سير أعلام
النبلاء، ط الحديث ثم دخلت سنة ثلاث من
الهجرة:
غزوة ذي أمر:
في المحرم، غزا النبي صلى الله عليه وسلم نجدا، يريد
غطفان، واستعمل على المدينة عثمان، فأقام بنجد صفرا كله،
ورجع من غير حرب. قاله ابن إسحاق.
وأما الواقدي فقال: كانت في ربيع الأول، وأن غيبته أحد عشر
يوما. ثم روى عن أشياخه، عن التابعين: عَبْدُ اللهِ بنُ
أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، وغيره، قالوا: بلغ النبي صلى
الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان، من بني ثعلبة، بذي أمر،
قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المسلمين، والله
أعلم.
غزوة بحران:
قال ابن إسحاق: أقام رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالمَدِيْنَةِ، ربيع الأول ثم غزا
يريد قريشا.
قال عبد الملك بن هشام: فبلغ بحران، معدنا بالحجاز، فأقام
هناك ربيع الآخر كله، وجمادى الأولى.
وبحران من ناحية الفرع ثم رجع ولم يلق كيدا.
وقال الواقدي: غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني سليم
ببحران، لست خلون من جمادى الأولى. وبحران من ناحية الفرع
بينها وبين المدينة ثمانية برد. فغاب عشر ليال. وكان بلغه
أن بها جمعا من بني سليم، فخرج في ثلاثمائة، واستخلف ابن
أم مكتوم. الفرع: بضم الفاء وسكون الراء بين مكة والمدينة.
(1/386)
إنك ترى أنا كقومك؟ لا يغرنك أنك لقيت قوما
لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة إنا والله لو حاربتنا
لتعلمن أنا نحن الرجال.
عن ابن عباس، قال: ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيهم: {قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى
جَهَنَّمَ} [آل عمران: 12] .
وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن بني قينقاع كانوا أول
يهود نقضوا وحاربوا فيما بين بدر وأحد.
قال: وعن أبي عون، قال: كان أمر بني قينقاع أن امرأة من
العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوقهم، وجلست إلى صائغ بها،
فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فلم تفعل، فعمد الصائغ إلى
طف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها
فضحكوا، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله،
فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فأغضب المسلمين ووقع الشر.
وحدثني عاصم، قال: فحاصرهم رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نزلوا على حكمه فقام إليه عبد
الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد،
أحسن في مواليَّ. فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "أرسلني". وغضب، "أرسلني، ويحك". قال: والله لا
أرسلك حتى تحسن في مواليَّ: أربعمائة حاسر، وثلاثمائة
دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة،
إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "هم لك".
وحدثني أبي إسحاق، عن عبادة بن الوليد، قال: لما حاربت بنو
قنيقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم ابن
سلول وقام دونهم.
قال: ومشى عبادة بن الصامت إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أحد بني عوف، لهم من
حلفه مثل الذي لابن سلول، فجعلهم إِلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتبرأ إلى الله ورسوله
من حلفهم، وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، فنزلت فيه
وفي ابن سلول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {فَتَرَى
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ
يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} إلى قوله:
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا} [المَائِدَةُ: 51-55] ، وذلك لتولي عبادةُ اللهَ
ورسولهَ.
وذكر الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصرهم خمس
عشرة ليلة، إلى هلال ذي القعدة. وكانوا أول من غدر من
اليهود، وحاربوا حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلوا على
حكمه، وأن له أموالهم. فأمر صلى الله عليه وسلم بهم
فكتفوا، واستعمل على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي، من
بني السلم، فكلم عبد الله بن أبي فيهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وألح عليه فقال: "خذهم". وأمر بهم أن يجلوا من
المدينة، وولي إخراجهم منها عبادة بن الصامت، فلحقوا
بأذرعات، فما كان أقل من بقائهم فيها. وتولى قبض أموالهم
محمد بن مسلمة، ثم خمست، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من
سلاحهم ثلاثة أسياف، ودرعين، وغير ذلك.
(1/387)
غزوة بني النضير:
قال معمر، عن الزهري، عن عروة: كانت
غزوة بني النضير، وهم
طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر وكانت
منازلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نزلوا على
الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا السلاح، فأنزلت:
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:
2] الآيات.
فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء وكان الله
قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل
والسبي.
وقوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} ، فكان جلاؤهم ذلك أول حشر
في الدنيا إلى الشام.
ويرويه عقيل عن الزهري، قوله. وأسنده زيد بن المبارك
الصنعاني، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ ثَوْرٍ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائشة
وذكر عائشة فيه غير محفوظ.
وقال ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوْسَى بنِ عُقْبَةَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابن عمر: أن يهود بني النضير، وقريظة حاربوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى بني النضير، وأقر
قريظة ومن عليهم، حتى حاربوا بعد ذلك. أخرجه البخاري1.
وقال معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عَنْ
رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان يعبد
معه الأوثان من الأوس والخزرج قبل وقعة بدر: إنكم آويتم
صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن
إليكم بجمعنا حتى نقتل مقاتلكم ونستبيح نساءكم. فلما بلغ
ذلك عبد الله بن أبي وأصحابه، اجتمعوا لقتال رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فبلغه ذلك فلقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد
قريش منكم المبالغ، ما
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4028" حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا
عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، به.
(1/388)
كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به
أنفسكم, تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟ فلما سمعوا
ذلك تفرقوا. فبلغ ذلك كفار قريش فكتبوا، بعد بدر، إلى
اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصن وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو
لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء. وهي
الخلاخيل.
فلما بلغ كتابهم للنبي صلى الله عليه وسلم، أجمعت بنو
النضير بالغدر، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون
حبرا, حتى نلتقي بمكان المنصف، فيسمعوا منك، فإن صدقوا
وآمنوا بك آمنا بك. فقص خبرهم.
فلما كان الغد، غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالكتائب فحصرهم، فقال لهم: "إنكم والله لا تأمنون عندي
إلا بعهد تعاهدوني عليه فأبوا أن يعطوه عهدا، فقاتلهم
يومهم ذلك".
ثم غدا على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم
إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم.
وغدا إلى بني النضير بالكتائب، فقاتلهم حتى نزلوا على
الجلاء. فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من
أمتعتهم وأبوابهم وخشبهم فكان نخل بني النضير لرسول الله
صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاه الله إياها، فقال: {وَمَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:
6] ، يقول: بغير قتال. فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم
أكثرها المهاجرين وقسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من
الأنصار كانوا ذوي حاجة. وبقي منها صدقة رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي في أيدي بني
فاطمة، رضي الله عنها.
وذهب موسى بن عقبة، وابن إسحاق إلى أن غزوة بني النضير
كانت بعد أحد، وكذلك قال غيرهما. ورواه ابْنُ لَهِيْعَةَ،
عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ. وهذا حديث موسى
وحديث عُرْوَةَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى بني النضير يستعينهم في عقل
الكلابيين. وكانوا -يزعمون- قد دسوا إلى قريش حين نزلوا
بأحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحضوهم على
القتال ودلوهم على العورة. فلما كلمهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم في عقل الكلابيين, قالوا: اجلس يا أبا القاسم
حتى تطعم وترجع بحاجتك ونقوم فنتشاور فجلس بأصحابه، فلما
خلوا والشيطان معهم، ائتمروا بقتل رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: لن تجدوه أقرب منه
الآن، فاستريحوا منه تأمنوا. فقال رجل: إن شئتم ظهرت فوق
البيت الذي هو تحته فدليت عليه حجرا فقتلته. فأوحى الله
إليه فأخبره بشأنهم وعصمه، فقام كأنه يقضي حاجة. وانتظره
أعداء الله، فراث عليه. فأقبل رجل من المدينة فسألوه عنه
فقال: لقيته قد دخل أزقة المدينة. فقالوا لأصحابه: عجل أبو
(1/389)
القاسم أن نقيم أمرنا في حاجته. ثم قام
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا ونزلت: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] الآية.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلائهم، وأن يسيروا
حيث شاءوا. وكان النفاق قد كثر بالمدينة. فقالوا: أين
تخرجنا؟ قال: "أخرجكم إلى الحشر". فلما سمع المنافقون ما
يراد بأوليائهم أرسلوا إليهم: إنا معكم محيانا ومماتنا، إن
قوتلتم فلكم علينا النصر، وإن أخرجتم لم نتخلف عنكم. وسيد
اليهود أبو صفية حيي بن أخطب. فلما وثقوا بأماني المنافقين
عظمت غرتهم ومناهم الشيطان الظهور، فنادوا النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه: إنا، والله، لا نخرج ولئن قاتلتنا
لنقاتلنك.
فمضى النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الله فيهم، وأمر
أصحابه فأخذوا السلاح ثم مضى إليهم، وتحصنت اليهود في
دورهم وحصونهم فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى
أزقتهم وحصونهم كره أن يمكنهم من القتال في دورهم وحصونهم،
وحفظ الله له أمره وعزم له على رشده، فأمر أن يهدم الأدنى
فالأدنى من دورهم، وبالنخل أن تحرق وتقطع، وكف الله أيديهم
وأيدي المنافقين فلم ينصروهم، وألقى في قلوب الفريقين
الرعب ثم جعلت اليهود كلما خلص رسول الله صلى الله عليه
وسلم من هدم ما يلي مدينتهم، ألقى الله في قلوبهم الرعب،
فهدموا الدور التي هم فيها من أدبارها، ولم يستطيعوا أن
يخرجوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يهدمون شيئا
فشيئا. فلما كادت اليهود أن يبلغ آخر دورها، وهم ينتظرون
المنافقين وما كانوا منوهم، فلما يئسوا مما عندهم، سألوا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي
كَانَ عرض عليهم قبل ذلك، فقاضاهم على أن يجليهم، ولهم أن
يحملوا ما استقلت به الإبل إلا السلاح وطاروا كل مطير،
وذهبوا كل مذهب. ولحق بنو أبي الحقيق بخيبر ومعهم آنية
كثيرة من فضة، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم. وعمد حيي
بن أخطب حتى قدم مكة على قريش، فاستغواهم عَلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبين الله
لرسوله حديث أهل النفاق، وما بينهم وبين اليهود، وكانوا قد
عيروا المسلمين حين قطعوا النخل وهدموا. فقالوا: ما ذنب
الشجرة وأنتم تزعمون أنكم مصلحون؟ فأنزل الله {سَبَّحَ
لِلَّهِ} سورة الحشر ثم جعلها نفلا لرسوله، فقسمها فيمن
أراه الله من المهاجرين. وأعطى منها أبا دجانة سماك بن
خرشة، وسهل بن حنيف، الأنصاريين, وأعطى -زعموا- سعدَ بن
معاذ سيفَ ابنِ أبي الحقيق.
وكان إجلاء بني النضير في المحرم سنة ثلاث.
وأقامت بنو قريظة في المدينة في مساكنهم، لم يؤمر فيهم
النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ولا إخراج حتى فضحهم الله
بحيي بن أخطب وبجموع الأحزاب.
(1/390)
هذا لفظ موسى بن عقبة، وحديث عروة بمعناه،
إلى إعطاء سعد السيف.
وقال موسى بن عقبة وغيره، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قطع نخل بني النضير وحرق، ولها يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت هذه الآية: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ
أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا
فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] , متفق عليه1.
وقال عمرو بن دينار، عن الزهري، عن مالك بن أوس، عن عمر،
أن أموال بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله صلى
الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب،
فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ينفق منها على
أهله نفقة سنة, وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في
سبيل الله. أخرجاه2.
سرية زيد بن حارثة إلى القردة:
قال ابن إسحاق: وسرية زيد التي بَعَثَهُ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها، حين أصاب عير
قريش، وفيها أبو سفيان، على القردة، ماء من مياه نجد.
وكان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم التي كانوا يسلكون
إلى الشام حين جرت وقعة بدر، فسلكوا طريق العراق فخرج منهم
تجار فيهم أبو سفيان، واستأجروا رجلا من بني بكر بن وائل
يقال له: فرات بن حيان يدلهم, فَبُعِثَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد بن حارثة فلقيهم
على ذلك الماء، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزهم الرجال،
فقدم بها عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4031" و"4032"، ومسلم "1746" من
طرق عن نافع، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4033" من طريق شعيب، ومسلم "1757"
"49" من طريق مالك كلاهما عن الزهري، به.
(1/391)
غزوة قرقرة الكدر:
قال الواقدي: إنها في المحرم سنة ثلاث وهي ناحية معدن بني
سليم, واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم.
وكان صلى الله عليه وسلم بلغه أن بهذا الموضع جمعا من سليم
وغطفان. فلم يجد في المحال أحدا، ووجد رعاء منهم غلام يقال
له: يسار، فانصرف رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَدْ ظفر بالنعم، فانحدر به وقال محمد بن يونس
الجمال المخرمي -الذي قال فيه ابن عدي: كان عندي ممن يسرق
الحديث. قلت: لكن روى عنه مسلم- حدثنا ابن عيينة، قال:
حدثنا عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قدم حيي بن أخطب،
وكعب بن الأشرف مكة على قريش فحالفوهم على قتال رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لهم:
أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب، فأخبرونا عنا وعن
محمد، قالوا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: نحن ننحر الكوماء1،
ونسقي اللبن على الماء، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ونصل
الأرحام قالوا: فما محمد؟ قالوا: صنبور2 قطع أرحامنا
واتبعه سراق الحجيج بنو غفار قالوا: لا، بل أنتم خير منه
وأهدى سبيلا. فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] الآية.
قال سفيان: كانت غفار سرقة في الجاهلية.
وقال إبراهيم بن جعفر بن محمود بن مسلمة، عَنْ أَبِيْهِ،
عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، قال: ولحق كعب بن الأشرف
بمكة إلى أن قدم المدينة معلنا بمعاداة النبي صلى الله
عليه وسلم وهجائه، فكان أول ما خرج منه قوله:
أذاهب أنت لم تحلل بمنقبة ... وتارك أنت أم الفضل بالحرم
صفراء رادعة لو تعصر انعصرت ... من ذي البوارير والحناء
والكتم
إحدى بني عامر هام الفؤاد بها ... ولو تشاء شفت كعبا من
السقم
. . .3 لم أر شمسا قبل طلع ... حتى تبدت لنا في ليلة الظلم
وقال:
طحنت رحى بدر لمهلك أهلها
الأبيات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوما: "من لكعب بن الأشرف؟
فقد آذانا بالشعر وقوى المشركين علينا". فقال محمد بن
مسلمة: أنا يا رسول الله. قال: "فأنت". فقام فمشى ثم رجع
فقال: إني قائل. فقال: قل فأنت في حل. فخرج محمد، بعد يوم
أو يومين، حتى أتى كعبا وهو في حائط فقال: يا كعب، جئت
لحاجة، الحديث.
__________
1 الكوماء: الناقة المشرفة السنام عاليته.
2 الصنبور: الأبتر، لا عقب له.
3 بياض بالأصل، وكتب على هامشه: "لعله: أقْسمتُ".
(1/392)
وقال ابن عيينة: قال عمرو بن دينار: سمعت
جابرا يَقُوْلُ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله
ورسوله"؟. فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله، أعجب
إليك أن أقتله؟ قال: "نعم". قال: فأذن لي أن أقول شيئا.
قال: قل. فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا
صدقة، وقد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضا
لتملنه. قال: إنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى
أي شيء يصير شأنه, وقد أردنا أن تسلفنا. قال: ارهنوني
نساءكم. قال: نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني
أبناءكم. قال: كيف نرهنك أبناءنا فيقال رهن بوسق أو وسقين؟
قال: فأي شيء؟ قال: نرهنك اللأمة. فواعده أن يأتيه ليلا،
فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاه
من الحصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه
الساعة؟ قال: إنما هو أخي أبو نائلة ومحمد بن مسلمة، إن
الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب. قال محمد: إذا ما جاء
فإني قائم بشَعْرِه فأشمه ثم أشمكم، فإذا رأيتموني أثبتُّ
يدي فدونكم, فنزل إليهم متوشحا، وهو ينفح منه ريح الطيب،
فقال محمد: ما رأيت كاليوم ريحا، أي: أطيب، أتأذن لي أن
أشم رأسك؟ قال: نعم فشمه ثم شم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟
يعني ثانيا. قال: نعم. فلما استمكن منه قال: دونكم. فضربوه
فقتلوه وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. أخرجه
البخاري1.
وقال شعيب بن أبي حمزة، عن الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، عن
أبيه، أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا، وكان يهجو رسول
الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها
أخلاط، منهم المسلمون، ومنهم عبدة الأوثان، ومنهم اليهود،
وهم أهل الحلقة والحصون، وهو حلفاء الأوس والخزرج، فأراد
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ
قدم المدينة استصلاحهم كلهم، وكان الرجل يكون مسلما وأبوه
مشرك أو أخوه، وكان المشركون واليهود حين قَدِمَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة يؤذونه
أشد الأذى، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر والعفول،
فقال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
أَذىً كَثِيرًا} [آل عمران: 186] ، وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ
مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:
109] .
فأمر رسول الله سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوا كعبا،
فبعث إليه سعدٌ محمدَ بن
__________
1 صحيح: أخرج البخاري "4037"، ومسلم "1801" من طريق سفيان
بن عيينة، به.
(1/394)
مسلمة وأبا عبس، والحارث ابن أخي سعد بن
معاذ في خمسة رهط أتوه عشية، وهو في مجلسهم بالعوالي. فلما
رآهم كعب أنكرهم وكاد يذعر منهم، فقال لهم: ما جاء بكم؟
قالوا: جاءت بنا إليك حجة. قال: فليدن إليَّ بعضكم
فليحدثني بها. فدنا إليه بعضهم, فقال: جئناك لنبيعك أدراعا
لنا لنستنفق أثمانها. فقال: والله لئن فعلتم ذلك لقد
جهدتم، قد نزل بكم هذا الرجل. فواعدهم أن يأتوه عشاء حين
يهدأ عنهم الناس. فجاءوا فناداه رجل منهم، فقام ليخرج,
فقالت امرأته: ما طرقوك ساعتهم هذه لشيء تحب. فقال: بل
إنهم قد حدثوني حديثهم. فاعتنقه أبو عبس، وضربه محمد بن
مسلمة بالسيف، وطعنه بعضهم بالسيف في خاصرته, فلما قتلوه
فزعت اليهود ومن كان معهم من المشركين. فغدوا عَلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين
أصبحوا فقالوا: إنه طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا
فقتل، فذكر لهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّذِي كان يقول في أشعاره، ودعاهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابا، فكتب
بينهم صحيفة. وكانت تلك الصحيفة بعده عند علي. أخرجه أبو
داود.
وذكر موسى بن عقبة وغيره أن عباد بن بشر كان معهم، فأصيب
في وجهه بالسيف أو رجله.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ومشى
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم
وقال: "انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم".
وذكر البكائي، عن ابن إسحاق هذه القصة بأطول مما هنا وأحسن
عبارة، وفيه: فاجتمع في قتله محمد، وسلكان بن سلامة بن
وقش، وهو أبو نائلة الأشهلي، وعباد بن بشر، وأبو عبس بن
جبر الحارثي. فقدَّموا إلى ابن الأشرف سلكانَ، فجاءه فتحدث
معه ساعة وتناشدا شعرا، ثم قال: ويحك يابن الأشرف، إني قد
جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني. قال: أفعل. قال: كان
قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمونا
عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدنا.
فقال: أنا ابن الأشرف! أما والله لقد أخبرتك يابن سلامة أن
الأمر سيصير إلى ما أقول. فقال: إني أردت أن تبيعنا طعاما
ونرهنك ونوثق لك، وتحسن في ذلك. فقال: أترهنوني أبناءكم؟
قال: لقد أردت أن تفضحنا، إن معي أصحابا لي على مثل رأيي،
وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من
الحلقة ما فيه وفاء. قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم
خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه
واجتمعوا، وساق القصة.
(1/395)
قال ابن إسحاق: وأطلق رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ اليهود، وقال:
"من ظفرتم به من اليهود فاقتلوه". وحينئذ أسلم حويصة بن
مسعود، وكان قد أسلم قبله أخوه محيصة, فقتل محيصةُ ابنَ
سنينة اليهودي التاجر، فقال حويصة قبل أن يسلم وجعل يضرب
أخاه ويقول: أي عدو الله قتلته؟ أما والله لرب شحم في بطنك
من ماله. فقال: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك
لضربت عنقك. قال: والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب فأسلم
حويصة.
وفي رمضان: وُلِدَ السيد أبو محمد الحسن بن علي، رضي الله
عنهما.
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر.
وفي هذه السنة: تزوج أيضا بزينب بنت خزيمة، من بني عامر بن
صعصعة، وهي أم المساكين، فعاشت عنده شهرين أو ثلاثة،
وتوفيت وقيل: أقامت عنده ثمانية أشهر، فالله أعلم.
(1/396)
غزوة أحد: وكانت في
شوال
قال شيبان، عن قتادة: واقَعَ نبي اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ من العام المقبل بعد بدر
في شوال، يوم السبت لإحدى عشرة ليلة مضت من شوال وكان
أصحابه يومئذ سبعمائة والمشركون ألفين أو ما شاء الله من
ذلك.
وقال ابن إسحاق: للنصف من شوال.
وقال مالك: كان القتال يومئذ في أول النهار.
وقال بُرَيْدِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ،
عَنْ أَبِي مُوْسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رأيت أني قد هززت سيفا فانقطع
صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى
فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح
واجتماع المؤمنين، ورأيت في رؤياي بقرا، والله خير، فإذا
هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به
من الخير وثواب الصدق الذي آتانا يوم بدر". أخرجاه1.
__________
1 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه البخاري "3622" و"4081"
و"7035" و"7041"، ومسلم "2722"، وابن ماجه "3921"،
والدارمي "2/ 129"، والبغوي "3296" من طريق أبي أُسَامَةَ،
عَنْ بُرَيْدٌ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوْسَى،
به.
قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأبو أسامة، هو حماد بن
أسامة.
وبريد: هو ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري.
(1/396)
وقال ابن وهب: أخبرني ابْنُ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ
عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: تنفل رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ ذا
الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد. وذلك
أنه لما جاءه المشركون يوم أحد كان رَأَى رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقيم بالمدينة
فيقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا: تخرج
بنا يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد، ورجوا من الفضيلة أن
يصيبوا ما أصاب أهل بدر فما زالوا برسول الله صلى الله
عليه وسلم حتى لبس أداته، ثم ندموا وقالوا: يا رسول الله،
أقم فالرأي رأيك. فقال لهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن
لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه". قالوا: وكان ما قال
لهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْلَ أن يلبس أداته: "إني رأيت أني في درع حصينة فأولتها
المدينة، وأني مردف كبشا فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أن
سيفي ذا الفقار فل فأولته فلا فيكم، ورأيت بقرا تذبح، فبقر
والله خير، فبقر والله خير" 1.
وقال يونس عن الزهري في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى
أحد، قال: حتى إذا كان بالشوط من الجنانة، انخزل عبد الله
بن أبي بقريب من ثل الجيش ومضى النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه وهم في سبعمائة وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم
مائتا فرس قد جنبوها، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن
الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمسلمون وهم ألف، والمشركون ثلاثة آلاف. فَنَزَلَ
رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدا،
ورجع عنه عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، فسقط في أيدي
الطائفتين, وهمتا أن تفشلا، والطائفتان: بنو سلمة وبنو
حارثة.
__________
1 حسن: أخرجه ابن هشام "3/ 19" "ط. دار الحديث" من طريق
محمد بن مسلم الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر
بن قتادة، وغيرهم مرسلا.
وأخرجه الحاكم "2/ 128-129"، ومن طريقه البيهقي في "السنن"
"7/ 41"، وفي "دلائل النبوة" "3/ 204-205" من طريق عبد
الله بن وهب، عن ابن أبي الزناد به.
قلت: إسناده حسن, ابن أبي الزناد، هو عبد الرحمن بن أَبِي
الزِّنَادِ، عَبْدِ اللهِ بنِ ذَكْوَانَ، المَدَنِيُّ،
مولى قريش، صدوق حسن الحديث وبقية رجال إسناده ثقات.
وأخرجه أوله إلى قوله "يوم أحد": الترمذي في إثر الحديث
"1561"، وابن ماجه "2808"، والطحاوي "3/ 302"، والطبراني
"10733"، والحاكم "3/ 39"، والبيهقي في "السنن" "6/ 304"،
وفي "الدلائل" "3/ 136-137" من طرق عن ابن أبي الزناد به.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وقال الترمذي:
حسن غريب.
وأخرجه أحمد "1/ 271" مختصرا حدثنا سريج، حدثنا ابن أبي
الزناد, به.
(1/397)
وقال ابن عيينة، عن عمرو عن جابر: {إِذْ
هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران:
122] ، بنو سلمة وبنو حارثة، ما أحب أنها لم تنزل لقوله:
{وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} 1 [آل عمران: 122] . متفق عليه.
وقال شعبة، عن عدي بن ثابت، سمع عبد الله بن يزيد يحدث، عن
زيد بن ثابت، قال: لما خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أحد، رجع ناس خرجوا معه
فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة
تقول: نقاتلهم. وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: {فَمَا
لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة تنفي الخبث
كما تنفي النار خبث الفضة2. متفق عليه.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى
يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] ،
قال: ميزهم يوم أحد.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق قال: كان من حديث أحد، كما
حدثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر،
والحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم كل قد حدث بعض الحديث، وقد
اجتمع حديثهم كله فيما سقت من هذا الحديث عن يوم أحد، أن
كفار قريش لما أصيب منهم أصحاب القليب، ورجع فلهم إلى مكة،
ورجع أبو سفيان بن حرب بالعير، مشى عبد الله بن أبي ربيعة،
وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش ممن
أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم، فكلموا أبا سفيان ومن كان
له في تلك العير تجارة, فقالوا: يا معشر قريش! إن محمدا قد
وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا
ندرك منه ثأرا بمن أصاب منا فاجتمعوا لحرب رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ فعل ذلك أبو
سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة
وأهل تهامة.
وكان أبو عزة الجمحي قد من عَلَيْهِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذا عيال وحاجة، فقال:
يا رسول الله! إني فقير ذو عيال وحاجة، فامنن عليَّ. فقال
له صفوان: يا أبا عزة، إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك فاخرج
معنا. فقال: إن محمدا قد منَّ عليَّ فلا أريد أن أظاهر
عليه.
قالوا: بلى, فأعنا بنفسك، فلك الله عليَّ إن رجعت أن
أعينك، وإن أصبت أن أجعل بناتك
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4051" و"4558" من طريق سفيان بن
عيينة, به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4050"، ومسلم "2776" من طريق شعبة،
به.
(1/398)
مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر.
فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة، ويقول:
إيهًا بني عبد مناة الرزام1 ... أنتم حماة وأبوكم حام
لا تعدوني نصركم بعد العام ... لا تسلموني لا يحل إسلام
وخرج مسافع بن عبد مناف الجمحي إلى بني مالك بن كنانة
يدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول شعرا.
ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيا يقال له: وحشي، يقذف
بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ بها، فقال له: اخرج مع
الناس فإن أنت قتلت حمزة بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق.
فخرجت قريش بحدها وحديدها وأحابيشها ومن تابعها، وخرجوا
معهم بالظُعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا. وخرج أبو سفيان
وهو قائد الناس, بهند بنت عتبة، وخرج عكرمة بأم حكيم بنت
الحارث بن هشام, حتى نزلوا بعينين بجبل أحد ببطن السبخة من
قناة على شفير الوادي مقابل المدينة. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث
نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا
قتلناهم فيها وكان يكره الخروج إليهم. فقال رجال ممن فاته
يوم بدر: يا رسول الله! اخرج بنا إليهم لا يرون أنا جبنا
عنهم. فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل
فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ الناس من الصلاة فذكر
خروجه وانخزال ابن أبي بثلث الناس، فاتبعهم عبد الله والد
جابر، يقول: أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم. قالوا:
لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون
قتال. وقالت الأنصار: يا رسول الله، ألا نستعين بحلفائنا
من يهود؟ قال: "لا حاجة لنا فيهم". ومضى حتى نزل الشعب من
أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد
وقال: لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال. وتعبأ للقتال وهو
في سبعمائة، وأمَّر على الرماة عبد الله بن جبير وهم خمسون
رجلا، فقال: "انضحوا عنا الخيل بالنبل، لا يأتونا من
خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من
قبلك". وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين،
ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير. وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف
معهم مائتا فرس قد جنبوها فجعلوا على الميمنة خالدا، وعلى
الميسرة عكرمة.
وقال سلام بن مسكين، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ
المُسَيِّبِ، قَالَ: كانت راية
__________
1 الرزام من الرجال: الصعب المتشدد، وذكر ابن منظور
البيتين في "لسان العرب", ثم قال: ويروى الرزام جمع رازم.
(1/399)
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ أحد مرطا أسود كان لعائشة، وراية الأنصار
يقال لها: العقاب، وعلى ميمنته علي، وعلى ميسرته المنذر بن
عمرو الساعدي، والزبير بن العوام كان على الرجال، ويقال:
المقداد بن الأسواد، وكان حمزة على القلب، واللواء مع مصعب
بن عمير، فقتل، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عليا،
قال: ويقال: كانت له ثلاثة ألوية، لواء إلى مصعب بن عمير
للمهاجرين، ولواء إلى علي، ولواء إلى المنذر.
وقال ثَابِتٍ, عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ سيفا يوم أحد فقال: "من
يأخذ مني هذا السيف بحقه"؟. فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم
يقول: أنا، أنا. فقال: "من يأخذه بحقه"؟. فأحجم القوم،
فقال له أبو دجانة سماك: أنا آخذه بحقه. قال: فأخذه ففلق
به هام المشركين1. أخرجه مسلم.
وقال ابن إسحاق: حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة، أخو
بني ساعدة، فقال: وما حقه؟ قال: "تضرب به في العدو حتى
ينحني". قال: فأنا آخذه يا رسول الله. فأعطاه إياه، وكان
رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكان إذا قاتل علم بعصابة له
حمراء فاعتصب بها على رأسه، ثم جعل يتبختر بين الصفين.
فبلغنا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال حين رآه يبختر: "إنها لمشية يبغضها الله إلا
في مثل هذا الموطن".
وقال عمرو بن عاصم الكلابي: حدثني عبيد الله بن الوازع،
قال: حدثني هشام بن عروة، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ
بنِ العَوَّامِ، قَالَ: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
سيفا يوم أحد فقال: "من يأخذه بحقه"؟. فقمت فقلت: أنا يا
رسول الله! فأعرض عني, ثم قال: "من يأخذ هذا السيف بحقه"؟.
فقام أبو دجانة سماك بن خرشة فقال: أنا يا رسول الله! فما
حقه؟ قال: "أن لا تقتل به مسلما ولا تفر به عن كافر". قال:
فدفعه إليه، وكان إذا أراد القتال أعلم بعصابة، فقلت:
__________
1 صحيح: أخرجه الحاكم "3/ 230" من طريق علي بن عبد العزيز
ومحمد بن كثير قالا حدثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ،
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ
أنس، به. وهو صحيح الإسناد.
وأخرجه الحاكم "3/ 230" من طريق عمرو بن عاصم الكلابي،
حدثني عبيد الله بن الوازع بن ثور، حَدَّثَنَا هِشَامُ بنُ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ عَنِ الزبير بن العوام, به.
