سير أعلام
النبلاء، ط الحديث المجلد الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
سنة ست من الهجرة:
قال البكائي، عن ابن إسحاق: ثم أقام رَسُوْلِ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالمَدِيْنَةِ ذا
الحجة والمحرم وصفرًا وشهري ربيع، وخرج في جمادى الأولى
إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع: خبيب بن عدي وأصحابه،
وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة، فوجدهم قد حذروا
وتمنعوا في رؤوس الجبال، فقال: لو أنا هبطنا عسفان لرأى
أهل مكة أنا قد جئنا مكة. فهبط في مائتي راكب من أصحابه
حتى نزل عسفان. ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع
الغميم، ثم كرّا. وراح قافلًا.
غزوة ذي قرد:
ثم قدم المدينة فأقام بها ليالي، فأغار عُيينة بن حصن في
خيل من غطفان على لقاح النبي -صلى الله عليه وسلم-
بالغابة، وفيها رجل من بني غفار وامرأة، فقتلوا الرجل
واحتملوا المرأة في اللقاح.
وكان أول من نذرَ بهم سلمة بن الأكوع، غدا يريد الغابة
ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرسه، حتى إذا علا ثنية
الوداع نظر إلى بعض خيولهم فأشرف في ناحية من سَلع، ثم
صرخ: واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم، وكان مثل
السَّبُع، حتى لحق بالقوم. وجعل يردهم بنبله، فإذا وجهت
الخيل نحوه هرب ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى. وبلغ رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك فصرخ بالمدينة: "الفزع
الفزع". فترامت الخيول إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: المقداد، وعباد بن بشر،
وأسيد بن ظهير، وعكاشة بن محصن وغيرهم. فأمَّر عليهم سعد
بن زيد، ثم قال: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس،
وَقَدْ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فيما بلغني -لأبي عياش: "لو أعطيت فرسك رجلًا
أفرس منك"؟ فقلت: يا رسول الله أنا أفرس الناس. وضربت
الفرس فوالله ما مشى بي إلا خمسين ذراعًا حتى طرحني فعجبت
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال: "لو أعطيته أفرس منك وجوابي له".
ولم يكن سلمة بن الأكوع يومئذ فارسًا، وكان أول من لحق
القوم على رجليه. وتلاحق الفرسان في طلب القوم، فأول من
أدركهم محرز بن نضلة الأسدي، فأدركهم ووقف لهم بين أيديهم
ثم قال: قفوا يا معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم
من المسلمين. فحمل عليه رجل منهم فقتله، ولم يُقْتَل من
المسلمين سواه.
(2/5)
قال عبد الملك بن هشام: وقتل يومئذ من
المسلمين وقاص بن مجزز المدلجي.
وقال البكائي، عن ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لاَ
أَتَّهِمُ عَنِ عبد الله بن كعب بن مالك، أن مجززًا إنما
كان على فرس عكاشة يقال له: الجناح، فقتل مجزز واستلب
الجناح. ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة بن ربعي. حبيب بن
عيينة بن حصن، وغشاه ببرده، ثم لحق بالناس. وأقبل رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين، فاسترجعوا وقالوا:
قُتِلَ أبو قتادة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل لأبي قتادة وضع عليه برده
لتعرفوا أنه صاحبه".
وأدرك عُكاشة بن محصن أوبارًا وابنه عمرو بن أوبار، كلاهما
على بعير، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعًا، واستنقذوا بعض
اللقاح.
وسار رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حَتَّى نزل بالجبل من ذي قَرَد، وتلاحق الناس، فَنَزَلَ
رَسُوْل اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- به،
وأقام عليه يومًا وليلة. وقال سلمة: يا رسول الله لو
سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح، وأخذت بأعناق
القوم. فقال رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-؛ فِيمَا بلغني: إنهم الآن ليغبقون1 في غطفان.
فقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه، في كل
مائة رجل، جزورًا. وأقاموا عليها ثم رجعوا إلى المدينة.
قال: وانفلتت امرأة الغفارى على ناقة من إبل رَسُوْلِ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى قدمت
عليه، وقالت: إني نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها.
قال: فتبسم رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ثُمَّ قال: "بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها
ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر فيما لا يملك ابن آدم
إنما هي ناقة من إبلي، ارجعي على بركة الله".
قلت: هذه الغزوة تسمى غزوة الغابة، وتسمى غزوة ذي قرد.
وذكر ابن إسحاق وغيره: أنها كانت في سنة ست. وأخرج مسلم2
أنها كانت زمن الحديبية.
قال أبو النضر هاشم بن القاسم: حدثنا عكرمة بن عمّار، قال:
حدثنى إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: قدمنا
المدينة زمن الحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فخرجت أنا ورباح -غلام النبي- بظهر رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجْتُ بِفَرسٍ
لِطَلْحَةَ بن عبيد الله كنت أريد أن أنديه3
__________
1 الغبوق: شرب اللبن عشيا وهو مقابل الصبوح.
2 صحيح: انظر الحديث الآتي وهو عند مسلم "1807".
3 التندية: أن يورد الرجل الإبل والخيل فتشرب قليلا، ثم
يردها إلى المرعى ساعة، ثم تعاد إلى الماء.
والتندية أيضا: تضمير الفرس، وإجراؤه حتى يسيل عرقه، ويقال
لذلك العرق: الندى، ويقال: نديت الفرس والبعير تندية.
(2/6)
مع الإبل. فلما كان بغلس، أغار عبد الرحمن
بن عيينة على إبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقتل
راعيها وخرج يطردها هُوَ وَأَنَاسٌ مَعَهُ فِي خَيْلٍ.
فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ اقعُدْ عَلَى هَذَا الفَرَسِ
فَألْحِقْهُ بِطَلْحَةَ وأخبر رسول الله الخبر. وقمت على
تل فجعلت وجهي من قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات: يا
صباحاه. ثم اتبعت القوم معي سيفي ونبلي، فَجَعَلْتُ
أَرْمِيهِم وَأَعْقِرُ بِهِم وَذَلِكَ حِيْنَ يَكْثُرُ
الشجر، فإذا رجع إليَّ فارس جلست له في أصل شجرة ثم رميت،
فلا يقبل عليَّ فارس إلا عقرت به. فجعلت أَرمِيْهِم
وَأَقُوْلُ:
أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ ... وَاليَوْمُ يَوْمُ الرضع
فألحق برجل منهم فأرميه وهو على راحلة رحله، فيقع سهمي في
الرحل حتى انتظمت كتفه، فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع.
وَكُنْتُ إِذَا تَضَايَقَتِ الثَّنَايَا علوتُ الجَبلَ
فَرَدَأْتُهُم بالحجارة، فما زال ذلك شأني وشأنهم أتبعهم
فأرتجز، حتى ما خلق الله شيئًا من سرح النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ خَلَّفْتُهُ ورائي
واستنقذته من أيديهم. ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَرْمِيْهِم
حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِيْنَ رُمْحاً
وَأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِيْنَ بُرْدَةً يستخفون منها، ولا
يلقون من ذلك شَيْئاً إِلاَّ جَعَلْتُ عَلَيْهِ حِجَارَةً
وَجَمَعتُهُ عَلَى طَرِيقِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى إذا مُدّ الضُّحَاء أتاهم
عيينة بن بدر الفزاري مَدَداً لَهُم، وَهُم فِي ثَنِيَّةٍ
ضَيِّقَةٍ. ثُمَّ علوت الجبل، فقال عيينة: ما هذا الذي
أرى؟ قَالُوا: لَقِيْنَا مِنْ هَذَا البَرْح، مَا
فَارَقَنَا بسحر حتى الآنَ، وَأَخَذَ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ
فِي أَيْدِيْنَا وجعله وراء ظهره. فقال عيينة: لولا أن هذا
يرى أن وراءه مددًا لقد ترككم، ليقم إليه نفر منكم. فقام
إليَّ أربعة فصعدوا في الجبل. فَلَمَّا أَسْمَعتُهُم
الصَّوتَ قُلْتُ: أَتَعرِفُونِي؟ قَالُوا: وَمَنْ أنت؟
قلت: أنا ابن الأكوع، والذي كَّرم وَجْهَ مُحَمَّدٍ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ يَطْلُبُنِي
رَجُلٌ مِنْكُم فَيُدْرِكَنِي وَلاَ أَطْلُبُهُ
فَيَفُوتَنِي.
قال رجل منهم: إني أظن؛ يعني كما قال. فما برحت مقعدي ذلك
حَتَّى نَظَرتُ إِلَى فَوَارِسِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَخَلَّلُوْنَ الشَّجَرَ،
وَإِذَا أَوَّلُهُمُ الأخرم الأسدي وعلى إثره أبو قتادة،
وعلى إثره المقداد، فولى المشركون. فأنزل من الجبل فأعترض
الأخرم فآخذ عنان فرسه، فقلت: يا أخرم انذر القوم يعني
احذرهم فإني لا آمن أن يقطعوك، فاتئد حتى يلحق النبي -صلى
الله عليه وسلم- وأصحابه. فقال: إن كنت تؤمن بالله واليوم
الآخر فلا تحل بيني وبين الشهادة، قال: فخليت عنان فرسه
فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة، وطعنه عبد الرحمن فقتله.
وَتَحوَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى فَرَسِ الأَخْرَمِ
فَيَلْحَقُ أبو قتادة به، فاختلفا طعنتين، فعقر بأبي
قتادة، وقتله أبو قتادة، وتحول على فرس الأخرم. ثم إني
خرجت أَعْدُو فِي أَثَرِ القَوْمِ حَتَّى مَا أَرَى من
غبار أصحابي
(2/7)
شيئًا ويعرضون قبل المَغِيبِ إِلَى شِعْبٍ
فِيْهِ مَاءٌ يُقَالَ لَهُ: ذو قرد، فأرادوا أن يشربوا
منه، فَأَبْصرُوْنِي أَعْدُو وَرَاءهُم، فَعَطَفُوا عَنْهُ
وَأَسْنَدُوا فِي الثنية، ثنية ذي تير، وَغَرَبَتِ
الشَّمْسُ، فَأَلْحَقُ رَجُلاً فَأَرمِيْهِ فَقُلْتُ:
خُذْهَا وأنا ابن الأكوع. قال: فَقَالَ: يَا ثُكْلَ
أُمِّي، أَكْوَعِيٌّ بُكْرَة؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا عَدُوَّ
نَفْسِهِ، وَكَانَ الَّذِي رَمَيتُهُ بُكْرة، فأتْبعتُه
سَهْماً آخَرَ فَعَلِقَ بِهِ سَهمَانِ. ويخلفون فرسين
فجبذتهما أسوقهما إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو على الماء الذي جليتهم عنه ذو
قرد؛ فإذا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في خمس مائة،
وإذا بلال قد نَحَرَ جَزُوْراً مِمَّا خَلَّفْتُ، فَهُوَ
يَشوِي لِرَسُوْلِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ خَلِّنِي فأنتخبُ
مِنْ أَصْحَابِكَ مائَةً واحدة فآخذ على الكفار
بِالعَشْوَةِ فَلاَ يَبْقَى مِنْهُم مُخَبِّرٌ. قَالَ:
أَكُنْتَ فاعلًا يا سلمة؟ قلت: نعم، والذي أكرمك. فَضَحِكَ
رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ فِي ضَوءِ النَّارِ. ثُمَّ
قال: إنهم يُقْرَون الآن بأرض غطفان. فجاء رجل من غطفان
فقال: مَرُّوا عَلَى فُلاَنٍ الغَطَفَانِيِّ فَنَحَرَ
لَهُم جَزُوْراً، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة،
فتركوها وخرجوا هُرَّابًا.
فَلَمَّا أَصْبَحنَا قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير فرساننا اليوم أَبُو قَتَادَةَ،
وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ". وَأَعطَانِي سَهْمَ
الرَّاجِلِ وَالفَارِسِ جَمِيْعاً. ثُمَّ أَرْدَفَنِي
وَرَاءهُ عَلَى العَضْبَاءِ1 رَاجِعِيْنَ إِلَى
المَدِيْنَةِ.
فَلَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا قَرِيباً مِنْ
ضَحْوَةٍ، وَفِي القَوْمِ رَجُلٌ من الأنصار كان لا يسبق،
فجعل ينادي: هل من مسابق؟ وكرر ذلك. فقلت له: أما تُكرِمُ
كَرِيْماً وَلاَ تَهَابُ شَرِيفاً؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ
رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قُلْتُ: يا رسول الله بأبي أنت وأمي خلني فلأسابقه. قال:
"إن شئت". قلت: أذهب إليك. فطفر عن راحلته، وثنيت رجلي
فطفرت عن الناقة. ثم إني ربطت عليه شرفًا أو شرفين؛ يعني
اسْتبْقَيْتُ نَفسِي2، ثُمَّ إِنِّيْ عَدَوْتُ حَتَّى
أَلحَقَهُ فأصُكّ بين كتفيه بيدي. قلت: سبقتك والله. فضحك
وقال: إن أظن حتى قدمنا إلى المدينة.
أخرجه مسلم عن شيخ، عن هاشم3.
قرأت على أبي الحسن علي بن عبد الغني الحراني بمصر، وعلي
أبي الحسن علي بن أحمد
__________
1 العضباء: هو لقب ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والعضباء: مشقوقة الأذن، ولم تكن ناقته -صلى الله عليه
وسلم- كذلك، وإنما هو لقب لزمها.
2 ربطت عليه شرفًا أو شرفين، يعني استبقيت نفسي: معنى ربطت
حبستُ نفسي عن الجري الشديد والشرف: ما ارتفع من الأرض.
وقوله: "استبقيت نفسي": أي لئلا يقطعني البهر.
3 صحيح: أخرجه مسلم "1807" حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هاشم بن القاسم، به.
(2/8)
الهاشمي بالإسكندرية، وعلى أبي سعيد سنقر
بن عبد الله بحلب، وعلي أحمد بن سليمان المقدس بقاسيون
وأخبرنا محمد بن عبد السلام الفقيه، وأبو الغنائم بن
محاسن، وعمر بن إبراهيم الأديب، قالوا: أخبرنا أَبُو
الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَبِي بَكْرٍ بنِ روزبة.
"ح" وقرأت على أبي الحسين اليونيني، ومحمد بن هاشم
العباسي، وإسماعيل بن عثمان الفقيه، ومحمد بن حازم، وعلي
بن بقاء، وأحمد بن عبد الله بن عزيز، وخلق سواهم: أخبركم
أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر بن الزبيدي؛ قالا: أخبرنا
أبو الوقت السجزي، قال: أخبرنا أبو الحسن الدراوردي، قال:
أخبرنا أبو محمد بن حمويه، قال: أخبرنا محمد بن يوسف، قال:
حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا مكي بن
إبراهيم، قال: حدثنا يَزِيْدُ بنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ
سَلَمَةَ أَنَّهُ أخبره، قال: خرجت من المدينة ذاهبًا نحو
الغابة، حتى إذا كنت بثنية الغابة لقيني غلام لعبد الرحمن
بن عوف، قلت: ويحك ما بك؟ قال: أخذت لقاح النبي -صلى الله
عليه وسلم. قلت: من أخذها؟ قال: غطفان وفزارة. فصرخت ثلاث
صرخات أسمعت ما بين لابتيها: يا صباحاه، يا صباحاه. ثم
اندفعت حتى ألقاهم وقد أخذوها، فجعلت أَرمِيْهِم
وَأَقُوْلُ:
أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ ... وَاليَوْمُ يَوْمُ الرضع
فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا. فأقبلت بها أسوقها، فلقيني
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
فَقُلْتُ: يَا رسول الله إن القوم عطاش، وإني أعجلتهم أن
يشربوا سقيهم، فابعث في أثرهم. فقال: يا ابن الأكوع ملكت
فأسجح، إن القوم يقرون في قومهم.
(2/9)
مقتل أبي رافع:
وهو سلام بن أبي الحقيق؛ وقيل: عبد الله بن أبي الحقيق
اليهودي، لعنه الله.
قال البكائي، عن ابن إسحاق: ولما انقضى شأن الخندق وأمر
بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق أبو رافع فيمن حزب
الأحزاب عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-. وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف.
فاستأذنت الخزرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتل
ابن أبي الحُقيق وهو كبير، فأذن لهم.
وحدثني الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: كان مما
صنع الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم: أن هذين الحيين من
الأنصار كانا يتصاولان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئًا فيه غناء عَنْ رَسُوْلِ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا قالت
الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا عِنْد رَسُوْل
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي الإسلام.
فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها. وإذا فعلت الخزرج شيئًا قالت
الأوس مثل ذلك.
ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا
علينا. فتذاكروا من رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي الحُقَيق وهو بخيبر.
فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأذن لهم. فخرج
إليه من الخزرج خمسة من بني سلمة: عبد الله بن عتيك،
ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة بن ربعي،
وآخر حليف لهم. فأمَّر عليهم ابن عتيك، فخرجوا حتى قدموا
خيبر، فأتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا بيتًا في
الدار إلا أغلقوه على أهله، ثم قاموا على بابه فاستأذنوا،
فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ قالوا: نلتمس الميرة.
قال: ذاكم صاحبكم، فادخلوا عليه.
قال: فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوفًا أن
تكون دونه مجاولة تحول بينا وبينه. قال: فصاحت امرأته
فنوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه، والله ما يدلنا عليه
في سواد البيت إلا بياضه، كأنه قُبطية ملقاة. فلما صاحت
علينا جعل الرجل منا يرفع سيفه عليها ثم يذكر نَهَى
رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ
قتل النساء، فيكف يده. فلما ضربناها بأسيافنا تحامل عليه
عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قطني
قطني؛ أي: حسبي. قال: وخرجنا، وكان ابن عتيك سيئ البصر
فوقع من الدرجة، فَوثئَتْ يدهُ وثأ1 شديدًا وحملناه حتى
نأتي منهرًا2 من عيونهم فندخل فيه. فأوقدوا النيران
واشتدوا في كل وجه يطلبون، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم
فاكتنفوه. فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أنه هلك؟ فقال رجل منا:
أنا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل في الناس. قال:
فوجدتُها وفي يدها المصباح وحوله رجال وهي تنظر في وجهه
وتحدثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت
نفسي فقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد؟ ثم أقبلت عليه تنظر
في وجهه، ثم قالت: فاض، وإله يهود. فما سمعُت من كلمة كانت
ألذ إليَّ منها. قال: ثم جاء فأخبرنا الخبر، فاحتملنا
صاحبنا فقدمنا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبرناه واختلفنا في قتله، فكلنا
يدعيه. فقال: هاتوا أسيافكم، فجئنا بها فنظر إليها فقال
لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام
والشراب.
__________
1 وثئت يده وثأ شديدًا: أي أصابها وهن، دون الخَلْع
والكسر.
2 المَنْهَر: خَرْقٌ في الحِصْن نافِذٌ يدخل فيه الماء،
وهو مفعل من النهر، والميم زائدة.
(2/10)
وقال زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن
البراء، قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رهطًا من الأنصار إلى أبي رافع، فدخل
عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلًا فقتله وهو نائم. أخرجه
البخاري1.
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء: بَعَثَ رَسُوْلُ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى أبي رافع
رجالًا من الأنصار، عليهم عبد الله -يعني ابن عتيك. وكان
أبو رافع يُؤْذِي رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز. فلما
دنوا وقد غربت الشمس وراح الناس بسَرْحِهم؛ قال: عبد الله
لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلق فمتلطف للبواب لعلي
أدخل. فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي
حاجته. وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت
تريد أن تدخل فادخل لأغلق. فدخلت فكمنت، فأغلق الباب وعلق
الأقاليد على ود، فقمت ففتحت الباب.
وكان أبو رافع يسمر عنده وكان في علالي. فلما أن ذهب عنه
أهل سمره صعدت إليه، وجعلت كلما فتحت بابًا أغلقته عليَّ
من داخل، وقلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى
أقتله. فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا
أدري أين هو من البيت. قلت: يا أبا رافع، قال: من هذا؟
فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش، فما أغنى
شيئًا، فصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه
فقلت: ما هذا الضرب أبا رافع؟ قال: لأمك الويل، إن رجلًا
في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم
أقتله، ثم وضعت صدر السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعلمت
أني قد قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابًا فبابًا حتى انتهيت
إلى درجة، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض،
فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامتي، ثم
انطلقت حتى جلست عند الباب. فقلت: لا أبرح الليلة حتى أعلم
أقتلته أم لا. فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال:
أنعي أبا رافع. فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النجاء النجاء،
فقد قتل الله أبا رافع، فانتهينا إلى النبي -صلى الله عليه
وسلم- وحدثناه فقال: "ابسط رجلك"، فبسطتها، فمسحها، فكأنما
لم أشكها قط. أخرجه البخاري2.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4038" حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا
يحيى بن آدم، حدثنا ابن أبي زائدة، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4039" حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا
عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل به.
وقوله: "على ود" أي على وتد.
(2/11)
وأخرجه أيضا من حديث إبراهيم بن يوسف بن
أبي إسحاق، عن أبيه، عن جده، عن البراء بنحوه. وفيه: ثم
انطلقت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر. وفيه: ثم
جئت كأني أغيثه وغيرت صوتي، وقلت: ما لك يا أبا رافع. قال:
ألا أعجبك، دخل علي رجل فضربني بالسيف. قال: فعمدت له
أيضًا فأضربه أخرى فلم تغن شيئًا. فصاح وقام أهله، ثم جئت
وغيرت صوتي كهيئة المغيث، وإذا هو مستلق على ظهره، فأضع
السيف في بطه ثم أتكئ عليه حتى سمعت صوت العظم. ثم خرجت
دهشًا إلى السلم، فسقطت فاختلعت رجلي فعصبتها. ثم أتيت
أصحابي أحجُل فقلت: انطلقوا فبشروا رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنِّي لا أبرح حتى أسمع
الناعية. فلما كان وجه الصبح صعد الناعية، فقال: أنعي أبا
رافع. فقمت أمشي، ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا
النبي -صلى الله عليه وسلم- فبشرته1.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة، قال: كان سلام
بن أبي الحُقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب
يدعوهم إلى قتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويجعل لهم
الجعل العظيم. فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه جماعة
فبيتوه ليلًا.
وقال موسى بن عقبة في مغازيه: فطرقوا أبا رافع اليهودي
بخيبر فقتلوه في بيته.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4040" حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا
شريح هو ابن مسلمة، حدثنا إبراهيم بن يوسف، به.
وقوله: "ما بي قلبة" بفتح القاف واللام والموحدة: أي علَّة
أنقلب بها. وقال الفراء: أصل القلاب بكسر القاف داء يصيب
البعير فيموت من يومه، فقيل لكل من سلم من علة: ما به
قلبة، أي ليست به علة تهلكه.
(2/12)
قتل ابن نبيح الهذلي:
ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود: عن عروة، قَالَ: بَعَثَ
رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَبْدِ الله بن أنيس السلمي إلى سفيان بن نُبيح الهذلي ثم
اللحياني ليقتله وهو بعرنة وادي مكة.
وقال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن
الزبير، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أنيس، عن
أبيه، قال: دعاني رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "إنه بلغني أن ابن نبيح الهذلي يجمع
الناس ليغزوني وهو بنخلة أو بعُرنَةَ، فأتِه فاقتله". قلت:
يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه. قال: "آية ما بينك وبينه
أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة". فخرجت متوشحًا سيفي، حتى
دُفعتُ إليه في ظعن يرتاد لهن منزلًا وقت العصر. فلما
رأيته وجدت له ما وصف لِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من القُشَعريرة. فأقبلت نحوه وخشيت أن
يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي
نحوه أومئ برأسي إيماء. فلما انتهت إليه قال: من الرجل؟
قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاء لذلك.
قال: أجل نحن في ذلك. فمشيتُ معه حتى إذا أمكنني حملت عليه
بالسيف فقتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه.
فلما قَدِمْتُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أفلح الوجه". قلت: قد قتلته
يا رسول الله. قال: "صدقت". ثم قام بي فدخل بي بيته
فأعطاني عصًا، فقال: "أمسك هذه عندك". فخرجت بها على
الناس. فقالوا: ما هذه العصا؟ فقلت: أعطانيها رَسُوْلَ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَنِي أن
أمسكها عندي. قالوا: أفلا ترجع فتسأله فرجعت فسألته: لم
أعطيتنيها يا رسول الله؟ قال: "آية بيني وبينك يوم
القيامة، إن أقل الناس المتخصرن يومئذ". قال: فقرنها عبد
الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في
كفنه، فدفنا جميعًا1.
رواه عبد الوارث بن سعيد، عن ابن إسحاق، فقال: إلى خالد بن
سفيان الهذلي.
وقال موسى بن عقبة: بَعَثَهُ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى سفيان بن عبد الله بن أبي
نبيح الهذلي، والله أعلم.
__________
1 ضعيف: أخرجه أحمد "3/ 496" حدثنا يعقوب، حدثنا أبي قال:
عن ابن إسحاق، به.
قلت: إسناده ضعيف، آفته عبد الله بن عبد الله بن أنيس،
فإنه مجهول، وقد ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" "3/ ق1/
125"، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" "2/ ق2/ 90" ولم
يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا.
(2/12)
غزوة بني المصطلق
وهي غزوة المريسيع:
قال ابن إسحاق: غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني
المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست. كذا قال ابن إسحاق.
وقال ابن شهاب وعروة: هي في شعبان سنة خمس.
وكذلك يروى عن قتادة.
وقاله أيضًا الواقدي، فقال: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الاثنين لليلتين خلتا
من شعبان سنة خمس، وقدم المدينة لهلال رمضان.
قلت: وفيها حديث الإفك، وقد تقدم ذلك في سنة خمس. وهو
الصحيح.
(2/13)
سرية نجد: قيل إنها كانت في المحرم سنة ست:
قال الليث بن سعد: حدثني سعيد المقبري أنه سمع أبا هريرة
يقول: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال
له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري
المسجد، فخرج إليه رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "ما عندك"؟ قال: عندي يا
محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر،
وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رَسُوْلِ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كان من
الغد، فقال: "ما عندك يا ثُمامة"؟ قال: عندي ما قلت لك: إن
تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد
المال فسل تعط منه ما شئت. فقال: "أطلقوه". فانطلق إلى نخل
قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فَقَالَ: أَشْهَدُ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَأَنَّ مُحَمَّداً رسول
الله. يا محمد، والله ما كان على وجه الأرض أبغض إليَّ من
وجهك، وقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ. والله ما
كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله
إليَّ. والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح
بلدك أحب البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد
العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت يا ثمامة.
قال: لا، ولكني أسلمت، فوالله لا يأتيكم من اليمامة حبة
حتى يأذن فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. متفق
عليه1، "وأخرجه" مسلم أيضًا من حديث عبد الحميد بن جعفر عن
المقبري، به2.
خالفهما محمد بن إسحاق، فيما روى يونس بن بكير عنه: حدثني
سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: كان إسلام ثمامة بن أثال
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
دعا الله حين عرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما عرض
له وهو مشرك، فأراد قتله، فأقبل معتمرًا حتى دخل المدينة،
فتحير فيها حتى أخذ، فَأَتَى بِهِ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأمر به فَرُبِطَ إلى عمود
من عمد المسجد. وفيه: وإن تسأل مالًا تعطه.
قال أبو هريرة: فجعلنا المساكين نقول: ما نصنع بدم ثمامة؟
والله لأكلهٌ من جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دمه.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "2/ 453"، والبخاري "462" و"469"
و"2422" و"2423" و"4372"، ومسلم "1764"، وأبو داود "2679"،
والنسائي "1/ 109-110"، وابن خزيمة "252"، والبيهقي في
"السنن "1/ 171" وفي "دلائل النبوة" "4/ 78" من طرق عن
الليث، به.
2 صحيح: أخرجه مسلم "1764" "60" حدثنا محمد بن المثنى،
حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، به.
(2/14)
قلت: وهذا يدل على أن إسلام ثمامة كان بعد
إسلام أبي هريرة، وهو في سنة سبع فذكر الحديث، وفيه:
فانصرف من مكة إلى اليمامة، ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت
قريش، فكتبوا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة
يخلي لهم حمل الطعام. وكانت اليمامة ريف مكة. قال: فأذن
النبي -صلى الله عليه وسلم.
وفيها: كان من السرايا، على ما زعم الواقدي: قَالَ: بَعَثَ
رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في
ربيع الأول أو الآخر عُكاشة بن محصن في أربعين رجلًا إلى
الغمْر، وفيهم ثابت بن أقرم وشجاع بن وهب. فأسرعوا، ونذر
بهم القوم وهربوا. فنزل عكاشة على مياههم وبعث الطلائع
فأصابوا من دلهم على بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتي بعير،
فساقوها إلى المدينة.
وقال: وفيها بعث سرية أبي عبيدة إلى القصة، في أربعين
رجلًا، فساروا ليلهم مشاة ووافوا ذا القصة مع عماية الصبح،
فأغار عليهم وأعجزهم هربًا في الجبال. وأصابوا رجلًا
فأسلم، وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محمد بن
مسلمة، في عشرة، فكمن القوم لهم حتى نام هو وأصحابه، فما
شعروا إلا بالقوم، فقتل أصحاب محمد، وأفلت هو جريحًا.
قال: وفيها كانت سرية زيد بن حارثة بالجموم. فأصاب امرأة
من مزينة، يقال لها: حليمة، فدلتهم على مكان فأصابوا
مواشي, أسراء، منهم زوجها، فوهبها النبي -صلى الله عليه
وسلم- نفسها وزوجها.
وفيها سرية زيد بن حارثة إلى الطرف؛ إلى بني ثعلبة في خمسة
عشر رجلًا. فهربت الأعراب وخافوا، فأصاب من نعمهم عشرين
بعيرًا. وغاب أربع ليال.
وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص؛ في جمادى الأولى؛
وأخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص، فاستجار بزينب
بِنْتِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فأجارته.
وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: أقبل دحية
الكلبي من عند قيصر، قد أجازه بمال. فأقبل حتى كان
بُحْسمي، فلقيه ناس من جُذَام، فقطعوا عليه الطريق وسلبوه،
فَجَاءَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَبْلَ أن يدخل بيته فأخبره. فبعث زيد بن حارثة
إلى حُسْمَى؛ وهي وراء وادي القرى وكانت في جمادى الآخرة.
ثم سرية زيد إلى وادي القرى في رجب.
ثم قال: وحدثني عَبْدُ اللهِ بنُ جَعْفَرٍ، عَنْ
يَعْقُوْبَ بنِ عتبة، قال: خرج علي -رضي الله عنه- في مائة
إلى فدك إلى حي من بني سعد بن بكر. وذلك أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بلغه عنهم أن
(2/15)
لهم جمعًا يريدون أن يمدوا يهود خيبر. فسار
إليهم الليل وكمن النهار، وأصاب عينا فأقر له أنه بُعِثَ
إلى خيبر يعرض عليهم نصرهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر.
قال الواقدي: وذلك في شعبان.
وكانت غزوة أم قرفة في رمضان سار إليها زيد بن حارثة؛
لأنها كانت تؤذي النبي -صلى الله عليه وسلم، ذكره الواقدي.
قال: وفيها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل في
شعبان، فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أطاعوا فتزوج ابنة ملكهم". فأسلم
القم، وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ؛ والدة أبي سلمة،
وكان أبوها ملكهم.
وفي شوال كانت سرية كُرز بن جابر الفهري إلى العُرنيين
الذي قتلوا راعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستاقوا
الإبل. فبعثه في عشرين فارسًا وراءهم.
وقال ابْنُ أَبِي عَرُوْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَنَسٍ: أَنَّ رهطًا من عكل وعرينة أتوا رَسُوْلِ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: إنا أناس
من أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، فاستوخمنا المدينة. فأمر لهم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذود وزاد، وأمرهم أن
يخرجوا فيها فيشربوا من أبوالها وألبانها. فانطلقوا حتى
إذا كانوا في ناحية الحرة قتلوا راعي رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فبعث
النبي -صلى الله عليه وسلم- في طلبهم، فأمر بهم فقطع
أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، وتركهم في ناحية الحرة حتى
ماتوا وهم كذلك.
قال قتادة: فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
[المائدة: 33] ، قال قتادة: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يحث في
خطبته بعد ذلك على الصدقة وينهى عن المثلة. متفق عليه1.
وفي بعض طرقه: من عكل، أو عُرينة.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 163 و170 و177 و233 و287 و290"،
والبخاري "1501" و"4192" و"5727"، ومسلم "1671" "13"،
والنسائي "1/ 158" و"7/ 97"، وابن خزيمة "115"، والبيهقي
"10/ 4" من طرق عن قتادة، به.
وأخرجه البخاري "4193" و"4610"، ومسلم "1671" "10" و"11"
و"12"، والنسائي "7/ 93-94" من طريق أبي رجاء مولى أبي
قلابة، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، به.
وأخرجه البخاري "333" و"6805"، وأبو داود "4364" من طريق
سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، عَنْ
أَيُّوْبَ، عَنْ أَبِي قلابة، به.
(2/16)
ورواه شعبة، وهمام، وغيرهما، عن قتادة
فقال: من عرينة؛ من غير شكٍّ.
وكذلك قال حميد، وثابت، وعبد العزيز بن صهيب، عن أنس.
وقال زهير: حدثنا سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة، عن أنس:
أن نفرًا من عرينة أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم -وهو البرسام- فقالوا:
هذا الوجع قد وقع يا رسول الله، فلو أذنت لنا فرحنا لي
الإبل. قال: "نعم، فاخرجوا وكونوا فيها". أخرجوا، فقتلوا
أحد الراعيين وذهبوا بالإبل، وجاء الآخر وقد جُرحَ، قال:
قد قتلوا صاحبي ذهبوا بالإبل. وعنده شباب من الأنصار قريب
من عشرين، فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفًا يقتص أثرهم.
فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم. أخرجه مسلم1.
وقال أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قدم رهط من عُكْل
فأسلموا فاجتووا الأرض، فذكره، وفيه: فلم ترتفع الشمس حتى
أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت لهم، فكواهم وقطع أيديهم
وأرجلهم، ولم يحسمهم2 وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون
حتى ماتوا. أخرجه البخاري3.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1671" "13"، والطحاوي في "شرح معاني
الآثار" "3/ 180" من طريق زهير بن معاوية، به. وقوله
"الموم": هو نوع من اختلال العقل. ويطلق على ورم الرأس
وورم الصدر. وهو معرب. وأصل اللفظة سريانية.
2 وقوله: "ولم يحسمهم" أي لم يكوهم. والحسم في اللغة: كي
العرق بالنار لينقطع الدم.
3 صحيح: راجع تخريجنا السابق رقم "358". وهو عند البخاري
"233" و"6805" وغير فراجعه ثمت.
(2/17)
إسلام أبي العاص مبسوطًا:
أسلم أَبُو العَاصِ بنُ الرَّبِيْعِ بنِ عَبْدِ العُزَّى
بنِ عَبْدِ شَمْسٍ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قصي العبشمي،
خَتَنِ1 رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على ابنته زينب، أم أمامة، في وسط سنة ست.
واسمه لقيط، قاله ابن معين والفلاس. وقال ابن سعد: اسمه
مقسم، وأمه هالة بنت خويلد خالة زوجته، فهما أبناء خالة.
تزوج بها قبل المبعث، فولدت له عليًا فمات طفلًا، وأمامة
التي صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حاملها وهي التي
تزوجها علي -رضي الله عنه- بعد موت خالتها فاطمة -رضي الله
عنها- وكان أبو العاص يُدْعَى جَرْو البطحاء، وأسر يوم
بدر، وكانت زينب مكة.
قال يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن
عائشة، قالت: فبعثت في فدائه بمال منه قلادة لها كانت
خديجة أدخلتها بها. فَلَمَّا رَأَى رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القلادة رَقَّ لَهَا وَقَالَ:
"إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أسيرها وتردوا
عليها الذي لها فافعلوا". ففعلوا. فأخذ عليه عهدًا أن يخلي
زينب إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- سرًّا.
وقال ابن إسحاق: فَبُعِثَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زيد بن حارثة ورجلًا، فقال: كونا ببطن
يأجَج حتى تمر بكما زينب. وذلك بعد بدر بشهر. قال: وكان
أبو العاص من رجال قريش المعدودين مالًا وأمانة وتجارة.
وكان الإسلام قد فرَّق بينه وبين زينب، إلا أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لا
يقدر أن يفرق بينهما.
قال يونس: عن ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثني عَبْدُ اللهِ بنُ
أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، قال: خرج أبو العاص تاجرًا إلى
الشام، وكان رجلًا مأمونًا. وكانت معه بضائع لقريش. فأقبل
قافلًا فلقيته سرية للنبي -صلى الله عليه وسلم، فاستقوا
عيره وهرب. وقدموا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما أصابوا فقسمه بيهم، وأتى أبو
العاص حتى دخل على زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب له
مِنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
رد ماله عليه. فَدَعَا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السرية فقال لهم: "إِنَّ هَذَا
الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وقد أصبتم له
مالًا ولغيره مما كان معه، وهو فيء، فإن رأيتم أن تردوا
عليه فافعلوا، وإن كرهتم فأنتم وحقكم". قالوا: بل نرده
عليه. فردوا والله عليه ما أصابوا، حتى إن الرجل ليأتي
بالشنة، والرجل بالإداوة وبالحبل. ثم خرج حتى قدم مكة،
فأدَّى إلى الناس بضائعهم، حتى إذا فرغ قال: يا معشر قريش،
هل بقي لأحد منكم معي مال؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرًا.
فقال: أما والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا
تخوفت أن تظنوا أني إنما أسلمت لأذهب بأموالكم، فَإِنِّي
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّ محمَّدًا
عبده ورسوله.
وأما موسى بن عقبة فذكر أن أموال أبي العاص إنما أخذها أبو
بصير في الهدنة بعد هذا التاريخ.
وقال ابن نمير، عن إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قدم أبو العاص من الشام ومعه أموال
المشركين، وقد أسلمت امرأته زينب وهاجرت، فقيل له: هل لك
أن تسلم وتأخذ هذه الأموال التي معك؟ فقال: بئس ما أبدأ به
إسلامي أن أخون أمانتي، فكفلت عنه امرأته أن يرجع فيؤدي
إلى كل ذي حق حقه؛ فيرجع ويسلم. ففعل. وما فرق بينهما،
يعني النبي -صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن لهيعة عن موسى بن جبير الأنصاري، عن عراك بن
مالك، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أم
سلمة أن زينب بِنْتِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسل إليها زوجها أبو العاص أن خذي لي
أمانًا من أبيك. فأطلعت رأسها من باب حجرتها، والنبي -صلى
الله عليه وسلم- في الصبح، فقالت: أيها الناس إني زينب بنت
رسول الله، وإني قد أجرت أبا العاص. فلما فرغ رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- من الصلاة قال: "أيها الناس إني لا
علم لي بهذا حتى سمعتموه، ألا وإنه يجير على الناس
أدناهم".
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بنِ الحُصَيْنِ عن
عكرمة، عن ابن عباس، قال: رد النبي -صلى الله عليه وسلم-
ابنته على أبي العاص على النكاح الأول بعد ست سنين.
وقال حجاج بن أرطاة، عن محمد بن عبيد الله العرزمي -وهو
ضعيف- عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ
جَدِّهِ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ردها بمهر جديد ونكاح جديد.
قال الإمام أحمد: هذا حديث ضعيف، والصحيح أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقرهما على
النكاح الأول.
وقال ابن إسحاق: ثم إن أبا العاص رجع إلى مكة مسلمًا، فلم
يَشْهَدْ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مشهدًا. ثم قدم المدينة بعد ذلك، فتوفي في آخر
سنة اثنتي عشرة، والله أعلم.
__________
1 ختن: زوج ابنته.
(2/18)
سرية عبد الله بن
رواحة إلى أسير بن زارم في شوال:
قيل: إن سلام بن أبي الحقيق لما قتل أمرت يهود عليهم أسير
بن زارم فسار في غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-. فوجه رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَ رواحة في ثلاثة نفر سرًا، فسأل
عن خبره وغرته فأخبر بذلك. فقدم عَلَى رَسُوْلِ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبره. فندب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم الناس فانتدب له ثلاثون رجلًا،
فبعث عليهم ابن رواحة. فقدموا على أسير فقالوا: نحن آمنون
نعرض عليك ما جئنا له؟ قال: نعم، ولي منكم مثل ذلك.
فقالوا: نعم. فقالوا: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعثنا إليك لتخرج إليك
فيستعملك على خيبر ويحسن إليك. فطمع في ذلك فخرج، وخرج معه
ثلاثون من اليهود، مع كل رجل رديف من المسلمين. حتى إذا
كانوا بقرقرة ثبار ندم أسير فقال عبد الله بن أنيس -وكان
في السرية: وأهوى بيده إلى سيفي ففطنت له ودفعت بعيري
وقلت: غدرًا، أي عدو الله. فعل ذلك مرتين. فنزلت فسقت
بالقوم حتى انفردت إلى أسير فضربته بالسيف فأندرت1 عامة
فخذه، فسقط وبيده مخرش2، فضربني فشجني مأمومة3، وملنا إلى
أصحابه فقتلناهم، وهرب منهم رجل. فقدمنا عَلَى رَسُوْلِ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "لقد
نجاكم الله من القوم الظالمين".
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ
عُرْوَةَ، "ح" وموسى بن عقبة عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث
عبد الله بن رواحة في ثلاثين راكبًا فيهم عبد الله بن أنيس
إلى بُشَير بن رزام اليهودي حتى أتوه بخيبر، فذكر نحو ما
تقدم، والله أعلم.
__________
1 أندرت: أسقطت.
2 المخرش: عصا معوجة الرأس.
3 المأمومة: الشجة التي بلغت أم الرأس، وهي الجلدة التي
تجمع الدماغ.
(2/19)
قصة غزوة الحديبية
وهي على تسعة أميال من مكة:
خرج إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذي القعدة
سنة ست. قاله نافع، وقتادة، والزهري، وابن إسحاق، وغيرهم،
وعروة في "مغازيه"، رواية أبي الأسود.
وتفرد عَلِيُّ بنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ،
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خرج إلى الحديبية في رمضان وكانت الحديبية في شوال.
وفي الصحيحين عن هدبة، عن همام، قال: حدثنا قتادة، أن
أنسًا أخبره أَنَّ نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- اعتمر أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنَّ فِي ذِي
القَعْدَةِ، إِلاَّ العمرة التي مع حجته: عمرة الحديبية
زمن الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل، وعمرة
من الجعرانة، حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع
حجته1.
وقال الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج عام
الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي
الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها. أخرجه البخاري2.
وقال شعبة، عن عمرو بن مرَّة، سمع ابن أبي أوفى -وكان قد
شهد بيعة الرضوان- قال: كنا يومئذ ألفًا وثلاث مائة. وكانت
أسلم يومئذ ثمن المهاجرين. أخرجه مسلم. وعلقه البخاري في
صحيحه3.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4148"، ومسلم "1253" حدثنا هدبة بن
خالد، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4157" و"4158" حدثنا علي بن عبد
الله حدثنا سفيان، عن الزهري، به.
3 أخرجه البخاري "4155" معلقًا قال: قال عُبَيْدُ اللهِ
بنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شعبة، به وقال
الحافظ في "الفتح": كذا ذكره بصيغة التعليق، وقد وصله أبو
نعيم في "المستخرج على مسلم" من طريق الحسن بن سفيان "حدثا
عبيد الله بن معاذ به" وقال مسلم "حدثنا عبيد الله بن معاذ
به".
(2/20)
وقال حصين بن عبد الرحمن، عن سالم بن أبي
الجعد، عن جابر، قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس
عشرة مائة. متفق عليه1.
وخالفه الأعمش، عن سالم، عن جابر، فقال: كنا أربع عشرة
مائة، أصحاب الشجرة، اتفقا عليه أيضًا.
وكأن جابرًا قال ذلك على التقريب. ولعلهم كانوا أربع عشرة
مائة كاملة تزيد عددًا لم يعتبره، أو خمس عشرة مائة تنقص
عددًا لم يعتبره والعرب تفعل هذا كثيرًا، كما تراهم قد
اختلفوا في سَنَّ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فاعتبروا تارة السنة التي ولد فيها والتي توفي
فيها فأدخلوهما في العدد. واعتبروا تارة السنين الكاملة
وسكتوا عن الشهور الفاضلة.
ويبين هذا أن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان
الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة. قلت: إن
جابرًا قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمك الله، وهم.
هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة. أخرجه البخاري2.
وقال عمرو بن دينار: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا يوم
الحديبية ألفا وأربع مائة. فقال لَنَا رَسُوْلُ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أنتم خير أهل
الأرض". اتفقا عليه من حديث ابن عيينة.
وقال الليث، عن أبي الزبير، عن جابر: كنا يوم الحديبية
ألفًا وأربع مائة. صحيح.
وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: نحرنا عام الحديبية
سبعين بدنة، البدنة عن سبعة. قلنا لجابر: كم كنتم يومئذ؟
قال: ألفًا وأربع مائة بخيلنا ورجلنا.
وكذلك قاله البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن
الأكوع، في أصح الروايتين عنه، والمسيب بن حزم، من رواية
قتادة، عن سعيد، عن أبيه.
قال البخاري3: معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور،
ومروان بن الحكم، يصدق كل واحد منهم حديث صاحبه، قالا:
خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- زمن الحديبية في بضع
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4152"، ومسلم "1856" "73" من طريق
حصين، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4153" حدثنا الصَّلت بن محمد،
حدثنا يزيد بن زُريع، عن سعيد، عن قتادة، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4178" و"4179" حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قال: سمعتُ
الزهري حين حدث هذا الحديث حفظتُ بعضه، وثبتني معمر، عن
عروة بن الزبير، به.
(2/21)
عشرة مائة من أصحابه. حتى إذا كانوا بذي
الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره،
وأحرم بالعمرة. وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن
قريش. وسار حتى إذا كان بعذبة الأشطاط قريبا من عسفان أتاه
عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد
جمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علي، أترون أن نميل إلى ذراري
هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن
لجوا تكن عنقا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا
عنه قاتلناه "؟ قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم إنما جئنا
معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت
قاتلناه. قال: "فروحوا إذا".
قال الزهري في الحديث: فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق،
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا
ذات اليمين". فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة
الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبي صلى الله عليه
وسلم حتى إذا كان بالثنية التى يهبط عليهم منها بركت
راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء
خلأت القصواء. قال: فروحوا إذا.
