاب.
2 صحيح: أخرجه مسلم "1901" من طريق هاشم بن القاسم، حدثنا
سليمان بن المغيرة به.
3 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 498"، والبخاري "3984" و"3985"،
وأبو داود "2663" من طريق أبي أحمد الزبيري، حدثنا عبد
الرحمن بن الغسيل، به.
4 صحيح: أخرجه البخاري "4743" قال حدثنا حجاج بن منهال،
حدثنا هشيم، أخبرنا أبو هاشم، به. وأخرجه البخاري "4744"
من طريق معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي، قال: حدثنا أبو
مجلز، به.
(1/359)
وهاجر هو وأخواه الطفيل والحصين. وكان
عبيدة كبير المنزلة عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مربوعا مليحا، توفي بالصفراء.
وهو الذي بارز عتبة بن ربيعة، فاختلفا ضربتين، كلاهما أثبت
صاحبه، كما تقدم. وقد جهزه النبي صلى الله عليه وسلم في
ستين راكبا من المهاجرين أمره عليهم؛ فكان أول لواء عقده
النبي صلى الله عليه وسلم لواء عبيدة، فالتقى بقريش وعليهم
أبو سفيان عند ثنية المرة، فكان أول قتال في الإسلام. قاله
محمد بن إسحاق.
وقال ابن إسحاق وغيره عن الزهري، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ
ثَعْلَبَةَ بنِ صُعَيْرِ أن المستفتح يوم بدر أبو جهل، قال
لما التقى الجمعان: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا
نعرف، فأحنه الغداة.
فقتل، ففيه أنزلت: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ
الْفَتْحُ} [الأنفال: 19] .
وقال معاذ بن معاذ: حدثنا شعبة، عن عبد الحميد صاحب
الزيادي، سمع أنسا يقول: قال أبو جهل: {اللَّهُمَّ إِنْ
كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ
عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، [الأنفال: 32] ، فنزلت: {وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ
اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:
32] ، فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ، متفق عليه1.
وعن ابن عباس في قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ
اللَّهُ} [الأنفال: 34] ، قال: يوم بدر بالسيف قاله عبد
الله بن صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ صَالِحٍ، عَنْ
عَلِيِّ بن أبي طلحة، عنه.
وبه عنه في قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال: 7] ، قال: أقبلت عير أهل مكة
تريد الشام -كذا قال- فبلغ أهل المدينة ذلك, فخرجوا ومعهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون العير. فبلغ ذلك أهل
مكة فأسرعوا السير، فسبقت العير رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الله وعدهم إحدى
الطائفتين. وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم، وأيسر شوكة
وأحضر مغنما.
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد القوم، فكره
المسلمون مسيرهم لشوكة القوم، فَنَزَلَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمُسْلِمُوْنَ،
وبينهم وبين الماء رملة دعصة، فأصاب المسلمين ضعف شديد،
وألقى الشيطان في قلوبهم القنط يوسوسهم: تزعمون أنكم
أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء،
وأنتم كذا. فأنزل الله عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون
وتطهروا، فأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وصار الرمل؛ يعني
ملبدا. وأمدهم الله بألف من الملائكة.
وجاء إبليس في جند من الشياطين، معه رايته في صورة رجال
بني مدلج، والشيطان في
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4648" و"1649"، ومسلم "2796" من
طريق عُبَيْدُ اللهِ بنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي،
حَدَّثَنَا شعبة، به.
(1/360)
صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال
للمشركين: {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48] ، فلما اصطف القوم
قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره.
ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: "يا رب إنك
إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا". فقال له
جبريل: خذ قبضة من التراب. فأخذ قبضة من التراب فرمى بها
في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه
وفمه، فولوا مدبرين, وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه
وكانت يده في يد رجل من المشركين نزع يده وولى مدبرا
وشيعته. فقال الرجل: يا سراقة، أما زعمت أنك لنا جار؟ قال:
{إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ}
[الأنفال: 48] .
وقال يوسف بن الماجشون: أخبرنا صَالِحُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ
بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ
جَدِّهِ، قَالَ: إِنِّي لواقف يوم بدر في الصف, فنظرت عن
يمين وشمالي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلاَمَيْنِ مِنَ
الأَنْصَارِ حَدِيْثَةٌ أَسْنَانُهُمَا. فَتَمَنَّيْتُ
أَنْ أَكُوْنَ بَيْنَ أَضْلُعٍ1 مِنْهُمَا. فَغَمَزَنِي
أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمّ أَتَعْرِفُ أَبَا جهل؟ قلت:
نعم، وما حاجتك إليه؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ
سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوْتَ الأَعْجَلُ مِنَّا.
فتعجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لي
مِثْلَهَا. فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي
جَهْلٍ وَهُوَ يَجُوْلُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلاَ
تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه. فابتدراه بسيفيهما
فضرباه حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ فَقَالَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. فَقَالَ:
"هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا"؟ قالا: لا. قال: فنظر في
السيفين، فقال: "كلاهما قَتَلَهُ". وَقَضَى بِسَلَبِهِ
لِمُعَاذِ بنِ عَمْرٍو، وَالآخَرُ معاذ بن عفراء. متفق
عليه2.
وقال زهير بن معاوية: حدثنا سليمان التيمي، قال: حدثني
أنس، عنه قال: قال رسول
__________
1 الأضلع: الشديد القوي الأضلاع.
2 صحيح: أخرجه أحمد "1/ 192-193"، والبخاري "3141"
و"3964"، ومسلم "1752" والطحاوي "3/ 227-228"، وأبو يعلى
"866"، والحاكم "3/ 425"، والبيهقي "6/ 305-306 و306" من
طريق أبي سلمة يوسف بن يعقوب الماجشون، عن صَالِحُ بنُ
إِبْرَاهِيْمَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، به.
وأخرجه البزار "1013" من طريق أبي سلمة، عن عبد الواحد بن
أبي عون، عن صالح، به.
وأخرجه بنحوه البخاري "3988" من طريق سعد بن إبراهيم، عن
أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، به.
وقوله: "سوادي سواده": أي شخصي شخصه.
(1/361)
الله صلى الله عليه وسلم: من ينظر ما صنع
أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى
برد. قال: أنت أبو جهل؟ فأخذ بلحيته. فقال: هل فوق رجل
قتلتموه، أو قتله قومه؟ أخرجه البخاري ومسلم1.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس, عن عبد الله أنه أتى
أبا جهل فقال: قد أخزاك الله. فقال: هل أعمد من رجل
قتلتموه؟ أخرجه البخاري2.
وقال عثام بن علي: حدثنا الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ عبد الله، قال:
انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع، وعليه بيضة, ومعه سيف جيد،
ومعي سيف رث.
فجعلت أنقف رأسه بسيفين وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة،
حتى ضعفت يده، فأخذت سيفه, فرفع رأسه فقال: على من كانت
الدبرة، لنا أو علينا؟ ألست رويعينا بمكة؟ قال: فقتلته. ثم
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت: قتلت أبا جهل.
فَقَالَ: "اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ"؟.
فاستحلفني ثلاث مرار. ثم قام معي إليهم, فدعا عليهم.
وروي نحوه عن سفيان الثوري, عن أبي إسحاق وفيه: فاستحلفني
وقال: "الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده, ونصر عبده،
وهزم الأحزاب وحده، انطلق فأرنيه". فانطلقت فأريته. فقال:
"هذا فرعون هذه الأمة".
وروي عن أبي إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بلغه قتله خر ساجدا.
وقال الواقدي: وَقَفَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مصرع ابني عفراء فقال: "يرحم
الله ابني عفراء، فهما شركاء في قتل فرعون هذه الأمة ورأس
أئمة الكفر". فقيل: يا رسول الله، ومن قتله معهما؟ قال:
"الملائكة، وابن مسعود قد شرك في قتله".
__________
1 صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة "14/ 373"، وأحمد "3/ 115 و129
و236"، والبخاري "3962" و"3963" و"4020"، ومسلم "1800"،
وأبو يعلى "4063" و"4074"، وأبو عونة "4/ 228 و228-229"،
والبيهقي في "السنن" "9/ 92"، وفي "الدلائل" "3/ 86" من
طرق عن سليمان التيمي، به.
ابنا عفراء: هما معاذ ومعوذ، وعفراء أمهما.
وهل فوق رجل قتلتموه: أي لا عار علي في قتلكم إياي.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3961" حدثنا ابن نمير، حدثنا أبو
أسامة، حدثنا إسماعيل، به.
وقوله: "هل أعمد من رجل قتلتموه": أعمد بالمهملة أفعل
تفضيل من عمد أي هلك، يقال عمد البعير عمدا بالتحريك إذا
ورم سنامه من عض القتب فهو عميد، ويكنى بذلك عن الهلاك،
وقيل غير ذلك.
وقيل معنى أعمد أعجب، وقيل بمعنى أغضب، وقيل معناه هل زاد
على سيد قتله قومه قاله أبو عبيدة.
