محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب

الباب الثامن والسبعون: نعي الجن له
...
الباب الثامن والسبعون: في ذكر نعي الجن له
ذكر ابن الجوزي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لما كانت آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين، قالت أصدرنا عن عرفة مررت بالمحصّب1 سمعت رجلاً على راحلة يقول: أين كان عمر أمير المؤمنين فسمعت رجلاً آخر يقول: ههنا قال ثم أناخ راحلته، ثم رفع عقيرته فقال:
عليك السلام2 من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يُسبق
قضيتَ أموراً ثم غادرتَ بعدها ... بوائقَ3 في أكمامها لم تفتق4
فلم يدر ذلك الراكب من هو، فكنا نتحدث أنه من الجن، فقدم عمر رضي الله عنه من تلك الحجة، فطعن، فمات، رضي الله عنه"5.
__________
1 المحصب: موضع فيما بين مكّة ومنى، وهو إلى منى أقرب، وهو بطحاء مكّة. (معجم البلدان 5/62).
2 في الأصل: (سلام الله).
3 بوائق: جمع بائقة، وهي الداهية. (غريب الحديث لابن قبيبة 2/18، لسان العرب 2/218).
4 لم تفتق: أي: لم تفتح في أكمامها إنما أراد أنك حين وليت تركت بعدك أموراً عظاماً مستورة لم تنكشف حين مت. وستنكشف بعد. (غريب الحديث لابن قتيبة 2/18).
5 ابن الجوزي: مناقب ص 212، والقطيعي في زوائد على فضائل الصحابة لأحمد 1/274، وإسناده ضعيف لأجل إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع الأنصاري، وفيه أيضاً إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله المخزومي لم يوثّقه غير ابن حبان. (التقريب رقم: 148، 205)، وبنحوه ابن سعد: الطبقات 3/374، عن عائشة وإسناده صحيح، وعن ابن أبي مليكة وإسناده صحيح. وابن قتيبة: غريب الحديث 2/17، بإسنادين صحيحين. وابن شبه: تاريخ المدينة 3/873، وقال ابن حجر في ترجمة الشماخ: "روى الفاكهي بإسناد صحيح عن أم كلثوم، فذكره وفي آخره فنحل الناس هذه الأبيات الشماخ بن ضرار أو أخاه جماح بن ضرار، وروى عمرو بن شبة هذه القصة فقال في آخرها: أو أخاه جزء بن ضرار، ورواه من وجه آخر عن عائشة، وليس فيه جزء بن ضرار بل فيه مثلما عند الفاكهي جماح بن ضرار". (الإصابة 3/211)، والأبيات في ديوان الشماخ ص 448، وذكر محقّق الديوان اختلاف العلماء في نسبة الأبيات إلى كلّ واحد من الأخوة الثلاثة: الشماخ، ومزرد، وجزء ابن ضرار.

(3/799)


وعن خيرة بنت دجاجة1 قالت: حدّثتنا عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إني أسير بين مكّة والمدينة في ليلة، في سحر ليلة مقمرة، إذا أنا بهاتف يهتف ويقول:
ليبك على الإسلام من كان باكياً ... فقد حدثوا2 هلكى وما قدم العهد
وقد ولت الدنيا وأدبر خيرها ... وقد مَلَّها من كان يوقن بالوعدِ
فقلت: انظروا من هذا؟ فنظروا فلم يروا أحداً، فوالله ما أتت على ذلك إلا أيام حتى قتل عمر رضي الله عنه"3.
وعنها - رضي الله عنها - قال: "إنا لوقوف عند عمر رضي الله عنه بالمحصّب إذ أقبل راكب حتى إذا كان قدر ما يُسمعنا صوته، هتف ثم قال:
أبعد قتيل بالمدينة أشرقت4 ... له الأرض واهتز العِضاهَ5 بأسؤقِ
جزى الله خيراً من إمام وباركت ... يدُ الله في ذاك الأديم الممزقِ
قضيت أموراً ثم غادرتَ بعدها ... بوائج في أكمامها لم تُفتق
__________
1 لم أجد لها ترجمة.
2 في مناقب عمر: (أحدثوا).
3 ابن الجوزي: مناقب ص 213، والبيتان في الطبراني: المعجم الكبير 1/68، وأبي نعيم: المعرفة1/226، وابن عساكر: تاريخ دمشق جـ 13/ق199، عن معروف بن أبي معروف الموصلي.
4 في طبقات ابن سعد، والاستيعاب، ومناقب عمر: (أظلمت).
5 العِصَاهَة: أعظم الشجر، أو كلّ ذات شوكٍ. (القاموس ص 1613).