قال الزهري: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا كان أكثر مشاورة
لأصحابه مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
قَالَ المسور ومروان في حديثهما1: فراحوا حتى إذا كانوا
ببعض الطريق، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنَّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش"
-رجع الحديث إلى موضعه- قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق،
ولكن حبسها حابس الفيل". ثم قال: "والذي نفسى بيده لا
يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها".
ثم زجرها فوثبت به. قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على
ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه
__________
1 صحيح: أخرجه عبد الرزاق "9720"، وأحمد "4/ 328- 331و
331-332"، والبخاري "1694" و "1695" و "2731"و "2732"،
وأبو داود "2765" و"4655"، والطبري "28/ 71و 97- 101و
101"، والطبراني في "الكبير" "20/ 13و 14و 15و 842"،
البيهقي "5/ 215"و "7/ 171" و "9/ 144و 218-221"و "10/
109" مِنْ طَرِيْقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُرْوَةَ بن الزبير، عن المسور ابن مخرمة، ومروان بن
الحكم، به في حديث طويل.
قوله: "حل حل": كلمة تقال للناقة إذا تركت السير. قوله:
"فألحت": أي تمادت على عدم القيام.
قوله: "خلأت القصواء": أي بركت فلم تبرح. والقصواء اسم
نَاقَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
(2/22)
الناس تبرضا1، فلم يلبثه الناس أن نزحوه،
فشكو إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ العطش. فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن
يجعلوه فيه، قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا
عنه.
فبينا هم كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من
خزاعة، وكانوا عيبة نصح2 لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أهل تهامة. فقال: إني تركت كعب بن
لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ،
المطافيل3، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. قَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنا لم نجئ
لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب
وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس،
وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد
جموا 4، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري
هذا حتى تنفرد سالفتي 5 أو لينفذن الله أمره". فقال بديل:
سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إنا قد
جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم
نعرضه عليكم فعلنا؛ فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا في أن
تحدثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال:
سمعته يقول كذا كذا. فحدثهم بما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ عروة بن مسعود الثقفي، فقال: أي قوم ألستم
بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: ألست بالولد؟ قالوا: بلى. قال:
هل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل
عكاظ فلما بلحوا6 عليه جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟
قالوا: بلي. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها
ودعوني آته. قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله
عليه وسلم، فقال نحوا من قوله لبديل. فقال: أي محمد أرأيت
إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟
وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوباشا7 من
__________
1 يتبرضه الناس تبرضا": أي يأخذونه قليلا قليلا.
2 عيبة نصح: عيبه الرجل: موضع سره، أي أنهم موضع النصح له
والأمانة على سره.
3 العوذ المطافيل: العوذ: جمع عائذ، وهى الناقة ذات اللبن.
والمطافيل: الأمهات اللاتي معها أطفالها.
4 جموا: استراحوا. وهو بفتح الجيم وتشديد الميم المضمومة:
أي قووا.
5 سالفتي: السالفة: صفحة العنق، وكنى بذلك عن القتل؛ لأن
القتيل تنفرد مقدمة عنقه. وقال الداودي المراد الموت: أي
حتى أموت وأبقى منفردا في قبري.
6 بلحوا: أي امتنعوا من الإجابة. وبلح الغريم إذا امتنع من
أداء ما عليه.
7 أوباشا: أي أخلاطا من السفلة. ووقع عند البخاري: "وإني
لأرى أشوابا من الناس والأشواب: الأخلاط من أنواع شتى.
والأوباش أخص من الأشواب.
(2/23)
الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو
بكر -رضي الله عنه- امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟
قال: من ذا؟ قال: أبو بكر. قال: والذي نفسي بيده لولا يد
كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي
صلى الله عليه وسلم كلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن
شعبة قائم على رَأْس رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السيف وعليه المغفر، فكلما
أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده
بنعل السيف وقال: أخر يدك. فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قالوا:
المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، أولست أسعى في غدرتك؟ قال:
وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم،
ثم جاء فأسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "أَمَّا الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في
شيء".
ثم إن عروة جعل يرمق صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم؛
فوالله ما تنخم رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- نُخَامَةً إلا وقعت في كف رجل منهم يدلك بها
وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروه، وإذا توضأ ثاروا
يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما
يحدون إليه النظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه، فقال:
أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر وكسرى
والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم
أصحاب محمد محمدا. والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل
منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا
توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم
عنده، ولا يحدون إليه النظر تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم
خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعونى آته.
فقالوا: ائته. فلما أشرف على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا فلان وهو من قوم
يعظمون البدن، فابعثوها له. فبعثت له. واستقبله القوم
يلبون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن
يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قلدت
وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال
له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف
عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز وهو رجل
فاجر". فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم. فبينا هو
يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
قال معمر: وأخبرني أيوب، عن عكرمة أنه قال: لما جاء سهيل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سهل لكم من أمركم".
قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات اكتب
بيننا وبينك كتابًا.
(2/24)
فدعا الكاتب فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهيل: أما
الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما
كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله
الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكتب
باسمك اللهم" ثم قال-: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله".
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن
البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد اللهِ. فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني لرسول
الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله".
قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات
الله إلا أعطيتهم إياها.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف". فقال:
والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام
المقبل. فكتب. فقال سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل وإن
كان على دينك إلا رددته إلينا. فقال: المسلمون: سبحان الله
كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينا هم كذلك إذ جاء
أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده1 قد خرج من أسفل
مكة حتى رمى نفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: وهذا أول
ما أقاضيك عليه أن ترده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إنا لم نقض الكتاب بعد". قال: فوالله إذا لا نصالحك علي
شيء أبدا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجره لي" 2.
قال: ما أنا بمجيره لك. قال: "بلى، فافعل" قال: ما أنا
بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجرناه. قال أبو جندل: معاشر
المسلمين أأرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد
لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله.
فقال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ:
يَا رسول الله، ألست نبي الله؟ قال: "بلى"، قلت: ألسنا على
الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى"، قلت: فلم نعطي الدنية
في ديننا إذا؟ قال: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري".
قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف حقا؟ قال:
"بلي"، أنا أخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: "فإنك
آتيه ومطوف به". قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس
هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا
على الباطل؟ قال: بلى.
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه
رسول وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت،
فوالله إنه لعلى الحق. قلت: أوليس كان يحدثنا أنه
__________
1 يرسف في قيوده: أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد.
2 فأجره لي: أي أمض لي فعلي فيه، فلا أرده إليك أو أستثنيه
من القضية.
(2/25)
سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك
أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال: الزهري. قال عمر: فعلمت لذلك أعمالا.
فلما فرغ من قضية الكتاب قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قوموا فانحروا ثم احلقوا".
قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات. فلما لم
يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من
الناس. فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا
كلمة حتى تنحر بدنك، ثم تدعو بحالقك فيحلقك. فقام فخرج فلم
يكلم أحدا حتى فعل ذلك. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل
بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاءه
نسوة مؤمنات، وأنزل الله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} حتى بلغ {وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، فطلق عمر يومئذ
امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية، والأخرى
صفوان بن أمية.
ثم رَجَعَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش، وهو
مسلم، فأرسلوه في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا.
فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة،
فنزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحد الرجلين:
والله إني لأرى سيفك هذا جيدا جدا. فاستله الآخر فقال:
أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت.
فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه. فأمكنه منه فضربه حتى برد.
وفر الآخر حتى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال للنبي
-صلى الله عليه وسلم: قتل والله صاحبي وإني لمقتول. قال:
فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد أوفي الله ذمتك، والله
قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم. فقال النبي -صلى
الله عليه وسلم: "ويل أمه 1 مسعر حرب 2 لو كان له أحد".
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم.
__________
1 "ويل أمه": قال الحافظ في "الفتح" "5/ 350" "ط. دار
المعرفة": ويل بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة:
وهى كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون معنى ما
فيها من الذم؛ لأن الويل الهلاك فهو كقولهم: "لأمه الويل"
قال بديع الزمان في رسالة له: والعرب تطلق "تربت يمينه" في
الأمر إذا أهم ويقولون "ويل أمه" ولا يقصدون الذم. والويل
يطلق على العذاب والحرب والزجر. وقال الفراء: أصل قولهم:
ويل فلان "وي" لفلان: أي فكثر الاستعمال فألحقوا بها
اللام، فصارت كأنها منها، وأعربوها، وتبعه ابن مالك إلا
أنه قال تبعا للخليل: إن "وي" كلمة تعجب، وهي من أسماء
الأفعال واللام بعدها مكسورة ويجوز ضمها اتباعا للهمزة
وحذفت الهمزة تخفيفا، والله أعلم.
2 قوله: "مسعر حرب": بكسر الميم وسكون المهملة وفتح العين
المهملة وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب، أي
يسعرها. قال الخطابي: كأنه يصفه بالإقدام في الحرب
والتسعير لنارها.
(2/26)
فخرج حتى أتى سيف البحر. وينفلت منهم أبو
جندل ابن سهيل فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد
أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة.
قال: فوالله لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا
اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قُرَيْشٌ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فهو
آمن. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل: {وَهُوَ
الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
عَنْهُمْ} حتى بلغ {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:
24- 26] ، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا بنبي الله ولم يقروا
ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت. أخرجه
البخاري، عن المسندي، عن عبد الرزاق، عن معمر، بطوله1.
وقال قرة، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من
يصعد الثنية، ثنية المرار، فإنه يحط عنه ما حط عن بني
إسرائيل. فكان أول من صعد خيل بني الخزرج. ثم تبادر الناس
بعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له
إلا صاحب الجمل الأحمر". فقلنا: تعال يستغفر لَكِ رَسُوْلُ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: والله
لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم. وإذا هو
رجل ينشد ضالة. أخرجه مسلم2.
وقال البخاري: عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي
إسحاق، عن البراء، قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان
فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة
الرضوان يوم الحديبية. كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع عشرة مائة، والحديبية
بئر، فنزحناها فما تركنا فيها قطرة، فَبَلَغَ ذَلِكَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتاها فجلس
على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء منها فتوضأ ثم تمضمض ودعا
ثم صبه فيها فتركها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا نحن
وركابنا. أخرجه البخاري3.
وقال عِكْرِمَةُ بنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بنِ سَلَمَةَ
بن الأكوع، عن أبيه، قال: قدمنا مع رسول
__________
1 صحيح: سبق تخريجنا له بإسهاب في تعليقنا رقم "372"، وهو
عند البخاري "1694" و"1695" و"2731" و"2732" فراجعه ثمت.
2 صحيح: أخرجه مسلم "2880" "12" حدثنا عبيد الله بن معاذ
العنبري، حدثنا أبي، حدثنا قرة بن خالد، به.
قوله: "إلا صاحب الجمل الأحمر": قال القاضي عياض: قيل: هذا
الرجل هو الجد بن قيس، المنافق.
وقوله: "ينشد ضالة" أي يسأل عنها.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4150" حدثنا عبيد الله بن موسى،
به.
(2/27)
الله صلى الله عليه وسلم الحديبية، ونحن
أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة ما ترويها، فقعد
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
جباها، فإما دعا وإما بزق فيها فجاشت فسقينا واستقينا.
أخرجه مسلم1.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عروة، عن
مسور، ومروان بن الحكم أنهما حدثاه، قالا: خَرَجَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الحديبية
يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا.
وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبع مائة رجل،
فكانت كل بدنة عن عشرة نفر.
قال ابن إسحاق: وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني يقول:
كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.
قلت: قد ذكرنا عن جماعة من الصحابة كقول جابر.
ثم ساق ابن إسحاق حديث الزهري بطوله، وفيه ألفاظ غريبة،
منها: وجعل عروة بن مسعود يكلم النبي صلى الله عليه وسلم،
والمغيرة واقف على رَأْس رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديد. قال: فجعل يقرع يد عروة إذا
تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: اكفف يدك
عن لحية رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ لا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك. قال:
فتبسم رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا ابن أخيك
المغيرة بن شعبة". قال: أي غدر، وهل غسلت سوءتك إلا
بالأمس؟
قال ابن هشام: أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة قبل إسلامه
قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك بن ثقيف، فتهايج الحيان من
ثقيف رهط المقتولين، والاحلاف رهط المغيرة، فودى عروة
المقتولين ثلاثة عشر دية، وأصلح الأمر.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، قال عروة: وخرجت قريش
من مكة، فسبقوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى بلدح وإلى
الماء، فنزلوا عليه، فَلَمَّا رَأَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ قد سبق نزل على
الحديبية، وذلك في حر شديد وليس بها إلا بئر واحدة، فأشفق
القوم من الظمأ وهم كثير، فنزل فيها رجال يميحونها، ودعا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء فتوضأ في الدلو
ومضمض فاه ثم مج فيه، وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهما من
كنانته فألقاه في البئر ودعا الله تعالى، ففارت بالماء حتى
جعلوا يغترفون بأيديهم منها، وهم جلوس على شفتها. وَقَدْ
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلك
على غير الطريق التي بلغه أن قريشا بها.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1807" من طريق عكرمة بن عمار، به.
وقوله: "جباها": الجبا ما حول البئر. والركي البئر.
وجاشت: أي ارتفعت وفاضت. وقال: جاش الشيء يجيش جيشانا إذا
ارتفع.
(2/28)
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي
بكر، أن رجلا من أسلم قال: أَتَانَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فسلك بهم طريقا وعرا
أخزل من شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين،
وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قولوا: نستغفر
الله ونتوب إليه" فقالوا ذلك. فقال: "والله إنها للحطة
التى عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها".
قال عبد الملك بن هشام: فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم
الناس فقال: "اسلكوا ذات اليمين بين ظهري المحمص في طريق
تخرجه على ثنية المرار، مهبط الحديبية من أسفل مكة" فلما
رأت قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ركضوا راجعين إلى
قريش.
وقال شعبة، وغيره، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد، قال:
قلت لجابر: كم كنتم يوم الشجرة؟ قال: كنا ألفا وخمس ومائة:
وذكر عطشا أصابهم، فَأُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بماء في تور فوضع يده فيه، فجعل الماء
يخرج من بين أصابعه كأنه العيون، فشربنا ووسعنا وكفانا،
ولو كنا مائة ألف لكفانا.
وقد أخرجه البخاري من أوجه أخر عن حصين.
وقال أبو عوانة، عَنِ الأَسْوَدِ بنِ قَيْسٍ، عَنْ
نُبَيْحٍ العَنَزِيِّ، قال: جابر بن عبد الله: غزونا أو
سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن يومئذ أربع
عشرة مائة، فحضرت الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "هل في القوم من طهور"؟ فجاء رجل يسعى بإداوة فيها
شيء من ماء ليس في القوم ماء غيره، فصبه رسول الله صلى
الله عليه وسلم في قدح ثم توضأ، ثم انصرف وترك القدح. قال:
فركب الناس ذلك القدح وقالوا: تمسحوا تمسحوا. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلكم"، حين سمعهم يقولون
ذلك. قال: فوضع كفه في الماء والقدح وقال: "سبحان الله".
ثم قال: "أسبغوا الوضوء". فوالذي ابتلاني ببصري لقد رأيت
العيون عيون الماء تخرج من بين أصابع رَسُوْل اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يرفعها حتى توضؤوا
أجمعون1. رواه مسدد، عنه.
وقال عكرمة بن عمار العجلي: حَدَّثَنَا إِيَاسُ بنُ
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في غزوة، فأصابنا جهد،
حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا. فأمر نبي الله صلى الله عليه
وسلم فجمعنا مزاودنا فبسطنا له نطعا، فاجتمع زاد القوم على
النطع. فتطاولت لأحزركم هو؟
فحزرته كربضة العنز ونحن أربع عشرة مائة. قال: فأكلنا حتى
شعبنا جميعا ثم حشونا
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 292و 357"، والدارمي "1/ 13-14"،
وابن خزيمة "107" من طريق الأسود بن قيس، به.
(2/29)
جرباننا. ثم قال نبي الله صلى الله عليه
وسلم: "هل من وضوء"؟ فجاء رجل بإداوة له، فيها نطفة
فأفرغها في قدح. فتوضأنا كلنا، ندغفقه دغفقة، أربع عشرة
مائة. قال: ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرغ الوضوء". أخرجه
مسلم1.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: قال ابن عباس:
لَمَّا رَجَعَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من الحديبية كلمه بعض أصحابه فقالوا: جهدنا وفي
الناس ظهر فانحره. فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله فإن
الناس إن يكن معهم بقية ظهر أمثل. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ابسطوا أنطاعكم وعباءكم". ففعلوا. ثم قال: "من
كان عنده بقية من زاد وطعام فلينثره". ودعا لهم ثم قال:
"قربوا أوعيتكم". فأخذوا ما شاء الله. يحدثه نافع بن جبير.
وقال يحيى بن سليم الطائفي، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ
عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ، عن أبي الطفيل، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لما نزل مر الظهران في صلح قريش قال أصحابه: لو
انتحرنا يا رسول الله من ظهورنا فأكلنا من لحومها وشحومها
وحسونا من المرق أصبحنا غدا إذا عدونا عليهم وبنا جمام.
قال: "لا، ولكن ائتوني بما فضل من أزوادكم". فبسطوا أنطاعا
ثم صبوا عليها فضول أزوادهم. فدعا لهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالبركة، فأكلوا حتى تضلعوا شبعا، ثم لففوا فضول
ما فضل من أزوادهم في جربهم.
مالك، عن إسحاق بن أبي طلحة، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحانت
صلاة العصر والتمسوا الوضوء، فلم يجدوه. فأتى بوضوء، فوضع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء وأمر
الناس أن يتوضؤوا منه. قال: فرأيت الماء ينبع من تحت
أصابعه. فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم. متفق عليه2.
__________
1 صحيح أخرجه مسلم "1729" حدثنا أحمد بن يوسف الأزدي،
حدثنا النضر "يعني ابن محمد اليمامي"، حدثنا عكرمة "وهو
ابن عمار"، به.
ووقع عند مسلم "جُرُبنا" بدل "جُرْباننا".
وقوله: "جربنا" الجرب جمع جراب ككتاب وكتاب. وهو الوعاء من
الجلد يجعل فيه الزاد.
وقوله: "بإداوة": هي المطهرة.
"فيها نطفة": أي فيها قليل من الماء.
"ندغفقه دغفقة": أي نصبه صبا شديدا.
2 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه مالك "1/ 32"، والشافعي "2/
186"، وأحمد "3/ 132"، والبخاري "169" و"3573"، ومسلم
"2279" "5"، والترمذي "3631"، والنسائي "1/ 60" عَنْ
إِسْحَاقُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ
أَنَسٍ بن مالك، به.
(2/30)
وقال حماد بن زيد: حدثنا ثَابِتٌ، عَنْ
أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
دعا بماء فأتي بقدح رحراح فجعل القوم يتوضؤون. فحزرت ما
بين السبعين إلى الثمانين من توضأ منه، فجعلت أنظر إلى
الماء ينبع من بين أصابعه. متفق عليه1.
وقال عَبْدُ اللهِ بنُ بَكْرٍ: حَدَّثَنَا حُمَيْد، عَنْ
أنس، قال: حضرت الصلاة، فقام من كان قريب الدار إلى أهله
يتوضأ وبقي قوم. فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمخضب من
حجارة فيه ماء، فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه فتوضأ القوم.
قلنا: كم هم؟ قال: ثمانون وزيادة. أخرجه البخاري2.
وجاء: أنهم كانوا بقباء.
وقال ابْنُ أَبِي عَرُوْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ بالزوراء يتوضؤون.
فوضع كفه في الماء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى
توضؤوا. فقلنا لأنس: كم كنتم؟ قال: زهاء ثلاث مائة.
أخرجه مسلم، والبخاري أيضا بمعناه3. والزوراء بالمدينة عند
السوق والمسج.
وقال أبو عبد الرحمن المقرئ: حدثنا عبد الرحمن بن زياد،
قال: حدثني زياد بن نعيم الحضرمي، قال: سمعت زياد بن
الحارث الصدائي، قال: بَايَعْتُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ حديثا طويلا منه:
فوضع كفه صلى الله عليه وسلم في الماء فرأيت بين إصبعين من
أصابعه عينا تفور. فَقَالَ لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلاَ أن أستحيي من ربي
لسقينا واستقينا". عبد الرحمن ضعيف.
وهذه الأحاديث تدل على البركة في الماء غير مرة.
وقال إسرائيل، عَنْ مَنْصُوْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ
عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قال: كنا نأكل مع
__________
1 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه أحمد "3/ 147"، وابن سعد
"1/ 178"، والبخاري "2000"، ومسلم "2279" "4"، وابن خزيمة
"124"، والبيهقي في "الاعتقاد" "ص 273-274" من طرق عن حماد
بن زيد، به.
2 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه ابن أبي شيبة "11/ 475"،
وأحمد "3/ 106"، والبخاري "3575" من طريق يزيد بن هارون،
عن حميد، به.
3 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 170و 215و 289"، والبخاري "3572"،
ومسلم "2279"، وأبو يعلى "2895"و "3172"و "3193"، والبغوي
"3714"، واللالكائي في "أصول الاعتقاد" "1480" من طرق عن
قتادة، به.
(2/31)
النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع تسبيح
الطعام. وأتي بإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه صلى
الله عليه وسلم. فقال: "حي على الطهور المبارك والبركة من
السماء". حتى توضأنا كلنا. أخرجه البخاري1.
وقال أبو كدينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن
عباس، قال: أُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بإناء من ماء، فجعل أصابعه في فم الإناء وفتح
أصابعه، فرأيت العيون تنبع من بين أصابعه. وذكر الحديث.
إسناده جيد.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، قال: قال عروة في نزوله
صلى الله عليه وسلم بالحديبية: ففزعت قريش لنزوله عليهم،
فأحب أن يبعث إليهم رجلا. فدعا عمر ليبعثه فقال: إني لا
آمنهم، وليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي، فأرسل عثمان فإن
عشيرته بها. فدعا عثمان فأرسله وقال: أخبرهم أنا لم نأت
لقتال، وادعهم إلى الإسلام. وأمره أن يأتي رجالا بمكة
مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح. فانطلق
عثمان فمر على قريش ببلدح. فقالت قريش: إلى أين؟ فَقَالَ:
بَعَثَنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إليكم لأدعوكم إلى الإسلام، ويخبركم أنا لم نأت
لقتال وإنما جئنا عمارا. فدعاهم عثمان كما أَمَّرَهُ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا:
قد سمعنا ما تقول فانفذ لحاجتك. وقام إليه أبان بن سعيد بن
العاص فرحب به وأسرج فرسه، فحمل عليه عثمان فأجاره، وردفه
أبان حتى جاء مكة. ثم إن قريشا بعثوا بديل بن ورقاء؛ فذكر
الحديث والصلح. وذكر أنهم أمن بعضهم بعضا وتزاوروا.
فبيناهم كذلك، وطوائف من المسلمين في المشركين، إذ رمى رجل
رجلا من الفريق الآخر. فكانت معاركة، وتراموا بالنبل
والحجارة، وصاح الفريقان وارتهن كل واحد من الفريقين من
فيهم، فارتهن المسلمون سهيل بن عمرو وغيره، وارتهن
المشركون عثمان وغيره.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة. ونادى
مُنَادِي رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِلاَّ إن روح القدس قد نزل عَلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر بالبيعة،
فاخرجوا على اسم الله فبايعوا. فثار المسلمون إِلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو تحت
الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا أبدا. فذكر القصة بطولها،
وفيها: فقال المسلمون وهم بالحديبية قبل أن يرجع عثمان بن
عفان: خلص عثمان من بيننا إلى البيت فطاف بِهِ. فَقَالَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "ما أظنه
طاف بالبيت ونحن محصورون". قالوا: وما يمنعه يا رسول الله
وقد خلص؟ قال: "ذلك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى يطوف
معنا". فرجع إليهم عثمان، فقال المسلمون: اشتفيت يا أبا
عبد الله من الطواف بالبيت؟
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3579" حدثني محمد بن المثنى، حدثنا
أبو أحمد الزبيري، حدثنا إسرائيل به.
(2/32)
فقال: عثمان: بئس ما ظننتم بي، فوالذي نفسى
بيده لو مكثت بها مقيما سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم
مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى بِهَا رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولقد دعتني قريش إلى
الطواف بالبيت فأبيت.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: "لا نبرح حتى نناجز القوم".
فدعا الناس إلى البيعة. فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة.
فكان الناس يقولون: بايعهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الموت، وكان جابر يقول: لم
يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني بعض آل عثمان أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب
بإحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه لي وهذه لعثمان إن كان
حيًّا: ثم بلغهم أن ذلك باطل، ورجع عثمان. ولم يتخلف عن
بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد إلا الجد بن قيس
أخو بني سلمة. قال جابر: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط
نَاقَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَدْ ضبأ إليهايستتر بها من الناس.
قال الحسن بن بشر البجلي: حدثنا الحكم بن عبد الملك -وليس
بالقوي قال النسائي- عن قتادة، عن أنس، قال: لما أَمْرُ
رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ببيعة
الرضوان كان عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
فبايع النَّاسَ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم: "إن عثمان في حاجة الله ورسوله". فضرب
بإحدى يديه على الأخرى فكانت يَدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان خيرا من أيديهم
لأنفسهم.
وقال ابن عيينة: حدثنا أبو الزبير، سمع جابرا يقول: لما
دَعَا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الناس إلى البيعة وجدنا رجلا منا يقال له: الجد بن قيس
مختبئا تحت إبط بعير. أخرجه مسلم من حديث ابن جريج، عن أبي
الزبير، وبه قال: لم نبايع النبي صلى الله عليه وسلم على
الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر.
أخرجه مسلم عن ابن أبي شيبة، عن ابن عيينة، وأخرجه من حديث
الليث، عن أبي الزبير، وقال: فبايعناه وعمر -رضي الله عنه-
آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة.
وقال خالد الحذاء، عن الحكم بن عبد الله الأعرج، عن معقل
بن يسار، قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه
وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن
أربع عشرة مائة. ولم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن
لا نفر. أخرجه مسلم1.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1858" حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا
يزيد بن زريع، عن خالد، عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج،
عن معقل بن يسار، به.
(2/33)
وقال ابْنُ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا ابْنُ
أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشعبي، قال: لم دعا النبي صلى الله
عليه وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو
سنان الأسدي، فقال: ابسط يدك أبايعك. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "علام تبايعني" قال: على ما في نفسك.
وقال مكي بن إبراهيم، وأبو عاصم -واللفظ له- عن يزيد بن
أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، قال: بَايَعْتُ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الحديبية،
ثم عدلت إلى ظل شجرة. فلما خف الناس قال: "يا ابن الأكوع
ألا تبايع" قلت: قد بايعت يا رسول الله. قال: "وأيضا".
فبايعته الثانية فقلت لسلمة: يا أبا مسلم على أى شي كنتم
تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت. متفق عليه1.
وقال عِكْرِمَةُ بنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بنِ سَلَمَةَ،
عن أبيه، فذكر الحديث، وقال: ثم أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا البيعة في أصل
الشجرة، فبايعته أول الناس ويايع، حتى إذا كان في وسط
الناس، قال: "بايعني يا سلمة". فقلت: يا رسول الله قد
بايعتك. قال: "وأيضا".
قال: ورآني عزلا فأعطاني حجفة أو درقة. ثم بايع، حتى إذا
كان في آخر الناس قال: "ألا تبايع"؟ قلت: يا رسول الله قد
بايعتك في أول الناس وأوسطهم. قال: "وأيضا". فبايعت
الثالثة. فقال: "يا سلمة أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك"؟
قلت: لقيني عامر فأعطيتها إياه. فضحك ثم قال: "إنك كالذي
قال الأول: اللهم ابغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي". ثم إن
مشركي مكة راسلونا بالصلح حتى مشى بعضنا إلى بعض فاصطلحنا.
وكنت خادما لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأحسه2 وآكل من
طعامه. وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله. فلما
اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها فاضطجعت
في ظلها. فأتاني أربعة من أهل مكة، فجعلوا يقعون فِي
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، فعلقوا سلاحهم واضطجعوا.
فبينا هم كذلك إذ ناد مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين،
قتل ابن زنيم. فاخترطت سيفي فشددت على أولئك الأربعة وهم
رقد، فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثا في يدي، ثم قلت: والذي كرم
وَجْهَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ
يرفع أحد منكم إلا ضربت الذي فيه عيناه، ثم جئت بهم أسوقهم
إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له: مكرز يقوده حتى
وقفنا بهم على
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4169"، ومسلم "1860" حدثنا قتيبة
بن سعيد، حدثنا حاتم "يعني ابن إسماعيل" عن يزيد بن أبي
عبيد، به.
2 أحسه: أنفض عنه التراب.
(2/34)
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من
المشركين، فنظر إليهم. وقال: "دعوهم، يكون لهم بدء الفجور
وثناؤه". فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزلت:
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] ، أخرجه مسلم1.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ،
أن رجالا من أهل مكة هبطوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
من قبل جبل التنعيم ليقاتلوه. قال: فأخذهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم أخذا، فأعتقهم. فأنزل الله: {وَهُوَ
الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
عَنْهُمْ} الآية، أخرجه مسلم2.
وقال الوليد بن مسلم: حدثنا عمر بن محمد العمري، قال:
أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن الناس كانوا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الحديبية، قد
تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون برسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقال -يعني عمر: يا عبد الله انظر ما شأن
الناس؟ فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر، فخرج فبايع.
أخرجه البخاري3 فقال: وقال هشام بن عمار، حدثنا الوليد.
قلت: ورواه دحيم، عن الوليد.
قلت: وسميت بيعة الرضوان من قوله -تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ
اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ
السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}
[الفتح: 18] .
قال أبو عوانة، عن طارق بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ
سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ، قال: كان أبي ممن بايع رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الشجرة،
قال: فانطلقنا في قابل حاجين، فخفي علينا مكانها، فإن كانت
تبينت لكم فأنتم أعلم. متفق عليه4.
وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير المكي أنه سمع جابرا
يقول: أخبرتني أم مبشر أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول عند حفصة: "لا
يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1807" من طريق عكرمة بن عمار، به.
ووقع عند مسلم: "وهم رقود" بدل "رقد". وقوله: "العبلات":
قال الجوهري في الصحاح: العبلات من قريش، وهم أمية الصغرى
والنسبة إليهم عبلي. ترده إلى الواحد.
2 صحيح: أخرجه مسلم "1808" حدثني عمرو بن محمد الناقد،
حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4187" حدثنا هشام بن عمار، حدثنا
الوليد بن مسلم، به.
4 صحيح: أخرجه البخاري "4164"، ومسلم "1859" "77" من طريق
أبي عوانة به.
وأخرجه البخاري "4165"، ومسلم "1859" "78" من طريق سفيان،
عن طارق بن عبد الرحمن، به.
(2/35)
"الذين بايعوا تحتها أحد". قلت: بلى يا
رسول الله، فانتهرها، فقال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا
وَارِدُهَا} [مريم: 71] ، فقال: قد قال -تعالى: {ثُمَّ
نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ
فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] ، أخرجه مسلم1.
قرأت على عبد الحافظ بن بدران: أخبركم موسى بن عبد القادر،
والحسين بن أبي بكر، قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، قال:
أخبرنا محمد بن أبي مسعود، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي
شريح، قال: حدثنا أبو القاسم البغوي، قال: حَدَّثَنَا
العَلاَءُ بنُ مُوْسَى إِمْلاَءً، سَنَةَ سَبْعٍ وعشرين
ومائتين، قال: أخبرنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير المكي،
عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا يدخل أحد ممن
بايع تحت الشجرة النار". أخرجه النسائي2.
وقال قتيبة: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عبدا لحاطب بن أبي بلتعة
جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يشكو حاطبا؛ قال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار. فقال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها، فإنه شهد
بدرا والحديبية" 3.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة، ومروان
في قصة الحديبية؛ قالا: فدعت قريش سهيل بن عمرو؛ قالوا:
اذهب إلى هذا الرجل فصالحه ولا تكونن في صلحه إلا أن يرجع
عنا عامه هذا، لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة. فخرج
سهيل من عندهم، فَلَمَّا رَآهُ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- مقبلا، قال: "قد أراد القوم الصلح
حين بعثوا هذا الرجل". فوقع الصلح على أن توضع الحرب
بينهما عشر
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "6/ 420"، ومسلم "2496"، والطبري "25/
269" من طريق ابن جريج، به.
وأخرجه أحمد "6/ 285"، وابن ماجه "4281"، والطبري "16/
112"، والطبراني "23/ 358 و363" من طريق أبي معاوية، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عن أم
مبشر، عن حفصة، به.
وأخرجه أحمد "6/ 362"، والطبري في "جامع البيان" "6/ 112"،
والطبراني "25/ 266" من طريق ابن إدريس، عَنِ الأَعْمَشِ،
عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، به.
2 صحيح: أخرجه الترمذي "3860"، والنسائي في "فضائل
الصحابة" "191" من طريق الليث بن سعد، به.
وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
قلت: وقد سبق لنا تخريجنا لهذا الحديث في التعليق السابق
فراجعه ثمت.
3 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 349"، وابن أبي شيبة "12/ 155"،
ومسلم "2195"، والترمذي "3864"، والحاكم "3/ 301"،
والطبراني في "الكبير" "3064" من طرق عن الليث، به.
(2/36)
سنين، وأن يخلوا بينه وبين مكة من العام
المقبل، فيقيم بها ثلاثا، وأنه لا يدخلها إلا بسلاح الراكب
والسيوف في القرب، وأنه من أتانا من أصحابك بغير إذن وليه
لم نرده عليك، ومن أتاك منا بغير إذن وليه رددته علينا،
وأن بينا وبينك عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال.
وذكر الحديث.
الإسلال: الخفية، وقيل: الغارة، وقيل: سل السيوف والإغلال:
الغارة.
وقال شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: لما صالح رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- مشركي مكة كتب بينهم كتابا:
"هذا ما صالح عليه محمد رسول الله". قالوا: لو علمنا أنك
رسول الله لم نقاتلك. قال لعلي: "امحه". فأبى، فمحاه
رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِيَدِهِ، وكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله.
واشتراطوا عليه أن يقيموا ثلاثا، وأن لا يدخلوا مكة بسلاح
إلا جلبان السلاح، يعني السيف بقرابه. متفق عليه1.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ
نحوه أو قريبا منه. أخرجه مسلم2.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بنُ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ
كَعْبٍ أن كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للصلح كان
عليا -رضي الله عنه- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو".
فجعل علي يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا: محمد رسول الله. فقال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اكتب، فإن لك مثلها
تعطيها وأنت مضطهد"، فكتب: "هذا ما صالح عليه محمد بن عبد
الله".
وقال عبد العزيز بن سياه: حدثنا حبيب بن أبي ثابت، عن أبي
وائل، قال: قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال: أيها الناس
اتهموا أنفسكم، لقد كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- يوم الحديبية، ولو نرى قتالا
لقاتلنا. فأتي عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟
قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟
قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في أنفسنا ونرجع ولما
يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: "يا ابن الخطاب، إني رسول
الله ولن يضيعني الله"، فانطلق متغيظا إلى أبي بكر، فقال
له كما قَالَ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، ونزل القرآن، فأرسل النبي -صلى الله عليه
وسلم- إلى عمر فأقرأه إياه. فقال: يا رسول الله، أوفتح هو؟
قال: "نعم"، فطابت نفسه ورجع. متفق عليه3.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "2698"، ومسلم "1783" من طريق شعبة،
به.
2 صحيح: أخرجه مسلم "1784" حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3182"، ومسلم "1785" من طريق عبد
العزيز بن سياه به.
(2/37)
وقال يونس، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عن المسور، ومروان، قالا:
خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من عند أم سلمة فلم يكلم أحدا حتى أتى هديه
فنحر وحلق. فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وحلق بعض وقصر
بعض. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر
للمحلقين". فقيل: يا رسول الله والمقصرين؟ فقال: "اغفر
للمحلقين"، ثلاثا. قيل: يا رسول الله وللمقصرين؟ قال:
"وللمقصرين".
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن
مجاهد، عن ابن عباس، قال: قيل له: لم ظاهر رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة؟ فقال:
إنهم لم يشكوا.
وقال يونس -هو ابن بكير- عن هشام الدستوائي، عَنْ يَحْيَى
بنِ أَبِي كَثِيْرٍ، عَنْ أَبِي إبراهيم، عن أبي سعيد،
قال: حلق أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم
الحديبية كلهم غير رجلين؛ قصرا ولم يحلقا.
أبو إبراهيم مجهول.
وقال ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن وهب بن عبد الله
بن قارب، قال: كنت مع أبي، فَرَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "يرحم الله
المحلقين". قال رجل: والمقصرين يا رسول الله؟ فلما كانت
الثالثة، قال: "والمقصرين".
وقال يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا زهير بن محمد، قال:
حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: نحر يوم الحديبية سبعون بدنة
فيها جمل أبي جهل، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى
أولادها.
ويروى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُهدِيَ في عمرة الحديبية
جملا كان لأبي جهل، في أنفه برة من ذهب أهداه ليغيظ به
قريشا.
وقال فليح بن سليمان، [عَنْ نَافِعٍ] عَنِ ابْنِ عُمَرُ
إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- خرج
معتمرا، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق
رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا
يحمل سلاحا عليها إلا سيوفا، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا،
فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما صالحهم. فلما أن أقام
بها ثلاثا، أمروه أن يخرج فخرج. أخرجه البخاري1.
وقال مالك عن أبي الزبير، عن جابر، نحرنا بالحديبية البدنة
عن سبعة، والبقرة عن سبعة. رواه مسلم2.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "2701" حدثنا محمد بن رافع، حدثنا
سريح بن النعمان، حدثنا فليح، عن نافع، عن ابن عمر، به،
ووقع في الأصل [فليح، عن رافع، عن ابن عمر] وتحرف فيه
[نافع] إلى [رافع] وما أثبتناه في البخاري كما ترى.
2 صحيح: أخرجه مالك "2/ 486"، ومسلم "1318" "350"، وأبو
داود "2809" والترمذي "904"، وابن ماجه "3132"، والدارمي
"2/ 78"، والبيهقي "5/ 168-169و 216و 234" و "9/ 294"،
والبغوي "1130" عن أبي الزبير، به.
(2/38)
نزول سورة الفتح:
قال مالك، عن زيد بن أسلم، عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يسير في
بعض أسفاره، وعمر معه ليلا. فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، ثم
سأله فلم يجيه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك،
نزرت رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في
قرآن، فلم أنشب أن سمعت صارخا يصرخ، قال: قلت: لقد خشيت أن
يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فسلمت عليه، فقال: "لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي
مما طلعت عليه الشمس"، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح] ، أخرجه البخاري1.
وقال يونس بن بكير، عن عبد الرحمن المسعودي، عن جامع بن
شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، عن ابن مسعود؛ قال: لما
أَقْبَلَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من الحديبية، جعلت ناقته تثقل، فتقدمنا، فأنزل
عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} .
وقال شعبة، عن قتادة، عن أنس: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحًا مُبِينًا} قال: فتح الحديبية، فقال رجل: هنيئا
مريئا يا رسول الله هذا لك، فما لنا؟ فأنزلت: {لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح: 5] .
قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثتهم عن قتادة، عن أنس، ثم قدمت
البصرة فذكرت ذلك لقتادة، فقال: أما الأول فعن أنس، وأما
الثاني: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
جَنَّاتٍ} ، فعن عكرمة، أخرجه البخاري2.
وقال همام: حدثنا قتادة، عن أنس، قال: لما نزلت: {إِنَّا
فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} إلى آخر الآية عَلَى
رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرجعه
من الحديبية، وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة، فقال:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4833" حدثنا عبد الله بن سلمة، عن
مالك، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4172" حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا
عثمان بن عمر، أخبرنا شعبة، به.
(2/39)
"نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا". فلما
تلاها قال رجل: قد بين الله ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟
فأنزلت التي بعدها: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} . أخرجه مسلم1.
وقال يونس، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُرْوَةَ، عن المسور، ومروان قالا في قصة الحديبية: ثم
انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعا، فلما أن كان
بين مكة والمدينة نزلت عليه سورة الفتح. فكانت القصة في
سورة الفتح وما ذكر الله من بيعة الرضوان تحت الشجرة. فلما
أمن الناس وتفاوضوا، لم يكلم أحد بالإسلام إلا دخل فيه.
فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام أكثر مما كان فيه قبل
ذلك. وكان صلح الحديبية فتحا عظيما.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة؛ قالوا: وأقبل
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحديبية راجعا. فقال
رجال مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم: والله ما هذا بفتح؛ لقد صددنا عن البيت وصد
هدينا، وعكف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحديبية ورد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلين من المسلمين خرجا.
فبلغ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَوْلٌ رجال من أصحابه: إن هذا ليس بفتح، فقال: "بئس
الكلام، هذا أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم
بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في
الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم
وردكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا أعظم الفتوح. أنسيتم
يوم أحد، إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في
أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب، إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل
منكم"؟، فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، هذا أعظم الفتوح
والله يا نبي الله.
قال ابن أبي عروبة، عن قتادة، قال: ظهرت الروم على فارس
عند مرجع المسلمين من الحديبية، وقال مثل ذلك عقيل، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ
عُتْبَةَ بن مسعود.
وكانت بين الروم وبين فارس ملحمة مشهودة نصر الله -تعالى-
فيها الروم، ففرح المسلمون بذلك، لكون أهل الكتاب في
الجملة نصروا على المجوس.
وقال مغيرة، عن الشعبي في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحًا مُبِينًا} ؛ قال: فتح الحديبية، وبايعوا بيعة
الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس. ففرح
المؤمنون بتصديق كتاب الله ونصر أهل الكتاب على المجوس.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1786" من طريق همام وغيره، عن قتادة
به.
(2/40)
وقال شُعْبَةُ، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي ليلى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا
قَرِيبًا} [الفتح: 18] ، قال: خيبر. {وَأُخْرَى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: 21] ، قال: فارس والروم.
وقال وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيْحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَرَى رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو
وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فقالوا له حين نحر
بالحديبية: أين رؤياك يا رسول الله؟ فأنزل الله: {لَقَدْ
صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} إلى قوله:
{فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:
27] ، يعني النحر بالحديبية، ثم رجعوا ففتحوا خيبر، فكان
تصديق رؤياه في السنة المقبلة.
وَقَالَ هُشَيْمٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ
سَعِيْدٍ، وعكرمة: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي
بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح: 16] ، قالا: هوازن يوم حنين. رواه
سعيد بن منصور في سننه.
وقال بندار: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن هشيم، فذكره،
وزاد: هوازن وبنو حنيفة.
وقال عبد الله بن صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ صَالِحٍ،
عَنْ عَلِيِّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: {أُولِي
بَأْسٍ شَدِيدٍ} ، قال: فارس. وقال: {السَّكِينَة} هي
الرحمة.
وقال أبو حذيفة النهدي: حدثنا سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ
بنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الأحوص، عن علي {هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ}
[الفتح: 4] ، قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي
بعد ريح هفافة.
وقال وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيْحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ: السكينة كهيئة الريح، لها رأس كرأس
الهرة وجناحان.
وقال المسعودي، عن قتادة عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة} ،
قال السرية، {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} ،
قال: هو محمد -صلى الله عليه وسلم. {حَتَّى يَأْتِيَ
وَعْدُ اللَّهِ} [الرعد: 31] ، قال: فتح مكة.
وعن مجاهد: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} ، قال:
الحديبية ونحوها. رواه شريك، عن منصور، عنه.
(2/41)
وقال الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني
عروة أنه سمع مروان بن الحكم، والمسور، يخبران عَنْ
أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنْ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لما كاتب سهيل بن عمرو، فذكر الحديث، وفيه:
وكانت أُمُّ كُلْثُوْمٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بنِ أَبِي
مُعَيْطٍ ممن خرج إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومئذ وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجعها إليهم فلم يرجعها
إليهم لما أنزل الله فيهن: {إِذَا جَاءَكُمُ
الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}
[الممتحنة: 10] .
قال عروة: فأخبرتني عَائِشَةَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يمتحنهن بهذه
الآية: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ}
الآية [الممتحنة: 12] ، قالت: فمن أقر بهذا الشرط منهن قال
لها: $"قد بايعتك"، كلاما يكلمها به، والله ما مست يده يد
امرأة قط في المبايعة، ما بايعهن إلا بقوله. أخرجه
البخاري1.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: ولما رجع رسول الله
إلى المدينة انفلت من ثقيف أبو بصير بن أسيد بن جارية
الثقفي من المشركين، فذكر من أمره نحوًا مما قدمناه. وفيه
زيادة وهي: فخرج أبو بصير معه خمسة كانوا قدموا من مكة،
ولم ترسل قريش في طلبهم كما أرسلوا في أبي بصير، حتى كانوا
بين العيص وذي المروة من أرض جهينة على طريق عير قريش مما
يلي سيف البحر، لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا
أصحابها.
وانفلت أبو جندل في سبعين راكبا أسلموا وهاجروا، فلحقوا
بأبي بصير، وقطعوا مادة قريش من الشام، وكان أبو بصير يصلي
بأصحابه، فلما قدم عليه أبو جندل كان يؤمهم.
واجتمع إلى أبي جندل حين سمعوا بقدومه ناس من بني غفار
وأسلم وجهينة وطوائف، حتى بلغوا ثلاث مائة مقاتل وهم
مسلمون، فأرسلت قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسألونه أن يبعث إلى أبي بصير ومن معه
فيقدموا عليه، وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه، قال: ومر
بأبي بصير أبو العاص بن الربيع من الشام فأخذوه، فقدم على
امرأته زينب سرا. وقد تقدم شأنه.
وأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابه إلى أبي بصير
أن لا يعترضوا لأحد. فقدم الكتاب على أبي جندل وأبي بصير،
وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره
مسجدا.
وقال يحيى بن أبي كثير: حدثني أبو سلمة، أن أبا هريرة
حَدَّثَهُ، إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كَانَ إذا
صلى العشاء الآخرة نصب في الركعة الآخرة بعدما يقول: "سمع
الله لمن حمده"، ويقول: "اللهم نج الوليد بن الوليد، اللهم
نج سلمة بن هشام، اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج
المستضعفين من المؤمنين، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم
اجعلها سنين مثل سني يوسف" 2. ثم لم يزل يدعو حتى نجاهم
الله -تعالى- ثم ترك الدعاء لهم بعد ذلك.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4891" من طريق ابن أخي ابن شهاب عن
عمه، عن عروة، به.