قلت: وإسناده ضعيف، آفته عبيد الله بن الوازع الكلابي،
فإنه مجهول كما قال الحافظ في "التقريب".
وأخرجه البيهقي "9/ 155" من حديث هنيدة رجل من خزاعة
مرفوعا.
وله شواهد ذكرها الهيثمي في "مجمع الزوائد" "6/ 108-109".
(1/400)
لأنظرن إليه كيف يصنع؟ قال: فجعل لا يرتفع
له شيء إلا هتكه وأفراه, حتى انتهى إلى نسوة في سفح جبل
معهن دفوف لهن، فيهن امرأة وهي تقول:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق1
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق2
قال: فاهوى بالسيف إلى امرأة ليضربها، ثم كف عنها. فلما
انكشف القتال قلت له: كل عملك قد رأيت ما خلا رفعك السيف
على المرأة ثم لم تضربها. قال أكرمت سَيْفَ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أقتل به امرأة.
وروى جعفر بن عبد الله بن أسلم, مولى عمر، عن معاوية بن
معبد بن كَعْبِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال حين رأى أبا دجانة يتبختر:
إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.
وقال ابن إسحاق، عن الزهري وغيره: إن رجلا من المشركين خرج
يوم أحد، فدعا إلى البراز، فأحجم الناس عنه حتى دعا ثلاثا،
وهو على جمل له، فقام إليه الزبير فوثب حتى استوى معه على
بعيره, ثم عانقه فاقتتلا فوق البعير جميعا، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "الذي يلي حضيض الأرض مقتول". فوقع
المشرك ووقع عليه الزبير فذبحه. ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرب الزبير فأجلسه على
فخذه وقال: "إن لكل نبي حواريا والزبير حواريي".
قال ابن إسحاق: واقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو
دجانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن
أبي طالب، وآخرون.
وقال زهير بن معاوية: حدثنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء
يحدث قال: جعل رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الرماة يوم أحد, وكانوا خمسين, عبد الله
بن جبير, وقال: "إذا رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحا حتى
أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا
تبرحوا حتى أرسل إليكم". قال: فهزمهم فأنا والله رأيت
النساء يشتددن على الجبل قد بدت خلاخيلهن وسوقهن رافعات
ثيابهن. فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي قوم،
الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله لهم:
أنسيتم ما قال لكم
__________
1 النمارق: الوسائد.
2 الوامق: المحب.
(1/401)
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة.
فأتوهم فصرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين. فذلك إذ يدعوهم
الرسول في أخراهم. فلم يَبْقَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلا اثنا عشر رجلا, فأصابوا منا
سبعين.
فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات. فنهاهم
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن
أبي قحافة؟ ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاثا. ثم رجع
إلى أصحابه, فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فما ملك عمر نفسه
أن قال: كذبت يا عدو الله، إن الذي عددت لأحياء كلهم، وقد
بقي لك ما يسوءك. فقال: يوم بيوم بدر والحرب سجال، إنكم
ستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز: اعل هبل،
اعل هبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا تجيبوه"؟. قالوا:
ما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجل".
ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ألا تجيبوه"؟. قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا:
الله مولانا ولا مولى لكم". أخرجه البخاري.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: فحدثني الحصين بن عبد
الرحمن، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن, أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم
أحد حين غشيه القوم: من رجل يشري لنا نفسه؟ فقام زياد بن
السكن في خمسة من الأنصار، وبعض الناس يقول: هو عمارة ابن
زياد بن السكن، فقاتلوا دُوْنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجُلٌ ثم رجل يقتلون دونه،
حتى كان آخرهم زيادا أو عمارة فقاتل حتى أثبتته الجراحة.
ثم فاءت من المسلمين فئة فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أدنوه مني". فأدنوه منه, فوسده قدمه,
فمات وخده على قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وترَّسَ دُوْنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَبُو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره, وهو
منحنٍ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حتى كثرت فيه النبل.
وقال حماد بن سلمة عن ثابت, وغيره, عَنْ أَنَسٍ أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفرد
يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه
قال: "من يردهم عنا وله الجنة -أو- هو رفيقي في الجنة"؟.
فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، وتقدم آخر فَقَاتَلَ
حَتَّى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قتل السبعة،
فقال لصاحبيه: "ما أنصفنا أصحابنا". رواه مسلم.
وقال سليمان التيمي، عن أبي عثمان، قَالَ: لَمْ يَبْقَ
مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم، في بعض تلك
الأيام التي قاتل فيهن غير طلحة بن عبيد الله وسعد، عن
حديثهما. متفق عليه.
(1/402)
وقال قيس بن أبي حازم: رأيت يد طلحة شلاء
وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، يعني يوم أحد. أخرجه البخاري.
وقال عبد الله بن صالح: حدثني يحيى بن أيوب، عَنْ عمَارَةَ
بن غَزِيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مولى حكيم بن حزام،
عن جابر قال: انهزم الناس عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد، فبقي معه أحد عشر
رجلا من الأنصار، وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد في الجبل،
فلحقهم المشركون فقال: "ألا أحد لهؤلاء"؟. فقال طلحة: أنا
يا رسول الله! قال: "كما أنت يا طلحة". فقال رجل من
الأنصار: فأنا يا رسول الله! فقاتل عنه، وصعد رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ معه ثم
قتل الأنصار فلحقوه, فقال: "ألا أحد لهؤلاء"؟. فقال طلحة
مثل قوله, وَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَثَلُ قوله، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول
الله! فأذن له فقاتل ورسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه يصعدون، ثم قتل, فلحقوه فلم يزل رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول مثل قوله ويقول طلحة: أنا. فيحبسه
ويستأذنه رجل من الأنصار فيأذن له، حتى لم يبق معه إلا
طلحة فغشوهما، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "مَنْ لهؤلاء"؟. فقال طلحة: أنا. فقاتل مثل
قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله, فَقَالَ: حَسِّ.
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "لو قلت
بسم الله أو ذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون
إليك حتى تلج بك في جو السماء". ثم صعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون.
وقال عبد الوارث: حدثنا عبد العزيز, عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انهزم الناس عَنْ رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو طلحة
بَيْنَ يَدَيْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم يجوب عنه بحجفة معه. وكان أبو طلحة رجلا رَامِياً
شَدِيْدَ النَّزْعِ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ
ثلاثة وكان الرجل يمر بالجعبة فيها النبل فينثرها لأبي
طلحة ويشرف نبي الله صلى الله عليه وسلم فينظر إِلَى
القَوْمِ, فَيَقُوْلُ أَبُو طَلْحَةَ: يَا نَبِيَّ الله!
بأبي أنت وأمي، لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون
نحرك. ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم وإنهما
مشمرتان أرى خدم سوقهما، تنقلان القرب على متونهما ثم
تفرغانه في أفواه القوم.
ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة من النعاس إما مرتين أو
ثلاثة. متفق عليه.
وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ
دُوْنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى قتل، قتله ابن قميئة الليثي، وهو يظنه رسول الله
صلى الله عليه وسلم. فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.
ولما قُتِلَ مُصْعَبٌ أَعْطَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّوَاءَ عَلِيَّ بنَ أَبِي
طَالِبٍ ورجالا من المسلمين.
وقال موسى بن عقبة: واستجلبت قريش من شاءوا من مشركي
العرب، وسار أبو سفيان
(1/403)
في جمع قريش. ثم ذكر نحو ما تقدم، وفيه:
فأصابوا وجهه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقصموا
رباعيته، وخرقوا شفته. يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبي
وقاص.
وعنده -يعني عند ابن عقبة- المنام، وفيه: "فأولت الدرع
الحصينة المدينة، فامكثوا واجعلوا الذراري في الآطام، فإن
دخلوا علينا في الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت".
وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى كانت كالحصن.
فأبى كثير من الناس إلا الخروج، وعامتهم لم يشهدوا بدرا.
قال: وليس مع المسلمين فرس.
وكان حامل لواء المشركين طلحة بن عثمان، أخو شيبة العبدري،
وحامل لواء المسلمين رجل من المهاجرين، فقال: أنا عاصم إن
شاء الله لما معي. فقال له طلحة بن عثمان: هل لك في
المبارزة؟ قال: نعم. فبدره ذلك الرجل فضرب بالسيف على رأسه
حتى وقع السيف في لحيته.
فكان قتل صاحب المشركين تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في قوله: "أراني أني مردف كبشا".
فلما صرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصاروا
كتائب متفرقة فجاسوا العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم.
وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات، كل ذلك تنضح
بالنبل فترجع مفلولة وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا، فلما
أبصر الرماة الخمسون أن الله قد فتح، قالوا: والله ما نجلس
ههنا لشيء. فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله
عليه وسلم أن لا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول
صلى الله عليه وسلم، فأوجفت الخيل فيهم قتلا، وكان عامتهم
في العسكر فلما أبصر ذلك المسلمون اجتمعوا، وصرخ صارخ:
أخراكم أخراكم، قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسقط في
أيديهم، فقتل منهم من قتل، وأكرمهم الله بالشهادة. وأصعد
الناس في الشعب لا يلوون على أحد، وثبت الله نبيه، وأقبل
يدعو أصحابه مصعدا في الشعب، والمشركون على طريقه، ومعه
عصابة منهم طلحة بن عبيد الله والزبير، وجعلوا يسترونه حتى
قُتِلوا إلا ستة أو سبعة.
ويقال: كان كعب بن مالك أول من عرف عيني رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِيْنَ فقد، من وراء
المغفر فنادى بصوته الأعلى: الله أكبر، هذا رسول الله،
فأشار إليه -زعموا- رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ اسكت. وجرح رسول الله صلى الله
عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته.
وكان أبي بن خلف قال حين افتدى: والله إن عندي لفرسا
أعلفها كل يوم فرق ذرة، ولأقتلن عليها محمدا. فبلغ قوله
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: "بل أنا أقتله إن شاء الله". فأقبل أبي
(1/404)
مقنعا في الحديد على فرسه تلك يقول: لا
نجوت إن نجا محمد فحمل عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ موسى: قال سعيد بن
المسيب: فاعترض له رجال، فَأَمَرَهُم رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخلوا طريقه، واستقبله
مصعب بن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل
مصعبا. وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي من
فرجة بين سابغة البيضة والدرع، فطعنه فيها بحربته، فوقع
أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم.
قال سعيد: فكُسِرَ ضلع من أضلاعه، ففي ذلك نزلت: {وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}
[الأنفال: 17] ، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا:
ما جزعك؟ إنما هو خدش. فذكر لهم قول رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ أنا أقتل أبيا". ثم
قال: والذي نفسي بيده، لو كان هذا الذي بي بأهل المجاز
لماتوا أجمعون. فمات قبل أن يقدم مكة.
وقال ان إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير،
عن أبيه، عن جده، أن الزبير قال: والله لقد رأيتني أنظر
إلى خدم سوق هند وصواحباتها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن
قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم
عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا،
وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا
القوم بعد أن أصبنا أصحاب لوائهم، حتى ما يدنو منه أحد من
القوم.
قال ابن إسحاق: لم يزل لواؤهم صريعا حتى أخذته عمرة بنت
علقمة الحارثية، فرفعته لقريش فلاذوا به.
وقال وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيْحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ قوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}
أي: تقتلونهم, {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ
فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ} يعني: إقبال من أقبل منهم على
الغنيمة، {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} ،
{مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:
152-153] ، يعني النصر. ثم أديل للمشركين عليهم بمعصيتهم
الرسول حتى حصبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى السدي، عن عبد خير، عن عبد الله، قال: ما كنت أرى أن
أَحَداً مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم يريد الدنيا حتى نزلت فينا: {مِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}
[آل عمران: 152] .
وقال هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ
عَائِشَةَ: هُزم المشركون يوم أحد هزيمة بينة، فصرخ إبليس:
أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم واجتلدوا هم وأخراهم.
فنظر حذيفة فإذا هو
(1/405)
بأبيه اليمان، فقال: أبي، أبي. فوالله ما
نحجزوا عنه حتى قتلوه. فقال حذيفة: غفر الله لكم. قال
عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لقي الله.
أخرجه البخاري.
وقال ابن عون عن عمير بن إسحاق، عن سَعْدِ بنِ أَبِي
وَقَّاصٍ، قَالَ: كَانَ حَمْزَةُ يُقَاتِلُ يَوْمَ أُحُدٍ
بَيْنَ يَدَيْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِسَيْفَيْنِ، وَيَقُوْلُ: أَنَا أَسَدُ اللهِ
رَوَاهُ يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ
عُمَيْرٍ مُرْسَلاً وَزَادَ: فَعَثَرَ فَصُرِعَ
مُسْتَلْقِياً وَانْكَشَفَتِ الدِّرْعُ عَنْ بَطْنِهِ،
فَزَرَقَهُ الحبشي العبد, فبقره.
وقال عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل
الهاشمي، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ، عَنْ جَعْفَرِ بنِ
عمرو بن أمية الضمري، قال: خرجت مع عبيد الله بن عدي بن
الخيار إلى الشام فلما أن قدمنا حمص قال لي عبيد الله: هل
لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة؟ قلت: نعم. وكان وحشي يسكن
حمص، فسألنا عنه، فقيل لنا: هُوَ ذَاكَ فِي ظِلِّ قَصْرِهِ
كَأَنَّهُ حَمِيْتٌ. فجئنا حتى وقفنا عليه يسيرا فسلمنا
فرد علينا السلام وكان عبيد الله مُعْتَجِراً
بِعِمَامَتِهِ، مَا يَرَى وَحْشِيٌّ إِلاَّ عَيْنَيْهِ
ورجليه. فقال عبيد الله: يا وحشي تعرفني؟ فنظر إليه فقال:
لاَ وَاللهِ إِلاّ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ عَدِيَّ بنَ
الخِيَارِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: أُمُّ فثال
بِنْتُ أَبِي العَيْصِ، فَوَلَدَتْ غُلاَماً بِمَكَّةَ
فَاسْتَرْضَعَتْهُ، فحملتُ ذلك الغلام مع أمه فناولتها
إياه، لكأني نظرت إِلَى قَدَمَيْكَ. قَالَ: فَكَشَفَ
عُبَيْدُ اللهِ عَنْ وجهه، ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟
قال: نعم, إن حمزة قُتِلَ طُعَيْمَةُ بنُ عَدِيِّ بنِ
الخِيَارِ بِبَدْرٍ. فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إِنْ
قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ فَلَمَّا
خَرَجَ النَّاسُ عَنْ عَيْنَيْنَ -وَعَيْنُوْنُ جَبَلٌ
تَحْتَ أحد, بينه وبين أحد واد- خرجت مع الناس إلى القتال
فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع, فقال: هل من مبارز؟ فخرج
إليه حمزة فقال: يا سباع يابن مُقَطِّعَةِ البُظُوْرِ،
تُحَادُّ اللهَ وَرَسُوْلَهُ؟ ثُمَّ شَدَّ عليه, فكان كأمس
الذاهب. قال فمكنت لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ حَتَّى
مَرَّ عليَّ، فَرَمَيْتُهُ بحربتي فأضعها في ثنته حتى خرجت
من وركه، فكان ذاك العهد به, فلما رجع الناس رجعت معهم،
فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف.
قال: وأرسلوا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسلا، وَقِيْلَ: إِنَّهُ لاَ يَهِيْجُ
الرُّسُلُ، فَخَرَجْتُ مَعَهُم, فَلَمَّا رَآنِي قَالَ:
"أَنْتَ وَحْشِيٌّ"؟. قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "الَّذِي
قَتَلَ حَمْزَةَ"؟. قُلْتُ: نَعَمْ, قَدْ كان الأمر الذي
بلغك. قال: "ما تَسْتَطِيْعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّي
وَجْهَكَ"؟. قَالَ: فَرَجَعْتُ فلما تُوُفِّيَ رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ
مُسَيْلِمَةُ، قُلْتُ: لأَخْرُجَنَّ إِلَيْهِ لَعَلِّي
أَقْتُلُهُ فأكافئ بِهِ حَمْزَةَ. فَخَرَجْتُ مَعَ
النَّاسِ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِم مَا كَانَ، فَإِذَا
رَجُلٌ قَائِمٌ فِي ثُلْمَةِ جِدَارٍ كَأَنَّهُ جَمَلٌ
أَوْرَقُ ثَائِرٌ رَأْسُهُ. قال: فَأَرْمِيْهِ بِحَرْبَتِي
فَأَضَعَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ
بَيْنِ كَتِفَيْهِ، وَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ
الأَنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ.
(1/406)
قَالَ سُلَيْمَانُ بنُ يَسَارٍ: فَسَمِعْتُ
ابْنَ عُمَرَ يقول: قالت جارية على ظهر بيت: وا أمير
المؤمنين، قتله العبد الأسود. أخرجه البخاري.
وقال ابن إسحاق: ذكر الزهري، قال: كان أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
الهزيمة, وقول الناس: قُتِلَ رسول الله صلى الله عليه
وسلم. كعبُ بن مالك, قال: عرفت عينيه تزهران من تحت
المغفر، فناديت: يا معشر المسلمين! أبشروا هَذَا رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأشار إليَّ: أن
انصت. ومعه جماعة فلما أسند في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو
يقول: يا محمد! لا نجوتُ إن نجوتَ ... الحديث.
وقال هاشم بن هاشم الزهري: سمعت سعيد بن المسيب، سمع
سَعْداً يَقُوْلُ: نَثَلَ لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ،
وَقَالَ: "ارم، فداك أبي وأمي". أخرجه البخاري.
وقال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله, عن أبيه،
عن جده، عن الزبير، قال: فَرَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ظاهر بين درعين يومئذ،
فلم يستطع أن ينهض إليها، يعني إلى صخرة في الجبل، فجلس
تحته طلحة بن عبيد الله فنهض رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى استوى عليها. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أوجب طلحة".
وقال حميد وغيره، عن أنس، قال: غاب أنس بن النضر، عم أنس
بن مالك عن قتال بدر فقال: غبت عن أول قتال رسول الله صلى
الله عليه وسلم المشركين، لئن الله أشهدني قتالا ليرين
الله ما أصنع, فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ به
هؤلاء يعني المشركين وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني
المسلمين من الهزيمة فمشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال:
أي سعد إني لأجد ريح الجنة دون أحد واهًا لريح الجنة! فقال
سعد: يا رسول الله! فما استطعت أن أصنع كما صنع. قال أنس
بن مالك: فوجدناه بين القتلى، به بضع وثمانون جراحة من
ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، فما عرفناه، حتى عرفته
أخته ببنانه، فكنا نتحدث أن هذه الآية: {مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] ، نزلت فيه وفي أصحابه. متفق
عليه, لكن مسلم من حديث ثابت البناني، عن أنس.
وقال مُحَمَّدُ بنُ عَمْرِوٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ, عَنْ
أبي هريرة, أن عمرو بن أقيش كان له ربًا في الجاهلية، فكره
أن يسلم حتى يأخذه. فجاء يوم أحد فقال: أين بنو عمي؟
قالوا: بأحد.
فلبس لأمته وركب فرسه ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون
قالوا: إليك عنا. قال: إني قد آمنت. فقاتل حتى جرح، فحمل
جريحا, فجاءه سعد بن معاذ, فقال لأخته: سليه، حمية
(1/407)
لقومك أو غضبا لله؟ قال: بل غضبا لله
ورسوله فمات فدخل الجنة وما صلى صلاة. أخرجه أبو داود.
وقال حيوة بن شريح المصري: حدثني أبو صخر حميد بن زياد، أن
يحيى بن النضر حدثه عن أبي قتادة، قال: أتى عمرو بن الجموح
إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى
أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة وكان أعرج، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". فقتل يوم أحد هو وابن
أخيه ومولى لهم، فمر رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: "كأني أراك تمشي برجلك هذه
صحيحة في الجنة". وأمر بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد.
وقال ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ، عَنِ
ابن المسيب قال: قال عبد الله بن جحش: اللهم إني أقسم عليك
أن ألقى العدو غدا فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي
وأذني، ثم تسألني: بم ذاك؟ فأقول: فيك. قال سعيد بن
المسيب: إني لأرجو أن يبر الله آخر قسمه كما أبر أوله.
وروى الزبير بن بكار في "الموفَّقيات", أن عبد الله بن
جحش، انقطع سيفه، قال: فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْجُوْناً فصار في يده سيفا.
فكان يسمى العرجون، ولم يزل يتناول حتى بيع من بغا التركي
بمائتي دينار. وكان عبد الله من السابقين، أسلم قبل دار
الأرقم، وهاجر إلى الحبشة هو وإخوته وشهد بدرا.
وقال معمر، عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي: حدثنا أشياخنا
أن عبد الله بن جحش جاء إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد وقد ذهب سيفه، فأعطاه
النبي صلى الله عليه وسلم عسيبا من نخل، فرجع في يد عبد
الله سيفا. مرسل.
عَنْ خَارِجَةَ بنِ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيْهِ،
قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يوم أحد لطلب سعد بن الربيع، وقال لي: "إن رأيته
فأقرئه مِنِّي السَّلاَمَ وَقُلْ لَهُ: يَقُوْلُ لَكَ
رَسُوْلُ الله: كيف تجدك"؟. فجعلت أطواف بَيْنَ القَتْلَى،
فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وبه سبعون ضربة,
فقلت: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقرأ عليك السلام ويقول لك: "خبرني كيف تجدك"؟.
قال: عَلَى رَسُوْلِ اللهِ السَّلاَمُ وَعَلَيْكَ، قُلْ
لَهُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! أَجِدُ رِيْحَ الجَنَّةِ،
وَقُلْ لِقَوْمِي الأَنْصَارِ: لاَ عُذْرَ لَكُم عِنْدَ
اللهِ إِنْ خُلِصَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيْكُم شَفْرٌ يَطْرُفُ. قَالَ:
وَفَاضَتْ نفسه. أخرجه البيهقي، ثم ساقه فيما بعد من حديث
محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ
عبد الرحمن المازني، منقطعا، فهو شاهد لما رواه خارجة.
(1/408)
وقال موسى بن عقبة: ثم انكفأ المشركون إلى
أثقالهم، لا يدري المسلمون ما يريدون. فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ رأيتموهم ركبوا
وجعلوا الأثقال تتبع آثار الخيل، فهم يريدون أن يدنوا من
البيوت والآطام التي فيها الذراري، وأقسم بالله لئن فعلوا
لأواقعنهم في جوفها، وإن كانوا ركبوا الأثقال وجنبوا الخيل
فهم يريدون الفرار". فلما أدبروا بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدِ بن أبي وقاص في
آثارهم. فلما رجع قال: رأيتهم سائرين على أثقالهم والخيل
مجنوبة. قال: فطابت أنفس القوم، وانتشروا يَبْتَغُوْنَ
قَتْلاَهُمْ. فَلَمْ يَجِدُوا قَتِيْلاً إِلاَّ وَقَدْ
مَثَّلُوا بِهِ، إِلاَّ حَنْظَلَةَ بنَ أَبِي عَامِرٍ،
وكان أبوه مَعَ المُشْرِكِيْنَ فَتُرِكَ لأَجْلِهِ.
وَزَعَمُوا أَنَّ أَبَاهُ وَقَفَ عَلَيْهِ قَتِيْلاً
فَدَفَعَ صَدْرَهُ بِرِجْلِهِ ثُمَّ قال: ذنبان
أَصَبْتُهُمَا، قَدْ تقدمتُ إِلَيْكَ فِي مَصْرَعِكَ هَذَا
يا دبيس، وَلَعَمْرُ اللهِ إِنْ كُنْتَ لَوَاصِلاً
لِلرَّحِمِ بَرّاً بالوالد.
ووجدوا حمزة بن عبد المطلب قد بُقِرَ بطنه وحُمِلَت كبده،
احتملها وحشي وهو الذي قتله، فذهب بكبده إلى هند بنت عتبة
فِي نَذْرٍ نَذَرَتْهُ حِيْنَ قُتِلَ أَبَاهَا يَوْمَ
بَدْرٍ. فَدُفِنَ فِي نَمِرَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ، إِذَا
رُفِعَتْ إِلَى رَأْسِهِ بَدَتْ قَدَمَاهُ، فَغَطُّوا
قَدَمَيْهِ بشيء من الشجر.
وقال الزهري: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "زملوهم
بدمائهم, فإنه ليس أحد يكلم في الله إلا وهو يأتي يوم
القيامة وجرحه يدمي, لونه لون الدم وريحه ريح المسك".
وقال: إن المشركين لن يصيبوا منا مثلها. وقد كان أبو سفيان
ناداهم حين ارتحل المشركون: إن موعدكم الموسم, موسم بدر.
وهي سوق كانت تقوم ببدر كل عام, فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "قولوا له: نعم".
قال: ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وإذا
النَّوْح في الدور. قال: "ما هذا"؟. قالوا: نساء الأنصار
يبكين قتلاهم. وأقبلت امرأة تحمل ابنها وزوجها على بعير،
قد ربطتهما بحبل ثم ركبت بينهما, وحُمِلَ قتلى، فدفنوا في
مقابر المدينة، فنهاهم عن ذلك وقال: "واروهم حيث أصيبوا".
وقال لما سمع البكاء: "لكن حمزة لا بواكي له". واستغفر له،
فسمع ذلك سعد بن معاذ وابن رواحة وغيرهما، فجمعوا كل نائحة
وباكية بالمدينة، فقالوا: والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى
تبكين عَمِّ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَمَّا سمع رسول الله بالبكاء، قال: "ما
هذا"؟. قال: فأخبر، فاستغفر لهم وقال لهم خيرا، وقال: "ما
هذا أردت وما أحب البكاء". ونهى عنه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن
نافع الأنصاري، قال: انتهى أنس بن النضر إلى عمر، وطلحة،
ورجال قد ألقوا بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا:
(1/409)
قتل رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فما تصنعون بالحياة بعده؟
فقوموا فموتوا على ما مات عَلَيْهِ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ استقبل القوم فقاتل حتى
قُتِلَ.
قال ابن إسحاق: وقد كان حنظلة بن أبي عامر التقي هو وأبو
سفيان بن حرب، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود فضرب
حنظلة بالسيف فقتله. وحدثني عاصم بن عمر بن قَتَادَةَ،
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: "إن صاحبكم لتغسله الملائكة". يعني حنظلة، فسألوا
أهله: ما شأنه؟ فسئلت صاحبته قالت: خرج وهو جنب حين سمع
الهيعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لذلك غسلته
الملائكة".
وقال البكَّائي، عن ابن إسحاق: وخلص العدو إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدُثَّ بالحجارة
حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته
وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. فحدثني حميد الطويل عن
أنس، قال: كسرت رباعية النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وشج في وجهه، فجعل الدم يسيل على
وجهه وهو يمسحه ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو
يدعوهم إلى ربهم"؟. فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] .
وقال عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيْهِ،
عن سهل بن سعد، قال: جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه, فكانت فَاطِمَةَ
بِنْتِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تغسل الدم، وعليٌّ يسكب الماء عليه بالمجن. فلما رأت فاطمة
أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة حصير أحرقته،
حتى إذا صار رمادا ألصقته بالجرح، فاستمسك الدم. أخرجاه.
ورواه مسلم من حديث سعيد بن أبي هلال، عن أبي حازم، عن
سهل، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أحد أصيبت رباعيته وهشمت بيضته.
وذكر باقي الحديث.
وقال مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله"، وهو يشير إلى
رباعيته، "اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل
الله". متفق عليه.
وللبخاري مثله من حديث عكرمة، عن ابن عباس. لكن فيه: "دموا
وجه رسول الله"، بدل ذكر رباعيته.
وقال ابن المبارك، عن إسحاق بنِ يَحْيَى بنِ طَلْحَةَ بنِ
عُبَيْدِ اللهِ: أخبرني عيسى بن طلحة، عن عائشة، قالت: كان
أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى ثم قال: ذاك يوم كان كله يوم
طلحة. ثم أنشأ يحدث، قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت
رجلا يقاتل مع
(1/410)
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دونه. وأراه قال: يحميه، فقلت: كن طلحة، حيث
فاتني، قلت: يكون رجلا من قومي أحب إليَّ، وبيني وبين
المشرق رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إِلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه، وهو يخطف المشي
خطفا لا أخطفه. إذا هو أبو عبيدة. فانتهينا إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وقد كسرت
رباعيته, وشج في وجهه، وقد دخل في وجهه حلقتان من حلق
المغفر, قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
"عليكما صاحبكما". يريد طلحة, وقد نزف, فلم نلتفت إلى
قوله، وذهبت لأنزع ذلك من وجهه, فقال أبو عبيدة: أقسمت
عليك بحقي لما تركتني فكره أن يتناولها بيده فيؤذي النبي،
فأزم عليهما بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين. ووقعت ثنيته مع
الحلقة وذهبت لأصنع ما صنع، فقال: أقسمت عليك بحقي لما
تركتني. ففعل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيته الأخرى
مع الحلقة فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتمًا, فأصلحنا من
شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك
الجفار، فإذا بضع وسبعون، أقل أو أكثر، من بين طعنة ورمية
وضربة, وإذا قد قطعت إصبعه. فأصلحنا من شأنه.
وروى الواقدي عن ابن أبي سبرة، عَنْ إِسْحَاقَ بنِ عَبْدِ
اللهِ بنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ أبي الحويرث، عن نافع بن
جبير، قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا، فنظرت
إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه
وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه. ولقد رأيت عبد الله بن شهاب
الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد, فلا نجوت إن نجا,
ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، ثم
تجاوزه فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف
بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا على قتله، فلم
نخلص إلى ذلك.
قال الواقدي: الثبت عندنا أن الذي رمى رسول الله صلى الله
عليه وسلم في وجنتيه: ابن قمئة، والذي رمى شفتيه وأصاب
رباعيته: عتبة بن أبي وقاص.
وقال ابن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عمن حدثه، عن سعد بن
أبي وقاص، قال: والله ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على
قتل عتبة بن أبي وقاص، وإن كان ما علمته لسيئ الخلق مبغضا
في قومه، ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله".
وقال معمر، عن الزهري، عن عثمان الجزري، عن مقسم أن النبي
صلى الله عليه وسلم على عتبة حين كسر رباعيته: "اللهم لا
تحل عليه الحول حتى يموت كافرا". فما حال عليه الحول حتى
مات كافرا إلى النار. مرسل.
ابن وهب: أخبرنا عمرو بن الحارث قال: حدثني عمر بن السائب،
أنه بلغه أن والد
(1/411)
أبي سعيد الخدري، لما جرح النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، مص جرحه
حتى أنقاه ولاح أبيض، قيل له: مجه فقال: لا والله لا أمجه
أبدا ثم أدبر فقاتل، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أراد أَنْ يَنْظُرَ إِلَى
رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فلينظر إلى هذا". فاستشهد.
قال ابن إسحاق قال حسان بن ثابت:
إذا الله جازى معشرا بفعالهم ... ونصرهم الرحمن رب المشارق
فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ... ولقاك قبل الموت إحدى
الصواعق
بسطت يمينا للنبي تعمدا ... فأدميت فاه قطعت بالبوارق
فهلا ذكرت الله والمنزل الذي ... تصير إليه عند إحدى
البوائق
قال ابن إسحاق: وعن أبي سعيد الخدري، أن عتبة كسر رباعية
النبي صلى الله عليه وسلم اليمنى السفلى، وجرح شفته
السفلى، وأن عبد الله بن شهاب شجه في جبهته، وأن ابن قمئة
جرح وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع صلى
الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع
فيها المسلمون، فأخذ عليَّ بِيَدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورفعه طلحة حتى استوى قائما.