(3/800)


وكنت تشوب1 العدل بالبر والتقى ... وحلم2 صليب الدين غير مزوق
أمين النبيّ حبه3 وصفيه ... كساه المليك جبةً لم تمزقِ
من الدين والإسلام والعدل والتقى ... وبابك عن4 كل الفواحش مغلق
ترى الفقراء حوله من5 مفازة ... شباعاً رواء ليلهم لم يورقِ
قالت: ثم انصرفت فلم نر شيئاً، فقال الناس: "هذا مزرد"6 فلما ولي ابن عفان رضي الله عنه لقي مزرد فقال: "أنت صاحب الأبيات؟"، قال: "لا، والله ما قلتهن". قالت: "فيروا أن بعض الجنّ رثاه"7.
وذكر أبو القاسم الأصفهاني: عن عائشة - رضي الله عنها - بكت الجنّ على عمر قبل / [115 / ب]8 أن يقتل بثلاث.
جزى الله خيراً من أمير وباركت ... يدُ الله في ذاك الأديم الممزقِ
فمن يسع أو يركب جناحي نعامةٍ ... ليدرك ماقدمت9 بالأمس يُسبق10
__________
1 في آكام المرجان: (نشرت).
2 في مناقب عمر: (وحكم).
3 في مناقب عمر: (في وحيه).
4 في مناقب عمر: (من).
5 في مناب عمر، وآكام: (في).
6 مزرد بن ضرار بن سنان بن عمر الغطفاني الثعلبي. (الإصابة 6/85).
7 ابن الجوزي: مناقب ص 213، بدون إسناد. والشبلي: آكام المرجان ص 144، وقال: "قال القرشي: حدّثني محمّد بن عباد، حدثّني محمّد بن ثابت البناني عن أبيه قال: قالت عائشة". ومحمّد بن ثابت البناني ضعيف. (التقريب رقم: 5767).
8 ق 115 / أ بياض، وليس ثمة ما يشير إلى نقص فالكلام متصل.
9 في تاريخ المدنية: (ما أسديت).
10 أبو القاسم الأصفهاني: سير السلف ص 175، وابن أبي شيبة: المصنف 12/33، وابن شبه: تاريخ المدينة 3/874، أبو نعيم: دلائل النبوة ص 578. وفيه: بكت الجن على عمر بعد ثلاث. ومداره عل الصقر بن عبد الله، ولم أجد له ترجمة. وابن عبد البر: الاستيعاب 3/1158.

(3/801)


وفي رواية: لما طعن عمر رضي الله عنه سمعوا:
عليك سلام1 من أمير وباركت ... يدُ الله في ذاك الأديم الممزَّق
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها ... بوائج في أكمامها لم تُفتق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامةٍ ... ليدرك ماقدمتَ في الخير2يُسبق3
فجميع ما نعاه الجنّ هنا كان قبل موته رضي الله عنه.
فإن قيل: قد أخبر الله عزوجل عن الجنّ أنهم لا يعلمون الغيب4، فكيف علموا بذلك؟
قيل: علموا بذلك من استراق السمع5، فإنهم يسرقون السمع من السماء، وما تكلم به الملائكة استرقوه بأسماعهم، فيمكن أن يكونوا علموا ذلك من هذا الوجه.
__________
1 في الأصل: (سلام الله).
2 في فضائل الصحبة، والطبقات، وتاريخ المدينة، والاستيعاب، والديوان: (بالأمس).
3 أبو القاسم الأصفهاني: سير السلف ص 176.
4 يشير إلى قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوتَ مَا دَلَّهُم عَلَ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ}، [سبأ: 14].
5 وكانوا قبل المبعث كثيراً، وأما بعد المبعث فإنهم قليل، لأن الله تعالى حرس السماء بالشّهب. (فتح الباري 255).

(3/802)


الباب التاسع والسبعون:مقتله
...
الباب التاسع والسبعون: في ذكر مقتله
روى البخاري عن عمرو بن ميمون، قال: "رأيت عمر بن الخطّاب قبل أن يصاب بأيام بالمدينة، وقف على حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حنيف، قال: "كيف فعلتما، أتخافان أن تكونا قد حمَّلتما الأرض1 ما لا تطيق؟". قالا: "حمّلناها أمراً هي له مطيقة، ما فيها كبير فضلٍ". قال: "انظُر أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق"، قالا: "لا". فقال عمر: "لئن سلّمني الله لأدعن أرَامَل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً".
قال: فما أتت عليه إلا رابعة2 حتى أصيب. قال: إني لقائمٌ ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيبَ، وكان إذا مرّ بين الصّفين قال: استووا، حتى إذا لم يرَ فيهم خللاً تقدّم، فكبّر وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الرّكعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبّر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب، حين طعنه، فطار العلجُ3 بسكين ذات طرفين، لا يمرّ على أحدٍ يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، أو قال تسعة4، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين5 طرح عليه برنساً6، فلما ظن العلج أنه مأخوذٌ نحرَ نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه،
__________
1 مطموس في الأصل، سوى (الأر).
2 في الأصل: (أربعة).
3 العِلجُ - بالكسر - الرجل من كفار العجم. (القاموس ص 254).
4 لم أجد هذه الرواية في النسخ الموجودة لدي.
5 حطان التميمي اليربوعي. (فتح الباري 7/63).
6 البُرنس - بالضمن ـ: قلنسوة طويلة، أو كل ثوب رأسه منه. (القاموس ص 658).