(1/362)
وقال أبو نعيم: حدثنا سلمة بن رجاء، عن
الشعثاء؛ امرأة من بني أسد، قالت: دخلت على عبد الله بن
أبي أوفى، فرأيته صلى الضحى ركعتين، فقالت له امرأته: إنك
صليت ركعتين. فَقَالَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الضحى ركعتين حين بشر
بالفتح، وحين جيء برأس أبي جهل.
وقال مجالد، عن الشعبي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه
وسلم: إني مررت ببدر, فرأيت رجلا يخرج من الأرض، فيضربه
رجل بمقمعة حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج، فيفعل به مثل ذلك
مرارا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك أبو جهل
بن هشام يعذب إلى يوم القيامة".
وقال البخاري ومسلم من حديث ابن أبي عروبة، عن قتادة قال:
ذكر لنا أنس، عن أبي طلحة أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر يوم بدر بأربعة وعشرين
رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث
مخبث. وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال. فلما
كان ببدر اليوم الثالث، أمر براحلته فشد عليها، ثم مشى ما
تبعه أصحابه، فقالوا: ما نراه إلا ينطلق لبعض حاجته، حتى
قام على شفة الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم:
"يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم
الله ورسوله، فإنا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا
حَقّاً، فَهَلْ وجدتم ما وعد ربكم حق ا"؟. فقال عمر: يا
رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: "والذي
نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم".
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا
ونقمة وحسرة وندامة1. صحيح.
وقال هشام، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقف على قليب
بدر فقال: إنهم ليسمعون ما أقول. قال عروة: فبلغ عائشة
فقالت: ليس هكذا قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما قال: إنهم ليعلمون أن ما كنت
أقول لهم حق، إنهم قد تبوءوا مقاعدهم من جهنم، إن الله
يقول: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] ،
{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22،
23] ، أخرجه البخاري2.
ما روت عائشة لا ينافي ما روى ابن عمر وغيره، فإن علمهم لا
يمنع من سماعهم قوله -عليه السلام- وأما إنك لا تسمع
الموتى، فحق لأن الله أحياهم ذلك الوقت كما يحيي الميت
لسؤال منكر ونكير.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3065" و"3976"، ومسلم "2875" من
طريق سعيد بن أبي عروبة، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3980" و"3981" حدثنا عثمان، حدثنا
عبدة، عن هشام به.
(1/363)
وقال عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس
في قوله: {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم:
28] ، قال: هم كفار من قريش {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ
الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] ؛ قال: النار يوم بدر. أخرجه
البخاري1.
وقال إِسْرَائِيْلُ، عَنْ سِمَاكٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من القتلى قيل له: عليك
العير ليس دونها شيء. فناداه العباس وهو في الوثاق: إنه لا
يصلح لك. قال: لم؟ قال: لأن الله -عز وجل- وعدك إحدى
الطائفتين، وقد أنجز لك ما وعدك. هذا إسناد صحيح، رواه
جعفر بن محمد بن شاكر، عن أبي نعيم، عنه.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي خبيب بن عبد الرحمن قال: ضرب خبيب بن عدي يوم
بدر فمال شقه، فتفل عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأمه ورده، فانطبق.
أحمد بن الأزهر: حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ جَعْفَرِ
بنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أبي عمران الجوني، عن أنس أو غيره
قال: شهد عمير بن وهب الجمحي بدرا كافرا، وكان في القتلى.
فمر به رجل فوضع سيفه في بطنه، فخرج من ظهره. فلما برد
عليه الليل لحق بمكة فصح. فاجتمع هو وصفوان بن أمية فقال:
لولا عيالي ودَيني لكنت الذي أقتل محمدا. فقال صفوان: وكيف
تقتله؟ قال: أنا رجل جريء الصدر جواد لا ألحق، فأضربه
وألحق بالجبل فلا أدرك. قال: عيالك في عيالي ودَينك عليَّ.
فانطلق فشحذ سيفه وسمه، وأتى المدينة، فرآه عمر فقال
للصحابة: احفظوا أنفسكم فإني أخاف عميرا إنه رجل فاتك، ولا
أدر ما جاء به. فأطاف المسلمون برسول الله صلى الله عليه
وسلم، وجاء عمير، متقلدا سيفه، إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أنعم صباحا. قال: "ما
جاء بك يا عمير"؟. قال: حاجة. قال: "فما بال السيف"؟. قال:
قد حملناها يوم بدر فما أفلحت ولا أنجحت. قال: "فما قولك
لصفوان وأنت في الحجر"؟. وأخبره بالقصة فقال عمير: قد كنت
تحدثنا عن خبر السماء فنكذبك، وأراك تعلم خبر الأرض.
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَأَنَّكَ رسول
الله، بأبي أنت وأمي، أعطني منك علما يعلم أهل مكة أني
أسلمت. فأعطاه، فقال عمر: لقد جاء عمير وإنه لأضل من
خنزير، ثم رجع وهو أحب إليَّ من ولدي.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا عكاشة الذي قاتل
بسيفه يوم بدر حتى انقطع في يده، فَأُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاه جذلا من حطب،
فقال: "قاتل بهذا". فلما أخذه هزه فعاد سيفا في يده، طويل
القامة شديد المتن أبيض الحديدة. فقاتل بها، حتى فتح الله
على رسوله،
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3977" حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان،
حدثنا عمرو بن دينار، به.
(1/364)
ثم لم يزل عنده يشهد به المَشَاهِدَ مَعَ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، حتى قتل في
قتال أهل الردة وهو عنده، وكان ذلك السيف يسمى القوي.
هكذا ذكره ابن إسحاق بلا سند.
وقد رواه الواقدي، قال: حدثني عمر بن عثمان الجحشي، عن
أبيه، عن عمته، قالت: قال عكاشة بن محصن: انقطع سيفي يوم
بدر، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا، فإذا هو
سيف أبيض طويل. فقاتلت به.
وقال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد الليثي، عن داود بن
الحصين، عن جماعة، قالوا: انكسر سيف سلمة بن أسلم يوم بدر،
فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه
وسلم قضيبا كان في يده من عراجين، فقال: اضرب به. فإذا هو
سيف جيد. فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد.
(1/365)
ذكر غزوة بدر: من
مغازي موسى بن عقبة فإنها من أصح المغازي
قد قال إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثني مطرف ومعن
وغيرهما أن مالكا إذا سئل عن المغازي قال: عليك بمغازي
الرجل الصالح موسى بن عقبة، فإنه أصح المغازي.
قال محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة قال: قال ابن شهاب "ح"
وقال إسماعيل بن أبي أويس: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن
عقبة -وهذا لفظه- عن عمه موسى بن عقبة، قال: مكث رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قتل ابن
الحضرمي شهرين، ثم أقبل أبو سفيان في عير لقريش، ومعه
سبعون راكبا من بطون قريش؛ منهم: مخرمة بن نوفل وعمرو بن
العاص، وكانوا تجارا بالشام، ومعهم خزائن أهل مكة، ويقال:
كانت عيرهم ألف بعير. ولم يكن لقريش أوقية فما فوقها إلا
بعثوا بها مع أبي سفيان؛ إلا حويطب بن عبد العزى، فلذلك
تخلف عن بدر فلم يشهدها. فذكروا لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه، وقد كانت الحرب بينهم قبل ذاك، فبعث عدي ابن
أبي الزغباء الأنصاري، وبسبس بن عمرو، إلى العير، عينا له،
فسارا، حتى أتيا حيا من جهينة، قريبا من ساحل البحر،
فسألوهم عن العير، فأخبروهما بخبر القوم. فرجعا إِلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فأخبراه. فاستنفر المسلمين للعير، في رمضان.
قدم أبو سفيان على الجهنيين وهو متخوف من المسلمين, فسألهم
فأخبروه خبر الراكبين، فقال أبو سفيان: خذوا من بعر
بعيريهما. ففته فوجد النوى فقال: هذه علائف أهل يثرب.
فأسرع وبعث رجلا من بني غفار يقال له، ضمضم بن عمرو، إلى
قريش أن انفروا فاحموا عيركم من محمد وأصحابه. وكانت عاتكة
قد رأت قبل قدوم ضمضم؛ فذكر رؤيا عاتكة،
(1/365)
إلى أن قال: فقدم ضمضم فصاح: يا آل غالب بن
فهر انفروا فقد خرج محمد وأهل يثرب يعترضون لأبي سفيان.
ففزعوا، وأشفقوا من رؤيا عاتكة، ونفروا على كل صعب وذلول،
وقال أبو جهل: أيظن محمد أن يصيب مثل ما أصاب بنخلة؟ سيعلم
أنمنع عيرنا أم لا؟
فخرجوا بخمسين وتسعمائة مقاتل، وساقوا مائة فرس, ولم
يتركوا كارها للخروج. فأشخصوا العباس بن عبد المطلب، ونوفل
بن الحارث، وطالب بن أبي طالب، وأخاه عقيلا، إلى أن نزلوا
الجحفة.