ومص مالك بن سنان, أبو أبي سعيد, الدم عن وجهه ثم ازدرده،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مس دمه دمي لم
تمسه النار". منقطع.
قال البكائي: قال ابن إسحاق: وحدثني عَاصِمِ بنِ عُمَرُ،
إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رمى عن
قوسه حتى اندقت سِيتُها، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت
عنده. وأصيبت يومئذ عين قتادة، حتى وقعت على وجنته فحدثني
عَاصِمِ بنِ عُمَرُ إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم ردها بيده، وكانت أحسن عينيه وأحدهما.
وقال الواقدي: حدثنا موسى بن يعقوب الزمعي، عن عمته، عن
أمها، عن المقداد بن عمرو قال: فربما رَأَيتُ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائما يوم أحد
يرمي عن قوسه، ويرمي بالحجر، حتى تحاجزوا، وثبت رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هو في
عصابة صبروا معه.
هذا الحديثان ضعيفان، وفيهما أنه رمى بالقوس.
وقال سليمان بن أحمد نزيل واسط: حدثنا محمد بن شعيب، قال:
سمعت إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، يحدث عن عِيَاضُ بنُ
عَبْدُ اللهِ بنُ سَعْدِ بنِ أَبِي سَرْحٍ، عن أبي سعيد
الخدري، عن قتادة بن النعمان، وكان أخا أبي سعيد لأمه، أن
عينه ذهبت يوم أحد، فجاء بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فردها، فاستقامت.
(1/412)
وقال يحيى الحماني: حدثنا عبد الرحمن بن
الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن قتادة بن
النعمان، أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته،
فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: "لا". فدعا به فغمز حدقته براحته فكان لا يدري أي
عينيه أصيبت.
كذا قال ابن الغسيل: يوم بدر.
وقال موسى بن عقبة: إن أبا حذيفة بن اليمان، واسمه حسيل بن
جبير حليف للأنصار، أصابه المسلمون -زعموا- في المعركة لا
يدرون من أصابه فتصدق حذيفة بدمه على من أصابه.
قال موسى: وجميع من استشهد من المسلمين تسعة وأربعون رجلا.
وقتل من المشركين ستة عشر رجلا.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ، قال: حمل أبي بن خلف على النبي صلى الله عليه
وسلم يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير، فقتل مصعبا وأبصر
رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي فطعنه بحربته فوقع
عن فرسه، ولم يخرج منها دم فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو
يخور.
وروى نحوه الزهري، عن ابن المسيب.
وذكره الواقدي، عن يونس بن محمد, عن عاصم بن عمر بن قتادة،
عن عَبْدِ اللهِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، عَنْ أبيه.
قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبي ببطن رابغ، فإني
لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا نار تأجج لي
فهبتُها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح:
العطش. ورجل يقول: لا تسقه, فإن هذا قتيل رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا أبي بن خلف.
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ
أَبِيْهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ
عُتْبَةَ، عن ابن عباس، قال: ما نُصر النبي صلى الله عليه
وسلم في موطن كما نُصر يوم أحد فأنكرنا ذلك، فقال ابن
عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله, إن الله تعالى
يقول في يوم أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ
إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} والحس: القتل, {حَتَّى
إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ
وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}
[آل عمران: 152] الآية، وإنما عني بهذا الرماة وَذَلِكَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أقامهم في موضع وقال: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل
فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا". فلما
غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكفأ عسكر المشركين،
نزلت
(1/413)
الرماة دخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التفت
صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا، وشبك
أصابعه، والتبسوا. فلما خلى الرماة تلك الخلة التي كانوا
فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من المسلمين ناس
كثير وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول
النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة،
وجال المسلمون جولة نحو الجبل، وصاح الشيطان: قُتل محمد.
فلم يشك فيه أنه حق, وساق الحديث.
وقال سَعِيْدُ بنُ أَبِي عَرُوْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أنس، عن أبي طلحة، قال: كنت ممن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى
سقط سيفي من يدي مرارا. أخرجه البخاري.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ, عَنْ ثَابِتٍ, عَنْ أَنَسٍ,
عن أبي طلحة، قال: رفعت رأسي يوم أحد, فجعلت أنظر, وما
منهم أحد إلا وهو يميد تحت حجفته من النعاس. فذلك قوله:
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً
نُعَاسًا} [آل عمران: 154] .
وقال يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن
جده، عن الزبير، قال: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير,
وإن النعاس ليغشاني ما أسمعها منه إلا كالحلم، وهو يقول:
{لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا
هَاهُنَا} [آل عمران: 154] .
وروى الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه،
عن أبيه، قال: ألقي علينا النوم يوم أحد.
وقال ابن إسحاق عن عاصم بن عمر، والزهري وجماعة، قالوا:
كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص اختبر الله به المؤمنين ومحق
به المنافقين ممن كان يظهر إسلامه بلسانه، ويوم أكرم الله
فيه بالشهادة غير واحد، وكان مما نزل من القرآن في يوم أحد
ستون آية من آل عمران.
وقال المدائني، عن سلام بن مسكين، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ، قَالَ: كَانَتْ رَايَةُ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
أحد مرطا أسود كان لعائشة، وراية الأنصار يقال لها:
العقاب، وعلى الميمنة علي، وعلى الميسرة المنذر بن عمرو
الساعدي، والزبير بن العوام على الرجال، ويقال: المقداد بن
عمرو، وحمزة بن عبد المطلب على القلب.
ولواء قريش مع طلحة بن أبي طلحة فقتله علي -رضي الله عنه-
فأخذ اللواء سعد بن أبي طلحة فقتله سعد بن مالك، فأخذه
عثمان بن أبي طلحة، فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح,
فأخذه الجلاس بن طلحة، فقتله ابن أبي الأقلح أيضا، ثم كلاب
والحارث ابنا
(1/414)
طلحة، فقتلها قزمان حليف بني ظفر، وأرطاة
بن عبد شرحبيل العبدري قتله مصعب بن عمير، وأخذه أبو يزيد
بن عمير العبدري، وقيل: عبد حبشي لبني عبد الدار، قتله
قزمان.
قال ابن إسحاق: وبقي اللواء ما يأخذه أحد، وكانت الهزيمة
على قريش.
وقال مروان بن معاوية الفزاري: حدثنا عبد الواحد بن أيمن،
قال: حدثنا عبيد بن رفاعة الزرقي، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انكفأ المشركون، قَالَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"استووا حتى أثني على ربي". فصاروا خلفه صفوفا فقال:
"اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا مقرب
لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، ولا مَانِعَ لِمَا
أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ, اللهم ابسط
علينا من بركاتك، أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا
يزول, اللهم عائذا بك من سوء ما أعطيتنا وشر ما منعت منا،
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا
الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا
مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا
مفتونين, اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون
رسلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين
أوتوا الكتاب, إله الحق".
هذا حديث غريب منكر، رواه البخاري في الأدب، عن علي بن
المديني، عن مروان.
عدد الشهداء:
قد مر أن البخاري أخرج من حديث البراء، أن المشركين أصابوا
منا سبعين.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ, عَنْ أَنَسٍ،
قال: يا رب السبعين من الأنصار، سبعين يوم أحد، وسبعين يوم
بئر معونة، وسبعين يوم مؤتة، وسبعين يوم اليمامة.
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيْدِ
بنِ المسيب، قال: قتل من الأنصار في ثلاثة مواطن سبعون
سبعون: يوم أحد، ويوم اليمامة، ويوم جسر أبي عبيد.
وقال ابن جريج: أخبرني عمر بنِ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، في قوله تعالى: {قَدْ أَصَبْتُمْ
مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] ، قال: قتل المسلمون من
المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين, وقتل المشركون يوم
أحد من المسلمين سبعين.
وأما ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ، فقال: جميع من قتل مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم أحد، من قريش والأنصار: أربعة، أو قال: سبعة
وأربعون رجلا. وجميع من قتل يوم أحد، يعني من المشركين
تسعة عشر رجلا.
(1/415)
وقال موسى بن عقبة: جميع من استشهد من
المسلمين، من قريش والأنصار سبعة وأربعون رجلا.
وقال ابن إسحاق: جميع من استشهد من المسلمين، من المهاجرين
والأنصار، يوم أحد، خمسة وستون رجلا وجميع قتلى المشركين
اثنان وعشرون.
قلت: قول من قال سبعين أصح ويحمل قول أصحاب المغازي هذا
على عدد من عرف اسمه من الشهداء، فإنهم عدوا أسماء الشهداء
بأنسابهم.
قال ابن إسحاق: استشهد من المهاجرين:
حمزة، وَعَبْدُ اللهِ بنُ جَحْشِ بنِ رِئَابٍ الأَسَدِيُّ،
حليف بني عبد شمس، وهو ابن عَمَّةَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ دفن مع حمزة في قبر
واحد، ومصعب بن عمير، وعثمان بن عثمان، ولقبه شماس، وهو
عثمان بن عثمان بن الشريد بن سويد بن هرمي بن عامر بن
مخزوم القرشي المخزومي، ابن أخت عتبة بن ربيعة، هاجر إلى
الحبشة وشهد بدرا، ولقب شماسا لملاحته.
ومن الأنصار: عمرو بن معاذ بن النعمان الأَوْسِيُّ، أَخُو
سَعْدٍ، وَابْنُ أَخِيْهِ الحَارِثُ بنُ أوس بن معاذ،
والحارث بن أنيس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة،
وعمرو، ابنا ثابت بن وقش، وعمهما: رفاعة بن وقش، وصيفي بن
قيظي، وأخوه: حباب، وَعَبَّادُ بنُ سَهْلٍ, وَعُبَيْدُ بنُ
التَّيِّهَانِ، وَحَبِيْبُ بنُ زَيْدٍ, وَإِيَاسُ بنُ
أَوْسٍ، الأَشْهَلِيُّوْنَ، وَاليَمَانُ أبو حذيفة، حليف
لهم، ويزيد بن حاطب بن أمية الظفري، وأبو سفيان بن الحارث
بنِ قَيْسٍ، وَغَسِيْلُ المَلاَئِكَةِ حَنْظَلَةُ بنُ
أَبِي عامر الراهب، وَمَالِكُ بنُ أُمَيَّةَ؛ وَعَوْفُ بنُ
عَمْرٍو، وَأَبُو حية بن عمرو بن ثابت, وعبد الله بن جبير
بن النعمان أمير الرماة، وأنس بن قتادة وخيثمة والد سعد بن
خيثمة وحليفه: عبد الله بن سلمة العجلاني، وسبيع بن حاطب
بن الحارث، وحليفه: مالك بن أوس، وعمير بن عدي الخطمي.
وكلهم من الأوس.
واستشهد من الخزرج: عمرو بن قيس النجاري، وابنه: قيس،
وثابت بن عمرو بن زيد، وَعَامِرُ بنُ مَخْلَدٍ، وَأَبُو
هُبَيْرَةَ بنُ الحَارِثِ بن علقمة، وَعَمْرُو بنُ
مُطَرِّفٍ, وَإِيَاسُ بنُ عَدِيٍّ، وَأَوْسُ أخو حسان بن
ثابت، وهو والد شداد بن أوس، وأنس بن النضر بن ضمضم، وقيس
بن مخلد، وعشرتهم من بني النجار، وعبد لهم اسمه: كيسان،
وَسُلَيْمُ بنُ الحَارِثِ، وَنُعْمَانُ بنُ عَبْدِ
عَمْرٍو، وهما من بني دينار بن الحارث.
(1/416)
وَمِنْ بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزْرَجِ:
خَارِجَةُ بنُ زيد بن أبي زهير، وسعد بن الربيع بن عمرو
ابن أبي زهير، وأوس بن أرقم بن زيد، أخو زيد بن أرقم.
ومن بني خدرة: مالك بن سنان، وسعيد بن سويد، وعتبة بن
ربيع.
ومن بني ساعدة: ثعلبة بن سعد بن مالك، وَثَقْفُ بن
فَرْوَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو بن وهب وضمرة، حليف
لهم من جهينة.
ومن بني عوف بن الخزرج، ثم من بني سالم: عمرو بنُ إِيَاسٍ،
وَنَوْفَلُ بنُ عَبْدِ اللهِ، وَعُبَادَةُ بن الحسحاس،
والعباس بن عبادة بن نضلة، والنعمان بن مالك، والمجذر ذياد
البلوي، حليف لهم.
ومن بني الحبلى: رفاعة بن عمرو.
ومن بني سواد بن مالك: مالك بن إياس.
ومن بني سلمة: عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح
بن زيد بن حرام، وكانا متواخيين وصهرين، فدفنا في قبر
واحد، وخلاد بن عمرو بن الجموح، ومولاه أسير، أبو أيمن،
مولى عمرو.
ومن بني سواد بن غنم: سليم بنُ عَمْرِو بنِ حَدِيْدَةَ،
وَمَوْلاَهُ عَنْتَرَةُ، وَسُهَيْلُ بن قيس.
ومن بني زريق: ذكوان بن عبد قيس، وعبيد بن المعلى بن
لوذان.
قال ابن إسحاق: وزعم عاصم بن عمر بن قتادة أن ثابت بن وقش
قتل يومئذ مع ابنيه.
وذكر الواقدي جماعة قتلوا سوى من ذكرنا.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق، عن محمود بن لبيد، قَالَ:
خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى
أحد رفع حسيل بن جابر -والد حذيفة بن اليمان- وثابت بن وقش
في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه -وهما
شيخان كبيران: لا أبا لك، ما ننتظر؟ فوالله ما بقي لواحدنا
من عمره إلا ظمء حمار، إنما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا
نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل
الله يرزقنا الشهادة مع رسوله؟ فخرجا حتى دخلا في الناس،
ولم يعلم بهما فأما ثابت فقتله المشركون، وأما حسيل فقتله
المسلمون ولا يعرفونه.
قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجل أتى
لا يدرى ممن هو، يقال له قزمان، وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول إذا ذكر له: "إنه لمن أهل النار". فلما كان
يوم أحد قتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا بأس،
فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر،
(1/417)
فجعلوا يقولون له: والله لقد أبليت اليوم
يا قزمان، فأبشر. قال: بماذا أبشر؟ والله إن قاتلت إلا عن
أحساب قومي، ولولا ذلك لما قاتلت. فلما اشتدت عليه جراحته
أخذ سهما فقتل به نفسه.
قال ابن إسحاق: وكان ممن قتل يومئذ مخيريق، وكان أحد بني
ثعلبة بن العيطون، قال لما كان يوم أحد: يا معشر يهود،
والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق. قالوا: إن اليوم
يوم السبت قال: لا سبت فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت
فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء ثم غَدَا إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاتل معه حتى
قُتِلَ. فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيمَا بلغنا: "مخيريق خير يهود".
ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى؛
يجدعن الآذان والأنف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال
وأنوفهم خدما، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن
تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمه وبكري
شفيتُ صدري وقضيت نذري ... شفيتَ وحشي غليل صدري
وقتل من المشركين -على ما ذكر ابن إسحاق- أحد عشر رجلا من
بني عبد الدار، وهم:
طلحة وأبو سعيد وعثمان: بنو أبي طلحة عبد الله بن عبد
العزى ومولاهم: صؤاب، وبنو طلحة المذكور: مسافع, والحارث,
والجلاس, وكلاب. وأبو زيد بن عمير أخو مصعب بن عمير وابن
عمه: أرطاة بن شرحبيل بن هاشم، وابن عمهم: قاسط بن شريح.
ومن بني أسد: عبد الله بن حميد بن زهير الأسدي، وسباع بن
عبد العزى الخزاعي حليف بني أسد.
وأربعة من بني مخزوم: أخو أم سلمة: هشام بن أبي أمية بن
المغيرة، والوليد بن العاص بن هشام بن المغيرة وأبو أمية
بن أبي حذيفة بن المغيرة، وحليفهم خالد بن الأعلم.
ومن بني زهرة: أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، حليف لهم.
ومن بني جمح: أبي بن خلف، وأبو عزة عمرو بن عبد الله بن
عمير، أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بضرب عنقه صبرا، وذلك أنه أسر يوم بدر، وأطلقه
النبي صلى الله عليه وسلم بلا فداء لفقره، وأخذ
(1/418)
عليه أن لا يعين عليه، فنقض العهد وأسر يوم
أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم: "والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول خدعت محمدا مرتين
وأمر به فضربت عنقه". وقيل: لم يؤسر سواه.
ومن بني عامر بن لؤي: عبيد بن جابر، وشيبة بن مالك.
وقال سليمان بن بلال, عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بنِ عَبْدِ
اللهِ بنِ أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن
أبي هريرة ورواه حاتم بن إسماعيل، عن عبد الأعلى -فأرسله
مرة وأسنده مرة- عن أبي ذر عوض أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حين انصرف من أحد
مر على مصعب بن عمير وهو مقتول -على طريقه- فوقف عليه ودعا
له ثم قرأ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى
نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] ، ثم قال: "أشهد أن هؤلاء شهداء
عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا
يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه السلام".
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، وحدثنيه
بُرَيْدَةُ بنُ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ،
قال: لما رَأَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا بحمزة من المثل -جدع أنف ولعب به- قال:
"لولا أن تجزع صفية وتكون سنة من بعدي ما غيب حتى يكون في
بطون السباع وحواصل الطير".
وحدثني بريدة، عن محمد بنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَئِنْ
ظَفِرْتُ بِقُرَيْشٍ لأُمَثِّلَنَّ بِثَلاَثِيْنَ
مِنْهُم". فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِهِ مِنَ الجَزَعِ
قَالُوا: لَئِنْ ظَفِرْنَا بِهِم لَنُمَثِّلَنَّ بِهِم
مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ العرب بأحد فأنزل
الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا
عُوقِبْتُمْ} [النَّحْلُ: 126] ، إِلَى آخِرِ السُّوْرَةِ
فَعَفَا رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى ابن إسحاق، عن شيوخه الذين روى عنهم قصة أحد، أن
صفية أقبلت لتنظر إلى حمزة -وهو أخوها لأبويها- فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير: "القها فأرجعها،
لا ترى ما بأخيها". فلقيها فقال: أي أمه، أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرك أن ترجعي,
قالت: ولم؟ فقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله فما
أرضانا بما كان من ذلك، فلأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله.
فجاء الزبير فأخبره قولها, قال: "فخل سبيلها". فأتته،
فنظرت إليه واسترجعت واستغفرت له ثم أمر به فدفن.
وقال أَبُو بَكْرٍ بنُ عَيَّاشٍ عَنْ يَزِيْدَ بنِ أَبِي
زِيَادٍ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: لما قتل
حمزة أقبلت صفية فَلَقِيَتْ عَلِيّاً وَالزُّبَيْرَ
فَأَرَيَاهَا أَنَّهُمَا لاَ يَدْرِيَانِ. فَجَاءتِ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
"فَإِنِّي أَخَافُ عَلَى عَقْلِهَا". فَوَضَعَ يَدَهُ
عَلَى صَدْرِهَا وَدَعَا لَهَا، فَاسْتَرْجَعَتْ وَبَكَتْ
ثُمَّ جَاءَ فقام
(1/419)
عَلَيْهِ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ فَقَالَ:
"لَوْلاَ جَزَعُ النِّسَاءِ لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يُحْشَرَ
مِنْ حَوَاصِلِ الطَّيْرِ وَبُطُوْنِ السِّبَاعِ". ثُمَّ
أَمَرَ بِالقَتْلَى فَجَعَلَ يُصَلَّي عليهم سبع
تَكْبِيْرَاتٍ، وَيُرْفَعُوْنَ وَيَتْرُكُ حَمْزَةَ، ثُمَّ
يُجَاءُ بِسَبْعَةٍ فيكبر عليهم سبعا، حتى فرغ منهم.
وحديث جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يُصِلِّ عَلَيْهِم أَصَحُّ.
وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ مِنْ حديث عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى على قتلى أحد صلاته على الميت. فالله أعلم.
عثمان بن عمر، وروح بن عبادة, بإسناد الحاكم في "المستدرك"
إليهما: حدثنا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ مَرَّ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحمزة
وَقَدْ جُدِعَ وَمُثِّلَ بِهِ فَقَالَ: "لَوْلاَ أَنْ تجد
صفية تركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع". فكفنه
في نمرة ولم يصل على أحد من الشهداء غيره ... الحديث.
وقال يحيى الحماني: حدثنا قيس -هو ابن الربيع- عن ابن أبي
ليلى, عَنِ الحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ,
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يوم قتل حمزة ومثل به: "لَئِنْ ظَفِرْتُ بِقُرَيْشٍ
لأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِيْنَ مِنْهُم". فَنَزَلَتْ: {وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}
[النحل: 126] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل
نصبر يا رب". إسناده ضعيف من قبل قيس.
وقد روى نحوه حجاج بن منهال وغيره عن صالح المري -وهو
ضعيف- عن سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ
النَّهْدِيِّ عَنْ أبي هريرة، وزاد: فنظر إلى منظر لم ينظر
إلى شيء قط أوجع لقلبه منه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ صَاعدٍ القَاضِي،
قال: حدثنا الحسن بن أحمد الزاهد ببيت المقدس سنة تسع
وعشرين وستمائة قال: أخبرنا أحمد بن محمد السلفي قال:
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن
إبراهيم قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الفارسي قال: حدثنا
يعقوب الفسوي قال: حدثنا عبد الله بن عثمان قال: حدثنا
عيسى بن عبيد الكندي، قال: حدثني ربيع بن أنس، قال:
حَدَّثَنِي أَبُو العَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ أنه
أصيب من الأنصار يوم أحد أربعة وستون وأصيب من المهاجرين
ستة، منهم حمزة فَمَثَّلُوا بِقَتْلاَهُم فَقَالَتِ
الأَنْصَارُ: لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُم يَوْماً مِنَ
الدَّهْرِ لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِم.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ نَادَى رَجُلٌ لاَ
يُعْرَفُ: لاَ قُرَيْشَ بَعْدَ اليَوْمِ، مَرَّتَيْنِ
فَأَنْزَلَ اللهُ على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}
[النحل: 126] الآيَة، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كفوا عن القوم".
(1/420)
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ
بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: جَاءتْ صَفِيَّةُ
يَوْمَ أُحُدٍ ومعها ثَوْبَانِ لِحَمْزَةَ، فَلَمَّا
رَآهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَرِهَ أَنْ تَرَى حَمْزَةَ عَلَى حَالِهِ، فَبَعَثَ
إِلَيْهَا الزُّبَيْرَ يَحْبِسُهَا وَأَخَذَ
الثَّوْبَيْنِ. وَكَانَ إِلَى جَنْبِ حَمْزَةَ قَتِيْلٌ
مِنَ الأَنْصَارِ، فَكَرِهُوا أَنْ يَتَخَيَّرُوا
لِحَمْزَةَ، فَقَالَ: "أَسْهِمُوا بَيْنَهُمَا،
فَأَيُّهُمَا طَارَ لَهُ أَجْوَدُ الثَّوْبَيْنِ فَهُوَ
لَهُ". فَأَسْهَمُوا بَيْنَهُمَا، فَكُفِّنَ حَمْزَةُ فِي
ثَوْبٍ والأنصاري في ثوب.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري، عَنْ عَبْدِ اللهِ
بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ صُعَيْرِ، قال: لما أشرف رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قتلى أحد،
قال: "أنا الشهيد على هؤلاء، ما من جريح يجرح في الله إلا
بعث يَوْم القِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دماً، اللُوْنُ
لُوْنُ الدم والريح ريح المسك، انظروا أكثرهم جمعا للقرآن
فاجعلوه أمام صاحبه في القبر". فكانوا يدفنون الاثنين
والثلاثة في القبر.
قال ابن إسحاق: وحدثني والدي, عن رجال من بني سلمة, أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال حين
أصيب عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو بن حرام: "اجمعوا
بينهما، فإنهما كانا متصافيين في الدنيا". قال أبي: فحدثني
أشياخ من الأنصار قالوا: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على
قبور الشهداء استصرخنا عليهم وقد انفجرت عليهما في قبرهما,
فأخرجناهما وعليهما بردتان قد غطي بهما وجوههما، وعلى
أقدامهما شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان كأنما
دفنا بالأمس.
وهذا هو عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم
الأنصاري السلمي, سيد بني سلمة قال ابن سعد وغيره: شهد
بدرا. وابنه معاذ بن عمرو بن الجموح هو الذي قطع رجل أبي
جهل وقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ. وكان عمرو
بن الجموح زوج أُخْتُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ
حَرَامٍ.
ثابت البناني، عن عكرمة قال: كان مناف في بيت عمرو بن
الجموح فلما قدم مصعب بن عمير المدينة بعث إليهم عمرو: ما
هذا الذي جئتمونا به؟ قالوا: إن شئت جئنا وأسمعناك،
فواعدهم فجاءوا فقرأ عليه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
الْمُبِينِ} [يوسف: 1] فقرأ ما شاء الله أن يقرأ، فقال:
إِنَّ لَنَا مُؤَامَرَةً فِي قَوْمِنَا -وَكَانَ سَيِّدَ
بني سلمة- فخرجوا، فدخل عَلَى مَنَافٍ، فَقَالَ: يَا
مَنَافُ! تَعْلَمُ وَاللهِ مَا يُرِيْدُ القَوْمُ غَيْرَكَ
فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ نكير؟ قال: فقلده سيفا وخرج فقام
أهله فأخذوا السيف فجاء فوجدهم أخذوا السيف، فقال: يا مناف
أين السيف وَيَحْكَ، إِنَّ العَنْزَ لَتَمْنَعُ اسْتَهَا،
وَالله مَا أَرَى فِي أَبِي جِعَارٍ غَداً مِنْ خَيْرٍ.
ثُمَّ قَالَ لَهُم: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى مَالِي فاستوصوا
بمناف خيرا فذهب فكسروا مناف وربطوه
(1/421)
مع كلب ميت. فلما جاء رأى مناف, فبعث إلى
قومه فجاءوه، فَقَالَ: أَلَسْتُم عَلَى مَا أَنَا
عَلَيْهِ؟ قَالُوا: بلى، أنت سيدنا. قال: فإني أشهدكم أني
قد آمنت بمحمد فلما كان يوم أحد قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض". فقام وهو
أعرج، فقاتل حتى قتل.
أبو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "نعم الرجل
عمرو بن الجموح".
وروى مُحَمَّدُ بنُ مُسلمٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ دِيْنَارٍ،
وروى فطر بنِ خَلِيْفَةَ, عَنْ حَبِيْبِ بنِ أَبِي ثَابِتٍ
وغيرهما، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: يَا بَنِي سَلِمَة مَنْ سَيِّدُكُم؟
قَالُوا: الجدُّ بنُ قَيْسٍ، وَإِنَّا لَنُبَخِّلُهُ،
قَالَ: وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ البُخْلِ؟ بَلْ
سَيِّدُكُم الجَعْدُ الأَبْيَضُ عمرو بن الجموح.
وقد قال الواقدي: لم يشهد بدرا, ولما أراد الخروج إلى أحد
منعه بنوه وقالوا: قد عذرك الله وبك عرج، فَأَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: "أما أنت فقد عذرك الله". وقال
لبنيه: "لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة". فخرج فاستشهد
هُوَ وَابْنُهُ خَلاَّدٌ.
إِسْرَائِيْلُ عَنْ سَعِيْدِ بنِ مَسْرُوْقٍ, عَنْ أَبِي
الضُّحَى, أَنَّ عَمْرَو بنَ الجموح قال لبنيه:
مَنَعْتُمُوْنِي الجَنَّةَ يَوْمَ بَدْرٍ وَاللهِ لَئِنْ
بَقِيْتُ لأدخلن الجنة. فكان يوم أحد في الرعيل الأول.
وقال حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوْبَ عَنْ أَبِي
الزبير عن جابر قال: استصرخنا إلى قتلانا يوم أحد وذلك حين
أجرى معاوية العين فأتيناهم فأخرجناهم تتثنى أطرافهم
رطابا، على رأس أربعين سنة. قال حماد: وزادني صاحب لي في
الحديث: أصاب قدم حمزة فانثعب دما.
وقال ابن عيينة عن الأسود، عن نبيح العنزى، عَنْ جَابِرٍ،
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم.
وقال أبو عوانة: حدثنا الأَسْوَدِ بنِ قَيْسٍ، عَنْ
نُبَيْحٍ العَنَزِيِّ، عَنْ جابر قَالَ: خَرَجَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، إلى المشركين لقتالهم
فقال لي أبي: ما عليك أن تكون في النظارة حتى تعلم إلى ما
يصير أمرنا, فوالله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن
تقتل بين يدي فبينما أنا في النظارين إذ جاءت عمتي بأبي
وخالي عادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في
مقابرنا، فجاء رجل ينادي: إِلاَّ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمركم أن ترجعوا
بالقتلى فتدفنوها في مصارعها فبينما أنا في خلافة معاوية،
إذ جاءني رجل فقال: يا جابر، قد والله أثار أباك عمال
معاوية فبدت طائفة منه قال: فأتيته فوجدته على النحو الذي
تركته لم يتغير منه شيء إلا ما لم يدع القتيل، فواريته.
(1/422)
وقال حسين المعلم، عن عطاء عن جابر، قال:
لما حضر أحد قال أبي: ما أراني إلا مقتولا، وإني لا أترك
بعدي أعز عليَّ منك غير نفس رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ عليَّ دينا فاقض واستوص
بأخواتك خيرا فأصبحنا فكان أول قتيل فدفنت معه آخر في قبر،
ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر،
فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه.
أخرجه البخاري.
وقال الزهري، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ كَعْبِ بنِ
مَالِكٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يجمع بين الرجلين من قتلى
أحد في ثوب ثم يقول: أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له
إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم
القيامة وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا.
أخرجه البخاري عن قتيبة عن الليث عنه.
وقال أيوب، عَنْ حُمَيْدِ بنِ هِلاَلٍ عَنْ هِشَامِ بنِ
عامر قال: قالوا يوم أحد: يا رسول الله قد أصابنا قرح وجهد
فكيف تأمر؟ قال: "احفروا وأوسعوا وأعمقوا واجعلوا الاثنين
والثلاثة في القبر، وقدموا أكثرهم قرآنا".
ومنهم من يقول: حميد بن هلال، عن سعيد بن هشام بن عامر، عن
أبيه.
وقال شعبة, عن ابن المنكدر: سمعت جابرا يقول: لما قتل أبي
جعلت أبكي وأكشف الثوب عنه، وجعل أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم ينهوني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا
ينهاني، وقال: "لا تبكيه -أو- ما تبكيه، فما زالت الملائكة
تظله بأجنحتها حتى رفعتموه". أخرجاه.
وأخرج البخاري من حديث جَابِرٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بدفن قتلى أحد في
دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. وكان يجمع بين الرجلين
في الثوب الواحد, ثم يقول: أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا
أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد.