2 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه أحمد "2/ 255"، والبخاري
"4560"، ومسلم "675" "294" والنسائي "2/ 201" والدارمي "1/
374"، وابن خزيمة "619"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"
"1/ 241و 242" وأبو عوانة "2/ 280و 283"، والبيهقي "2/
197"، والبغوي "637" من طريق الزهري، به.
(2/42)
وفي سنة ست:
مات سعد بن خولة -رضي الله عنه- في الأسر بمكة. ورثى له
النبي -صلى الله عليه وسلم- لكونه مات بمكة.
وفيها قتل هشام بن صبابة أخو مقيس، قتله رجل من المسلمين
وهو يظن أنه كافر، فأعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- مقيسا
ديته. ثم إن مقيسا قتل قاتل أخيه، وكفر وهرب إلى مكة.
وفي ذي الحجة: ماتت أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية،
أم عائشة -رضي الله عنهما- أخرج البخاري من رواية مسروق
عنها حديثا وهو منقطع؛ لأنه لم يدركها، أو قد أدركها فيكون
تاريخ موتها هذا خطأ. والله أعلم.
(2/43)
السنة السابعة:
غزوة خيبر:
قال عبد الله بن إدريس، عن ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ، قال: كان افتتاح خيبر في
عقب المحرم، وقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر
صفر.
قلت: وكذا رواه ابن إسحاق عن غير عبد الله بن أبي بكر.
وذكر الواقدي، عن شيوخه، في خروج النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى خَيْبَرَ: في أول سنة
سبع.
وشذ الزهري فقال، فيما رواه عنه موسى بن عقبة في مغازيه،
قال: ثم قاتل رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَوْمَ خيبر من سنة ست. وهذا لا يصح إلا إذا
جعلنا ذلك في السنة السادسة من ساعة قدومه المدينة. والله
أعلم.
وخيبر: بليدة على ثمانية برد من المدينة.
قال وهيب: حَدَّثَنَا خُثَيْمُ بنُ عِرَاكٍ، عَنْ
أَبِيْهِ، عَنْ نفر من بني غفار، قالوا: إن أبا هريرة قدم
المدينة وقد خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِلَى خيبر، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة
الغفاري.
قال أبو هريرة: فوجدناه في صلاة الصبح، فقرأ في الركعة
الأولى {كهيعص} [مريم: 1] ، وقرأ في الثانية {وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِين} [المطففين: 1] ، قال أبو هريرة: فأقول في
صلاتي: ويل لأبي فلان له مكيالان، إذا اكتال بالوافي، وإذا
كال كال بالناقص. قال: فلما فرغنا من صلاتنا أتينا سباع
ابن عرفطة فزودنا شيئا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُوْلِ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد فتح خيبر،
فكلم المسلمين فأشركونا في سهمانهم.
وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار: أخبرني سويد
بن النعمان، أنه خَرَجَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء
-وهي أدنى خيبر- صلى العصر، ثم دعا بأزواد فلم يؤت إلا
بالسويق، فأمر به فثري، فَأَكَلَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأكلنا. ثم قام إلى المغرب
فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ. أخرجه البخاري1.
وقال حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال:
خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر فسرنا ليلا.
فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من
هنيهاتك؟. وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم ويقول:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4195" حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن
مالك، به.
(2/44)
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا
ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اقتفينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصياح عولوا علينا
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من هذا السائق"؟
قالوا: عامر. قال: "يرحمه الله". قال رجل من القوم: وجبت
يا رسول الله، لولا أمتعتنا به. فأتينا خيبر فحاصرهم، حتى
أصابتنا مخمصة شديدة. فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي
فتحت عليهم أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم: "ما هذه النيران على أي شي توقد"؟ قالوا: على
لحم حمر إنسية. فقال: "أهريقوها واكسروها". فقال رجل: أو
يهريقوها ويغسلوها. قال: "أو ذاك".
قال: فلما تصاف القوم كان سيف عامر فيه قصر، فتناول به ساق
يهودي ليضربه، فيرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر، فمات
منه. فلما قفلوا قال سلمة، وهو آخذ بيدي لما رَآنِي
رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ساكتا، قال: "مالك"؟ قلت: فداك أبي وأمي، زعموا أن عامرا
حبط عمله. قال: "من قاله"؟ قلت: فلان وأسيد بن حضير. فقال:
"كذب من قاله، له أجران، وجمع بين أصبعيه، إنه لجاهد مجاهد
قل عربي مشى بها مثله". متفق عليه1.
وقال مالك: عن حميد، أَنَسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين خرج إلى خيبر أتاها ليلا.
وكان إذا أتى قوما بليل لم يغر حتى يصبح. فلما أصبح خرجت
يهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله،
محمد والخميس. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الله
أكبر خربت خيبر. إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح
المنذرين". أخرجه البخاري2. وأخرجاه من حديث ابن صهيب، عن
أنس3.
وقال غير واحد: شعبة، وابن فضيل، عن مسلم الملائي، عَنْ
أَنَس، قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم- يعود المريض، ويتبع الجنازة، ويجيب دعوة
الملوك، ويركب الحمار، ولقد رأيته يوم خيبر على حمار خطامه
ليف.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4196"، ومسلم "1802" من طريق حاتم
بن إسماعيل، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4197" حدثنا عبد الله بن يوسف،
أخبرنا مالك، به. وقوله: "والخميس": يعني الجيش.
3 صحيح: أخرجه البخاري "371"، ومسلم "1365" "120" "ص
1426-1427" من طريق إسماعيل ابن علية، قال حدثنا عبد
العزيز بن صهيب، به.
(2/45)
وقال يَعْقُوْبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ أَبِي حَازِمٍ: أخبرني سهل بن سعد، أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال يوم خيبر:
"لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله
ورسوله ويحبه الله ورسوله". قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم
أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كلهم يرجوا أن
يعطاها. فقال: "أين علي بن أبي طالب"؟ قيل: هو يا رسول
الله يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه. فأتي به فبصق رسول
الله في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كان لم يكن به وجع.
فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا
مثلنا؟ قال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم
إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله
لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر
النعم". أخرجه عن قتيبة، عن يعقوب1.
وقال سُهَيْلِ بنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لأعطين الراية غدا رجلا يجب الله
ورسوله، يفتح الله على يديه". فقال عمر: أحببت الإمارة قط
حتى يؤمئذ. فدعا عليا فبعثه، ثم قال: "اذهب فقاتل حتى يفتح
الله عليك ولا تلتفت"، قال علي: علام أقاتل الناس؟ قال:
"قاتلهم حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ
وَأَنَّ مُحَمَّداً عبده ورسوله. فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا
دِمَاءهُم وَأَمْوَالَهُم إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُم
عَلَى اللهِ". أخرجه مسلم2، وأخرجا نحوه من حديث سلمة بن
الأكوع.
وقال عكرمة بن عمار: حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، قال:
حدثني أبي أن عمه عامرا حدا بهم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "غفر لك ربك". قال:
وما خص بها أحد إلا استشهد. فقال عمر: هلا متعتنا بعامر؟
فقدمنا خبير، فخرج مرحب وهو يخطر بسيفه، ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فبرز له عامر، وهو يقول:
__________
1 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه أحمد "5/ 333"، وفي "فضائل
الصحابة" "1037"، والبخاري "3009"و"4210"، ومسلم "2406"،
والنسائي في "فضائل الصحابة" "46"، وفي "الخصائص" "17"،
وسعيد بن منصور في "سننه" "2482"، والطحاوي "3/ 207"،
والطبراني "5991"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 62"، والبغوي
"3906" من طريق يعقوب بن عبد الرحمن، به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "2/ 384-385"، وفي "فضائل الصحابة"
"1030"، وابن سعد "2/ 110"، والطيالسي "2441"، ومسلم
"2405"، والنسائي في "خصائص علي" "19و20و 21" وسعيد بن
منصور في "سننه" "2474"، وابن أبي عاصم "1378" من طرق عن
سهيل بن أبي صالح، به.
(2/46)
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل
مغامر
قال: فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، فذهب
عامر يسفل له، فرجع بسيفه على نفسه فقطع أكحله، وكانت
نفسه. قال سلمة: فخرجت فإذا نفر مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولون: بطل عمل
عامر، قتل نفسه. فَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا أبكي، قال: "ما لك"؟
فقلت: قالوا إن عامرا بطل عمله. قال: "من قال ذلك "؟ قلت:
نفر من أصحابك. فقال: "كذب أولئك بل له من الأجر مرتين"
قال: فأرسل إلى علي يدعوه وهو أرمد فقال: لأعطين الراية
اليوم رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال: فجئت
به أقوده. قال: فبصق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
عينيه فبرأ، فأعطاه الراية. قال: فبرز مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح1 بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
قال: فبرز له علي -رضي الله عنه- وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره2
فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله، وكان الفتح. أخرجه مسلم3.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق، فحدثني محمد بن إبراهيم
التيمي، عن أبي الهيثم بن نصر الأسلمي أن أباه حدثه
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلَّم- يقول -في مسيره لخيبر- لعامر بن الأكوع: خذ لنا من
هناتك فنزل يرتجز، فقال:
والله لَوْلاَ اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ
تَصَدَّقْنَا وَلاَ صلينا
__________
1 شاكي السلاح: أي تام السلاح. يقال: شاكي السلاح، وشاك
السلاح، وشاك في السلاح، من الشوكة، وهي القوة. والشوكة
أيضا السلاح. ومنه قوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ
ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7] .
2 أوفيهم بالصاع كيل السندرة: معناه أقتل الأعداء قتلا
واسعا ذريعا. والسندرة مكيال واسع. وقيل: هي العجلة أي
أقتلهم عاجلا.
3 صحيح: أخرجه مسلم "1807".
(2/47)
إنا إذا قوم بغوا علينا ... وإن أرادوا
فتنة أبينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يرحمك الله". فقال
عمر: وجب والله يا رسول الله، لو أمتعتنا به. فقتل يوم
خيبر شهيدا.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عَنْ
أَبِيْهِ، عَنْ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: فخرج علي
-رضي الله عنه- بالراية يهرول وإنا نخلفه حتى ركزها في رضم
من حجارة تحت الحصن. فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال:
من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب: فقال اليهودي: غلبتم
-وعند البكائي: علوتم -وما أنزل على موسى. فما رجع حتى فتح
الله عليه.
وقال يونس بن بكير، عن المسيب بن مسلم الأزدي: حدثنا عبد
الله بن بريدة، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ربما أخذته الشقيقة1
فيلبث اليوم واليومين لا يخرج، ولما نزل خيبر أخذته
الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، وأن أبا بكر أخذ راية
رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ
نهض فقاتل قتالا شديدا، ثم رجع. فأخذها عمر فقاتل قتالا
شديدا هو أشد من القتال الأول، ثم رجع فأخبر بذلك رَسُوْلِ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ:
"لأعطينها غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله
يأخذها عنوة"، وليس ثم علي. فتطاولت لها قريش، رجاكل رجل
منهم أن يكون صاحب ذلك. فأصبح وجاء علي على بعير حتى أناخ
قريبا، وهو أرمد قد عصب عينه بشق برد قطري. فقال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم: "ما لك"؟ قال: رمدت بعدك، قال: "ادن
مني"، فتفل في عينه، فما وجعها حتى مضى لسبيله، ثم أعطاه
الراية فنهض بها، وعليه جبة أرجوان حمراء قد أخرج خملها،
فأتى مدينة خيبر.
وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر مظهر يماني وحجر قد ثقبه
مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز، فارتجز علي واختلفا
ضربتين، فبدر علي بضربة، فقد الحجر والمغفر ورأسه ووقع في
الأضراس، وأخذ المدينة.
وقال عوف الأعرابي، عن ميمون أبي عبد الله الأزدي، عن ابن
بريدة، عن أبيه، قال: فاختلف مرحب وعلي ضربتين، فضربه علي
على هامته حتى عض السيف بأضراسه. وسمع أهل العسكر صوت
ضربته. وما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله له ولهم.
__________
1 الشقيقة: نوع من صداع يعرض في مقدم الرأس وإلى أحد
جانبيه.
(2/48)
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله
بن الحسن، عن بعض أهله، عن أبي رافع مولى رَسُوْلَ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: خرجنا مع علي
حِيْنَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- برايته. فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله
فقاتلهم، فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي
باب الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى
فتح الله عليه. ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني مع نفر سبعة
أنا ثامنهم، نجهد أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.
رواه البكائي، عن ابن إسحاق، عن أبي رافع منقطعا، وفيه:
فتناول على بابا كان عند الحصن. والباقى بمعناه.
وقال إسماعيل بن موسى السدي: حدثنا مطلب بن زياد، عن ليث
بن أبي سليم، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ،
قَالَ: دخلت عليه، فقال: حدثني جابر بن عبد الله أن عليا
حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه، فافتتحوها،
وأنه خرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلًا.
تابعه فضيل بن عبد الوهاب، عن مطلب.
وقال يونس بن بكير، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بنِ أَبِي ليلى، عن الحكم، والمنهال بن عمرو، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: كان علي يلبس في
الحر والشتاء القباء المحشو الثخين وما يبالي الحر، فأتاني
أصحابي فقالوا: إنا قد رأينا من أمير المؤمنين شيئا فهل
رأيته؟ فقتلت: وهو؟ قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحر
الشديد في القباء المحشو وما يبالي الحر، ويخرج علينا في
البرد الشديد في الثوبين الخفيفين وما يبالي البرد، فهل
سمعت في ذلك شيئا؟ فقلت: لا. فقالوا: سل لنا أباك فإنه
يسمر معه. فسألته فقال: ما سمعت في ذلك شيئا. فدخل عليه
فسمر معه فسأله فقال علي: أو ما شهدت معنا خيبر؟ قال: بلي.
قال: فما رَأَيتُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حِيْنَ دعا أبا بكر فعقد له وبعثه إلى القوم،
فانطلق فلقي القوم، ثم جاء بالناس وقد هزموا؟ فقال: بلي.
قال: ثم بعث إلى عمر فعقد له وبعثه إلى القوم، فانطلق فلقي
القوم فقاتهلم ثم رجع وقد هزم، فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- عند ذلك: "لأعطين الراية رجلا يحبه الله ورسوله
ويحب الله ورسوله يفتح الله عليه غير فرار"، فدعاني
فأعطاني الراية، ثم قال: "اللهم اكفه الحر والبرد"، فما
وجدت بعد ذلك حرا ولا بردا.
وقال أبو عوانة، عن مغيرة الضبي، عن أم موسى، قالت: سمعت
عليا يقول: ما رمدت ولا صدعت مذ دفع إِلَى رَسُوْلِ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الراية يوم خيبر.
رواه أبو داود الطيالسي في مسنده.
(2/49)
فصل فيمن ذكر أن
مرحبا قتله محمد بن مسلمة:
قال موسى بن عقبة، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قام يوم خيبر
فوعظهم. وفيه: فخرج اليهود بعاديتها، فقتل صاحب عادية
اليهود فانقطعوا. وقتل محمد بن مسلمة الأشهلي مرحبا
اليهودي.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة، نحوه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن سهل الحارثي،
عن جابر بن عبد الله، قال: خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر،
قد جمع سلاحه وهو يرتجز ويقول: من يبارز؟ فقال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم: "من لهذا"؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا
له، أنا والله الموتور الثاثر، قتلوا أخي بالأمس. قال: "قم
إليه، اللهم أعنه عليه". فلما تقاربا دخلت بينهما شجرة
عمرية، فجعل كل واحد منها يلوذ بها من صاحبه، كلما لاذ بها
أحدهما اقتطع بسيفه ما دونه، حتى برز كل واحد منهما، وصارت
بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن، ثم حمل على محمد فضربه
فاتقاه بالدرقة، فعضت بسيفه فأمسكته، وضربه محمد حتى قتله،
فقيل: إنه ارتجز فقال:
قد علمت خيبر أني ماضي ... حلو إذا شئت وسم قاضي
وكان ارتجاز مرحب:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الليوث أقبلت تلهب ... وأحجمت عن صولة المغلب
أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إن حماي للحمى لا يقرب
وقال الواقدي: حدثني محمد بن الفضل بن عبيد الله بن رافع
بن خديج، عن أبيه، عن جابر، قال: وحدثني زكريا بن زيد، عن
عبد الله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن سلمة بن سلامة، قال:
وعن مجمع بن يعقوب، عن أبيه، عن مجمع بن جارية، قالوا
جميعا: إن محمد بن مسلمة قتل مرحبا.
وذكر الواقدي، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن
مسلمة، عن أبيه، أن عليا حمل على مرحب فقطره على الباب،
وفتح على الباب الآخر، وكان للحصن بابان.
(2/50)
قال الواقدي: وقيل: إن محمد بن مسلمة ضرب
ساقي مرحب فقطعهما، فقال: أجهز علي يا محمد. فقال: ذق
الموت كما ذاقه أخي محمود، وجاوزه، ومر به علي فضرب عنقه
وأخذ سلبه. فاختصما إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سلبه، فأعطاه محمدا. وكان عند آل
محمد بن مسلمة فيه كتاب لا يدرى ما هو، حتى قرأه يهودي من
يهود تيماء فإذا فيه: هذا سيف مرحب من يذقه يعطب.
قال الواقدي: حدثني محمد بن الفضل بن عبيد الله بن رافع،
عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، قال: برز
مرحب وكان طوالا جَسِيْماً، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- حين برز وطلع: "أترونه
خمسة أذرع"؟ وهو يدعو إلى البراز؛ فبرز له علي فضربه
ضربات، كل ذلك لا يصنع شيئا، حتى ضرب ساقيه فبرك، ثم دفف
عليه وأخذ سلاحه.
قال ابن إسحاق: ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر، فبرز له الزبير
فقتله.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ. ورواه موسى بن عقبة -واللفظ له- قال: ثم دخلوا
حصنا لهم منيعا يدعى القموص، فحاصرهم النبي -صلى الله عليه
وسلم- قريبا من عشرين ليلة.
وكانت أرضًا وخمة شديدة الحر، فجهد المسلمون جهدا شديدا،
فوجدوا أحمرة ليهود، فذكر قصتها، ونهى النبي -صلى الله
عليه وسلم- عن أكلها. ثم قال: وجاء عبد حبشي من أهل خيبر
كان في غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح،
سألهم ما تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي.
فوقع في نفسه، فأقبل بغنمه حتى عمد لرسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فأسلم، وقال: ماذا لي؟ قال: "الجنة" فقال: يا
رسول الله إن هذه الغنم عندي أمانة. قَالَ لَهُ رَسُوْلُ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أخرجها من
عسكرنا وارمها بالحصباء فإن الله سيؤدي عنك أمانتك"، ففعل؛
فرجعت الغنم إلى سيدها. ووعظ النبي -صلى الله عليه وسلم-
الناس، إلى أن قال: "وقتل من المسلمين العبد الأسود،
فاحتملوه فأدخل في فسطاط،" فزعموا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اطلع في الفسطاط، ثم
أقبل على أصحابه فقال: "لقد أكرم الله هذا العبد، وقد رأيت
عند رأسه اثنتين من الحور العين".
وقال ابن وهب: أخبرني حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن
شرحبيل بن سعد، عن جابر بن عبد الله، قَالَ: كُنَّا مَعَ
رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- في غزوة خيبر،
فخرجت سرية فأخذوا إنسانا معه غنم يرعاها، فجاؤوا بِهِ
إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فكلمه، فقال له الرجل: إني قد آمنت بك فكيف بالغنم فإنها
أمانة، وهي للناس الشاة والشاتان، قال: "احصب وجوهها ترجع
إلى أهلها". فأخذ قبضة من حصباء أو تراب فرمى بها وجوهها،
فخرجت تشتد حتى دخلت كل
(2/51)
شاة إلى أهلها. ثم تقدم إلى الصف، فأصابه
سهم فقتله. ولم يصل لله سجدة قط، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أدخلوه الخباء"
فأدخل خباء رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- دَخَلَ عليه ثم خرج فقال: "لقد حسن إسلام
صاحبكم، لقد دخلت عليه وإن عنده لزوجتين له من الحور
العين".
وهذا حديث حسن أو صحيح.
وقال مؤمل بن إسماعيل: حدثنا حماد، قال: حدثنا ثابت، عن
أنس، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يا رسول الله إني رجل أسود
اللون، قبيح الوجه، منتن الريح، لا مال لي، فإن قاتلت
هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة؟ قال: "نعم". فتقدم فقاتل حتى
قتل. فأتى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مقتول،
فقال: "لقد أحسن الله وجهك وطيب روحك وكثر مالك". قال:
وقال -لهذا أو لغيره: "لقد رأيت زوجتيه من الحور العين
ينازعانه جبته عنه، يدخلان فيما بين جلده وجبته". وهذا
حديث صحيح.
وقال يونس، عن ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بنُ
أَبِي بَكْرٍ، عن بعض أسلم، أن بعض بنى سهم من أسلم أتوا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، فقالوا: يا رسول
الله، والله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عِنْد
رَسُوْل اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئا،
فقال: "اللهم إنك قد علمت حالهم وأنهم ليست لهم قوة وليس
بيدي ما أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصن بها غني، أكثره
طعاما وودكا". فغدا الناس ففتح الله عليهم حصن الصعب بن
معاذ، وما بخبير حصن أكثر طعاما وودكا منه. فَلَمَّا
افْتَتَحَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-
من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى
حصنيهم الوطيح والسلالم، وكانا آخر حصون خيبر افتتاحا،
فحاصرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضع عشرة ليلة.
(2/52)
ذكر صفية:
وقال البكائي، عن ابن إسحاق، قال: وتدنى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- الأموال، يأخذها مالا مالا، ويفتحها حصنا
حصنا. فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن
مسلمة الأنصاري أخو محمد، ألقيت عليه رحى فقتلته. ثم
القموص؛ حصن ابن أبي الحقيق. وأصاب رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُمُ سبايا، منهن صفية
بنت حيي بن أخطب، وبنتا عم لها، فأعطاهما دحية الكلبي.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني ابن لمحمد بن مسلمة
الأنصاري عمن أدرك من أهله، وحدثنيه مكنف، قالا: حاصر
رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَهْلُ خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم، حتى إذا أيقنوا
بالهلكة، سَأَلُوا رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يسيرهم ويحقن دماءهم، ففعل. وكان
رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ
حاز الأموال كلها: الشق والنطاة والكتيبة وجميع حصونهم،
إلا ما كان في ذينك الحصنين. فلما سمع بهم أهل فدك قد
صنعوا ما صنعوا، بعثوا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسألونه أن يسيرهم ويحقن
دماءهم، ويخلون بينه وبين الأموال، ففعل. فكان ممن مشى
بَيْنَ يَدَيْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم- وبينهم، في ذلك، محيصة بن مسعود. فلما نزلوا على ذلك
سَأَلُوا رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنْ يعاملهم على الأموال على النصف، وقال:
"نحن أعلم بها منكم وأعمر لها". فصالحهم على النصف على أنا
شئنا أن نخرجكم أخرجناكم. وصالحه أهل فدك على مثل ذلك.
فكانت أموال خيبر فيئا بين المسلمين، وكانت فدك خالصة
لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن المسلمين لم يجلبوا
عليها بخيل ولا ركاب.
وقال حماد بن زيد، عن ثابت، وعبد العزيز بن صهيب، عَنْ
أَنَسٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لما ظهر على أهل خيبر قتل المقاتلة وسبى
الذراري، فصارت صفية لدحية الكلبي، ثم صارت لرسول الله
-صلى الله عليه وسلم-، ثم تزوجها وجعل صداقها عتقها. متفق
عليه.
وقال يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس،
قال: ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- جمال صفية، وكانت
عروسًا وقتل زوجها، فاصطفاها رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- لنفسه، فلما كنا بسد الصهباء حلت، فبنى رسول الله
-صلى الله عليه وسلم: واتخذ حيسا في نطع صغير، وكانت
وليمته.
فرأيته يحوي لها بعباءة خلفه، ويجلس عند ناقته، فيضع ركبته
فتجيء صفية فتضع رجلها على ركبته ثم تركب. فلما بدا لنا
أُحُدٍ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "هذا جبل يحبنا ونحبه".
أخرجه البخاري، بأطول من هذا، ومسلم.
وقال محمد بن جعفر بن أبي كثير: أخبرني حميد، سمع أنسا،
قال: أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين خيبر
والمدينة ثلاث ليال يبني عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى
وليمة رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، مَا كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان إلا أن
أمر بالأنطاع فبسطت، وألقي عليها التمر والأقط والسمن.
فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين هي أو مما ملكت يمينه؟
قالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها
فهي مما ملكت يمينه. فلما ارتحل وطأ لها خلفه، ومد الحجاب
بينها وبين الناس. أخرجه البخاري.
وقال حماد بن سلمة: حدثنا عبيد الله بن عمر- فيما أحسب-
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرُ، إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم
إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن
يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله -صلى الله
عليه وسلم- الصفراء
(2/53)
والبيضاء، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن
لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا
عهد. فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب، كان احتمله
معه إلى خيبر حين أجليت النضير. فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- لعم حيي: "ما فعل مسك حيي الذي جاء به من
النضير"؟ قال: أذهبته النفقات والحروب. فقال: " العهد قريب
والمال أكثر من ذلك". فدفعه رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- إلى الزبير، فمسه بعذاب، وقد كان حيي قبل ذلك دخل
خربة، فقال عمه: قد رأيت حييا يطوف في خربة ههنا. فذهبوا
فطافوا، فوجدوا المسك في الخربة. فقتل رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ابني حقيق، وأحدهما زوج صفية. وسبى رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم
بالنكث الذي نكثوا. وأراد أن يجليهم منها، فقالوا: يا
محمد، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها. ولم يكن
لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا لأصحابه غلمان يقومون
عليها، فأعطاهم على النصف ما بَدَا لِرَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فكان عبد الله بن
رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر. فشكوا
إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
شدة خرصه، وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطمعوني
السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض
إلي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم
وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا: بهذا قامت
السموات والأرض.
قال: ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعين صفية خضرة،
فقال: "ما هذه"؟ قالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق
وأنا نائمة، فرأيت كأن قمرا وقع في حجري فأخبرته بذلك،
فلطمني وقال: تمنين ملك يثرب؟ قَالَتْ: وَكَانَ رَسُوْلُ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- من أبغض الناس إلي،
قتل أبي وزوجي. فما زال يعتذر إلي ويقول: "إن أباك ألب
العرب علي وفعل وفعل"، حتى ذهب ذلك من نفسي.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي كل امرأة من
نسائه ثمانين وسقا من تمر كل عام، وعشرين وسقا من شعير.
فلما كان زمن عمر غشوا المسلمين، وألقوا ابن عمر من فوق
بيت، ففدعوا يديه، فقال عمر: من كان له سهم بخيبر فليحضر،
حتى قسمها بينهم. وقال رئيسهم: لا تخرجنا، دعنا نكون فيها
كما أقرنا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَأَبُو بكر. فقال له: أتراه سقط عني قول رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- كيف بك إذا رقصت بك1 راحلتك
تخوم الشام يوما ثم يوما ثم يوما. وقسمها عمر بين من كان
شهد خيبر من أهل الحديبية.
__________
1 رقصت بك: أي أسرعت بك.
(2/54)
استشهد به البخاري في كتابه، فقال: ورواه
حماد بن سلمة.
وقال أبو أحمد المرار بن حمويه: حدثنا محمد بن يحيى
الكناني، عَنْ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
قَالَ: لَمَّا فدعت1 بخيبر قام عمر خطيبا، فَقَالَ: إِنَّ
رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عامل
يهود خيبر على أموالها، وقال: "نقركم ما أقركم الله"، وان
عبد الله بن عمر خرج إلى خيبر، ما له هناك، فعدي عليه من
الليل ففدعت يداه، وليس لنا هناك عدو غيرهم، وهم تهمتنا2،
وقد رأيت إجلاءهم. فلما أجمع على ذلك أتاه أحد بني أبي
الحقيق3 فقال: يا أمير المؤمنين، تخرجنا وقد أقرنا محمد
وعاملنا؟ فقال: أظننت أني نسيت قول رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك4 ليلة
بعد ليلة. فأجلاهم وأعطاهم قيمة مالهم من الثمر مالًا
وإبلًا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك. أخرجه البخاري عن
أبي أحمد5.
وقال ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن رجال
مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَنْ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهما،
جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وللمسلمين النصف من ذلك. وعزل النصف الباقي لمن نزل
به من الوفود والأمور ونوائب الناس. أخرجه أبو داود.
وقال سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قسم خيبر ستة وثلاثين سهما، فعزل للمسلمين ثمانية عشر
سهما، يجمع كل سهم مائة،
__________
1 الفدع: بفتحتين زوال المفصل، وفدعت يداه إذا أزيلتا من
مفاصلهما وقال الخليل: الفدع عوج في المفاصل، وفي خلق
الإنسان الثابت إذا زاغت القدم من أصلها من الكعب وطرف
الساق فهو الفدع، وقال الأصمعي: هو زيغ في الكف بينها وبين
الساعد، وفي الرجل بينها وبين الساق. هذا الذي في جميع
الروايات وعليها شرح الخطابي، وهو الواقع في هذه القصة.
ووقع في رواية ابن السكن بالغين المعجمة أي "فدغ" وجزم به
الكرماني، وهو وهم؛ لأن الفدغ بالمعجمة كسر الشيء المجوف
قاله الجوهري، ولم يقع ذلك لابن عمر في القصة.
2 وهم تهمتنا: بضم المثناة وفتح الهاء ويجوز إسكانها، أي
الذين نتهمهم بذلك.
3 قوله: "أحد بني الحقيق" بمهملة وقافين مصغر، وهو رأس
يهود خيبر.
4 قوله: "تعدو بك قلوصك": بفتح القاف وبالصاد المهملة:
الناقة الصابرة على السير وقيل: الشابة وقيل: أول ما يركب
من إناث الإبل وقيل: الطويلة القوائم. وأشار -صلى الله
عليه وسلم- إلى إخراجهم من خيبر وكان ذلك من إخباره
بالمغيبات قبل وقوعها.
5 صحيح: أخرجه البخاري "2730" حدثنا أبو أحمد، حدثنا محمد
بن يحيى أبو غسان الكناني، به.
(2/55)
والنبي -صلى الله عليه وسلم- معهم وله سهم
كسهم أحدهم. وعزل النصف لنوائبه وما ينزل به من أمور
المسلمين، فكان ذلك الوطيح والسلالم والكتيبة وتوابعها،
فلما صارت الأموال بيد النبي -صلى الله عليه وسلم-
والمسلمين، لم يكن لهم عمال يكفونهم عملها، فدعا اليهود
فعاملهم.
قال البيهقي -رحمه الله: وهذا لأن بعض خيبر فتح عنوة،
وبعضها صلحا. فقسم ما فتح عنوة بين أهل الخمس والغانمين،
وعزل ما فتح لنوائبه وما يحتاج إليه في مصالح المسلمين.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عَنْ عُبَيْدُ اللهِ بنُ
عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابن عمر، أن خيبر يوم أشركها
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان فيها زرع، ونخل فكان يقسم
لنسائه كل سنة لكل واحدة منهن مائة وسق تمر، وعشرين وسق
شعير لكل امرأة.
رواه الذهلي، عن عبد الرزاق، فأسقط منه: ابن عمر.
وقال ابن وهب: قال يحيى بن أيوب: حدثني إبراهيم بن سعد، عن
كثير مولى بني مخزوم، عن عطاء، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قسم
لمائتي فرس يوم خيبر سهمين سهمين.
قال ابن وهب: وقال لي يَحْيَى بنُ أَيُّوْبَ، عَنْ يَحْيَى
بنِ سَعِيْدٍ، وصالح بن كيسان مثل ذلك.
وقال ابن عيينة، حدثنا يحيى بن سعد، عن صالح بن كيسان،
قال: كانوا يوم خيبر ألفا وأربع مائة، وكانت الخيل مائتي
فرس.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: أخبرني الزهري، عن سعيد بن
المسيب، عن جبير بن مطعم، قال: لم قسم رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني
المطلب، مشيت أنا وعثمان فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك
بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم،
أرأيت إخوتنا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن
وهم بمنزل واحد منك. فقال: "إنهم لم يفارقونا في جاهلية
ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد"، ثم شبك
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه إحداهما في الأخرى.
استشهد به البخاري.
وقال شعبة، عَنْ حُمَيْدُ بنُ هِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ
بنِ مغفل، قال: دلى جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته، وقلت:
هذا لا أعطي أحدا منه شيئا. فالتفت فإذا النبي -صلى الله
عليه وسلم- يتبسم فاستحييت منه. متفق عليه.
وقال أبو معاوية: حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن محمد بن
أبي مجالد، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ:
قلت: أكنتم تخمسون الطعام فِي عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أصبنا طعاما
يوم خيبر فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم
ينصرف. أخرجه أبو داود.
وقال أبو معاوية، عن عاصم الأحوال، عن أبي عثمان النهدي
-أو عن أبي قلابة- قال: لما قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيبر قدم والتمرة خضرة، فأشرع
الناس فيها فحموا، فشكوا ذلك إليه فأمرهم أن يقرسوا الماء
في الشنان، ثم يحدرون عليهم بين أذاني الفجر، ويذكرون اسم
الله عليه، قال: ففعلوا فكأنما نشطوا من عقل.
وقال بشر بن المفضل، عن محمد بن زيد: حدثني عمير مولى آبي
اللحم، قال: شهدت خيبر، مع سادتي، فكلموا فِي رَسُوْلِ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأمر به فقلدت
سيفا، فإذا أنا أجره، فأخبر أني مملوك، فأمر لي بشيء من
خرثي المتاع. أخرجه أبو داود.
(2/56)
ذكر من استشهد على
خيبر:
على ما ذكر ابن إسحاق، قال: من حلفاء بني أمية: ربيعة بن
أكثم، وثقف بن عمرو، ورفاعة بن مسروح.
ومن بني أسد بن عبد العزى: عبد الله بن الهبيب.
ومن الأنصار: فضيل بن النعمان السلمي، ومسعود بن سعد
الزرقي، وأبو الضياح بن ثابت، أحد بني عمرو بن عوف،
والحارث بن حاطب، وعروة بن مرة، وأوس بن القائف، وأنيف بن
حبيب، وثابت بن أثلة، وطلحة، وعمارة بن عقبة الغفاري.
وقد تقدم: عامر بن الأكوع، ومحمود بن مسلمة، والأسود
الراعي.
وزاد عبد الملك بن هشام، فقال: مسعود بن ربيعة، حليف بني
زهرة، وأوس بن قتادة الأنصاري.
وزاد بعضهم، فقال: ومبشر بن عبد المنذر، وأبو سفيان بن
الحارث، وليس بالهاشمي، والله أعلم.
(2/57)
قدوم جعفر بن أبي
طالب ومن معه:
البخاري ومسلم قالا: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو
أسامة، قال: حدثني بُرَيْدٌ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ
أَبِي مُوْسَى الأشعري، قال: بلغنا مخرج رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا
وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو رهم، والآخر أبو بردة،
إما قال: بضع، وإما قال: في ثلاثة، أو اثنين وخمسين رجلا
من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي
بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده. فقال
جعفر: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بعثنا وأمرنا؛ يعني بالإقامة؛ فأقيموا معنا،
فأقمنا معه، حتى قدمنا جميعا، فوافقنا رَسُوْلِ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِيْنَ فتح خيبر.
فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد
معه، إلا أصحاب سفينتنا، مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم.
قال: فكان أناس من الناس يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة.
قال: ودخلت أسماء بنت عميس؛ وهي ممن قدمت معنا؛ على حفصة
زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- زائرة وقد كانت هاجرت إلى
النجاشي. فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين
رأي أسماء: من هذه؟ فقال: أسماء بنت عميس، قال: عمر:
الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم. فقال عمر:
سبقناكم بالهجرة، نحن أحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فغضبت، فقالت كلمة: يا عمر! كلا والله، كُنْتُمْ مَعَ
رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- يطعم
جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار -أو أرض- البعداء، أو
البغضاء، بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وايم الله لا
أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله
-صلى الله عليه وسلم-، ونحن كنا نؤذي ونخاف، وسأذكر له ذلك
وأسأله. فلما جاء قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا.
قال: "ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم
-أهل السفينة- هجرتان". قلت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب
السفينة يأتوني أرسالا، يسألونني عن هذا الحديث، ما من
الدنيا شيء هم به أفراج ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم
رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قَالَ أبو بردة: قالت: أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه
ليستعيد هذا الحديث مني. وقال: "لَكُمُ الهِجْرَةُ
مَرَّتَيْنِ، هَاجَرْتُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ
وَهَاجَرْتُمْ إلي".
وقال أجلح بن عبد الله، عن الشعبي، قال: لما قدم جعفر من
الحبشة تلقاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبل جبهته،
ثم قال: "والله ما أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم
جعفر". وبعضهم يقول: عن أجلح، عن الشعبي، عن جابر.
وقال ابن عيينة: حدثنا الزهري، أنه سمع عنبسة بن سعيد
القرشي يحدث عن أبي هريرة، قال: قدمت المدينة وَرَسُوْلُ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِخَيْبَرَ حين
افتتحها، فسألته أن يسهم لي. فتكلم بعض ولد سعيد بن العاص
فقال: لا تسهم له يا رسول الله. فقلت: هذا قاتل ابن قوقل.
(2/58)
فقال: أظنه ابن سعيد بن العاص: يا عجبي
لوبر قد تدلى علينا من قدوم ضال يعيرني بقتل امرئ مسلم
أكرمه الله على يدي، ولم يهني على يديه.
هذا لفظ أبي داود، وأخرجه البخاري، لكن قال: من قدوم ضأن.
وقال إسماعيل بن عياش، عن الزبيدي، عن الزهري: أخبرني
عنبسة بن سعيد، أنه سمع أبا هريرة يخبر سعيد بن العاص،
قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أبان على سرية قبل نجد، فقدم أبان وأصحابه
عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بخيبر بعد فتحها، وإن حزم خيلهم لليف، فقلت: يا رسول الله
لا تقسم لهم. فقال أبان: وأنت بهذا يا وبر تحدر من رأس
ضال. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يَا أبان، اجلس. فلم يقسم لهم. علقه البخاري في
صحيحه، فقال: ويذكر عن الزبيدي.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: كانت بنو فزارة ممن
قدم على أهل خيبر ليعينوهم، فراسلهم رَسُوْلُ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ لا يعينوهم،
وسألهم أن يخرجوا عنهم، ولكم من خبير كذا وكذا. فأبوا
عليه. فلما فتح الله خيبر، أتاه من كان هنالك من بني
فزارة، قالوا: حظنا والذي وعدتنا. فقال: "حظكم"؛ أو قال:
لكم ذو الرقيبة -لجبل من جبال خيبر- قالوا: إذا نقاتلك.
فقال: "موعدكم جنفاء". فلما سمعوا ذلك هربوا. جنفاء: ماء
من مياه بني فزارة.
وقال البخاري: حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن
أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة فقلت: يا أبا
مسلم، ما هذه الضربة؟ فقال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر،
فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-
فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة.
قال عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيْهِ،
عن سهل، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- التقى هو والمشركون في بعض مغازيه، فاقتتلوا.
فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع للمشركين
شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه. فقال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: "أما إنه من أهل النار". فقالوا:
أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ فقال رجل:
والله لا يموت على هذه الحال أبدا، فاتبعه حتى جرح، فاشتدت
جراحته واستعجل الموت، فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه،
ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فجاء الرجل إِلَى رَسُوْلِ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أشهد أنك
لرسول الله، قال: "وما ذاك"؟ فأخبره, فَقَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الرجل ليعمل
بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، وإنه
ليعمل بعمل أَهْلِ النَّارِ فِيْمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ،
وَإِنَّهُ لَمِنْ أهل الجنة". متفق عليه.
وأخرج البخاري من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزُّهْرِيِّ،
عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
شهدنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر، فقال لرجل؛
يعني النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن هذا من أهل النار"،
فلما حضر القتال قاتل الرجل. فذكر نحو حديث سهل بن سعد.
وقال يحيى القطان وغيره، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بنِ يحيى بن حبان، عن أبي عمرة، عن زيد بن خالد
الجهني أن رجلا توفي يوم خيبر، فذكر لِرَسُوْلِ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "صلوا على
صاحبكم"، فتغيرت وجوههم، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله.
ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين.
(2/59)
شان الشاة المسمومة:
وقال ليث بن سعد، عن سعيد، عن أبي هريرة، قال: لما فتحت
خيبر أَهديتُ لِرَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- شَاةً فيها سم، فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم: "اجمعوا من كان ههنا من اليهود". فجمعوا له، فقال
لهم رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنِّيْ سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه"؟ قالوا: نعم،
يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"من أبوكم"؟ قالوا: أبونا فلان. قال: "كذبتم، بل أبوكم
فلان". قالوا: صدقت وبررت. قال لهم: "هل أنتم صادقي عن شيء
إن سألتكم عنه"؟ قالوا: نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك
عرفت كذبنا كما عرفته في آبائنا. فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم: "من أهل النار"؟ قالوا: نكون فيها يسيرا ثم
تخلفوننا فيها. فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"اخسؤوا فيها فوالله لا نخلفكم"، ثم قال: "هل أنتم
صادقي"؟، قالوا: نعم قال: "أجعلتم في هذه الشاة سما"؟
قالوا: نعم. قال: "فما حملكم على ذلك"؟ قالوا: أردنا إن
كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك. أخرجه
البخاري1.
وقال خالد بن الحارث: حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس
أن يهودية أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- بشاة مسمومة،
فأكل منها، فجيء بِهَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فسألها عن ذلك، قالت: أردت
لأقتلك. فقال: "ما كان الله ليسلطك على ذلك". أو قال:
"علي"، قالوا: ألا نقتلها. قال: "لا" فما زلت أعرفها في
لهوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. متفق عليه من حديث
خالد2.
وقال عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي
سلمة وابن المسيب،
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3169" و"5777" من طريق الليث، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "2617"، ومسلم "2190" من طريق خالد
بن الحارث، به.
(2/60)
عن أبي هريرة؛ أن امرأة من اليهود أهدت
إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
شاة مسمومة، فقال: $"أمسكوا فإنها مسمومة"، وقال: $"ما
حملك على ما صنعت"؟ قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا
فسيطلعك الله، وإن كنت كاذبا أريح الناس منك. قال: عرض لها
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى عن جابر نحوه.
وقال معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، أن يهودية
أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية1 بخيبر، فأكل
وأكلوا، ثم قال: "امسكوا". وقال لها: "هل سميت هذه الشاة"؟
قالت: من أخبرك؟ قال: $"هذا العظم". قالت: نعم. فاحتجم على
الكاهل، وأمر أصحابه فاحتجموا، فمات بعضهم.
قال الزهري: فأسلمت، فتركها.
وقال أبو داود في سننه: حدثنا سليمان المهري، قال: حدثنا
ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: كان جابر
يحدث أن يهودية سمت شاة أهدتها للنبي صلى الله عليه وسلم
...
الحديث.
وقال خالد الطحان، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أهدت له يهودية بخيبر شاة، نحو حديث جابر، قال:
فمات بشر بن البراء بن معرور، وأمر بها النبي صلى الله
عليه وسلم فقتلت.
ويحتمل أنه لم يقتلها أولا، ثم لما مات بشر قتلها.
وبشر شهد العقبة وبدرًا، وأبوه فأحد النقباء ليلة العقبة.
وهو الَّذِي قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "يَا بَنِي سَلِمَة، مَنْ سَيِّدُكُم"؟
قَالُوا: الجدُّ بن قيس، على بخل فيه. فَقَالَ: "وَأَيُّ
دَاءٍ أَدْوَى مِنَ البُخْلِ؟ بَلْ سيدكم الأبيض الجعد بشر
بن البراء".
وقال موسى بن عقبة، وابن شهاب، وعروة، واللفظ لموسى،
قالوا: لها فتحت خيبر أهدت زينب بنت الحارث اليهودية -وهي
ابنة أخي مرحب- لصفية شاة مصلية وسمتها وأكثرت في الذراع؛
لأنه بلغها أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب الذراع. وذكر
الحديث.
وعن عروة، وموسى بن عقبة، قالا: كان بين قريش حين سمعوا
بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر تراهن
وتبايع، منهم من يقول: يظهر محمد، ومنهم من يقول: يظهر
الحليفان ويهود خيبر. وكان الحجاج بن علاط السلمي البهزي
قد أسلم وشهد فتح خيبر، وكانت تحته
__________
1 مصلية: مشوية.
(2/61)
أم شيبة العبدرية، وكان الحجاج ذا مال، وله
معادن من أرض بني سليم. فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم
على خيبر، قال الحجاج: يا رسول الله، إن لي ذهبا عند
امرأتي، وإن تعلم هي وأهلها بإسلامي فلا مال لي، فائذن لي
فأسرع السير ولا يسبق الخبر.
وقال محمد بن ثور -واللفظ له- وعبد الرزاق، عن معمر: سمعت
ثابتا البناني، عن أنس، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم خيبر، قال الحجاج بن علاط:
يا رسول الله، إن لي بمكة مالا، وإن لي بها أهلا أريد
إتيانهم، فأنا في حل إن أنا نلت منك فقلت شيئا؟ فأذن لَهُ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ لامرأته، وقال لها: أخفي علي واجمعى ما كان عندك
لي، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد
استبيحوا وأصيبت أموالهم. ففشا ذلك بمكة، واشتد على
المسلمين وبلغ منهم، وأظهر المشركون فرحا وسرورا، فبلغ
العباس الخبر فعقر وجعل لا يستطيع أن يقوم.