فوضع جهيم بن الصلت بن مخرمة المطلبي رأسه فأغفى، ثم نزع
فقال لأصحابه: هل رأيتم الفارس الذي وقف علي آنفا. قالوا:
لا، إنك مجنون فقال: قد وقف عليَّ فارس فقال: قتل أبو جهل
وعتبة وشيبة وزمعة وأبو البختري وأمية بن خلف، فعد جماعة.
فقالوا: إنما لعب بك الشيطان. فرفع حديثه إلى أبي جهل،
فقال: قد جئتمونا بكذب بني عبد المطلب مع كذب بني هاشم،
سترون غدا من يقتل.
وَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في طلب العير، فسلك على نقب بني دينار، ورجع حين
رجع من ثنية الوداع، فنفر في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا،
وأبطأ عنه كثير من أصحابه وتربصوا. وكانت أول وقعة أعز
الله فيها الإسلام.
فخرج في رمضان ومعه المسلمون على النواضح يعتقب النفر منهم
على البعير الواحد.
وكان زميل رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي
حليف حمزة بن عبد المطلب، ليس مع الثلاثة إلا بعير واحد
فساروا، حتى إذا كانوا بعرق الظبية لقيهم راكب من قبل
تهامة، فسألوه عن أبي سفيان فقال: لا علم لي به. فقالوا:
سلم عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ: وفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم. وأشاروا
إليه فقال له: أنت رسول الله؟ قال: "نعم". قال: إن كنت
رسول الله فحدثني بما في بطن ناقتي هذه فغضب سلمة بن سلامة
بن وقش الأنصاري، فقال: وقعت على ناقتك فحملت منك. فكره
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قال
سلمة فأعرض عنه.
ثم سار لا يلقاه خبر ولا يعلم بنفرة قريش، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أشيروا علينا. فقال أبو بكر: أنا أعلم
بمسافة الأرض، أخبرنا عدي بن أبي الزغباء: أن العير كانت
بوادي كذا.
وقال عمر: يا رسول الله، إنها قريش وعزها، والله ما ذلت
منذ عزت ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك.
فقال: "أشيروا عليَّ".
(1/366)
قال المقداد بن عمرو: إنا لا نقول لك كما
قال أصحاب موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا
إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، ولكن اذهب
أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون.
فقال: "أشيروا عليَّ".
فلما رأى سعد بن معاذ كثرة استشارته ظن سعد أنه يستنطق
الأنصار شفقا أن لا يستحوذوا معه، أو قال: أن لا يستجلبوا
معه على ما يريد، فقال: لعلك يا رسول الله تخشى أن لا تكون
الأنصار يريدون مواساتك، ولا يرونها حقا عليهم، إلا بأن
يروا عدوا في بيوتهم وأولادهم ونسائهم، وإني أقول عن
الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، وخذ
من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذته منا أحب
إلينا مما تركته علينا، فوالله لو سرت حتى تبلغ البرك من
غمد ذي يمن لسرنا معك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
سيروا على اسم الله -عز وجل- فإني قد أريت مصارع القوم.
فعمد لبدر.
وخفض أبو سفيان فلصق بساحل البحر، وأحرز ما معه، فأرسل إلى
قريش، فأتاهم الخبر بالجحفة. فقال أبو جهل: والله لا نرجع
حتى نقدم بدرا فنقيم بها. فكره ذلك الأخنس بن شريق وأشار
بالرجعة، فأبوا وعصوه، فرجع ببني زهرة فلم يحضر أحد منهم
بدرا. وأرادت بنو هاشم الرجوع فمنعهم أبو جهل.
ونزل رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى أدنى شيء من بدر, ثم بعث عليا والزبير وجماعة يكشفون
الخبر، فوجدوا وارد قريش عند القليب، فوجدوا غلامين
فأخذوهما فسألوهما عن العير، فطفقا يحدثانهم عن قريش،
فضربوهما. وذكر الحديث، إلى أن قال: فَقَامَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أشيروا
عليَّ في المنزل.
فقام الحباب بن المنذر السلمي: أنا يا رسول الله عالم بها
وبقلبها؛ إن رأيت أن تسير إلى قليب منها قد عرفتها كثيرة
الماء عذبة، فتنزل عليها وتسبق القوم إليها ونغوِّر ما
سواها.
فقال: سيروا، فإن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين.
فوقع في قلوب ناس كثير الخوف, فتسارع المسلمون والمشركون
إلى الماء، فأنزل الله تلك الليلة مطرا واحدا؛ فكان على
المشركين بلاء شديدا منعهم أن يسيروا، وكان على المسلمين
ديمة خفيفة لبد لهم الأرض، فسبقوا إلى الماء فنزلوا عليه
شطر الليل، فاقتحم القوم في القليب فماحوها1 حتى كثر
ماؤها، وصنعوا حوضا عظيما، ثم غوروا ما سواه من المياه.
__________
1 قال الأزهري عن الليث: الميح في الاستقاء أن ينزل الرجل
إلى قرار البئر إذا قل ماؤها، فيملأ الدلو بيده يميح فيها
بيده ويميح أصحابه.
(1/367)
ويقال: كان مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فرسان؛ على أحدهما: مصعب بن عمير، وعلى الآخر: سعد بن
خيثمة. ومرة الزبير بن العوام، والمقداد.
ثم صف رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى الحياض، فلما طلع المشركون قَالَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فيما زعموا: "اللهم
هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك".
واستنصر المسلمون الله واستغاثوه، فاستجاب الله لهم.
فنزل المشركون وتعبئوا للقتال، ومعهم إبليس في صورة سراقة
المدلجي يحدثهم أن بني كنانة وراءه قد أقبلوا لنصرهم.
قال: فسعى حكيم بن حزام إلى عتبة بن ربيعة فقال: هل لك أن
تكون سيد قريش ما عشت؟ قال: فأفعل ماذا؟ قال: تجير بين
الناس وتحمل دية بن الحضرمي، وبما أصاب محمد في تلك العير،
فإنهم لا يطلبون من محمد غير هذا. قال عتبة: نعم قد فعلت،
ونعما قلت، فاسع في عشيرتك فأنا أتحمل بها. فسعى حكيم في
أشراف قريش بذلك.
وركب عتبة جملا له، فسار عليه في صفوف المشركين فقال: يا
قوم أطيعوني ودعوا هذا الرجل؛ فإن كان كاذبا ولى قتله
غيركم من العرب فإن فيهم رجالا لكم فيهم قرابة قريبة،
وإنكم إن تقتلوهم لا يزال الرجل ينظر إلى قاتل أخيه أو
ابنه أو ابن أخيه أو ابن عمه، فيورث ذلك فيكم إحنا وضغائن.
وإن كان هذا الرجل ملكا كنتم في ملك أخيكم. وإن كان نبيا
لم تقتلوا النبي فتسبوا بهز ولن تخلصوا إليهم حتى يصيبوا
أعدادكم، ولا آمن أن تكون لهم الدبرة عليكم.
فحسده أبو جهل على مقالته: وأبى الله إلا أن ينفذ أمره,
وعتبة يومئذ سيد المشركين.
فعمد أبو جهل إلى ابن الحضرمي -وهو أخو المقتول- فقال: هذا
عتبة يخذل بين الناس، وقد تحمل بدية أخيك، يزعم أنك
قابلها، أفلا تستحيون من ذلك أن تقبلوا الدية؟ وقال لقريش:
إن عتبة قد علم أنكم ظاهرون على هذا الرجل ومن معهن وفيهم
ابنه وبنو عمه، وهو يكره صلاحكم وقال لعتبة: انتفخ سحرك1.
وأمر النساء أن يعولن عمرا، فقمن يصحن: واعمراه واعمراه؛
تحريضا على القتال.
__________
1 يقال للجبان الذي ملأ الخوف جوفه انتفخ سحرك وهو الرئة
حتى رفع القلب إلى الحلقوم، ومنه قوله تعالى: {وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] ، وكذلك قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ}
[غافر: 18] ؛ كل هذا يدل على أن انتفاخ السحر مثل لشدة
الخوف وتمكن الفزع، وأنه لا يكون من البطنة.
(1/368)
وقام رجال فتكشفوا؛ يعيرون بذلك قريشا،
فأخذت قريش مصافها للقتال. فذكر الحديث إلى أن قال: فأسر
نفر ممن أوصى بهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ لا يقتلوهم إلا أبا البختري, فإنه أبى أن
يستأسر, فذكروا له أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمرهم أن لا يقتلوه إن استأسر،
فأبى. ويزعم ناس أن أبا اليسر قتل أبا البختري, ويأبى عظم
الناس إلا أن المجذر هو الذي قتله. بل قتله أبو داود
المازني.