وقال علي بن المديني: حدثنا موسى بن إبراهيم الأنصاري، سمع
طلحة بن خراش، قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: نظر إليَّ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ: "ما لي أراك مهتما"؟. قلت: يا رسول الله قتل أبي
وترك دينا وعيالا، فقال: "ألا أخبرك؟ ما كلم الله أحدا إلا
من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا, فقال له: يا عبدي سلني
أعطك، فقال: أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا
فَأُقْتَلَ فِيْكَ ثَانِياً، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ
مِنِّي أَنَّهُم إِلَيْهَا لاَ يُرْجَعُوْنَ، قَالَ يَا
رَبِّ فَأَبْلِغْ من ورائي". فأنزل الله -عز وجل: {وَلا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] .
ويروى نحوه عن عروة، عن عائشة.
(1/423)
وكان أبو جابر من سادة الأنصار شهد بدرا،
وهو أحد النقباء ليلة العقبة، وهو عَبْدُ اللهِ بنُ
عَمْرِو بنِ حَرَامِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ حَرَامِ بنِ
كَعْبِ بنِ غَنْمِ بنِ كعب بن سلمة وأمه الرباب بنت قيس من
بني سلمة شهد معه العقبة ولده جابر.
وقال إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن جده، قال: أتي ابن عوف
بطعام فقال: قتل مصعب بن عمير -وكان خيرا مني- فلم يوجد له
إلا بردة يكفن فيها، ما أظننا إلا قد عجلت لنا طيباتنا في
حياتنا الدنيا. أخرجه البخاري.
وقال الأعمش عن أبي وائل عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: هَاجَرْنَا
مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله،
فوجب أجرنا على الله فمنا من ذهب لم يأكل من أجره، وكان
مِنْهُم مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، ولم
يكن له إلا نمرة، كنا إذا غطينا رأسه خرجت رجلاه، وإذا
غطينا رجليه خرج رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "غطوا بها رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا
عَلَى رِجلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ". وَمِنَّا من أينعت له
ثمرته فهو يهدبها. متفق عليه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن
إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: كانت امرأة من
الأنصار من بني دينار قد أصيب زوجها وأخوها يوم أحد فلما
نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالوا: خيرا، يا أم فلان. فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه
فأشاروا لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل؛
أي: هين. ويكون في غير ذا بمعنى عظيم.
وعن أبي برزة أن جليبيبا كان من الانصار فقال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ لرجل:
"زوجني ابنتك" قال: نعم ونعمة عين. قال: "لست أريده لنفسي"
قال: فلمن؟ قال: "لجليبيب" قال: حتى أستأمر أمها. فأتاها
فأجابت: لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنَّمَا يريد ابنتك لجليبيب. قالت:
ألجليبيب؟ لا لعمر الله لا أزوجه فلما قام أبوها ليأتي
النبي صلى الله عليه وسلم قالت الفتاة من خدرها لأبويها:
من خطبني؟ قالا: رسول الله. قالت: أفتردون عليه أمره؟
ادفعوني إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فإنه لن يضيعني. فذهب أَبُوْهَا إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
شأنك بها فزوجها جليبيبا، ودعا لهما. فبينما رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مغزى له قال: "هل تفقدون من أحد"؟.
قالوا: نفقد فلانا ونفقد فلانا قال: "لكني أفقد جليبيبا".
فاطلبوه, فنظروا فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا مني وأنا منه قتل
سبعة ثم قتلوه". فوضعوه على ساعديه ثم حفروا له، ماله سرير
إلا ساعدا رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى وضعه في قبره. قال ثابت البناني: فما في
الأنصار أنفق منها.
(1/424)
أخرجه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت،
عن كنانة بن نعيم، عن أبي برزة.
وقال الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُرَّةَ، عَنْ
مسروق: سألنا عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى: {وَلا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] ، قال: أما
إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر تسرح
في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. قال:
فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: سلوني ما
شئتم. فقالوا: يا ربنا وما نسألك ونحن نسرح في الجنة في
أيها شئنا؟ فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا. قالوا:
نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا فنقتل في
سبيلك.
فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا، تركوا. أخرجه مسلم.
وقال عبد الله بن إدريس، عن مُحَمَّدَ بنَ إِسْحَاقَ، عَنْ
إِسْمَاعِيْلَ بنِ أُمَيَّةَ، عن أبي الزبير عَنْ سَعِيْدِ
بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا أُصِيْبَ
إِخْوَانُكُم بِأُحُدٍ، جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُم فِي
أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الجَنَّةِ
وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيْلَ
مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ العَرْشِ فَلَمَّا
وَجَدُوا طِيْبَ مَأْكَلِهِم وَمَشْرَبِهِم وَمَقِيْلِهِم،
قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عنا أنا أَحْيَاءٌ
فِي الجَنَّةِ نُرْزَقُ، لِئَلاَّ يَنْكلُوا عِنْدَ
الحَرْبِ وَلاَ يَزْهَدُوا فِي الجِهَادِ قَالَ اللهُ
تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فَأُنْزِلَتْ: {وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل
عمران: 169] ".
وَقَالَ يُوْنُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي
عَاصِمٌ بن عمر بن قتادة، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ
جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيْهِ: سَمِعْتُ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُوْلُ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ أُحُدٍ: "أَمَا وَاللهِ
لَوَدِدْتُ أَنِّي غُوْدِرْتُ مَعَ أصحاب نحص الجبل".
يقول: قتلت معهم.
وقال اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيْدَ بنِ أَبِي حَبِيْبٍ، عَنْ
أبي الخير، عن عقبة بن عَامِر، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْماً
فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَه عَلَى المَيِّتِ،
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَر فَقَالَ: "إني فرطكم وأنا
شهيد عليكم" 1. الحديث أخرجه البخاري.
وروى العطاف بن خالد: حدثني عَبْدِ الأَعْلَى بنِ عَبْدِ
اللهِ بنِ أَبِي فروة، عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ قبور الشهداء
بأحد.
وروى عبد العزيز بن عمران بن موسى, عن عباد بنِ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِيْهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يأتي
قبور الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب يقول: "السلام عليكم
بما صبرتم فنعم عقبى الدار". وكان يفعله أبو بكر ثم عمر
بعده ثم عثمان.
وذكر نحو هذا الحديث الواقدي في "مغازيه" بلا سند.
وقال أبو حسان الزيادي: ومات في شوال يوم جمعة عمرو بن
مالك الأنصاري أحد بني النجار، فخرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى أحد فصلى عليه في موضع الجبان. وكان أول من
فعل به ذلك.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "4/ 149 و153-154"، والبخاري "1344"
و"3596" و"4085" و"6426" و"6590"، ومسلم "2296"، وأبو داود
"3223"، والنسائي "4/ 61-62"، والطحاوي "1/ 504"، والبيهقي
"4/ 14"، والطبراني في "الكبير" "17/ 767"، والبغوي "3823"
من طرق عن الليث بن سعد، به.
(1/425)
غزوة حمراء الأسد:
قال ابن إسحاق: فلما كان الغد من يوم الأحد يعني صبيحة
وقعة أحد؛ أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس
لطلب العدو، وأذن مؤذنه: "لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر
يومنا بالأمس". وإنما خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرهبا للعدو ليبلغهم أنه قد
خرج في أثرهم وليظنوا به قوة.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة قال: قدم رجل
فاستخبره النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان فقال:
نازلتهم فسمعتهم يتلاومون، يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا
شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثم تركتموهم ولم تبيدوهم،
وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم. فامر رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ -وبهم أشد القرح-
بطلب العدو، ليسمعوا بذلك. وقال: "لا ينطلقن معي إلا من
شهد القتال". فقال عبد الله بن أبي: أركب معك؟ قال: لا.
فاستجابوا لله والرسول على ما بهم من البلاء. فانطلقوا،
فطلبهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ حمراء الأسد.
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت،
عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان؛ أن رَجُلاً مِنْ
أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من
بني عبد الأشهل قال: شهدت أحدا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين, فلما أذن مؤذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي، فقال
لي: تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ووالله
ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح. فخرجنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جراحة منه، فكان إذا
غلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه
المسلمون. فخرج رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة
على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاث ثم رجع.
(1/426)
وقال هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ،
عَنْ عَائِشَةَ، قالت: يابن أختي كان أبواك تعني
-الزُّبَيْرَ وَأَبَا بَكْرٍ- مِن الَّذِيْنَ اسْتَجَابُوا
لِلِّهِ والرسول من بعد ما أصابهم القرح قال: لَمَّا
انْصَرَفَ المُشْرِكُوْنَ مِنْ أُحُدٍ وَأَصَابَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ، خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا
فَقَالَ: "مَنْ يُنْتَدَبُ لِهَؤُلاَءِ فِي آثَارِهِمْ
حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ بِنَا قُوَّةً"؟. قال: فانتدب أبو
بكر والزبير في سبعين خرجوا في آثار القوم فسمعوا بهم
وانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ
يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ قال: لم يلقوا عدوا1. أخرجاه.
وقال ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي
بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ أن معبدا الخزاعي مر برسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد وكانت خزاعة مسلمهم
ومشركهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، صفوهم
معه لا يخفون عليه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال:
يا محمد، والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا
أن الله عافاك فيهم ثم خرج حتى لقي أبا سفيان ومن معه
بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة وقالوا: أصبنا حد أصحاب محمد
وقادتهم, ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكون على بقيتهم
فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك؟
قال: محمد قد خرج في طلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون
عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم،
وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله
قط. قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى
ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم
لنستأصلهم. قال: فإني أنهاك ذاك، والله لقد حملني ما رأيت
على أن قلت فيهم أبياتا. قال: وما قلت؟ قال:
كادت تهدمن الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد
الأبابيل2
تردي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل3
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت4 البطحاء
بالجيل5
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4077" حدثنا محمد حدثنا أبو معاوية
عن هشام به.
2 الجرد: من الخيل والدواب كلها: القصير الشعر. وفرس أجرد:
قصير شعر، والأبابيل: الجماعات.
3 المعازيل: الذين لا سلاح معهم.
4 تغطمطت: التغطط هو الصوت مع بحح.
5 الجيل: كل صنف من الناس.
(1/427)
إني نذرت لأهل البسل ضاحية ... لكل ذي إربة
منهم ومعقول1
من جيش أحد لا وخش تنابلة ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل2
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومر ركب من عبد القيس،
فقال أبو سفيان: أين تريدون؟ قالوا: المدينة لنمتار. فقال:
أما أنتم مبلغون عني محمدا رسالة، وأحمل لكم على إبلكم هذه
زبيبا بعكاظ غدا إذا وافيتموه؟ قالوا: نعم. قال: إذا جئتم
محمدا فأخبروه أنا قد أجمعنا الرجعة إلى أصحابه لنستأصلهم.
فلما مر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء
الأسد أخبروه, فقال هو والمسلمون: "حسبنا الله ونعم
الوكيل". فأنزلت: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:
173] الآيات.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق: وكان عبد الله بن أبي بن
سلول، كما حدثني الزهري، له مقام يقومه كل جمعة لا يتركه
شرفا له في نفسه وفي قومه. فكان إذا جلس رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الجمعة يخطب قام
فقال: أيها الناس هَذَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به،
فعزروه وانصروه واسمعوا له وأطيعوا. ثم يجلس حتى إذا صنع
يوم أحد ما صنع ورجع الناس، قام يفعل كفعله، فأخذ المسلمون
ثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس أي عدو الله، لست لذلك
بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس ويقول:
والله لكأني قلت هجرا أن قمت أشد أمره. فلقيه رجال من
الأنصار بباب المسجد فقالوا: ما لك؟ ويلك! قال: قمت أشد
أمره فوثب عليَّ رجال من أصحابه يجبذونني ويعنفونني،
لكأنما قلت هجرا. قال: ويلك ارجع يستغفر لَكِ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: والله ما
أبغي أن يستغفر لي.
فائدة: قال الواقدي: حدثنا إبراهيم بن جعفر، عن أبيه
وحدثنا سعيد بن محمد بن أبي زيد، قال: حدثنا يحيى بن عبد
العزيز بن سعيد، قالوا: كان سويد بن الصامت قد قتل ذيادا،
فقتله به المجذر بن ذياد, فهيج بقتله وقعة بعاث. فلما
قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المَدِيْنَةَ أسلم المجذر، والحارث بن سويد بن الصامت،
فشهدا بدرا. فجعل الحارث يطلب مجذرا ليقتله بأبيه. فلما
كان يوم أحد أتاه من خلفه فقتله.
__________
1 أهل البسل: البسل ثمانية أشهر حرم كانت لقوم لهم صيت
وذكر في غطفان وقيس. والمقصود أهل غطفان وقيس أو أهل مكة.
والضاحية: البارزة للشمس. وذي الإربة: الإربة والأربة:
الدهاء والبصر بالأمور، وهو من العقل.
2 الوخش: رذالة الناس وصغارهم وغيرهم.
والتنابلة: قال ابن سيدة: التنبال والتنبل والتنبالة الرجل
القصير.
(1/428)
فلما رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حمراء الأسد أتاه جبريل فأخبره
بأنه قتل مجذرا. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
قباء، فأتاه الحارث بن سويد في ملحفة مورسة. فلما رآه دعا
عويم بن ساعدة وقال: "اضرب عنق الحارث بمجذر بن ذياد".
فقال: والله ما قتلته رجوعا عن الإسلام ولكن حمية، وإني
أتوب إلى الله وأخرج ديته وأصوم وأعتق وجعل يتمسك بركاب
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ
فرغ من كلامه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قدمه يا
عويم فاضرب عنقه". فضرب عنقه على باب المسجد، والله أعلم.
(1/429)
السنة الرابعة من
الهجرة:
سرية أبي سلمة إلى قطن في أولها:
قال الواقدي: حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد
اليَرْبُوْعِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ
عُمَرُ بنُ أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الأَسَدِ،
وَغَيْرِهِ، قَالُوا: شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ أُحُداً،
وَكَانَ نازلا في بني أمية بن زيد بالعالية، حين تحول من
قباء فَجُرِحَ بِأُحُدٍ، وَأَقَامَ شَهْراً يُدَاوِي
جُرْحَهُ. فَلَمَّا كان هلال المحرم دعاه رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "اخرج في هذه
السرية فقد استعملتك عليها". وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً
وَقَالَ: "سِرْ حَتَّى تَأْتِيَ أَرْضَ بَنِي أَسَدٍ
فَأَغِرْ عَلَيْهِم". وَكَانَ مَعَهُ خَمْسُوْنَ
وَمَائَةٌ، فَسَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى أَدْنَى قطن
-ماء من مياههم- فيجدون سرحا لبني أسد، فأغاروا عليه
وأخذوا مماليك ثلاثة، وأفلت سائرهم. ثم رجع إلى المدينة
فغاب بِضْع عَشْرَة لَيْلَةً.
قَالَ عُمَرُ بنُ عُثْمَانَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ المَلِكِ
بنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ أَبُو سَلَمَةَ
المَدِيْنَةَ انْتَقَضَ جُرْحُهُ، فَمَاتَ لثلاث بقين من
جمادى الآخرة.
غزوة الرجيع:
وهي في صفر من السنة الرابعة، فيما ورخه الواقدي، وقال: هي
على سبعة أميال من عسفان. فحدثني موسى بن يعقوب، عن أبي
الأسود، قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب الرجيع عيونا إلى مكة ليخبروه.
قال إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب: أخبرني عمر بن أسيد بن
جارية الثقفي، أن أبا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة رهط عينا،
وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري, فانطلقوا
حتى إذا كانوا بالهدأة؛ بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل
يقال لهم: بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام.
فاقتصوا آثارهم, حتى وجدوا مأكلهم التمر، فقالوا: نوى
يثرب، فاتبعوا آثارهم. فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا
إلى قردد، أي: فدفد من الأرض فأحاط بهم القوم، فقالوا لهم:
انزلوا -فأعطوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل
منكم أحدا. فقال عاصم: أما أنا فوالله لا أنزل في ذمة
مشرك, اللهم أخبر عنا نبيك. فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في
سبعة من أصحابه، ونزل إليهم ثلاثة على العهد والميثاق:
خبيب، وزيد بن الدثنة، وآخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا
أوتار قسيهم فربطوهم بها, فقال الرجل الثالث: هذا أول
الغدر، والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة. يريد القتلى
فجروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فقتلوه، وانطلقوا بخبيب،
وزيد، حتى
(1/430)
باعوهما بمكة بعد وقعة بدر. فابتاع بنو
الحارث بن عامر بن نوفل خبيبا. وكان خبيب هو قتل الحارث
يوم بدر.
وفائدة:
قال الدمياطي: هذا وهم، ما شهد خبيب بن عدي الأوسي بدرا
ولا قتل الحارث بن عامر، إنما الذي شهدها وقتله هو خبيب بن
أساف الخزرجي.
رجعٌ, قال: فلبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله،
فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها للقتل فأعارته.
فدرج بني لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مجلسه على فخذه
والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خبيب فقال: أتخشين أن
أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، فقالت: والله ما رأيت أسيرا قط
خيرا من خبيب، والله لقد رأيته، أو وجدته، يأكل قطفا من
عنب وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه
لرزق رزقه الله خبيبا. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في
الحل قال لهم: دعوني أركع ركعتين. فتركوه فركع ركعتين، ثم
قال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع من القتل لزدت،
اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، وقال:
فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله
مصرعي
وذلك في ذات الاله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قال إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله.
وكان خبيب هو سن لكل مسلم، قتل صبرا، الصلاة.
واستجاب الله لعاصم يوم أصيب، فأخبر رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يوم أصيبوا خبرهم.
وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت ليؤتوا منه بشيء يعرف،
وكان قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله على عاصم مثل
الظلة من الدبر، فحمته من رسلهم فلم يقدروا على أن يقطعوا
منه شيئا.
أخرجه البخاري1.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3989"، وأحمد "2/ 294-295" من طريق
إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، به.
وقوله "الدبر": بسكون الباء النحل وقيل: "الزنابير.
والظلة: السحاب".
(1/431)
وقال موسى بن عقبة، وغير واحد: بَعَثَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاصم بن
ثابت وأصحابه عينا له، فسلكوا النجدية، حتى إذا كانوا
بالرجيع فذكروا القصة.
قال موسى: ويقال: كان أصحاب الرجيع ستة منهم: عاصم وخبيب
وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق -حليف لبني ظَفَرٍ-
وَخَالِدُ بنُ البُكَيْرِ اللَّيْثِيُّ، وَمَرْثَدُ بنُ
أبي مرثد الغنوي؛ حليف حمزة. وساق حديثهم.
وَقَالَ يُوْنُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي
عَاصِمٌ بن عمر بن قتادة: أن نفرا من عضل والقارة قَدِمُوا
عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المدينة بعد أحد، فقالوا: إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا
من أصحابك ليفقهونا في الدين ويقرئونا القرآن، فَبُعِثَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم
خبيب بن عدي.
قال ابن إسحاق: بعث معهم ستة، أمر عليهم مرثد بن أبي مرثد
الغنوي. وسماهم كما قال موسى.
قال ابن إسحاق: فخرجوا مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع
-ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدور الهدء- غدروا بهم،
فاستصرخوا عليهم هذيلا، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا
الرجال بأيديهم السيوف، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم. فقالوا
لهم: والله ما نريد قتلكم ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من
أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم. أما مرثد،
وعاصم، وابن البكير فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا
ولا عقدا أبدا. وأرادت هذيل أخذ رأس عاصم ليبيعوه من سلافة
بنت سعد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد، لئن قدرت
على عاصم لتشربن في قفحه الخمر، فمنعته الدبر، فانتظروا
ذهابها عنه، فأرسل الله الوادي فحمل عاصما فذهب به.
وقد كان عاصم أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك ولا يمس
مشركا أبدا تنجسا. وأسروا خبيبا وابن الدثنة وعبد الله بن
طارق ثم مضوا بهم إلى مكة ليبيعوهم، حتى إذا كانوا
بالظهران انتزع عبد الله يده من القران ثم أخذ سيفه
واستأخر عن القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره
بالظهران.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني يحيى, عن أبيه عباد بن
عبد الله بن الزبير، عن عقبة بن الحارث سمعته يقول: ما أنا
والله قتلت خبيبا، لأنا كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة
أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي
وبالحربة، ثم طعنه بها حتى قتله.
(1/432)
ثم ذكر ابن إسحاق أن خبيبا قال:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل
مجمع
وكلهم مبدي العداوة جاهد ... علي لأني في وثاق مضيع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند
مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد
ياس مطمعي
وذلك في ذات الاله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد خيروني الكفر والموت دونه ... وقد هملت عيناي من غير
مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت ... ولكن حذاري جحم نار ببلقع
ووالله لم أحفل إذا مت مسلما ... على أي جنب كان في الله
مصرعي
فلست بمبد للعدو تخشعا ... ولاجزعا إني إلى الله مرجعي
وقال يونس بن بكير، وجعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل:
حدثني جعفر بن عمرو بن أمية أن أباه حدثه عن جده، وكان
النبي صلى الله عليه وسلم بعثه عينا؛ قال: فجئت إلى خشبة
خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون، فأطلقته فوقع بالأرض،
ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم التفت فلم أر خبيبا، فكأنما
ابتلعته الأرض.
زاد جعفر بن عون: فلم تذكر لخبيب رمة حتى الساعة.
(1/433)
غزوة بئر معونة:
قال ابن إسحاق: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب بئر معونة في صفر، على رأس أربعة
أشهر من أحد.
وقال موسى بن عقبة قال الزهري: حدثني عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ كَعْبٍ بنِ مَالِكٍ، ورجال من أهل
العلم، أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة، قَدِمَ
عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وهو مشرك، فعرض عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسْلاَمُ، فأبى أن يسلم، وأهدى
لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فقال: "إني لا أقبل
هدية مشرك". فقال: ابعث معي من شئت من رسلك، فأنا لهم جار،
فبعث رهطا، فيهم المنذر بن عمرو الساعدي؛ وهو الذي يقال
له: أعنق ليموت، بعثه عينا له في أهل نجد، فسمع بهم عامر
بن الطفيل، فاستنفر بني عامر، فأبوا أن يطيعوه، فاستنفر
بني سليم فنفروا معه، فقتلوهم ببئر معونة، غير عمرو بن
أمية الضمري، فإنه أطلقه عامر بن الطفيل، فقدم عَلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن إسحاق: حدثني والدي، عَنِ المُغِيْرَةِ بنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بن هشام، وَعَبْدُ اللهِ
بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، وغيرهما، قالوا: قدم أبو
البراء عامر بن مالك بن جعفر، ملاعب الأسنة عَلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فلم
يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت معي
رجالا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن
يستجيبوا لك.
قال: أخشى عليهم أهل نجد قال أبو البراء: أنا لهم جار فبعث
المنذر بن عمرو في أربعين رجلا، فيهم الحارث بن الصمة،
وحرام بن ملحان؛ أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن
الصلت السلمي، ورافع بنِ وَرْقَاءَ الخُزَاعِيُّ،
وَعَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أبي بكر، في رجال من
خيار المسلمين، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، بين أرض بني
عامر وحرة بني سليم.
ثم بعثوا حرام بن ملحان بِكِتَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَامِرِ بنِ
الطُّفَيْلِ، فَلَمْ يَنْظُرْ فِي الكِتَابِ حَتَّى قُتِلَ
الرَّجُلُ ثُمَّ اسْتَصْرَخَ بَنِي سليم فأجابوه وأحاطوا
بالقوم فقاتلوهم حتى استشهدوا كلهم إلا كعب بن زيد، من بني
النجار تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل
يوم الخندق.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية ورجل من الأنصار، فلم
يخبرهما بمصاب القوم إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا:
والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا فنظرا، فإذا القوم في
دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري
لعمرو: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله
عليه وسلم فنخبره الخبر فقال الأنصاري: لكني لم أكن لأرغب
بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لأخبر عنه
الرجال. وقاتل حتى قتل وأسروا عمرا. فلما أخبرهم أنه من
مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه. فلما كان
بالقرقرة أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه،
وكان معهما عهد مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوار لم يعلم به عمرو. حتى إذا ناما
عدا عليهما فقتلهما. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبره، فقال: "قد قتلت
قتيلين، لأدينهما". ثم قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذا عمل أبي براء، قد كنت
لهذا كارها متخوفا". فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار
عامر أبا براء، فحمل ربيعة ولد أبي براء على عامر بن
الطفيل فطعنه في فخذه فأشواه، فوقع من فرسه, وقال: هذا عمل
أبي براء؛ إن مت فدمي لعمي فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى
رأيي.
وقال موسى بن عقبة: ارتث في القتلى كعب بن زيد، فقتل يوم
الخندق.
(1/434)
وقال حماد بن سلمة: أخبرنا ثابت، عن أنس أن
ناسا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث
معنا رجالا يعلموننا القرآن، والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا
من الأنصار يقال لهم القراء، وفيهم خالي حرام بن ملحان،
يقرءون القرآن ويتدارسون بالليل ويتعلمون، وكانوا بالنهار
يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعون
ويشترون به الطعام لأهل الصفة، فبعثهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليهم, فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا
المكان قالوا: اللهم بلغ عنا نبيك أن قد لقيناك فرضيت عنا
ورضينا عنك قال: وأتى رجل خالي من خلفه فطعنه بالرمح حتى
أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأصحابه: "إن إخوانكم قد قتلوا وقالوا:
اللهم بلغ عنا نبينا أن قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا".
رواه مسلم1.
وقال همام وغيره، عَنْ إِسْحَاقُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ
أَبِي طَلْحَةَ: حَدَّثَنِي أَنَسٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خاله حراما في
سبعين رجلا فقتلوا يوم بئر معونة وكان رئيس المشركين عامر
بن الطفيل، وكان أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك أهل
السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك
بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، قال: فطعن في بيت امرأة من
بني فلان فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني فلان
ائتوني بفرسي، فركبه فمات على ظهر فرسه وانطلق حرام ورجلان
معه أحدهما أعرج فقال: كونا قريبا مني حتى آتيهم فإن
آمنوني كنت كفوا، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم. فأتاهم حرام
فقال: أتؤمنوني أبلغكم رسالة رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَجَعَلَ يحدثهم، وأومئوا إلى
رجل فأتاه من خلفه فطعنه, قال همام وأحسبه قال: فزت ورب
الكعبة قال: وقتل كلهم إلا الأعرج، كان في رأس الجبل.
قال أنس: أنزل علنيا، ثم كان من المنسوخ، "إنا قد لقينا
ربنا فرضي عنا وأرضيناه" فَدَعَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثين صباحا على رعل وذكوان
وبني لحيان وعصية عصت الله ورسوله.
أخرجه البخاري، وقال: ثلاثين صباحا، وهو الصحيح2.
وروى نحوه قتادة, وثابت وغيرهما، عن أنس. وبعضهم يختصر
الحديث، وفي بعض طرقه: سبعين صباحا.
قال سليمان بن المغيرة، عن ثابت، قال: كتب أنس في أهله
كتابا فقال: اشهدوا معاشر
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "677" حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عفان،
حدثنا حماد، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4091" حدثنا موسى بن إسماعيل،
حدثنا همام، به.
(1/435)
القراء فكأني كرهت ذلك فقلت: لو سميتم
بأسمائهم وأسماء آبائهم فقال: وما بأس أن أقول لكم معاشر
القراء, أفلا أحدثكم عن إخوانكم الذين كنا ندعوهم عَلَى
عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
القراء؟ قال: فذكر أنس سبعين من الأنصار كانوا إذا جهم
الليل أووا إلى معلم بالمدينة فيبيتون يدرسون، فإذا أصبحوا
فمن كانت عنده قوة أصاب من الحطب واستعذب من الماء ومن
كانت عنده سعة أصابوا الشاة فأصلحوها، فكان معلقا بحجر
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا أصيب خبيب بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكان فيهم خالي حرام فأتوا على حي من بني سليم فقال حرام
لأميرهم: دعني فلأخبر هؤلاء أنا ليس إياهم نريد فيخلون
وجوهنا. فأتاهم فقال ذلك، فاستقبله رجل منهم برمح فأنفذه
به. قال: فلما وجد حرام مس الرمح قال: الله أكبر فزت ورب
الكعبة. قال: فانطووا عليهم فما بقي منهم مخبر. قال: فما
رَأَيتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وجد على شيء وجده عليهم. فقال أنس: لَقَدْ رَأَيْتُ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلما
صلى الغداة رفع يديه يدعو عليهم, فلما كان بعد ذلك، إذا
أبو طلحة يقول: هل لك في قاتل حرام؟ قلت: ما له، فعل الله
به وفعل. فقال: لا تفعل، فقد أسلم.
وقال أَبُو أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيْهِ،
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كان عامر بن فهيرة غلاما لعبد
الله بن الطفيل بن سخبرة، أخي عائشة لأمها؛ وكانت لأبي بكر
منحة، فكان يروح بها ويغدو، ويصبح فيدلج إليهما ثم يسرح
فلا يفطن به أحد من الرعاء، ثم خرج بهما يعقبانه حتى قدم
المدينة معهما. فقتل عامر بن فهيرة يوم بئر معونة، وأسر
عمرو بن أمية. فقال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ وأشار إلى
قتيل قال: هذا عامر بن فهيرة فقال: لقد رأيته بعدما قتل
رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض.
وذكر الحديث. أخرجه البخاري1.
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي البراء على
عامر بن الطفيل:
بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أجدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4093" حدثنا عبيد بن إسماعيل،
حدثنا أبو أسامة به.
(1/436)
ذكر الخلاف في غزوة بني النضير, وقد تقدمت
في سنة ثلاث:
ذهب الزهري إلى أنها كانت قبل أحد وقال غير واحد: كانت بعد
أحد، وبعد بئر معونة.
أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن، قال: أَخْبَرَنَا الحَسَنُ
بنُ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بن البن، قال: أخبرنا جدي،
قال: أخبرنا أبو القاسم المصيصي، قال: أخبرنا عبد الرحمن
بن أبي نصر، قال: أخبرنا علي بن أبي العقب، قال: أخبرنا
أحمد بن إبراهيم, قال: حدثنا محمد بن عائذ، قال: حدثنا
الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، عن
عروة، قَالَ: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم في نفر من أصحابه إلى بني النضير يستعينهم
في عقل الكلابيين. وكانوا -زعموا- قد دسوا إلى قريش حين
نزلوا بأحد لقتال رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ يحضونهم على القتال ودلوهم على
العورة فلما كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقل
الكلابيين، قالوا: اجلس أبا القاسم، حتى تطعم وترجع
بحاجتك. ثم ساق الحديث كله، وتقدم ذكره.
وقال الواقدي: حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه قال: لما
خرجت بنو النضير أقبل عمرو بن سعدى فأطاف بمنازلهم، فرأى
خرابها وفكر ثم رجع إلى بني قريظة فيجدهم في الكنيسة فينفخ
في بوقهم، فاجتمعوا فقال الزبير بن باطا: يا أبا سعيد أين
كنت منذ اليوم؟ وكان لا يفارق الكنيسة وكان يتأله في
اليهودية, قال: رأيت اليوم عبرا قد عبرنا بها، رأيت منازل
إخواننا خالية بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل والعقل
البارع، قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل.
ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة. فقد
أوقع قبل ذلك بابن الأشرف ذي عزهم، بيته في بيته آمنا،
وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم وهم جد
يهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم فلم يخرج منهم
إنسان رأسه حتى سباهم، وكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من
يثرب، يا قوم قد رأيتم ما رأيت فأطيعوني وتعالوا نتبع
محمدا، فوالله إنكم لتعلمون أنه نبي، وقد بشرنا به وبأمره
ابن الهيبان وابن جواس، وهما أعلم يهود، جاءانا من بيت
المقدس يتوكفان قدومه، أمرا باتباعه، وأمرانا أن نقرئه
منهما السلام، ثم ماتا على دينهما، فأسكت القوم، فأعاد هذا
القول ونحوه، وتخوفهم بالحرب والسباء والجلاء. فقال ابن
باطا: قد والتوراة قرأت صفته التي أنزلت على موسى، ليس في
المثاني التي أحدثنا. فقال له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا
عبد الرحمن من اتباعه؟ قال: أنت. قال كعب: ولم -والتوراة-
ما حلت بينك وبينه قط. قال الزبير: أنت صاحب عهدنا وعقدنا
فإن اتبعته اتبعناه وإن أبيت أبينا. فأقبل عمرو بن سعدى
على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال كعب: ما عندي
في أمره إلا ما قلت، ما تطيب نفسي أن أصبر تابعا.
وقال ابن إسحاق: كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة
أربع وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ست ليال، ونزل
تحريم الخمر، والله أعلم.
(1/437)
غزوة بني لحيان:
قال ابن إسحاق: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جمادى الأول، على رأس ستة أشهر من
صلح بني قريظة إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع: خبيب
وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، عن عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي
بَكْرٍ بنِ مُحَمَّدِ بن حزم، وغيره، قالوا: لما أصيب خبيب
وأصحابه خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طالبا لدمائهم ليصيب من بني لحيان غرة، فسلك
طريق الشام وورَّى على الناس أنه لا يريد بني لحيان، حتى
نزل أرضهم -وهم من هذيل- فوجدهم قد حذروا فتمنعوا في رءوس
الجبال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنا هبطنا
عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة". فخرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مائتي راكب حتى نزل عسفان، ثم بعث
فارسين حتى جاءا كراع الغميم ثم انصرفا إليه. فذكر أبو
عياش الزرقي أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صلى بعسفان صلاة الخوف.
وقال بعض أهل المغازي: إن غزوة
بني لحيان كانت بعد قريظة، فالله أعلم.
(1/438)
غزوة ذات الرقاع:
قال ابن إسحاق: إنها في جمادى الأولى سنة أربع، وهي غزوة
خصفة من بني ثعلبة من غطفان.
وقال محمد بن إسماعيل رحمه الله: كانت بعد خيبر، لأن أبا
موسى جاء بعد خيبر، يعني وشهدها قال: وإنما جاء أبو هريرة
فأسلم أيام خيبر.
وقال ابن إسحاق: في هذه الغزوة سَارَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نزل نخلا، فلقي
بها جمعا من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب. وقد
خاف الناس بعضهم بعضا، حتى صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه صلاة الخوف ثم انصرف
بالناس.
وقال الواقدي: إنما سميت ذات الرقاع لأنه جبل كان فيه بقع
حمرة وسواد وبياض، فسمي ذات الرقاع. قَالَ: وَخَرَجَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لعشر خلون من
المحرم، على رأس سبعة وأربعين شهرا، قدم صرارا لخمس بقين
من المحرم.
وذات الرقاع قريبة من النخيل بين السعد والشقرة.
(1/438)
قال الواقدي: فحدثني الضحاك بن عثمان، عن
عبيد الله بن مقسم، عن جابر، وحدثني هِشَامُ بنُ سَعْدٍ،
عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عن جابر، قال: وعن مالك، وغيره،
عن وهب بن كيسان، عن جابر، قال: قدم قادم بجلب له، فاشترى
بسوق النبط، وقالوا: من أين جلبك؟ قال: جئت به من نجد، وقد
رأيت أنمارا وثعلبة قد جمعوا لكم جموعا، وأراكم هادين
عنهم. فبلغ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَوْلَه، فخرج في أربعمائة من أصحابه -وقيل
سبعمائة- وسلك على المضيق ثم أفضى إلى وادي الشقرة، فأقام
بها يوما، وبث السرايا، فرجعوا إليه مع الليل وأخبروه أنهم
لم يروا أحدا، وقد وطئوا آثارا حديثة. ثم سار النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ، حتى
أتى محالهم، فإذا ليس فيها أحد، وهربوا إلى الجبال، فهم
مطلون على النبي صلى الله عليه وسلم. وخاف الناس بعضهم
بعضا. وفيها صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه صلاة الخوف.
وقال عبد الملك بن هشام: وإنما قيل لها ذات الرقاع لأنهم
رقعوا فيها راياتهم. قال: ويقال ذات الرقاع شجرة هناك
والظاهر أنهما غزوتان.
وقال شعيب، عن الزهري: حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي،
وأبو سلمة, عن جابر أنه غزا مع رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نجد، فلما قفل قفل معه،
فأدركته القائلة في واد كثير العِضَاه، فنزل وتفرق الناس
في العضاه يستظلون بالشجر، وقال هو تحت شجرة فعلق بها
سيفه، فنمنا نومة، فَإِذَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعونا فأجبناه، فإذا عنده أعرابي
جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا اخترط
سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك
مني؟ قلت: الله. فشام السيف وجلس". فلم يعاقبه رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ فعل ذلك.
متفق عليه. وشام: أغمد.
قال أبو عوانة، عن أبي بشر: اسم الأعرابي "غورث بن
الحارث".
ثم روى أبو بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر، قال: قاتل
رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب بن خصفة بنخل، فرأوا
من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث،
حتى قام على رَأْس رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ قال: "الله". قال:
فسقط السيف من يده فأخذه رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "من يمنعك مني"؟. قال: كن خير
آخذ. قال: "تشهد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَأَنِّي
رَسُوْلُ الله"؟. قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك،
ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال:
جئتكم من عند خير الناس ثم ذكر صلاة الخوف، وأنه صلى بكل
طائفة ركعتين وهذا حديث صحيح إن شاء الله.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان، عن جابر
بن عبد الله، قَالَ:
خَرَجْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلما قف رسول
الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف،
حتى أدركني رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: ما لك يا جابر؟ قلت: يا رسول الله أبطأ
بي جملي هذا. قال: أنخه وساق قصة الجمل.
(1/439)
غزوة بدر الموعد:
قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، وروى عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استنفر
المسلمين لموعد أبي سفيان بدرا. وكان أهلا للصدق والوفاء
صلى الله عليه وسلم، فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس،
فمشوا في الناس يخوفونهم، وقالوا: قد أخبرنا أن قد جمعوا
لكم مثل الليل من الناس، يرجون أن يوافقوكم فيتنهبوكم،
فالحذر الحذر لا تغدوا. فعصم الله المسلمين من تخويف
الشيطان فاستجابوا لله ولرسوله وخرجوا ببضائع لهم، وقالوا:
إن لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا له، وإن لم نلقه ابتعنا
ببضائعنا. وكان بدر متجرا يوافى في كل عام. فانطلقوا حتى
أتوا موسم بدر، فقضوا منه حاجتهم، وأخلف أبو سفيان الموعد،
فلم يخرج هو ولا أصحابه.
وأقبل رجل من بني ضمرة، بينه وبين المسلمين حلف، فقال:
والله إن كنا لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعملكم
إلى أهل هذا الموسم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وهو يريد أن يبلغ ذلك عدوه من قريش: "أعملنا إليه موعد أبي
سفيان وأصحابه وقتالهم، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى
قومك حلفهم ثم جالدناكم". فقال الضمري: معاذ الله.
قال: وذكروا أن ابن الحمام قدم على قريش، فقال: هذا محمد
وأصحابه ينتظرونكم لموعدكم فقال أبو سفيان: قد والله صدق
فنفروا وجمعوا الأموال فمن نشط منهم قووه، ولم يقبل من أحد
منهم دون أوقية ثم سار حتى أقام بمجنة من عسفان ما شاء
الله أن يقيم، ثم ائتمر هو وأصحابه، فقال أبو سفيان: ما
يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه السمر وتشربون من اللبن، ثم
رجع إلى مكة، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة بنعمة من الله وفضل، وكانت تلك الغزوة تدعى غزوة
جيش السويق. وكانت في شعبان سنة أربع.
وقال الواقدي: كانت بدر الموعد، وتسمى بدر الصغرى, لهلال
ذي القعدة على رأس خمسة وأربعين شهرا من مهاجره -عليه
الصلاة والسلام- وأنه خرج في ألف وخمسمائة من أصحابه،
واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وكان موسم بدر
يجتمع فيه العرب لهلال ذي القعدة إلى ثامنه. فأقام بها
المسلمون ثمانية أيام وباعوا بضائع، فربح الدرهم درهما،
فانقلبوا بنعمة من الله وفضل.
(1/440)
غزوة الخندق:
قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع. وقال ابن إسحاق:
كانت في شوال سنة خمس. فالله أعلم.
ويقوي الأول قول ابن عمر: إنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع
عشرة، فلم يجزه النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه يوم
الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه لكن هذه التقوية مردودة
بما سنذكره في سنة خمس، إن شاء الله تعالى.
وفيها: توفي عبد الله ابن رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو عثمان -رضي
الله عنه- عن ست سنين ونزل أبوه في حفرته.
وفيها: في شعبان ولد الحسين بن علي -رضي الله عنهما.
وفيها قتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وأصحابه. وقد ذكروا.
وكنية عاصم: أبو سليمان، واسم جده أبي الأقلح: قيس بن عصمة
من بني عمرو بن عوف، ومن ذريته الأحوص الشاعر ابن عبد لله
بن محمد بن عاصم بن ثابت.
وكان عاصم من الرماة المذكورين، ثبت يوم أحد وقتل غير
واحد، وشهد بدرا.
وقتل يوم بئر معونة من الصحابة:
عامر بن فهيرة مولى الصديق -رضي الله عنه- وكان من سادة
المهاجرين.
ومن قريش: الحكم بن كيسان المخزومي، ونافع بن بديل بن
ورقاء السهمي.
وقتل يومئذ من الأنصار: الحارث بن الصمة بن عمرو بن عتيك
بن عمرو بن مبذول أبو سعد. فعن محمد بن إبراهيم التيمي،
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى
بَيْنَ الحارث بن الصمة وصهيب. وقال الواقدي: شهد الحارث
أحدا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعه على
الموت، وقتل عثمان بن عبد الله بن المغيرة. وعن المسور بن
رفاعة أن الحارث خَرَجَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى بدر، فكسر بالروحاء، فَرَدَّهُ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى
المدينة وضرب له بسهمه وأجره قال ابن سعد: وله ذرية
بالمدينة وبغداد.
حرام بن ملحان، واسم ملحان مالك بنِ خَالِدِ بنِ زَيْدِ
بنِ حَرَامِ بنِ جُنْدَبِ بنِ عَامِرِ بنِ غَنْمِ بنِ
عَدِيِّ بن النجار، شهد بدرا، وهو أخو أم سليم, قال لما
طعن يوم بئر معونة: فزت ورب الكعبة، رحمه الله ورضي عنه.
عطية بن عمرو، من بني دينار. وهذا لم أره في الصحابة لابن
الأثير.
(1/441)
المنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان
بن عبد ود الساعدي، أحد النقباء ليلة العقبة. شهد بدرا
وأحدا. وخنيس هو المعروف بالمعنق ليموت.
أنس بن معاوية بن أنس، أحد بني النجار.
أبو شيخ بن ثابت بن المنذر، وسهل بن سعد، من بني النجار
كلاهما.
معاذ بن ناعض الزرقي، بدري. عروة بن الصلت السلمي حليف
الأنصار.
مالك بن ثابت، وأخوه: سفيان كلاهما من بني النبيت.
فهؤلاء الذين حفظت أسماؤهم من الشهداء السبعين الذين صح
أنه نزل فيهم: "بلغو عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا
وأرضانا" ثم نسخت.
وقيل: بل كانوا اثنين وعشرين راكبا. ولعل الراوي عد الركاب
دون الرجالة.
أخبرنا إسماعيل بن أبي عمرو، أخبرنا ابن البن، قال: أخبرنا
جدي، قال: أخبرنا ابن أبي العلاء، قال: أخبرنا ابن أبي
نصر، قال: أخبرنا ابن أبي العقب، قال: أخبرنا أحمد بن
البسري، قال: حدثنا محمد بن عائذ، قال: أخبرني حجوة بن
مدرك الغساني، عن الحسن بن عمارة، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ
مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: بعث
عامر بن مالك ملاعب الأسنة إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابعث إليَّ رهطا ممن معك
يبلغوني عنك وهم في جواري. فأرسل إليه المنذر بن عمرو -رضي
الله عنه- في اثنين وعشرين راكبا، فلما أتوا أداني أرض بني
عامر بعث أربعة ممن معه إلى بعض مياههم، أو قال إلى بعضهم
قال: وسمع عامر بن الطفيل فأتاهم فقاتلهم فقتلهم قال: ورجع
الأربعة رهط الذين كان وجه بهم المنذر، فلما دنوا إذا هم
بنسور تحوم، قالوا: إنا لنرى نسورا تحوم، وإنا نرى أصحابنا
قد قتلوا. فلما أتوهم قال رجلان منهم: لا نطلب الشهادة بعد
اليوم، فقاتلا حتى قتلا. ورجع الرجلان إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلقيا رجلين من
بني عامر فسألاهما ممن هما فأخبراهما فقتلاهما وأخذا ما
معهما, وأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه خبر
أصحابهم وخبر الرجلين العامريين، وأتياه بما أصاب لهما.
فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حلتين كان كساهما،
فقال: "قد كانا منا في عهد". فوداهما إلى قومهما دية
الحرين المسلمين.
وقال حسان بعد موت عامر بن مالك يحرض ابنه ربيعة:
بني أم البنين ألم يرعكم
فذكر الأبيات.
(1/442)
فقال ربيعة: هل يرضى مني حسان طعنة أطعنها
عامرا؟ قيل: نعم, فشد عليه فطعنه فعاش منها.
وفيها توفيت أم المؤمنين زينب بِنْتُ خُزَيْمَةَ بنِ
الحَارِثِ بنِ عَبْدِ اللهِ بن عمرو بن عبد مناف بن هلال
بن عامر بن صعصعة القيسية الهوازنية العامرية الهلالية
-رضي الله عنها- وكانت تسمى أم المساكين لإحسانها إليهم،
تزوجت أولا بالطفيل بنُ الحَارِثِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ
عَبْدِ مَنَافٍ -رَضِيَ اللهُ عنه- ثم طلقها فتزوجها أخوه
عبيدة بن الحارث -رضي الله عنه- فاستشهد يوم بدر، ثم
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثلاثة،
ومكثت عنده على الصحيح ثمانية أشهر، وقيل: كانت وفاتها في
آخر ربيع الآخر، وصلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم
ودفنها بالبقيع، ولها نحو ثلاثين سنة.
وفيها تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ أُمُّ المُؤْمِنِيْنَ هِنْدُ
بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ واسمه حذيفة، وقيل: سهيل، ويدعى
زاد الراكب؛ ابْنِ المُغِيْرَةِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ
عُمَرَ بنِ مَخْزُوْمٍ القرشية المخزومية، وكانت قبله عند
ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هِلاَلِ بنِ
عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخْزُوْمٍ، وأمه برة بنت عبد
المطلب، وهاجر بها إلى الحبشة فولدت له هناك زينب، وولدت
له سلمة وعمر ودرة، وَكَانَ أَخَا النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرضاعة، أرضعتهما وحمزة
ثويبة مولاة أبي لهب، ويقال: إنه كان أسلم بعد عشرة أنفس،
وكان أول من هاجر إلى الحبشة، ثم كان أول من هاجر إلى
المدينة، ولما عبر إلى الله كان الذي أغمضه رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دعا له، وكان قد
جرح بأحد جرحا، ثم انتقض عليه، فمات منه في جمادى الآخرة
سنة أربع. فلما توفي تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِيْنَ حلت في شوال، وكانت من
أجمل النساء؛ وهي آخر نسائه وفاة.
ثم تزوج بعدها بأيام يسيرة، بنت عمته أم الحكم؛ زينب بنت
جحش بن رئاب الأسدي، وكان اسمها برة فسماها زينب. وكانت هي
وإخوتها من المهاجرين، وأمهم أميمة بنت عبد المطلب، وهي
التي نزلت هذه الآية فيها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا
وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأَحْزَابُ: 37] ، وكانت تفخر
عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من السماء.
وفيها نزلت آية الحجاب، وتزوجها وهي بنت خمس وثلاثين سنة.
وفي هذه السنة رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي
واليهودية اللذين زنيا.
وفيها توفيت أم سعد بن عبادة، ورسول الله صلى الله عليه
وسلم غائب في بعض مغازيه, ومعه ابنها سعد، قال قتادة، عن
سعيد بن المسيب: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَّى على قبر أم سعد بعد أشهر، والله أعلم.
(1/443)
السنة الخامسة من
الهجرة:
غزوات ذات الرقاع، وغزوة دُومة الجندل بضم الدال
غزوة ذات الرقاع:
خرج لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من
المحرم. قاله الواقدي كما تقدم. وقال ابن إسحاق: إنها في
جمادى الأولى سنة أربع.
غزوة دُومة الجندل: وهي بضم الدال:
قيل سميت بدومى بن إسماعيل -عليه السلام- لكونها كانت
منزله. ودَومة بالفتح موضع آخر. وهذه الغزوة كانت في ربيع
الأول. ورجع النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْلَ أَنْ يصل إليها، ولم يلق كيدا.
وقال المدائني: خرج صلى الله عليه وسلم في المحرم، يريد
أكيدر دومة، فهرب أكيدر، وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الله بن أبي
لبيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ, عَنْ عبد الله بن أبي
بكر وغيرهما، قالوا: أَرَادَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقرب إلى أدنى الشام
ليرهب قيصر, وذكر له أن بدومة الجندل جمعا عظيما يظلمون من
مر بهم وكان بها سوق وتجار، فخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ألف يسير الليل ويكمن النهار، ودليله مذكور
العذري، فنكب عن طريقهم، فلما كان بينه وبين دومة يوم قوي،
قال له: يا رسول الله إن سوائمهم ترعى عندك، فأقم حتى
أنظر. وسار مذكور حتى وجد آثار النعم، فرجع وقد عرف
مواضعهم، فهجم بالنبي صلى الله عليه وسلم على ماشيتهم
ورعائهم فأصاب من أصاب، وجاء الخبر إلى دومة فتفرقوا، ورجع
النبي صلى الله عليه وسلم.
وهي تبعد عن المدينة ستة عشر يوما، وبينها وبين دمشق خمس
ليال للمجد، وبينها وبين الكوفة سبع ليال، وهي أرض ذات
نخل، يزرعون الشعير وغيره، ويسقون على النواضح وبها عين
ماء.
(1/444)
غزوة المريسيع:
وتسمى غزوة بني المصطلق، كانت في شعبان سنة خمس على
الصحيح, بل المجزوم به.
قال الواقدي: استخلف النبي صلى الله عليه وسلم فيها على
المدينة زيد بن حارثة. فحدثني شعيب بن عباد عن المسور بن
رفاعة، قَالَ: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم في سبعمائة.
وقال يونس بن بكير: قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن
حبان، وعاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر، قالوا: خَرَجَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبلغه
أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو
جويرية أم المؤمنين، فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى
نزل بالمريسيع، ماء من مياههم؛ فأعدوا لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فتزاحف الناس فاقتتلوا، فهزم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونفل نساءهم
وأبناءهم وأموالهم، وأقام عليهم من ناحية قديد والساحل.
وقال الواقدي، عن معمر وغيره: أن بني المصطلق من خزاعة
كانوا ينزلون ناحية الفرع، وهم حلفاء بني مدلج، وكان رأسهم
الحارث بن أبي ضرار، وكان قد سار في قومه ومن قدر عليه،
وابتاعوا خيلا وسلاحا، وتهيئوا للمسير إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الواقدي: وحدثني سعيد بن عبد الله بن أبي الأبيض، عن
أبيه, عن جدته، وهي مولاة جويرية, سمعت جويرية تقول:
أَتَانَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ونحن على المريسيع، فأسمع أبي يقول: أتانا ما لا
قبل لنا به. قالت: وكنت أرى من الناس والخيل والعدة ما لا
أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوجني رسول الله صلى الله
عليه وسلم ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت
أرى، فعرفت أنه رعب من الله، وكان رجل منهم قد أسلم يقول:
لقد كنا نرى رجالا بيضا على خيل بلق، ما كنا نراهم قبل ولا
بعد.
قال الواقدي: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء،
وضربت له قبة من أدم، ومعه عائشة وأم سلمة، وصف رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، ثم
أمر عمر فنادى فيهم، قولوا: لا إله إلا الله، تمنعوا بها
أنفسكم وأموالكم، ففعل عمر، فأبوا. فكان أول من رمى رجل
منهم بسهم، فرمى المسلمون ساعة بالنبل، ثم أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أصحابه أن
يحملوا، فحملوا، فما أفلت منهم إنسان، فقتل منهم عشرة وأسر
سائرهم، وقتل من المسلمين رجل واحد.
وقال ابن عون: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال،
فكتب: إنما كان ذلك في أول الإسلام، قد أغار رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بني
المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل
مقاتلتهم وسبى سبيهم، فأصاب يومئذ -أحسبه قال: جويرية-
وحدثني ابن عمر بذلك، وكان في ذلك الجيش. متفق عليه.
وقال إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة الرأي، عن محمد بن يحيى بن
حبان، عن ابن محيريز، سمع أبا سعيد يقول: غَزَوْنَا مَعَ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بني المصطلق
فسبينا كرائم العرب، وطالت علينا العزبة، ورغبنا في الفداء
فأردنا أن نستمتع ونعزل، فسألنا رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
(1/445)
"لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق
نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون". متفق عليه، عن
قتيبة عن إسماعيل.
تَزَوَّجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بجويرية:
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ
بنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
لَمَّا قَسَّمَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم سبايا
بني المصطلق وقعت جويرية في السهم لثابت بن قيس بن شماس،
أو لابن عم له فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة،
لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه, فأتت رسول الله صلى الله
عليه وسلم تستعينه في كتابتها، فوالله ما هو إلا أن رأيتها
فكرهتها، وقلت: سيري منها مثل ما رأيت. فلما دَخَلْتُ
عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قالت: أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الحَارِثِ سَيِّدِ
قَوْمِهِ، وَقَدْ أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، وَقَدْ
كَاتَبْتُ فَأَعِنِّي فَقَالَ: "أَوْ خَيْرٌ مِنْ ذلك أؤدي
عنك كتابتك وأتزوجك". فقالت: نعم. ففعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم فبلغ الناس أنه قد تزوجها، فقالوا: أصهار رسول
الله صلى الله عليه وسلم. فَأَرْسَلُوا مَا كَانَ فِي
أَيْدِيْهِمْ مِنْ بَنِي المُصْطَلِقِ فَلَقَدْ أُعْتِقَ
بِهَا مائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ من بني المصطلق، فما أعلم
امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها وكان اسمها برة
فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان،
وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، في قصة بني
المصطلق: فبينا النبي صلى الله عليه وسلم مقيم هناك، إذ
اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري أجير عمر، وسنان بن
زيد. قال: فحدثني محمد بن يحيى أنهما ازدحما على الماء
فاقتتلا، فقال سنان: يا معشر الأنصار وقال جهجاه: يا معشر
المهاجرين وكان زيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله
بن أبي، يعني: ابن سلول، فلما سمعها قال: قد ثاورونا في
بلادنا والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال
القائل: سمن كلبك يأكلك، والله لئن رَجَعْنَا إِلَى
المَدِيْنَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ.
ثم أقبل على من عنده من قومه، فقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم،
أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو كففتم
عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم فسمعها زيد، فذهب بِهَا إِلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو
غليم، وعنده عمر فأخبره الخبر فقال عمر: يا رسول الله مر
عباد بن بشر فليضرب عنقه فقال: "كيف إذا تحدث الناس أن
محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن ناد يا عمر في الرحيل". فلما
بلغ ذلك ابن أبي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر، وحلف
له بالله ما قال ذلك، وكان عند قومه بمكان. فقالوا: يا
رسول الله صلى الله عليه وسلم عسى أن يكون هذا الغلام أوهم
وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا في ساعة كان لا
يروح فيها فلقيه أسيد بن حضير فسلم عليه بتحية النبوة ثم
قال:
(1/446)
والله لقد رحت في ساعة منكرة فقال: "أما
بلغك ما قال صاحبك ابن أبي"؟. فقال: يا رسول الله فأنت
والله العزيز وهو الذليل. ثم قال: يا رسول الله ارفق به،
فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه فإنه
ليرى أن قد استلبته ملكا فسار رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ بقية يومه وليلته،
حتى أصبحوا وحتى اشتد الضحى. ثم نزل بالناس بقية يومه
وليلته، حتى أصبحوا وحتى اشتد الضحى. ثم نزل بالناس
ليشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مس
الأرض فناموا. ونزلت سورة المنافقين.
وقال ابن عيينة: حدثنا عمرو بن دينار قال: سمعت جابرا
يقول: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من
الأنصار. فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا
للمهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال
دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة". فقال عبد الله بن أبي
بن سلول: أو قد فعلوها؟ والله لئن رَجَعْنَا إِلَى
المَدِيْنَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ.
قال: وكانت الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم
النبي صلى الله عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك, فقال
عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق, فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه". متفق
عليه1.
وقال عبيد الله بن موسى: أخبرنا إسرائيل، عن السدي عن أبي
سعيد الأزدي، قال: حدثنا زيد بن أرقم قَالَ: غَزَوْنَا
مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وكان معنا
ناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكانت الأعراب يسبقوننا,
فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل
النطع عليه حتى يجيء أصحابه، فأتى أنصاري فأرخى زمام ناقته
لتشرب فمنعه فانتزع حجرا فغاض الماء, فرفع الأعرابي خشبة
فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي فأخبره
فغضب, وقال: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُوْلِ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى ينفضوا من
حوله؛ يعني الأعراب وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن
الأعز منه الأذل. قال زيد: فسمعته فأخبرت عمي، فانطلق
فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلف وجحد،
فَصَدَّقَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وكذبني فجاء إليَّ عمي فقال: ما أردت أن مقتك
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك المسلمون. فوقع عليَّ
من الغم ما لم يقع على أحد قط فبينا أن أسير مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقد خفقت برأسي من الهم، إذ أَتَانِي
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرك
أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد أو
الدنيا. ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لَكِ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
__________
1 صحيح: أخرجه الحميدي "1239"، والطيالسي "1708"، والبخاري
"4905" و"4907"، ومسلم "2584" "63"، والترمذي "3315"،
والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "977"، وأبو يعلى "1824"،
والبيهقي في "دلائل النبوة" "4/ 53-54" من طرق عن سفيان بن
عيينة، به.
(1/447)
قلت: ما قال لي شيئا. فقال أبشر فلما
أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين
حتى بلغ منها: {الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] .
وقال إسرائيل، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بنِ
أَرْقَمَ، قال: سمعت عبد الله بن أبي يقول لأصحابه: لاَ
تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ حتى ينفضوا
من حوله. وقال: لئن رَجَعْنَا إِلَى المَدِيْنَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. فذكرت ذلك
لعمي فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفوا ما
قالوا، فصدقهم وكذبني، فأصابني هم، فأنزل الله تعالى:
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] ، فأرسل
إليَّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فقرأها عليَّ، وقال: "إن الله صدقك يا زيد". أخرجه
البخاري1.
وقال أنس بن مالك: زيد بن أرقم هو الذي يقول لَهُ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا الذي
أوفى الله له بأذنه". أخرجه البخاري، من حديث عبد الله بن
الفضل عن أنس2.
وقال الأعمش، عن أبي سفيان عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قدم من سفر، فلما كان قرب
المدينة هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب، فزعم أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"بعثت هذه الريح لموت منافق". قال: فقدم المدينة فإذا
منافق عظيم قد مات. أخرجه مسلم3.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ
عُرْوَةَ قال: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من
طريق عمان سرحوا ظهرهم، وأخذتهم ريح شديدة، حتى أشفق الناس
منها، وقيل: يا رسول الله ما شأن هذه الريح؟ فقال: "مات
اليوم منافق عظيم النفاق، ولذلك عصفت الريح وليس عليكم
منها بأس إن شاء الله". وذلك في قصة بني المصطلق.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، عن شيوخه الذين روى عنهم قصة بني
المصطلق، قالوا:
فانصرف رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
حَتَّى إذا كان ببقعاء من أرض الحجاز دون البقيع هبت ريح
شديدة فخافها النَّاسَ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تخافوا فإنها هبت لموت
عظيم من عظماء الكفر". فوجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد
مات يومئذ، وكان من بني قينقاع، وكان قد أظهر الإسلام وكان
كهفا للمنافقين.
وحدثني عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قَتَادَةَ، قَالَ: لَمَّا
قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المَدِيْنَةَ من بني المصطلق، أتاه
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4900" حدثنا عبد الله بن رجاء،
حدثنا إسرائيل به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4906" من طريق موسى بن عقبة، قال
حدثني عبد الله بن الفضل, به.
3 صحيح: أخرجه مسلم "2782" حدثني أبو كريب محمد بن العلاء،
حدثنا حفص بن غياث, عن الأعمش, به.
(1/448)
عبد الله بن عبد الله بن أبي، فقال: يا
رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلا فمرني به
فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها
رجل أبر بوالده مني، ولكني أخشى أن تأمر به رجلا مسلما
فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله يمشي في
الأرض حيا حتى أقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "بل نحسن صحبته ونترفق به ما
صحبنا". والله أعلم.
حديث الإفك: وكان في هذه الغزوة
قال سليمان بن حرب: حدثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عَنْ
مَعْمَرٍ، وَالنُّعْمَانِ بنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أراد سفرا أقرع
بين نسائه. قالت: فأقرع بيننا في غزاة المُرَيْسِيْعِ،
فَخَرَجَ سَهْمِي، فَهَلَكَ فيَّ مَنْ هَلَكَ.
وكذلك قال ابن إسحاق، والوقاد وغيرهما: أن حديث الإفك في
غزوة المريسيع.
وروي عن عباد بن عبد الله، قال: قلت يا أماه حدثيني حديثك
في غزوة المريسيع.
قرأت على أبي مُحَمَّدٍ عَبْدُ الخَالِقِ بنِ عَبْدِ
السَّلاَمِ، بِبَعْلَبَكَّ، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن
إبراهيم، قال: أخبرنا أبو الحسين عبد الحق اليوسفي، قال:
أخبرنا أبو سعد بن خشيش، قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن
أحمد، قال: أخبرنا ميمون بن إسحاق، قال: حدثنا أحمد بن عبد
الجبار، قال: حدثنا يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ
بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قالت: لقد
تحدث بأمري في الإفك واستفيض فيه وما أشعر وَجَاءَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَعَهُ أناس من أصحابه، فسألوا جارية لي سوداء كانت
تخدمني، فقالوا: أخبرينا ما علمك بعائشة؟ فقالت: والله ما
أعلم منها شيئا أعيب من أنها ترقد ضحى حتى إن الداجن داجن
أهل البيت تأكل خميرها. فأداروها وسألوها حتى فطنت، فقالت:
سبحان الله، والذي نفسي بيده ما أعلم على عائشة إلا ما
يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر. قالت: فكان هذا وما
شعرت.