قال معمر: فأخبرني عثمان الجريري، عن مقسم، قال: فأخذ
العباس ابنا له يقال له: قثم واستلقى ووضعه على صدره وهو
يقول:
حي قثم ... شبيه ذي الأنف الأشم
فتى ذي النعم ... برغم من رغم
قال معمر في حديث أنس: فأرسل العباس غلاما له إلى الحجاج،
أن ويلك، ما جئت به وما تقول؟ والذي وعد الله خير مما جئت
به. قال الحجاج: يا غلام، أقرئ أبا الفضل السلام، وقل له:
فليخل لي في بعض بيوته فآتيه، فإن الأمر على ما يسره. فلما
بلغ العبد باب الدار، قال: أبشر يا أبا الفضل. فوثب العباس
فرحا حتى قبل ما بين عينيه وأعتقه، ثم جاء الحجاج فأخبره
بافتتاح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وغنم أموالهم،
وَإِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اصطفى صفية، ولكن جئت لمالي، وأني استأذنت النبي صلى الله
عليه وسلم فأذن لي، فأخف علي يا أبا الفضل ثلاثًا، ثم اذكر
ما شئت. قال: وجمعت له امرأته متاعه، ثم انشمر، فلما كان
بعد ثلاث، أتى العباس امرأة الحجاج فقال: ما فعل زوجك؟
قالت: ذهب، لا يحزنك الله يا أبا الفضل لقد شق علينا الذي
بلغك. فقال: أجل، لا يحزنني الله، ولم يكن بحمد الله إلا
ما أحب؛ فتح الله على رسوله، وجرت سهام الله في خيبر،
واصطفى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَفِيَّةَ لنفسه، فإن كان لك في زوجك حاجة فالحقي به.
قالت: أظنك والله صادقا. ثم أتى مجالس قريش وحدثهم. فرد
الله ما كان بالمسلمين من كآبة وجزع على المشركين
(2/62)
غزوة وادي القرى:
مالك، عن ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، قَالَ:
خَرَجْنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم عام خيبر، فلم نغنم ذهبا ولا ورقا، إلا الثياب
والمتاع. فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي
القرى، وقد أُهْدِيَ لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد أسود يقال له: مدعم. حتى إذا كانوا
بوادي القرى، بينما مدعم يحط رحل رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جاء سهم فقتله فقال
الناس: هنيئا له الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "كلا، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم
خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا".
فلما سمعوا بذلك، جاء رجل بشراك أو شراكين إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ -عليه
السلام: "شراك من نارا أو قال: شراكان من نار". متفق
عليه1.
وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من خيبر إلى وادي القرى، وكان رفاعة
بن زيد الجذامي قد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا
يقال له: مدعم، نزلنا بوادي القرى، انتهينا إلى يهود وقد
ثوى إليها ناس من العرب، فينما مدعم يحط رحل رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ استقبلنا
يهود بالرمي حيث نزلنا، ولم نكن على تعبئة، وهم يصيحون في
آطامهم، فيقبل سهم عائر، فأصاب مدعما فقتله. فقال الناس:
هنيئا له الجَنَّةَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي
أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه
نارًا". فلما سمع بذلك الناس، جاء رَجُلٌ إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشراك أو
بشراكين، فقال: "شراك أو شراكان، من نار". فعبأ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ
للقتال وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، ودفع راية إلى
الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عباد
بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إن أسلموا
أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم، فبرز رجل، فبرز له الزبير
فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه علي فقتله، ثم برز آخر، فبرز
إليه أبو دجانة فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلا ثم أعطوا
من الغد بأيديهم. وفتحها الله عنوة.
وأقام رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِوَادِي القرى أربعة أيام، فلما بلغ ذلك أهل تيماء صالحوا
على الجزية. فلما كان عمر، أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج
أهل تيماء ووادي القرى؛ لأنهما داخلتان في أرض الشام؛ ويرى
أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، وما وراء ذلك من
الشام.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4234"، ومسلم "115"من طريق مالك بن
أنس، به.
(2/63)
وقال ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُوْنُسُ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حين قفل من غزوة خيبر، فسار ليله حتى إذا أدركنا
الكرى عرس رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَالَ لبلال: اكلأ لنا الليل. فغلبت بلالا
عيناه فلم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلال إلا
بحر الشمس ... الحديث. أخرجه مسلم1.
وروى أن ذلك كان في طريق الحديبية. رواه شعبة، عن جامع بن
شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، عن ابن مسعود، ويحتمل
أن يكون نومهم مرتين.
وقد رواه زافر بن سليمان، عن شعبة، فذكر أن ذلك كان في غزة
تبوك.
وقد روي النوم عن الصلاة: عمران بن حصين، وأبو قتادة
الأنصاري. والحديثان صحيحان رواهما مسلم، وفيهما طول.
وقال عمارة بن عكرمة، عن عائشة: لما افتتحنا خيبر، قلنا:
الآن نشبع من التمر.
وقال ابن وهب: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب، عن أنس، قال: لما
قدم المهاجرون المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان
الأنصار أهل أرض، فقاسموا المهاجرين على أن أعطوهم أنصاف
ثمار أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمؤونة. وكانت أم
أنس، وهي أم سليم، أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عذاقا لها، فأعطاهن رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ أيمن مولاته أم أسامة بن زيد.
فأخبرني أَنَسٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فرغ من قتال أهل خيبر، وانصرف إلى
المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار متاعهم، ورد رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها، وأعطى أم أيمن مكانهن
من حائطه.
قال ابن شهاب: وكان من شأن أم أسامة بن زيد أنها كانت
وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلما
ولدت آمنة رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَتْ أم أيمن تحضنه حتى كبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة، ثم توفيت
بعدما تُوُفِّيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بخمسة أشهر. أخرجه مسلم2؟.
__________
1 صحيح: أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ "680"، وَأَبُو دَاوُدَ
"435"، وَالنَّسَائِيُّ "2/ 296"، وَابْنُ مَاجَهْ "697"،
وأبو عوانة "2/ 253"، والبيهقي في "السنن" "2/ 217" من
طريق ابن وهب، به.
2 صحيح: أخرجه مسلم "1771" "70" من طريق ابن وهب، به.
وقوله: "عذاقا" جمع عذق. وهي النخلة.
(2/64)
وقال معتمر: حدثنا أبي، عن أنس، أن الرجل
كان يعطي من ماله النخلات أو ما شاء الله من ماله، النبي
صلى الله عليه وسلم، حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل
يرد بعد ذلك، فأمرني أهلي أن آتيه فأسأله الذي كانوا أعطوه
أو بعضه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أم أيمن، أو
كما شاء الله. قال: فسألته، فأعطانيهن. فجاءت أم أيمن فلوت
الثَّوْبَ فِي عُنُقِي، وَجَعَلَتْ تَقُوْلُ: كَلاَّ
وَاللهِ الذي لا إله إلا هو، لا يعطيكهن وقد أعطانيهن.
فقال نبي اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا
أُمَّ أيمن اتركي ولك كذا وكذا". وَهِيَ تَقُوْلُ: كَلاَّ
وَاللهِ. حَتَّى أَعطَاهَا عَشْرَةَ أمثال ذلك، أو نحوه.
وفي لفظ في الصحيح: وهي تقول: كلا والله حتى أعطي عشرة
أمثاله. أخرجاه1.
وفي سنة سبع: قدم حاطب به أبي بلتعة من الرسلية إلى
المقوقس ملك ديار مصر، ومعه منه هدية للنبي صلى الله عليه
وسلم، وهي مارية القبطية، أم إِبْرَاهِيْمَ ابْنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأختها
شيرين التي وهبها لحسان بن ثابت، وبغلة النبي صلى الله
عليه وسلم دلدل، وحماره يعفور.
وفيها: توفيت ثويبة مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم بلبن
ابنها مسروح، وكانت مولاة لأبي لهب أعتقها عام الهجرة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إليها إلى مكة بصلة
وكسوة. حتى جاءه موتها سنة سبع مرجعة من خيبر، فقال: "ما
فعل ابنها مسروح"؟ قالوا: مات قبلها. وكانت خديجة تكرمها،
وطلبت شراءها من أبي لهب فامتنع. رواه الواقدي، عن غير
واحد. أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل حليمة أياما،
وأرضعت أيضا حمزة بن عبد المطلب، وأبا سلمة بن عبد الأسد،
رضي الله عنهما.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4030"، ومسلم "1771" "71" من طرق
عن المتعمر بن سليمان التيمي، به.
(2/65)
سرية أبي بكر -رضي
الله عنه- إلى نجد:
وكانت بعد خيبر سنة سبع.
قال عكرمة بن عمار: حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن
أبيه، قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر -رضي الله عنه- إلى بني فزارة،
وخرجت معه حتى إذا دنونا من الماء عرس بنا أبو بكر، حتى
إذا ما صلينا الصبح، أمرنا فشننا الغارة، فوردنا الماء.
فقتل أبو بكر من قتل، ونحن معه، فرأيت عنقا من الناس فيهم
الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فأدركتهم، فرميت
بسهمي، فلما رأوه قاموا، فإذا امرأة عليها قشع من أدم،
معها ابنتها من أحسن العرب فجئت أسوقهم. فلما رأوه قاموا،
فإذا امرأة عليها قشع من أدم، معها ابنتها من أحسن العرب
فجئت أسوقهم إلى أبي بكر فنفلني أبو بكر ابنتها فلم أكشف
لها ثوبا حتى قدمت المدينة، ثم باتت عندي فلم أكشف لها
ثوبا، حتى لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق
فقال: $"يا سلمة، هب لي المرأة"، قلت: يا نبي الله والله
لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا.
فسكت حتى كان من الغد، فقال: "يا سلمة، هب لي المرأة لله
أبوك". قلت: هي لك يا رسول الله. قال: فَبُعِثَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل مكة،
ففدى بها أسرى من المسلمين أخرجه مسلم1.
وقيل: كان ذلك في شعبان.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1755"، وأبو داود "2967"، وأحمد "4/
46" من طريق عكرمة بن عمار، به.
قوله: "عرس بنا" التعريس نزول آخر الليل.
قوله: "شن الغارة": أي فرقها. قوله: "عنقا من الناس": أي
جماعة.
قوله: "فيهم الذراري" يعني النساء والصبيان.
قوله: "قشع": بفتح القاف أو كسرها هو النطع من الجلد.
"لله أبوك": كلمة مدح تعتاد العرب الثناء بها. مثل قولهم:
"لله درك" فإن الاضافة إلى العظيم تشريف.
فإذا وجد من الولد ما يحمد يقال: لله أبوك، حيث أتى بمثلك.
(2/65)
سرية عمر -رضي الله
عنه- إلى عجز هوازن:
قال الواقدي: حدثنا أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي بكر عمر
بن عبد الرحمن، قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر إلى تربة عجز هوازن، في
ثلاثين راكبا، فخرج ومعه دليل.
فكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار. فأتى الخبر هوازن،
فهربوا. وجاء عمر محالهم، فلم يلق منهم أحدا، فانصرف إلى
المدينة، حتى سلك النجدية. فلما كانوا بالجدد، قال الدليل
لعمر: هل لك في جمع آخر تركته من خثعم جاؤوا سائرين، قد
أجدبت بلادهم؟ فقال عمر: ما أَمَرَنِي رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهم. ورجع إلى المدينة.
وذلك في شعبان.
(2/66)
سرية بشير بن سعد:
قال الواقدي: حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضل، عن أبيه،
قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بشير بن سعد في ثلاثين رجالا إلى بني مرة بفدك.
فخرج فلقي رعاء الشاء، فاستاق الشاء والنعم منحدرا إلى
المدينة. فأدركه الطلب عند الليل، فباتوا يرامونهم بالنبل
حتى فني نبل أصحاب بشير، فأصابوا أصحابه وولى منهم من ولى،
وقاتل بشير قتالا شديدا حتى ضربت كعباه، وقيل: قد مات،
ورجعوا بنعمهم وشائهم، وتحامل بشير حتى انتهى إلى فدك،
فأقام عند يهودى حتى ارتفع من الجراح، ثم رجع إلى المدينة.
(2/66)
سرية غالب بن عبد
الله الليثي:
قال الواقدي: حدثني أفلح بن سعيد، عن بشير بن محمد ابن
الذي أري الأذان عبد الله بن زيد، قال: كان مع غالب بن عبد
الله: أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري، وكعب بن عجرة،
وعلبة بن زيد. فلما دنا غالب منهم بعث الطلائع ثم رجعوا
فأخبروه فأقبل يسير حتى إذا كان بمنظر العين منهم ليلا وقد
احتلبوا وهدأوا، قام فحمد الله وأثنى عليه وأمر بالطاعة،
قال: وإذا كبرت فكبروا، وجردوا السيوف. فذكر الحديث في
إحاطتهم بهم. قال: ووضعنا السيوف حيث شئنا منهم، ونحن نصيح
بشعارنا: أمت أمت. وخرج أسامة فحمل على رجل فقال: لا إله
إلا الله. وذكر الحديث.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ
إِسْحَاقَ: حدثني شيخ من أسلم، عن رجال من قومه، قَالُوا:
بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غالب بن عبد الله الكلبي، كلب ليث، إلى أرض بني مرة، فأصاب
بها مرداس بن نهيك، حليف لهم من الحرقة فقتله أسامة.
فحدثني محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة، عَنْ أَبِيْهِ،
عَنْ جَدِّهِ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، قال: أدركته، يعني
مرداسا، أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا
شَهَرْنَا عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، فَلَمْ نَنْزِعْ عَنْهُ حَتَّى
قَتَلْنَاهُ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَاهُ
خَبَرَهُ، فَقَالَ: "يَا أُسَامَةُ مَنْ لَكَ بلا إله إلا
الله"؟ فقلت: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا
تَعَوُّذاً مِنَ القتل. قال: "فمن لك بلا إله إلا الله".
فالذي بعثه بالحق، ما زال يرددها علي حَتَّى لَوَدِدْتُ
أَنَّ مَا مَضَى مِنْ إِسْلاَمِي لَمْ يَكُنْ. وَأَنِّي
أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ أَقْتُلْهُ.
وقال هشيم: أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو
ظبيان، قال: سمعت أسامة بن زيد يحدث، قال: أتينا الحرقة من
جهينة، قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من
الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله.
قال: فكف عنه الأنصاري، وطعنته أنا برمحي حتى قتلته، فلما
قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: "أقتلته
بعدما قال: لا إله إلا الله، ثلاث مرات". قلت: يا رسول
الله، إنما كان متعوذا، قال: فما زال يكررها حتى تمنيت أني
لم أن أسلمت قبل يومئذ. متفق عليه.
وقال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة، عن
مسلم بن عبد الله الجهني، عن جندب بن مكيث الجهني، قَالَ:
بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غالب بن عبد الله إلى بني الملوح بالكديد، وأمره أن يغير
عليهم، وكنت في سريته، فمضينا حتى إذا كنا بقديد، لقينا به
الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي، فأخذناه، فقال: إني
إنما جئت لأسلم. فقال له غالب:
(2/67)
إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضرك رباط يوم
وليلة، وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك. قال: فأوثقه
رباطا وخلف عليه رويجلا أسود، قال: امكث عليه حتى نمر
عليك، فإن نازعك فاحتز رأسه، وأتينا بطن الكديد فنزلناه
بعد العصر. فبعثني أصحابي إليه، فعمدت إلى تل يطلعني على
الحاضر، فانبطحت عليه، وذلك قبل الغروب. فخرج رجل فنظر
فرآني منبطحا على التل فقال لامرأته: إني لأرى سوادا على
هذا التل ما رأيته في أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب
اجترت بعض أوعيتك. فنظرت فقالت: والله ما أفقد شيئا. قال:
فناوليني قوسي وسهمين من نبلي. فناولته فرماني بسهم فوضعه
في جبيني، أو قال: في جنبي، فنزعته فوضعته ولم أتحرك، ثم
رماني بالآخر، فوضعه في رأس منكبي، فنزعته فوضعته ولم
أتحرك. فقال لامرأته: أما والله لقد خالطه سهماي، ولو كان
زائلا لتحرك، فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما، لا تمضغهما
علي الكلاب.
قال: ومهلنا حتى راحت روائحهم، وحتى إذا احتلبوا وعطنوا
وذهب عتمة من الليل شننا عليهم الغارة فقتلنا من قتلنا
واستقنا النعم فوجهنا قافلين به، وخرج صريخ القوم إلى
قومهم، قال: وخرجنا سراعا حتى نمر بالحارث بن مالك بن
البرصاء وصاحبه، فانطلقنا به معنا. وأتانا صريخ الناس
فجاءنا ما لا قبل لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا
بطن الوادي من قديد، بعث الله من حيث شاء ماء ما رأينا قبل
ذلك مطرا ولا خالا، فجاء بما لا يقدر أحد يقدم عليه، لقد
رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا ما يقدر أحد منهم أن يقدم عليه،
ونحن نحدوها فذهبنا سراعا حتى أسندناها في المشلل، ثم
حدرنا عنه وأعجزناهم.
(2/68)
سرية حنان:
قال الواقدي في مغازيه: حدثني يحيى بن عبد العزيز بن سعيد
بن سعد بن عبادة، عن بشير بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ
بنِ زَيْدٍ، قال: قدم رجل من أشجع يقال له: حسيل بن نويرة،
وكان دليل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى خَيْبَرَ، فقال له: "من أين يا حسيل" قال: من يمن
وحنان، قال: "وما وراءك"؟ قال: تركت جمعا من يمن وغطفان
وحنان وقد بعث إليهم عيينة: إما أن تسيروا إلينا وإما أن
نسير إليكم، فأرسلوا إليه أن سر إلينا، وهم يريدونك أو بعض
أطرافك. فَدَعَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أبا بكر وعمر فذكر لهما ذلك فقالا جميعا: ابعث
بشير بن سعد، فعقد له لواء وبعث معه ثلاث مائه رجل، وأمرهم
أن يسيروا الليل ويكمنوا النهار، ففعلوا، حتى أتوا أسفل
خيبر، فأغاروا وقتلوا فأغاروا وقتلوا عينا لعيينة. ثم لقوا
جمع عيينة فناوشوهم، ثم انكشف جمع عيينة وأسر منهم رجلان،
وقدموا بهما على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما.
(2/68)
سرية أبي حدرد إلى
الغابة:
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: كان من حديث أبي حدرد
الأسلمي ما حدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم، عن أبي حدرد،
قال: تزوجت امرأة من قومي، فأصدقتها مائتي درهم.
فَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أستعينه على نكاحي، فقال: "كم أصدقت"؟ قلت:
مائتي درهم. فقال: "سبحان الله، والله لو كنتم تأخذونها من
واد ما زاد، لا والله ما عندي ما أعينك به". فلبث أياما،
ثم أقبل رجل من جشم بن معاوية يقال له: رفاعة بن قيس أو
قيس بن رفاعة، في بطن عظيم من جشم، حتى نزل بقومه ومن معه
بالغابة، يريد أن يجمع قيسا على حرب رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ ذا شرف، فدعاني النبي
صلى الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين، فقال: "اخرجوا
إليه، حتى تأتوا منه بخبر وعلم". وقدم لنا شارفا عجفاء،
فحمل عليها أحدنا، فوالله ما قامت به ضعفا، حتى دعمها
الرجال من خلفها بأيديهم، حتى استقلت وما كادت، وقال:
تبلغوا على هذه. فخرجنا، حتى إذا جئنا قريبا من الحاضر مع
غروب الشمس، فمكنت في ناحية، وأمرت صاحبي فكمنا في ناحية،
وقلت: إذا سمعتماني قد كبرت وشددت في العسكر، فكبروا وشدوا
معي، فوالله إنا لكذلك نتنظر أن نرى غرة وقد ذهبت فحمة
العشاء، وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد فأبطأ عليهم،
فقام زعيمهم رفاعة فأخذ سيفه وقال: لأتبعن أثر راعينا.
فقالوا: نحن نكفيك. قال: لا والله لا يتبعني أحد منكم.
وخرج حتى يمر بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده،
فوالله ما نطق، فوثبت إليه، فاحتززت رأسه، ثم شددت في
ناحية العسكر وكبرت وكبر صاحباي، فوالله ما كان إلا النجاء
ممن كان فيه: عندك! بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم
وما خف معهم، واستقنا إبلا عظيمة وغنما كثيرة، فجئنا بِهَا
إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وجئت برأسه أحمله معي، فأعطاني من تلك الإبل ثلاثة عشر
بعيرًا في صداقي، فجمعت إلي أهلي.
(2/69)
سرية محلم بن جثامة:
قال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق: حدثني يَزِيْدَ بنِ
عَبْدِ اللهِ بنِ قُسَيْطٍ، عَنِ ابن عبد الله بن أبي
حدرد، عن أبيه، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى إضم في نفر من المسلمين منهم أبو قتادة، ومحلم بن
جثامة بن قيس. حتى إذا كنا ببطن إضم، مر بنا عامر بن
الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له، ووطب من لبن،
فسلم علينا بتحية الإسلام. فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم
فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتاعه، فلما
قَدِمْنَا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أخبرناه الخبر. فنزل فينا القرآن: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
(2/69)
فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ
أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء:
94] ، إلى آخر الآية. ورواه حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق.
وقال حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن
الزبير، سمعت زياد بن ضميرة بن سعد الضمري يحدث عن أبيه
وجده، وقد شهدا حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فصلى الظهر وجلس في ظل شجرة، فقام إليه عيينة بن بدر يطلب
بدم عامر بن الأضبط، سيد قيس، وجاء الأقرع بن حابس يرد عن
محلم بن جثامة، وهو سيد خندف، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لقوم عامر: "هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين
بعيرا، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة"؟
فقال عيينة بن بدر: والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحر
مثل ما أذاق نسائي. فقام رجل من بني ليث يقال له: ابن
مكيتيل، وهو قصد من الرجال، فقال: يا رسول الله، ما أجد
لهذا القتيل مثلا في غرة الإسلام إلا كغنم وردت فرميت
أولاها ففرت أخراها، اسنن اليوم وغير غدا. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "هل لكم أن تأخذوا خمسين بعيرا الآن
وخمسين إذا رجعنا" فلم يزل بهم حتى رضوا بالدية. قال قوم
محلم: ائتوا به حتى يستغفر لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فجاء رجل طوال ضرب
اللحم في حلة قد تهيأ فيها للقتل، فقام بَيْنَ يَدَيْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ
رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تغفر
لمحلم". قالها ثلاثا. فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه.
قال ابن إسحاق: وزعم قوم أنه استغفر له بعد.
وقال أبو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا
حماد، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن
جعفر، سمعت زياد بن ضميرة. "ح" قال: وحدثنا أحمد بن سعيد
الهمداني، ووهب بن بيان، قالا: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ
الرحمن بن الحارث، عن محمد بن جعفر، أنه سمع زياد بن سعد
بن ضميرة السلمي. وهذا حديث وهب وهو أتم، يحدث عروة بن
الزبير، عن أبيه، قال موسى: وجده، وكانا شهدا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم حنينا، يعني أباه وجده. ثم رجعنا إلى
حديث وهب: أن محلم بن جثامة قتل رجلا من أشجع في الإسلام.
وذلك أول غير قَضَى بِهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فتكلم عيينة في قتل الأشجعي؛ لأنه من
غطفان، وتكلم الأقرع بن حابس، فذكر القصة إلى أن قال:
ومحلم رجل طويل آدم، وهو طرف الناس، فلم يزالوا حتى تخلص
فجلس بَيْنَ يَدَيْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم، وعيناه تدمعان. فقال: يا رسول الله، إني قد
فعلت الذي بلغك، وإني أتوب إلى الله، فاستغفر لي يا رسول
الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقتلته بسلاحك
في غرة الإسلام؟ اللهم لا تغفر لمحلم". بصوت عال.
زاد أبو سلمة: فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ردائه. والله
-تعالى- أعلم.
(2/70)
سرية عبد الله بن
حذافة بن قيس بن عدي السهمي:
قال ابن جريج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْْ} [النساء: 59] ، نزلت في عبد الله بن حذافة
السهمي، بَعَثَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في سرية. أخبرنيه يعلى بن مسلم، عَنْ سَعِيْدِ
بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أخرجاه في الصحيح.
وقال الأعمش، عن سَعْدُ بنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ السلمي، عن علي بن أبي طالب: استعمل النبي صلى
الله عليه وسلم رجلا من الأنصار على سرية، وأمرهم أن
يطيعوه، فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا. فجمعوا،
وأمرهم فأوقدوه، ثم قال: ألم يأمركم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تسمعوا لي وتطيعوا؟
قالوا: بلى. قال: فادخلوها. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا:
إنما فررنا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من النار. فسكن غضبه، وطفئت النار. فَلَمَّا
قَدِمُوا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذكروا له ذلك. فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها،
إنما الطاعة في المعروف". أخرجاه.
وفيها كانت غزوة ذات الرقاع، وقد تقدمت سنة أربع، وأوردنا
الخلاف فيها، فلعلهما غزوتان. والله أعلم.
(2/71)
عمرة القضية:
روى نافع بن أبي نعيم، عن نافع مولى ابن عمر، قال: كانت
عمرة القضية في ذي
القعدة سنة سبع.
وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من
خيبر، بعث سرايا وأقام بالمدينة حتى استهل ذو القعدة. ثم
نادى في الناس أن تجهزوا إلى العمرة، فتجهزوا، وخرجوا معه
إلى مكة.
وقال ابن شهاب: ثم خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذي القعدة حتى بلغ يأجج وضع الأداة
كلها: الحجف والمجان والرماح والنبل، ودخلوا بسلاح الراكب:
السيوف. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا بين يديه
إلى ميمونة بنت الحارث بن حزن العامرية فخطبها عليه، فجعلت
أمرها إلى العباس؛ وكانت أختها تحته، وهي أم الفضل فزوجها
العَبَّاسُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا قدم أمر أصحابه، فقال: اكشفوا عن المناكب واسعوا
في الطواف، ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم بكل
ما استطاع. فاستلف أهل مكة -الرجال والنساء والصبيان-
ينظرون إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وأصحابه وهم يطوفون بالبيت، وعبد الله بن رواحة
يرتجز بَيْنَ يَدَيْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم متوشحا بالسيف يقول:
(2/71)
خلوا بني الكفار عن سبيله ... أنا الشهيد
أنه رسوله
قد أنزل الرحمن في تنزيله ... في صحف تتلى على رسوله
فاليوم نضربكم على تأويله ... كما ضربناكم عَلَى
تَنْزِيْلِهِ
ضَرْباً يُزِيْلُ الهَامَ عَنْ مَقِيْلِهِ ... ويذهل
الخليل عن خليله
وتغيب رجال من أشرافهم أن ينظروا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيظا وحنقا، ونفاسة
وحسدا، خرجوا إلى الخندمة. فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، وأقام ثلاث ليال، وكان
ذلك آخر الشرط، فلما أصبح من اليوم الرابع أتاه سهيل بن
عمرو وغيره، فصاح حويطب بن عبد العزى: نناشدك الله والعقد
لما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث. فقال سعد بن عبادة:
كذبت لا أم لك ليس بأرضك ولا بأرض آبائك، والله لا نخرج.
ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلا وحويطبا،
فقال: "إني قد نكحت فيكم امرأة فما يضركم أن أمكث حتى أدخل
بها، ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا". قالوا: نناشدك
الله والعقد إلا خرجت عنا. فامر رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رافع فأذن بالرحيل. وركب
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
نزل بطن سرف وأقام المسلمون، وخلف رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رافع ليحمل ميمونة إليه
حين يمسي. فأقام بسرف حتى قدمت عليه، وقد لقيت عناء وأذى
من سفهاء قريش، فبنى بها. ثم أدلج فسار حتى قدم المدينة.
وقدر الله -تعالى- أن يكون موت ميمونة بسرف بعد حين.
وقال فليح، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرُ إِنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خرج معتمرا،
فحال كفار قريش بينه وبين البيت. فنحر هديه وحلق رأسه
بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل
سلاحا إلا سيوفا، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر من
العام فدخلها كما صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثا أمروه أن
يخرج، فخرج. أخرجه البخاري.
وقال الوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ نَافِعٍ،
عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ ابن عمر، قال: لم تكن هذه العمرة قضاء
ولكن شرطا على المسلمين أن يعتمروا قابل في الشهر الذي
صدهم المشركون.
وقال مُحَمَّدُ بنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ
عمرو بن ميمون، سمعت أبا حاضر الحضرمي يحدث أبي: ميمون بن
مهران، قال: خرجت معتمرا سنة حوصر ابن الزبير، وبعث معي
رجال من قومي بهدي، فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن
ندخل الحرم، فنحرت الهدي مكاني، ثم أحللت ثم رجعت. فلما
كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس
فسألته، فقال: أبدل الهدي فَإِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أصحابه أن
(2/72)
يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في
عمرة القضاء. زاد فيه يونس عن ابن إسحاق، قال: فعزت الإبل
عليهم، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقر.
وقال الواقدي: حدثني غانم بن أبي غانم، عَنْ عَبْدِ اللهِ
بنِ دِيْنَارٍ، عَنِ ابْنِ عمر، قال: قد ساق النبي صلى
الله عليه وسلم، في القضية ستين بدنة. قال: ونزل رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظهران،
وقدم السلاح إلى بطن يأجج، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم.
وتخوفت قريش، فذهب في رؤوس الجبال وخلوا مكة.
وقال معمر، عن الزهري، عن أنس، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ في
عمرة القضاء، مشى ابن رواحة بين يديه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... قد نزل الرحمن في تنزيله
بأن خير القتل في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما قتلناكم على تنزيله ... يا رب إني مؤمن بقيله
وقال أيوب، عن سعيد بن جبير، حدثه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب. فقال المشركون: إنه يقدم عليكم
قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شرا. فأطلع الله نبيه على
ما قالوه، فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا
بين الركنين. فلما رأوهم رملوا، قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم
أن الحمى وهنتهم؟ هؤلاء أجلد منا.
قال ابن عباس: ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا
للإبقاء عليهم. أخرجاه.
وقال يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ: أَخْبَرَنَا الجُرَيْرِيُّ،
عَنْ أَبِي الطفيل، قال: قلت لابن عباس: إن قومك يزعمون
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قد رمل وأنها سنة. قال: صدقوا وكذبوا؛ أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم مكة
والمشركون على قعيقعان، وكان أهل مكة قوما حسدا، فجعلوا
يتحدثون بينهم أن أصحاب محمد ضعفاء، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أروهم ما يكرهون منكم". فرمل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليريهم قوته وقوة أصحابه، وليست بسنة.
أخرجه مسلم.
وقد بقي الرمل سنة في طواف القدوم؛ وإن كان قد زالت علته
فإن جابرا قد حكى في حجة النبي صلى الله عليه وسلم رمله،
ورملوا في عمرة الجعرانة.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن ابن أبي أوفى سمعه يقول:
اعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا نستره -حين
طاف- من صبيان مكة لا يؤذونه. وأرانا ابن أبي أوفى ضربة
أصابته مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ خيبر. البخاري.
(2/73)
تزويجه -عليه
السلام- بميمونة:
قال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي أبان بن صالح، وعبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد
وعطاء، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج ميمونة، وكان الذي زوجه
العباس. فَأَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بمكة ثلاثا. فأتاه حويطب بن عبد العزى، في نفر
من قريش، فقالوا: قد انقضى أجلك فاخرج عنا. قال: "لو
تركتموني فعرست بين أظهركم، وصنعنا طعاما فحضرتموه". قالوا
لا حاجة لنا به. فخرج، وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة،
حتى أتاه بها بسرف، فبنى عليها.
وقال وهيب: حدثنا أَيُّوْبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُوْنَةَ وهو محرم، وبنى بها وهو
حلال، وماتت بسرف. رواه البخاري1.
وقال عبد الرزاق: قال لي الثوري: لا تلتفت إلى قول أهل
المدينة. أخبرني عمرو، عن أبي الشعثاء، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تزوج وهو محرم. وقد رواه الثوري أيضا عن ابن
خثيم، عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وهما في الصحيح.
وقال الأوزاعي: حدثنا عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ
مَيْمُوْنَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ سعيد بن المسيب: وهل
وإن كانت خالته. وما تزوجها رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ بعد ما أحل.
أخرجه البخاري، عن أبي المغيرة، عنه.
وقال حماد بن سلمة، عن حبيب الشهيد، عن ميمون بن مهران،
عَنْ يَزِيْدَ بنِ الأَصَمِّ، عَنْ مَيْمُوْنَةَ، قَالَتْ:
تَزَوَّجَنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
ونحن حلالان بسرف. رواه أبو داود. وقد أخرجه مسلم من وجه
آخر عن يزيد بن الأصم.
وقال سليمان بن حرب: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا مطر
الوراق، عَنْ رَبِيْعَةَ بنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ:
تَزَوَّجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال. وكنت الرسول بينهما.
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: اعتمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة. فذكر الحديث بطوله.
وفيه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من مكة،
فتبعتهم ابنة
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "1/ 245"، والبخاري "4258" و"4259"،
وأبو داود "1844" والترمذي "842" و"843"، والنسائي "5/
191"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 269" من طرق عن
عكرمة، به.
(2/74)
حمزة، فنادت: يا عم يا عم. فتناولها علي
-رضي الله عنه- وقال لفاطمة: دونك، فحملتها. قال: فاختصم
فيها علي وزيد بن حارثة وجعفر، فقال علي: أنا أخذتها وهي
ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمى، وخالتها تحتي، وقال زيد:
ابنة أخي، فَقَضَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بها لخالتها، وقال: "الخالة بمنزلة الأم"، وقال
لعلي: "أنت مني وأنا منك"، وقال لجعفر: "أشبهت خلقي
وخلقي"، وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا"، أخرجه البخاري1
عن عبيد الله، عنه.
وقال الواقدي: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيْبَةَ، عَنْ
دَاوُدَ بنِ الحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّ عمارة بنت حمزة، وأمها سلمى بنت عميس
كانتا بمكة. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم، كلم عَلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:
علام نترك بنت عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين؟ فلم ينه
النبي صلى الله عليه وسلم عن إخراجها، فخرج بها، فتكلم زيد
بن حارثة، وكان وصي حمزة، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ آخى بينهما. وذكر الحديث؛
وفيه: فقضى بها لجعفر وقال: "تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة
على خالتها ولا عمتها".
وعن ابن شهاب، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا رجع من عمرته في ذي الحجة سنة سبع بعث
ابن أبي العوجاء في خمسين إلى بني سليم، كما سيأتي.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "1844" و"2699" و"4251"، والدارمي
"2/ 237-238" وأحمد "4/ 298" من طريق إسرائيل، به.
(2/75)
ثم دخلت سنة ثمان من
الهجرة:
قال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله، عن عمه ابن شهاب،
قال: سار ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين رجلا إلى بني
سليم، وكان عين لبني سليم معه، فلما فصل من المدينة، خرج
العين إلى قومه فحذرهم. فجمعوا كثيرا. وجاءهم ابن أبي
العوجاء وهم معدون. فلما رآهم أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ورأوا جمعهم، دعوهم إلى الإسلام، فرشقوهم
بالنبل، ولم يسمعوا قولهم، فرمهم ساعة، وجعلت الأمداد
تأتي، وأحدقوا بهم، فقاتلوا حتى قتل عامتهم، وأصيب ابن أبي
العوجاء جريحا في القتلى، ثم تحامل حتى بَلَغَ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدم المدينة في
أول صفر.
(2/76)
إسلام عمرو بن العاص
وخالد بن الوليد:
وفيها: أسلم عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد.
قال الواقدي: أخبرنا عبد الحميد، بن جعفر، عن أبيه، قال:
قال عمرو بن العاص كنت للإسلام مجانبا معاندا، حضرت بدرا
مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحدا والخندق فنجوت، فقلت في
نفسي: كم أوضع، والله ليظهرن محمد على قريش. فلحقت بمالي
بالوهط. فلما كان صلح الحديبية، جعلت أقول: يدخل محمد
قابلا مكة بأصحابه، ما مكة بمنزل ولا الطائف، وما شيء خير
من الخروج. فقدمت مكة فجمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي
ويسمعون مني، فقلت: تعلمون -والله- إني لأرى أمر محمد يعلو
علوا منكرا، وإني قد رأيت رأيا. قالوا: وما هو؟ قلت: نلحق
بالنجاشي فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النَّجَاشِيِّ،
أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُوْنَ تَحْتَ يد محمد. وإن
تظهر قريش فنحن من قد عرفوا.
قالوا: هذا الرأى. قلت: فاجمعوا ما تهدونه له، وكان أحب
مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الأَدَمُ.
فَجَمَعْنَا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى أتيناه، فإنا
لعنده؛ إذ جاء عمرو بن أمية الضمري بكتاب النبي صلى الله
عليه وسلم إلى النجاشي ليزوجه بأم حبيبة بنت أبي سفيان
فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: لو دخلت على
النجاشي، فسألته هذا فأعطانيه لقتلته لأسر بذلك قريشا.
فدخلت عليه فسجدت له فقال: مرحبا بصديقي، أهديت لي من
بلادك شيئا؟ قلت:
نعم أيها الملك أهديت لك أدما، وقربته إليه، فأعجبه، ففرق
منه أشياء بين بطارقته، ثم قلت: إني رأيت رجلا خرج من عندك
وهو رسول عدو لنا قد وترنا وقتل أشرافنا، فأعطنيه فأقتله،
فغضبب ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره، فابتدر
منخراي فجعلت أتلقى الدم
(2/76)
بثيابي، فأصابني من ذلك الذل ما لو انشقت
لي الأرض دخلت فيها فرقا منه. ثم قلت: أيها الملك: لو ظننت
أنك تكره ما قلت ما سألتكه. قال: فاستحيا، وقال: يا عمرو،
تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان
يأتي موسى وعيسى -عليهما السلام- لتقتله؟ قال عمرو: وغير
الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب
والعجم وتخالف أنت؟ قلت: أتشهد أيها الملك بهذا؟ قال: نعم،
أشهد به عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى
الحق، وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون. قلت:
أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعني على
الإسلام، ثم دعا بطست، فغسل عني الدم، وكسانى ثيابا، وكانت
ثيابي قد امتلأت بالدم فألقيتها.
وخرجت على أصحابي فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك،
وقالوا: هل أدركت من صاحبك ما أردت؟ فقلت: كرهت أن أكلمه
في أول مرة، وقلت: أعود إليه- ففارقتهم، وكأني أعمد لحاجة-
فعمدت إلى موضع السفن فأجد سفينة قد شحنت تدفع. فركبت
معهم، ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعبية، وخرجت من الشعيبة
ومعي نفقة، فابتعت بعيرا، فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير،
يريدان منزلا، وأحدهما داخل في خيمة، والآخر قائم يمسك
الراحلتين.
فنظرت فإذا خالد بن الوليد. فقلت: أبا سليمان؟ قال: نعم.
قلت: أين تريد؟ قال: محمدًا، دخل الناس في الإسلام فلم يبق
أحد به طعم، والله لو أقمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة
الضبع في مغارتها. قلت: وأنا والله قد أردت محمدا وأردت
الإسلام. فخرج عثمان بن طلحة، فرحب بي، فنزلنا جميعا ثم
ترافقنا إلى المدينة، فما أنسى قول رجل لقينا بدير أبي
عنبة يصيح: يا رباح، يا رباح. فتفاءلنا بقوله، وسرنا ثم
نظر إلينا، فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين.
فظننت أنه يعنيني خالد بن الوليد. وولى مدبرا إلى المسجد
سريعا فظننت أنه بشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدومنا،
فكان كما ظننت. وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا،
ونودي بالعصر، فانطلقنا حتى اطلعنا عليه، وإن لوجهه تهللا،
والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا. وتقدم خالد فبايع، ثم
تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن
جلست بين يديه، فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياء منه،
فَبَايَعْتُهُ عَلَى أَنْ يُغْفَرَ لِي مَا تَقدَّمَ من
ذنبي، ولم يحضرني ما تأخر. فقال: "إن الإسلام يجب ما كان
قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها". فوالله مَا عَدَلَ بِي
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبخالد
أحدا في أمر حزبه منذ أسملنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك
المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحال، وكان عمر على خالد
كالعاتب.
(2/77)
قال عبد الحميد بن جعفر: فذكرت هذا الحديث
ليزيد بن أبي حبيب، فقال: أخبرني راشد مولى حبيب بن أوس
الثقفي، عن حبيب، عن عمرو؛ نحو ذلك. فقلت ليزيد: ألم يوقت
لك متى قدم عمرو خالد؟ قال: لا، إلا أنه قال: قبل الفتح.
قلت: فإن أبي أخبرني أن عمرا وخالدا وعثمان قدموا المدينة
لهلال صفر سنة ثمان.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي يَزِيْدُ بنُ أَبِي حَبِيْبٍ، عَنْ رَاشِدٍ
مَوْلَى حبيب، عن حبيب بن أبي أَوْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
عَمْرُو بنُ العَاصِ، قَالَ: لَمَّا انْصَرَفْنَا مِنَ
الخَنْدَقِ، جَمَعْتُ رِجَالاً مِنْ قريش، فقلت: والله إني
لأرى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو عُلُوّاً مُنْكَراً،
وَاللهِ مَا يقوم له شيء، وقد رأيت رأيا ما أدري كيف رأيكم
فيه؟ قالوا: وما هو؟ قلت: أن نحلق بالنجاشي. فذكر الحديث،
لكن فيه: فضرب بيده أنف نفسه حتى ظننت أنه قد كسره.
والباقي بمعناه مختصرا.
وقال الواقدي: حدثني يحيى بن المُغِيْرَةِ بنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بنِ هشام، قال: سمعت أبي يحدث
عن خالد بن الوليد، قال: لما أراد الله بي ما أراد من
الخير قذف في قلبي الإسلام، وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت
هذه المواطن كلها على محمد فليس موطن أشهده إلا أنصرف وأنا
أرى في نفسي أني موضع في غير شي، وأن محمدًا يسظهر. فلما
خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلى الحديبية، خرجت في خيل المشركين، فَلَقِيْتُ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أصحابه
بعسفان، فأقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر
أمامنا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا، وكانت فيه
خيرة، فأطلع على ما أنفسنا من الهموم، فصلى بأصحابه صلاة
العصر صلاة الخوف. فوقع ذلك منا موقعا، وقلت: الرجل ممنوع.
فافترقا، وعدل عن سنن خيلنا، وأخذت ذات اليمين.
فلما صالح قريشا قلت: أي شيء بقي؟ أين المذهب؟ إلى
النجاشي؟ فقد اتبع محمدا، وأصحابه عنده آمنون. فأخرج إلى
هرقل؟ فأخرج من ديني إلى النصرانية أو اليهودية فأقيم مع
عجم تابعا مع عيب ذلك؟ أو أقيم في داري فيمن بقي؟ فأنا على
ذلك، إذ دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في عمرة القضية، فتغيبت.
وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عمرة القضية، فطلبني فلم
يجدني، فكتب إلى كتابا فإذا فيه: أما بعد؛ فإني لم أر أعجب
من ذهاب رأيك عن الإسلام.
وعقلك عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد؟ قد سألني رسول الله
صلى الله عليه وسلم عنك فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله
به. فقال: ما مثله جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجده
مع
(2/78)
المسلمين على المشركين كان خيرا له
ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك. فلما جاءني
كتابه، نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وأرى في
النوم كأني في بلاد ضيقة جدبة، فخرجت إلى بلاد خضراء
واسعة، قلت: إن هذه لرؤيا.
فلما قدمنا المدينة، قلت: لأذكرنها لأبي بكر، فذكرتها،
فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق هو الشرك.
قال: فلما أجمعت الخروج إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: من أصحاب إلى محمد؟
فلقيت صفوان بن أمية، فقلت: يا أبا وهب، أما ترى ما نحن
فيه، إنما كنا كأضراس، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو
قدمنا على محمد فاتبعناه فإن شرفه لنا شرف. فأبى أشد
الإباء، وقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدًا. فافترقنا
وقلت: هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر. فلقيت عكرمة بن أبي
جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان.
قلت: فاكتم ذكر ما قلت لك. وخرجت إلى منزلي، فأمرت براحلتي
أن تخرج إلى أن ألقى عثمان بن طلحة. فقلت: إن هذا لي صديق،
فذكرت له، فقال: نعم، إني عمدت اليوم، وأنا أزيد أن أغدو،
وهذه راحلتي بفخ مناخة. قال: فاتعدت أنا وهو بيأجج،
وأدلجنا سحرا، فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا
حتى انتهينا إلى الهدة، فنجد عمرو بن العاص بها، فقال:
مرحبا بالقوم. فقلنا: وبك. فذكر الحديث. وقال: كان قدومنا
في صفر سنة ثمان، فوالله مَا كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحدا من
أصحابه فيما حزبه.
(2/79)
سرية شجاع بن وهب
الأسدي:
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عَنْ إِسْحَاقَ بنِ
عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ عمر بن الحكم،
قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلًا، إلى جمع من
هوازن، وأمره أن يغير عليهم. فخرج يسير الليل ويكمن
النهار، حتى صبحهم غارين، فأصابوا نعمًا وشاء، فاستاقوا
ذلك إلى المدينة. فكانت سهمانهم خمسة عشر بعيرًا لكل رجل
منهم، وعدلوا البعير من الغنم. وغابت السرية خمس عشرة
ليلة.
قال ابن أبي سبرة: فحدثت بن مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ
بنِ عَمْرِو بنِ عثمان، فقال: كذبوا، قد أصابوا في ذلك
الحاضر نسوة فاستاقوهن، فكانت فيهن جارية وضيئة، فقدموا
بها المدينة، ثم قدم وفدهم مسلمين، فكلموا رسول الله صلى
الله عليه وسلم في السبي. فكلم النبي صلى الله عليه وسلم
شجاعا وأصحابه في ردهن، فردوهن. قال ابن أبي سبرة: فأخبرت
شيخا من الأنصار بذلك، فقال: أما الجارية الوضيئة فأخذها
شجاع بثمن فأصابها، فلما قدم الوفد، خيرها فاختارت شجاعا،
فقتل يوم اليمامة وهي عنده.
(2/79)
سرية نجد:
قال نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرُ، إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بعث سرية قبل نجد وأنا فيهم.
فغنموا إبلا كثيرة، فبلغت سهمانهم لكل واحد اثني عشر
بعيرا، ثم نفلوا بعيرا بعيرا، فلم يغير رسول الله صلى الله
عليه وسلم1. متفق عليه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4338"، وأحمد "2/ 10" من طريق
أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، به.
(2/80)
سرية كعب بن عمير:
قال الوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ،
عَنِ الزهري، قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كعب بن عمير الغفاري، في خمسة عشر رجلا
حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من الشام، فوجدوا جمعا من جمعهم
كثيرا، فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم
بالنبل، فلما رأى ذلك المسلمون قاتلوهم أشد القتال، حتى
قتلوا، فأفلت منهم رجل جريح في القتلى، فلما برد عليه
الليل، تحامل حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم بالبعثة إليهم، فبلغه أنهم ساروا
إلى موضع آخر، فتركهم. والله أعلم.
(2/80)
غزوة مؤتة:
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ
عمر، قال: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم، قَالَ:
بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتابه، فلما نزل مؤتة
عرض للحارث شرحبيل بن عمرو الغساني، فقال: أين تريد؟ قال:
الشام. قال: لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم، فأمر به فضربت
عنقه. ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره.