قال: ووجد ابن مسعود أبا جهل مصروعا, بينه وبين المعركة
غير كثير, مقنعا في الحديد واضعا سيفه على فخذيه ليس به
جرح, ولا يستطيع أن يحرك منه عضوا، وهو منكب ينظر إلى
الأرض. فلما رآه ابن مسعود أطاف حوله ليقتله وهو خائف أن
يثور إليه، وأبو جهل مقنع بالحديد، فلما أبصره لا يتحرك ظن
أنه مثبت جراحا، فأراد أن يضربه بسيفه، فخشي أن لا يغني
سيفه شيئا, فأتاه من ورائه, فتناول قائم سيفه فاستله وهو
منكب، فرفع عبد الله سابغة البيضة عن قفاه فضربه، فوقع
رأسه بين يديه ثم سلبه. فلما نظر إليه إذا هو ليس به جراح،
وأبصر في عنقه خدرا, وفي يديه وفي كتفيه كهيئة آثار
السياط، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه
وسلم: ذلك ضرب الملائكة.
قال: وأذل الله بوقعة بدر رقاب المشركين والمنافقين, فلم
يبق بالمدينة منافق ولا يهودي إلا وهو خاضع عنقه لوقعة
بدر. وكان ذلك يوم الفرقان؛ يوم فرق الله بين الشرك
والإيمان.
وقالت اليهود: تيقنا أنه النبي الذي نجد نعته في التوراة,
والله لا يرفع راية بعد اليوم إلا ظهرت.
وأقام أهل مكة على قتلاهم النوح بمكة شهرا.
ثم رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى المدينة، فدخل من ثنية الوداع.
ونزل القرآن فعرفهم الله نعمته فيما كرهوا من خروج رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فقال: {كَمَا أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] ، وثلاث آيات
معها.
ثم ذكر موسى بن عقبة الآيات التي نزلت في سورة الأنفال في
هذه الغزوة وآخرها.
وقال رجال ممن أسر: يا رسول الله، إنا كنا مسلمين، وإنما
أخرجنا كرها، فعلام يؤخذ منا الفداء؟ فنزلت: {قُلْ لِمَنْ
فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ
فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ
مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] .
(1/369)
حذفت من هذه القصة كثيرا مما سلف من
الأحاديث الصحيحة استغناء بما تقدم.
وقد ذكر هذه القصة -بنحو قول موسى بن عقبة- ابْنُ
لَهِيْعَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، ولم
يذكر أبا داود المازني في قتل أبي البختري، وزاد يسيرا.
وقال هو وابن عقبة: إن عدد من قتل من المسلمين ستة من
قريش، وثمانية من الأنصار.
وقتل من المشركين تسعة وأربعون رجلا، وأسر تسعة وثلاثون
رجلا. كذا قالا.
وقال ابن إسحاق: استشهد أربعة من قريش وسبعة من الأنصار.
وقتل من المشركين بضعة وأربعون، وكانت الأسارى أربعة
وأربعين أسيرا.
وقال الزهري عن عروة: هزم المشركون وقتل منهم زيادة على
سبعين، وأسر مثل ذلك.
ويشهد لهذا القول حديث البراء الذي في البخاري؛ قال: أصاب
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين يوم بدر
أربعين ومائة؛ سبعين أسيرا وسبعين قتيلا، وأصابوا منا يوم
أحد سبعين.
وقال حماد بن سلمة، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيْهِ، عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خلف عثمان وأسامة بن زيد على
بنته رقية أيام بدر. فجاء زيد بن حارثة على العضباء،
نَاقَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بالبشارة. قال أسامة: فسمعت الهيعة، فخرجت فإذا أبي قد جاء
بالبشارة، فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى، فضرب رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بسهمه.
وقال عبدان بن عثمان: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا عبد
الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عبد الرحمن -رجل من أهل صنعاء-
قال: أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا
عليه وهو في بيت، عليه خلقان جالس على التراب. قال جعفر:
فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال فقال: أبشركم بما
يسركم؛ إنه جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله قد
نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وأهلك عدوه، وأسر فلان وفلان،
التقوا بواد يقال له بدر، كثير الأراك، كأني أنظر إليه،
كنت أرعى به لسيدي -رجل من بني ضمرة- إبله. فقال له جعفر:
ما بالك جالس على التراب، ليس تحتك بساط، وعليك هذه
الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى -عليه
السلام- أن حقا على عباد الله أن يحدثوا تواضعا عندما أحدث
لهم من نعمته. فلما أحدث الله لي نصر نبيه أحدثت له هذا
التواضع.
ذكر مثل هذه الحكاية الواقدي في مغازيه بلا سند.
(1/370)
في غنائم بدر والأسرى:
قال خالد الطحان، عن داود، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بدر: "من فعل كذا وكذا، فله من
النفل كذا وكذا". قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخة
الرايات. فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة: كنا ردءا لكم،
لو انهزمتم، فئتم إلينا، فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى. فأبى
الفتيان وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا،
فأنزل الله -تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} إلى
قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 1-5] ، يقول: فكان ذلك خيرا لهم.
فكذلك أيضا: أطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم. أخرجه أبو
داود.
ثم ساقه من وجه آخر عن داود بإسناده. وقال: فقسمها رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالسواء.
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ
أَبِيْهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر.
وقال عمر بن يونس: حدثني عكرمة بن عمار، قال: حدثني أبو
زميل، قال: حدثني ابن عباس، قال: حدثني عمر قال: لما كان
يوم بدر، فذكر القصة.
قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قَالَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما ترون في هؤلاء"؟.
فقال أبو بكر: هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم
فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى
الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يابن
الخطاب"؟. قلت: لا والله يا رسول الله لا أرى الذي رأى أبو
بكر، ولكن أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم؛ فتمكن عليا من عقيل
فيضرب عنقه، وتمكني من فلان؛ نسيب لعمر؛ فأضرب عنقه، فإن
هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قال أبو بكر، ولم يهو ما
قلت: فلما كان من الغد جئت، فَإِذَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر يبكيان, قلت: يا
رسول الله أخبرني من أي شيء تبكيان، فإن وجدت بكاء بكيت
وإلا تباكيت لبكائكما. فقال: "أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك
من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه
الشجرة"؛ شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنزل
الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله:
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال:
67-69] ، فأحل الله لهم الغنيمة. أخرجه مسلم1.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1763" من طريق ابن المبارك، عن عكرمة
بن عمار، به في حديث طويل.
(1/371)
وقال جرير، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو
بنِ مُرَّةَ، عَنْ أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه قال:
لما كان يوم بدر قال لهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تقولون في هؤلاء الأسارى"؟. فقال
عبد الله بن رواحة: أنت في واد كثير الحطب فأضرم نارا ثم
ألقهم فيها. فقال العباس: قطع الله رحمك. فقال عمر: قادتهم
ورءوسهم قاتلوك وكذبوك، فاضرب أعناقهم. فقال أبو بكر:
عشيرتك وقومك.
ثم دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لبعض حاجته. فقالت طائفة: القول ما قال عمر.
فخرج رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: "ما تقولون في هؤلاء إن مثل هؤلاء كمثل إخوة لهم
كانوا من قبلهم؛ قال نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى
الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ، وقال
موسى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ
عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] ، وقال إبراهيم: {فَمَنْ
تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ، وقال عيسى: {إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]
الآية، وأنتم قوم بكم عيلة، فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء
أو بضربة عنق". فقلت: إلا سهيل بن بيضاء فإنه لا يقتل، قد
سمعته يتكلم بالإسلام. فسكت, فما كان يوم أخوف عندي أن
يلقي الله عليَّ حجارة من السماء
من يومي ذلك، حَتَّى قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إلا سهيل بن بيضاء" 1.
وقال ابن إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ, قَالَ:
جَاءَ رجل من الأنصار بالعباس قد أسره إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ العباس:
ليس هذا أسرني، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد آزرك الله بملك كريم".
وقال ابن إسحاق: حدثني من سمع عكرمة، عن ابن عباس، قال:
كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو السلمي،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"كَيْفَ أسرته"؟. فقال: لقد أغلق عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا
رَأَيْتُهُ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ، هيئته كذا وكذا. فقال:
"لقد أعانك عليه ملك كريم". وقال للعباس: "افد نفسك وابن
أخيك عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث". فأبى وقال: إني
__________
1 ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة "12/ 417" و"14/ 370-372"،
وأحمد "1/ 383-384"، والترمذي "1714" و"3084"، والبيهقي في
"السنن" "6/ 321"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 207-208" من
طريق أبي معاوية، حدثنا الأعمش، به.
قلت: إسناده ضعيف؛ لانقطاعه بين أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ
عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ، وأبيه، فإنه لم يسمع منه
وأبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير، والأعمش، هو سليمان
بن مهران.
وعمرو بن مرة: هو المرادي الكوفي.
(1/372)
كنت مسلما وَإِنَّمَا اسْتَكْرَهُوْنِي.
قَالَ: "اللهُ أَعْلَمُ بِشَأْنِكَ إِنْ يَكُ مَا تَدَّعِي
حَقّاً فَاللهُ يَجْزِيْكَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا ظَاهِرُ
أَمْرِكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا، فَافْدِ نفسك".