ثم قَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم
قال: "أَمَّا بَعْدُ، أَشِيْرُوا عليَّ فِي أُنَاسٍ
أَبَنُوا 1 أَهْلِي، وَايمُ اللهِ إِنْ عَلِمْتُ عَلَى
أَهْلِي مِنْ سُوْءٍ قَطُّ، وَأَبَنُوْهُمْ بِمَنْ وَاللهِ
إِنْ علمت عليه سوء قط، ولا دخل على أهلي إلا وأنا شاهد،
ولا غبت في سفر إلا غاب معي". فقال سعد بن معاذ: أرى يا
رسول الله أن تضرب أعناقهم. فقال رجل من
__________
1 أبنوا: أي اتهموا.
(1/449)
الخزرج, وكانت أم حسان من رهطه، وكان حسان
من رهطه: والله ما صدقت، ولو كان من الأوس ما أشرت بهذا.
فكاد يكون بين الأوس والخزرج شر في المسجد، ولا علمت بشيء
منه، ولا ذكره لي ذاكر، حتى أمسيت من ذلك اليوم فخرجت في
نسوة لحاجتنا، وخرجت معنا أم مسطح -بنت خالة أبي بكر- فإنا
لنمشي ونحن عامدون لحاجتنا، عثرت أم مسطح فقالت: تعس مسطح.
فقلت: أي أم، أتسبين ابنك؟ فلم تراجعني. فعادت ثم عثرت،
فقالت: تعس مسطح. فقلت: أي أم, أتسبين ابنك صَاحِبِ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فلم
تراجعني. ثم عثرت الثالثة، فقالت: تعس مسطح. فقلت: أي أم,
أتسبين ابنك صَاحِبِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: والله ما أسبه إلا من أجلك
وفيك. فقلت: وفي أي شأني؟ قالت: وما علمت بما كان؟ فقلت:
لا، وما الذي كان؟ قالت: أشهد أنك مبرأة مما قيل فيك ثم
بقرت لي الحديث، فلأكر راجعة إلى البيت ما أجد مما خرجت له
قليلا ولا كثيرا. وركبتني الحمى فحممت فدخل عليَّ رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فسألني عن شأني،
فقلت: أجدني موعوكة، ائذن لي أذهب إلى أبوي. فأذن لي،
وأرسل معي الغلام، فقال: "امش معها". فجئت فوجدت أمي في
البيت الأسفل ووجدت أبي يصلي في العلو فقلت لها: أي أمه،
ما الذي سمعت؟ فإذا هي لم ينزل بها من حيث نزل مني, فقالت:
أي بنية وما عليك، فما من امرأة لها ضرائر تكون جميلة
يحبها زوجها إلا وهي يقال لها بعض ذلك. فقلت: وقد سمعه
أبي؟ فقالت: نعم. فقلت: وسمعه رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ فقالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكيت، فسمع
أبي البكاء، فقال: ما شأنها؟ فقالت: سمعت الذي تحدث به.
ففاضت عيناه يبكي, فقال: أي بنية، ارجعي إلى بيتك، فرجعت
وأصبح أبواي عندي حتى إذا صليت العصر دَخَلَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بين
أبوي، أحدهما عن يميني والآخر عن شمالي، فحمد الله وأثنى
عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد يا عائشة إن كنت ظلمت
أو أخطأت أو أسأت فتوبي وراجعي أمر الله واستغفري".
فوعظني، وبالباب امرأة من الأنصار قد سلمت, فهي جالسة بباب
البيت في الحجرة وأنا أقول: ألا تستحيي أن تذكر هذا,
والمرأة تسمع, حتى إذا قضى كلامه قلت لأبي, وغمزته: ألا
تكلمه؟ فقال: وما أقول له؟ والتفت إلى أمي فقلت: ألا
تكلمينه؟ فقالت: وماذا أقول له؟ فحمدت الله وأثنيت عليه
بما هو أهله ثم قلت: أما بعد فوالله لئن قلت لكم: أن قد
فعلت والله يشهد أني لبريئة ما فعلت لتقولن: قد باءت به
على نفسها واعترفت به، ولئن قلت: لم أفعل والله يعلم أني
لصادقة ما أنتم بمصدقي لقد دخل هذا في أنفسكم واستفاض
فيكم، وما أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ قَوْلَ
أَبِي يوسف العبد الصالح؛ وما أعرف يومئذ اسمه: {فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
[يوسف: 18] .
(1/450)
ونزل الوحي ساعة قضيت كلامي، فعرفت والله
البشر فِي وَجْهِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَبْلَ أن يتكلم فمسح جبهته وجبينه ثم قال:
أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله عذرك. وتلا القرآن. فكنت
أشد ما كنت غضبا، فقال لي أبواي: قومي إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فقلت: والله لا
أقوم إليه ولا أحمده ولا إياكما ولكني أحمد الله الذي
برأني. لقد سمعتم فما أنكرتم ولا جادلتم ولا خاصمتم.
فقال الرجل الذي قيل له ما قيل، حين بلغه نزول العذر:
سبحان الله، فوالذي نفسي بيده ما كشفت قط كنف أنثى. وكان
مسطح يتيما في حجر أبي بكر ينفق عليه, فحلف لا ينفع مسطحا
بنافعة أبدا. فأنزل الله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ
مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى}
إلى قوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}
[النُّوْرُ: 22] ، فقال أبو بكر: بلى والله يا رب، إني أحب
أن تغفر لي وفاضت عيناه فبكى رضي الله عنه1. وهذا عال حسن
الإسناد، أخرجه البخاري تعليقا؛ فقال: وقال أبو أسامة، عن
هشام بن عروة فذكره.
وقال الليث -واللفظ له- وابن المبارك، عن يونس بن يزيد،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ وَابْنُ
المُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةُ بنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللهِ
بنُ عَبْدِ اللهِ عَنْ حَدِيْثِ عَائِشَةَ، حِيْنَ قَالَ
لَهَا أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله؛ وكل حدثني بطائفة
من الحديث، وَبَعْضُ حَدِيْثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضاً،
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ.
قَالَتْ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أن يخرج أَقْرَعَ بَيْنَ
نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بها
مَعَهُ. فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا،
فَخَرَجَ سهمي فخرجت معه بعدما نزل الحجاب وأنا أحمل في
هودجي وَأُنْزَلُ فِيْهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرغَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ
المَدِيْنَةِ, آذَنَ لَيْلَةً بالرحيل فقمت حين آذنوا
بالرحيل, فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني
أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جزع
ظفار قد انقطع فالتمسته، وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين
كانوا يرحلون بي واحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي
كنت ركبت وَهُمْ يَحْسَبُوْنَ أَنِّي فِيْهِ. وَكَانَ
النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافاً لَمْ يُثْقِلْهُنَّ
اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ العلقة2 من الطعام، فلم
يستنكروا خفة الهودج حِيْنَ رَفَعُوْهُ، وَكُنْتُ
جَارِيَةً حَدِيْثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الجمل وساروا،
فوجدت عقدي بعدما اسْتَمَرَّ الجَيْشُ، فَجِئْتُ
مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلاَ مُجِيْبٌ
فَأَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيْهِ، وظننت أنهم
سيفقدونني فيرجعون إليَّ، فبينا أَنَا جَالِسَةٌ
غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ. وَكَانَ صَفْوَانُ بن
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4141" من طرق عن عائشة، به في حديث
طويل.
2 العلقة: البلغة من الطعام.
(1/451)
المُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ
الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ. فَأَدْلَجَ
فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ
نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب،
فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِيْنَ عَرَفْتُ،
فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَاللهِ مَا كَلَّمَنِي
كَلِمَةً وَلاَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ
اسْتِرْجَاعِهِ. فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى
يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَاْنَطَلَق يَقُوْدُ بِيَ
الرَّاحِلَةَ حَتَّى أتينا الجيش بعدما نَزَلُوا
مُوْغِرِيْنَ فِي نَحْرِ الظَّهِيْرَةِ, فَهَلَكَ مَنْ
هلك. وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول.
فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شَهْراً، وَالنَّاسُ
يُفِيْضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، ولا أشعر بشيء من
ذلك وهو يريبني فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَعْرِفُ مِنْ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِيْنَ أَشْتَكِي.
إِنَّمَا يَدْخُلُ عليَّ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُوْلُ:
"كَيْفَ تِيْكُمْ"؟. ثُمَّ يَنْصَرِفُ. فَذَلِكَ الَّذِي
يُرِيْبُنِي وَلاَ أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حتى خرجت يوما
بعدما نَقِهْتُ. فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ
المَنَاصِعِ؛ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا؛ وَكُنَّا لاَ
نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ
الكُنُفُ قَرِيْباً مِنْ بُيُوْتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ
العَرَبِ الأول في التبرز قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف
نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوْتِنَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا
وَأُمُّ مِسْطَحٍ وهي ابنة أَبِي رُهْمٍ بنِ عَبْدِ
مَنَافٍ وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بنِ عَامِرٍ خَالَةُ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بنُ
أُثَاثَةَ بنِ المُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أنا وأم مسطح
قِبَلَ بَيْتِي، قَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا،
فَعَثَرَتْ أم مسطح في مرطها فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ
فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّيْنَ رَجُلاً
شَهِدَ بَدْراً؟ قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ، أَوَ لَمْ
تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وماذا؟ فأخبرتني بقول أهل
الإفك. فَازْدَدْتُ مَرَضاً عَلَى مَرَضِي فَلَمَّا
رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عليَّ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ:
"كَيْفَ تِيْكُمْ"؟. فَقُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ
أَبَوَيَّ؟ وَأَنَا أُرِيْدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الخَبَرَ
مِنْ قِبَلِهَمَا، فَأَذِنَ لي، فجئت أبوي فقلت لأمي: يَا
أُمَّتَاهُ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا
بُنَيَّةُ هَوِّنِي عليكِ، فَوَاللهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ
امْرَأَةٌ قط وَضِيْئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا
ضَرَائِرُ، إِلاَّ كثرن عليها. فقلت: سبحان الله، ولقد
تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ فَبَكَيْتُ اللَّيْلَةَ
حَتَّى لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ
بِنَوْمٍ, ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي.
فَدَعَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عليَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ حِيْنَ
اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ
أَهْلِهِ. فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي
يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ
لهم في نفسه من الود، فقال أسامة: يَا رَسُوْلَ اللهِ
أَهْلُكَ وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خيرا. وأما عليٌّ فقال: يا
رسول الله لَمْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ
سِوَاهَا كَثِيْرٌ، واسأل الجارية تصدقك. قالت: فَدَعَا
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَرِيْرَةَ فَقَالَ: "أَيْ بَرِيْرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ
شَيْءٍ يَرِيْبُكِ"؟. قَالَتْ: لاَ, وَالَّذِي بَعَثَكَ
بِالحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْراً أَغْمِصُهُ
عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيْثَةُ
السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله.
فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال
(1/452)
وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ: "يَا مَعْشَرَ
المُسْلِمِيْنَ مَنْ يعذرني من رجل قد بلغنا أَذَاهُ فِي
أَهْلِ بَيْتِي؟ فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ في أَهْلِي إِلاَّ
خَيْراً، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ
إِلاَّ خَيْراً، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي
إِلاَّ مَعِي". فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا
رَسُوْلَ اللهِ أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنَ
الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وإن كان من إخواننا
الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ فَقَامَ
سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ -وَكَانَ
قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحاً- وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ
الحمية، فقال: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ لاَ تَقْتُلُهُ
وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ فَقَامَ أُسَيْدُ بنُ
حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ
كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ
مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِيْنَ، فَتَثَاوَرَ
الحَيَّانِ: الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ
يَقْتَتِلُوا، وَرَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى المِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ
يَخْفِضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ.
قَالَتْ: فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ وَلَيْلَتِي لاَ
يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ فَأَصْبَحَ
أَبَوَايَ عِنْدِي، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ
وَيَوْماً لاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلاَ يَرْقَأُ لِي
دمع، حتى يظنان أَنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي.
فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي،
اسْتَأْذَنَتْ عليَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأنصار فجلست تبكي
معي.
فبينا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم ثم جَلَسَ،
وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيْلَ لِي ما قيل وقد
لَبِثَ شَهْراً لاَ يُوْحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شيء.
قالت: فتشهد حين جلس ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ يَا
عَائِشَةُ! فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا
وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيْئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ،
وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ
وَتُوْبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ
بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ". قالت: فلما
قَضَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَقَالَتْهُ، قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ
قَطْرَةً, فَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ رَسُوْلَ اللهِ فِيْمَا
قَالَ. قَالَ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُوْلُ له؟ فقلت
لأمي: أجيبي رسول الله. قالت: ما أدري ما أقول له؟
فَقُلْتُ وَأَنَا يَوْمئذٍ حَدِيْثَةُ السِّنِّ لاَ
أَقْرَأُ كَثِيْراً مِنَ القُرْآنِ: إِنِّي وَاللهِ لَقَدْ
عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الحَدِيْثَ حَتَّى
اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ
قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيْئَةٌ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي
بَرِيْئَةٌ، لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنِ
اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللهُ يَعْلَمُ أني بريئة
لتصدقني، والله ما أجد لكم مَثَلاً إِلاَّ قَوْلَ أَبِي
يُوْسَفَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يُوْسُفُ: 18] ، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ
فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي
بريئة وأن الله يبرئني ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن
الله منزل فِي شَأْنِي وَحْياً يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ
فِي نَفْسِي أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ فيَّ
بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيَا
يُبَرِّئُنِي اللهُ بِهَا قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا قَامَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ
خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ حتى أنزل عليه،
فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى
إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الجُمَانِ مِنَ
العَرَقِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شاتٍ مِنْ ثِقَلِ القَوْلِ
الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ
وَهُوَ يَضْحَكُ كَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ
(1/453)
بِهَا: يَا عَائِشَةُ أَمَا وَاللهِ لَقَدْ
بَرَّأَكِ اللهُ. فَقَالَتْ أُمِّي: قُوْمِي إِلَيْهِ.
فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَقُوْمُ إِلَيْهِ، وَلاَ أَحْمَدُ
إِلاَّ اللهَ. وأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا
بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النُّوْرُ: 11] ،
العَشْرُ الآيَاتُ كُلُّهَا.
فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ هَذَا فِي بَرَاءتِي قَالَ أَبُو
بَكْرٍ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ
وَفَقْرِهِ: وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئاً
أبدا بعد الذي قال لعائشة. فأنزل الله تعالى: {وَلا
يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ
يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَكُمْ} [النور: 22] ، قال أبو بكر: بَلَى وَاللهِ إِنِّي
لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى
مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ،
وَقَالَ: وَاللهِ لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَداً.
قَالَتْ: وَكَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنِ أَمْرِي،
فَقَالَتْ: أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي مَا عَلِمْتُ إِلاَّ
خَيْراً، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِيْنِي مِنْ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَعَصَمَهَا اللهُ بِالوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا
حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.
متفق عليه من حديث يونس الأيلي.
وقال أبو معشر: حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ
المُغِيْرَةِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ
الوَلِيْدِ بنِ عبد الملك فذكر الحديث بطوله عن الأربعة عن
عائشة، فقال الوليد: وما ذاك؟ قَالَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا غزوة بني المصطلق
فساهم بين نسائه، فخرج سهمي وسهم أم سلمة.
وقال عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الوَلِيْدِ بن عبد
الملك فقال: الذي تولى كبره منهم عليٌّ. فَقُلْتُ: لاَ,
حَدَّثَنِي سَعِيْدٌ، وَعُرْوَةُ, وَعَلْقَمَةُ، وعبيد
الله كلهم سمع عائشة تقول: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ
عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ. فَقَالَ لِي: فَمَا كَانَ
جُرْمُهُ؟ قُلْتُ: سُبْحَانَ الله, أخبرني رجلان من قومك:
أبو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو بَكْرٍ بنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بنِ هشام أَنَّهُمَا
سَمِعَا عَائِشَةَ تَقُوْلُ: كَانَ مُسِيْئاً فِي أمري.
أخرجه البخاري.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ،
عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا تَلاَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
القِصَّةَ التي نزل بِهَا عُذْرِي عَلَى النَّاسِ، نَزَلَ,
فَأَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ مِمَّنْ كَانَ
تَكَلَّمَ بِالفَاحِشَةِ فِي عَائِشَةَ, فُجُلِدُوا
الحَدَّ. قَالَ: وَكَانَ رَمَاهَا ابْنُ أُبَيٍّ، ومسطح،
وحسان, وحمنة بنت جحش.
وقال شعبة، عن سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى, عَنْ
مَسْرُوْقٍ، قَالَ: دَخَلَ حسان بن ثابت على عائشة -رضي
الله عنها- فشبب بأبيات له:
(1/454)
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيْبَةٍ
... وَتُصْبِحُ غَرْثَى من لحوم الغوافل
قالت: لستَ كذلك. قلت: تَدَعِيْنَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ
عَلَيْكِ وَقَدْ أَنْزَلَ الله -عز وجل: {وَالَّذِي
تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
[النُّوْرُ: 11] ، قَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ
العَمَى؟ وقالت: كَانَ يَرُدُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم1. متفق عليه.
وقال يونس، عن ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ
إِبْرَاهِيْمَ التَّيْمِيُّ، قال: وكان صَفْوَانُ بنُ
المُعَطَّلِ قَدْ كَثَّرَ عَلَيْهِ حَسَّانٌ فِي شَأْنِ
عَائِشَةَ, وَقَالَ يعرِّض بِهِ:
أَمْسَى الجَلاَبِيْبُ قَدْ عَزُّوا وَقَدْ كَثُرُوا ...
وَابْنُ الفُرَيْعَةِ أَمْسَى بَيْضَةَ البَلَدِ
فَاعْتَرَضَهُ صَفْوَانُ لَيْلَةً وَهُوَ آتٍ مِنْ عِنْدِ
أَخْوَالِهِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَضَرَبَهُ بالسيف على رأسه،
فيعدو عَلَيْهِ ثَابِتَ بنَ قَيْسٍ، فَجَمَعَ يَدَيْهِ
إِلَى عنقه بحبل أسود, وقاده إلى دار بني حارثة، فلقيه عبد
الله بن رَوَاحَةَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: مَا
أَعْجَبَكَ! عَدَا عَلَى حَسَّانٍ بِالسَّيْفِ فَوَاللهِ
مَا أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ قَتَلَهُ. فَقَالَ: هَلْ عَلِمَ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا
صَنَعْتَ بِهِ؟ فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدِ
اجْتَرَأْتَ، خل سبيله فسنغدوا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنعلمه أمره فخل
سَبِيْلَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ
فَقَالَ: "أَينَ ابْنُ المُعَطَّلِ"؟. فَقَامَ إِلَيْهِ،
فَقَالَ: هَا أنذا يَا رَسُوْلَ اللهِ، فَقَالَ: "مَا
دَعَاكَ إِلَى ما صنعت"؟. قال: آذاني وكثَّر عليَّ وَلَمْ
يَرْضَ حَتَّى عرَّض بِي في الهجاء، فاحتملني الغضب، وها
أنذا، فَمَا كَانَ عليَّ مِنْ حَقٍّ فَخُذْنِي بِهِ. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا لي حسان". فأتي به؛
فقال: "يا حَسَّانُ! أَتَشَوَّهْتَ عَلَى قَوْمِي أَنْ
هَدَاهُمُ اللهُ لِلإِسْلاَمِ". يَقُوْلُ: تَنَفَّسْتَ
عَلَيْهِم يَا حَسَّانُ! "أَحْسِنْ فيما أصابك". فقال: هي
لك يا رسول الله! فأعطاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِيْرِيْنَ القُبْطِيَّةَ. فَوَلَدَتْ
لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَأَعْطَاهُ أَرْضاً كَانَتْ
لأَبِي طلحة تصدق بها عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدثني يعقوب بن عتبة، أن صفوان بن المعطل قال حين ضرب
حسان:
تلق ذباب السيف عنك فإنني ... غلام إذا هوجيت لست بشاعر
وقال حسان لعائشة -رضي الله عنها:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4146"، ومسلم "2488" حدثني بشر بن
خالد، أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، به.
وأخرجه البخاري "4756"، ومسلم "2488" من طريق ابن أبي عدي،
أنبأنا شعبة، به.
وأخرجه البخاري "4755" من طريق سفيان، عن الأعمش، به.
(1/455)
رَأَيْتُكِ وَلْيَغْفِرْ لَكِ اللهُ
حُرَّةً ... مِنَ المُحْصَنَاتِ غَيْرِ ذَاتِ غَوَائِلِ
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيْبَةٍ ... وَتُصْبِحُ
غَرْثَى مِنْ لُحُوْمِ الغَوَافِلِ
وَإِنَّ الَّذِي قَدْ قِيْلَ لَيْسَ بِلائِقٍ ... بِكِ
الدَّهْرَ بَلْ قِيْلُ امْرِئٍ مُتَمَاحِلِ
فَإِنْ كُنْتُ أَهْجُوْكُمْ كَمَا بَلَّغُوْكُمُ ... فَلاَ
رَفَعَتْ سَوطِي إِلَيَّ أَنَامِلِي
فكيف وُوُدِّي مَا حَيِيْتُ وُنُصْرَتِي ... لآلِ رَسُوْلِ
اللهِ زَيْنِ المَحَافِلِ
وَإِنَّ لَهُمْ عِزّاً يُرَى النَّاسُ دونه ... قصارا وطال
العز كل التطاول
منها:
عَقِيْلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بنِ غَالِبٍ ... كِرَامِ
المَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللهُ خِيْمَهَا ...
وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ سُوْءٍ وَبَاطِلِ
استشهد صفوان في وقعة أرمينية سنة تسع عشرة. قاله ابن
إسحاق.
وعن عائشة قالت: لقد سألوا عن ابن المعطل فوجدوه حصورا ما
يأتي النساء. ثم قتل بعد ذلك شهيدا.
(1/456)
غزوة الخندق:
قال الواقدي: وهي غزوة الأحزاب، وكانت في ذي القعدة.
قالوا: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير
ساروا إلى خيبر، وخرج نفر من وجوههم إلى مكة فألبوا قريشا
ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم على
قتاله، وواعدوهم لذلك وقتا. ثم أتوا غطفان وسليما, فدعوهم
إلى ذلك, فوافقوهم.
وتجهزت قريش وجمعوا عبيدهم وأتباعهم، فكانوا في أربعة
آلاف، وقادوا معهم نحو ثلاثمائة فرس من سوى الإبل. وخرجوا
وعليهم أبو سفيان بن حرب، فوافتهم بنو سليم بمر الظهران،
وهم سبعمائة وتلقتهم بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد
الأسدي، وخرجت فزارة وهم في ألف بعير يقودهم عيينة بن حصن،
وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف, وقيل: إنه
رجع ببني مرة، والأول أثبت، فكان جميع الأحزاب عشرة آلاف
وأمر الكل إلى أبي سفيان وكان المسلمون في ثلاثة آلاف. هذا
كلام الواقدي.
وأما ابن إسحاق فقال: كانت
غزوة الخندق في شوال.
قال: وكان من حديثها أن سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب،
وكنانة بن الربيع، وهوذة في نفر من بني النضير ونفر من بني
وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب عَلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قدموا مكة فدعوا قريشا
إلى القتال، وقالوا: إنا نكون معكم حتى نستأصل محمدا.
فقالت قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل كتاب وعلم بما أصبحنا
نختلف فيه نحن ومحمد, أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل
دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق. وفيهم نزل: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] الآيات، فلما قالوا ذلك
لقريش سرهم ونشطوا إلى الحرب واتعدوا لهم. ثم خرج أولئك
النفر اليهود حتى جاءوا غطفان، فدعوهم فوافقوهم.
فخرجت قريش، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة في بني فزارة،
والحارث بن عوف المري في قومه، ومسعود بن زحلية فين تابعه
من قومه أشجع. فلما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم حفر
الخندق على المدينة وعمل فيه بيده، وأبطأ عن المسلمين في
عمله رجال منافقون، وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه. وكان في
حفره أحاديث بلغتني، منها: بلغني أن جابرا كان يحدث أنهم
اشتدت عليهم كدية فشكوها إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه،
ثم دعا بما شاء الله، ثم نضح الماء على الكدية حتى عادت
كثيبا.
وحدثني سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال: عملنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق فكانت عندي
شُويهة، فقلت: والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئا من شعير، فصنعت لنا منه
خبزا، وذبحت تلك الشاة فشويناها، فلما أمسينا وأراد رسول
الله صلى الله عليه وسلم الانصراف، وكنا نعمل في الخندق
نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فقلت: يا رسول الله
إني قد صنعت كذا وكذا، وأحب أن تنصرف معي، وإنما أريد أن
ينصرف معي وحده فلما قلت له ذلك قال: "نعم". ثم أمر صارخا
فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت
جابر. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأقبل وأقبل الناس
معه، فجلس وأخرجناها إليه، فبرك وسمى، ثم أكل وتواردها
الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق
عنها.
وحدثني سعيد بن ميناء, أنه حدث أن ابنة لبشير بن سعد قالت:
دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم
قالت: أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بغدائهما.
فانطلقت بها فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا
ألتمس أبي وخالي، فقال: ما هذا معك؟ قلت: تمر بعثت به أمي
إلى أبي وخالي، قال: هاتيه فصببته في كفي رسول الله صلى
الله عليه وسلم فملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط، ثم دحا بالتمر
عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده:
(1/457)
"اصرخ في أهل الخندق أن هلموا إلى الغداء".
فاجتمعوا فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق
عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
وحدثني من لا أتهم، عن أبي هريرة، أنه كان يقول حين فتحت
هذه الأمصار في زمان عمر وعثمان وما بعده: افتحوا ما بدا
لكم، والذي نفسي بيده، أو نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم
من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله
محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
وقال: وحدثت عن سلمان الفارسي، قال: ضربت في ناحية من
الخندق فغلظت عليَّ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب
مني، فلما رآني أضرب, نزل وأخذ المعول فضرب به ضربة فلمعت
تحت المعول برقة، ثم ضرب أخرى فلمعت تحته أخرى, ثم ضرب
الثالثة فلمعت أخرى. قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما
هذا؟ قال: "أو قد رأيت"؟. قلت: نعم. قال: أما الأولى، فإن
الله فتح عليَّ بها اليمن، وأما الثانية، فإن الله فتح
عليَّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة, فإن الله فتح
عليَّ بها المشرق".
قال ابن إسحاق: ولما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من
الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول من دومة بين
الجرف وزغابة في عشر آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني
كنانة وأهل تهامة وغطفان، فنزلت غطفان ومن تبعهم من أهل
نجد بذنب تعمر إلى جانب أحد. وَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمُسْلِمُوْنَ حتى
جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف، فعسكروا هنالك،
والخندق بينه وبين القوم, فذهب حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد
القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم وقد كان وادع رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قومه، فلما
سمع كعب بحيي أغلق دونه الحصن فأبى أن يفتح له, فناداه: يا
كعب افتح لي. قال: إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا,
فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا.
قال: ويحك افتح لي أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: والله
إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك أن آكل معك منها. فأحفظه,
ففتح له, فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر وببحر طام،
جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال
من دومة، وبغطفان على قادتها وسادتها فأنزلتهم بذنب تعمر
إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى
نستأصل محمدا ومن معه. قال له كعب: جئتني والله بذل الدهر
وبجهام1 قد هراق ماءه
__________
1 الجهام، بالفتح: السحاب الذي لا ماء فيه، وقيل: الذي قد
هراق ماءه مع الريح.
(1/458)
برعد وبرق ليس فيه شيء، يا حيي فدعني وما
أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.
فلم يزل حيي بكعب حتى سمح له بأن أعطاه عهدا لئن رجعت قريش
وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني
ما أصابك. فنقض كعب عهده وبرئ مما كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما انتهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن
معاذ، وسعد بن عبادة، سيدا الأنصار، ومعهما عبد الله بن
رواحة وخوات بن جبير، فقال: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما
بلغنا عن هؤلاء؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه، ولا
تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا
وبينهم فاجهروا به للناس". فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على
أخبث ما بلغهم، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان فيه
حدة، فقال له ابن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا
وبينهم أربى من المشاتمة ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فسلموا عليه، وقالوا: عَضل والقَارة، أي كغدر عَضل
والقارة بأصحاب الرجيع خُبيب وأصحابه. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين".
فعظم عند ذلك الخوف.
قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ
أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ
وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11] .
وتكلم المنافقون حتى قال معتب بن قُشير أحد بني عمرو بن
عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم
لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. فَأَقَامَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقام عليه
المشركون بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلا الرمي
بالنبل والحصار.
ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعَثَ إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف، فأعطاهما ثلث
ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما، فجرى بينه وبينهما
صلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح،
إلا المراوضة في ذلك.
فلما أَرَادَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يفعل، بعث إلى السعدين فاستشارهما، فقالا:
يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به لا
بد لنا منه، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم،
والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس
واحدة، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم. فقال سعد بن معاذ:
يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا
يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا
الله بالإسلام وأعزنا
(1/459)
بك نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة،
والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
قال: فأنت وذاك. فأخذ سعد الصحيفة فمحاها، ثم قال: ليجهدوا
علينا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحزاب، فلم يكن
بينهم قتال إلا فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود،
وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب،
تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم، حتى مروا بمنازل بني
كنانة، فقالوا: تهيئوا للقتال يا بني كنانة فستعلمون من
الفرسان اليوم، ثم أقبلوا تُعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على
الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت
العرب تكيدها، قال: فتيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا
خيلهم، فاقتحمت منه بهم في السبخة بين الخندق وسلع.
وخرج علي -رضي الله عنه- في نفر من المسلمين حتى أخذوا
عليهم الثغرة، فأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن
عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم
أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما وقف
هو وخيله، قال: من يبارزني؟ فبرز له علي -رضي الله عنه-
فقال: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش
إلى إحدى خلتين إلا أخذتهما منه. قال له: أجل. قال: فإني
أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي
بذلك. قال: فإني أدعوك إلى النزال. قال له: لم يا ابن أخي؟
فوالله ما أحب أن أقتلك. قال علي -كرم الله وجهه: لكني
والله أحب أن أقتلك. فحمي عمرو واقتحم عن فرسه فعقره وضرب
وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا، فقتله علي -رضي
الله عنه- وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق.