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فاشتد عليه،
وندب الناس فأسرعوا. وكان ذلك سبب خروجهم إلى
غزوة مؤتة.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ
عُرْوَةَ، قَالَ: قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم من عمرة القضاء في ذي الحجة، فأقام بالمدينة
حتى بعث إلى مؤتة في جمادى من سنة ثمان، وأمر على الناس
زيد بن حارثة. وقال إن أصيب فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد
الله بن رواحة، فإن أصبت فليرتض المسلمون رجلا. فتهيؤوا
للخروج، وودع الناس أُمَرَاءُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فبكى ابن رواحة، فقالوا: ما
يبكيك؟ فقال: أما والله ما
(2/80)
بي حب للدنيا، ولا صبابة إليها، ولكني سمعت
الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:
71] ، فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟ فقال المسلمون:
صحبكم الله وردكم إلينا صالحين ودفع عنكم. فقال عبد الله
بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربه تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... يا أرشد الله من غاز وقد
رشدا
ثم إنه ودع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:
ثبت اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ ... تَثْبِيْتَ مُوْسَى،
ونصرا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة ... والله يعلم أني ثابت بصر
أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به
القدر
ثم خرج القوم حتى نزلوا معان، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآرب
فِي مَائَةِ أَلْفٍ مِنَ الرُّوْمِ، وَمَائَةِ أَلْفٍ من
المستعربة، فأقاموا بمعان يومين، وقالوا: نبعث إِلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخبره.
فشجع الناس عبد الله بن رواحة، فقال: يا قوم، والله إن
التي تكرهون للتي خرجتم لها تطلبون، الشهادة. وما نقاتل
الناس بعدد ولا كثرة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي
أكرمنا الله به، فإن يظهرنا الله به فربما فعل، وإن تكن
الأخرى فهي الشهادة، وليست بشر المنزلتين. فقال الناس:
والله لقد صدق فانشمر الناس، وهم ثلاثة آلاف، حتى لقوا
جموع الروم بقرية من قرى البلقاء يقال له: مشارف، ثم انحاز
المسلمون إلى مؤتة، قرية فوق أحساء. وكانوا ثلاثة آلاف.
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن المقبري، عن أبي
هريرة، قال: شهدت مؤتة، فلما رآنا المشركون رأينا ما لا
قبل لأحد به من العدة والسلاح والكراع والديباج والذهب.
فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أقرم: مالك يا أبا هريرة، كأنك
ترى جموعا كثيرة؟ قلت: نعم. قال: لم تشهد معنا بدرا، إنا
لم ننصر بالكثرة.
وقال المُغِيْرَةُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ
اللهِ بنُ سَعِيْدِ بنِ أَبِي هِنْدٍ، عن نافع، عن ابن
عمر، قَالَ: أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فإن قتل
زيد فجعفر، وان قتل جعفر فعبد الله بن رواحة. قال ابن عمر:
كنت معهم، ففتشناه -يعني ابن رواحة- فوجدنا فيما أقبل من
جسده بضعا وسبعين، بين طعنة ورمية.
(2/81)
وقال مصعب الزبيري وغيره، عن مغيرة: بضعا
وتسعين. أخرجه البخاري.
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم، عن
أبيه، قال: جاء النعمان بن مهص اليهودي، فوقف مع الناس.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "زيد بن حارثة أمير الناس،
فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن
رواحة، فإن قتل عبد الله فليرتض المسلمون رجلا فليجعلوه
عليهم". فقال النعمان: أبا القاسم، إن كنت نبيا، فسميت من
سميت قليلا أو كثيرا أصيبوا جميعا. إن الأنبياء في بني
إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم، فقالوا: إن
أصيب فلان ففلان، فلو سموا مائة أصيبوا جميعا. ثم جعل
اليهودي يقول لزيد: اعهد، فلا ترجع إن كان محمد نبيا. قال
زيد: أشهد أنه نبي بار صادق.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: كان على ميمنة المسلمين قطبة بن
قتادة العذري، وعلى الميسرة عباية بن مالك الأنصاري.
والتقى الناس، فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير،
عن أبيه، قال: حدثني أبي من الرضاعة، وكان أحد بني مرة بن
عوف، قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب يَوْمَ
مُؤْتَةَ حِيْنَ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شقراء فعقرها
ثم تقدم فقاتل حتى قتل.
قال ابن إسحاق: فهو أول من عقر في الإسلام، وقال جعفر:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة باردة شَرَابُهَا
وَالرُّوْمُ رُوْمٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا ... عَلَيَّ إن
لاقيتها ضرابها
فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن رواحة.
حدثني مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ
عُرْوَةَ، قال: أخذها عبد الله بن رواحة فالتوى بها بَعْضَ
الاَلْتِوَاءِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ بِهَا عَلَى فَرَسِهِ فجعل
يستنزل نفسه ويتردد.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ ابن
رواحة قال عند ذلك:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... طائعة أو سوف تكرهنه
إِنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرَّنَّهْ ... مَا لِي
أراك تكرهين الجنة
يا طالما قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّهْ ... هَلْ أَنْتِ
إِلاَّ نُطْفَةٌ في شنه1
__________
1 الشنة: السقاء الخلق، وهي أشد تبريدًا للماء من الجدد.
(2/82)
ثم نزل فقاتل حتى قتل.
قال ابن إسحاق: وَقَالَ أَيْضاً:
يَا نَفْسُ إِنْ لاَ تُقْتَلِي تموتي ... هذا حمام الموت
قد صليت
وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيْتِ ... إِنْ تَفْعَلِي
فِعْلَهُمَا هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق لحم، فقال: شد بها صلبك،
فنهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة1 في ناحية، فقال: وأنت في
الدنيا؟ فألقاه من يده. ثم قاتل حتى قتل.
فحدثني محمد بن جعفر، عن عروة، قال: ثم أخذ الراية ثابت بن
أقرم، فقال: اصطلحوا يا معشر المسلمين على رجل. قالوا: أنت
لها. فقال: لا، فاصطلحوا على خالد بن الوليد. فحاش بالناس،
فدافع وانحاز وانحيز عنه، ثم انصرف بالناس.
وقال حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس، قال:
نعى النبي صلى الله عليه وسلم جعفرا وزيد بن حارثة، وابن
رواحة، نعاهم قبل أن يجيء خبرهم، وعيناه تذرفان.
أخرجه البخاري، وزاد فيه: فنعاهم، وقال: أخذ الراية زيد
فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة. ثم أخذ
الراية بعدهم سيف من سيوف الله: خالد بن الوليد.
قال: فجعل يحدث الناس وعيناه تذرفان2.
وقال سليمان بن حرب: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بنُ شَيْبَانَ،
عَنْ خَالِدِ بنِ سُمَيْرٍ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا
عَبْدُ اللهِ بنُ رَبَاحٍ الأنصاري، وكانت الأنصار تفقهه،
فغشيه الناس، فغشيته فيمن غشيه من الناس، فقال: حدثنا أبو
قتادة فَارِسَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيش الأمراء، وقال: "عليكم زيد بن
حارثة، فإن أصيب فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن
رواحة"، فوثب جعفر فقال: يا رسول الله، ما كنت أرهب أن
تستعمل زيدا علي. قال: "فامض. فإنك لا تدري أي ذلك خير".
فانطلقوا، فلبثوا ما شاء الله. فصعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم
__________
1 الحطمة: أي زحام الناس وحطم بعضهم بعضا.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4262" حدثنا أحمد بن واقد،
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوْبَ، عَنْ
حميد بن هلال، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن
رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم ... " الحديث.
(2/83)
المنبر، وأمر فنودي: الصلاة جامعة. فاجتمع
النَّاسِ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أخبركم عن جيشكم هذا: إنهم انطلقوا
فلقوا العدو، فقتل زيد شهيدا"، فاستغفر له. ثم قال: "أخذ
اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيدا"، شهد له
بالشهادة واستغفر له. "ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة،
فأثبت قدميه حتى قتل شهيدا"، فاستغفر له، "ثم أخذ اللواء
خالد بن الوليد، ولم يكن من الأمراء وهو أمر نفسه"، ثم
قال: "اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره". فمن يومئذ سمي
خالد "سيف الله".
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أخذ الراية
زيد فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل حتى قتل
شهيدا"، ثم صمت، حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان
في عبد الله بعض ما يكرهون. فقال: "ثم أخذها عبد الله بن
رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا"، ثم قال: "لقد رفعوا إلى
الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب. فرأيت في سرير عبد
الله ازورارًا عن سريري صاحبيه. فقلت: عم هذا؟ فقيل لي:
مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى".
وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن الحارث بن فضيل، عن أبيه،
قال: لما أخذ خالد الراية: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الآن حمي الوطيس".
قال: فحدثني العطاف بن خالد، قال: لما قتل ابن رواحة مساء،
بات خالد، فلما أصبح غدا وقد جعل مقدمته ساقة، وساقته
مقدمة، وميمنته ميسرة، وميسرته ميمنة. فأنكروا ما كانوا
يعرفون من راياتهم وهيئتهم، وقالوا: قد جاءهم مدد، فرعبوا
فانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة ثم يقتلها قوم.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس: سمعت خالد بن الوليد
يقول: لقد اندق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في
يدي إلا صفيحة يمانية. أخرجه البخاري1.
وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح التمار، عن عاصم بن عمر
بن قَتَادَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا قتل زيد أخذ الراية جعفر فجاءه
الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت ومناه الدنيا،
فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين، تمنيني
الدنيا؟ ثم مضى قدما حتى استشهد"، فصلى عليه ودعا له،
وقال: "استغفروا له، فإنه دخل الجنة وهو يطير في الجنة
بجناحين من ياقوت حيث يشاء من الجنة".
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4265"و "4266" من طريق إسماعيل بن
أبي خالد، به.
(2/84)
وقال إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي خَالِدٍ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ إِنْ ابن عمر كان إِذَا سَلَّمَ عَلَى
عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَر، قال: السلام عليك يا ابن ذي
الجناحين. رواه البخاري1.
وقال عبد الوهاب الثقفي: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: أخبرتني
عمرة، قالت: سمعت عائشة تقول: لماء جاء قتل جعفر وابن
حارثة وابن رواحة، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في
المسجد يعرف فيه الحزن, وأنا أطلع من شق الباب، فأتاه رجل
فقال: يا رسول الله، إن نساء جعفر؛ وذكر بكاءهن، فأمره أن
ينهاهن. فذهب الرجل ثم أتى فقال: قد نهيتهن. وذكر أنهن لم
يطعنه، فأمره الثانية أن ينهاهن، فذهب ثم أتى فقال: والله
قد غلبننا. فزعمت أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فاحث في أفواههن التراب". فقلت:
أرغم الله أنفك، ما أنت تفعل، وما تركت رسول الله صلى الله
عليه وسلم من العناء. أخرجاه عن محمد بن المثنى، عنه2.
وقال يونس، عن ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بنُ
أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، عن أم عيسى الجزار، عن أم جعفر،
عن جدتها أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: لَمَّا
أُصِيْبَ جَعْفَرٌ وأصحابه، دَخَلَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد عجنت وغسلت بني
ودهنتهم ونظفتهم. فقال: "ائتيني ببني جعفر". فأتيته بهم،
فشمهم، فدمعت عيناه. فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما
يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه؟ فقال: "نعم. أصيبوا هذا
اليوم". فقمت أصيح، واجتمع الناس. فرجع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى أهله، فقال: "لا تغفلوا آل جعفر أن تصنعوا
لهم طعاما، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم".
قال ابن إسحاق: فسمعت عبد الله بن أبي بكر، يقول: لقد
أدركت الناس بالمدينة إذا مات لهم ميت؛ تكلف جيرانهم يومهم
ذلك طعامهم؛ فلكأني أنظر إليهم قد خبزوا خبزا صغارا،
وصنعوا لحما، فيجعل في جفنة، ثم يأتون به أهل الميت، وهم
يبكون على ميتهم مشتغلين فيأكلونه. ثم إن الناس تركوا ذلك.
فائدة: أخرج مسلم في صحيحه، من حديث عوف بن مالك، قال:
خرجت في غزوة مؤته، فرافقني مَدَدِيٌّ مِنْ أَهْلِ
اليَمَنِ، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ سيفه. فنحر رجل جزورا
فسأله المددي طائفة من جلده، فأعطاه فاتخذه كهيئة الدرقة.
ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر
وعليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل يفري بالمسلمين. وقعدوا
له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه، فخر وعلاه
فقتله وحاز فرسه وسلاحه. فأخذه
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4264" من طريق عمر بن علي، عن
إسماعيل بن أبي خالد، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4263" حدثنا قتيبة، حدثنا عبد
الوهاب الثقفي، به.
(2/85)
منه خالد بن الوليد، فأتيته فقلت: أما
عَلِمْتُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته.
قلت: لتردنه أو لاعرفنكها عِنْد رَسُوْل اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فاجتمعنا، فقصصت عَلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القصة،
فقال لخالد: "ما حملك على ما صنعت"؟ قال: استكثرته. قال:
"رد عليه ذلك". فقلت: دونك يا خالد، ألم أقل لك؟ فقال رسول
الله: "ما ذاك"؟ فأخبرته. قال: فغضب وقال: "يا خالد لا
ترده عليه. هل أنتم تاركوا لي أمرائي، لكم صفوة أمرهم
وعليهم كدره" 1.
وقال الواقدي: حدثني محمد بن مسلم، عن يحيى بن أبي يعلى،
قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دَخَلَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
أمي، فنعى لها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس
أخي، وعيناه تهراقان الدموع، ثم قال: "اللهم إن جعفرا قد
قدم إليك إلى أحسن ثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت
أحدا من عبادك في ذريته". ثم قال: "يا أسماء، ألا أبشرك"؟
قالت: بلي، بأبي أنت وأمي. قال: "إن الله جعل لجعفر جناحين
يطير بهما في الجنة". قالت: فأعلم الناس ذلك. وذكر الحديث.
وقال الواقدي: حدثني سليمان بن بلال، قال: حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيْلٍ، عَنْ جابر بن
عبد الله، قال: أصيب بها ناس من المسلمين، وغنم المسلمون
بعض أمتعة المشركين.
فكان مما غنموا خاتم جاء به رَجُلٌ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قتلت صاحبه
يومئذ، فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه.
وقال عوف بن مالك الأشجعي: لقيناهم في جماعة من قضاعة
وغيرهم من نصارى العرب، فصافوا، فجعل رجل من الروم يشتد
على المسلمين، فجعلت أقول في نفسي: من لهذا؟ وقد رافقني
رجل من أمداد حمير، ليس معه إلا السيف، إذ نحر رجل جزورا
فسأله
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1753" من طريق عبد الله بن وهب،
أخبرني معاوية بن صالح عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ
جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عوف بن مالك، به.
وقوله: "لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره": أي فصفوه لكم، يعني
الرعية، وكدره عليهم يعني على الأمراء. قال أهل اللغة:
الصفو، هنا بفتح الصاد لا غير، وهو الخالص، فإذا ألحقوه
الهاء فقالوا الصفوة -كانت الصاد مضمومة ومفتوحة ومكسورة
ثلاث لغات. ومعنى الحديث: أن الرعية يأخذون صفو الأمور
فتصلهم أعطياتهم بغير نكد. وتبتلى الولاة بمقاساة الأمور
وجمع الأموال من وجوهها، وصرفها في وجوهها، وحفظ الرعية،
والشفقة عليهم والذب عنهم وإنصاف بعضهم من بعض، ثم متى وقع
شيء أو عتب في بعض ذلك، توجه على الأمراء دون الناس.
"مؤتة": بالهمز وترك الهمز. وهي قرية معروفة في طرف الشام
عند الكرك.
(2/86)
المددي طائفة من جلده، فوهبه منه، فجعله في
الشمس وأوتد في أطرافه أوتادًا، فلما جف اتخذ منه مقبضا
وجعله درقة. قال: فلما رأى ذلك المددي فعل الرومي، كمن له
خلف صخرة، فلما مر به خرج عليه فعرقب فرسه، فقعد الفرس على
رجليه وخر عنه العلج، فشد عليه فعلاه بالسيف فقتله.
قال: وحدثني بُكَيْرُ بنُ مِسْمَارٍ، عَنْ عُمَارَةَ بنِ
خُزَيْمَةَ بن ثابت، عن أبيه، قال: حضرت مؤتة فبارزني رجل
منهم، فأصبته وعليه بيضة له فيها ياقوتة، فأخذتها، فلما
انكشفنا فانهزمنا رجعت إلى المدينة، فأتيت بِهَا رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنفلنيها، فبعتها
زمن عثمان بمائة دينار، فاشتريت بها حديقة نخل.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي محمد بن جعفر، عن عروة، قال: لما أقبل أصحاب
مؤتة تلقاهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالمُسْلِمُوْنَ معه. فجعلوا يحثون عليهم
التراب ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل اللهِ؟ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليسوا
بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله".
فحدثني عبد الله بن أبي بكر، عَنْ عَامِرِ بنِ عَبْدِ
اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ، أن أم سلمة قالت لامرأة سلمة بن
هشام بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما يستطيع أن يخرج، كلما
خرج صاح به الناس: يا فرار، فررتم في سبيل الله، وكان في
غزوة مؤتة.
وعن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيما لعبد الله بن رواحة في
حجره، فخرج بي في سفره ذلك، مردفي على حقيبة رحله، فوالله
إنه ليسير إذ سمعته ينشد أبياته هذه:
إذا أدنيتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمى وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وآب المسلمون وغادروني ... بأرض الشام مشهور الثواء
وردك كل ذي نسب قريب ... إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل ... ولا نخل، أسافلها رواء
فلما سمعتهن بكيت، فخفقني بالدرة، وقال: ما عليك يا لكع أن
يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل!
وقال عبد الملك بن هشام: حدثني من أثق به أن جعفرا أخذ
اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه
حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. فأثابه الله -تعالى-
بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. وروى أنهم قتلوه
بالرماح.
(2/87)
ترجمة جعفر بن أبي
طالب:
قلت: وكان جعفر من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين. قَالَ
لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أشبهت خلقي وخلقي" 1.
وقال عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا
احْتَذَى النِّعَالَ وَلاَ رَكِبَ المَطَايَا بَعْدَ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَفْضَلُ مِنْ جَعْفَرِ. وكنا نسميه أبا المساكين.
وقال مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ
جعفر، قال: ما سألت عليا -رضي الله عنه- شيئا بحق جعفر إلا
أعطانيه.
وعن ابن عمر، قال: وجدت في مقدم جسد جعفر يوم مؤتة بضعا
وأربعين ضربة. ولما قدم جعفر من الحبشة عند فتح خيبر، روي
أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقه وقال: "ما أدري أنا
أسر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر"؟.
وقال مهدي بن ميمون، عن مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ
أَبِي يَعْقُوْبَ، عَنِ الحَسَنِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ
اللهِ بن جعفر، قال: لما نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم
جعفرا أتانا فقال: "أخرجوا إلي بني أخي". فأخرجتنا أمنا
أغيلمة ثلاثة كأنهم أفرخ: عبد الله، وعون، ومحمد.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "4/ 298"، والبخاري "1844"و "2699"و
"4251" من حديث البراء، به وأخرجه ابن أبي شيبة "1/ 105"،
وابن سعد "4/ 36"، والحاكم "3/ 120" من حديث علي، به.
(2/88)
ترجمة زيد بن حارثة:
وأما أبو أسامة زيد بن حارثة شراحيل الكلبي حب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأول من آمن به من الموالي؛ فإنه من
كبار السابقين الأولين وكان من الرماة المذكورين. آخَى
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه
وبين حمزة بن عبد المطلب، وعاش خمسا وخمسين سنة، وهو الذي
سمى الله في كتابه في قوله: {تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى
زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} يعني من زينب بنت جحش:
{زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] ، وكان المسلمون يدعونه
زيد ابن النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: {مَا كَانَ
مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] ،
وقال -تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ
أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] ، وقال: {ادْعُوهُمْ
لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ
تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}
[الأحزاب: 5] .
روى عن زيد ابنه أسامة وأخوه جبلة.
واختلف في سنه، فروى الواقدي أن محمد بن الحسن بن أسامة بن
زيد حدثه، عن أبيه، قال: كان بين رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ زيد بن حارثة عشر
سنين؛ رسول الله أكبر منه، وكان قصيرًا شديد الأدمة أفطس.
قال محمد بن سَعْدٍ: كَذَا صِفَتُهُ فِي هَذِهِ
الرِّوَايَةِ، وَجَاءتْ من وجه آخر أنه كان أبيض وكان ابنه
أسود. ولذلك أعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقول مجزز
المدلجي القائف: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض".
قلت: وعلى هذه الرواية أيضا يكون عمره خمسين سنة أو نحوها.
وقال أبو إسحاق السبيعي: إن زيد بن حارثة أغارت عليه خيل
من تهامة، فوقع إلى خديجة فاشترته، ثم وهبته للنبي صلى
الله عليه وسلم. ويروى أنها اشترته بسبع مائه درهم.
وقال الزهري: ما علمنا أحد أسلم قبله.
وقال موسى بن عقبة: حدثنا سالم بنِ عَبْدِ اللهِ، عَن ابْن
عُمَر، قَالَ: ما كنا ندعوا زيدا إِلاَّ زَيْدَ بنَ
مُحَمَّدٍ. فَنَزَلَتْ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}
[الأحزاب: 5] 1.
وقال يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الاكوع قال: غزوت مع زيد
بن حارثة سبع غزوات، كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمره
علينا. كذا رواه الفسوي عن أبي عاصم عن يزيد.
وقال ابن عيينة: أخبرنا عَبْدِ اللهِ بنِ دِيْنَارٍ،
سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يقول: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَ أُسَامَةَ عَلَى
قَوْمٍ، فَطَعَنَ النَّاسُ فِي إِمَارَتِهِ. فَقَالَ:
"إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُم فِي
إِمَارَةِ أَبِيْهِ، وَايمُ اللهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيْقاً
لِلإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ
إِلَيَّ، وَإِنَّ ابْنَهُ هَذَا لأَحَبُّ النَّاسِ إلي
بعده" 2.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "2/ 77"، والبخاري "4782"، ومسلم
"2425" "62"، والترمذي "3209" و"3814"، وابن سعد "3/ 43"،
والطبراني "1317"، والبيهقي "7/ 161" من طرق عن موسى بن
عقبة، به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "2/ 110"، والبخاري "3730" و"4469"
و"6627"، ومسلم "2426" "63" من طرق عن عبد الله بن دينار،
به.
(2/89)
وقال ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيْدَ بنِ
عَبْدِ اللهِ بنِ قُسَيْطٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أُسَامَةَ،
عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي: "يَا زَيْدُ أَنْتَ مَوْلاَيَ
وَمِنِّي وَإِلَيَّ وَأَحَبُّ القوم إلي".
وقال محمد بن عبيد: حدثنا إسماعيل، عن مجالد، عن عامر، عن
عائشة أنها كانت تقول: "لَوْ أَنَّ زَيْداً كَانَ حَيّاً
لاَسْتَخْلَفَهُ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم"1.
ورواه محمد بن عبيد مرة أخرى، فقال: حدثنا وَائِلُ بنُ
دَاوُدَ، عَنِ البَهِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، قالت: ما بَعَثَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد بن
حارثة فِي جَيْشٍ قَطُّ إِلاَّ أَمَّرَهُ عَلَيْهِم،
وَلَوْ بقي بعده استخلفه.
وقال حسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عَنْ أَبِيْهِ،
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، قَالَ:
"دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَاسْتَقْبَلَتْنِي جَارِيَةٌ
شَابَّةٌ، فَقُلْتُ: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة".
إسناده حسن، رواه الروياني في مسنده، ورواه حماد بن سلمة
عَنْ أَبِي هَارُوْنَ العَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ،
يرفعه.
وقال حماد بن يزيد، عن خالد بن سلمة المخزومي، قال: أصيب
زيد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم منزله، فجهشت بنت زيد
زيد فِي وَجْهِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم، فبكى حتى انتحب. فقال له سعد بن عبادة: يا رسول
الله، ما هذا؟ قال: "شوق الحبيب إلى حبيبه".
له
__________
1 ضعيف: آفته مجالد، وهو ابن سعيد، فإنه ضعيف، أجمعوا على
ضعفه. وعامر هو ابن شراحيل الشعبي، أبو عمرو الكوفي.
(2/90)
ترجمة ابن رواحة:
وأما عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري أبو
عمرو، أحد النقباء ليلة العقبة، شهد بدرا والمشاهد، وكان
شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، وأخا أبي الدرداء لأمه.
روى عنه أبو هريرة، وابن أخته النعمان بن بشير، وزيد بن
أرقم، وأنس قوله، وأرسل عنه جماعة من التابعين. وقال
الواقدي: كنيته أبو محمد. وقيل: أبو رواحة.
وروت أم الدرداء، عن أبي الدرداء قَالَ: كُنَّا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السفر
في يوم شديد الحر، وما فينا صَائِمٌ إِلاَّ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الله بن رواحة.
وقال معمر: عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ
أَبِي لَيْلَى، قَالَ: تزوج رجل امرأة عبد الله بن رواحة
فقال لها: هل تدرين لم تزوجتك؟ قالت: لا، قال:
لِتُخْبِرِيْنِي عَنْ صَنِيْعِ عَبْدِ اللهِ
(2/90)
فِي بَيْتِهِ. فَذَكَرَتْ لَهُ شَيْئاً لاَ
أَحْفَظُهُ، غَيْرَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ إِذَا أَرَادَ
أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا
دَخَلَ بيته صلى ركعتين، لا يدع ذلك أبدا.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، قال: لما نزلت:
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون} [الشعراء] ،
قال: ابن رواحة: قد علم الله أني منهم. فأنزلت: {إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} الآية
[الشعراء: 227] وقيل: هذا البيت بن رواحة يخاطب زيد بن
أرقم:
يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل هديت فانزل
يعني: انزل فسق بالقوم.
وعن مصعب بن شيبة، قال: لما نزل ابن رواحة للقتال طعن
فاستقبل الدم بيده، فدلك به وجهه، ثم صرع بين الصفين فجعل
يقول: يا معشر المسلمين ذبوا عن لحم أخيكم. فكانوا يحملون
حتى يجوزونه. فلم يزالوا كذلك حتى مات مكانه.
وقال ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ
اللَّيْثِيُّ، قال: حدثني نافع، قَالَ: كَانَت لابْنِ
رَوَاحَةَ امْرَأَةٌ وَكَانَ يَتَّقِيْهَا. وَكَانَتْ لَهُ
جَارِيَةٌ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ وفرقت أن
يكون قد فعل فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ. قَالَتْ: اقْرَأْ
عَلَيَّ إِذاً، فَإِنَّكَ جُنُبٌ. فَقَالَ:
شَهِدْتُ بِإِذْنِ اللهِ أَنَّ مُحَمَّداً ... رَسُوْلُ
الَّذِي فَوْقَ السَّمَوَاتِ مِنْ عَلُ
وَأَنَّ أَبَا يَحْيَى وَيَحْيَى كِلاَهُمَا ... لَهُ
عَمَلٌ من ربه متقبل
وقد رويا لحسان.
وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن سلمان، عن ابن الهاد، أن
امرأة عبد الله بن رواحة رأته على جارية له فجحدها. فقالت
له: فاقرأ، فقال:
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ
مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العريش رَبُّ
العَالَمِيْنَا
وَتَحْمِلُهُ مَلاَئِكَةٌ كِرَامٌ ... مَلاَئِكَةُ
الإِلَهِ مقربينا
فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر. فحدث ابن رواحة النبي صلى
الله عليه وسلم، فضحك1.
وقال موسى بن جعفر بن أبي كثير: حدثنا عبد العزيز
الماجشون، عن الثقة أن ابن رواحة اتهمته امرأته. فذكر
القصة.
وقال ابن إسحاق: لم يعقب ابن رواحة.
__________
1 منكر: فهو منقطع بين ابن الهاد، وهو يَزِيْدُ بنُ عَبْدِ
اللهِ بنِ أُسَامَةَ بنِ الهاد، وعبد الله بن رواحة، فيزيد
هذا من الطبقة الخامسة، وهي الطبقة الصغرى من التابعين
فأنى له لقيا ابن رواحة. وأخرجه الدارمي في "الرد على
الجهمية" "82" من طريق يحيى بن أيوب، حدثني عمارة بن غزية،
عن قدامة بن إبراهيم بن محمد بن حاطب أنه حدثه أن عبد الله
بن رواحة -رضي الله عنه- وقع بجارية له؛ فقالت له امرأته:
فعلتها؟ قال: أما أنا فأقرا القرآن. فقالت: أما أنت فلا
تقرأ القرآن وأنت جنب، فقال: أنا أقرأ لك فقال: شهدت بأن
وعد الله حق.." إلخ؛ فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر".
قلت: وإسناده ضعيف، قدامة بن إبراهيم، مقبول كما قال
الحافظ في "التقريب" -أي إذا توبع- وهو منقطع، فقدامة لم
يدرك عبد الله بن رواحة كما قال الذهبي في "العلو" "ص42"
ومتنه منكر إذ كيف لا يعرف الصحابة الفرق بين الشعر
والقرآن؟!!.
(2/91)
واستشهد بمؤته:
عباد بن قيس الخزرجي؛ أحد من شهد بدرا، والحارث بن النعمان
بن أساف النجاري، ومسعود بن سويد بن حارثة الأنصاري، ووهب
بن سعد بن أبي سرح العامري، وزيد بن عبيد بن المعلى
الخزرجي؛ الذي قتل أبوه يوم أحد، وعبد الله بن سعيد بن
العاص بن أمية الأموي، وقيل: قتل هذا يوم اليمامة، وأبو
كلاب، وجابر ابنا أبي صعصعة الخزرجي، رضي الله عنهم.
(2/92)
ذكر رسل النبي صلى
الله عليه وسلم:
وفي هذا السنة كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك
النواحى يدعوهم إلى الله تعالى.
قال سَعِيْدُ بنُ أَبِي عَرُوْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَنَسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كتب قبل موته إلى كسرى، وإلى قيصر، وكتب إلى
النجاشي، يعني الذي ملك الحبشة بعد النجاشي المسلم، وإلى
كل جبار يدعوهم إلى الله، عز وجل. رواه مسلم1.
وليس في هَذَا الحَدِيْثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَتَبَ إلى النجاشي الثاني يدعوه إلى
الله في هذه السنة. بل ذلك مسكوت عنه، وإنما كان ذلك بعد
النجاشي الأول المسلم وموته، كما سيأتي في سنة تسع. والله
أعلم.
وقال إبراهيم بن سعد، صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عَنْ
عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابن عباس أنه
أَخْبِرْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام. وبعث بكتابه
إليه مع دحية الكلبي، وَأَمَرَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يدفعه إلى عظيم بصرى
ليدفعه إلى قيصر. فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر، وكان قيصر لما
كشف الله عنه جنود فارس، مشى من حمص إلى إيلياء شكرًا لما
أبلاه الله -تعالى- فلما أن جاء قيصر كِتَابُ رَسُوْل
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ حين قرأه:
التمسوا لي ههنا أحدا من قومه لنسألهم.
قال ابن عباس: فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشام في رجال
من قريش قدموا للتجارة، في المدة التي كانت بين رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كفار
قريش.
قال أبو سفيان: فوجدنا رسول قيصر ببعض الشام، فانطلق بنا
حتى قدمنا إيلياء، فأدخلنا عليه، فإذا هو جالس في مجلسه
وعليه التاج، وحوله عظماء الروم، فقال لترجمانه: سلهم أيهم
أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قلت: أنا
أقربهم إليه نسبا. قال: ما قرابة ما بينك وبينه؟ قلت: هو
ابن عمي. قال: وليس في الركب يومئذ أحد من بني عبد مناف
غيري، قال: أدنوه مني. ثم أمر بأصحابي فجعلهم خلف ظهري،
عند كتفي، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه إني سائله عن هذا
الذي يزعم أنه نبي، فإن كذب فكذبوه.
قال أبو سفيان: والله لولا الحياء يومئذ أن يأثر عني
أصحابي الكذب لكذبته عنه. ثم قال لترجمانه: قل له: كيف نسب
هذا الرجل فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا
القول أحد منكم قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه
بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل من آبائه من
ملك؟ قلت: لا. قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت:
بل ضعفاؤهم. قال: فيزيدون أو ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال:
فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال:
فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن الآن منه في مدة ونحن نخاف منه أن
يغدر؛ ولم يمكنى كلمة أدخل فيها شيئا أنتقصه بها، لا أخاف
أن تؤثر عني غيرها. قال: فهل قاتلتموه وقاتلكم؟ قلت: نعم.
قال: فكيف حربكم وحربه؟ قلت: كانت دولا وسجالا، يدال عينا
المرة ويدال عليه الأخرى، قال: فماذا يأمركم به؟ قلت:
يأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئا، وينهانا عما
كان يعيد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء
بالعهد وأداء الأمانة.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1774"، والترمذي "2716" من طريق سعيد
بن أبي عروبة، به.
وأخرجه مسلم "1774"، والبيهقي "9/ 107" من طريق نصر بن علي
الجهضمي، أخبرني أبي، حدثني خالد بن قيس، عن قتادة، عن أنس
أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم
إلى الله تعالى. وأخرجه مسلم "2092" 58"، والترمذي في
"الشمائل" "87" من طريق نصر بن علي الجهضمي، حدثنا نوح بن
قيس، عن خالد بن قيس، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسُ بنُ
مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي، فقيل له: إنهم لا يقبلون
كتابا إلا بخاتم، فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما
حلقته فضة ونقش فيه محمد رسول الله".
(2/93)
قال فقال لترجمانه قل له: إني سألتك عن
نسبه فيكم، فزعمت أنه ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب
قومها، وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله، فزعمت أن لا،
فقلت: لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتم
قد قيل قبله. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول
ما قال، فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على
الناس ويكذب على الله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك،
فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك
آبائه. وسالتك: أشراف الناس يتبعونه أو ضعفاؤهم، فزعمت أن
ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل يزيدون أو
ينقصون، فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم.
وسألتك: هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فزعمت أن
لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.
وسألتك: هل يغدر، فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون.
وسألتك: هل قاتلتموه وقاتلكم، فزعمت أن قد فعل، وأن حربكم
وحربه يكون دولا، وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة.
وسألتك ماذا يأمركم به، فزعمت أن يأمركم أن تعبدوا الله
ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم
بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة،
وهذه صفة نبي، قد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أظن أنه
منكم؛ وإن يكن ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين،
ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقيه، ولو كنت عنده لغسلت
قدميه. قال: ثم دعا بِكِتَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر به فقرئ فإذا فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله ورسوله إلى
هرقل عظيم الروم:
سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية
الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. وإن
توليت فعليك إثم الأريسيين. و: {قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]
.
قال أبو سفيان: فلما أن قضى مقالته علت أصوات الذين حوله
من عظماء الروم وكثر لغطهم، فلا أدري ما قالوا، وأمر بنا
فأخرجنا. فلما أن خرجت مع أصحابي وخلوت بهم قلت لهم: لقد
أمر أمر ابن أبي كبشة؛ هذا ملك بني الأصفر يخافه.
قال أبو سفيان: ووالله ما زلت ذليلا، مستيقنا بأن أمره
سيظهر حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره. أخرجاه من
حديث إبراهيم.
وأخرجاه من حديث معمر، عن الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ
اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن أبا سفيان
(2/94)
حدثه، قال: انطلقت في المدة التى كانت
بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؛ فبينا أنا بالشام. فذكر حديث إبراهيم.
ورواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن الزهري بسنده. وفيه
قال أبو سفيان: فلما كانت هدنة الحديبية بيننا وبين النبي
صلى الله عليه وسلم خرجت تاجرًا إلى الشام. فوالله ما علمت
بمكة امرأة ولا رجلا إلا قد حملني بضاعة. فقدمت غزة، وذلك
حين ظهر قيصر على من كان ببلاده من الفرس، فأخرجهم منها.
ورد عليه صليبه الأعظم، وكان منزله بحمص فخرج منها متشكرا
إلى بيت المقدس، تبسط له البسط وتطرح له عليها الرياحين.
حتى انتهى إلى إيلياء، فصلى بها. فأصبح ذات غداة مهموما
يقلب طرفه إلى السماء، فقالت له بطارقته: أيها الملك، لقد
أصبحت مهموما. فقال: أجل. قالوا: وما ذاك؟ قال: أريت في
هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر. فقالوا: والله ما نعلم أمة
من الأمم تختتن إلا يهود، وهم تحت يدك وفي سلطانك، فإن كان
قد وقع هذا في نفسك منهم، فابعث في مملكتك كلها فلا يبقى
يهودي إلا ضربت عنقه فتستريح من هذا الهم.
فبينما هم في ذلك؛ إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من العرب
قد وقع إليهم.
فقال: أيها الملك هذا رجل من العرب من أهل الشاء والإبل،
يحدثك عن حدث كان ببلاده، فسله عنه. فلما انتهى إليه قال
لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده؟ فسأله
فقال: هو رجل من قريش خرج يزعم أنه نبي، وقد تبه أقوام
وخالفه آخرون، فكانت بينهم ملاحم، فقال: جردوه. فإذا هو
مختون فقال: هذا والله الذي أريت، لا ما تقولون. ثم دعا
صاحب شرطته فقال له: قلب لي الشام ظهرا وبطنا حتى تأتي
برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه. فوالله إني وأصحابي لبغزة
إذ هجم علينا فسألنا: ممن أنتم؟ أخبرناه. فساقنا إليه
جميعا. فلما انتهينا إليه -قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت
من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف1 -يعني هرقل-
فلما انتهينا إليه قال: أيكم أمس به رحما؟ فقلت: أنا. قال:
أدنوه. وساق الحديث، ولم يذكر فيه كتابًا وفيه كما ترى
أشياء عجيبة ينفرد بها ابن إسحاق دون معمر وصالح.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري، قال: حدثني أسقف
من النصارى قد أدرك ذلك الزمان، قال: لما قدم دحية بن
خليفة على هرقل بالكتاب، وفيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم
الروم: سلام على من
__________
1 الأغلف: أي عليه غشاء عن سماع الحق وقبوله.
(2/95)
"اتبع الهدى. أما بعد؛ فأسلم تسلم، وأسلم
يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن إثم الأكارين1 عليك".
فلما قرأه وضعه بين فخذه، وخاصرته، ثم كتب إلى رجل من أهل
رومية، كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ، يخبره عما جاءه
مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فكتب إليه أنه النبي الذي ينتظر لا شك فيه فاتبعه. فأمر
بعظماء الروم فجمعوا له في دسكره2 ملكه، ثم أمر بها
فأشرجت3 عليهم، واطلع عليهم من علية له، وهو منهم خائف
فقال: يا معشر الروم إنه قد جاءني كتاب أحمد، وإنه والله
للنبي الذي كنا ننتظر ونجد ذكره في كتابنا، نعرفه
بعلاماته. فأسلموا واتبعوه تسلم لكم دنياكم وآخرتكم.
فنخروا نخرة رجل واحد، وابتدروا أبواب الدسكرة، فوجدوها
مغلقة دونهم. فخافهم، فقال: ردوهم علي. فكروهم عليه، فقال:
إنما قلت لكم هذه المقالة أغمزكم بها لأنظر كيف صلابتكم في
دينكم، فقد رأيت منكم ما سرني. فوقعوا له سجدا، ثم فتحت
لهم الأبواب فخرجوا4.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة، قال: خرج أبو
سفيان تاجرا وبلغ هرقل شأن النبي صلى الله عليه وسلم. قال:
فأدخل عليه أبو سفيان في ثلاثين رجلا، وهو في كنيسة
إيلياء. فسألهم فقالوا: ساحر كذاب. فقال أخبروني بأعلمكم
به وأقربكم منه. قالوا: هذا ابن عمه. وذكر شبيها بحديث
الزهري.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا الليث،
عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيد الله، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بعث بكتابه إلى كسرى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم
البحرين ليدفعه إلى كسرى. قال: فلما قرأه كسرى مزقه. فحسبت
ابن المسيب قال: فدعا عليهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يمزقوا كل ممزق5.
وقال الذهلي محمد بن يحيى: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا
ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبد
الرحمن بن عبد القاري، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام ذات يوم على المنبر خطيبا،
فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال: "أما بعد،
__________
1 الأكار: الزراع.
2 دسكرة: بناء على هيئة القصر، فيه منازل وبيوت للخدم
والحشم، وليست بعربية محضة.
3 أشرجت: أغلقت.
4 صحيح: أخرجه البخاري "7" من طريق الزهري، به.
5 صحيح: أخرجه البخاري "7264".
(2/96)
"فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك
الأعاجم، فلا تختلفوا علي كما اختلفت بنو إسرائيل على
عيسى". فقال المهاجرون: والله لا نختلف عليك في شيء، فمرنا
وابعثنا. فبعث شجاع بن وهب إلى كسرى، فخرج حتى قدم على
كسرى، وهو بالمدائن، واستأذن عليه.
فأمر كسرى بإيوانه أن يزين، ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن
لشجاع بن وهب، فلما دخل عليه أمر بِكِتَابِ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقبض منه. قال
شجاع: لا، حتى أدفعه أنا كما أَمَرَنِي رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال كسرى: ادنه، فدنا
فناوله الكتاب ثم دعا كاتبا له من أهل الحيرة فقرأه، فإذا
فيه: "من محمد عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس".
فأغضبه حين بدأ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، وصاح غضب ومزق الكتاب قبل أن يعلم
ما فيه، وأمر بشجاع فأخرج، فركب راحلته وذهب، فلما سكن غضب
كسرى، طلب شجاعا فلم يجده. وأتى شجاع النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: "اللهم
مزق ملكه".
وقال أبو عوانة، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ،
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى التي في القصر
الأبيض" 1.
أخرجه مسلم. رواه أسباط بن نصر، عن سماك، عن جابر فزاد،
قال: فكنت أنا وأبي فيهم، فأصابنا من ذلك ألف درهم.
وقال أحمد بن الوليد الفحام: حدثنا أسود بن عامر، قال:
أخبرنا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ
الحَسَنِ، عن أبي بكرة، أن رجلا من أهل فارس أَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ ربي
قد قتل ربك، يعني كسري".
قال: وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد استخلف بنته،
فقال: "لا يفلح قوم تملكهم امرأة" 2.
ويروى أن كسرى كتب إلى باذام عامله باليمن يتوعده ويقول:
ألا تكفيني رجلا خرج بأرضك يدعوني إلى دينه؟ لتكفنيه أو
لأفعلن بك. فبعث العامل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسلا
وكتابا، فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة،
ثم قال: "اذهبوا إلى صاحبكم فقولوا: إن ربي قد قتل ربك
الليلة".
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2919" "78" من طريق أبي عوانة، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4425" و"7099"، والترمذي "2262" من
طريق الحسن عن أبي بكرة قال: لقد نفعني الله بِكَلِمَةٍ
سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أيام الجمل بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل
فأقاتل معهم. قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أهل فارس قد ملكوا عليهم
بنت كسرى قال: لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة" واللفظ
للبخاري في الموضع الأول.
(2/97)
وروى أبو بكر بن عياش، عن داود بن أبي هند،
عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: أقبل سعد إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هلك -أو قال:
قتل- كسرى. فقال: "لعن الله كسرى، أول الناس هلاكا فارس ثم
العرب".
وقال محمد بن يحيى: حدثنا يَعْقُوْبَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ،
عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ صَالِحٍ، قال: قال: ابن شهاب. وقد
رواه الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، كلاهما يقول عن أبي
سلمة، واللفظ لصالح قال: بلغني أن كسرى بينما هو في دسكرة
ملكه، بعث له -أو قيض له- عارض فعرض عليه الحق، فلم يفجأ
كسرى إلا الرجل يمشي وفي يده عصا فقال: يا كسرى هل لك في
الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا؟ قال: كسرى: نعم؟ فلا
تكسرها. فولى الرجل. فلما ذهب أرسل كسرى إلى حجابه فقال:
من أذن لهذا؟ قالوا: ما دخل عليك أحد. قال: كذبتم. وغضب
عليهم وعنفهم، ثم تركهم. فلما كان رأس الحول أتاه ذلك
الرجل بالعصا فقال كمقالته. فدعا كسرى الحجاب وعنفهم. فلما
كان الحول المستقبل، أتاه ومعه العصا فقال: هل لك يا كسرى
في الإسلام قبل أن أكسر العصا؟ قال: لا تكسرها، فكسرها
فأهلك الله كسرى عند ذلك.
وقال الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِذَا هلك كسرى فلا كسرى بعده. وإذا هلك قيصر
فلا قيصر بعده. والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل
الله". أخرجه مسلم1.
وروى يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ
عُمَيْرِ بنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كتب رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى كسرى وقيصر. فأما قيصر فوضعه، وأما كسرى
فمزقه، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء
فسيكون لهم بقية".
وقال الربيع: أخبرنا الشافعي، قال: حفظنا أن قيصر أكرم
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعه في مسك2. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "ثبت ملكه".
قال الشافعي: وقطع الله الأكاسرة عن العراق وفارس، وقطع
قيصر ومن قام بالأمر بعده
__________
1 صحيح: أخرجه عبد الرزاق "20814"، والشافعي "2/ 186"،
والحميدي "1094"، وأحمد "2/ 233و 240"، والبخاري "3618"
و"6630"، ومسلم "2918"، والترمذي "2216"، والبيهقي في
"السنن" "9/ 177"، وفي "الدلائل" "4/ 393"، والبغوي "3728"
من طرق عن الزهري، به.
2 مسك، بسكون السين: الجلد.
(2/98)
عن الشام. وقال في كسرى: "مزق ملكه"، فلم
يبق للأكاسرة ملك، وقال في قيصر: "ثبت ملكه" فثبت له ملك
بلاد الروم إلى اليوم.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثنا الزهري، عن عبد الرحمن بن
عبد أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب
الإسكندرية، فمضى بِكِتَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبل الكتاب وأكرم حاطبا وأحسن نزله،
وأهدى معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة وكسوة
وجاريتين؛ إحدهما أم إبراهيم، والأخرى وهبها النبي صلى
الله عليه وسلم لجهم بن قيس العبدي، فهي أم زكريا بن جهم،
خليفة عمرو بن العاص على مصر.