وكان قد أخذ معه عشرون أوقية ذهبا، فقال: يَا رَسُوْلَ
اللهِ احْسُبْهَا لِي مِنْ فِدَائِي. قَالَ:
"لاَ، ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَا اللهُ مِنْكَ".
وقال عبد العزيز بن عمران الزهري، وهو ضعيف: حدثني محمد بن
موسى، عَنْ عُمَارَةَ بنِ عَمَّارِ بنِ أَبِي اليَسَرِ،
عَنْ أَبِيْهِ, عَنْ جَدِّهِ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى العباس
يوم بدر، وهو قائم كَأَنَّهُ صَنَمٌ وَعَيْنَاهُ
تَذْرِفَانِ، فَقُلْتُ: جَزَاكَ اللهُ من ذي رحم شرا،
تقاتل ابْنَ أَخِيْكَ مَعَ عَدُوِّهِ؟ قَالَ: مَا فَعَلَ،
أَقُتِلَ؟ قُلْتُ: اللهُ أَعَزُّ لَهُ وَأَنْصَرُ مِنْ
ذلك. قال: ما تريد إليَّ؟ قلت: إسار، فَإِنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ
قَتْلِكَ. قَالَ: لَيْسَتْ بِأَوَّلِ صِلَتِهِ. فأسرته.
وروى ابن إسحاق، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:
فبعثت قريش في فداء أسراهم. وقال العباس: إني كنت مسلما.
فنزل فيه: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا
يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ} [الأنفال: 70] ، قال العباس: فأعطاني الله مكان
العشرين أوقية عشرين عبدا كُلُّهُمْ فِي يَدِهِ مَالٌ
يَضْرِبُ بِهِ، مَعَ ما أرجو من المغفرة.
وقال أزهر السمان، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة، عن علي،
وبعضهم يرسله قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأسارى يوم بدر: "إن شئتم
قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء، واستشهد
منكم بعدتهم".
وكان آخر السبعين ثابت بن قيس، قتل يوم اليمامة.
هذا الحديث داخل في معجزاته صلى الله عليه وسلم، وإخباره
عن حكم الله فيمن يستشهد، فكان كما قال.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي نبيه بن وهب العبدري، قال: لما أَقْبَلَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بالأسارى فرقهم على المسلمين، وقال: "استوصوا بهم خيرا".
قال نبيه: فسمعت من يذكر عن أبي عزيز, قال: كنت في الأسارى
يوم بدر، فَسَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "استوصوا بالأسارى خيرا". فإن
كان ليقدم إليهم الطعام فما تقع بيد أحدهم كسرة إلا رمى
بها إلى أسيره، ويأكلون التمر. فكنت أستحيي فآخذ الكسرة
فأرمي بها إلى الذي رمى بها إليَّ، فيرمي بها إليَّ.
(1/373)
أبو عزيز هو أخو مصعب بن عمير، يقال: إنه
أسلم. وقال ابن الكلبي وغيره: إنه قتل يوم أحد كافرا.
وعن ابن عباس، قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم فداء أهل
الجاهلية يوم بدر أربعمائة.
أخرجه أبو داود من حديث شعبة، عن أبي العنبس، عن أبي
الشعثاء عنه.
وقال أسباط، عن إسماعيل السدي: كان فداء أهل بدر: العباس،
وعقيل ابن أخيه، ونوفل، كل رجل أربعمائة دينار.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن
معبد، عن بعض أهله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم بدر:
"إني قد عرفت أن ناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها،
لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا منهم فلا يقتله،
ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس
فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرها". فقال أبو حذيفة بن
عتبة: أنقتل آباءنا وإخواننا ونترك العباس؟ والله لئن
لقيته لألحمنه بالسيف. فبلغت رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لعمر بن الخطاب: "يا
أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف"؟. فقال عمر: يا
رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فوالله لقد نافق.
فكان أبو حذيفة بعد يقول: والله ما آمن من تلك الكلمة التي
قلت، ولا أزال منها خائفا، إلا أن يكفرها الله عني بشهادة.
فاستشهد يوم اليمامة.
قال ابن إسحاق: إنما نَهَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ قتل أبي البختري لأنه كان أكف
القوم عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وهو بمكة.
وكان العباس أكثر الأسرى فداء لكونه موسرا، فافتدى نفسه
بمائة أوقية ذهب.
وقال ابن شهاب: حدثني أنس أن رجالا من الأنصار استأذنوا
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالُوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا فداءه. فقال: "لا
والله لا تذرن درهما". أخرجه البخاري.
وقال إِسْرَائِيْلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قالوا: يا رسول الله، بعدما فَرَغَ مِنْ
بَدْرٍ، عَلَيْكَ بِالْعِيْرِ لَيْسَ دُوْنَهَا شَيْءٌ.
فَقَالَ العَبَّاسُ وَهُوَ فِي وَثَاقِهِ: لاَ يصلح. قال:
"ولِمَ"؟. قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك
ما وعدك.
وقد ذكر إرسال زينب بِنْتِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقلادتها في فداء أبي العاص زوجها، رضي
الله عنهما.
(1/374)
وقال سَعِيْدُ بنُ أَبِي مَرْيَمَ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ أيوب، قال: حدثنا ابن الهاد، قال:
حدثني عمر بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ،
عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة خرجت
ابنته زينب من مكة مع كنانة -أو ابن كنانة- فخرجوا في
أثرها فأدركها هبار بن الأسود، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه
حتى صرعها، وألقت ما في بطنها وأهريقت دما. فتحملت فاشتجر
فيها بنو هاشم وبنو أمية. فقالت بنو أمية: نحن أحق بها.
وكانت تحت أبي العاص، فكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة,
وكانت تقول لها هند: ها من سبب أبيك.
قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة:
"ألا تنطلق فتأتي بزينب"! فقال: بلى يا رسول الله قال:
"فخذ خاتمي فأعطها إياه". فانطلق زيد, فلم يزل يتلطف حتى
لقي راعيا فقال له: لمن ترعى؟ قال: لأبي العاص قال: فلمن
هذه الغنم؟ قال: لزينب بنت محمد فسار معه شيئا ثم قال له:
هل لك أن أعطيك شيئا تعطيها إياه، ولا تذكره لأحد؟ قال:
نعم فأعطاه الخاتم وانطلق الراعي حتى داخل فأدخل غنمه
وأعطاها الخاتم، فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل
قالت: فأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا. فسكتت، حتى إذا
كان الليل خرجت إليه فقال لها: اركبي بين يدي على بعيره.
فقالت: لا، ولكن اركب أنت بين يدي. وركبت وراءه حتى أتت
المدينة.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي أفضل بناتي،
أصيبت فيَّ".
قال: فبلغ ذلك علي بن الحسين، فانطلق إلى عروة فقال: ما
حديث بلغني عنك أنك تحدثه تنتقص به فاطمة؟ فقال عروة:
والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أتنقص
فاطمة حقا هو لها، وأما بعد فلك أن لا أحدثه أبدا.
أسماء من شهد بدرا:
جمعها الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد في جزء كبير.
فذكر من أجمع عليه ومن اختلف فيه من البدريين، ورتبهم على
حروف المعجم. فبلغ عددهم ثلاثمائة وبضعة وثلاثين رجلا.
وإنما وقعت هذه الزيادة في عددهم من جهة الاختلاف في
بعضهم.
وقد جاء في فضلهم حديث سَعْدُ بنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي
عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي، عن علي، قَالَ: بَعَثَنِي
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا
مرث الغنوي، والزبير، والمقداد، وكلنا فارس، فقال:
"انطلقوا حتى تأتو روضة خاخ". وهو موضع بين مكة والمدينة
فذكرت الحديث، ومكاتبة حاطب بن أبي بلتعة قريشا, قال عمر:
دعني أضرب عنقه فقد خان الله ورسوله. فقال:
(1/375)
"أليس هو من أهل بدر؟ وما يدريك لعل الله
اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا
شئتم، فقد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم". فدمعت عينا عمر
وقال: الله ورسوله أعلم. متفق عليه1.
وقال اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ،
أَنَّ عبدا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكوه فقال: يا رسول
الله ليدخلن حاطب النار فقال: "كذبت لا يدخلها فإنه شهد
بدرا والحديبية". أخرجه مسلم2.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن معاذ بن رفاعة بن رافع
الزرقي -وكان أبوه بدريا- أنه كان يقول لابنه: ما أحب أني
شهدت بدرا ولم أشهد العقبة قال: سأل جبريل النبي صلى الله
عليه وسلم: كيف أهل بدر فيكم؟ قال: "خيارنا". قال: وكذلك
من شهد بدرا من الملائكة هم خيار الملائكة. أخرجه
البخاري3.
ذكر طائفة من أعيان البدريين:
أبو بكر, وعمر, وعلي, واحتبس عنها عثمان يمرض زوجته رقية
بنت النبي صلى الله عليه وسلم فتوفيت في العشر الأخير من
رمضان يوم قدوم المسلمين المدينة من بدر، وضرب له النبي
صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.