(3/803)


فمن يلي عمر فقد رأى الذي رأى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون1، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله سبحان [الله]2، فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: "يا ابن عباس انظر من قتلني"، فجال ساعةً ثم جاء، فقال: "غلام المغيرة"3، فقال: "الصَّنَعُ، أو قال الصانع؟"، قال: "نعم"، قال: "قاتله الله لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي4 بيد رجل يدعي الإسلام. قد كنتَ أنت وأبوك تحبان أن تكثرَ العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً. فقال: "إن شئت / [116 / أ] فعلتُ، أي: إن شئت قتلنا؟". فقال: "كذبت5، بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا6 قبلتكم، وحجّوا حجكم". فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تُصبهم مصيبةٌ قبل يومئذٍ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج [من جرحه]7 فعرفوا8 أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه، وجاء رجلٌ شابٌ فقال: "ابشر يا أمير المؤمنين، ببُشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدمٍ في الإسلام ما قد
__________
1 مطموس في الأصل، سوى (لا يدر).
2 سقط من الأصل.
3 ابن شعبة.
4 وفي رواية: (ميتتي). (فتح الباري 7/65).
5 أي: أخطأت في قولك.
6 في الأصل: (وصلّوا).
7 سقط من الأصل.
8 في صحيح البخاري: (فعلموا).

(3/804)


علمتَ، ثم ولِيت فعدلت، ثم شهادة". قال: "وددت أن ذلك كفافٌ لا عليَّ ولا لي".
فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: "ردّوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر، انظر ما عليّ من الدَّين، "فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه1، قال: إن وفَّى له مال آل عمر فأدّه من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تفِ أموالهم فسل في قريش، ولا تعدُهم إلى غيرهم، فأدّ عني هذا المال، وانطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السّلام ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطّاب أن يدفن مع صاحبيه".
فسلم، واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: "يقرأ عليك عمر بن الخطّاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه"، فقالت: "كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه اليوم، أو قالت: ولأوثرنه اليوم على نفسي". فلما أقبل قيل: "هذا عبد الله بن عمر قد جاء". قال: "ارفعوني"، فأسنده رجل إليه، فقال: "ما لديك؟"، قال: "الذي تحبّ يا أمير المؤمنين، أذنتْ". قال: "الحمد لله، ما كان من شيء أهمّ إليّ من ذلك، فإذا أنا قبضت2 فاحملوني، ثم سلّم، فقل: يستأذن عمر بن الخطّاب فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردّتني فردّوني إلى مقابر المسلمين".
وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فمكثت3 عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجت داخلاً لهم، فسمعنا
__________
1 قد تقدم أنه أوصى بأربعين ألف درهم، عن الحسن مرسلاً.
2 في صحيح البخاري: (قضيت)، وفي رواية أخرى: (مت). (فتح الباري 7/67).
3 في صحيح البخاري: (فبكت)، وهي رواية الكشميهني. (فتح الباري 7/67).

(3/805)


بكاءها من الدّاخل، فقالوا: "أوصِ يا أمير المؤمنين استخلف". قال: "ما أجد أحداً أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر الرهط الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ"، فسمّى عليّاً، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية - فإن أصابت الإمارة سعداً1 فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمّرَ، فإني لم أعز له من عجز ولا خيانة".
قال: "أوصي الخليفة من بعدي، بالمهاجرين الأوّلين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً: {الَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ والإِيمَانَ مِن قَبْلِهِم} [الحشر: 9]، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردْء2 الإسلام، وجباة المال، وغيظ العدوّ، وأن لا يؤخذ منه إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أمالهم، ويردّ على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله، وذمة رسوله أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يُكلفوا إلا طاقتهم".
فلما قبض خرجنا به، أو قال: معه، فانطلقنا نمشي، فسلّم عبد الله ابن عمر، قال: "يستأذن عمر بن الخطّاب"، قالت: "أدخلوه". فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما فُرِغَ من دفنه، اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: "اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم"، قال الزبير: "قد جعلت أمري إلى عليّ"،
__________
1 ابن أبي وقاص.
2 في الأصل: (دار)، وهو تحريف.

(3/806)


