محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب

الباب السادس والسبعون: طلبه الشهادة وحبه لها
...
الباب السادس والسبعون: في طلبه الشّهادة وحبّه لها
في الصحيح عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: "اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك"1.
وقال ابن زُرَيع2 عن روح بن القاسم3 عن زيد بن أسلم عن أمِّه4 عن حفصة بنت عمر قالت5: سمعت نحوه6.
وقال هشام7 عن زيد عن أبيه عن حفصة: سمعت عمر رضي الله عنه8.
وذكر ابن الجوزي عن حفصة سمعت عمر رضي الله عنه يقول: "اللهم قتلاً في سبيلك ووفاة في بلد نبيّك". قلت: "وأنى يكون ذلك؟" قال: "يأتي به الله إذا شاء"9.
__________
1 البخاري: الصحيح، كتاب فضائل المدينة 2/668، رقم: 1791.
2 يزيد بن زُريع البصري، ثقة ثبت من الثامنة، توفي سنة اثنتين وثمانين ومئة (التقريب ص 601).
3 التميمي العنبري، ثقة حافظ، من السادسة، توفي سنة إحدى وأربعين ومئة. (التقريب ص 211).
4 لم أجد لها ترجمة.
5 في الأصل: (قال)، وهو تحريف.
6 البخاري: الصحيح، كتاب فضائل المدينة 2/668، تعليقاً، ووصله الإسماعيلي في مستخرجه كما في فتح الباري 4/101، وابن حجر في تغليق التعليق 3/136.
7 هشام بن سعد المدني، صدوق له أوهام رومي بالتشيع، من كبار السابعة، توفي سنة ستين ومئة. (التقريب ص 572).
8 البخاري: الصحيح، كتاب فضائل المدينة 2/668، تعليقاً، ووصله ابن سعد: الطبقات 3/331، وإسناده حسن. وابن شبه، عن حفص بن ميسرة عن زيد به. (تاريخ المدينة 3/872).
9 ابن الجوزي: مناقب ص 212، ابن سعد: والطبقات 3/331، وإسناده حسن. وابن شبه: تاريخ المدينة 3/872، وإسناده صحيح.

(3/791)


وعن [أبي]1 صالح2 قال كعب - وهو كعب الأحبار - رحمه الله: "أجدك في التوراة كذا وكذا، وأجدك تقتل شهيداً"، فقال عمر: "وأنى الشهادة وأنا في جزيرة العرب"3.
وعن أبي صالح4 قال كعب لعمر بن الخطاب: "إنا نجدك شهيداً، وإنا نجدك إماماً عادلاً، ونجدك لا تخاف في الله لومة لائم"، قال: هذا لا أخاف في الله لومة لائم، فأنى لي بالشهادة؟"5.
وروى أبو القاسم الأصفهاني عن حفصة أنها سمعت أباها يقول: "اللهم ارزقني قتلاً في سبيلك، ووفاة في بلد نبيّك". قالت: قلت: "وأنى يكون ذلك؟"، قال: "إن الله يأتي بأمره أنى شاء"6.
وتمنى الشهادة مستحب، وهو مخالف لتمنى الموت.
فإن قيل: ما الفرق يبنهما؟
قيل: تمني الموت، طلب تعجيل الموت قبل وقته، ولا يزد الإنسان عُمْرُهُ إلا خيراً.
وتمني الشهادة هو أن يطلب أن يموت عند انتهاء أجله شهيداً، فليس فيه طلب تقديم الموت عن وقته، وإنما فيه طلب فضيلة فيه.
وقد بوّب البخاري على تمني الشهادة فقال: "باب ما جاء في التمني، ومن
__________
1 سقط من الأصل.
2 ذكوان السمان المدني.
3 ابن الجوزي: مناقب ص: 212، الذهبي: تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين) ص: 276، السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 133.
4 السمان.
5 ابن الجوزي: مناقب ص 212.
6 أبو القاسم الأصفهاني: سير السلف ص 143، وقد سبق تخريجه.

(3/792)


تمنى الشهادة"1.
ثم ذكر حديث أبي هريرة سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً يكرهون أن يتخلفوا بعدي، فلا أجد ما أحمِلهم، ما تخلفت، ولوددت أني أُقْتَلُ في سبيل الله، ثم أُحْيَا، ثم أُقْتَل، ثم أُحْيَا، ثم أُقْتَل، ثم أُحْيَا، ثم أُقْتَل" 2. / [113 / أ].
__________
1 البخاري: الصحيح، كتاب التمني باب رقم: (1)، ج 6 / 2641.
2 البخاري: الصحيح، كتاب التمني 6/2641، رقم: 6799.