ومن البدريين: سعد بن أبي وقاص وأما سعيد بن زيد، وطلحة بن
عبيد الله فكانا بالشام فقدما بعد بدر وأسهم لهما النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الزُّبَيْر بن العَوَّامِ، أبو عبيدة بن الجراح، عبد
الرحمن بن عوف، حمزة بن عبد المطلب،
__________
1 صحيح: أخرجه الحميدي "49". وأحمد "1/ 79"، والبخاري
"3007" و"4274" و"4890"، ومسلم "2494"، وأبو داود "2650"،
والترمذي "3305"، وأبو يعلى "394" و"398"، والبيهقي في
"السنن" "9/ 146"، وفي "دلائل النبوة" "5/ 17"، والبغوي في
"معالم التنزيل" "4/ 328" من طرق عن سفيان، عن عمرو، عن
الحسن بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ أَبِي رافع،
عن علي، به.
قلت: إسناده صحيح، عمرو، هو ابن دينار. والحسن بن محمد، هو
ابن علي بن أبي طالب.
وروضة خاخ: موضع قرب حمراء الأسد من المدينة.
2 صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة "12/ 155"، وأحمد "3/ 349"،
ومسلم "2195"، والترمذي "3864"، والنسائي في "فضائل
الصحابة" "191"، والحاكم "3/ 301"، والطبراني في "الكبير"
"3064" من طرق عن الليث، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3992" و"3993" من طريق يحيى بن
سعيد، به.
(1/376)
زيد بن حارثة، عبيدة بن الحارث بن المطلب،
وأخواه: الطفيل، والحصين، وابن عمه: مِسْطَحُ بنُ
أُثَاثَةَ بنِ عَبَّادِ بنِ المُطَّلِبِ، وأربعتهم لم
يعقبوا، مصعب بن عمير العبدري، المقداد بن الأسود، عبد
الله بن مسعود، صهيب بن سنان، أبو سلمة بن عبد الأسد، عمار
بن ياسر، زيد بن الخطاب أخو عمر.
ومن أعيان الأنصار، من الأوس: سعد بن معاذ.
ومن بني عبد الأشهل: عباد بن بشر، محمد بن مسلمة أبو
الهيثم بن التيهان.
ومن بني ظفر: قتادة بن النعمان.
ومن بني عمرو بن عوف: مبشر بن عبد المنذر، وأخوه: رفاعة.
ولم يحضرها أخوهما أبو لبابة، لأن النبي صلى الله عليه
وسلم رده فاستعمله على المدينة، وضرب له بسهمه وأجره.
ومن بني النجار:
أبو أيوب خالد بن زيد، عوف، ومعوذ، ومعاذ, بنو الحارث بن
رفاعة بن الحَارِثِ بنِ سَوَادِ بنِ مَالِكِ بنِ غَنْمِ بن
عوف، وهم بنو عفراء، أبي بن كعب، أبو طلحة زيد بن سهل،
بلال مولى أبي بكر، عبادة بن الصامت، معاذ بن جبل الخزرجي،
عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، عتبان بن مالك الخزرجي، عكاشة
بن محصن، كعب بن عمرو أبو اليسر السلمي، معاذ بن عمرو بن
الجموح حشرنا الله في زمرتهم وقد ذكرنا من استشهد منهم.
وقتل من المشركين:
حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، وعبيد بن سعيد بن العاص،
وأخوه: العاص، وعتبة، وشيبة، ابنا ربيعة، وولد عتبة:
الوليد، وعقبة بن أبي معيط، قتل صبرا، والحارث بن عامر
النوفلي، وابن عمه طعيمة بن عدي، وزمعة بن الأسود، وابنه:
الحارث, وأخوه: عقيل، وأبو البختري بن هشام بن الحارث بن
أسد -واسمه العاص- ونوفل بن خويلد أَخُو خَدِيْجَةَ،
وَالنَّضْرُ بنُ الحَارِثِ, قُتِلَ صَبْراً بعد يومين،
وعمير بن عثمان التيمي عم طلحة بن عبيد الله، وأبو جهل،
وأخوه: العاص بن هشام، ومسعود بن أبي أمية المَخْزُوْمِيُّ
أَخُو أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَبُو قَيْسٍ أَخُو خالد بن
الوليد، والسائب بن أبي السائب المخزوم، وقيل: لم يقتل، بل
أسلم بعد ذلك, وقيس بن الفاكه بن المغيرة، ومنبه ونبيه
ابْنَا الحَجَّاجِ بنِ عَامِرٍ السَّهْمِيِّ، وَوَلَدَا
مُنَبِّهٍ: الحارث والعاص، وأمية بن خلف الجمحي، وابنه:
علي.
(1/377)
وذكر ابن إسحاق وغيره سائر المقتولين، وكذا
سمى الذين أسروا. تركتهم خوفا من التطويل.
وفي رمضان: فرض الله صوم رمضان, ونسخ فرضية يوم عاشوراء.
وفي آخره: فرضت الفطرة.
وفي شوال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة, وهي بنت
تسع سنين.
وفي صفر: توفي أبو جبير المطعم بن عدي بن نوفل -ونوفل هو
أخو هاشم بن عبد مناف بن قصي- توفي مشركا عن سن عالية،
وكان من عقلاء قريش وأشرافهم. وهو الَّذِي قَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كَانَ
المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيّاً وَكلَّمَنِي في هؤلاء النتن
لأجبته". وكانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد، لأنه
قام في نقض الصحيفة.
وفيها توفي أبو السائب عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- ابن
حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحي، بعد بدر بيسير. وقد
شهدها هو وأخواه: قدامة، وعبد الله.
وعثمان هذا أحد السابقين، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، وهاجر
إلى الحبشة الهجرة الأولى، ولما قدم أجاره الوليد بن
المغيرة أياما. ثم رد على الوليد جواره. وكان صواما قواما
قانتا لله.
وفيها: توفي أبو سلمة "ت ق" عبد الله بن عبد الأسد بن
هِلاَلِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخْزُوْمٍ -رضي
الله عنه- مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر.
وَهُوَ ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم وأخوه من الرضاعة، وأمه برة بنت عبد المطلب. من
السابقين الأولين, شهد بدرا، وتزوجت أم سلمة بعده بالنبي
صلى الله عليه وسلم، وروت عنه القول عند المصيبة، وقيل:
توفي سنة ثلاث بعد أحد أو قبلها.
وفيها: ولد عبد الله بن الزبير، بالمدينة، والمسور بن
مخرمة، ومروان بن الحكم: بمكة.
قصة النجاشي: من السيرة
ثم إن قريشا قالوا: إن ثأرنا بأرض الحبشة، فانتدب إليها
عمرو بن العاص، وابن أبي ربيعة.
قال الزهري: بلغني أن مخرجهما كان بعد وقعة بدر.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مخرجهما، بعث عمرو بن
أمية الضمري بكتابه إلى النجاشي.
وقال سعيد بن المسيب وغيره: فبعث الكفار مع عَمْرَو بنَ
العَاصِ، وَعَبْدَ اللهِ بنَ أَبِي
(1/378)
ربيعة للنجاشي، ولعظماء الحبشة هدايا فلما
قدما على النجاشي قبل الهدايا، وأجلس عمرو بن العاص على
سريره. فكلم النجاشي فقال: إن بأرضكم رجالا منا ليسوا على
دينك ولا على ديننا، فادفعهم إلينا. فقال عظماء الحبشة
للنجاشي: صدق، فادفعهم إليه فقال: حتى أكلمهم.
وقال الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عن أم سلمة، قالت: نزلنا الحبشة، فجاورنا
بِهَا خَيْرَ جَارٍ، النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى
دِيْنِنَا وعبدنا الله -عز وجل- لاَ نُؤْذَى وَلاَ
نَسْمَعُ شَيْئاً نَكْرُهُهُ. فَلَمَّا بلغ ذلك قريش
ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي مع رجلين بما يستطرف
من مَكَّةَ. وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيْهِ
مِنْهَا: الأَدَمُ فَجَمَعُوا لَهُ أَدَماً كَثِيْراً
وَلَمْ يَتْرُكُوا بطريقا عنده إلا أهدوا له. وبعثوا عبد
الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص وقالوا: ادفعا إلى كل
بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فقدما، وقالا لكل بطريق:
إِنَّهُ قَدْ ضَوَى1 إِلَى بَلَدِ المَلِكِ مِنَّا غلمان
سفهاء، خالفوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم. وقد بعثنا
أشرافنا إلى الملك ليردهم، فإذا كلمناه فأشيروا عليه أن
يسلمهم إلينا. فقالوا: نعم.
ثم قربا هداياهما إلى النجاشي فقبلها، فكلماه فقالت
بطارقته: صدقا أيها الملك، قَوْمَهُم أَعْلَى بِهِم
عَيْناً، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عليهم, فغضب النجاشي،
ثم قال: لاها الله أبدا، لا أرسلهم إليهم. قوم جاوروني
ونزلوا بلادي، واختاروني على سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما
يقولون.