فقال طلحة: "قد جعلت أمري إلى عثمان"، وقال سعد: "قد جعلت / [116 / ب] أمري إلى عبد الرحمن بن عوف"، فقال عبد الرحمن: "أيكما تبرّأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرنَّ أفضلهم في نفسه؟"، فأُسْكِتَ الشيخان، فقال عبد الرحمن: "أفتجعلونه1 إليّ والله عليّ أن لا آلو2 عن أفضلكم؟"، قالا: "نعم". فأخذ بيد أحدهما فقال: "لك قرابةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرتُ عثمان لتسمعنّ ولتطيعن"، ثم خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: "ارفع يديك يا عثمان"، فبايعه، وبايع له عليّ وولج أهل الدار فبايعوه"3.
وذكر ابن الجوزي عن معدان بن طلحة اليَعْمَري4: أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قام على المنبر يوم الجمعة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر رضي الله عنه، ثم قال: "رأيت رؤياً لا أرها إلا بحضور أجلي، رأيت كأن ديكاً نقرني نقرتين، فقصصتها على أسماء بنت عميس، ققال: "يقلتك رجل من العجم". قال: وإن الناس يأمرونني5 أن أستخلف، وإن الله عزوجل لم يكن ليضيع دينه وخلافته، التي بعث بها نبيّه صلى الله عليه وسلم وإن تعجل6 في أمرٌ، فإن الشورى في هؤلاء الستة الذين مات نبيّ الله، وهو عنهم
__________
1 في الأصل: (فتجعلونه)، والمثبت من صحيح البخاري.
2 لا آلو: لا أقصر في اختيار أفضلكم. (لسان العرب 14/40).
3 البخاري: الصحيح، كتاب فضائل الصحابة 3/1353-1357، رقم: 3497.
4 شامي، ثقة، من الثانية. التقريب ص 539).
5 مطموس في الأصل، سوى (يأمر).
6 في المسند: (يَعْجَل).

(3/807)


راضٍ، فمن بايعتم له فاسمعوا وأطيعوا، وإني أعلم أن أناساً1 سيطعنون في [هذا]2 الأمر3 أنا قاتلتهم بيدي هذه على الإسلام، أولئك أعداء الله، الضّلال الكفار، وإني أشهد الله على أمراء الأمصار أني إنما بايعتهم ليعلموا الناس دينهم، ويبينوا لهم سنة نبيّهم صلى الله عليه وسلم، [و]4 يرفعوا إلي ما غُميّ5 عليهم". قال: فخطب الناس، وأصيب يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة6.
وعن ابن شهاب: قال: "كان عمر رضي الله عنه لا يأذن لسبي7 قد احتلم في دخول المدينة، حتى كتب المغيرة بن شعبة، وهو على الكوفة يذكر له غلاماً عنده صانعاً، ويستأذنه8 أن يدخله المدينة، ويقول: إن عنده أعمالاً كثيرة فيها نفع للناس، وإنه حدادٌ نقاشٌ نجارٌ، فأذن له أن يرسله إلى المدينة، وضرب عليه المغيرة مئة درهم كل شهر، فجاء إلى عمر يشتكي شدة9 الخراج، فقال له عمر: "ما ذا تحسن من العمل؟"، فذكر له الأعمال التي يحسن، فقال له عمر: "ما خراجك كثير في كُنه عملك". فانصرف ساخطاً يتذمر، فلبث عمر ليالي، ثم إن العبد مرّ به فدعاه، فقال: "ألم أُحدَّث عنك أنك
__________
1 في المسند: (أناساً).
2 سقط من الأصل.
3 في الأصل: (الأمراء)، وهو تحريف.
4 سقط من الأصل.
5 في المسند، ومناقب عمر: (ما عُمّي).
6 ابن الجوزي: مناقب ص 214، أحمد: المسند 1/192، وإسناده صحيح. مسلم: الصّحيح، كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1/396، رقم: 567.
7 في الأصل: (لشيء)، وهو تحريف.
8 مطموس في الأصل، سوى (يستأ).
9 مطموس في الأصل، سوى (شد).

(3/808)


تقول: لو أشاء1 لصنعت رحى تطحن بالريح؟". فالتفت العبد ساخطاً عابساً إلى عمر، ومع عمر رهط، فقال: "لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها"، فلما ولي العبد أقبل عمر على الرهط الذين معه فقال لهم: "أوعدني العبد آنفاً"، فلبث ليالي، ثم اشتمل أبو لؤلؤة على خنجر ذي رأسين نصابه [في]2 وسطه، فمكن في زاوية من زوايا المسجد في غلس السّحر، فلم يزل هنالك حتى خرج عمر يوقظ الناس3 للصلاة - صلاة الفجر - وكان عمر يفعل ذلك، فلما دنا منه عمر وثب عليه فطعنه ثلاث طعنات، إحداهن تحت السرة قد خرقت الصّفّاقين4، وهي التي قتلته، ثم انحاز أيضاً على أهل المسجد فطعن من يليه، حتى طعن سوى عمر أحد عشر رجلاً، ثم انتحر بخنجره.
فقال عمر حين أدركه النزف: "قولوا لعبد الرحمن بن عوف فليصل بالناس". /[117/ أ] ثم غلب عمر النزف حتى غشي عليه. قال ابن عباس: "فاحتملت عمر في رهط حتى أدخلته بيته، ثم صلى بالناس عبد الرحمن بن عوف فأنكر الناس صوت عبد الرحمن"، قال ابن عباس: "فلم أزل عند عمر، ولم يزل في غشيةٍ واحدةٍ حتى أسفر، فلما أسفر أفاق فنظر في وجوهنا، فقال: "أصلى الناسُ؟"، قلت: نعم. قال: "لا إسلام لمن ترك الصلاة"، ثم دعا بوَضوءٍ فتوضأ ثم صلى، ثم قال: "اخرج يا ابن عباس فسل5 من قتلني؟". فخرجت حتى فتحت باب الدار فإذا الناس مجتمعون جاهلون بأمر عمر، فقلت: من طعن
__________
1 في الأصل: (لو شاء).
2 سقط من الأصل.
3 في الأصل: (اللناس)، وهو تحريف.
4 الصفّاق: جلدة رقيقة تحت الجلد الأعلى وفوق اللحم. (النهاية 3/39).
5 في الأصل: (فلي).