وقال أبو بشر الدولابي: حدثنا أبو الحارث أحمد بن سعيد
الفهري، قال: حدثنا هارون بن يحيى الحاطبي، قال: حدثنا
إبراهيم بن عبد الرحمن، قال: حدثني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ
زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ أبيه، قال: حدثنا يَحْيَى بنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ حَاطِبٍ، عَنْ أبيه، عن جده حاطب
بن أبي بلتعة، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المقوقس ملك الإسكندرية، فجئته
بِكِتَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فأنزلني في منزله، وأقمت عنده. ثم بعث إلي وقد
جمع بطارقته فقال: إني سأكلمك بكلام وأحب أن تفهمه مني.
قلت: نعم، هلم. قال: أخبرني عن صاحبك، أليس هو نبي؟ قلت:
بلى، هو رسول الله. قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على
قومه حيث أخرجوه. قلت: عيسى؛ أليس تشهد أنه رسول الله، فما
له حديث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه أن لا يكون دعا عليهم
بأن يهلكم الله حتى رفعه الله إليه إلى السماء الدنيا.
قال: أنت حكيم جاء من عند حكيم. هذه هدايا أبعث بها معك
إليه. فأهدى ثلاث جوار، منهن أم إبراهيم، وواحدة وهبها
رسول الله لأبي جهم بن حذيفة العدوي، وواحدة وهبها لحسان
بن ثابت. وأرسل بطرف من طرفهم.
(2/99)
غزوة ذات السلاسل 1:
قيل: إنه ماء بأرض جذام.
قال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة، ورواه موسى بن
عقبة، واللفظ له، قالا: غزوة
ذات السلاسل من مشارف الشام في بلى وسعد الله ومن
يليهم من قضاعة.
وفي رواية عروة: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بن العاص في بلي، وهو أخوال العاص
بن وائل، وبعثه فيمن يليهم من قضاعة وأمره عليهم.
قال ابن عقبة: فخاف عمرو من جانبه الذي هو به، فَبَعَثَ
إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يستمده. فندب رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ المُهَاجِرِيْنَ، فانتدب فيهم أبو بكر وعمر
وجماعة، أمر عليهم أبا عبيدة، فأمد بهم عمرًا، فلما قدموا
عليه، قال: أنا أميركم، وأنا أرسلت إِلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستمده بكم. فقال
المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير
المهاجرين. قال: إنما أنتم مدد أمددته. فلما رأى أبو
عبيدة، وكان رجلا حسن الخلق لين الشيمة، سعى لأَمْرِ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهده،
قال: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إِلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن قال: إذا قدمت على
صاحبك فتطاوعا، وإنك عصيتني لأطيعنك. فسلم أبو عبيدة
الإمارة لعمرو.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ الحصين التميمي، عن غزوة
ذات السلاسل من أرض بلى وعذرة، قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بن العاص
لستنفر العرب إلى الإسلام. وذلك أن أم العاص بن وائل كانت
من بلى، فبعثه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
يتألفهم بذلك. حتى إذا كان بأرض جذام، على ماء يقال له:
السلاسل، خاف فبعث يستمد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال علي بن عاصم: أخبرنا خالد الحذاء، عن أبي عثمان
النهدي، قال: سمعت عمرو بن العاص يقول: بَعَثَنِي رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جيش ذي
السلاسل، وفي القوم أبو بكر وعمر.
فحدثت نفسي أنه لم يبعثني عليهما إلا لمنزلة لي عنده،
فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت: يَا رَسُوْلَ اللهِ، مَنْ
أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قال: "عائشة"، قلت: إني لم
أسألك عن أهلك. قال: "فأبوها" قلت: ثم من؟ قال: "عمر".
قلت: ثم من؟ حتى عد رهطا، قال: قلت في نفسى: لا أعود أسأل
عن هذا2. رواه غيره عن خالد، وهو في الصحيحين مختصرا.
وكيع، وغيره: حدثنا مُوْسَى بنُ عُلَيِّ بنِ رَبَاحٍ، عَنْ
أَبِيْهِ، سمع عمرو بن العاص: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا عمرو اشدد عليك سلاحك
وائتني". ففعلت، فجئته وهو يتوضأ، فصعد في البصر وصوبه
وقال: "يا عمرو إني أريد أن أبعثك وجها فيسلمك الله
ويغنمك، وأرغب لك رغبة من المال صالحة". قلت: إني لم أسلم
رغبة في المال إنما أسلمت رغبة في الجهاد والكينونة معك.
قال: "يا عمرو نعما بالمال الصالح للمرء الصالح" 3.
__________
1 هي وراء وادي القرى بضم السين الأولى وفتحها لغتان،
وبينها وبين المدينة عشرة أيام، وكانت في جمادى الآخرة سنة
ثمان.
2 صحيح على شرط الشيخين: أخرجها البخاري "3662" و"4358"،
ومسلم "2384" من طريق خالد الحذاء، به.
3 حسن: أخرجه أحمد "4/ 197و 202"، والبخاري "299"، والحاكم
"2/ 2و 236" والقضاعي "1315"، والبغوي "2495" من طريق عن
موسى بن علي، عن أبيه، به.
قلت: إسناده حسن، موسى بن علي، صدوق كما قال الحافظ في
"التقريب".
(2/100)
ابن عون وغيره، عن محمد، استعمل رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْراً على جيش
ذات السلاسل وفيهم أبوبكر وعمر. رواه إبراهيم بن مهاجر، عن
إبراهيم النخعى بنحوه.
وكيع، عن المنذر بن ثعلبة، عن ابن بريدة: قال أبو بكر:
إنما ولاه النبي صلى الله عليه وسلم، يعني عمرا، علينا
لعلمه بالحرب.
قلت: ولهذا استعمل أبو بكر عمرًا على غزو الشام.
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن يزيد بن رومان، أن
أبا عبيدة لما أتى عمرا صاروا خمس مائة، وسار الليل
والنهار حتى وطئ بلاد بلي ودوخها، وكلما انتهى إلى موضع
بلغه أنه كان بذلك الموضع جمع، فلما سمعوا به تفرقوا حتى
انتهى إلى أقصى بلاد بلي وعذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك
جمعا، فاقتتلوا ساعة وتراموا بالنبل. ورمي يومئذ عامر بن
ربيعة، فأصيب ذراعه. وحمل المسلمون عليهم فهربوا وأعجزوا
هربا في البلاد. ودوخ عمرو ما هناك. وأقام أياما يغير
أصحابه على المواشي.
وقال إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ،
قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عمرو بن العاص فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ،
فَأَصَابَهُم بَرْدٌ فَقَالَ لهم عمرو: لا يوقدون أحد
نارا. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شكوه، فقال: يا نبي الله، كان
في أصحابي قلة فخشيت أن يرى العدو قلتهم، ونهيتم أَنْ
يَتَّبِعُوا العَدُوَّ مَخَافَةَ أَنْ يَكُوْنَ لَهُم
كَمِيْنٌ. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال جرير بن حازم: حدثنا يَحْيَى بنُ أَيُّوْبَ، عَنْ
يَزِيْدَ بنِ أَبِي حَبِيْبٍ، عَنْ عمران بن أبي أنس، عن
عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص، قال: احتلمت في
ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن
أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذَلِكَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
"يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب". فأخبرته بالذي منعني من
الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}
[النساء: 29] ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل
شيئا1.
وقال عمرو بن الحارث، وغيره، عن يَزِيْدُ بنُ أَبِي
حَبِيْبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بنِ أبي أنس، عن عبد الرحمن بن
جبير، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بنِ العَاصِ أن
عمرا كان على سرية، فذكر نحوه. قال: فغسل مغابنه، وتوضأ
وضوءه للصلاة ثم صلى بهم. لم يذكر التيمم. أخرجهما أبو
داود.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "4/ 203- 204"، وأبو داود "334"،
والدارقطني "1/ 178" من طريق يزيد بن أبي حبيب، به.
(2/101)
غزوة سيف البحر:
قال ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر: بعثنا النبي صلى الله
عليه وسلم في ثلاث مائة راكب، وأميرنا أبو عبيدة بن
الجراح، نرصد عيرا لقريش، فأصابنا جوع شديد، حتى أكلنا
الخبط1فسمي جيش الخبط.
قال: ونحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث
جزائر. ثم إن أبا عبيدة نهاه. قال: فألقى لنا البحر دابة
يقال لها: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر وادهنا منه، حتى
ثابت منه أجسامنا وصلحت، فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه،
فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل فحمله عليه ومر
تحته. متفق عليه2.
زاد البخاري في حديث عمرو، عن جابر: قال جابر: وكان رجل في
القوم نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاثا، ثم ثلاثا، ثم إن أبا
عبيدة نهاه. قال: وكان عمرو يقول: أخبرنا أبو صالح أن قيس
بن سعد قال لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، قال أبوه: انحر.
قال: نحرت، قال: ثم جاعوا. قال: انحر، قال: نحرت، ثم
جاعوا. قال: انحر. قال: نهيت3.
وقال مالك: عن وهب بن كيسان، عن جابر، قَالَ: بَعَثَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثا
قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة وهم ثلاث مائة وأنا
فيهم، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة
بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مزودي تمر، فكان
يقوتنا كل يوم قليلا قليلا، حتى فني. ولم يكن يصيبا إلا
تمرة تمرة. قال: فقلت: وما تغني تمرة؟ قال: لقد وجدنا
فقدها حين فنيت. ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظرب
وهو الجبل، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة. ثم أمر
أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت،
ثم مر تحتهما فلم تصبهما. أخرجاه.
وقال زُهَيْرُ بنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ،
عَنْ جابر، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نتلقى
عيرا لقريش، وزودنا جرابا من تمر. فكان أبو عبيدة يعطينا
تمرة تمرة. وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم
نبله بالماء فنأكله. فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا
كهيئة الكثيب فأتيناه فإذا دابة تدعى العَنْبَرُ. فَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ: ميتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لا، بل نحن رسل
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم
فكلوا. فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلاث مائة حتى سمعنا. ولقد
كنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ونقتطع منه الفدر
كالثور. ولقد أخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في
عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير منها
فمر تحتها.
وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا ذلك
له فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء
تطعموننا"؟ قال: فأرسلنا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه فأكل. أخرجه مسلم4.
قلت: زعم بعض الناس أن هذه السرية كانت في رجب سنة ثمان.
__________
1 الخبط: الورق الساقط من الشجر بعد ضربه بالعصا ليتناثر،
وهو من علف الإبل.
2 صحيح أخرجه البخاري "4361"و "5494"، ومسلم "1935" "18"
من طريق سفيان بن عيينة، به.
وأخرجه البخاري "4362" و"5493" حدثنا مسدد، حدثنا يحيى،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ دِيْنَارٍ، به.
3 صحيح: راجع تعليقنا السابق، وهو عند البخاري "4361".
4 صحيح أخرجه مسلم "1935" "17" حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا
زهير، به.
والكثيب: هو الرمل المستطيل المحدودب.
وقب: هو داخل عينه ونقرتها.
بالقلال: جمع قلة. وهى الجرة الكبيرة. الفدر: هي القطع.
(2/102)
سرية أبي قتادة إلى
خضرة:
قال الواقدي في مغازيه: قَالُوا بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا قتادة بن ربعي
الأنصاري إلى غطفان في خمسة عشر رجلا، وأمره أن يشن عليهم
الغارة. فسار وهجم على حاضر منهم عظيم فأحاط به، فصرخ رجل
منهم: يا خضرة! وقاتل منهم رجال فقتلوا من أشرف لهم،
وأستاقوا النعم، فكانت بعير وألفي شاة. وسبوا سبيا كثيرا.
وغابوا خمس عشرة ليلة وذلك في شعبان من السنة.
ثم كانت سريته إلى إضم على إثر ذلك في رمضان.
(2/103)
وفاة زينب بنت النبي
صلى الله عليه وسلم:
وكانت أكبر بناته. توفيت في هذه السنة وغسلتها أم عطية
الأنصارية وغيرها. وأعطاهن النبي صلى الله عليه وسلم
حقوه1، فقال: "أشعرنها إياه" 2.
وبنتها أمامة بنت أبي العاص، هى التي كان النبي صلى الله
عليه وسلم يحملها في الصلاة
__________
1 الحقو: معقد الإزار، وجمعه أحق وأحقاء، ثم سمي به الإزار
للمجاورة.
2 أشعرنها إياه: اجعلنه شعارها. والشعار: الثوب الذي يلي
الجسد؛ لأنه يلي شعره.
(2/103)
فتح مكة شرفها الله
وعظمها:
قال البكائي، عن ابن إسحاق: ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن
كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء بأسفل مكة يقال له:
الوتير. وكان الذي هاج ما بين بكر وخزاعة أن رجلًا من بني
الحضرمي خرج تاجرًا، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه
وأخذوا ماله. فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت
خزاعة قبيل الإسلام على سلمى وكلثوم وذؤيب بني الأسود بن
رزن الديلي، وهو مفخر بني كنانة وأشرافهم، فقتلوهم بعرفة.
فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل
الناس به. فلما كان صلح الحديبية بين رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قريش، كان
فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم أنه من
أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده فليدخل معه، ومن أحب
أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت بنو بكر في
عقد قريش، ودخلت خزاعة في عَقَدَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنها وكافرها.
فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل، أحد بني بكر من
خزاعة، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثارًا بأولئك الإخوة. فخرج
نوفل بن معاوية الديلي في قومه حتى بيت خزاعة على الوتير
فاقتتلوا. وردفت قريش بني الدليل بالسلاح، وقوم من قريش
أعانت خزاعة بأنفسهم، مستخفين بذلك، حتى حازوا خزاعة إلى
الحرم. فقال قوم نوفل له: اتق إلهك ولا تستحل الحرم. فقال:
لا إله لي اليوم، والله يا بني كنانة إنكم لتسرقون في
الحرم، أفلا تصيبون فيه ثأركم؟ فقتلوا رجلا من خزاعة.
ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار رافع
مولى خزاعة.
فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، كان ذلك نقضا للهدنة
التي بينهم وَبَيْنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَخَرَجَ عمرو بن سالم الخزاعي فقدم
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
طائفة مستغيثين به، فوقف عمرو عليه، وهو جالس في المسجد
بين ظهري الناس، فقال:
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مدا
فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا
(2/104)
ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في
كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
فانصر، هداك الله، نصرا أيدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن
سالم".
ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء،
فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب؛ يعني خزاعة.
رواه أطول من هذا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن الزهري
سماعا، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم.
وقال ابن إسحاق: ثم قدم بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة على
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. وَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كأنكم بأبي سفيان قد
جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة". ومضى بديل وأصحابه
فلقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان، قد جاء ليشد العقد ويزيد
في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا. فلما لقي بديل بن ورقاء،
قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن إِنَّهُ أَتَى رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: سرت في
خزاعة على الساحل. فقال: أوما جئت محمدا؟ قال: لا. فلما
راح بديل إلى مكة قال: أبو سفيان: لئن كان جاء إلى المدينة
لقد علف بها النوى. فأتى مبرك راحلته ففته فرأى فيه النوى،
فقال: أحلف بالله لقد أتى محمدا.
ثم قدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة أم
المؤمنين. فلما ذهب ليجلس عَلَى فِرَاشِ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوته عنه، فقال: ما
أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو
فِرَاشِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ رجل مشرك، نجس. قال: والله لقد أصابك
يا بنية بعدي شر.
ثم خرج حتى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَمْ يرد عليه شيئا. فذهب إلى أبي بكر فكلمه
أن يكلم لَهُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر فكلمه فقال:
أأنا أشفع لكم إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجالدتكم
عليه. ثم خرج حتى أتى عليا -رضي الله عنه- وعنده فاطمة
وابنها الحسن وهو غلام يدب، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي
رحما، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع
لي إلى رسول الله. فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال: يا
ابنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون
سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بني ذلك، وما
يجبر أحد عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
(2/105)
قال: يا أبا حسن، إني أري الأمور قد اشتدت
على فانصحني. قال: والله ما أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد
بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك. قال: أوترى
ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكن لا أجد
لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس
إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره وانطلق، فلما قدم على
قريش قالوا: ما وراءك؟ فقص شأنه، وأنه جار بين الناس،
قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: والله إن زاد
الرجل على أن لعب بك.
ثم أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه. ثم أعلم الناس
بأنه يريد مكة، وقال: "اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش
حتى نبغتهم في بلادهم".
فعن عروة وغيره، قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم السير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش بذلك
مع امرأة، فجعلته في رأسها ثم قتلت عليه قرونها ثم خرجت
به. وأتى النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بفعله، فأرسل في
طلبها عليا والزبير. وذكر الحديث.
أخبرنا محمد بن أبي الحرم القرشي، وجماعة، قالوا: حدثنا
الحسن بن يحيى المخزومي قال: حدثنا عبد الله بن رفاعة،
قال: أخبرنا علي بن الحسن الشافعي، قال: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عُمَرَ بنِ النَّحَّاسِ، قال:
أخبرنا عثمان بن محمد السمرقندي، قال: حدثنا أحمد بن
شعبان، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن حسن بن
محمد، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي رافع -وهو كاتب علي-
قال: سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول: بعثني النبي صلى الله
عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، قال: انطلقوا حتى تأتوا
روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها.
فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة. قلنا:
أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، قلنا: لتخرجن الكتاب أو
لتقلعن الثياب. فأخرجته من عقاصها، فأتينا بِهِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فيه: من حاطب
بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا حاطب
ما هذا"؟ قال: يا رسول الله لا تعجل، إني كنت امرأ ملصقا
في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من كان من المهاجرين معك
لهم قرابات يحمون بها أهليهم بمكة، ولم يكن لي قرابة،
فأحببت أن أتخذ فيهم يدا -إذ فاتني ذلك- يحمون بها قرابتي،
وما فعلته كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد صدقكم". فقال
عمر -رضي الله عنه: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا
المنافق. قال:
(2/106)
"إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله -تعالى-
اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شئتم
فقد غفرت لكم" 1.
أخرجه البخاري عن قتيبة، ومسلم عن ابن أبي شيبة، وأبو داود
عن مسدد، كلهم عن سفيان.
أبو حذيفة النهدي: حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، عن
ابن عباس، قال: قال عمر: كتب حاطب إلى المشركين بكتاب فجيء
بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: "يَا حاطب ما دعاك إلى هذا"؟ قال: كان أهلي فيهم
وخشيت أن يصرموا عليهم، فقلت: أكتب كتابا لا يضر الله
ورسوله. فاخترطت السيف فقلت: يا رسول الله، أضرب عنقه فقد
كفر. فقال: "وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". هذا حديث حسن.
وعن ابن إسحاق نحوه، وزاد: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] .
وعن ابن إسحاق، قال: وعن ابن عباس، قال: ثم مضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم لسفره، واستعمل على المدينة أبا رهم
الغفاري. وخرج لعشر مضين من رمضان. فصام وصام الناس معه،
حتى إذا كان بالكديد، بين عسفان وأمج أفطر.
اسم أبي رهم: كلثوم بن حصين.
وقال سعيد بن بشير، عن قتادة: أن خزاعة أسلمت في دراهم،
فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامها، وجعل إسلامها
في دارها.
وقال سعيد بن عبد العزيز، وغيره: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدخل في عهده يوم
الحديبية خزاعة.
__________
1 صحيح: أخرجه الحميدي "49"، وأحمد "1/ 79"، والبخاري
"3007" و"4274" و"4890"، ومسلم "2494"، وأبو داود "2650"،
والترمذي "3305"، والطبري في "جامع البيان" "28/ 58"، وأبو
يعلى "394" و"398"، والبيهقي في "السنن" "9/ 146" وفي
"دلائل النبوة" "5/ 17" من طرق عن سفيان، به.
وروضة خاخ: موضع قرب حمراء الأسد من المدينة.
عقاصها: ضفائرها، جمع عقيصة أو عقصة. وقيل: هو الخيط الذي
تعقص به أطراف الذوائب. والأول أوجه.
(2/107)
وقال الوليد بن مسلم: أخبرني من سمع عمرو
بن دينار، عن ابن عمر، قال: كانت خزاعة حلف رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ونفاثة حلف أبي سفيان. فعدت نفاثة على
خزاعة، فأمدتها قريش. فلم يغز رسول الله صلى الله عليه
وسلم قريشا حتى بعث إليهم ضمرة، فخيرهم بين إحدى ثلاث: أن
يدوا قتلى خزاعة، وبين أن يبرأ من حلف نفاثة، أو ينبذ
إليهم على سواء. قالوا: ننبذ على سواء. فلما سار ندمت
قريش، وأرسلت أبا سفيان يسأل تجديد العهد.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ، قال: كانت بين نفاثة من بني الديل، وبين كعب،
حرب. فأعانت قريش وبنو كنانة بني نفاثة على بني كعب.
فنكثوا العهد إلا بنو مدلج، فإنهم وفوا بعهد رسول الله صلى
الله عليه وسلن. فذكر القصة، وشعر عمرو بن سالم. فقال
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ
نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي". فأنشأت
سحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه
السحابة تستهل بنصر بني كعب، أبصروا أبا سفيان فإنه قادم
عليكم يلتمس تجديد العهد والزيادة في المدة".
فأقبل أبو سفيان، فقال: يا محمد جدد العهد وزدنا في المدة.
فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو لذلك قدمت؟ هل
كان من حدث قبلكم"؟ قال: معاذ اللهِ. قَالَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فنحن على عهدنا
وصلحنا". ثم ذكر ذهابه إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأنه
قال له: أنت أكبر قريش فأجر بينها. قال: صدفت إني كذلك
فصاح: ألا إني قد أجرت بين الناس، وما أظن أن يرد جواري
ولا يخفر بي، قال: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة؟ ثم خرج،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين أدبر: "اللهم سد على
أبصارهم وأسماعهم فلا يروني إلا بغتة". فانطلق أبو سفيان
حتى قدم مكة فحدث قومه، فقالوا: رضيت بالباطل وجئتنا بما
لا يغني عنا شيئا، وإنما لعب بك علي.
وأغبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاز، مخفيا
لذلك. فدخل أبو بكر على ابنته، فرأى شيئا من جهاز رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر وقال: أين يريد رسول الله؟
فقالت عائشة: تجهز، فَإِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غاز قومك، قد غضب لبني كعب. فَدَخَلَ
رَسُوْل اللهِ صلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّم فأشفقت عائشة أن
يسقط أبوها بما أخبرته قبل أن يذكره رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فأشارت إلى أبيها بعينها، فسكت. فمكث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ساعة يتحدث مع أبي بكر، ثم قال: "تجهزت
يا أبا بكر"؟ قال: لماذا يا رسول الله؟ قال: "لغزو قريش،
فإنهم قد غدروا ونقضوا العهد، وإنا قوم غازون إن شاء
الله".
وأذن في الناس بالغزو، فكتب حاطب إلى قريش فذكر حديثه،
وقال: ثم خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في اثني عشر ألفا من المهاجرين، والأنصار،
وأسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة،
(2/108)
وبني سليم، وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر
الظهران، ولم تعلم بهم قريش، قال: فبعثوا حكيم بن حزام
وأبا سفيان وقالوا: خذوا لنا جوارا أو آذنونا بالحرب.
فخرجا فلقيا بديل بن ورقاء فاستصحباه، فخرج معهما حتى إذا
كانوا بالأراك بمكة، وذلك عشاء، رأوا الفساطيط والعسكر،
وسمعوا صهيل الخيل ففزعوا: هؤلاء بنو كعب جاشت بهم الحرب.
قال بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب، ما بلغ تأليبها هذا.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ بعث بين يديه خيلا لا يتركون أحدا يمضي. فلما دخل أبو
سفيان وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل تحت الليل وأتوا
بهم. فقام عمر إلى سفيان فوجأ عنقه، والتزمه القوم وخرجوا
به ليدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم به، فحبسه الحرس
أن يخلص إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وخاف القتل، وكان العباس بن عبد المطلب خالصة
له في الجاهلية، فنادى بأعلى صوته: ألا تأمر بي إلى عباس؟
فأتاه عباس فدفع عنه، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن
يقبضه إليه.
فركب به تحت الليل، فسار به في عسكر القوم حتى أبصره أجمع.
وكان عمر قال له حين وجأه: لا تدن مِنْ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تموت. فاستغاث
بالعباس وقال: إني مقتول. فمنعه من الناس. فلما رأى كثرة
الجيش، قال: لم أر كالليلة جمعا لقوم. فخلصه عباس من
أيديهم، وقال: إنك مقتول إن لم تسلم وتشهد أن محمدا رسول
الله، فجعل يريد أن يقول الذي يأمره به عباس، ولا ينطلق به
لسانه وبات معه.
وأما حكيم وبديل فدخلا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلما. وجعل يستخبرهما عن أهل
مكة.
فلما نودي بالفجر تحسس القوم، ففزع أبو سفيان وقال: يا
عباس، ما يريدون؟ قال: سمعوا النداء بالصلاة فتيسروا لحضور
النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم أبو سفيان يمرون إلى
الصلاة، وأبصرهم يركعون ويسجدون إذا سجد النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَا عباس، ما يأمرهم
بشيء إلا فعلوه؟! فقال: لو نهاهم عن الطعام والشراب
لأطاعوه. فقال: يا عباس، فكلمه في قومك، هل عنده من عفو
عنهم؟ فانطلق عباس بأبي سفيان حتى أدخله عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رسول
الله هذا أبو سفيان، فقال أبو سفيان: يا محمد إني قد
استنصرت بإلهي واستنصرت إلهك، فوالله ما لقيتك من مرة إلا
ظهرت علي، فلو كان إلهي محقا وإلهك باطلا ظهرت عليك، فأشهد
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رسول
الله.
وقال عباس: يا رسول الله إني أحب أن تأذن لي إلى قومك
فأنذرهم ما نزل بهم، وأدعوهم إلى الله ورسوله. فأذن له.
قال: كيف أقول لهم؟ قال: "من قال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ
(2/109)
"وحده لا شريك له، وشهد أن محمدا عبده
ورسوله، وكف يده، فهو آمن، ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه
فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن". قال: يا رسول الله،
أبو سفيان ابن عمنا، فأحب أن يرجع معي، فلو خصصته بمعروف.
فقال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". فجعل أبو سفيان
يستفهمه. ودار أبي سفيان بأعلى مكة. وقال: من دخل دارك يا
حكيم فهو آمن. ودار حكيم في أسفل مكة.
وحمل النبي صلى الله عليه وسلم العباس على بغلته البيضاء
التى أهداها إليه دحية الكلبي، فانطلق العباس وأبو سفيان
قد أردفه. ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثره، فقال:
"أدركوا العباس فردوه علي".
وحدثهم بالذي خاف عليه، فأدركه الرسول، فكره عباس الرجوع،
وقال: أترهب يا رسول الله أن يرجع أبو سفيان راغبا في قلة
الناس فيكفر بعد إسلامه؟ فقال: "احبسه" فحبسه. فقال أبو
سفيان: غدرا يا بني هاشم؟ فقال عباس: إنا لسنا بغدر، ولكن
لي إليك بعض الحاجة.
قال: وما هي، فأقضيها لك؟ قال: إنما نفاذها حين تقدم عليك
خالد بن الوليد والزبير بن العوام. فوقف عباس بالمضيق دون
الأراك، وقد وعى منه أبو سفيان حديثه.
ثم بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الخَيْلُ بعضها على إثر بعض، وقسم الخيل شطرين،
فبعث الزبير في خيل عظيمة. فلما مروا بأبي سفيان قال
للعباس: من هذا؟ قال: الزبير. وردفه خالد بن الوليد بالجيش
من أسلم وغفار وقضاعة، فقال أبو سفيان: أهذا رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عباس؟ قال:
لا، ولكن هذا خالد بن الوليد. وبعث رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدِ بن عبادة بين يديه في
كتيبة الأنصار، فقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل
الحرمة. ثم دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في كتيبة الإيمان من المهاجرين والأنصار.
فلما رأى أبو سفيان وجوها كثيرة لا يعرفها قال: يا رسول
الله، اخترت هذه الوجوه على قومك؟ قال: "أنت فعلت ذلك
وقومك. إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني، ونصروني، إذ
أخرجتموني"، ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ الأقرع بن
حابس، وعباس بن مرداس، وعيينة بن بدر، فلما أبصرهم حول
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ
هؤلاء يا عباس؟ قال: هذه كتيبة النبي صلى الله عليه وسلم،
ومع هذه الموت الأحمر، هؤلاء المهاجرون والأنصار. قال: امض
يا عباس، فلما أر كاليوم جنود قط ولا جماعة، وسار الزبير
بالناس حتى إذا وقف بالحجون، واندفع خالد حتى دخل من أسفل
مكة. فلقيته بنو بكر فقاتلهم فهزمهم، وقتل منهم قريبا من
عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وهزموا وقتلوا بالحزورة،
حتى دخلوا الدور، وارتفعت طائفة منهم على الجبل على
الخندمة، واتبعهم المسلمون بالسيوف.
(2/110)
وَدَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أخريات الناس، ونادى مناد: من أغلق
عليه داره وكف يده فإنه آمن. وكان النبي صلى الله عليه
وسلم نازلًا بذي طوى، فقال: "كيف قال حسان"؟ فقال رجل من
أصحابه: قال:
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء
فأمرهم فأدخلوا الخيل من حيث قال حسان. فأدخلت من ذي طوى
من أسفل مكة.
واستحر القتل ببني بكر. فأحل الله له مكة ساعة من نهار،
وذلك قوله -تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ،
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1، 2] ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحلت الحرمة لأحد قبلي
ولا بعدي، ولا أحلت لي إلا ساعة من نهار".
ونادى أبو سفيان بمكة: أسلموا تسلموا فكفهم الله عن عباس.
فأقبلت هند فأخذت بلحية أبي سفيان، ثم نادت: يا آل غالب
اقتلوا الشيخ الأحمق.
قال: أرسلي لحيتى، فأقسم لئن أنت لم تسلمى لتضربن عنقك
ويلك جاءنا بالحق ادخلي بيتك واسكتي.
وَدَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فطاف سبعا على راحلته.
وفر صفوان بن أمية عامدا للبحر، وفر عكرمة عامدا لليمن،
وأقبل عمير بن وهب إلى رسل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله آمن صفوان فقد هرب،
وقد خشيت أن يهلك نفسه، فأرسلني إليه بأمان فإنك قد آمنت
الأحمر والأسود، فقال: "أدركه فهو آمن". فطلبه عمير فأدركه
ودعاه فقال: قد آمنك رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ صفوان: والله لا أوقن لك حتى
أرى علامة بأماني أعرفها. فرجع فأعطاه النبي صلى الله عليه
وسلم برد حبرة كان معتجرا به حين دخل مكة، فأقبل به عمير،
فقال صفوان: يا رسول الله، أعطيتني ما يقول هذا من الأمان؟
قال: "نعم". قال: اجعل لي شهرا، قال: "لك شهران، لعل الله
أن يهديك".
واستأذنت أم حكيم بنت الحارث بن هشام وهي يومئذ مسلمة، وهي
تحت عكرمة بن أبي جهل، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم في طلب زوجها، فأذن لها وآمنه، فخرجت بعبد لها رومي
فأرادها عن نفسها، فلم تزل تمنيه وتقرب له حتى قدمت على
ناس من عك فاستعانتهم عليه فأوثقوه، فأدركت زوجها ببعض
تهامة وقد ركب في السفينة، فلما جلس فيها نادى باللات
والعزى. فقال أصحاب السفينة: لا يجوز ههنا من دعاء بشيء
إلا الله وحده مخلصا، فقال عكرمة: والله لئن كان في البحر،
إنه لفي البر وحده، أقسم بالله لأرجعن إلى محمد، فرجع
عكرمة مع امرأته، فدخل عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعه، وقبل منه.
(2/111)
ودخل رجل من هذيل على امرأته، فلامته
وعيرته بالفرار، فقال:
وأنت لو رأيتنا بالخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
قد لحقتهم بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
وكان دخول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَكَّةَ فِي رمضان، واستعار النبي صلى الله عليه وسلم من
صفوان فأعطاه فيما زعموا مائة درع وأداتها، وكان أكثر شيء
سلاحا.
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بضع عشرة ليلة.
وقال ابن إسحاق: مضى النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل مر
الظهران في عشرة آلاف، فسبعت سليم، وبعهضم يقول: ألفت،
وألفت مزينة. ولم يتخلف أحد من المهاجرين والأنصار.
وقد كان العباس لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض
الطريق. قال عبد الملك بن هشام: لقيه بالجحفة مهاجرًا
بعياله.
قال ابن إسحاق: وقد كان أَبُو سُفْيَانَ بنُ الحَارِثِ بنِ
عَبْدِ المُطَّلِبِ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة؛ قد
لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيق العقاب -فيما بين
مكة والمدينة- فالتسما الدخول عليه، فكلمته أم سليم فيهما،
فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك. قال: "لا
حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو
الذي قال لي بمكة ما قال".
فلما بلغهما قوله قال أبو سفيان: والله ليأذنن لي أو لآخذن
بيد بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا. فلما
بلغ ذَلِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رق لهما، وأذن لهما، فدخلا وأسلما، وقال أبو
سفيان:
لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى
وأهتدي
هداني هاد غير نفسي ونالني ... مع الله من طردت كل مطرد
أصد وأنأى جاهدا عن محمد ... وأدعى وإن لم أنتسب من محمد
فذكروا أنه حين أنشد النبي صلى الله عليه وسلم هذه ضرب في
صدره، وقال: "أنت طردتنى كل مطرد"!
وقال سَعِيْدُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ، عَنْ عَطِيَّةَ بنِ
قيس، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرجنا
(2/112)
لغزوة فتح مكة لليلتين خلتا من شهر رمضان
صواما، فلما كنا بالكديد، أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفطر.
وقال الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صام في مخرجه ذلك حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطر
الناس. أخرجه البخاري.
وقال الأوزاعي: حدثنا يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو
سلمة، قال: دخل أبو بكر وعمر عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمر الظهران، وهو يتغدى فقال:
"الغداء" فقالا: إنا صائمان، فقال: "اعملوا لصاحبيكم،
ارحلوا لصاحبيكم، كلا، كلا". مرسل. وقوله هذا مقدر بالقول
يعني: يقال هذا لكونكما صائمين.
وقال معمر: سمعت الزهري يقول: أخبرني عبيد الله، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه
وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف، وذلك على
رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار بمن معه من
المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون، حتى بلغ الكديد؛ وهو بين
عسفان وقديد؛ فأفطر، وأفطر الناس.
قال الزهري: وكان الفطر آخر الأمرين. وإنما يؤخذ بالآخر
فالآخر مِنْ أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الزهري: فصبح رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان.
أخرجه البخاري، ومسلم دون قول الزهري. وكذا ورخه يونس عن
الزهري.
وقال عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق، عن ابن شهاب، ومحمد
بن علي بن الحسين، وعمرو بن شعيب، وعاصم بن عمر وغيرهم،
قالوا: كان فتح مكة في عشر بقين من رمضان.
وقال الواقدي: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأربعاء لعشر خلون من رمضان
بعد العصر، فما حل عقدة حتى انتهى إلى الصلصل. وخرج
المسلمون وقادوا الخيل وامتطوا الإبل. وكانوا عشرة آلاف.
وذكر عروة وموسى بن عقبة أنه صلى الله عليه وسلم خرج في
اثني عشر ألفا.
وقال ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن الزُّهْرِيُّ، عَنْ
عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءه العباس بأبي سفيان
فأسلم بمر الظهران. فقال: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل
يحب الفخر، فلو جعلت له شيئا؟ قال: "نعم، من دخل دار أبي
سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن".
(2/113)
زاد فيه الثقة، عن ابن إسحاق قال: ناده،
فقال أبو سفيان: وما تسع داري؟ قال: "من دخل الكعبة فهو
آمن"، قال: وما تسع الكعبة؟ قال: "من دخل المسجد فهو آمن".
قال: وما يسع المسجد؟ قال: "من أغلق بابه فهو آمن". فقال:
هذه واسعة.
وقال حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، قال: فلما نزل رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، قال العباس وقد
خَرَجَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
من المدينة: يا صباح قريش، والله لئن بغتها رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البَيْضَاءِ، وقال:
أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطابا أو صاحب لبن، أو داخلا
يدخل مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليأتوه فيستأمنوه، فخرجت فوالله إني لأطوف بالأراك إذ سمعت
صوت أبي سُفْيَانَ وَحَكِيْمَ بنَ حِزَامٍ وَبُدَيْلَ بنَ
وَرْقَاءَ وقد خرجوا يتجسسون الخبر عَنْ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسمعت صوت أبي سفيان
وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط نيرانا، فقال بديل: هذه نيران
خزاعة حمشتها الحرب، فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك
وأذل.
فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فقال: أبو الفضل؟ قلت:
نعم. فقال: لبيك، فداك أبي وأمي، ما وراءك؟ قلت: هَذَا
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
الناس قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به في عشرة آلاف من
المسلمين. قال: فكيف الحيلة، فداك أبي وأمي؟ فقلت: تركب في
عجز هذه البغلة، فأستأمن لَكِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ والله لئن ظفر بك
ليضربن عنقك. فردفني فخرجت أركض به نحو رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين نظروا إلي
وقالوا: عم رسول الله على بغلة رسول الله. حتى مررت بنار
عمر فقال: أبو سفيان؟! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد
ولا عقد. ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وركضت
البغلة حتى اقتحمت باب القبة وسبقت عمر بما تسبق به الدابة
البطيئة الرجل البطيء.
ودخل عمر، فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله، قد
أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه. فقلت:
يا رسول الله، إني قد آمنته. ثم جلست إِلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذت برأسه وقلت:
والله لا يناجيه الليلة أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر، قلت:
مهلا يا عمر، فوالله ما تصنع هذا إلا؛ لأنه رجل من بني عبد
مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا. مهلا يا
عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام
الخطاب لو أسلم، وما ذاك إلا أني قد عرفت أن إسلامك كَانَ
أَحَبَّ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال: رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "اذهب به فقد آمناه، حتى تغدو به علي
الغداة"، فرجع به العباس إلى منزله.
فلما أصبح غدا به عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ويحك يا أبا
(2/114)
"سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إلا
الله"؟ فقال: بأبي وأمي ما أوصلك وأكرمك، والله لقد ظننت
أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا بعد. فقال: "ويحك
أولم يأن لك أن تعلم أني رسول الله"؟ قال: بأبي أنت وأمي
ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، أما هذه فإن في النفس منها شيئا.
قال العباس: فقلت: ويلك تشهد شهادة الحق قبل، والله، أن
تضرب عنقك. فتشهد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تشهد: "انصرف به يا
عباس فاحبسه عند حطم الجبل بمضيق الوادي، حتى تمر عليه
جنود الله".
فقلت له: إن أبا سفيان يا رسول الله رجل يحب الفخر، فاجعل
له شيئا يكون له في قومك. فقال: " نعم، من دخل دار أبي
سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو
آمن". فخرجت به حتى حبسته عند حطم الجبل بمضيق الوادي،
فمرت عليه القبائل، فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سليم.
فيقول: ما لي ولسليم. وتمر به القبيلة فيقول: من هذه؟
فأقول: أسلم. فيقول ما لي ولأسلم. وتمر جهينة. حتى مَرَّ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، في الحديد، لا يرى
منهم إلا الحدق. فقال يا أبا الفضل من هؤلاء؟ فقلت: هَذَا
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
المهاجرين والأنصار، فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن
أخيك عظيما. فقلت: ويحك، إنها النبوة. قال: فنعم إذن.
قلت: الحق الآن بقومك فحذرهم. فخرج سريعا حتى جاء مكة،
فصرخ في المسجد: يا معشر قريش؛ هذا محمد قد جاءكم بما لا
قبل لكم به. فقالوا: فمه؟ قال: "من دخل داري فهو آمن".
قالوا: وما دارك، وما تغني عنا؟ قال: "من دخل المسجد فهو
آمن، ومن أغلق داره عليه فهو آمن".
هكذا رواه بهذا اللفظ ابن إسحاق، عن حُسَيْنُ بنُ عَبْدِ
اللهِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس
موصولا، وأما أيوب السختياني فأرسله. وقد رواه ابن إدريس،
عن ابن إسحاق، عن الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ بمعناه.
وقال عروة: أخبرني نافع بن جبير بن مطعم، قال: سمعت العباس
يقول للزبير: يا أبا عبد الله، ههنا أمرك رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تركز الراية. قال:
وأمر رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَئِذٍ خالد بن الوليد أن يدخل مكة من كداء. ودخل
النبي صلى الله عليه وسلم من كداء، فقتل من خيل خالد يومئذ
رجلان: جيش بن الأشعر، وكرز بن جابر الفهري.
وقال الزهري، وغيره: أخفى الله مسير النبي صلى الله عليه
وسلم على أهل مكة، حتى نزل بمر الظهران.
وفي مغازيه موسى بن عُقْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لخالد بن الوليد: "لم
قاتلت، وقد نهيتك
(2/115)
"عن القتال"؟ قال: هم بدؤونا بالقتال
ووضعوا فينا السلاح وأشعرونا بالنبل، وقد كففت يدي ما
استطعت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله
خير".
ويقال: قال أبو بكر يومئذ: يا رسول الله أراني في المنام
وأراك دنونا من مكة، فخرجت إلينا كلبة تهر، فلما دنونا منه
استلقت على ظهرها، فإذا هي تشخب لبنا. فقال: "ذهب كلبهم
وأقبل درهم، وهم سائلوكم بأرحامكم وإنكم لاقون بعضهم، فإن
لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه". فلقوا أبا سفيان وحكيما بمر.
وقال حسان:
عدمت بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيْرُ
النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كداء
ينازعن الأعنة مصحبات ... تلطمهن بِالخُمُرِ النِّسَاءُ
فَإِنْ أَعْرَضْتُمُ عَنَّا اعْتَمَرْنَا ... وَكَانَ
الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعز الله فيه من يشاء
وَجِبْرِيْلٌ رَسُوْلُ اللهِ فِيْنَا ... وُرُوْحُ
القُدْسِ لَيْسَ له كفاء
هَجَوْتَ مُحَمَّداً فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللهِ
فِي ذاك الجزاء
فَمَنْ يَهْجُو رَسُوْلَ اللهِ مِنْكُم ... وَيَمْدَحُهُ
وَيَنْصُرُهُ سواء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري ما تكدره الدلاء
فذكروا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تبسم إلى أبي بكر حين رأى النساء يلطمن الخيل
بالخمر؛ أي: ينفضن الغبار عن الخيل.
وقال اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي خَالِدِ بنِ يَزِيْدَ، عَنْ
سَعِيْدِ بنِ أَبِي هلال، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن
إبراهيم، عن أبي سلمة، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اهجوا
قريشا فإنه أشد عليها من رشق النبل". وأرسل إلى ابن رواحة
فقال: "اهجهم". فلما فهجاهم فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن
مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت. فلما دخل قال: "قد آن لكم
أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه". ثم أدلع لسانه
فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم فري الأديم.
فقال رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لاَ تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وإن لي فيهم
نسبا، حتى يخلق لك نسبي". فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول
الله قد أخلص لي نسبك، فوالذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما
تسل الشعرة من العجين.
(2/116)
قالت عائشة: فَسَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول لحسان: "إن روح
القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله". وقالت:
سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول: "هجاهم حسان فشفى وأشفى". وذكر الأبيات،
وزاد فيها:
هجوت محمدا برا حنيفا ... رسول الله شيمته الوفاء
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ
مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وقاء
فَإِنْ أَعْرَضْتُمُ عَنَّا اعْتَمَرْنَا ... وَكَانَ
الفَتْحُ وَانْكَشَفَ الغطاء
وَقَالَ اللهُ: قَدْ أَرْسَلْتُ عَبْداً ... يَقُوْلُ
الحَقَّ لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ
وَقَالَ اللهُ: قَدْ سَيَّرْتُ جندا ... هم الأنصار عرضتها
اللقاء
لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء
أخرجه مسلم1.
وقال سليمان بن المغيرة وغيره: حدثنا ثابت البناني، عن عبد
الله بن رباح قال: وفدنا إلى معاوية ومعنا أبو هريرة، وكان
بعضنا يصنع لبعض الطعام. وكان أبو هريرة ممن يصنع لنا
فيكثر، فيدعو إلى رحله. قلت: لو أمرت بطعام فصنع ودعوتهم
إلى رحلي، ففلعت.
ولقيت أبا هريرة بالعشي فقلت: الدعوة عندي الليلة. فقال:
سبقتني يا أخا الأنصار. قال: فإنهم لعندي إذ قال أبو
هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار؟ فذكر
فتح مكة. وقال: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليد على إحدى المجنبتين،
وبعث الزبير على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على
الحسر؟ ثم رآني فقال: "يا أبا هريرة". قلت: لبيك وسعديك يا
رسول الله. قال: "اهتف لي بالأنصار ولا تأتني إلا
بأنصاري". قال: ففعلته. ثم قال: "انظروا قريشا وأوباشهم
فاحصدوهم حصدا".
فانطلقنا فما أحد منهم يوجه إلينا شيئا، وما منا أحد يريد
أحدا منهم إلا أخذه. وجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله:
أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى
السلاح فهو آمن". فألقوا سلاحهم.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2490" من طريق الليث، به.
قوله: "أدلع لسانه": أي أخرجه عن الشفتين.
لأفرينهم: أي لأمزقن أعراضهم تمزيق الجلد.
(2/117)
وَدَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبدأ بالحجر فاستلمه، ثم طاف سبعا وصلى
خلف المقام ركعتين.
ثم جاء ومعه القوس آخذ بسيتها، فجعل يطعن بها في عين صنم
من أصنامهم، وهو يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:
81] ، ثم انطلق حتى أتى الصفا، فعلا منه حتى يرى البيت،
وجعل يحمد الله ويدعوه، والأنصار عنده يقولون: أما الرجل
فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته. وجاء الوحي، وكان
الوحي، إذا جاء لم يخف علينا. فلما أن رفع الوحي، قال: "يا
معشر الأنصار قلتم كذا وكذا، فما اسمي إذا؟ كلا، إني عبد
الله ورسوله. المحيا محياكم والممات مماتكم". فأقبلوا
يبكون وقالوا: يا رسول الله ما قلت إلا الضن بالله
وبرسوله. فقال: "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم".
أخرجه مسلم1، وعنده: "كلا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى
الله وإليكم".
وفي الحديث دلالة على الإذن بالقتل قبل عقد الأمان.
وقال سلام بن مسكين: حدثني ثابت البناني، عن عبد الله بن
بارح، عن أبي هريرة، قال: ما قتل يوم الفتح إلا أربعة. ثم
دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم.
ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ثم أتى الكعبة
فأخذ بعضادتي الباب، فقال: "ما تقولون وما تظنون"؟ قالوا:
نقول: ابن أخ وابن عم حليم رحيم". فقال: "أقول كما قال
يوسف: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92] ". قال: فخرجوا كما نشروا من
القبور، فدخلوا في الإسلام.
وقال عروة، عن عائشة: دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الفتح من كداء من أعلى
مكة2.
وقال عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عمر، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفتح رأى النساء يلطمن وجوه
الخيل بالخمر، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي
بكر، وقال: "كيف قال حسان"؟ فأنشده أبو بكر:
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء
ينازعن الأعنة مسرجات ... يلطمهن بالخمر النساء
__________
1 صحيح: أخرجه الطيالسي "2424"، وابن أبي شيبة "14/
471-473"، وأحمد "2/ 538"، ومسلم "1780" "84" "85"، وأبو
داود "1872"، والبيهقي "9/ 117-118" من طريق سليمان بن
المغيرة، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4290" من طريق حفص بن ميسرة، عن
هشام بن عروة، عن أبيه، به.
(2/118)
فقال: "ادخلوا من حيث قال حسان".
وقال الزهري: عن أنس، دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفتح مكة وعلى رأسه،
المغفر، فلما وضعه جاء رجل فقال: هذا ابن خطل متعلق بأستار
الكعبة. فقال: "اقتلوه". متفق عليه1.
وكان صلى الله عليه وسلم قد أهدر دم ابن خطل وثلاثة غيره.
وقال منصور بن أبي مزاحم: حدثنا أبو معشر، عن يوسف بن
يعقوب، عن السائب بن يزيد، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل عبد الله بن خطل
يوم أخرجوه من تحت الأستار، فَضَرَبَ عُنُقَهُ بَيْنَ
زَمْزَمَ وَالمَقَامِ، ثُمَّ قَالَ: "لا يقتل قرشي بعدها
صبرا".
وقال معاوية بن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عَنْ جَابِرٍ
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ وَعَلَيْهِ عمامة سوداء
بغير إحرام، أخرجه مسلم.
وفي مسند الطيالسي: حدثنا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل يوم الفتح وعليه
عمامة سوداء.
وقال مساور الوراق: سمعت جَعْفَرِ بنِ عَمْرِو بنِ
حُرَيْث، عَنْ أَبِيْهِ، قال: كأني أنظر إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة،
وعليه عمامة سوداء حرقانية، قد أرخى طرفها بين كتفيه.
أخرجه مسلم 2.
وقال ابن إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي بَكْرٍ،
أَنَّ عائشة قالت: كَانَ لِواءُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الفتح أبيض، ورايته
سوداء؛ قطعه مرط لي مرحل، وكانت الراية تسمى العقاب.
قال عبد الله بن أبي بكر، لما نزل رسول الله صلى الله عليه
وسلم بذي طوى ورأى ما أكرمه الله به من الفتح جعل يتواضع
لله حتى إنك لتقول: قد كاد عثنونه أن يصيب واسطة الرحل.
وقال ثابت، عن أنس: دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الفتح وذقنه على رحله متخشعا.
حديث صحيح.
وقال شعبة، عن معاوية بن قرة، سمع عبد الله بن مغفل، قال:
قرأ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ الفتح سورة الفتح وهوعلى بعير، فرجع فيها. ثم قرأ
معاوية يحكي قراءة ابن مغفل عن
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4286"، ومسلم "1357" من طريق مالك
بن أنس، عن ابن شهاب، به.
2 صحيح: أخرجه مسلم "1358" "453" من طريق أبي أسامة، عن
مساور الوراق، به.
(2/119)
النبي صلى الله عليه وسلم فرجع وقال: لولا
أن يجتمع الناس لرجعت كما رجع ابن مُغَفَّلٍ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متفق عليه،
ولفظه للبخاري1.
وقال ابْنِ أَبِي نَجِيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي
معمر، عن عبد الله بن مسعود، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يوم الفتح،
وحول الكعبة ثلاثة مائة وستون نصبا، فجعل يطعنها بعود في
يده ويقول: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ
الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] ، {جَاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}
[الإسراء: 81] 2، متفق عليه.
وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي
بكر، عَنْ عَلِيِّ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ، عَنْ
أبيه، قال: دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ الفتح، وعلى الكعبة ثلاث مائة صنم، فأخذ
قضيبه فجعل يهوي به إلى صنم صنم، وهو يهوي حتى مر عليها
كلها. حديث حسن.
وقال القاسم بن عبد الله العمري -وهو ضعيف- عن عبد الله
دينار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما دخل مكة وجد بها ثلاث مائة
وستين صنما. فأشار إلى كل صنم بعصا من غير أن يسمها، وقال:
{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ
كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] ، فكان لا يشير إلى صنم إلا
سقط.
وقال عبد الوارث، عن أَيُّوْبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مكة، أبى أن يدخل البيت وفيه
الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل وفي
أيديهما الأزلام، فقال: "قاتلهم الله، أما والله قد علموا
أنهما لم يستقسما بها قط".
ودخل البيت وكبر في نواحيه. أخرجه البخاري 3.
وقال معمر، عن أَيُّوْبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا رأى الصور في البيت لم يدخله حتى أمر بها
فمحيت. ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام، فقال:
"قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط" 4. صحيح.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4281".
2 صحيح: أخرجه أحمد "1/ 377"، والبخاري "2478"و
"4287"و"4720" و"1781"، والترمذي "3138" والطبراني
"10427"، والبيهقي "6/ 101" من طرق عن سفيان، عن ابن أبي
نجيح، به.
3 صحيح: أخرجه أحمد "1/ 334"، والبخاري "1601" و"4288"،
وأبو داود "2027"، والبيهقي "5/ 158"، والبغوي "3815" من
طريق عبد الوارث، به.
4 صحيح: أخرجه عبد الرزاق "19485"، وأحمد "1/ 365"،
والبخاري "3352"، والحاكم "2/ 550"، والطبراني "11845"،
والبغوي "3214" من طريق معمر، به.
(2/120)
وروى أبو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدخل
البيت حتى محيت الصور. صحيح.
وقال هوذة: حدثنا عوف الأعرابي، عن رجل، قال: دَعَا
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ
الفتح، شيبة بن عثمان فأعطاه المفتاح، وقال له: "دونك هذا،
فأنت أمين الله على بيته".
قال الواقدي: هذا غلط، إنما أعطى المفتاح عثمان بن طلحة؛
ابن عم شيبة؛ يوم الفتح، وشيبة يومئذ كافر. ولم يزل عثمان
على البيت حتى مات ثم ولي شيبة.
قلت: قول الواقدي: لم يزل عثمان على البيت حتى مات، فيه
نظر، فإن أراد لم يزل منفردا بالحجابة، فلا نسلم، وإن أراد
مشاركا لشيبة، فقريب، فإن شيبة كان حاجبا في خلافة عمر.
ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولى الحجابة لشيبة لم
أسلم، وكان إسلامه عام الفتح، لا يوم الفتح.
وقال محمد بن حمران: حدثنا أبو بشر، عن مسافع بن شيبة، عن
أبيه، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الكعبة يصلي، فإذا فيها تصاوير، فقال: "يا شيبة،
اكفني هذه". فاشتد ذلك عليه.
فقال له رجل: طينها ثم الطخها بزعفران. ففعل.
تفرد بن محمد، وهو مقارب الأمر.
وقال يونس، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرُ: إِنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أقبل يوم
الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة، ومعه بلال
وعثمان بن طلحة، من الحجبة، حتى أناخ في المسجد، فأمر
عثمان أن يأتي بمفتاح البيت، ففتح وَدَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أسامة وبلال وعثمان،
فمكث فيها نهارا طويلا، ثم خرج فاستبق الناس، وكان عبد
الله بن عمر أول من دخل، فوجد بلالا وراء الباب، فسأله:
أين صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ فأشار إلى المكان الذي صلى فيه.
قال ابن عمر: فنسيت أن أسأله: كم صلى من سجدة؟. صحيح. علقه
البخاري محتجا به.
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عَنْ
عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي ثور، عن صفية
بنت شيبة، قالت: لما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمكة، طاف على بعيره، يستلم "الحجر" بالمحجن. ثم دخل
الكعبة فوجد حمامة عيدان فاكتسرها، ثم قال بها على باب
الكعبة -وأنا أنظر- فرمى بها.
وذكر أسباط، عن السدي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: لما
كان يوم فتح مكة، آمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس،
إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: "اقتلوهم، وإن وجدتموهم
متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن
خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح". فأما
ابن خطل فأدرك وهو متعلق بالأستار، فاستبق إليه سعيد بن
(2/121)
حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عمارا،
فقتله. وأما مقيس فقتلوه في السوق. وأما عكرمة فركب البحر،
وذكر قصته، ثم أسلم، وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند عثمان،
فلما دَعَا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الناس إلى البيعة، جاء به عثمان حتى أوقفه عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رسول الله، بايع عبد الله. فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا،
كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث. ثم أقبل على أصحابه فقال:
"أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا، حيث رآني كففت،
فيقتله"؟. قالوا: ما يدرينا يا رسول الله، ما في نفسك، هلا
أومأت إلينا بعينك؟ قال: "إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة
الأعين".
وقال ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي
بَكْرٍ، قال: قدم مقيس بن صبابة عَلَى رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، وقد أظهر
الإسلام، يطلب بدم أخيه هشام، وكان قتله رجل من المسلمين
يوم بني المصطلق ولا يحسبه إلا مشركا، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إنما قتل أخوك خطأ". وأمر له بديته،
فأخذها، فمكث مع المسلمين شيئا، ثم عدا على قاتل أخيه
فقتله، ولحق بمكة كافرا.
فامر رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-عَامَ الفتح- بقتله، فقتله رجل من قومه يقال له: نميلة بن
عبد الله؛ بين الصفا والمروة.
وحدثني عبد الله بن أبي بكر، وأبو عبيدة بن محمد بن
عَمَّارٍ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إنما أمر بقتل ابن أبي سرح؛ لأنه كان قد أسلم،
وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فرجع مشركا
ولحق بمكة.
قال ابن إسحاق: وإنما أمر بقتل عبد الله بن خطل؛ أحد بني
تميم بن غالب؛ لأنه كان مسلما، فبعثه رسول الله صلى الله
عليه وسلم مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى
يخدمه وكان مسلمًا. فنزلا منزلا، فأمر المولى أن يذبح تيسا
ويصنع له طعامًا، ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فقتله
وارتد. وكان له قينة وصاحبتها تغنيان بهجاء رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بقتلهما معه،
وكان ممن يُؤْذِي رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَقَالَ يَعْقُوْبُ القُمِّيُّ: حَدَّثَنَا جَعْفَرِ بنِ
أَبِي المُغِيْرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى، قال: لما
افْتَتَحَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مكة، جاءت عجوز حبشية شمطاء تخمش وجهها وتدعو
بالويل. فقيل: يا رسول الله، رأينا كذا وكذا. فقال: "تلك
نائلة أيست أن تعبد ببلدكم هذا أبدا". كأنه منقطع.
وقال يونس بن بكير، عن زكريا، عن الشعبي، عن الحارث بن
ملك؛ هو ابن برصاء؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفتح يقول: "لا تغزى مكة
بعد اليوم أبدا إلى يوم القيامة".
(2/122)
وقال محمد بن فضيل: حدثنا الوليد بن جميع،
عن أبي الطفيل، قال: لَمَّا فَتَحَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة،
وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات، فقطع
السمرات وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتي النبي صلى الله
عليه وسلم فأخبره، فقال: "ارجع، فإنك لم تصنع شيئا". فرجع
خالد، فلما نظرت إليه السدنة؛ وهم حجابها؛ أمعنوا في الجبل
وهم يقولون: يا عزى خبليه، يا عزى عوريه، وإلا فموتي برغم.
فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب
على رأسها، فعممها بالسيف حتى قتلها.
ثم رجع إلى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: "تلك العزى". أبو الطفيل له رؤية.
وقال ابن إسحاق: حدثني أبي، قال: حدثني بعض آل جبير بن
مطعم أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لما دخل مكة، أمر بلالا فعلا على ظهر الكعبة،
فأذن عليها، فقال بعض بني سعيد بن العاص: لقد أكرم الله
سعيدا قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.
وقال عروة: أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بلالا يوم الفتح فأذن على الكعبة.
وقال اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيْدَ بنِ أَبِي حَبِيْبٍ، عَنْ
سعيد بن أبي هند: أن أبا مرة مولى عقيل حدثه، أن أم هانئ
بنت أبي طالب حدثته؛ أنه لما كان عام الفتح فر إليها رجلان
من بني مخزوم، فأجارتهما. قالت: فدخل علي علي، فقال:
أقتلهما. فَأَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو بأعلى مكة، فلما رآني رحب بي،
فقال: "ما جاء بك يا أم هانئ"؟ قالت: يا نبي الله، كنت قد
أمنت رجلين من أحمائي فأراد علي قلتهما. فقال: "قد أجرنا
من أجرت". ثم قام إلى غسله، فسترت عليه فاطمة. ثم أخذ ثوبا
فالتحف به ثم صلى ثمان ركعات؛ سبحة الضحى.
أخرجه مسلم.
وقال الليث، عن المقبري، عن أبي شريح العدوي، أنه قال
لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها
الأمير، أحدث قولا قام بِهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغد من يوم الفتح؟ سمعته أذناي ووعاه
قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به؛ أنه حمد الله وأثنى عليه،
ثم قال: "إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، ولا يحل لامرئ
يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها
شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيْهَا، فقولوا له: إن الله قد أذن
لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار. وقد
عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس. فليبلغ الشاهد الغائب".
فقيل لأبي شريح: ماذا قال لك عمرو؟ قال: قال: أنا أعلم
بذاك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا
بدم ولا فارا بخربة. متفق عليه.
(2/123)
وقال ابن عيينة، عن علي بن زيد، عمن حدثه
عن ابن عمر، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتح مكة وهو على درجة الكعبة: "الحمد
لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا إن
قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا فيه مائة من الإبل، منها
أربعون خلفة في بطونها أولادها. ألا إن كل مأثرة في
الجاهلية ودم مال تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سدانة
البيت وسقاية الحاج، فقد أنضيتها لأهلها". ضعيف الإسناد.
وقال ابن إسحاق: حَدَّثَنِي عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ، عَنْ
أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه
وسلم الناس عام الفتح، ثم قال: "أيها الناس؛ ألا إنه لا
حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام
لا يزيده إلا شدة. والمؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم
أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، ترد سراياهم على قعيدتهم. لا
يقتل مؤمن بكافر. 8 دية الكافر نصف دية المسلم. لا جلب ولا
جنب. ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم".
وقال أبوالزناد، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "منزلنا، إن
شاء الله إذا فتح الله، الخيف؛ حيث تقاسموا على الكفر".
أخرجه البخاري.
وقال أبو الأزهر النيسابوري: حدثنا محمد بن شرحبيل
الأبناوي، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنا عبد الله بن
عثمان، أن محمد بن الأسود بن خلف، أخبره أن أباه الأسود
حضر النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح، وجلس
عند قرن مستقلة، فجاءه الصغار والكبار والرجال والنساء
فبايعوه على الإسلام والشهادة.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله،
عَنِ أَبِيْهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قالت:
لما كان عام الفتح ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا
طوى، قال أبو قحافة لابنة له كانت من أصغر ولده: أي بنية:
أشرفي بي على أبي قبيس، وقد كف بصره. فأشرفت به عليه.
فقال: ماذا ترين؟ قالت: أرى سوادًا مجتمعا، وأرى رجلا يشتد
بين ذلك السواد مقبلا ومدبرا. فقال: تلك الخيل يا بنية،
وذلك الرجل الوازع. ثم قال: ماذا ترين؟ قالت: أرى السواد
انتشر. فقال: فقد والله إذن دفعت الخيل، فأسرعي بي إلى
بيتي. فخرجت سريعا، حتى إذا هبطت به إلى الأبطح، لقيتها
الخيل، وفي عنقها طول لها من روق، فاقتطعه إنسان من عنقها.
فلما دَخَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ المسجد، خرج أبو بكر حتى جاء بأبيه يقوده،
فَلَمَّا رَآهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "هلا تركت الشيخ في بيته حتى أجيئه"؟
فقال: يمشي هو إليك يا رسول الله أحق من أن تمشي إليه.
فأجلسه بين يديه ثم مسح صدره وقال: "أسلم تسلم".
فأسلم. ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال: أنشد بالله
والإسلام طوق أختي. فوالله ما أجابه
(2/124)
أحد، ثم قال الثانية، فما أجابه أحد، فقال:
يا أخيه، احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة اليوم في الناس
لقليل.
وقال أبو الزبير، عن جابر: أن عمر أخذ بيد أبي قحافة فأتى
به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "غيروا هذا الشيب ولا
تقربوه سوادًا" 1.
وقال زيد بن أسلم: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنأ أبا بكر بإسلام أبيه. مرسل.
وقال مالك: عن ابن شهاب: أنه بلغه أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان على عهده نساء
يسلمن بأرضهن، منهن ابنة الوَلِيْدِ بنِ المُغِيْرَةِ،
وَكَانَتْ تَحْتَ صَفْوَانَ بنِ أمية، فأسلمت يوم الفتح
وهرب صفوان، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن عمه عمير بن وهب برداء
رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَاناً لِصَفْوَانَ،
وَدَعَاهُ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَنْ يَقْدَمَ عليه، فإن
رضي أمرا قبله، وإلا سيره شهرين. فقدم فنادى على رؤوس
الناس: يا محمد، هذا عمير بن وهب جاءني بردائك وزعم أنك
دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمرا قبلته، وإلا سيرتني
شهرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انزل أبا
وهب". فقال: لا والله، لا أنزل حتى تبين لي. فقال: لَكَ
تَسْيِيْرُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. فَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ هوازن، فأرسل
إلى صفوان يستعيره أداة وسلاحا. فقال صفوان: أطوعا أو
كرها؟ فقال: بل طوعا. فأعاره الأداة والسلاح. وَخَرَجَ
مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وهو
كافر، فشهد حنينا والطائف، وهو كافر وامرأته مسلمة، فلم
يفرق رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَهُمَا حَتَّى أَسْلَمَ، وَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ
بِذَلِكَ النِّكَاحِ، وكان بين إسلامهما نحو من شهر.
وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل،
فأسلمت يوم الفتح، وهرب عكرمة حتى قدم اليمن، فارتحلت أم
حكيم حتى قدمت عليه باليمن ودعته إلى الإسلام فأسلم. وقدم
عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فلما رآه وثب فرحا به، ورمى عليه رداءه حتى بايعه، فثبتا
على نكاحهما ذلك.
وقال الواقدي: حدثني عَبْدُ اللهِ بنُ يَزِيْدَ
الهُذَلِيُّ، عَنْ أَبِي حصين الهذلي، قال: استقرض رسول
الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية خمسين ألف درهم،
ومن عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألفا، ومن حويطب بن عبد
العزى أربعين ألفا، فقسمها بين أصحابه من أهل الضعف. ومن
ذلك المال بعث إلى جذيمة.
__________
1 أخرجه عبد الرزاق "20179"، وأحمد "3/ 316و 322و 338"،
ومسلم "2102" "78" و"79"، وأبو داود "4204"، والنسائي "8/
138"، والحاكم "3/ 244"، وأبو يعلى "1819" والبيهقي "7/
310"، والبغوي "3179" من طرق عن أبي الزبير، به.
(2/125)
وقال يونس: عن ابن شهاب، حدثني عروة، قال:
قالت عائشة: إن هند بنت عتبة بن ربيعة، قالت: يا رسول
الله، ما كان مما على ظهر الأرض أخباء أو خباء أحب إلي أن
يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل
خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك. قَالَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وأيضا، والذي نفس
محمد بيده". قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل ممسك
-أبو قالت: مسيك- فهل على من خرج أن أطعم من الذي له؟ قال:
"لا، إلا بالمعروف". أخرجه البخاري.
وأخرجاه، من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري. وعنده: فهل
علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا. قال: "لا عليك أن
تطعميهم بالمعروف".
وقال الفريابي: حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، عن أبي السفر،
عن ابن عباس، قال: رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يمشي والناس يطأون عقبه. فقال في نفسه: لو عاودت هذا
الرجل القتال. فجاءه رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ضرب في صدره، فقال: "إذا يخزيك
الله". قال: أتوب إلى الله وأستغفر الله.
وروى نحوه، مرسلا، أبو إسحاق السبيعي، وَعَبْدُ اللهِ بنُ
أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ.
وقال موسى بن أعين، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن ابن
المسيب، قال: لما كان ليلة دخل الناس مكة، لم يزالوا في
تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا. فقال أبو سفيان
لهند: أترى هذا من الله؟ ثم أصبح فغدا إِلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له:
"قلت لهند أترين هذا من الله، نعم هذا من الله". فقال:
أشهد أنك عبد الله ورسوله، والذي يحلف به أبو سفيان، ما
سمع قولي هذا أحد من الناس إلا الله وهند.
وقال ابن المبارك: أخبرنا عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أقام رسول الله صلى الله
عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما، يصلي ركعتين. أخرجه
البخاري.
وقال حفص بن غياث، بن عاصم الأحول: سبعة عشر يوما. صحيح.
وقال ابن علية: أَخْبَرَنَا عَلِيِّ بنِ زَيْدٍ، عَنْ
أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ عمران بن حصين: غزوت مع النبي صلى
الله عليه وسلم، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا
ركعتين، يقول: يا أهل البلد صلوا أربعا، فإنا سفر. أخرجه
أبو داود، علي ضعيف.
وقال ابن إسحاق، عَنِ الزُهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ
بنِ عَبْدِ الله: أقام رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة.
(2/126)
ثم روى ابن إسحاق، عن جماعة، مثل هذا.
قال البيهقي: الأصح رواية ابن المبارك التى اعتمدها
البخاري.
وقال الواقدي: وفي رمضان بعثة خالد بن الوليد إلى العزى،
فهدمها. وبعث عمرو بن العاص إلى سواع في رمضان، وهو صنم
هذيل، فهدمه، وقال: قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.
قال: وفي رمضان بعث سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة، وكانت
بالمشلل، للأوس والخزرج وغسان. فلما كان يوم الفتح بَعَثَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدِ
بن زيد الأشهلى في عشرين فارسا حتى انتهى إليها، وتخرج إلى
سعد امرأة سوداء عريانة ثائرة الرأس تدعو بالوبل، فقال لها
السادن: مناة، دونك بعض غضباتك. وسعد يضربها، فقتلها،
وأقبل إلى الصنم، فهدموه لست بقين من رمضان.
وقال منصور، عن مجاهد، عن طاووس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفتح، ولكن جهاد ونية،
وإن استنفرتم فانفروا". قاله يوم الفتح. متفق عليه1.
وقال عَمْرِو بنِ مُرَّةَ: سَمِعْتُ أَبَا البَخْتَرِيِّ
يُحَدِّثُ عن أبي سعيد الخدري، قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، قرأها رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قال: "إني
وأصحابي حيز والناس حيز، لا هجرة بعد الفتح". فحدثت به
مروان بن الحكم -وكان على المدينة- فقال: كذبت. وعنده زيد
بن ثابت، ورافع بن خديج، وكانا معه على السرير. فقلت: إن
هذين لو شاءا لحدثاك، ولكن هذا؛ يعني زيدا؛ يخاف أن تنزعه
عن الصدقة، والآخر يخاف أن تنزعه عن عرافة فومه. قال: فشد
عليه بالدرة، فلما رأيا ذلك قالا: صدق.
وقال حماد بن زيد، عن أيوب: حدثني أبو قلابة، عن عمرو بن
سلمة، ثم قال: هو حي، ألا تلقاه فتسمع منه؟ فلقيت عمرا
فحدثني بالحديث، قال: كنا بممر الناس، فتمر بنا الركبان
فنسألهم: ما هذا الأمر؟ وما للناس؟ فيقولون: نبي يزعم أن
الله قد أرسله، وأن الله أوحى إليه كذا وكذا. وكانت العرب
تلوم بإسلامها الفتح، ويقولون: أنظروه، فإن ظهر فهو نبي
فصدقوه، فلما كان وقعة الفتح نادى كل قوم بإسلامهم، فانطلق
أبي بإسلام حوائنا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدم فأقام عنده كذا وكذا. ثم جاء
فتلقيناه، فقال: جئتكم من عند رسول الله حقا، وإنه يأمركم
بكذا، وصلاة كذا وكذا، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم،
وليؤمكم أكثرك قرآنا. فنظروا في أهل حوائنا فلم يجدوا أكثر
قرآنا مني فقدموني، وأنا ابن سبع سنين، أو ست سنين. فكنت
أصلي بهم، فإذا سجدت تقلصت بردة علي. تقول امرأة من الحي:
غطوا عنا است قارئكم هذا. قال: فكسيت معقدة من معقد
البحرين بستة دراهم أو بسبعة، فما فرحت بشيء كفرحي بذلك.
أخرجه البخاري2، عن سليمان بن حرب، عنه، والله أعلم.
__________
1 صحيح: أخرجه عبد الرزاق "9713"، وأحمد "1/ 226و 266و
315-316و 355"، والبخاري "1834" "2783" و "2825"و "3077"،
ومسلم "1353"، وأبو داود "2480"، والترمذي "1590"،
والنسائي "7/ 146"، والدارمي "2/ 239"، وابن الجارود
"1030"، والطبراني "10944"، والبيهقي "5/ 195" و"9/ 16"،
والبغوي "2003" من طرق عن منصور، به.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4302" حدثنا سليمان بن حرب، به.
قوله: "تلوم" بفتح أوله واللام وتشديد الواو: أي تنتظر.
تقلصت: أي انجمعت وارتفعت.
(2/127)
غزوة بني جذيمة:
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا
فيما حول مكة يدعوم إلى الله -تعالى- ولم يأمرهم بقتال.
فكان ممن بعث، خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة
داعيا، ولم يبعثه مقاتلا، فوطئ بني جذيمة بن عامر بن عبد
مناة بن كنانة، فأصاب منهم.
وقال مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ
أَبِيْهِ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليد إلى -أحسبه قال:- بني
جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام. فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا،
فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا. وجعل خالد بهم قتلا وأسرا،
ودفع إلى كل رجل منا أسيره. حتى إذا أصبح يوما أمر خالد أن
يقتل كل رجل منا أسيره. فقال ابن عمر: فقلت: والله لا أقتل
أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره. قال: فقدموا عَلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر له
صنيع خالد. فقال؛ ورفع يديه صلى الله عليه وسلم:
"اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ
خَالِدٌ". مرتين. أخرجه البخاري1.
وقال ابن إسحاق: حدثني حَكِيْمِ بنِ حَكِيْمِ بنِ
عَبَّادِ، بنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ
بنِ عَلِيٍّ، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد، فخرج حتى نزل
ببني جذيمة، وهم على مائهم، وكانوا قد أصابوا في الجاهلية
عمه الفاكه بن المغيرة، ووالد عبد
__________
1 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه أحمد "2/ 150-151"،
والبخاري "4339" و"7189"، والنسائي "8/ 236-237و 237" من
طريق معمر، به.
(2/128)
الرحمن بن عوف؛ فذكر الحديث، وفيه: فأمر
خالد برجال منهم فأسروا وضربت أعناقهم.
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اللهم إني أبرأ إليك مما عمل خالد بن
الوليد". ثم دَعَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلِيّاً فقال: "اخرج إلى هؤلاء القوم، فأد
دماءهم وأموالهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك". فخرج
علي، وقد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مالا، فودى
لهم دماءهم وأموالهم، حتى إنه ليعطيهم ثمن ميلغة1 الكلب،
فبقي مع علي بقية من مال، فقال: أعطيكم هذا احتياطا لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فيما لا يعلم رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وفيما لا تعلمون.
فأعطاهم إياه، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبره الخبر، فقال: "أحسنت
وأصبت".
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي يعقوب بن عتبة بن المغيرة، عن الزهري، قال:
حدثني ابن أبي حدرد، عن أبيه، قال: كنت في الخيل التي أصاب
فيها خالد بني جذيمة، إذا فتى منهم مجموعة يده إلى عنقة
برمة -يقول: بحبل- فقال: يا فتى، هل أنت آخذ بهذه الرمة
فمقدمي إلى هذه النسوة، حتى أقضي إليهن حاجة، ثم تصنعون ما
بدا لكم؟
فقلت: ليسير ما سألت. ثم أخذت برمته فقدمته إليهن، قال:
أسلم حبيش، على نفاد العيش، ثم قال:
أرأيت إن طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو أدركتكم بالخوانق
ألم يك حقا أن ينول عاشق ... تكلف إدلاج السرى والودائق
فلا ذنب لي، قد قلت، إذ أهلنا معا ... أثيبي بود قبل إحدى
الصفائق
أثيبي بود قبل أن تشحط النوى ... وينأى الأمير بالحبيب
المفارق
فإني لا سر لدي أضعته ... ولا راق عيني بعد وجهك رائق
على أن ما ناب العشيرة شاغل ... عن اللهو إلا أن تكون
بوائق
فقالت: وأنت حييت عشرا، وسبعا وترا، وثمانيا تترى. ثم
قدمناه فضربنا عنقه.
قال ابن إسحاق: فحدثنا أبو فراس الأسلمي، عن أشياخ من قومه
قد شهدوا هذا مع خالد؛ قالوا: فلما قتل قامت إليه، فما
زالت ترشفه حتى ماتت عليه.
__________
1 الميلغة: الإناء الذي يلغ فيه الكلب.
(2/129)
غزوة حنين:
قال يونس، عن ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بنُ
عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ
اللهِ، عن أبيه، وحدثني عمرو بن شعيب، والزهري، وعبد الله
بن أبي بكر، عن حديث حنين، حين سار إليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وساروا إليه. فبعضهم يحدث بما لا يحدث به
بعض، وقد اجتمع حديثهم: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فرغ من فتح مكة، جمع عوف
بن مالك النصري بني نصر وبني جشم وبني سعد بن بكر، وأوزاعا
من بني هلال؛ وهم قليل؛ وناسا من بني عمرو بن عامر، وعوف
بن عامر، وأوعبت معه ثقيف الأحلاف، وبنو مالك.
ثم شار بهم إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وساق معه الأموال والنساء والأبناء، فلما سمع
بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أبي
حدرد الأسلمي، فقال: "اذهب فادخل في القوم، حتى تعلم لنا
من علمهم". فدخل فيهم، فمكث فيهم يومًا أو اثنين. ثم
أُتِيَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَهُ خبرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعمر بن الخطاب: "ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد"؟ فقال
عمر: كذب. فقال ابن أبي حدرد: والله لئن كذبتني يا عمر
لربما كذبت بالحق.
فقال عمر: ألا تسمع يا رسول الله ما يقول ابن أبي حدرد؟
فقال: "قد كنت يا عمر ضالا فهداك الله".
ثم بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى صفوان بن أمية؛ فسأله أدراعا عنده؛ مائة
درع، وما يصلحها من عدتها. فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: بل
عارية مضمونة. ثم خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سائرا.
قال ابن إسحاق: حدثنا الزهري، قَالَ: خَرَجَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى حنين في ألفين من
مكة، وعشرة آلاف كانوا معه، فسار بهم.
وقال ابن إسحاق: واستعمل على مكة عتاب بنِ أَسِيْدِ بنِ
أَبِي العِيْصِ بنِ أُمَيَّةَ.
وبالإسناد الأول: أن عوف بن مالك أقبل فيمن معه ممن جمع من
قبائل قيس وثقيف، ومعه دريد بن الصمة؛ شيخ كبير في شجار له
يقاد به، حتى نزل الناس بأوطاس. فقال دريد حين نزلوها فسمع
رغاء البعير ونهيق الحمير ويعار الشاء وبكاء الصغير: بأي
واد أنتم؟ فقالوا: بأوطاس. فقال: نعم مجال الخيل، لا حزن
ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير وبكاء الصغير
ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك مع الناس أموالهم وذراريهم.
قال: فأين هو؟ فدعي، فقال: يا مالك، إنك أصبحت رئيس قومك،
وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، فما دعاك إلى أن
تسوق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم؟ قال: أردت أن
أجعل
(2/130)
خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فأنفض
به دريد وقال: يا راعي ضأن والله؛ وهل يرد وجه المنهزم
شيء؟ إنها إن كانت لك لا ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن
كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، فارفع الأموال والنساء
والذراري إلى عليا قومهم وممتنع بلادهم.
ثم قال دريد: وما فعلت كعب وكلاب؟ فقالوا: لم يحضرها منهم
أحد. فقال فعلها: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة
لم تغب عنه كعب وكلاب ولوددت لو فعلتم فعلها، فمن حضرها؟
قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، فقال: ذانك الجذعان لا
يضران ولا ينفعان. فكره مالك أن يكون لدريد فيها رأى،
فقال: إنك قد كبرت وكبر علمك، والله لتطيعن يا معشر هوازن،
أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري فقالوا: أطعناك.
ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم
شدوا شدة رجل واحد.
وقال الواقدي: سَارَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة لست خلون من شوال، في اثني عشر
ألفا، فقال أبو بكر: لا نغلب اليوم من قلة. فانتهوا إلى
حنين، لعشر خلون من شوال، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم
أصحابه بالتعبئة، ووضع الألوية والرايات في أهلها، وركب
بغلته ولبس درعين والمغفر والبيضة. فاستقبلهم من هوازن شيء
لم يروا مثله من السواد والكثرة، وذلك في غبش الصبح. وخرجت
الكتائب من مضيق الوادي وشعبه، فحملوا حملة واحدة، فانكشفت
خيل بني سليم مولية، وتبعهم أهل مكة، وتبعهم الناس.
فَجَعَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول: "يا أنصار الله، وأنصار رسوله، أنا عبد
الله ورسوله". وثبت معه يومئذ: عمه العباس وابنه الفضل،
وعلي بن أبي طالب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب،
وأخوه ربيعة، وأبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد، وجماعة.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني أمية بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ
عَمْرِو بنِ عُثْمَانَ، أنه حدث أن مالك بن عوف بعث عيونا،
فأتوه وقد تقطعت أوصالهم، فقال: ويلكم، ما شأنكم؟ فقالوا:
أتانا رجال بيض على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا
ما ترى. فلما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد. منقطع.
وعن الربيع بن أنس، أن رجلا قال: لن نغلب من قلة. فشق ذلك
على النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ
إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} الآية [التوبة: 25] .
وقال معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، سمع أبا سلام يقول:
حدثني السلولي، أنه حدثه سهل الحنظلية، أنهم ساروا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كان
عشية، فحضرت صلاة الظهر عِنْد رَسُوْل اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء فارس، فقال: يا رسول
الله إني
(2/131)
انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا،
فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم، بظعنهم ونعمهم وشائهم،
اجتمعوا إلى حنين. فتبسم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "تلك غنيمة المسلمين غدا إن
شاء الله"، ثم قال: من يحرسنا الليلة؟ قال أنس بن أبي مرثد
الغنوي: أنا يا رسول الله. قال: فاركب فرسا له، رجاء إِلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
له: "استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من
قبلك الليلة".
فلما أصبحنا خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مصلاة فركع ركعتين، ثم قال: "هل
أحسستم فارسكم"؟ قالوا: يا رسول الله، لا. فثوب بالصلاة
فَجَعَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُصَلِّي ويلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته
وسلم قال: "أبشروا، فقد جاء فارسكم". فجعلنا ننظر إلى خلال
الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء، حتى وقف عَلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني انطلقت
حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أَمَرَنِي رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أصبحت اطلعت
الشعبين، فنظرت فلم أر أحدا. فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل نزلت الليلة"؟
قال: لا، إلا مصليا أو قاضي حاجة. فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد أوجبت، فلا
عليك أن لا تعمل بعدها". أخرجه أبو داود.
قال يونس، عن ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بنُ
عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ
اللهِ، عن أبيه، قال: خرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين،
فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فأعدوا وتهيأوا
في مضايق الوادي وأحنائه، وأقبل رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فانحط بهم في
الوادي في عماية الصبح. فلما انحط الناس ثارت في وجوههم
الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على
أحد، وانحاز رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَاتَ اليمين يقول: "أيها الناس، هلموا، إني أنا
رسول الله، أنا محمد بن عبد الله". فلا ينثني أحد، وركبت
الإبل بعضها بعضا. فَلَمَّا رَأَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الناس، ومعه رهط من أهل
بيته ورهط من المهاجرين، والعباس آخذ بحكمة بغلته البيضاء،
وثبت معه علي، وأبو سفيان، وربيعة؛ ابنا الحارث، والفضل بن
عباس، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة، ومن المهاجرين أبو بكر
وعمر. قال: ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء
أمام هوازن، إذا أدرك الناس طعن برمحه، وإذا فاته الناس
رفع رمحه لمن وراءه فيتبعوه. فلما انهزم من كان مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة، تكلم رجال منهم
بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي
هزيمتهم دون البحور. وإن الأزلام لمعه في كنانته.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: سار أبو
سفيان إلى حنين، وإنه ليظهر الإسلام، وإن الأزلام التي
يستقسم بها في كنانته.
(2/132)
قال شيبة بن عثمان العبدري: اليوم أدرك
ثأري -وكان أبوه قتل يوم أحد- اليوم أقتل محمدًا. قال:
فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي، فلم
أطلق، فعرفت أنه ممنوع.
وحدثني عاصم، عن عبد الرحمن، عَنْ أَبِيْهِ: أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رأى
من الناس ما رأى قال: "يا عباس، اصرخ: يا معشر الأنصار، يا
أصحاب السمرة". فأجابوا: لبيك لبيك. فجعل الرجل منهم يذهب
ليعطف بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه من عنقه، ويؤم
الصوت، حتى اجتمع إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم مائة. فاستعرضوا الناس، فاقتتلوا.
وكانت الدعوة أول ما كانت للأنصار، ثم جعلت آخرا بالخزرج،
وكانوا صبرا عند الحرب، وأشرف رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ركائبه؛ فنظر إلى مجتلد القوم فقال: "الآن حمي
الوطيس". قال: فوالله ما رجعت راجعة الناس إلا والأسارى
عِنْد رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقتل الله من قتل منهم، وانهزم من انهزم منهم، وأفاء الله
على رسوله أموالهم ونساءهم وأبناءهم.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ، وقاله موسى بن عُقْبَةَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى حنين، فخرج معه
أهل مكة، لم يتغادر منهم أحد، ركبانا ومشاة؛ حتى خرج
النساء مشاة؛ ينظرون ويرجون الغنائم، ولا يكرهون الصدمة
برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقال ابن عقبة: جعل أبو سفيان كلما سقط ترس أو سيف من
الصحابة، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطونيه
أحمله، حتى أوقر جمله".
قالا: فلما أصبح القوم، اعتزل أبو سفيان، وابنه معاوية،
وصفوان بن أمية، وحكيم بن حزام، وراء تل، ينظرون لمن تكون
الدبرة. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل
الصفوف؛ فأمرهم، وحضهم على القتال. فبينا هم على ذلك حمل
المشركون عليهم حملة رجل واحد، فولوا مدبرين. فقال حارثة
بن النعمان: لقد حزرت من بقي مع رسول الله حين أدبر الناس
فقلت مائة رجل. ومر رجل من قريش على صفوان، فقال: أبشر
بهزيمة محمد وأصحابه، فوالله لا يجتبرونها أبدا. فقال:
أتبشرني بظهور الأعراب؟ فوالله لرب من قريش أحب إلي من رب
الأعراب. ثم بعث غلاما له فقال: اسمع لمن الشعار؟ فجاءه
الغلام فقال: سمعتهم يقولون: يا بني عبد الرحمن، يا بني
عبد الله، يا بني عبيد الله. فقال: ظهر محمد.
وكان ذلك شعارهم في الحرب. وَإِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا غشيه القتال قام في
الركابين، ويقولون رفع يديه إلى الله -تعالى- يدعوه يقول:
"اللهم إني أنشدك ما وعدتني، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا
علينا". ونادى أصحابه: "يا أصحاب البيعة يوم الحديبية،
الله الله،
(2/133)
الكرة على نبيكم". ويقال: قال: "يا أنصار
الله وأنصار رسوله، يا بني الخزرج"، وأمر من يناديهم بذلك.
وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين، ونواحيهم
كلها، وقال: "شاهت الوجوه". وأقبل إليه أصحابه سراعا، وهزم
الله المشركين، وفر مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف في ناس
من قومه.
وأسلم حينئذ ناس كثير من أهل مكة، حين رأوا نصر الله
رسوله.
مختصر من حديث ابن عقبة. وليس عند عروة قيام النبي صلى
الله عليه وسلم في الركابين، ولا قوله: $"يا أنصار الله".
وقال شعبة، عن أبي إسحاق، سمع البراء، وقال له رجل: يا أبا
عمارة، أفررتم عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين؟ فقال: لكن رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يفر، إن هوازن
كانوا رماة، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا، فأقبل
الناس على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، فانهزم الناس
فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَبُو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته،
والنبي صلى الله عليه سلم يقول:
"أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ المطلب"
متفق عليه.
وأخرجه البخاري ومسلم، من حديث زهير بن معاوية، عن أبي
إسحاق، وفيه: ولكن خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا ليس
عليهم كبير سلاح، فلقوا قَوْماً رُمَاةً لاَ يَكَادُ
يَسْقُطُ لَهُم سَهْمٌ. وزاد فيه مسلم، من حديث زكريا بن
أبي زائدة، عن أبي إسحاق: "اللهم نزل نصرك". قال: وكنا إذا
حمي البأس نتقي به صلى الله عليه وسلم.
وقال هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن سعيد بن العاص،
قال: أخبرني سيابة بن عاصم: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم حنين: "أنا ابن
العواتك".
وقال أبو عوانة، عن قَتَادَةَ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في بعض مغازيه:
"أنا ابن العواتك".
وقال يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني كثير بن العباس بن عبد
المطلب، قال: قال العباس: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم حنين، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث،
وَرَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
بغلته البيضاء، أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما
التقى المسلمون والكفار، ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول
الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، وأنا آخذ
بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أي عباس، ناد أصحاب
(2/134)
السمرة. فقال عباس -وكان رجلا صيتا- فقلت
بأعلى صوتى: أي أصحاب السمرة. قال: فوالله، لكأنما عطفتهم
حين سمعوا صوتي، عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا
لبيكاه، يا لبيكاه. فاقتتلوا هم والكفار، والدعوة في
الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار. ثم
قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا بني
الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج. فَنَظَرَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على
بغلته، كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال: "هذا حين حمي
الوطيس". ثم أخذ حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار، ثم قال:
"انهزموا ورب محمد". فذهبت أنظر، فإذا القتال على هيئته
فيما أرى، فوالله ما هو إلا أن رماهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا.
أخرجه مسلم.
وروى معمر، عن الزهري، عن كثير، نحوه، لكن قال: فروة بن
نعامة الجذامي، وقال: "انهزموا ورب الكعبة".
وقال عكرمة بن عمار: حدثني إياس بن سلمة، قال: حدثني أبي،
قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه
وسلم حنينا، فلما واجهنا العدو، تقدمت فأعلوا ثنية فأستقبل
رجلا من العدو فأرميه بسهم، وتوارى عني، فما دريت ما صنع.
ثم نظرت إلى القوم، فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى،
فالتقوا هم والمسلمون فولى المسلمون، فأرجع منهزما، وعلي
بردتان متزر بإحداهما، مرتد بالأخرى. ومررت عَلَى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهزما وهو على
بغلته الشهباء، فقال: لقد رأى ابن الأكوع فزعا. فلما غشوا
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ
من البغلة، ثم قبض قبضة من تراب، ثم استقبل به وجوههم،
فقال: "شاهت الوجوه". فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ
عينيه ترابا من تلك القبضة فولوا مدبرين. وقسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين. أخرجه مسلم.
وقال أبو داود في مسنده: حدثنا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ،
عَنْ يَعْلَى بنِ عَطَاءٍ، عن عبد الله بن يسار، عن أبي
عبد الرحمن الفهري، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في حنين، فذكر الحديث، وفيه:
فحدثني من كان أقرب إليه مني أنه أخذ حفنة من تراب، فحثا
بها في وجوه القوم، وقال: "شاهدت الوجوه". قال يعلى بن
عطاء: فأخبرنا أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي منا
أحد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب، وسمعنا صلصلة من
السماء كمر الحديد على الطست، فهزمهم الله.
وقال عبد الواحد بن زياد: حدثنا الحارث بن حصيرة، قال:
حدثنا القَاسِمِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيْهِ،
قَالَ: قال ابن مسعود: كُنْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس، وبقيت
معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار، وهم الذين أنزل
الله عليهم
(2/135)
السكينة. قال: ورسوله اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ يمضي قدما، فحادت
بغلته، فمال عن السرج، فشد نحوه، فقلت: ارتفع، رفعك الله.
قال: "ناولني كفا من تراب". فناولته، فضرب به وجوههم،
فامتلأت أعينهم ترابا. قال: "أين المهاجرون والأنصار"؟
فقلت: هم ههنا قال: "اهتف بهم". فهتفت بهم، فجاؤوا وسيوفهم
بأيمانهم كأنهم الشهب، وولى المشركون أدبارهم.
وقال البخاري في تاريخه: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عبد
الله بن عبد الرحمن الطائفي، قال: أخبرني عبد الله بن عياض
بن الحارث، عَنْ أَبِيْهِ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى هوازن في اثني عشر ألفا،
فقتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر، وأخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فرمى به
وجوهنا، فانهزمنا.
وقال جعفر بن سليمان: حدثنا عوف، قال: حدثنا عبد الرحمن
مولى أم برثن، عمر شهد حنينا كافرا، قال: لما التقينا
والمسلمون لم يقوموا لنا حلب شاة، فجئنا نهش سيوفنا بين
يدي رسول الله، حتى إذا غشيناه إذا بيننا وبينه رجال حسان
الوجوه، فقالوا: شاهت الوجوه، فارجعوا. فهزمنا من ذلك
الكلام. إسناده جيد.
وقال الوليد بن مسلم، وغيره: حدثني ابن المبارك، عن أبي
بكر الهذلي، عن عكرمة، عن شيبة بن عثمان، قال: لما رَأَيتُ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
حنين قد عري، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما. فقلت:
اليوم أدرك ثأري من محمد. فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا
بالعباس قائم، عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج،
فقلت: عمه ولن يخذله. قال: ثم جئته عن يساره، فإذا أنا
بأبي سفيان بن الحارث، فقلت: ابن عمه ولن يخذله. قال: ثم
جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف، إذ رفع لي
شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق، فخفت يمحشني، فوضعت يدي
على بصري ومشيت القهقرى. والتفت رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "يا شيب يا شيب، ادن
مني. اللهم أذهب عنه الشيطان". فرفعت إليه بصري، فلهو أحب
إلي من سمعي وبصري. وقال: "يا شيب، قاتل الكفار". غريب
جدا.