ثم أرسل إِلَى أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا جاء رسوله اجتمعوا، وقال
بعضهم لبعض: ما تقولون إِذَا جِئْتُمُوْهُ؟ قَالُوا:
نَقُوْلُ وَاللهِ مَا عَلِمْنَا الله، وأمرنا به نبينا،
كائن في ذلك ما كان, فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته
ونشروا مصاحفهم حوله سألهم: مَا هَذَا الدِّيْنُ الَّذِي
فَارَقْتُمْ فِيْهِ قَوْمَكُم، ولم تدخلوا به فِي دِيْنِي
وَلاَ فِي دِيْنِ أَحَدٍ مِنْ الملل.
قالت: فكلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك: كُنَّا
قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ
وَنَأْكُلُ الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء إلى
الجار ويأكل القوي منا الضعيف كنا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى
بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُوْلاً منا، نعرف نسبه وصدقه
وأمانته وعفافه، فدعا إلى الله لنعبده وحده، ونخلع ما كنا
نعبد نحن وآباؤنا مِنَ الحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ،
وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحَدِيْثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ،
وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الجِوَارِ، وَالكَفِّ عَنِ
المَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الفَوَاحِشِ،
وَقَوْلِ الزُّوْرِ، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات،
وأمرنا أن نعبد الله
__________
1 ضوى: أوى ولجأ.
(1/379)
ولا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَأَمَرَنَا
بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وعد أمور الإسلام.
قال: فصدقناه واتبعناه، فلما قهرونا وظلمونا وَحَالُوا
بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِيْنِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ،
وآثرناك على من سواك فرغبنا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا
أَنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ.
قال: فهل معك شيء مما جاء به عن الله؟ قال جعفر: نعم فقرأ:
{كهيعص} .
قالت: فبكى النجاشي وأساقفته حتى أخضلوا لحاهم، حين سمعوا
القرآن.
فقال النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ
مُوْسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. انْطَلِقَا,
فَوَاللهِ لاَ أسلمهم إليكما أبدا.
قالت: فلما خرجنا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله
لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم. فقال له ابن أَبِي
رَبِيْعَةَ؛ وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِيْنَا: لاَ
تَفْعَلْ، فَإِنَّ لَهُم أَرْحَاماً، وَإِنْ كَانُوا قَدْ
خالفونا. قال: فوالله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى عبد.
قالت: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا المَلِكُ،
إِنَّهُم يقولون في عيسى قولا عظيما. فأرسل إلينا ليسألنا.
قالت: ولم ينزل بنا مثلها.
فقال: ما تقولون في عيسى؟
فقال جَعْفَرٌ: نَقُوْلُ فِيْهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ
نَبِيُّنَا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ وَرُوْحُهُ
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مريم العذراء البتول.
فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، وأخذ منها عودا، وقال: ما
عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا المقدار.
قال: فتناخرت بطارقته1 حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم
والله ثم قال لجعفر وأصحابه: اذهوا آمنين. ما أحب أن لي
دبر ذهب، وأني آذيت واحدا منكم -والدبر بلسان الحبشة:
الجبل- ردوا عليهما هديتهما، فلا حاجة لنا فيها، فوالله ما
أخذ الله فيَّ الرشوة فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيْهِ، وَمَا
أَطَاعَ النَّاسُ فيَّ فأطيعهم فيه. فخرجا من عنده مقبوحين
مردودا عليهما ما جاءا به.
قالت: فوالله إنا لعلى ذلك، إذ نزل به رجل من الحبشة
ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا
__________
1 تناخرت بطارقته: أي تكلمت وكأنه كلام مع غضب ونفور.
(1/380)
حزنا قط أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا
أن يظهر عليه من لا يعرف حقنا. فسار إليه النَّجَاشِيُّ،
وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيْلِ.
فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم: من
يخرج حتى يحضر الوقعة ويخبرنا؟ فقال الزبير بن العوام: أنا
أخرج. وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ القَوْمِ سِنّاً. فَنَفَخُوا
لَهُ قربة فجعلها في صدره, وسبح عليها إلى الناحية التي
فيها الوقعة، ودعونا الله للنجاشي، فوالله إنا لعلى ذلك،
متوقعون لما هو كائن، إذ طلع علينا الزبير يسعى ويلوح
بثوبه: ألا أبشروا, فقد ظهر النجاشي، وأهلك الله عدوه
فوالله ما علمنا فرحة مثلها قط.
ورجع النجاشي سالما، وَاسْتَوْسَقَ لَهُ أَمْرُ الحَبَشَةِ
فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا
عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بمكة1.
أخرجه أبو داود من حديث ابن إسحاق عن الزهري.
وهؤلاء قدموا مكة، ثم هاجروا إلى المدينة، وبقي جعفر
وطائفة بالحبشة إلى عام خيبر.
وقد قيل إن إرسال قريش إلى النجاشي كان مرتين، وأن المرة
الثانية كان مع عمرو: عمارة بن الوليد المخزومي أخو خالد
ذكر ذلك ابن إسحاق أيضا وذكر ما دار لعمرو بن العاص مع
عمارة بن الوليد من رميه إياه في البحر، وسعي عمرو به إلى
النجاشي في وصوله إلى بعض حرمه أو خدمه، وأنه ظهر ذلك في
ظهور طيب الملك عليه، وأن الملك دعا بسحرة فسحروه ونفخوا
في إحليله. فتبرر ولزم البرية، وهام، حتى وصل إلى موضع رام
أهله أخذه فيه، فلما قربوا منه فاضت نفسه فمات.
وقال ابن إسحاق، قال الزهري: حدثت عروة بن الزبير حديث أبي
بكر عن أم سلمة، فقال: هل تدري ما قوله: مَا أَخَذَ اللهُ
مِنِّي الرِّشْوَةَ حِيْنَ رَدَّ عليَّ مُلْكِي فَآخُذَ
الرِّشْوَةَ فِيْهِ, وَمَا أَطَاعَ الناس فيَّ فأطيعهم
فيه؟ قلت: لا. قال: فإن عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي أَنَّ
أَبَاهُ كَانَ مَلِكَ قَوْمِهِ، لم يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
إِلاَّ النَّجَاشِيُّ. وَكَانَ لِلنَّجَاشِيِّ عَمٌّ، لَهُ
مِنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً، وكانوا أهل بيت
__________
1 حسن: أخرجه أحمد "1/ 201-203"، وابن هشام في "السيرة"
"1/ 234-237" "ط. دار الحديث"، والبيهقي في "دلائل النبوة"
"2/ 301-304"، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" "194" من طريق
محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن
شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ
الحَارِثِ بنِ هشام المخزومي، به.
قلت: إسناده حسن، رجاله ثقات رجال البخاري ومسلم خلا محمد
بن إسحاق بن يسار المطلبي، فإنه صدوق يدلس، وقد صرح
بالتحديث فأمنا شر تدليسه.
(1/381)
مملكة الحبشة. فقالت الحبشة: لَوْ أَنَّا
قَتَلْنَا أَبَا النَّجَاشِيِّ وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ
لتوارث بنوه ملكه بعده، ولبقيت الحبشة دهرا. قالت: فقتلوه
وملكوا أخاه. فنشأ النجاشي مع عمه وكان لبيبا حازما، فغلب
على أمر عمه. فلما رأت الحبشة ذلك قالت: إنا نتخوف أن
يملكه بعده، ولئن ملك ليقتلنا بأبيه فشموا إلى عمه فقالوا:
إِمَّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الفَتَى، وَإِمَّا أَنْ تخرجه
من بين أظهرنا فقال: ويلكم! قتلت أباه بالأمس، وأقتله
اليوم؟ بل أخرجه قال: فخرجوا به فباعوه من تاجر بستمائة
درهم فانطلق به في سفينة فلما كان العشي هاجت سحابة من
سحائب الخَرِيْفِ فَخَرَجَ عَمُّهُ يَسْتَمْطِرُ تَحْتَهَا
فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فقتلته. ففزعت الحبشة إلى ولده
فإذا هو محمق1 لَيْسَ فِي وَلَدِهِ خَيْرٌ فَمَرَجَ عَلَى
الحَبَشَةِ أمرهم وضاق عليهم ما هم فيه. فقال بعضهم لبعض:
تعلموا، وَاللهِ أَنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لاَ يُقِيْمُ
أَمْرَكُمْ غيره للذي بعتم قال: فخرجوا في طلبه وطلب الذي
باعوه منه، حتى أدركوه فأخذوه منه. ثم جاءوا به فعقدوا
عليه التاج وأجلسوه على سرير الملك فجاء التَّاجِرُ
فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تُعْطُوْنِي مَالِي وَإِمَّا أَنْ
أُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: لاَ نُعْطِيْكَ شيئا
قال: إذن والله أكلمه قَالُوا: فَدُوْنَكَ. فَجَاءهُ
فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا المَلِكُ،
ابْتَعْتُ غُلاَماً مِنْ قَوْمٍ بِالسُّوْقِ بستمائة درهم
حتى إذا سرت به أدركوني فأخذوه ومنعوني دراهمي فقال
النجاشي: لتعطنه غلامه أو دراهمه. قَالُوا: بَلْ
نُعْطِيْهِ دَرَاهِمَهُ.