(3/809)


أمير المؤمنين؟ فقالوا: طعنه عدوّ الله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة".
قال: فدخلت فإذا عمر يمدني1، 2 النظر يستأني خبر ما بعثني إليه، فقلت: أرسلني أمير المؤمنين لأسأل من قتله، فكلمت الناس فزعموا أنه طعنه عدوّ الله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، ثم طعن معه رهطاً ثم قتل نفسه، فقال: "الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط، ما كانت العرب لتقتلني".
قال سالم: "فسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال عمر: "أرسِلُوا إليَ طبيباً ينظر إلى جُرحي هذا، فأرسلوا إلى طبيب فسقى عمر نبيذاً فشبه النبيذ بالدم حين خرج من الطعنة التي تحت السرة، فدعوت طبيباً آخر من الأنصار من بني معاوية3، فسقاه لبناً فخرج اللبن من الطعنة أبيضاً فقال له الطبيب: "يا أمير المؤمنين، اعهد". فقال: "صدقني أخو بني معاوية، ولو قلتَ غير ذلك لكذَّبتُك"، قال: فبكى عليه القوم حين سمعوا، فقال: "لا تبكوا علينا، ، من كان باكياً فليخرج، ألم تسمعوا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : "يُعَذَّبُ الميتُ ببكاء أهله عليه" 4.
__________
1 في طبقات ابن سعد، ومناقب عمر، والكنز: (يبد في).
2 المدّ: طموح البصر إلى الشيء. (القاموس ص 406).
3 معاوية بن مالك بن عوف بن مالك بن الأوس. (جمهرة أنساب العرب ص 335).
4 ابن سعد: الطبقات 4/336، 345، وإسناده صحيح.

(3/810)


وعن عبد الله بن عمر قال: "سمعت عمر يقول: "لقد طعنني أبو لؤلؤة وما أظنه إلا كلباً حتى طعنني الثالثة"1.
عن ابن سعد: أن عبد الله بن عوف2 طرح على أبي لؤلؤة خميصة3 كانت عليه فانتحر أبو لؤلؤة، فحز عبد الله بن عوف رأسه"4.
وعن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: "لما طُعن عمر رضي الله عنه اجتمع إليه البدريّون، المهاجرون والأنصار، فقال لابن عباس: "أخرج إليهم فسلهم، عن ملأ منكم مشورة كان هذا الذي أصابني؟". قال: فخرج ابن عباس فسألهم، فقال القوم: "لا والله ولوددنا أن الله زاد في عمرك من أعمارنا"5.
وعن ابن عمر: أن عمر كان يكتب إلى أمراء الجيوش: لا تجلبوا علينا من العلوج أحداً، جرت عليه المواسي، فلما طعنه أبو لؤلؤة قال: "من هذا؟"، قالوا6: "غلام المغيرة بن شعبة"، قال: "ألم أقل لكم لا تجلبوا علينا من العلوج أحداً، فغلبتموني؟"7.
وعن عبد الله بن ميمون8 قال: رأيت عمر رضي الله عنه يوم طعن وعليه ثوب
__________
1 ابن سعد: الطبقات 3/348، وفيه الواقدي. وابن الجوزي: مناقب ص 216، والمتقي الهندي: كنْز العمال 12/658، وعزاه لابن سعد.
2 الزهري، أخو عبد الرحمن، أسلم يوم الفتح، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم. (الإصابة4/116).
3 الخَمِيصة: كساء أسود مربّع له علمان. (القاموس ص 797).
4 ابن سعد: الطبقات3/347، 348، وفيه الواقدي. وابن الجوزي: مناقب ص 216.
5 ابن سعد: الطبقات 3/348، وهو منقطع، وفيه الواقدي.
6 في الأصل: (قال)، والمثبت من طبقات ابن سعد.
7 ابن سعد: الطبقات3/349، وإسناده صحيح، وابن شبه: تاريخ المدينة3/892، وابن الجوزي: مناقب ص216، والمتقي الهندي: كنْز العمال12/685، وعزاه لابن سعد.
8 الأودي.