(3/793)


الباب السابع والسبعون: طلبه الموت خوفا من عجزه عن الرعية
...
الباب السابع والسبعون: في طلبه الموت خوفاً من عجزه عن الرّعية
ذكر ابن الجوزي عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطّاب كوَّم كَوْمَةً من بطحاء1 وألقى عليها طرف ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء، ثم قال: "اللهم كبرت سنِّي2، وضعفت قُوّتي، وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط"3.
وفي وراية: "فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن فمات"4.
وعن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه لما أفاض من منى أناخ بالأبطح5 ثم كوّم كومَةً من بطحاء، فألقى عليها طرق ردائه، ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء، كما تقدم، فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن فمات6.
وعن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه لما أفاض من منى، ثم ذكر الحديث كما تقدم، وزاد: "فلما قدم المدينة خطب الناس، فقال: "أيها الناس قد
__________
1 البطحاء: دُقاقُ الحَصى. (القاموس ص 273).
2 في الأصل: (كبر).
3 ابن الجوزي: مناقب ص 210، وابن شبه: تاريخ المدينة 3/872، وإسناده صحيح إلى سعيد بن المسيب.
4 ابن سعد: الطبقات 3/334، وإسناده صحيح إلى سعيد.
5 الأبطح: كل مسيل فيه دقاق الحصى فهو أبطح، والمقصود هنا: المحصب، وهو يقع بين مكّة ومنى. وهو إلى منى أقرب. (معجم البلدان 1/74).
6 ابن سعد: الطبقات 3/334، والحاكم: المستدرك 3/91، وإسنادهما صحيح إلى سعيد، وابن الجوزي: مناقب ص 210، والذهبي: تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين) ص: 276.

(3/794)


فرضت لكم الفرائض، وسننت لكم السنن، وتركتكم على الواضحة، ثم صفق بيمينه على شماله، إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً، ثم إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، وأن يقول قائل: لا نجد حَدّين في كتاب الله، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ورجمنا بعده، فوالله لولا أن يقول الناس أحدث في كتاب الله لكتبتُها في المصحف، فقد قرأناها: (والشيخ والشيخة [إذا زنيا]1 فارجموهما)، قال سعيد: "فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن"2.
وعن كعب3 قال: "كان في بني إسرائيل ملك إذا ذكرناه ذكرنا عمر، وإذا ذكرنا عمر ذكرناه، وكان إلى جنبه نبيّ يوحى إليه، فأوحى الله تعالى إلى النبيّ أن يقول له: اعهد عهدك، واكتب وصيتك، فإنّك ميتٌ إلى ثلاثة أيام، فأخبره النبي بذلك، فلما كان اليوم الثالث وقع بين الجَدِر والسرير، ثم جأر4 إلى ربّه وقال: "اللهم إن كنت تعلم أني كنت أعدل في الحكم، وإذا اختلفت الأمور اتبعت هداك، وكنتُ، وكنت، فزدني في عمري، حتى يكبر طفلي وتربوَ أمتي". فأوحى الله إلى النبيّ أن قد قال كذا وكذا، وقد صدق، وقد زدته في عمره خمس عشرة سنة، وفي ذلك ما يكبر طفله وتربو أمته فلما طعن عمر رضي الله عنه قال كعب: لئن سأل الله عمر ليبقينه ربّه، فأخبر بذلك عمر فقال: "اللهم اقبضني إليك غير عاجز / [113 / ب] ولا ملومٍ"5.
__________
1 سقط من الأصل.
2 ابن سعد: الطبقات 3/334، الحاكم: المستدرك 3/91، 92، وإسنادهما صحيح إلى سعيد بن المسيب، وابن الجوزي: مناقب ص 210، 211.
3 الأحبار.
4 جأر: جار إلى الله. تضرع بالدعاء. (المختار ص 67).
5 ابن سعد 3/334، 335، وإسناده صحيح. ومن طريقه ابن عساكر: تاريخ دمشق جـ 13/ ق 169، وابن شبه: تاريخ المدينة 3/908، وابن الجوزي: مناقب ص 211، والمتقي الهندي: كنْز العمال 12/685.