قَالَتْ: فَلِذَلِكَ يَقُوْلُ: ما أخذ الله مني رشوة
حِيْنَ رَدَّ عليَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيْهِ.
وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا خُبِرَ مِنْ صَلاَبَتِهِ في
دينه وعدله.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة،
قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال على قبره
نور.
قال: وَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيْهِ،
قَالَ: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فَارَقْتَ
دِيْنَنَا، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَ إِلَى
جَعْفَرٍ وأصحابه فهيأ لهم سفنا, وقال: اركبوا فيها،
وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم,
وَإِنْ ظَفِرْتُ فَاثْبُتُوا. ثُمَّ عَمَدَ إِلَى كِتَابٍ
فكتب: هُوَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَأَنَّ
مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَيَشْهَدُ أَنَّ
عِيْسَى عبده ورسوله وروحه وكلمته.
ثُمَّ جَعَلَهُ فِي قُبَائِهِ وَخَرَجَ إِلَى الحَبَشَةِ،
وَصَفُّوا لَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الحَبَشَةِ،
أَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ بِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ:
فَكَيْفَ رَأَيْتُمْ سِيْرَتِي فِيْكُم؟ قَالُوا: خَيْرَ
سِيْرَةٍ. قَالَ: فما
__________
1 محمق: أي بالغ الحماقة. وحقيقة الحمق: وصنع الشيء في غير
موضعه مع العلم بقبحه.
(1/382)
بَالُكُم؟ قَالُوا: فَارَقْتَ دِيْنَنَا
وَزَعَمْتَ أَنَّ عِيْسَى عبد. قال: فما تقولون أنتم؟
قالوا: هو ابن الله فوضع يده على صدره، على قبائه، وقال:
هو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئا. وإنما يعني
عَلَى مَا كَتَبَ. فَرَضُوا وَانْصَرَفُوا.
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَمَّا مَاتَ صلى عليه واستغفر له -رضي الله
عنه- وإنما ذكرنا بعد بدر استطرادا، والله أعلم.
سرية عمير بن عدي الخطمي:
ذكر الواقدي أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بعثه لخمس بقين من رمضان, إلى عصماء بنت مروان،
من بني أمية بن زيد, وكانت تعيب الإسلام، وتحرض على النبي
صلى الله عليه وسلم، وتقول الشعر، فجاءها عمير بالليل
فقتلها غيلة.
غزوة بني سليم:
قال ابن إسحاق: لم يقم رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُنْصَرَفَهُ عن بدر بالمدينة، إلا
سبعة أيام. ثم خرج بنفسه يريد بني سليم, واستخلف على
المدينة سباع عرفطة الغفاري, وقيل: ابن أم مكتوم. فبلغ ماء
يقال له: الكدر، فأقام عليه ثلاثا, ثم انصرف, ولم يلق
أحدا.
سرية سالم بن عمير لقتل أبي عفك:
وذكر الواقدي أن أبا عفك اليهودي، كان قد بلغ مائة وعشرين
سنة، وهو من بني عمرو بن عوف، كان يؤذي النبي صلى الله
عليه وسلم، ويقول الشعر، ويحرض عليه. فانتدب له سالم بن
عمير، فقتله غيلة، في شوال منها.
(1/383)
غزوة السويق: في ذي
الحجة
قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: كان أبو سفيان بن حرب، حين
بلغه وقعة بدر، نذر أن لا يمس رأسه دهن ولا غسل، ولا يقرب
أهله، حتى يغزو محمدا ويحرق في طوائف المدينة فخرج من مكة
سرا خائفا، في ثلاثين فارسا, ليحل يمينه. حتى نزل بجبل من
جبال المدينة يقال له: نبت فبعث رجلا أو رجلين من أصحابه،
وأمرهما أن يحرقا أدنى نخل يأتيانه من نخل المدينة فوجدا
صورا من صيران نخل العريض. فأحرقا فيها وانطلقا، وانطلق
أبو سفيان مسرعا.
وَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، حَتَّى بلغ قرقرة الكدر ففاته أبو سفيان، فرجع.
وذكر مثل هذا ابْنُ لَهِيْعَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ،
عَنْ عُرْوَةَ، وقال: وركب المسلمون في آثارهم، فأعجزوهم
وتركوا أزوادهم، فسميت غزوة أبي سفيان: غزوة السويق.
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، ويزيد بن
رومان، وحدثني من لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك،
قالوا:
لما رجع أبو سفيان إلى مكة، ورجع فل قريش من يوم بدر، نذر
أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا. فخرج في
مائتي راكب، إلى أن نزل بحبل يقال له: نبت، على نحو بريد
من المدينة. ثم خرج من الليل حتى أتى حيي بن أخطب، فضرب
عليه بابه، فلم يفتح له وخافه. فانصرف إلى سلام بن مشكم،
وكان سيد بني النضير، فأذن له وقراه، وأبطن له من خير
الناس. ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجاله،
فأتوا ناحية العريض، فوجدوا رجلين من المسلمين، فقتلوهما
وردوا ونذر بهم الناس.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم، حتى بلغ
قرقرة الكدر، ثم انصرف، وقد فاته أبو سفيان، وأصحابه, قد
رموا زادا لهم في جرب, وسويقا كثيرا، يتخففون منها للنجاء.
فقال المسلمون حين رجع بهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رسول الله! أنطمع أن تكون لنا
غزوة؟ فقال: نعم قال: وذلك بعد بدر بشهرين.
وفي هذه السنة: تزوج عثمان بأم كلثوم، رضي الله عنهما.
وفيها تزوج علي -رضي الله عنه- بفاطمة الزهراء، رضي الله
عنها.
قال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي عبد الله بن أبي نجيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ
عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: خطبت فاطمة إِلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت
لي مولاة لي: علمت أن فاطمة خطبت إِلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: لا. قالت: فما
يمنعك أن تأته فيزوجك؟ فقلت: وعندي شيء أتزوج به؟ قالت:
إنك إن جئته زوجك. قال: فوالله ما زالت ترجيني، حتى
دَخَلْتُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جلالة
وهيبة, فأفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم. فقال: "ما
حاجتك، ألك حاجة"؟. فسكت. ثم قال: "لعلك جئت تخطب فاطمة"؟.
قلت: نعم. قال: "وهل عندك من شيء تستحلها به"؟. فقلت: لا
والله فقال: "ما فعلت درع سلحتكها"؟. فوالذي نفس علي بيده
إنها لحطيمة ما ثمنها أربعة دراهم, فقلت: عندي. فقال: "قد
زوجتكها, فابعث إليَّ بها". فإن كانت لصداق فاطمة، رضي
الله عنها.
(1/384)
وقال أيوب، عَنْ عِكْرِمَةَ, عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا تزوج علي فاطمة -رضي الله عنهما-
قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أعطها شيئا". قال: ما عندي شيء. قال: "أين درعك
الحطمية"؟. أخرجه أبو داود1.
وقال عطاء بن السائب عَنْ أَبِيْهِ, عَنْ عَلِيّ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ- قال: جهز رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةُ في خميل وقربة, ووسادة أدم
حشوها إذخر2.
وفيها: توفي سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة الخزرجي
الساعدي، والد سهل بن سعد.
وكان تجهز إلى بدر فمات قبلها في رمضان. فيقال: أن النبي
صلى الله عليه وسلم ضرب له بسهمه، ورده على ورثته.
وفيها: بعد بدر، توفي خنيس بن حذاة السهمي، أحد المهاجرين،
شهد بدرا. وتأيمت منه حفصة بنت عمر بن الخطاب.
وفي شوال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة -رضي الله
عنها- وعمرها تسع سنين.
__________
1 صحيح: أخرجه أبو داود "2125" و"2127"، والنسائي "6/
130"، وأبو يعلى "2439"، والطبراني "12000", والبيهقي في
"الدلائل" "3/ 161" من طريق عكرمة, عن ابن عباس, به.
وأخرجه النسائي "6/ 129-130"، والبيهقي "7/ 252" من طريق
هشام بن عبد الملك، عن حماد بن سلمة, عن أيوب, عن عكرمة,
عن ابن عباس, عن علي, فجعله من "مسند علي".
وأخرجه أحمد "1/ 80"، وابن سعد "8/ 20"، والبيهقي "7/ 234"
من طريق سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيْحٍ، عن أبيه، عن رجل قد سماه، سمع عليا ... فذكره.
2 حسن: أخرجه أحمد "1/ 84 و104 و106", وفي "فضائل الصحابة"
"1194" والنسائي "6/ 135"، والحاكم "2/ 185"، والبيهقي في
"دلائل النبوة" "3/ 161" من طريق عطاء بن السائب، به.
قلت: إسناده حسن، عطاء بن السائب, صدوق، وقد روى عنه زائدة
بن قدامة -ممن روى عنه- قبل الاختلاط.
(1/385)
|