(3/811)


أصفر، فخر، وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب: 38]1.
وعن عبيد الله بن عبد الله2 حين طعن في غلس السحر، قال: فاحتملته أنا ورهط كانوا معي في المسجد حتى أدخلناه بيته، قال: وأمر عبد الرحمن بن عوف أن يصلي بالناس، قال: فلما دخل عمر بيته غشي عليه من النزف، فلم يزل في غشيته حتى أسفر، ثم أفاق، فقال: "هل صلى الناس؟"، قال: قلنا: "نعم". قال: "لا إسلام لمن ترك الصلاة". قال: ثم دعا بوَضوء، فتوضأ، وصلى.
وقال عمر حين أخبر / [117 / ب] أن أبا لؤلؤة هو الذي طعنه: "الحمد لله الذي قتلني من لا يحاجني عند الله بصلاة صلاها". وكان مجوسيّاً3.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أنا أوّل من أتى عمر حين طعن فقال: "احفظ عني ثلاثاً إني أخاف أن لا يدركني الناس، أما4 أنا فلم أقضِ في الكلالة قضاء، ولم أستخلف، وكلّ مملوك لي عتيق".
فقال الناس: "استخلف"، فقال: "أي ذلك أفعل5 فقد فعله من هو خير مني، إن أدع إلى الناس أمرهم فقد تركه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وإن أستخلف فقد استخلف من [هو]6 خير مني أبو بكر. فقلت: ابشر بالجنة صاحبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
1 ابن سعد: الطبقات 3/329، وابن أبي شيبة: المصنف 14/583، وإسنادهما صحيح، فيه الأعمش، مدلس، وقد عنعن، لكن روايته هنا محمولة على السماع. والمتقي الهندي: كنْز العمال 12/678، وعزاه لابن سعد وابن أبي شيبة.
2 ابن عتبة الهذلي، ثقة، فقيه ثبت، من الثالثة، توفي سنة أربع وتسعين. (التقريب ص 372).
3 ابن شبه: تاريخ المدينة 3/902، وإسناده حسن، فيه إبراهيم بن المنذر الحزاميّ، صدوق. (التقريب رقم: 253).
4 مطموس في الأصل، سوى (أ).
5 مطموس في الأصل، سوى (أفعا).
6 مطموس في الأصل.

(3/812)


فأطلتَ صُحبته، ووليت إمرة المؤمنين، فقويت وأديت الأمانة، فقال: "أما تبشيرك بالجنة فلا والله الذي لا إله إلا هو، لو أن لي الدنيا بما فيها لافتديت1 به من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر، وأما قولك: في إمرة المؤمنين، فوالله لوددت أن ذلك كفافاً2 لا لي ولا عليّ، وأما ما ذكرت من صحبتي نبيّ الله فذلك"3.
وعن عمرو بن ميمون قال: "إني لقائم ما بيني وبين [عمر]4 إلا عبد الله بن عباس، غداة أصيب، وكان إذا مرّ بين الصفين قال: "استوو"، حتى إذا لم يكن5 فيهن خللاً تقدم فكبّر، وربما قرأ بسورة يوسف، أو النحل، أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس6، فما هو إلا أن كبّر فسمعته يقول قتلني أو أكلني الكلب حتى طعنه، فطار العلجُ بسكين ذات طرفين لا يمرُّ7 على أحمدٍ يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين8 طرح عليه برنساً، فلما ظن العلجُ أنه مأخوذ نَحَرَ نفسه، وتناول عمر رضي الله عنه بيد عبد الرحمن بن
__________
1 مطموس في الأصل، سوى (لا).
2 مطموس في الأصل، سوى (كفا).
3 ابن سعد: الطبقات 3/353، وأحمد: المسند 1/295، وإسنادهما صحيح. وصحّحه أحمد شاكر في تخريجه لأحاديث المسند، رقم: 322، وعبد الرزاق بنحوه من طريق آخر. (المصنف 10/302).
4 سقط من الأصل.
5 مطموس في الأصل، سوى (يكـ).
6 مطموس في الأصل، سوى (النا).
7 مطموس في الأصل، سوى (يمـ).
8 مطموس في الأصل، سوى (المسلمـ).

(3/813)


عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي رأى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون، غير أنهم فقدوا صوت عمر1 وهم يقولون: "سبحان الله، سبحان الله".
فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا، قال: "يا ابن عباس انظر من قتلني"2، فجال ساعة، ثم جاء فقال: "غلام المغيرة"، فقال: "نعم، قاتله الله لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل3 منيتي بيد رجل يدعي الإسلام قد كنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة". - وكان العباس4 أكثرهم رقيقاً - فقال: "إن شئت فعلت"، أي: قتلناهم، قال: "تكذب؟"، بعدما تكلموا بلسانكم وصلّوا قبلتكم، وحجوا حجتكم". فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يؤمئذٍ. فقال قائل: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتى بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، فعرفوا5 أنه ميت، فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب، فقال: "أبشر يا أمير المؤمنين6 ببُشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت7، ثم شهادة".
فقال: "وددت أن ذلك كفافاً8 لا علي ولا لي، قال: فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: "ردّوا
__________
1 مطموس في الأصل، سوى (عم).
2 مطموس في الأصل، سوى (قنا).
3 مطموس في الأصل، سوى (يجعا).
4 مطموس في الأصل، سوى (العبـ).
5 في الأصل: (فعرفوا).
6 مطموس في الأصل، سوى (المؤمنـ).
7 مطموس في الأصل، سوى (فعدله).
8 في صحيح البخاري: (كفاف)، وفي مناقب عمر: (كان كفافاً)، وفي الأصل هكذا ورد بالنصب وله وجه من العربية.