وقال أيوب بن جابر، عن صدقة بن سعيد، عن مصعب بن شيبة،
عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، والله ما أخرجني إسلام، ولكن
أنفت أن تظهر هوازن على قريش. فقلت وأنا واقف معه: يا رسول
الله، إني أرى خيلا بلقا. قال: "يا شيبة، إنه لا يراها إلا
كافر". فضرب يده على صدري، ثم قال: "اللهم اهد شيبة"؛ فعل
ذلك ثلاثا، حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلي منه. وذكر
الحديث.
(2/136)
وقال ابن إسحاق: وقال مالك بن عوف، يذكر
مسيرهم بعد إسلامه:
اذكر مسيرهم للناس إذ جمعوا ... ومالك فوقه الرايات تختفق
ومالك مالك ما فوقه أحد ... يومي حنين عليه التاج يأتلق
حتى لقوا الناس خير الناس يقدمهم ... عليهم البيض والأبدان
والدرق
فضاربوا الناس حتى لم يروا أحدا ... حول النبي وحتى جنه
الغسق
حتى تنزل جبريل بنصرهم ... فالقوم منهزم منهم ومعتنق
منا ولو غير جبريل يقاتلنا ... لمنعتنا إذا أسيافنا الغلق
وقد وفى عمر الفاروق إذ هزموا ... بطعنة بل منها سرجه
العلق
وقال مَالِكٌ، فِي المُوَطَّأِ، عَنْ يَحْيَى بنِ
سَعِيْدٍ، عَنْ عُمَرَ بنِ كَثِيْرِ بنِ أَفْلَحَ، عَنْ
أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي
قَتَادَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في عام حنين، فلما التقينا كان
للمسلمين جولة. قال: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا
من المسلمين، فاستدرت له فضربته بالسيف على حبل عاتقه،
فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت
فأرسلني. فأدركت عمر فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله.
ثم إن الناس رجعوا، وجلس رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "من قتل قتيلا له عليه بينة
فله سلبه". فقمت ثم قلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. ثم قال: "من
قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه". فقمت ثم قلت: من يشهد
لي. ثم الثالثة، فقمت، فقال: "ما لك يا أبا قتادة"؟
فاقتصصت عليه القصة. فقال رجل من القوم: صَدَقَ يَا
رَسُوْلَ اللهِ، وَسَلَبُ ذَلِكَ القَتِيْلِ عندي، فأرضه
منه.
فقال أبو بكر الصديق، لاها الله إذا، يَعْمِدُ إِلَى
أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللهِ يُقَاتِلُ عن الله وعن رسوله،
فيعطيك سلبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق
فأعطه إياه". فأعطانيه. فبعت الدرع، فابتعت بِهِ مِخْرَفاً
فِي بَنِي سَلِمَةَ. فَإِنَّهُ لأَوَّلُ مال تأثلته في
الإسلام. أخرجه البخاري، وأبو داود عن القعنبي، ومسلم1.
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بنِ عَبْدِ
الله، عَنْ أَنَسٍ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: "مَنْ قَتَلَ
قَتِيْلاً فَلَهُ سَلَبُهُ". فقتل يومئذ أبو طلحة عشرين
رجلا وأخذ أسلابهم صحيح.
وبه، عن أنس، قال: لقي أبو طلحة أم سليم يوم حنين ومعها
خنجر، فقال: يا أم سليم، ما هذا؟ قالت: أردت إن دنا مني
بعضهم أن أبعج به بطنه. فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرجه مسلم2.
__________
1 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه مالك "2/ 454-455"،
والبخاري "2100" و"3142" و"4321"، و"4322" تعليقا، ووصله
"7170"، ومسلم "1751"، وأبو داود "2717"، والترمذي "1562"
مختصرا، وابن الجارود "1076"، والبيهقي "6/ 306"، والبغوي
"2717"، والترمذي "1562" مختصرا، وابن الجارود "1076"،
والبيهقي "6/ 306"، والبغوي "2724" من طريق يحيى بن سعيد،
به. قوله: "مخرفا" بالمعجمة الساكنة والفاء مفتوح الأول هو
البستان. وبكسر الميم: الوعاء الذي يجمع فيه الثمار.
"تأثلته": بالمثلثة قبل اللام أي جمعته قال ابن فارس. وقال
القزاز: جعلته أصل مالي، وأثلة كل شيء أصلة.
2 صحيح: أخرجه مسلم "1809" حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن
سلمة، به.
(2/137)
غزوة أوطاس:
وقال شيخنا الدمياطي في "السيرة" له: كان سيما الملائكة
يوم حنين عمائم حمرا قد أرخوها بين أكتافهم.
وَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه". وأمر
بطلب العدو، فانتهى بعضهم إلى الطائف، وبعضهم نحو نخلة،
ووجه قوم منهم إلى أوطاس. فعقد النبي صلى الله عليه وسلم
لأبي عامر الأشعري لواء ووجهه في طلبهم، وكان معه سلمة بن
الأكوع، فانتهى إلى عسكرهم، فإذا هم ممتنعون، فقتل أبو
عامر منهم تسعة مبارزة، ثم برز له العاشر معلما بعمامة
صفراء فضرب أبا عامر فقتله. واستخلف أبو عامر أبا موسى
الأشعري، فقاتلهم. حتى فتح الله عليه.
وقال أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٌ، عَنْ أَبِي
بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوْسَى، قَالَ: لما فرغ النبي صلى
الله عليه وسلم من حنين، بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس،
فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد، وهزم الله أصحابه، ورمي
أبو عامر في ركبته، رماه رجل من بني جشم، فأثبته في ركبته،
فانتهيت إليه، فقلت: يا عم، من رماك؟ فأشار إلي أن ذاك
قاتلي تراه. فقصدت له، فاعتمدته، فلحقته.
فلما رآني ولى عني ذاهبا، فاتبعته، وجعلت أقول له: ألا
تستحي؟ ألست عربيا، ألا تثبت؟ فكف، فالتقينا، فاختلفنا
ضربتين، أنا وهو، فَقَتَلْتُهُ. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى
أَبِي عَامِرٍ فَقُلْتُ: قد قتل
(2/138)
الله صاحبك. قال: فنتزع هَذَا السَّهْمَ.
فَنَزَعْتُهُ، فَنَزَا مِنْهُ المَاءُ. فَقَالَ: يَا ابْنَ
أَخِي، انْطَلِقْ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقْرِهِ مِنِّي السَّلاَمَ، ثم قل
له: يستغفر لي. قال: وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى
النَّاسِ، فَمَكَثَ يَسِيْراً ومات. وذكر الحديث. متفق
عليه.
وقال ابن إسحاق: وقتل يوم حنين من ثقيف سبعون رجلا تحت
رايتهم. وانهزم المشركون، فأتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف،
وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة. وتبعت خيل رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- القوم، فأدرك ربيعة بن رفيع؛
ويقال له: ابن لدغة؛ دريد بن الصمة؛ فأخذ بخطام جمله، وهو
يظن أنه امرأة، فإذا شيخ كبير ولم يعرفه الغلام.
فقال له دريد: ماذا تريد بي؟ قال: أقتلك. قال: ومن أنت؟
قال: ربيعة بن رفيع السلمي. ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا.
فقال: بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل، ثم
أضرب به، وارفع عن الطعام، واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت
أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن
الصمة، فرب يوم والله قد منعت فيه نساءك.
فقتله. فقيل: لما ضربه ووقع تكشف، فإذا عجانه وبطون فخذيه
أبيض كالقرطاس من ركوب الخيل أعراء. فلما رجع إلى أمه
أخبرها بقتله، فقالت: أما والله لقد أعتق أمهات لك.
وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آثار من توجه إلى
أوطاس، أبا عامر الأشعري فرمي بسهم فقتل، فأخذ الراية أبو
موسى فهزمهم. وزعموا أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر
بسهم.
واستشهد يوم حنين: أيمن بن عبيد، ولد أم أيمن؛ مولى بني
هاشم، ويزيد بن زمعة بن الأسود الأسدي القرشي، وسراقة بن
حباب بن عدي العجلاني الأنصاري، وأبو عامر عبيد الأشعري.
ثم جمعت الغنائم، فكان عليها مسعود بن عمرو، وإنما تقسم
بعد الطائف.
(2/139)
غزوة الطائف:
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين يريد الطائف في
شوال، وقدم خالد بن الوليد على مقدمته. وقد كانت ثقيف رموا
حصنهم وأدخلوا فيه ما يكفيهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس
دخلو الحصن وتهيأوا للقتال.
قال محمد بن شعيب، عن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه،
عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ثم سَارَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بلغ الطائف
فحاصرهم، ونادى مناديه: من خرج منهم من عبيدهم فهو حر.
فاقتحم إليه من حصنهم نفر، منهم أبو بكرة بن مسروح أخو
زياد من أبيه، فأعتقهم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من
أصحابه ليحمله. ورجع رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أتى على الجعرانة. فقال: "إني
معتمر".
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ، وقال إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى،
قالا: ثم سَارَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى الطائف، وترك السبي بالجعرانة، وملئت عرش
مكة منهم. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكمة عند
حصن الطائف بضع عشرة ليلة، يقاتلهم، وثقيف ترمي بالنبل،
وكثرت الجراح، وقطعوا طائفة من أعنابهم ليغيظوهم بها،
فقالت ثقيف: لا تفسدوا الأموال فإنها لنا أو لكم. واستأذنه
المسلمون في مناهضة الحصن، فقال: ما أرى أن نفتحه، وما أذن
لنا فيه.
وزاد عروة، قَالَ: أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين أن يقطع كل رجل من المسلمين
خمس نخلات أو حبلات من كرومهم. فأتاه عمر فقال: يا رسول
الله، إنها عفاء لم تؤكل ثمارها.
فأمرهم أن يقطعوا ما أكلت ثمرته، الأول فالأول. وبعث
مناديا ينادي: من خرج إلينا فهو حر.
وقال ابن إسحاق: لم يشهد حنينا ولا حصار الطائف عروة بن
مسعود ولا غيلان بن سلمة، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات
والمجانيق.
ثم سَارَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى نخلة إلى الطائف، وابتنى بها مسجدا وصلى
فيه. وقتل ناس من أصحابه بالنبل، ولم يقدر المسلمون أن
يدخلوا حائطهم، أغلقوه دونهم. وحاصرهم النبي صلى الله عليه
وسلم بضعا وعشرين ليلة، ومعه امرأتان من نسائه؛ إحداهما أم
سلمة بنت أبي أمية. فلما أسلمت ثقيف بنى علي مصلى رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو أمية بن
عمرو بن وهب مسجدا. وكان في ذلك المسجد سارية لا تطلع
عليها الشمس يوما من الدهر؛ فيما يذكرون، إلا سمع لها
نقيض.
والنقيض: صوت المحامل.
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن سنبر، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
سَالِمِ بنِ أَبِي الجَعْدِ، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي
نجيح السلمي، قال: حاصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
قصر الطائف، فَسَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من بلغ بسهم فله درجة في
الجنة". فبلغت يومئذ ستة عشر سهما. وسمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل
محرر".
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن
أمها، قالت: كان عندي مخنث، فقال لأخي عبد الله: إن فتح
الله عليكم الطائف غدا، فإني أدلك على ابنة غيلان،
(2/140)
فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فسمع
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَه
فقال: "لا يدخلن هذا عليكم".
متفق عليه بمعناه.
وقال الواقدى عن شيوخه، أن سلمان قَالَ لِرَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: أرى أن تنصب المنجنيق على
حصنهم -يعني الطائف- فإنا كنا بأرض فارس ننصبه على الحصون،
فإن لم يكن منجنيق طال الثواء. فأمره رسول الله صلى الله
عليه وسلم فعمل منجنيقا بيده، فنصبه على حصن الطائف.
ويقال: قدم بالمنجنيق يزيد بن زمعة، ودابتين. ويقال:
الطفيل بن عمرو قدم بذلك. قال: فأرسلت عليهم ثقيف سكك
الحديد محماة بالنار، فحرقت الدبابة. فامر رسول الله صلى
الله عليه وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها. فنادى سفيان بن عبد
الله الثقفي: لم تقطع أموالنا؟ فإنما هي لنا أو لكم.
فتركها.
وقال أبو الأسود، عن عروة، من طريق ابن لهيعة: أقبل عيينة
بن بدر حتى جَاءَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ائذن لي أن أكلمهم، لعل الله أن
يديهم. فأذن له، فانطلق حتى دخل الحصن، فقال: بأبي أنتم،
تمسكوا بمكانكم، والله لنحن أذل من العبيد، وأقسم بالله
لئن حدث به حدث لتملكن العرب عزا ومنعة، فتمسكوا بحصنكم.
ثم خرج فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "ماذا قلت لهم"؟. قال: دعوتهم إلى الإسلام،
وحذرتهم النار وفعلت. فقال: $"كذبت، بل قلت: كذا وكذا".
قال: صدقت يا رسول الله، أتوب إلى الله وإليك.
أخبرنا محمد بن عبد العزيز المقرئ سنة اثنين وتسعين وستة
مائة، ومحمد بن أبي الحزم، وحسن بن علي، ومحمد بن أبي
الفتح الشيباني، ومحمد بن أحمد العقيلي، ومحمد بن يوسف
الذهبي، وآخرون، قالوا: أَخْبَرَنَا أَبُو الحَسَنِ
عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ السَّخَاوِيُّ.
"ح" وأخبرنا عبد المعطي بن عبد الرحمن؛ بالإسكندرية، قال:
أخبرنا عبد الرحمن بن مكي.
"ح" وأخبرنا لؤلؤ المحسني؛ بمصر، وعلي بن أحمد، وعلي بن
محمد الحنبليان، وآخرون، قالوا: أخبرنا أبو الحسن علي بن
هبة الله الفقيه، قالوا: أخبرنا أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ
بنُ مُحَمَّدِ بنِ سِلَفَةَ الحافظ، قال: أخبرنا أبو الحسن
مكي بن منصور الكرجي.
وقرأت على سنقر القضائي بحلب: أخبرك عبد اللطيف بن يوسف.
وسمعته سنة اثنتين وتسعين على عائشة بنت عيسى بن الموفق،
قالت: أخبرنا جدي أبو محمد بن قدامة سنة أربع عشرة وست
مائة حضورا، قَالاَ: أَخْبَرَنَا أَبُو زُرْعَةَ طَاهِرُ
بنُ مُحَمَّدٍ المقدسي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد الساوي
سنة سبع وثمانين وأربع مائة، قَالاَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ الحَسَنِ
(2/141)
القاضي، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن
يعقوب، قال: حدثنا زكريا بن يحيى المروزي ببغداد، قال:
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ
دِيْنَارٍ، عَنْ أَبِي العَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ
عمر، قال: حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، فلم
ينل منهم شيئا. قال: إنا قافلون غدا إن شاء الله. فقال
المسلمون: أترجع ولم نفتحه؟ فقال لهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "اغدوا على القتال غدا". فأصابهم جراح. فقال
لهم رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَنَا قافلون غدا إن شاء الله". فأعجبهم ذلك. فضحك
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان
هكذا. وعنده: عبد الله بن عمرو، في بعض النسخ بمسلم.
وأخرجه البخاري، عن ابن المديني، عن سفيان، فقال: عبد الله
بن عمرو. قال البخاري: قال الحميدي، قال: حدثنا سفيان،
قال: حدثنا عمرو، قال: سمعت أبا العباس الأعمى، يقول: عبد
الله بن عمر بن الخطاب.
وقال أبو القاسم البَغَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ
أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حدثنا ابن عيينة، فذكره، وقال فيه:
عبد الله بن عمرو.
ثم قال أبو بكر: وسمعت ابن عيينة يحدث به مرة أخرى، عن ابن
عمر.
وقال المفضل بن غسان الغلابي، أظنه عن ابن معين. قال أبو
العباس الشاعر، عن عبد الله بن عمرو، وابن عمر؛ في فتح
الطائف: الصحيح ابن عمر.
قال: واسم أبي العباس: السائب بن فروخ مولى بني كنانة.
وقال ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ: أن النبي صلى الله عليه وسلم ارتحل عن الطائف
بأصحابه ودعا حين ركب قافلا: "اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم".
وقال ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي
بَكْرٍ، وعبد الله بن المكدم، عمن أدركوا، قالوا: حاصر
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلُ
الطائف ثلاثين ليلة أو قريبا من ذلك. ثم انصرف عنهم، فقدم
المدينة، فجاءه وفدهم في رمضان فأسلموا.
قال ابن إسحاق: واستشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالطائف: سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية، وعرفطة بن حباب،
وعبد الله بن أبي بكر الصديق، رمي بسهم فمات بالمدينة في
خلافة أبيه، وعبد الله بن أمية بنَ المُغِيْرَةِ بنِ
عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخْزُوْمٍ المخزومي؛ أخو أم
سلمة، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، وكان يقال لأبي أمية؛
واسمه حذيفة: زاد الراكب، وكان عبد الله شديدا على
المسلمين، قيل: هو الذي قال: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90]
، وما بعدها، ثم أسلم قبل فتح مكة بيسير، وحسن إسلامه، وهو
الذي قال له هيت المخنث: يا عبد الله، إن فتح الله عليكم
الطائف، فإني أدلك على ابنة غيلان ... الحديث -وعبد الله
بن عامر بن ربيعة، والسائب بن الحارث، وأخوه: عبد الله،
وجليحة بن عبد الله.
ومن الأنصار: ثابت بن الجذع، والحارث بن سهل بن أبي صعصعة،
والمنذر بن عبد الله، ورقيم بن ثابت.
فذلك اثنا عشر رجلا، رضي الله عنهم.
وَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ استشار نوفل بن معاوية الديلي في أهل الطائف،
فقال: ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم
يضرك.
(2/142)
قسم غنائم حنين وغير
ذلك:
قال ابن إسحاق: ثم خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى رحيل، حتى نزل بالناس
بالجعرانة، وكان معه من سبي هوازن ستة آلاف من الذرية، ومن
الإبل والشاء ما لا يدرى عدته.
وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه: حدثنا السميط، عن أنس،
قال: افتتحنا مكة، ثم إنا غزونا حنينا، فجاء المشركون
بأحسن صفوت رأيت. قال: فصف الخيل، ثم صفت المقاتلة، ثم صف
النساء من وراء ذلك، ثم صف الغنم، ثم صف النعم. قال: ونحن
بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف؛ أظنه يريد الأنصار. قال: وعلي
مجنبة خيلنا خالد بن الوليد، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا،
فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرت الأعراب، فنادى رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا للمهاجرين
يا للمهاجرين، يا للأنصار يا للأنصار". قال أنس: هذا حديث
عمية. قلنا: لبيك، يا رسول الله. فتقدم، فايم الله ما
أتيناهم حتى هزمهم الله. وقال: فقبضنا ذلك المال، ثم
انطلقنا إلى الطائف. قال فحاصرناهم أربعين ليلة، ثم رجعنا
إلى مكة ونزلنا. فَجَعَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطي الرجل المائة، ويعطي الرجل
المائة. فتحدثت الأنصار بينهم: أما من قاتله فيعطيه، وأما
من لم يقاتله فلا يعطيه. قال: ثم أمر بسراة المهاجرين
والأنصار -لما بلغه الحديث- أن يدخلوا عليه. فدخلنا القبة
حتى ملأناها. فقال: "يا معشر الأنصار؛ -ثلاث مرات، أو كما
قال- ما حديث أتاني"؟ قالوا: ما أتاك يا رسول الله؟ قال:
"أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبوا برسول الله حتى
تدخلوه بيوتكم"؟ قالوا: رضينا. فقال:
(2/143)
"لو أخذ الناس شعبا وأخذت الأنصار شعبا
أخذت شعب الأنصار". قالوا: رضينا يا رسول الله. قال:
"فارضوا". أخرجه مسلم1.
وقال ابن عون، عن هشام بن زيد، عن أنس، قال: لما كان يوم
حنين؛ فذكر القصة، إلى أن قال: وأصاب رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ غنائم
كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئا.
فقالت الأنصار: إذا كانت الشدة فنحن ندعى، ويعطى الغنيمة
غيرنا. قال: فبلغه ذلك، فجمعهم في قبة وقال: "أما ترضون أن
يذهب الناس بالدنيا، وتذهبوا برسول الله تحوزونه إلى
بيوتكم"؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، رضينا. فقال: "لو سلك
الناس واديا، وسلكت الأنصار شعبا، لأخذت شعب الأنصار".
متفق عليه2.
وقال شعب، وغيره، عن الزهري: حدثني أنس، أن ناسا من
الأنصار، قالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حين أفاء
الله عليهم من أموال هوازن ما أفاءه، فطفق يعطي رجالا من
قريش المائة من الإبل؛ فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، يعطي قريشا ويدعنا، وسيوفنا تقطر من
دمائهم. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فجمعهم في
قبة من أدم، ولم يدع معهم أحدا غيرهم، فلما اجتمعوا، قال:
ما حديث بلغني عنكم؟ فقال له فقهاؤهم: أما ذوو رأينا فلم
يقولوا شيئا.
فقال: "فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا
ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول
الله؟ فوالله ما تنقلبون به خير ما ينقلبون به".
قالوا: قد رضينا. فقال: "إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة،
فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض". قال أنس: فلم
نصبر. متفق عليه3.
وقال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن
لبيد، عن أبي سعيد، قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه
وسلم للمتألفين من قريش، وفي سائر العرب، ولم يكن في
الأنصار منها قليل ولا كثير، وجدوا في أنفسهم. وذكر نحو
حديث أنس.
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 157-158"، ومسلم "1059" "136" من
طريق معتمر بن سليمان التيمي، به.
وأخرجه أحمد "3/ 172و 275"، والبخاري "4334"، ومسلم "1059"
"133"، والترمذي "3901" وأبو يعلى "3002" من طريق شعبة، عن
قتادة، عن أنس، به.
2 صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة "14/ 522"، وأحمد "3/
279-280"، والبخاري "4333"
و"4337"، ومسلم "1059" "135" من طريق ابن عون، به.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3147"و "4331"و"5860" و "7441"،
ومسلم "1059" "132" من طرق عن الزهري، به.
(2/144)
وقال ابن عيينة، عن عمر بن سعيد بن مسروق،
عن أبيه، عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عَنْ
جَدِّهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
أعطى المؤلفة قلوبهم من سبي حنين، كل رجل منهم مائة من
الإبل. فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة، وأعطى صفوان بن أمية
مائة، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى الأقرع بن حابس
مائة، وأعطى علقمة بن علاثة مائة، وأعطى مالك بن عوف
النصري مائة، وأعطى العباس بن مرداس دون المائة.
فأنشأ العباس يقول:
أتجعل نهبي ونهب العبيـ ... ـد بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وقد كنت في الحرب ذا تدرأ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فأتم له مائة. أخرجه مسلم1، دون ذكر مالك بن عوف، وعلقمة،
ودون البيت الثالث.
وقال عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى المؤلفة قوبلهم: أبا سفيان، وحكيم
بن حزام، والحارث بن هشام المخزومي، وصفوان بن أمية
الجمحي، وحويطب بن عبد العزى العامري؛ أعطى كل واحد مائة
ناقة.
وأعطى قيس بن عدي السهمي خمسين ناقة، وأعطى سعيد بن يربوع
خمسين. فهؤلاء من أعطى من قريش. وأعطى العلاء بن جارية
مائة ناقة، وأعطى مالك بن عوف مائة ناقة، ورد إليه أهله،
وأعطى عيينة بن بدر الفزاري مائة ناقة، وأعطى عباس بن
مرداس كسوة. فقال عبد الله بن أبي بن سلول للأنصار: قد كنت
أخبركم أنكم ستلون حرها ويلي بردها غيركم. فتكلمت الأنصار،
فقالوا: يا رسول الله، عم هذه الأثرة؟ فقال: "يا معشر
الأنصار، ألم أجدكم مفترقين فجمعكم الله، وضلالا فهداكم
الله، ومخذولين فنصركم الله". ثم قال: "والذي نفسي بيده،
لو تشاؤون لقلتم ثم لصدقتم ولصدقتم: ألم نجدك مكذبا
فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، ومحتاجا
فواسيناك". قالوا: لا نقول ذلك، إنما الفضل من الله ورسوله
والنصر من الله ورسوله، ولكنا أحببنا أن نعلم فيم هذه
الأثر؟ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "قوم حديثو عهد بعز وملك، فأصابتهم نكبة
فضعضعتهم ولم يفقهوا
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1060" "137" حدثنا محمد بن أبي عمر
المكي، حدثنا سفيان، به.
(2/145)
كيف الإيمان، فأتألفهم، حتى إذا علموا كيف
الإيمان، وفقهوا فيه علمتهم كيف القسم وأين موضعه". وساق
باقي الحديث.
وقال جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن أبي وائل، عبد
الله، قال: لما كان يوم حنين أَثَرَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع
مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناسا من أشراف
العرب وآثرهم يومئذ، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل
فيها وما أريد بها وجه الله. فقلت: والله لأخبرن رسول الله
صلى الله عليه وسلم. فأتيته فأخبرته، فتغير وجهه حتى صار
كالصرف، وقال: "فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله"؟، ثم
قال: "يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر". فقلت:
لا جرم لا أرفع إليه بعد هذا حديثا. متفق عليه1.
وقال الليث، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر،
قال: أتى رجل بالجعرانة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم
غنائم منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى
الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس. فقال: يا محمد،
اعدل. فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت
وخسرت إن لم أكن أعدل". فقال عمر: دعني أقتل هذا المنافق.
قال: "معاذ الله، أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابى، إن هذا
وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يَمْرُقُونَ مِنَ
الدِّيْنِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرمية". أخرجه
مسلم2.
وقال شعيب، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ
أَبِي سعيد الخدري، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقسم قسما،
إذ أتاه ذو الخويصرة التميمى فقال: يا رسول الله اعدل.
فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم
أعدل". فقال عمر: إيذن لي فيه يا رسول الله أضرب عنقه.
قال: "دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم،
وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون
من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية". وذكر الحديث. أخرجه
البخاري3.
__________
1 صحيح على شرط الشيخين: أخرجه البخاري "3150" و "4336"،
ومسلم "1062" "140" من طريق جرير، عن منصور، به.
2 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 353و 354"، ومسلم "1063"، والنسائي
في "فضائل القرآن" "112" من طرق عن يحيى بن سعيد، به.
قلت: وقد صرح أبو الزبير المكي بالتحديث؛ فأمنا شر تدليسه.
3 صحيح: أخرجه البخاري "6163"، والبيهقي في "الدلائل" "6/
427-428" من طريق الأوزاعي، عن الزهري، به.
(2/146)
وقال عقيل، عن ابن شهاب، قال عروة: أخبرني
مروان، والمسور بن مخرمة: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين
فسألوا أن يرد إليهم أموالهم ونساءهم. فقال: "معي من ترون،
وأحب الحديث إلي أصدقه. فاختاروا إما السبي، وإما المال،
وقد كنت استأنيت بكم". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
انتظرهم تسع عشرة ليلة حين قفل من الطائف. فلما تبين لهم
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: إنا نختار
سبينا، فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في المسلمين، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ
أَهْلُهُ، ثُمَّ قال: "أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء قد
جاؤونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم. فمن أحب
أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى
نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل". فقال
الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله لهم. فقال: "إنا لا ندري
من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا
عرفاؤكم أمركم". فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم. ثم رجعوا
إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فأخبروه الخبر بأنهم قد طيبوا وأذنوا. أخرجه البخاري1.
وقال موسى بن عقبة: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الطائف إلى الجعرانة؛ وبها السبي، وقدمت عليه وفود
هوازن مسلمين، فيهم تسعة من أشرافهم فأسلموا وبايعوا، ثم
كلموه فيمن أصيب، فقالوا: يا رسول الله. إن فيمن أصبتم
الأمهات والأخوات والعمات والخالات، وهن مخازي الأقوام،
ونرغب إلى الله وإليك. وكان صلى الله عليه وسلم رحيما
جوادا كريما. فقال: سأطلب لكم ذلك.
قال في القصة: وقال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب،
وعروة: أن سبي هوازن كانوا ستة آلاف.
وقال يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ
جَدِّهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عليه وسلم بحنين، فلما أصاب من هوازن ما أصاب من
أموالهم وسباياهم، أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا،
فقالوا: يا رسول الله، لنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من
البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا، من الله عليك. وقام
خطيبهم زهير بن صرد، فقال: يا رسول الله: إنما في الحظائر
من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللائي كن يكلفنك، فلو
أنا ملحنا ابن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا
منهما مثل الذي أصابنا منك، رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت
خير المكفولين. ثم أنشده أبياتا قالها:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "2307"و "2308" من طريق الليث،
حدثني عقيل، به.
(2/147)
أمنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك
المرء نرجوه وندخر
أمنن على بيضة اعتاقها حزز ... ممزق شملها في دهرها غير
أبقت لها الحرب هتافا على حرن ... على قلوبهم الغماء
والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين
يختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من محضها
درر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما
تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا، فإنا معشر زهر
إنا لنشكر آلاء وإن كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نساؤكم أحب إليكم أم
أموالكم"؟ فقالوا: خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، أبناؤنا
ونساؤنا أحب إلينا. فقال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب
فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا وقولوا: إنا نستشفع
برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله، في
أبنائنا ونسائنا، سأعينكم عند ذلك وأسأل لكم". فلما صَلَّى
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالناس
الظهر، قاموا فقاموا ما أمرهم به، فقال: "أما ما كان لي
ولبني عبد المطلب فهو لكم". فقال المهاجرون: وما كان لنا
فهو لرسول الله. وقالت الأنصار كذلك. فقال الأقرع بن حابس:
أما أنا وبنو تميم فلا. فقال العباس بن مرداس السلمي: أما
أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو
لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عيينة بن بدر: أما
أنا وبنو فزارة فلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء
نصيبه". فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه الناس يقولون:
يا رسول الله، اقسم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة
فانتزعت منه رداءه، فقال: "ردوا علي ردائي، فوالذي نفسي
بيده لو كان لي عدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما
لقيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا". ثم قال إلى جنب بعير
وأخذ من سنامه وبرة فجعلها بين إصبعيه، وقال: "أيها الناس،
والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس
مردود عليكم. فأدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار ونار
وشنار على أهله يوم القيامة". فجاء رجل من الأنصار بكبة من
خيوط شعر فقال: أخذت هذه لأخيط بها برذعة بعير لي دبر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما حقي منها فلك".
فقال الرجل: أما إذ بلغ الأمر هذا فلا حاجة لي بها. فرمى
بها.
(2/148)
وقال أَيُّوْبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو
بالجعرانة، فقال: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في
المسجد الحرام. قال: "اذهب فاعتكف". وكان رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أعطاه جارية من
الخمس. فلما أن أَعْتَقَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبايا الناس، قال عمر: يا عبد الله،
اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها. أخرجه مسلم1.
وقال ابن إسحاق: حدثني أبو وجزة السعدي: أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى من سبي
هوازن علي بن أبي طالب جارية، وأعطى عثمان وعمر، فوهبها
عمر لابنه.
قال ابن إسحاق: فحدثني نافع، عن ابن عمر، قال: بعثت
بجاريتي إلى أخوالي من بني جمح ليصلحوا لي منها حتى أطوف
بالبيت ثم آتيهم. فخرجت من المسجد فإذا الناس يشتدون،
فقلت: ما شأنكم؟ فقالوا: رد عَلَيْنَا رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءنا. فقلت: دونكم
صاحبتكم فهي في بني جمح، فانطلقوا فأخذوها.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبو وجزة يزيد بن عبيد: أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال
لوفد هوازن: "ما فعل مالك بن عوف". قالوا: هو بالطائف.
فقال: "أخبروه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله وماله،
وأعطيته مائة من الإبل". فأتى مالك بذلك، فخرج إليه من
الطائف. وقد كان مالك خاف من ثقيف على نفسه من قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم. فأمر براحلة فهيئت، وأمر بفرس له
فأتى به، فخرج ليلا ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأدركه بالجعرانة أو بمكة، فرد عليه أهله وماله وأعطاه
مائة من الإبل، فقال:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي ... وإذا تشا يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها2 ... أم العدى فيها بكل مهند3
فكأنه ليث لدى أشباله ... وسط المباءة خادر4 في مرصد
فاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه،
وتلك القبائل من ثمالة وسلمة وفهم، كان يقاتل بهم ثقيفا،
لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى يصيبه.
قال ابن عساكر: شهد مالك بن عوف فتح دمشق، وله بها دار.
وقال أبو عاصم: حدثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان، قال: أخبرني
عمي عمارة بن ثوبان، أن أبا الطفيل أخبره، قال: كنت غلامًا
أحمل عضو البعير، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم
لحما بالجعرانة، فجاءته امرأة فبسط لها رداءه. فقلت: من
هذه؟ قالوا: أمه التي أرضعته.
وروى الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، قال: لما كان يوم فتح
هوازن جاءت امرأة إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: أنا أختك شيماء بنت الحارث.
فقال: "إن تكوني صادقة فإن بك مني أثرًا لن يبلى". قال:
فكشفت عن عضدها. ثم قالت: نعم يا رسول الله، حملتك وأنت
صغير فعضضتنى هذه العضة. فبسط لها رداءه ثم قال: "سلي
تعطي، واشفعي تشفعي".
الحكم ضعفه ابن معين.
__________
1 صحيح على شرطهما: أخرجه أحمد "2/ 35"، والبخاري "3142"
ومسلم "1656" "28" من طريق أيوب، به.
2 عردت أنيابها: غلظت واشتدت.
3 المهند: السيف المطبوع من حديد الهند.
4 المباءة: البيت في الجبل. وأسد خادر: مقيم في عرينه داخل
الخدر ومخدر أيضا. وخدر الأسد في عرينه.
(2/149)
عمرة الجعرانة:
قال همام، عن قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر أَرْبَعَ
عُمَرٍ كُلُّهُنَّ فِي ذِي القَعْدَةِ إِلاَّ التي في
حجته: عمرة زمن الحديبية -أو من الحديبية- في ذي القعدة،
وعمرة؛ أظنه قال: العام المقبل، وعمرة من الجعرانة؛ حيث
قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.
متفق عليه1.
وقال موسى بن عقبة، وهو في "مغازي عُرْوَةَ": أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل
بالعمرة من الجعرانة في ذي القعدة، فقدم مكة فقضى عمرته.
وكان حين خرج إلى حنين استخلف معاذا على مكة وأمره أن
يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين. ثم صدر إلى المدينة وخلف
معاذا على أهل مكة.
وقال ابن إسحاق: ثم سَارَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجعرانة معتمرا، وأمر ببقايا الفيء
فحبس بمجنة، فلما فرغ من عمرته انصرف إلى المدينة واستخلف
عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذا يفقه الناس.
قلت: ولم يزل عتاب على مكة إلى أن مات بها يوم وفاة أبي
بكر. وهو عتاب بنِ أَسِيْدِ بنِ أَبِي العِيْصِ بنِ
أُمَيَّةَ الأموي. فبلغنا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ له: يا عتاب، تدري على من
استعملتك استعملتك على أهل الله، ولو أعلم لهم خيرا منك
استعملته عليهم. وكان عمره إذ ذاك نيفا وعشرين سنة، وكان
رجلا صالحا. روي عنه أنه قال: أصبت في عملي هذا بردين
معقدين كسوتهما غلامي، فلا يقولن أحدكم أخذ مني عتاب كذا،
فقد رزقني رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كلَّ يوم درهمين، فلا أشبع الله بطنا لا يشبعه
كل يوم درهمان.
وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه. والله
أعلم.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "1778" و"1779" و"4148" ومسلم
"1253" "217" من طرق عن همام، به.
(2/150)
قصة كعب بن زهير:
ولما قَدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: من منصرفه، كتب بجير بن زهير؛ يعني إلى أخيه
كعب بن زهير، يخبره أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه،
وأن من بقي من شعراء قريش؛ ابن الزبعري، وهبيرة بن أبي
وهب، قد ذهبوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر
إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن أنت لم تفعل فانج إلى
نجائك من الأرض.
وكان كعب قد قال:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل
لكا
فبين لنا إن كنت لست بفاعل ... على أي شيء غير ذلك دلكا
على خلق لم ألف يوما أبا له ... عليه وما تلفي عليه أخا
لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ... ولا قاتل إما عثرت: لعا لكا
سقاك بها المأمون كأسا روية ... فأنهلك المأمون منها وعلكا
فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأنشده إياها. فقال لما سمع "سقاك بها المأمون": "صدق
وإنه لكذوب". ولما سمع: "على خلق لم تلف أما ولا أبا
عليه". قال: "أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه".
ثم قال بجير لكعب:
من مبلغ كعبا فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلا وهي
أحزم
(2/151)
إلى الله -لا العزى ولا اللات- وحده ...
فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا تنجو ولست بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب
مسلم
فدين زهير وهو لا شيء دينه ... ودين أبي سلمى علي محرم
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأشفق على
نفسه، وأرجف به من كان في حاضره من عدوه، فقالوا: هو
مقتول. فلما لم يجد من شيء بدا قال قصيدته، وقدم المدينة.
وقال إبراهيم بن ديزيل، وغيره: حدثنا إبراهيم بن المنذر
الحزامي، قال: حدثنا الحجاج ابن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن
بن كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، عن أبيه، عن جده، قال:
خرج كعب وبجير أخوه ابنا زهير حتى أتيا أبرق العزاف، فقال
بجير لكعب: اثبت هنا حتى آتي هذا الرجل فأسمع ما يقول.
قال: فَجَاءَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَعَرَضَ عليه الإسلام فأسلم، فبلغ ذلك كعبا،
فقال:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل
لكا
سقاك بها المأمون كاسا روية ... وأنهلك المأمور منها وعلكا
ويروى: سقاك أبو بكر بكأس روية.
ففارقت أسباب الهدى وتبعته ... على أي شيء ويب1 غيرك دلكا
على مذهب لم تلف أما ولا أبا ... عليه، ولم تعرف عليه أخا
لكا
فاتصل الشعر بالنبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه. فكتب
بجير إليه بذلك، ويقول له: النجاء وما أراك تنفلت. ثم كتب
إليه: اعلم أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لا يأتيه أحد يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللهَ وَأَنَّ مُحَمَّداً رسول الله إلا قبل ذلك منه،
وأسقط ما كان قبل ذلك. فأسلم كعب، وقال قصيدته التي يمدح
فيها رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ثُمَّ أقبل حتى أناخ راحلته بباب مَسجدِ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دخل المسجد
ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه مكان المائدة من
القوم، والقوم متحلقون معه حلقة دون حلقة، يلتفت إلى هؤلاء
مرة فيحدثهم، وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم.
قال كعب: فأنخت راحلتي، ودخلت، فعرفت رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالصفة، فتخطيت حتى
__________
1 ويب: ويل.
(2/152)
جلست إليه فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وأنك رسول الله، الأمان يا رسول
الله. قال: "ومن أنت"؟ قلت: أنا كعب بن زهير. قال: "الذي
يقول": ثم التفت إلى أبي بكر، فقال: "كيف يا أبا بكر".
فأنشده:
سقاك أبو بكر بكأس روية ... وأنهلك المأمور منها وعلكا
قلت: يا رسول الله، ما قلت هكذا. قال: "فكيف قلت"؟. قلت:
إنما قلت:
وأنهلك المأمون منها وعلكا
فقال: "مأمون، والله".
قال: ثم أنشده:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول1 ... متيم إثرها لم يلف مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف
مكحول
تجلوا عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول2
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب سارية بيض
يعاليل3
أكرم بها خلة لو أنها صدقت ... موعودها، أو لو أن النصح
مقبول
لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل4
فما تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول5
__________
1 متبول: أي مصاب بتبل، وهو الذحل والعداوة. قلب متبول إذا
غلبه الحب وهيمه. وتبله الحب يتبله وأتبله: أسقمه وأفسده،
وقيل: تبله تبلا ذهب بعقله.
2 شجت: مزجت وخلطت. وذي شبم: ماء بارد. ومشمول: ريح الشمال
وقد ضربته فبرد ماؤه وصفا.
3 اليعاليل: سحائب بعضها فوق بعض، الواحد يعلول. ويقال:
اليعاليل نفاخات تكون فوق الماء من وقع المطر، والياء
زائدة، واليعلول: المطر بعد المطر.
4 سيط: خلط. الفجع: الرزية والمصيبة المؤلمة. والولع:
بالتسكين الكذب.
5 الغول: الداهية.
(2/153)
ولا تمسك بالعهد الذي زعمت ... إلا كما
يمسك الماء الغرابيل
فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل
أرجو وآمل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدينا منك تنويل
أمست سعاد بأرض لا يبلغها ... إلا العتاق النجيبات
المراسيل
ولن يبلغها إلا عذافرة1 ... فيها على الأين إرقال وتبغيل2
من كل نضاخة الذفرى3 إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام
مجهول
ترمي الغيوب بعيني مفرد لهق4 ... إذا توقدت الحزان والميل5
ضخم مقلدها، فعم6 مقيدها ... في خلقها عن بنات الفحل تفضيل
غلباء وجناء علكوم مذكرة7 ... في دفها سعة قدامها ميل
وجلدها من أطوم ما يؤيسه ... طلح بضاحية المتنين مهزول8
حرف أبوها أخوها من مهجنة ... وعمها خالها قوداء شمليل9
__________
1 العذافرة: الناقة الشديدة الأمينة الوثيقة الظهيرة وهي
الأمون.
2 الأين: الإعياء والتعب. الإرقال والتبغيل: مشى فيه سرعة.
3 الذفرى من القفا هو الموضع الذي يعرق من البعير خلف
الأذن.
4 المفرد: ثور الوحش شبه به الناقة. واللهق: الأبيض.
5 الحزان: الغليظ من الأرض المرتفعة. قال ابن شميل: أول
حزون الأرض قفافها وجبالها وقواقيها وخشنها ورضمها، ولا
تعد أرض طيبة، وإن جلدت حزنا، وجمعها حزون.
6 الفعم: الممتلئ.
7 غلباء: غليظة الرقبة. والوجناء: الغليظة الصلبة الشديدة
للحم الوجنة.
8 الأطوم: الزرافة يصف جلدها بالقوة والملاسة. لا يؤيسه:
لا يؤثر فيه.
9 حرف: يصف الناقة بالحرف؛ لأنها ضامر، وتشبه بالحرف من
حروف المعجم، وهو الألف لدقتها. وتشبه بحرف الجبل إذا وصفت
بالعظم. ومهجنة: أي أنها ممنوعة من فحول الناس إلا من فحول
بلادها لعتقها وكرمها. وقيل: حمل عليها في صغرها، وقيل:
أراد بالمهجنة أنها من إبل كرام. والقوداء: الثنية الطويلة
في السماء والشمليل: الخفيفة السريعة.
(2/154)
تسعى الوشاة بدفيها وقيلهم ... إنك يا ابن
أبي سلمى لمقتول
وقال كل صديق كنت آمله: ... لا ألهينك، إني عنك مشغول
خلوا طريق يديها لا أبا لكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آله حدباء محمول
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا رسول الله الذي أعطاك نافلة الـ ... ـقرآن، فيه
مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب، ولو كثرت عني
الأقاويل
لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
حتى وضعت يميني لا أنازعه ... في كف ذي نقمات قيله القيل
لذلك أخوف عندي إذ أكلمه ... وقيل: إنك منسوب ومسؤول
من ضيغم من ليوث الأسد مسكنه ... من بطن عثر غيل دونه غيل
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا:
زولوا
زالوا، فما زال أنكاس ولا كشف1 ... عند اللقاء، ولا خيل
معازيل2
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا
سرابيل
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود
التنابيل
لا يفرحون إذا نالت سيوفهم ... قوما، وليسوا مجازيعًا إذا
نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت
تهليل
__________
1 الكشف: جمع أكشف، وهو الذي لا ترس معه كأنه منكشف غير
مستور.
2 المعازيل: الذين لا سلاح معهم.
(2/155)
وفي سنة ثمان توفيت زينب بنت النبي صلى
الله عليه وسلم وأكبر بناته، وهي التي غسلتها أم عطية
الأنصارية، وأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم حقوه، وقال:
أشعرنها إياه. فجعلته شعارها تحت كفنها. وقد ولدت زينب من
أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس أمامة التي كان النبي صلى
الله عليه وسلم يحملها في الصلاة.
وفيها: عمل منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فخطب عليه، وحن
إليه الجذع الذي كان يخطب عنده.
وفيها: ولد إِبْرَاهِيْمَ ابْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفيها: وهبت سودة أم المؤمنين يومها لعائشة، رضي الله
عنها.
وفيها: توفي مُغَفَّلِ بنِ عَبْدِ نَهْمٍ بنِ عَفِيْفٍ
المُزَنِيُّ؛ والد عبد الله؛ وله صحبة.
وفيها: مات ملك العرب بالشام؛ الحارث بن أبي شمر الغساني،
كافرا. وولي بعده جبلة بن الأيهم.
فروى أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى بنِ حَمْزَةَ، عن
ابن عائذ، عن الواقدي، عن عمر بن عثمان الجحشي، عن أبيه،
قَالَ: بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر وهو بالغوطة،
فسار من المدينة في ذي الحجة سنة ست. قال: فأتيته فوجدته
يهيئ الإنزال لقيصر، وهو جاء من حمص إلى إيلياء؛ إذ كشف
الله عنه جنود فارس؛ تشكر الله.
فلما قرأ الكتاب رمي به؛ وقال: ومن ينزع مني ملكي؟ أنا
سائر إليه بالناس. ثم عرض إلى الليل، وأمر بالخيل تنعل،
وقال: أخبر صاحبك بما ترى. فصادف قيصر بإيلياء وعنده دحية
الكلبي بِكِتَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فَكَتَبَ قيصر إليه: أن لا يسير إليه، واله
عنه، وواف إيلياه.
قال شجاع: فقدمت، وأخبرت رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "باد ملكه". ويقال: حج
بالناس عتاب بن أسيد أمير مكة. وقيل: حج الناس أوزاعا1.
حكاهما الواقدي. والله أعلم.
__________
1 أوزاعًا: متفرقين.
(2/156)
|