وألقى عكرمة يومئذ رمحه وانهزم وقال علي -رضي الله عنه- في
ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت دين محمد بضراب
نازلته فتركته متجدلا ... كالجذع بين دكادك وروابي
لا تحسبن الله خاذل دينه ... ونبيه يا معشر الأحزاب
وحدثني أَبُو لَيْلَى عَبْدُ اللهِ بنِ سَهْلٍ، أَنَّ
عائشة -رضي الله عنها- كَانَتْ فِي حِصْنِ بَنِي حَارِثَةَ
يَوْمَ الخَنْدَقِ، وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن،
فمر سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده
حربة يرفل با وَيَقُوْلُ:
لَبِّثْ قَلِيْلاً يَشْهدِ الهَيْجَا حَمَلْ ... لاَ بأس
بالموت إذا حان الأجل
فقالت له أمه: الحق أي بني فقد أخرت. قالت عائشة: فَقُلْتُ
لَهَا: يَا أُمَّ سَعْدٍ لَوَدِدْتُ أَنَّ
(1/460)
دِرْعَ سَعْدٍ كَانَتْ أَسْبَغَ مِمَّا
هِيَ. فُرُمِيَ سعد بسهم قطع منه الأكحل، ورماه ابْنُ
العَرِقَةِ فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ: خُذْهَا مِنِّي وأنا
ابن العرقة. فقال له سعد: عَرَّقَ اللهُ وَجْهَكَ فِي
النَّارِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ
قُرَيْشٍ شَيْئاً فَأَبْقِنِي لَهَا فَإِنَّهُ لاَ قَوْمَ
أَحَبُّ إليَّ مِنْ أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا رسولك
وَكَذَّبُوْهُ وَأَخْرَجُوْهُ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ
وَضَعْتَ الحَرْبَ بينهم وبيننا فاجعله لِي شِهَادَةً
وَلاَ تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي من بني قريظة.
وكانت صفية بنت عبد المطلب في فارع -حصن حسان بن ثابت-
وكان معها فيه مع النساء والولدان، قالت: فمر بنا يهودي
فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة ونقضت وليس بيننا
وبينهم أحد يدفع عنا، والنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون
في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا. فقالت:
يا حسان! إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن, وإني والله
ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ، فانزل إليه فاقتله. فقال: غفر الله لك يا
ابنة عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. فلما
قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ونزلت
من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته. فلما فرغت رجعت
إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني
من سلبه إلا أنه رجل قال: ما لي بسلبه من حاجة.
وأقام رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة لتظاهر
عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
وروى نحوه يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ
عُرْوَةَ عن أبيه.
ثم إن نعيم بن مسعود الغطفاني أُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم، وقال: إن قومي
لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت يا رسول الله. قال: "إنما
أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة".
فأتى قريظة -وكان نديما لهم في الجاهلية- فقال لهم: قد
عرفتم ودي إياكم. قالوا: صدقت. قال: إن قريشا وغطفان ليسوا
كأنتم، البلد بلدكم وبه أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا
تقدروا أن تتحولوا عنه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان جاءوا
لحرب محمد وأصحابه, وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم
ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن
كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم،
ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى
تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على
أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه. فقالوا: لقد أشرت
بالرأي.
(1/461)
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن
معه: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد
رأيت عليَّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموه عليَّ.
قالوا: نفعل. قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما
صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا
على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، قريش
وغطفان، رجالا من أشرافهم، فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم
نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم فأرسل إليهم: نعم.
فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا منكم من رجالكم فلا
تفعلوا.
ثم خرج فأتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي
وأحب الناس إليَّ، ولا أراكم تتهموني. قالوا: صدقت، ما أنت
عندنا بمتهم. قال: فاكتموا عني. قالوا: نفعل.
ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال، وكان من صنع الله
لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان، إلى بني قريظة، عكرمة بن أبي
جهل في نفر من قريش وغطفان, فقالوا: إنا لسنا بدار مقام،
قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا.
فأرسلوا إليهم الجواب أن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل
فيه شيئا، وقد كان بعضنا أحدث فيه حدثا فأصابه ما لم يخف
عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا
رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا،
فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا
والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك.
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش
وغطفان: والله لقد حدثكم نعيم بن مسعود بحق. فأرسلوا إلى
بني قريظة: إنا والله ما ندفع إليكم رجلا من رجالنا, فإن
كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر
لكم نعيم لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلون، فإن رأوا
فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم.
فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى
تعطونا رهنا. فأبوا عليهم. وخذل الله بينهم.
فلما أنهي ذلك إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه ليلا لينظر
ما فعل القوم.
قال: فحدثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي،
قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة: يا أبا عبد الله!
رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم
يابن أخي.
(1/462)
قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا
نجهد. فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض
ولحملناه على أعناقنا. فقال: يابن أخي والله لقد رأيتنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى هويا من
الليل، ثم التفت إلينا, فقال: "من رجل يقوم فينظر لنا ما
فعل القوم ثم يرجع" -يشرط لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجعة- "أسأل الله أن يكون
رفيقي في الجنة". فما قام أحد من شدة الخوف وشدة الجوع
والبرد فلما لم يقم أحد دعاني فلم يكن لي من القيام بد حين
دعاني. فقال: "يا حذيفة اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا
يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا". فذهبت فدخلت في القوم،
والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا يقر لهم قرار ولا
نار ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش! لينظر
امرؤ من جليسه. قال حذيفة -رضي الله عنه: فأخذت بيد الرجل
الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت، فقال: فلا بن فلان، ثم
قال أبو سفيان: يا معشر قريش! إنكم والله ما أصبحتم بدار
مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا
عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن
لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا
فإني مرتحل. ثم قام إلى جملة وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه
فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم.
ولولا عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ لا تحدث شيئا حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته
بسهم.
قال: فرجعتُ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مراحل -وهو ضرب
من وشي اليمن فسره ابن هشام- فلما رآني أدخلني إلى رجليه
وطرح عليَّ طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم
أخبرته الخبر.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
قال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا
عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] .
وهذا كله من رواية البكائي عن محمد بن إسحاق.
وقال يونس بن بكير، عَنْ هِشَامِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ
بنِ أَسْلَمَ، أن رجلا قال لحذيفة: صحبتم رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأدركتموه. فذكر الحديث نحو حديث محمد بن
كعب، وفي آخره:
فجعلت أخبر رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنِ أبي سفيان، فجعل يضحك حتى جعلت أنظر إلى
أنيابه.
وقال موسى بن عقبة، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل يوم بدر في
رمضان سنة اثنين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم
قاتل يوم الخندق، وهو يوم الأحزاب وبني
(1/463)
قريظة، في شوال سنة أربع. وكذا قال عروة في
حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه. كذا قالا: سنة أربع,
وقالا: في قصة الخندق إنها كانت بعد أحد بسنتين.
وقال قتادة من رواية شيبان عنه: كان يوم الأحزاب بعد أحد
بسنتين، فهذا هو المقطوع به وقول موسى وعروة إنها في سنة
أربع وهم بين، ويشبهه قول عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "عرضني رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أحد، وأنا ابن أربع عشرة فلم
يجزني. فلما كان يوم الخندق عرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة
فأجازني". فيحمل قوله على أنه كان قد شرع في أربع عشرة
سنة، وأنه يوم الخندق كان قد استكمل خمس عشرة سنة، وزاد
عليها فلم يعد تلك الزيادة. والعرب تفعل هذا في عددها
وتواريخها وأعمارها كثيرا، فتارة يعتدون بالكسر ويعدونه
سنة، وتارة يسقطونه. وذهب بعض العلماء إلى ظاهر هذا الحديث
وعضدوه بقول موسى بن عقبة وعروة أن الأحزاب في شوال سنة
أربع، وذلك مخالف لقول الجماعة, ولما اعترف به موسى وعروة
من أن بين أحد والخندق سنتين، والله أعلم.
وقال أبو إسحاق الفزاري، عن حميد، عن أنس، قَالَ: خَرَجَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في غداة
باردة إلى الخندق، والمهاجرون والأنصار يحفرون الخندق
بأيديهم، ولم يكن لهم عبيد: فلما رأى ما بهم من الجوع
والنصب قال:
اللهم إن العيش عيش الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
أخرجه البخاري1. ولمسلم نحوه من حديث حماد بن سلمة، عن
ثابت.
وقال عَبْدُ الوَارِثِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ
صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ نحوه، وزاد, قال: ويؤتون بمثل
حفنتين شعيرا يصنع لهم بإهالة سنخة وهي بشعة في الحلق،
ولها ريح منكرة فتوضع بين يدي القوم. أخرجه البخاري2.
وقال شعبة وغيره: حدثنا أبو إسحاق، سمع البراء يَقُوْلُ:
كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ينقل
معنا التراب يوم الأحزاب، وقد وارى التراب بياض إبطه وهو
يقول:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4099" حدثنا عبد الله بن محمد،
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ، عن حميد، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4100" حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد
الوارث، به.
(1/464)
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا
ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألي قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
رفع بها صوته. أخرجه البخاري1.
وعنده أيضا من وجه آخر: ويمد بها صوته.
وقال عبد الواحد بن أيمن المخزومي، عن أبيه، سمع جابرا
يقول: كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدانة -وهي
الجبل- فقلنا: يا رسول الله: إن كدانة قد عرضت. فقال:
"رشوا عليها". ثم قام فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع،
فأخذ المعول أو المسحاة فسمى ثلاثا ثم ضرب، فعادت كثيبا
أهيل، فقلت له: ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل، ففعل،
فقلت للمرأة: هل عندك من شيء؟ وذكر نحو ما تقدم وما سقناه
من مغازي ابن إسحاق. أخرجه البخاري2.
وقال هوذة بن خليفة: حدثنا عوف الاعرابي، عن ميمون بن
أستاذ الزهراني، قال: حدثني البراء بن عازب، قال: لما كان
حين أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة
شديدة لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رآها أخذ
المعول وقال: "بسم الله". وضرب ضربة فكسر ثلثها. فقال:
"الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام, والله إني لأبصر قصورها
الحمر إن شاء الله". ثم ضرب الثانية وقطع ثلثا آخر فقال:
"الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر
المدائن الأبيض". ثم ضرب الثالثة فقال: "بسم الله"، فقطع
بقية الحجر فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله
إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة".
وقال الثوري: حدثنا ابن المنكدر، سمعت جابرا يَقُوْلُ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يوم الأحزاب: "من يأتينا بخبر القوم"؟. فقال الزبير: أنا.
فقال: "من يأتينا بخبر القوم"؟. فقال الزبير: أنا. فقال:
"إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير". أخرجه البخاري3.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4104" حدثنا مسلم بن إبراهيم،
حدثنا شعبة, به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4101" حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا
عبد الواحد بن أيمن، به.
3 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 314 و365"، وابن أبي شيبة "12/
92"، والبخاري "2846" و"2847" و"2997" و"7261" و"4113"،
ومسلم "2415"، والترمذي "3745", والنسائي في "الفضائل"
"107"و "108"، وابن ماجه "122"، والبيهقي في "الدلائل" "3/
431" من طرق عن محمد بن المنكدر، به.
(1/465)
وقال الحسن بن الحسن بن عطية العوفي: حدثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ
تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] ، قال: كان ذلك يوم أبي سفيان؛
يوم الأحزاب.
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ
إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] ، قال: هم بنو
حارثة، قالوا: بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق.
قوله: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ}
[الأحزاب: 22] ، قال: لأن الله قال لهم في سورة البقرة:
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا
يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] ، فلما مسهم البلاء
حيث رابطوا الأحزاب في الخندق، تأول المؤمنون ذلك، ولم
يزدهم إلا إيمانا وتسليما.
وقال حماد بن سلمة: أخبرنا حجاج، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ
مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أن رجلا من المشركين قتل
يوم الأحزاب، فبعث المشركون إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم
اثني عشر ألفا. فقال: "لا خير في جسده ولا في ثمنه".
وقال الأصمعي: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، قال: ضرب
الزبير بن العوام يَوْمَ الخَنْدَقِ عُثْمَانَ بنَ عَبْدِ
اللهِ بنِ المغيرة بالسيف على مغفره فقدَّه إِلَى
القَرَبُوسِ1, فَقَالُوا: مَا أَجْوَدَ سَيْفَكَ،
فَغَضِبَ, يريد أن العمل ليده لا لسيفه.
قال شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عَنْ عَلِيٍّ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان يوم
الأحزاب قاعدا على فرضة من فرض الخندق، فقال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شَغَلُوْنَا عَنِ الصَّلاَةِ
الوسطى حتى غربت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا -أو-
بطونهم". أخرجه مسلم2.
__________
1 القربوس: حنو السرج، وللسرج قربوسان، أما القربوس المقدم
ففيه العضدان، وهما رجلا السرج، ويقال لهما: حنواه.
والقربوس الآخر فيه رجلا المؤخرة، وهما حنواه.
2 صحيح: أخرجه مسلم "627" "204"، والطبري في "تفسيره"
"5425"، وأبو يعلى "388" من طريق شعبة، به. وأخرجه أحمد
"1/ 122"، والبخاري "2931" و"4111" و"4533" و"6396"، ومسلم
"627"، وأبو داود "409"، والدارمي "1/ 280"، والبغوي في
"شرح السنة" "388" من طريق هشام بن حسان، عن محمد بن
سيرين، عن عبيدة السلماني، عن عليٍّ، به.
(1/466)
وقال يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيْرٍ، عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ، عن جابر، أن عمر يوم الخندق بعدما غربت
الشمس جعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله! ما كدت أن
أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "وأنا والله ما صليتها بعد". فنزلت مع رسول
الله -أحسبه قال: إلى بطحان- فتوضأ للصلاة وتوضأنا، فصلى
العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى المغرب. متفق عليه.
وقال جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال:
كنا عند حذيفة بن اليمان، فقال رجل: لو أدركت رسول الله
صلى الله عليه وسلم لقاتلت معه وأبليت. فقال: أنت كنت تفعل
ذاك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة
الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم
القيامة"؟. فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة
مثله. ثم قال: "يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم". فلم أجد
بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم. فقال: "ائتني بخبر القوم ولا
تذعرهم عليَّ". قال: فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم,
فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهمي في كبد قوسي
وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تذعرهم عليَّ". ولو
رميته لأصبته قال: فرجعت كأنما أمشي في حمام فَأَتَيْتُ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ
أصابني البرد حين فرغت وقررت، فَأَخْبَرْتُ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فألبسني من فضل عباءة
كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى الصبح، فلما أن
أصبحت قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "قم يا نومان". أخرجه مسلم1.
وقال أبو نعيم: حدثنا يوسف بن عبد الله بن أبي بردة عن
موسى بن أبي المختار، عن بلال العبسي، عن حذيفة: أن الناس
تَفَرَّقُوا عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ليلة الأحزاب، فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا،
فَأَتَانِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَا جاث من البرد، فقال: "انطلق إلى عسكر
الأحزاب". فقلت: والذي بعثك بالحق ما قمت إليك من البرد
إلا حياء منك. قال: "فانطلق يابن اليمان فلا بأس عليك من
حر ولا برد حتى ترجع إليَّ". فانطلقت إلى عسكرهم، فوجدت
أبا سفيان يوقد النار في عصبة حوله، قد تفرق الأحزاب عنه،
حتى إذا جلست فيهم، حس
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1788"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/
354"، والبيهقي في "السنن" "9/ 148-149"، وفي "الدلائل"
"3/ 449-450" من طريق جرير، به.
(1/467)
أبو سفيان أنه دخل فيهم من غيرهم، فقال:
يأخذ كل رجل منكم بيد جليسه. قال: فضربت بيدي على الذي عن
يميني فأخذت بيده، ثم ضربت بيدي إلى الذي عن يساري فأخذت
بيده. فكنت فيهم هنية ثم قمت فَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قائم يصلي، فأومأ
إليَّ بيده أن: ادن. فدنوت ثم أومأ إليَّ فدنوت حتى أسبل
عليَّ من الثوب الذي عليه وهو يصلي فلما فرغ قال: ما
الخبر؟ قلت: تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلا في عصبة
يوقد النار، قد صب الله عليه من البرد مثل الذي صب علينا,
ولكنا نرجو من الله ما لا يرجو.
وقال عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبيد الحنفي، عن عبد
العزيز ابن أخي حذيفة، قال: ذكر حذيفة مشاهدهم، فقال
جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لفعلنا وفعلنا. فقال
حذيفة: لا تمنوا ذلك، فلقد رأيتنا ليلة الأحزاب. وساق
الحديث مطولا.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: حدثنا ابن أبي أوفى، قال: دَعَا
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم
الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم" 1. متفق عليه.
وقال الليث: حدثني المقبري عَنْ أَبِيْهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كان يقول: "لا إله إلا الله وحده، أعز جنده،
ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده لا شيء بعده". متفق عليه2.
وقال إسرائيل وغيره عن أبي إسحاق، عن سُلَيْمَان بن صُرَد،
قَالَ: قَالَ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
حين أجلى عنه الأحزاب: "الآن نغزوهم ولا يغزونا؛ نسير
إليهم". أخرجه البخاري3.
__________
1 صحيح: أخرجه الحميدي "719"، وأحمد "4/ 353", والبخاري
"2933" و"4115" و"6392" و"7489"، ومسلم "1742"، والترمذي
"1678"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"، "602"، وابن
ماجه "2796"، والبغوي "1353" من طرق عن إسماعيل بن أبي
خالد، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4114"، ومسلم "2724"، وأحمد "2/
307 و341 و494" من طرق عن الليث به.
قوله: "وغلب الأحزاب وحده": أي قبائل الكفار, المتحزبين
عليه وحده. أي من غير قتال الآدميين بل أرسل عليهم ريحا
وجنودا لم تروها.
وقوله "فلا شيء بعده": أي سواه.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4110" حدثني عَبْدُ اللهِ بنُ
مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ آدم، حدثنا إسرائيل،
به.
(1/468)
وقال خارجة بن مصعب، عَنِ الكَلْبِيِّ،
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ
مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة: 7] ، قال: تزويج النبي صلى
الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم
المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين. كذا روى الكلبي وهو
متروك.
وذهب العلماء في أمهات المؤمنين أن هذا حكم مختص بهن ولا
يتعدى التحريم إلى بناتهن ولا إلى إخوتهن ولا أخواتهن.
واستشهد يوم الأحزاب:
عبد الله بن سهل بن رافع الأشهلي، تفرد ابن هشام بأنه شهد
بدرا.
وأنس بن أوس بن عتيك الأشهلي، والطفيل بن النعمان بن
خنساء، وثعلبة بن عنمة؛ كلاهما من بني جشم بن الخزرج.
وكعب بن زيد أحد بني النجار، أصابه سهم غرب، وقد شهد هؤلاء
الثلاثة بدرا.
ذكر ابن إسحاق أن هؤلاء الخمسة قتلوا يوم الأحزاب.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ
عُرْوَةَ قال: قتل من المشركين يوم الخندق: نوفل بن عبد
الله بن المغيرة المخزومي؛ أقبل على فرس له ليوثبه الخندق،
فوقع في الخندق فقتله الله، وكبر ذلك على المشركين وأرسلوا
إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه. فرد إليهم
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَنَّهُ خبيث الدية لعنه الله ولعن ديته ولا نمنعكم أن
تدفنوه، ولا أرب لنا في ديته".
(1/469)
غزوة بني قريظة:
وكانوا قد ظاهروا قريشا وأعانوهم على حرب رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وفيهم نزلت: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ
ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ}
[الأحزاب: 26، 27] .
قال هشام, عن أبيه، عن عاشة, قالت: لَمَّا رَجَعَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخندق ووضع
السلاح واغتسل أتاه جبريل وقال: وضعت السلاح؟ والله ما
وضعناه، اخرج إليهم. قال: "فأين"؟. قال: ههنا. وأشار إلى
بني قريظة. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه1.
وقال حميد بن هلال، عن أنس: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا من
سكة بني غنم، موكب جبريل حين سار إلى بني قريظة. البخاري2.
وقال جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: نادى فِيْنَا
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
انصرف من الأحزاب أن: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني
قريظة". فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون قريظة. وقال آخرون:
لا نصلي إلا حيث أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ فاتنا الوقت. فما عنف واحدا من
الفريقين. متفق عليه3.
وعند مسلم في بعض طرقه: الظهر بدل العصر, وكأنه وهم.
وقال بشر بن شعيب، عن أبيه قال: حدثنا الزهري قال: أخبرنا
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ كَعْبٍ بنِ
مَالِكٍ، أن عمه عبيد الله بن كعب أَخْبِرْهُ أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رجع
من طلب الأحزاب وضع عنه اللأمة واغتسل واستجمر، فتبدى له
جبريل -عليه السلام- فقال: عذيرك من محارب، ألا أراك قد
وضعت اللأمة وما وضعناها بعد, فوثب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فزعا فعزم على الناس أن لا يصلوا العصر حتى
يأتوا بني قريظة. فلبسوا السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى
غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروبها، فقال بعضهم: أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عزم
علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، وإنما نحن في عزيمة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس علينا إثم. وصلى طائفة
من الناس احتسابا، وتركت طائفة حتى غربت الشمس فصلوا حين
جاءوا بني قريظة. فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم
واحدا من الفريقين.
وروى نحوه عبد الله بن عمر، عن أخيه عبد الله، عن القاسم
عن عائشة, وفيه أن رجلا سلم علينا ونحن في البيت, فَقَامَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزعا،
فقمت في إثره فإذا بدحية الكلبي فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "هذا جبريل يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة".
وقال: وضعتم السلاح لكنا لم نضع السلاح طلبنا المشركين حتى
بلغنا حمراء الأسد وفيه: فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمجالس بينه وبين بني قريظة، فقال: "هل مر بكم من أحد"؟.
قالوا: مر علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة
ديباج قال: "ليس ذاك بدحية الكلبي ولكنه جبريل أرسل إلى
بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب". فحاصرهم النبي
صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه أن يستروه بالحجف حتى
يسمعهم كلامه فناداهم: "يا إخوة القردة والخنازير".
فقالوا: يا أبا
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4117"، ومسلم "1769"، "65"، وأحمد
"6/ 56 و131 و280" من طريق هشام، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4118" حدثنا موسى، حدثنا جرير بن
حازم، عن حميد بن هلال, به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4119"، ومسلم "1770" من طريق
جويرية بن أسماء, به.
ووقع عند مسلم "الظهر" بدل "العصر".
(1/470)
القاسم لم تك فحاشا. فحاصرهم حتى نزلوا على
حكم سعد بن معاذ وكانوا حلفاءه، فحكم فيهم أن تقتل
مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم.
وقال مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ
علقمة، عن عائشة قالت: جاء جبريل وعلى ثناياه النقع، فقال:
أوضعت السلاح؟ والله ما وضعته الملائكة، اخرج إلى بني
قريظة. فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذن
بالرحيل، ثم مر على بني عمرو فقال: "من مر بكم"؟. قالوا:
دحية. وكان دحية يشبه لحيته ووجهه جبريل فأتاهم فحاصرهم
خمسا وعشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم سعد، وذكر الحديث
بطوله في مسند أحمد.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: قدَّم رسول الله عليا معه رايته
وابتدر الناس.
وقال موسى بن عقبة: وَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إثر جبريل، فمر على مجلس
بني غنم وهم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فسألهم: "مر عليكم فارس آنفا"؟. فقالوا: مر علينا دحية على
فرس أبيض تحته نمط أو قطيفة من ديباج عليه اللأمة. قال:
"ذاك جبريل". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبه دحية
بجبريل قال: ولما رأى علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله
عليه وسلم مقبلا تلقاه وقال: ارجع يا رسول الله، فإن الله
كافيك اليهود وكان علي سمع منهم قولا سيئا لرسول الله صلى
الله عليه وسلم وأزواجه. فكره عليٌّ أن يسمع ذلك, فقال: لم
تأمرني بالرجوع؟ فكتمه ما سمع منهم. قال: "أظنك سمعت لي
منهم أذى؟ فامض فإن أعداء الله لو قد رأوني لم يقولوا شيئا
مما سمعت".
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصنهم، وكانوا في
أعلاه، نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافها حتى أسمعهم فقال:
"أجيبونا يا معشر يهود يا إخوة القردة، لقد نزل بكم خزي
الله". فحاصرهم صلى الله عليه وسلم بكتائب المسلمين بضع
عشرة ليلة، ورد الله حيي بن أخطب حتى دخل حصنهم، وقذف الله
في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، صرخوا بأبي لبابة بن
عبد المنذر وكانوا حلفاء الأنصار فقال: لا آتيهم حتى يأذن
لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال: "قد أذنت لك فأتاهم". فبكوا إليه وقالوا: يا أبا
لبابة ماذا ترى فأشار بيده إلى حلقه يريهم أن ما يراد بكم
القتل, فلما انصرف سُقط في يده ورأى أنه قد أصابته فتنة
عظيمة, فقال: والله لا أنظر فِي وَجْهِ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أحدث لله توبة
نصوحا يعلمها الله من نفسي فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى
جذع من جذوع المسجد فزعموا أنه ارتبط قريبا من عشرين
لَيْلَةٍ.
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، كما
ذُكِرَ، حين راث عليه1 أبو لبابة: "أما فرغ أبو لبابة من
__________
1 راث عليه: أي أبطأ عليه.
(1/471)
حلفائه"؟. قالوا: يا رسول الله! قد والله
انصرف من عند الحصن وما ندري أين سلك؟ فقال:
"قد حدث له أمر". فأقبل رجل فقال: يا رسول الله! رأيت أبا
لبابة ارتبط بحبل إلى جذع من جذوع المسجد. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لقد أصابته بعدي فتنة". ولو جاءني
لاستغفرت له, فإذ فعل هذا فلن أحركه من مكانه حتى يقضي
الله فيه ما شاء".
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ، فذكر نحو ما قص موسى بن عقبة، وعنده: فلبس رسول
الله صلى الله عليه وسلم لأمته وأذن بالخروج، وأمرهم أن
يأخذوا السلاح ففزع الناس للحرب وبعث عليا على المقدمة
ودفع إليه اللواء ثم خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى آثارهم.
ولم يقل بضع عشرة ليلة.
وقال يونس بن بكير والبكائي -واللفظ له- عن ابن إسحاق قال:
حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة،
حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب وكان حيي بن
أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش
وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا
بأن رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غَيَّرَ منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر
يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا
ثلاثا، فخذوا أيها شئتم قالوا: وما هي؟ قال: نبايع هذا
الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل, وأنه
للذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم.
قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذ أبيتم عليَّ هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا،
ثم نخرج إلى محمد وأصحابه مصلتين السيوف لم نترك وراءنا
ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم
نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنتخذن
النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير
العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت
وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا
لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث
فيه ما لم يحدث من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم
يخف عليك من المسخ؟ قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه
ليلة واحدة من الدهر حازما.
رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، لكنه قال عن أبيه، عن
معبد بن كعب بن مالك، فذكره وزاد فيه: ثم بعثوا يطلبون أبا
لبابة، وذكر ربطه نفسه.
وزعم سعيد بن المسيب: أن ارتباطه بسارية التوبة كان بعد
تخلفه عن غزوة تبوك حين أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو عليه عاتب، بما فعل يوم قريظة، ثم تخلف عن غزوة
تبوك فيمن تخلف. والله أعلم.
(1/472)
وفي رواية علي بن أبي طلحة، وعطية العوفي،
عن ابن عباس في ارتباطه حين تخلف عن تبوك ما يؤكد قول ابن
المسيب وقيل: نزلت هذه الآية في أبي لبابة: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}
[الأنفال: 27] .
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن عبد الله بن
قسيط، أن توبة أبي لبابة نزلت عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في بيت أم سلمة، قالت أم
سلمة: فَسَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من السحر وهو يضحك، فقلت: مم تضحك؟ قال: "تيب
على أبي لبابة". قلت: أفلا أبشره؟ قال: "إن شئتِ". قال:
فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهم الحجاب،
فقالت: يا أبا لبابة! أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار
إليه الناس ليطلقوه. فقال: لا والله حتى يكون رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الذي يطلقني
بيده. فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
قال عبد الملك بن هشام: أقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست
ليال؛ تأته امرأته في وقت كل صلاة تحله للصلاة، ثم يعود
فيرتبط بالجذع، فيما حدثني بعض أهل العلم الآية التي نزلت
في توبته: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا
عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] .
قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد
بن عبيد، وهم نفر من هدل، أسلموا تلك الليلة التي نزل فيها
بنو قريظة عَلَى حُكْمِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
شُعْبَةُ: أخبرني سعد بن إبراهيم قال: أبا أمامة بن سهل
يحدث عن أبي سعيد قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم، فأتاه على حمار فلما دنا قريبا من المجد
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"قوموا إلى سيدكم -أو- إلى خيركم". فقال: "إن هؤلاء قد
نزلوا على حكمك". فقال: تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت عليهم بحكم
الله". وربما قال: "بحكم الملك". متفق عليه1.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ:
قاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو! قد ولاك رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَ مواليك لتحكم
فيهم. فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه؟ قالوا:
__________
1 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه أحمد "3/ 22 و71" والبخاري
"3043" و"3804" و"4121" و"4262"، ومسلم "1768"، "64"، وأبو
داود "5215" و"5216"، والنسائي في "الفضائل"، "118"، وابن
سعد "3/ 424"، والطبراني "5323"، والبيهقي "6/ 57-58" و"9/
63"، والبغوي "2718" من طرق عن شعبة، به.
(1/473)
نعم. قال: وعلى من ههنا من الناحية التي
فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وهو معرض عَنْ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجلالا
لَهُ؛ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم: "نعم". فقال سعد: أحكم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال
وتسبى الذراري.
شعبة وغيره: عن عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي، قال:
كنت في سبي قريظة، فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن
أنبت أن يقتل، فكنت فيمن لم ينبت.
موسى بن عقبة: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سألوه أن يحكم فيهم رجلا: "اختاروا
من شئتم من أصحابي"؟. فاختاروا سعد بن معاذ، فرضي بذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حكمه. فأمر
-عليه السلام- بسلاحهم فجعل في قبته، وأمر بهم فكتفوا
وأوثقوا وجعلوا في دار أسامة وبعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى سعد، فأقبل على حمار أعرابي يزعمون أن وطاءه
برذعة من ليف، واتبعه رجل من بني عبد الأشهل، فجعل يمشي
معه ويعظم حق بني قريظة ويذكر حلفهم والذي أبلوه يوم بعاث،
ويقول: اختاروك على من سواك رجاء رحمتك وتحننك عليهم,
فاستبقهم فإنهم لك جمال وعدد فأكثر ذلك الرجل، وسعد لا
يرجع إليه شيئا، حتى دنوا، فقال الرجل: ألا ترجع إليَّ
فيما أكلمك فيه؟ فقال سعد: قد آن لي أن لا تأخذني في الله
لومة لائم. ففارقه الرجل، فأتى قومه فقالوا: ما وراءك؟
فأخبرهم أنه غير مستبقيهم، وَإِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل مقاتلتهم، وكانوا فيما
زعموا ستمائة مقاتل قتلوا عند دار أبي جهم بالبلاط، فزعموا
أن دماءهم بلغت أحجار الزيت التي كانت بالسوق، وسبى نساءهم
وذراريهم، وقسم أموالهم بين من حضر من المسلمين. وكانت خيل
المسلمين ستة وثلاثين فرسا. وأخرج حيي بن أخطب فَقَالَ
لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"هل أخزاك الله"؟. قال له: لقد ظهرت عليَّ وما ألوم إلا
نفسي في جهادك والشدة عليك. فأمر به فضربت عنقه كل ذلك
بعين سعد.