(3/814)


علي الغلام، فقال: يابن أخي ارفع ثوبك فإنه أتقى لربّك، يا عبد الله بن عمر، انظر ما عليّ من الدين، "فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: "إن وفى له مال آل عمر فأدّه من أموالهم، وإلا فسأل1 في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدّ عني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عمر عليك السلام، ولا تقل أمير المؤمنين / [118 / أ] فإني ليست اليوم للمؤمنين بأمير، وقل يستأذن عمر بن الخطّاب أن يدفن مع صاحيبه".
فمضى، وسلم، واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطّاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه". فقالت: "أريده لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: "هذا عبد الله بن عمر، قد جاء"، قال: "ارفعوني"، فأسنده رجل إليه فقال: "ما لديك؟"، قال: "الذي تحبّ يا أمير المؤمنين، أذنت". قال: "الحمد لله، ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلّم، وقل: يستأذن عمر بن الخطّاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردّتني فردّوني إلى مقابر المسلمين.
وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجل فولجت داخلاً لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا2: "أوص يا أميرَ المؤمنين استخلف". قال: "ما أجد أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، فسمّى: عليّاً، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعداً، وعبد الرحمن
__________
1 في صحيح البخاري، ومناقب عمر: (فسل).
2 في الأصل: (فقالوا).

(3/815)


ابن عوف، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس [له]1 من الأمر شيء، كهيئة التعزية له، فإن أصابت الإمرةَ سعد فهو ذلك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة".
وقال: "أوصي الخليفة من بعدِي بالمهاجرين الأوّلين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، [و]2 أوصي بالأنصار خيراً: {الَّّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإِيمَانَ مِن قَبْلِهِم} [الحشر: 9] أن يقبل من محسنهم، وأن يعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيراً فإنهم ردء الإسلام، وجباة المال، وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصي بالأعراب خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام أن يأخذ3 من حواشي أموالهم، ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم".
فلما قبض رضي الله عنه خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلّم عبد الله بن عمر، وقال: "يستأذن عمر بن الخطّاب"، قالت: "أدخلوه"، فأدخل فوضع هنالك، مع صاحبيه". ذكره ابن الجوزي4، وهو طريق البخاري5.
وقد جاء في حديث آخر عن عمرو بن ميمون: أنه لما احتمل عمر إلى بيته صاح الناس، وقالوا: "الصلاة جامعة"، فدفعوا عبد الرحمن فصلى بهم أقصر سورتين من القرآن: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالفَتْحُ} [النصر: 1]، و {إِنَّا أَعْطَيْنَاك
__________
1 مطموس في الأصل.
2 سقط من الأصل.
3 في صحيح البخاري (يؤخذ).
4 ابن الجوزي: مناقب ص 217، 218، 219.
5 سبق تخريجه ص 958.

(3/816)


الكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]1.
وعن عبد الله بن عمر، قال: "سمعت عمر يقول2: "أرسلوا إلى طبيب ينظر إلى جرحي هذا، قال فأرسلوا إلى طبيب من العرب، فسقى عمر نبيذاً فشبه النبيذ بالدّمّ حين خرج من الطعنة التي تحت السرة، قال: فدعوت طبيباً من الأنصار من بني معاوية فسقاه لبناً فخرج اللبن من الطعنة يصلد3 أبيض فقال هل الطّبيب: "يا أمير المؤمنين اعهد". فقال عمر: "صدقّني أخو بني معاوية، ولو قلت غير ذلك كذّبتك". قال: فبكى عليه القوم حين سمعوا ذلك، فقال: "لا تبكوا علينا، من كان باكياً فيخرج، ألم تسمعوا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟": "يعذب الميت ببكاء أهله عليه" ، فمن أجل ذلك كان عبد الله لا يقرّ أن يُبكى عنده على هالكٍ من ولده، ولا غيرهم"4.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "دخلت على أبي فقلت5: سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك: زعموا أنك غير مستخلفٍ، وأنك لو كان لك راعي إبل، أو راعي غنم، ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع،
__________
1 ابن سعد: الطبقات 3/340، 341، وابن شبه: تاريخ المدينة 3/897، والحارث في مسنده كما في بغية الباحث 2/622، 623، وأبو نعيم: الحلية 4/151، كلهم عن أبي إسحاق السبيعي، وهو مدلّس، وقد عنعن، والبوصيري في الإتحاف 3/30، وقال: "قلت: في الصحيح طرف منه، وله شاهد في المناقب". وابن حجر في المطالب العالية 4/45، وعزاه للحارث، وقال: "هذا حديث صحيح أخرجه البخاري بأتم من هذا السياق".
2 في طبقات ابن سعد، ومسند أحمد: (فقال سالم: سمعتُ عبد الله بن عمر يقول: قال عمر".
3 في المسند، والطبقات: (صلداً)، وفي مناقب عمر: ( بصديد).
4 ابن سعد: الطبقات 3/346، بأطول، وأحمد: المسند 1/282، وإسنادهما صحيح، وصحّحه أحمد شاكر في تخريجه لأحاديث المسند، رقم: 294.
5 في الأصل: (حين)، والتصويب من الهامش.