(3/795)


وعن ابن أبي مليكة1 قال: "لما طعن عمر، جاء كعب، وجعل يبكي بالباب، ويقول: "والله لو أن أمير المؤمنين يقسم على الله أن يؤخره لأخره". فدخل ابن عباس عليه فقال: "يا أمير المؤمنين، هذا كعب، يقول كذا وكذا"، قال: "إذاً والله لا أسأله، ثم قال: ويل لي ولأمي إن لم يغفر الله لي"2.
وذكر أبو القاسم الأصفهاني عن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه لما نفر من منى أناخ بالأبطح فكوم كومة من بطحاء، فألقى عليها طرف ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء، فقال: "اللهم كَبُرت سني، وضعفت قُوّتي، وانتشرت رعيّتي، فاقبضني غير مضيِّع، ولا مفرّط، ثم قدم المدينة، فخطب الناس فقال: "يا أيها الناس، فُرضت لكم الفرائض، وسُنَّت3 لكم السنن وتُركتم على الواضحة، ألا4 لا تضلوا بالناس يميناً وشمالاً، فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن فمات"5.
فصل
يكره تمني الموت، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : "لا يتمنين أحدكم الموت [لضر]6 نزل
__________
1 عبد الله بن عبيد الله.
2 ابن سعد: الطبقات 3/461، وإسناده صحيح إلى أبي مليكة، لكنه منقطع بينه وبين عمر. وابن شبه: تاريخ المدينة 3/909، وابن عساكر: تاريخ دمشق جـ 13/ ق 169، 170، وابن الجوزي: مناقب ص 211، والمتقي الهندي: كنْز العمال 12/687.
3 في الأصل: (وسننت)، والمثبت من سير السلف.
4 في السير: (إلا أن).
5 أبو القاسم الأصفهاني: سير السلف ص 160، قد سبق تخريجه ص 942، 943.
6 سقط من الأصل.

(3/796)


به، إما محسنٌ1 فلعله يزداد، وإمّا مسيءٌ2 فلعله يستَعتب" 3، 4.
وفي حديث آخر: "فإن كان لا بدّ سائل، فليقل: "اللهم أحينِي إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي" 5.
وفي الصحيح عن أنس أنه قال: "لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تتمنوا الموت" ، لتمنيتُ"6.
وعن قيس7 قال: "أتينا خبّاب بن الأرت نعوده، وقد اكتوى سبعاً، فقال: "لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعوَ بالموت لَدَعَوْتُ به"8.
فإن قيل: فإذا كان هكذا، فمال عمر رض ي الله عنه تمنى الموت؟
قيل: / [114 / أ] الجواب عن ذلك: أن غير عمر يرجو أن لا يزيده عُمْره إلا خيراً من زيادة العمل ونحو ذلك، وأما عمر فخاف أن يضعف عن أمر المسلمين، ولا يقدر على القيام بمصالحهم فظنّ التقصير في العمل ببقائه،
__________
1 في صحيح البخاري: (محسناً).
2 في صحيح البخاري: (مسيئاً).
3 يستعتب: أي: يرجع عن الإساءة ويطلب الرضا. (لسان العرب 1/578).
4 البخاري: الصحيح، كتاب التمنى 6/2644، رقم: 6808، بنحوه.
5 البخاري: الصحيح، كتاب المرضى 5/2146، رقم: 5347، ورقم: 5990، مسلم: الصّحيح، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار4/2064، رقم: 2680.
6 البخاري: الصحيح، كتاب التمني 6/2643، رقم: 6806، مسلم: الصّحيح، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 4/2064، رقم: 2680.
7 ابن أبي حازم.
8 البخاري: الصحيح، كتاب التمني 6/2643، رقم: 6807، مسلم: الصّحيح، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 4/2064، رقم: 2681.

(3/797)


فلهذا تمنى1 ذلك. ولأن عمر كان لا يعد عمله إلا الذي قد عمله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتمنى أن يخلص له عمله الذي عمله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ويذهب ما عمله بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك قد2 كان في حال قوّته على العبادة واجتهاده، فلما حصل له الكبر والضعف خاف من التقصير. والله أعلم. / [114 / ب]
__________
1 في الأصل: (تنمني)، وهو تحريف.
2 في الأصل: (وذلك وقد).

(3/798)