وكان عمرو بن سعدى اليهودي في الأسرى، فلما قدموه ليقتلوه
فقدوه, فقيل: أين عمرو؟ قالوا: والله ما نراه، وإن هذه
لرمته التي كان فيها، فما ندري كيف انفلت؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أفلتنا بما علم الله في نفسه". وأقبل
ثابت بن قيس بن شماس إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هب لي الزبير. يعني ابن باطا
وامرأته فوهبهما له، فرجع ثابت إلى الزبير، فقال: يا أبا
عبد الرحمن هل تعرفني -وكان الزبير يومئذ أعمى كبيرا- قال:
هل ينكر الرجل أخاه؟ قال ثابت: أردت أن أجزيك اليوم بيدك،
قال: افعل فإن الكريم يجزى الكريم. فأطلقه فقال: ليس لي
قائد، وقد أخذتم امرأتي وبني، فرجع ثابت إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله
(1/474)
ذرية الزبير وامرأته، فوهبهم له، فرجع إليه
فقال: قد رد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتك
وبنيك قال الزبير: فحائط لي فيه أعذق ليس لي ولأهلي عيش
إلا به. فوهبه لَهُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ له ثابت: أسلم. قال: ما فعل
المجلسان؟ فذكر رجالا من قومه بأسمائهم, فقال ثابت: قد
قتلوا وفرغ منهم، ولعل الله أن يهديك. فقال الزبير: أسألك
بالله وبيدي عندك إلا ما ألحقتني بهم، فما في العيش خير
بعدهم. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر بالزبير فقتل.
وقال الله تعالى في بني قريظة في سياق أمر الأحزاب:
{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} يعني: الذين ظاهروا
قريشا: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ
وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب: 26] .
وقال عروة في قوله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا} [الأحزاب:
27] ، هي خيبر.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة،
عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص
الليثي، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم لسعد: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة
أرقعة".
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فحبسهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم في دار بنت الحارث النجارية، وخرج إلى سوق
المدينة، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في
تلك الخنادق وفيهم حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم
ستمائة أو سبعمائة، والمكثر يقول: كانوا بين الثمان
والتسعمائة. وقد قالوا لكعب وهو يذهب بهم إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسالا: يا كعب
ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون
الداعي لا ينزع وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل
وأتي بحيي بن أخطب وعليه حلة فقاحية قد شقها من كل ناحية
قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما
نظر إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه
من يخذل الله يخذل. ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس
إنه لا بأس بأمر الله. كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني
إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه.
وقال ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عمه عروة،
عن عائشة، قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، قالت:
إنها والله لعندي تحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسوق إذ هتف هاتف: يا
بنت فلانة! قالت: أنا والله. قلت: ويلك ما لك؟ قالت: أقتل.
قلت: ولم؟ قالت: حدث أحدثته فانطلق بها فضربت عنقها.
(1/475)
قال عكرمة وغيره: صياصيهم: حصونهم.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: ثم بعث النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدِ بنِ زيد، أخا بني عبد
الأشهل بسبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاع له بهم خيلا
وسلاحا. وكان صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه ريحانة
بنت عمرو بن خنافة، وكانت عنده حتى توفي وهي في ملكه، وعرض
عليها أن يتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول
الله بل تتركني في مالك فهو أخف عليك وعليَّ. فتركها وقد
كانت أولا توقفت عن الإسلام ثم أسلمت، فسر النبي صلى الله
عليه وسلم بذلك، والله أعلم.
وفي ذي الحجة: وفاة سعد بن معاذ من سنة خمس
هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ
قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ
يُقَالُ لَهُ: حِبَّانُ بنُ العرقة، رماه فِي الأَكْحَلِ،
فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَيْمَةً فِي المَسْجِدِ لِيَعُوْدَهُ من قريب,
فلما رجع من الخندق؛ وذكر الحديث، وفيه قالت عائشة: ثم إن
كلمه تحجر للبرء فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب
إليَّ أن أجاهد فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم
فإني أظن أنك وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب
قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب
بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها. قال: فانفجر من
لبته، فلم يرعهم -ومعهم في المسجد أهل خيمة من بني غفار-
إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، هذا الذي
يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد جرحه يغذو فمات منها. متفق
عليه1.
وقال الليث: حدثني أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ،
قَالَ: رُمِيَ سَعْدُ يَوْمَ الأَحْزَابِ, فَقَطَعُوا
أَكْحَلَهُ، فَحَسَمَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّارِ، فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ،
فتركه, فنزفه الدم فحسمه أُخْرَى. فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ،
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تُخْرِجْ
نَفْسِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
فَاسْتَمْسَكَ عَرَقُهُ فَمَا قَطَرَتْ مِنْهُ قَطْرَةٌ،
حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فحكم أن
تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم، قال: وكانوا أربعمائة.
فلما فرغ من قتلهم، انفتق عرقه فمات. حديث صحيح2.
وقال ابن راهويه: حدثنا عمرو بن محمد القرشي، قال: حدثنا
عبد الله بن إدريس، عن
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4122"، ومسلم "1769"، من طريق عبد
الله بن نمير، عن هشام به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 350", وابن سعد "3/ 429", والترمذي
"1582"، والنسائي في "الكبرى" "7679", والطحاوي في "شرح
الآثار" "4/ 321"، من طرق عن الليث بن سعد، به.
(1/476)
عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم: "إن هذا الذي تحرك له العرش -يعني سعد بن
معاذ- وشيع جناته سبعون ألف ملك، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه".
وقال سليمان التيمي، عن الحسن: اهتز عرش الرحمن فرحا
بروحه.
وقال يَزِيْدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ الهَادِ، عَنْ مُعَاذِ
بنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَ جبريل إِلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: مَنْ هَذَا العَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي مَاتَ؛
فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتَحَرَّكَ لَهُ
العرش؟ قال: فخرج رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِذَا سعد بن معاذ، فجلس رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قبره وهو يدفن،
فبينما هو جالس قال: "سُبْحَانَ اللهِ". مَرَّتَيْنِ,
فَسَبَّحَ القَوْمُ. ثُمَّ قَالَ: "الله أكبر الله أكبر".
فكبر القوم فَقَالَ: "عَجِبْتُ لِهَذَا العَبْدِ
الصَّالِحِ شُدِّدَ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ حَتَّى كَانَ
هَذَا حِيْنَ فُرِّجَ له".
روى بعضه محمد بن إسحاق، عن معاذ بن رفاعة، قال: أخبرني
محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، عن جابر.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة الزرقي،
قال: أخبرني مَنْ شِئْتُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِي أَنَّ
جِبْرِيْلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
في جوف الليل مُعْتَجِراً بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ،
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ هَذَا المَيِّتُ الَّذِي
فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السماء واهتز له العرش؟ فَقَامَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجر
ثوبه مبادرا إلى سعد بن معاذ فوجده قد قبض.
وقال البكائي عن ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لاَ
أَتَّهِمُ عَنِ الحسن البصري قال: كان سعد رجلا بادنا فلما
حمله الناس وَجَدُوا لَهُ خِفَّةً فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ
المُنَافِقِيْنَ: والله إن كان لبادنا وما حملنا من جنازة
أَخَفَّ مِنْهُ, فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ لَهُ حَمَلَةً
غَيْرَكُم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدِ
اسْتَبْشَرَتِ المَلاَئِكَةُ بروح سعد واهتز له العرش".
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل
بعض أهل سعد: ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم في هذا؟ فقالوا: ذكر لنا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن ذلك فقال: "كان يقصر في
بعض الطهور من البول".
وقال يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ
عَمْرِو بنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ،
عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْتُ يَوْمَ الخندق أقفوا
آثار الناس، فسمعت وئيد الأرض، تعني حس الأرض، ورائي,
فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيْهِ
الحَارِثُ بنُ أَوْسٍ يَحْمِلُ مجنه. فجلست، فمر سعد وهو
يقول:
(1/477)
لبث قليلا يدرك الهيجا حمل ... ما أحسن
الموت إذا حان الأجل
قالت: وعليه درع قد خرجت منها أطرافه، فتخوفت على أطرافه،
وكان من أطول الناس وأعظمهم. قالت: فَاقْتَحَمْتُ
حَدِيْقَةً، فَإِذَا فِيْهَا نَفَرٌ فِيْهِم عُمَرُ، وفيهم
رجل عليه مغفر فقال لي عمر: ما جاء بك؟ والله إنك لجريئة،
وما يؤمنك أن يكون تحوزا وبلاء. فَمَا زَالَ يَلُوْمُنِي
حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنَّ الأَرْضَ انشقت ساعتئذ, فدخلت
فيها. قالت: فرفع الرجل المغفر عن وجهه، فإذا طلحة بن عبيد
الله, فَقَالَ: ويحكَ، قَدْ أَكْثَرْتَ وَأَيْنَ
التَّحَوُّزُ وَالفِرَارُ إلا إلى الله؟ قالت: ويرمي سعدا
رجل من قريش، يقال له: ابن العرقة بسهم، قال: خذها، وأنا
ابن العرقه، فأصاب أكحله. فدعا الله سعد فقال: اللهم لا
تمتني حتى تشفيني من قريظة. وكانوا مواليه وحلفاءه في
الجاهلية فرقأ كلمه وبعث الله الريح على المشركين. وساق
الحديث بطوله, وفيه قالت: فانفجر كلمه وقد كان برئ حتى ما
يرى منه إلا مثل الخرص1. ورجع إلى قبته. قالت: وحضره
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ فإني لأَعْرِفُ بُكَاء أَبِي بَكْرٍ مِنْ
بُكَاءِ عُمَرَ، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله
تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ، قال: فقلت:
مَا كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
يصنع؟ قالت: كانت عيناه لا تدمع على أحد ولكنه إذا وجد
فإنما هو آخذ بلحيته.
وقال حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد, عن عبد الرحمن بن
عمرو بن سعد بنِ مُعَاذٍ، أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ نَزَلُوا
عَلَى حُكْمِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فأرسل إلى سعد بن معاذ فأتى بِهِ مَحْمُوْلاً
عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُضْنَىً مِنْ جُرْحِهِ، فَقَالَ
لَهُ: "أَشِرْ عليَّ فِي هَؤُلاَءِ". فقال: إِنِّي
أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ قَدْ أَمَرَكَ فِيْهِم بِأَمْرٍ
أَنْتَ فَاعِلُهُ. قَالَ: "أَجَلْ، وَلَكِنْ أَشِرْ عليَّ
فيهم". فقال: لو وليت أمرهم قتلت مقاتلتهم وسبيت ذراريهم
وقسمت أموالهم. فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لَقَدْ أَشَرْتَ عليَّ فيهم بالذي أمرني الله به" 2.
وقال محمد بن سعد: أخبرنا خالد بن مخلد، قال: حدثني
مُحَمَّدُ بنُ صَالِحٍ التَّمَّارُ، عَنْ سَعْدِ بنِ
إبراهيم، سمع عَامِرِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
لَمَّا حكم سعد بن معاذ في قريظة أن
__________
1 الخرص: الحلقة الصغيرة من الحلي، وهو من حلي الأذن.
2 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 22 و71"، والبخاري "3043" و"3804"
و"4121" و"6262"، ومسلم "1768"، "64"، وأبو داود "5215"،
"5216" من حديث أبي سعيد الخدري به.
وأخرجه أحمد "6/ 141-142"، وابن أبي شيبة "14/ 408-411"،
وابن سعد "3/ 421-423" من طريق يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ
جَدِّهِ، عن عائشة به في حديث طويل.
(1/478)
يقتل من جرت عليه الموسى، قَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ حَكَمَ
فِيْهِم بِحُكْمِ اللهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ مِنْ فَوْقِ
سبع سماوات".
وقال ابن سعد: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا إِسْمَاعِيْلُ بنُ
أَبِي خَالِدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأنصار قال: لما قضى سعد
في قُرَيْظَةَ ثُمَّ رَجَعَ انْفَجَرَ جُرْحُهُ، فَبَلَغَ
ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فأتاه فأخذ رأسه فوضعه في حجره، وسجي بثوب أبيض إذا مد على
وجهه بدت رجلاه، وَكَانَ رَجُلاً أَبْيَضَ جَسِيْماً،
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ سَعْداً قَدْ جَاهَدَ فِي
سَبِيْلِكَ وَصَدَّقَ رَسُوْلَكَ وَقَضَى الَّذِي
عَلَيْهِ، فَتَقَبَّلْ رُوْحَهُ بِخَيْرِ مَا تَقَبَّلْتَ
روح رجل". فَلَمَّا سَمِعَ سَعْدٌ كَلاَمَ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى الله عليه وسلم فتح عينيه، فقال: السلام عليك يا
رسول الله! أشهد أنك رسول الله. قال: وأمه تبكي
وَتَقُوْلُ:
وَيْلَ امِّ سَعْدٍ سَعْدَا ... حزَامَةً وَجِدَّا
فَقِيْلَ لَهَا: أَتَقُوْلِيْنَ الشِّعْرَ عَلَى سَعْدٍ؟
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "دَعُوْهَا فغيرها من الشعراء أكذب".
وقال عبد الرحمن بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عَنْ
مَحْمُوْدِ بنِ لَبِيْدٍ، قَالَ: لَمَّا أُصِيْبَ أكحل سعد
حولوه عند امرأة يقال لها: رفيدة، وكانت تداوي الجرحي،
قال: وكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا مَرَّ به يقول: "كيف أمسيت"؟. وإذا أصبح قال: "كيف
أصبحت"؟. فيخبره، فذكر القصة. وقال: فأسرع النبي صلى الله
عليه وسلم المشي إلى سعد, فَشَكَا ذَلِكَ إِلَيْهِ
أَصْحَابُهُ, فَقَالَ: "إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَسْبِقَنَا
إِلَيْهِ المَلاَئِكَةُ فَتُغَسِّلُهُ كَمَا غَسَّلَتْ
حنظلة". فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البَيْتِ
وَهُوَ يُغَسَّلُ، وَأُمُّهُ تَبْكِيْهِ وَتَقُوْلُ:
وَيْلَ أم سعد سعدا ... حزامة وجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل نائحة تَكْذِبُ
إِلاَّ أُمَّ سَعْدٍ". ثُمَّ خَرَجَ بِهِ فقالوا: ما حملنا
ميتا أخف منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يمنعكم
أن يخف عليكم وَقَدْ هَبَطَ مِنَ المَلاَئِكَةِ كَذَا
وَكَذَا لَمْ يهبطوا قط، قد حملوه معكم".
وقال شعبة: أخبرني سماك بن حرب، قال: سمعت عَبْدَ الله بنَ
شَدَّادٍ يَقُوْلُ: دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَعْدِ بنِ معاذ وهو يكيد بنفسه1
فَقَالَ: "جَزَاكَ اللهُ خَيْراً مِنْ سَيِّدِ قَوْمٍ، فقد
أنجزت الله ما وعدته ولينجزنك الله ما وعدك".
__________
1 يكيد بنفسه: أي يجود بنفسه.
(1/479)
وقال ابن نمير: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ
بنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: بلغني أنه شهد سعدا
سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض.
رواه غيره: عن عبيد الله، عن نافع، فقال: عن ابن عمر.
وقال شبابة: أخبرنا أبو معشر، عن المقبري، قال: لما دَفْنِ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سعدا
قَالَ: "لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَغْطَةِ القَبْرِ لَنَجَا
سَعْدٌ وَلَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً اخْتَلَفَتْ مِنْهَا أضلاعه
من أثر البول".
وقال يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ
عَمْرٍو، عن مُحَمَّدُ بنُ المُنْكَدِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ
بنِ شُرَحْبِيْلَ، أن رجلا أخذ قبضة من تراب قبر سعد يوم
دفن، فتحها بعد فإذا هي مسك.
وقال محمد بن موسى الفطري: أخبرنا معاذ بن رفاعة الزرقي،
قال: دفن سعد بن معاذ إلى أس دار عقيل بن أبي طالب.
قال محمد بن عمرو بن علقمة: حدثني عاصم بن عمر بن
قَتَادَةَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ استيقظ فجاءه جبريل، أو قال: ملك. فقال: من رجل
من أمتك مات الليلة استبشر بموته أهل السماء؟ قال: "لا
أعلمه إلا أن سعد بن معاذ أمسى قريبا، ما فعل سعد"؟.
قالوا: يا رسول الله قبض وجاء قومه فاحتملوه إلى دارهم.
فصلى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالنَّاسِ الصبح, ثم خرج وخرج الناس مشيا حتى إن شسوع
نعالهم تقطع من أرجلهم وإن أرديتم لتسقط من عوائقهم، فقال
قائل: يا رسول الله قد بتتَّ الناس مشيا، قال: "أخشى أن
تسبقنا إليه الملائكة كما سبقتنا إلى حنظلة".
شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً،
وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِياً مِنْهَا نَجَا مِنْهَا
سَعْدُ بنُ معاذ".
شعبة: حدثني أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بنِ
شُرَحْبِيْلَ، قَالَ: لما انفجر جرح سعد بن معاذ التزمه
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَجَعَلَتْ الدماء تسيل على النبي صلى الله عليه وسلم،
فجاء أبو بكر فقال: واكسر ظهرناه. فقال: "مه يا أبا بكر".
ثم جاء عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّا لِلِّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُوْنَ.
روى عُقْبَةُ بنُ مُكْرَمٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
عَدِيٍّ، عن شعبة, عن سعد بن إبراهيم عَنْ نَافِعٍ، عَنْ
صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ عائشة مرفوعا:
"لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ القَبْرِ لَنَجَا منها
سعد". وقد تقدم هذا, وما فيه صفية.
وليس هذا الضغط مِنْ عَذَابِ القَبْرِ فِي شَيْءٍ، بَلْ
هُوَ من روعات المؤمن كنزع روحه، وكألمه من بكاء حميمه
عليه، وكروعته من هجوم ملكي الامتحان عليه، وكروعته يوم
الموقف وساعة ورود جهنم، ونحو ذلك نسأل الله أن يؤمن
روعاتنا.
(1/480)
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا حمد بن عمرو،
عن أبيه، عن جده، عن عائشة، قالت: ما كان أحد أشد فقدا على
المسلمين بَعْدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا مِنْ سَعْدِ بنِ
مُعَاذٍ.
وقال الواقدي: أخبرنا عتبة بنُ جَبيرة، عَنِ الحُصَيْنِ
بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: كان
سعد بن معاذ أَبْيَضَ طُوَالاً، جَمِيْلاً، حَسَنَ
الوَجْهِ، أَعْيَنَ, حَسَنَ اللحية.
فرمي يوم الخندق سنة خمس فمات منها، وهو ابن سبع وثلاثين
سنة. ودفن بالبقيع.
وقال أبو معاوية عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ
عَنْ جَابِرٍ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اهتز عرش الله لموت سعد بن معاذ".
وقال عَوْفٌ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ, عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ،
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"اهتز العرش لموت سعد بن معاذ".
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي
خَالدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بنِ راشد، عن امرأة من الأنصار
يقال لها: أسماء بنت يزيد بن السكن، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأم سعد بن معاذ:
"ألا يرقأ دمعك ويذهب حزنك بأن ابنك أول من ضحك الله له
واهتز له العرش"؟.
وقال يُوْسُفُ بنُ المَاجِشُوْنِ عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ
عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قَتَادَةَ، عَنْ جَدَّتِهِ
رُمَيْثَةَ أنها قالت: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَلَو أَشَاءُ أَنْ أُقَبِّلَ
الخَاتَمَ الَّذِي بَيْنَ كتفيه من قربي منه لفعلت- يقول
لسعد بن معاذ يوم مات: "اهتز له عرش الرحمن".
وقال مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عطَاءِ بنِ السَّائِبِ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اهْتَزَّ
العَرْشُ لِحُبِّ لِقَاءِ اللهِ سَعْداً قَالَ: إِنَّمَا
يعني السرير قال: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}
[يوسف: 100] ، قال: تفسخت أَعْوَادُهُ. قَالَ: وَدَخَلَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْرَهُ فَاحْتُبِسَ، فَلَمَّا خَرَجَ قِيْلَ له: يَا
رَسُوْلَ اللهِ! مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ: "ضُمَّ سعد في القبر
ضمة فدعوت الله يكشف عنه".
وقال الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن البراء أن النبي صلى
الله عليه وسلم أتي بثوب حرير، فجعل أصحابه يتعجبون من
لينه فقال: "إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة ألين من هذا".
متفق على صحته.
وقال يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ
عَمْرٍو، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، قَالَ: دَخَلْتُ
عَلَى أَنَسِ بنِ مَالكٍ؛ وَكَانَ وَاقِدٌ مِنْ أَعْظَمِ
النَّاسِ وَأَطْوَلِهِم؛ فَقَالَ لِي: من أنت؟
(1/481)
قُلْتُ: أَنَا وَاقِدُ بنُ عَمْرِو بنِ
سَعْدِ بن معاذ. فقال: إِنَّكَ بِسَعْدٍ لَشَبِيْهٌ, ثُمَّ
بَكَى فَأَكْثَرَ البُكَاءَ. ثُمَّ قَالَ: يَرْحَمُ اللهُ
سَعْداً، كَانَ مِنْ أعظم الناس وأطولهم. ثم قَالَ: بَعَثَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشاً
إِلَى أُكَيْدِر دُوْمَةَ، فَبَعَثَ إِلَى رَسُوْلِ الله
بِجُبَّةٍ مِنْ دِيْبَاجٍ مَنْسُوْجٍ فِيْهَا الذَّهَبُ،
فَلَبِسَهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ الناس يَمْسَحُوْنَهَا وَيَنْظُرُوْنَ
إِلَيْهَا, فَقَالَ: "أَتَعْجَبُوْنَ مِنْ هَذِهِ
الجُبَّةِ"؟. قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ مَا رَأَيْنَا
ثَوْباً قَطُّ أَحْسنَ مِنْهُ. قَالَ: "فَوَاللهِ
لَمَنَادِيْلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ
مِمَّا ترون".
قلت: هو سَعْدُ بنُ مُعَاذِ بنِ النُّعْمَانِ بنِ امْرِئِ
القيس بن زيد بنِ عَبْدِ الأَشْهَلِ بنِ جُشَمَ بنِ
الحَارِثِ بن الخزرج بن عمرو، ولقبه النبيت، ابن مالك بن
الأوس؛ أخي الخزرج وهما ابنا حارثة بن عمرو؛ ويدعى حارثة
العنقاء؛ وإليه جماع الأوس والخزرج أنصار رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ويكنى سعد أبا عمرو، وأمه كبشة بنت رافع
الأنصاري، من المبايعات أسلم هو وأسيد بن الحضير على يد
مصعب بن عمير، وكان مصعب قدم المدينة قبل العقبة الآخرة
يدعو إلى الإسلام ويقرئ القرآن. فلما أسلم سعد لم يبق من
بني عبد الأشهل -عشيرة سعد- أحد إلا أسلم يومئذ ثم كان
مصعب في دار سعد هو وأسعد بن زرارة، يدعوان إلى الله. وكان
سعد وأسعد ابني خالة. وَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَعْدٍ بنِ مُعَاذٍ وَأَبِي
عُبَيْدَةَ بنِ الجَرَّاحِ. قاله ابن إسحاق.
وقال الواقدي، عن عبد الله بن جعفر، عن سعد بن إبراهيم،
وغيره: آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَهُ وبين سعد بن أبي وقاص.
شهد سعد بدرا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
أحد حين ولى الناس.
وقال أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيْلُ بنُ مُسلمٍ
العَبْدِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو المُتَوَكِّلِ، أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ
الحُمَّى، فَقَالَ: مَنْ كَانَتْ بِهِ فَهِيَ حَظُّهُ مِنَ
النَّارِ فَسَأَلَهَا سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ رَبَّهُ،
فَلَزِمَتْهُ فَلَمْ تُفَارِقْهُ حَتَّى فارق الدنيا.
وكان لسعد من الولد: عمرو، وعبد الله، وأمهما: عمة أسيد بن
الحضير هند بنت سماك من بني عبد الأشهل، صحابية. وكان
تزوجها أوس بن معاذ أخو سعد -وقتل عبد الله بن عمرو بن
سعد- يوم الحرة.
وكان لعمرو من الولد: واقد بن عمرو، وجماعة قيل إنهم تسعة.
وقتل عمرو أخو سعد بن معاذ يوم أحد، وقتل ابن أخيهما
الحارث بن أوس يومئذ شابا،
(1/482)
وقد شهدوا بدرا، والحارث أصابه السيف ليلة
قتلوا كعب بن الأشرف، واحتمله أصحابه.
وشهد بعد ذلك أحدا.
روى عن سعد بن معاذ: عبد الله بن مسعود قصته بمكة مع أمية
بن خلف، وذلك في صحيح البخاري.
وحصن بني قريظة على أميال من المدينة، حاصرهم النبي صلى
الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة.
واستشهد من المسلمين: خلاد بن سويد الأنصاري الخزرجي، طرحت
عليه رحى، فشدخته.
ومات في مدة الحصار أبو سنان بن محصن، بدري مهاجري، وهو
أخو عكاشة بن محصن الأسدي. شهد هو وابنه سنان بدرا. ودفن
بمقبرة بني قريظة التي يتدافن بها من نزل دورهم من
المسلمين، وعاش أربعين سنة، ومنهم من قال: بقي إلى أن بايع
تحت الشجرة.
(1/483)
إسلام ابني سعية وأسد بن عبيد:
قال يونس بن بكير، وجرير بن حازم، عن ابن إسحاق: حدثني
عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة، أنه قال: هل
تدري عم كان إسلام ثعلبة وأسد ابني سعية، وأسد بن عبيد،
نفر من هدل، لم يكونوا من بني قريظة ولا نضير، كانوا فوق
ذلك؟ قلت: لا. قال: إنه قدم علينا رجل من الشام يهودي،
يقال له: ابن الهيبان، ما رأينا خيرا منه. فكنا نقول إذا
احتبس المطر: استسق لنا. فيقول: لا والله، حتى تخرجوا صدقة
صاعا من تمر أو مدا من شعير. فنفعل فيخرج بنا إلى ظاهر
حرتنا فوالله ما يبرح مجلسه حتى تمر بنا الشعاب تسيل. قد
فعل ذلك غير مرة ولا مرتين فلما حضرته الوفاة، قال: يا
معشر يهود! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض
البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم. قال: أخرجني نبي أتوقعه
يبعث الآن فهذه البلدة مهاجره، وإنه يبعث بسفك الدماء وسبي
الذرية، فلا يمنعنكم ذلك منه ولا تسبقن إليه. ثم مات.
زاد يونس بن بكير في حديثه: فلما كانت الليلة التي افتتحت
فيها قريظة, قال أولئك الثلاثة، وكانوا شبابا أحداثا: يا
معشر يهود! هذا الذي كان ذكر لكم ابن الهيبان. قالوا: ما
هو؟ فقالوا: بلى والله إنه لهو بصفته. ثم نزلوا فأسلموا
وخلوا أموالهم وأهلهم، وكانت في الحصن، فلما فتح رد ذلك
عليهم.
تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني
وأوله: سنة ست من الهجرة.
(1/484)
فهرس الموضوعات:
الصفحة الموضوع
5 مقدمة المحقق
115 مخطوطة الكتاب
143 ذكر نسب سيد البشر
147 مولده المبارك صلى الله عليه وسلم
151 أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته
155 ذكر ما ورد في قصة سطيح وخمود النيران ليلة المولد
وانشقاق الإيوان
159 باب: منه
162 وأرضعته ثويبة
162 ثم أرضعته حليمة السعدية
163 شق الصدر
165 وفاة والده
165 وفاة أمه وكفالة جده وعمه
167 وقد رعى الغنم
168 سفره مع عمه إن صح
171 شأن خديجة رضي الله عنها
172 بنيان الكعبة
177 ما عصمه الله به من أمر الجاهلية
181 ذكر زيد بن عمرو بن نفيل
184 باب: صفته صلى الله عليه وسلم في التوراة
186 قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه
194 ذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم
199 فأول من آمن به خديجة رضي الله عنها
200 من معجزاته الأول
205 إسلام السابقين الأولين
208 فصل: في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عشيرته إلى
الله وما لقى من قومه
220 إسلام أبي ذر رضي الله عنه
223 إسلام حمزة رضي الله عنه
224 إسلام عمر رضي الله عنه
230 الهجرة الأولى إلى الحبشة ثم الثانية
(1/485)
الصفحة الموضوع
239 إسلام ضماد
240 إسلام الجن
243 فصل: فيما ورد من هواتف الجان وأقوال الكهان
247 انشقاق القمر
249 باب: ويسألونك عن الروح
251 ذكر أذية المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين
255 ذكر شعب أبي طالب والصحيفة
257 باب: إنا كفيناك المستهزئين
258 دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش بالسِّنَة
260 ذكر الروم
262 ثم توفي عمه أبو طالب وزوجته خديجة
268 ذكر الاسراء برسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى المَسْجِدِ الأقصى
275 ذكر معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء
289 زواجه صلى الله عليه وسلم بعائشة وسودة أمي المؤمنين
291 عرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل
295 حديث يوم بعاث
296 ذكر مبدأ خبر الأنصار والعقبة الأولى
301 العقبة الثانية
305 تسمية من شهد العقبة
308 ذكر أول من هاجر إلى المدينة
312 سياق خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
324 السنة الأولى من الهجرة
327 قصة إسلام ابن سلام
329 قصة بناء المسجد
334 سنة اثنتين من الهجرة
334 غزوة الأبواء
334 بعث عبيدة
334 غزوة بواط
334 غزوة العشيرة
335 بدر الأولى
335 سرية سعد بن أبي وقاص
335 بعث عبد الله بن جحش
336 غزوة بدر الكبرى من السيرة لابن إسحاق رواية البكائي
344 واستشهد يوم بدر
349 بقية أحاديث غزوة بدر
350 رؤيا عاتكة
365 ذكر غزوة بدر: من مغازي موسى بن عقبة
(1/486)
الصفحة الموضوع
371 غنائم بدر والأسرى
375 أسماء من شهد بدرا
376 ذكر طائفة من أعيان البدريين
378 قصة النجاشي، من السيرة
383 سرية عمير بن عدي الخطمي
383 غزوة بني سليم
383 سرية سالم بن عمير لقتل أبي عفك
383 غزوة السويق، في ذي الحجة
386 ثم دخلت سنة ثلاث من الهجرة
386 غزوة ذي أمر
386 غزوة بحران
386 غزوة بني قينقاع
388 غزوة بني النضير
391 سرية زيد بن حارثة إلى القردة
391 غزوة قرقرة الكدر
392 مقتل كعب بن الأشرف
396 غزوة أحد
415 عدد الشهداء
426 غزوة حمراء الأسد
430 السنة الرابعة من الهجرة
430 سرية أبي سلمة إلى قطن في أولها
430 غزوة الرجيع
433 غزوة بئر معونة
437 ذكر الخلاف في غزوة بني النضير "وقد تقدمت في سنة
ثلاث"
438 غزوة بني لحيان
438 غزوة ذات الرقاع
440 غزوة بدر الموعد
441 غزوة الخندق
441 وقتل يوم بئر معونة
444 السنة الخامسة من الهجرة
444 غزوة ذات الرقاع
444 غزوة دومة الجندل
444 غزوة المريسيع "غزوة بني المصطلق"
446 تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجويرية
449 حديث الإفك
456 غزوة الخندق "الأحزاب"
469 واستشهد يوم الأحزاب
469 غزوة بني قريظة
476 وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه
484 إسلام ابني سعية وأسد بن عبيد
485 فهرس الموضوعات
(1/487)
|