(3/817)


فرعاية الناس أشد، فوضع رأسه، ثم رفعه فقال: "إن الله يحفظ دينه، وإني لا أستخلف / [118 / ب] فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر رضي الله عنه قد استخلف). فوالله ما هو إلا أن ذكر1 رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، وأنه غير مستخلف"2.
وعن ابن عمر3: أن عمر رضي الله عنه قيل له: "ألا تستخلف؟"، فقال: "إن أترك فقد ترك من هو خير مني، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر رضي الله عنه"4.
وعن محمّد بن سعد: أن مالك بن أنس قال5: "استأذن عمر رضي الله عنه عائشة في حياته، فأذنت له أن يدفن في بيتها، فلما حضرته الوفاة6، قال: إذا مت، فاستأذنوها فإن أذنت وإلاّ فدعوها، فإني أخشى أن تكون أذنت لي لسلطاني7، فلما مات أذنت لهم"8.
__________
1 مطموس في الأصل، سوى (ذكـ).
2 أحمد: المسند 1/299، وإسناده صحيح. ومن طريقه وابن عساكر: تاريخ دمشق جـ 13/ ق 175، وصحّحه أحمد شاكر في تخريجه لأحاديث المسند، رقم: 332، وبنحوه مسلم: الصّحيح، كتاب الإمارة 3/1455، رقم: 1823. وقد مرّ بنحوه ص: 893، 956، 958، 964، 967.
3 مطموس سوى: (عم).
4 أحمد: المسند 1/284، عبد بن حميد: المسند 1/83، وإسنادهما صحيح، وصحّحه أحمد شاكر في تخريجه لأحاديث المسند، رقم: 299، ومسلم بنحوه: الصحيح، كتاب الإمارة 3/1454، رقم: 1823.
5 مطموس في الأصل، سوى (قا).
6 مطموس في الأصل، سوى (الو).
7 مطموس في الأصل، سوى (لسلط).
8 ابن سعد: الطبقات 3/363، وفيه الواقدي، وابن الجوزي: مناقب ص 221.

(3/818)


وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لما طعن عمر رضي الله عنه كنت فيمن حمله حتى أدخلناه الدار، فقال لي: "يا ابن أخي اذهب فانظر من أصابني، ومن أصاب معي"، فذهبت فجئت1 لأخبره فإذا البيت ملآن، فكرهت أن أتخطى رقابهم، وكنت حديث السن فجلست، فإذا هو مسجى2، وجاء كعب، فقال: "والله لئن دعا أمير المؤمنين ليبقينه الله، وليرفعنه لهذه الأمة، حتى يفعل فيها كذا وكذا"، حتى ذكر المنافقين فيمن ذكر، قلت: أبلغه ما تقول؟، قال: "ما قلت إلا وأنا أريد أن تبلغه"، فتشجعت فقمت فتخطيت رقابهم حتى جلست عند رأسه، فقلت: إنك أرسلتني بكذا3 يعني: فأخبره. قال: وأصاب معك ثلاثة عشرة رجلاً، وأصاب كليباً4، وهو يتوضأ عند المهراس5، وإن كعباً6 يحلف بالله بكذا، فقال: "ادعوا كعباً، فدعي فقال: ما تقول؟"، فقال: "أقول كذا وكذا"، قال: "لا والله، لا أدعو، ولكن شقي عمر إن لم يغفر الله له"7.
وعن عمرو بن ميمون قال: "لما طعن عمر دخل عليه كعب فقال: {الحَقُّ
__________
1 مطموس في الأصل، سوى (فجئـ).
2 مطموس في الأصل، سوى (مسجـ).
3 مطموس في الأصل، سوى (بكـ).
4 كليب بن البكير الليثي. (الإصابة 5/313).
5 المِهرْاس: حجر مستطيل منقور يتوضأ منه، ويدق فيه. (لسان العرب 6/248).
6 مطموس في الأصل، سوى (كعـ).
7 ابن شبه: تاريخ المدينة 3/909، وفي إسناده أبو جميع، قال الحافظ: "مقبول". (التقريب رقم: 2172، وابن عساكر: تاريخ دمشق جـ 13/ ق 170، عن أبي جميح، وابن الجوزي: مناقب ص 222، وقد مرّ بنحوه ص 944.

(3/819)


مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، قد أنبأتك أنك شهيد، فقلت: من أين لي الشهادة وأنا في جزيرة العرب؟!"1، 2.
وعن المسور بن مخرمة: أن ابن عباس دخل على عمر بعدما طعن فقال: "الصلاة"، فقال: "نعم، لا حظ لامرئ في الإسلام أضاعَ الصلاة"، فصلى والجُرْحُ يَثْعَبُ3 دماً4.
وعن المسور بن مخرمة: أن عمر رضي الله عنه لما طعن جعل يُغمى عليه، فقيل: "إنكم لن تفزعوه بشيء مثل الصلاة، إن كانت به حياة". فقالوا: "الصلاة5 يا أمير المؤمنين، الصلاة6، قد صُليت"، فانتبه، فقال: "الصلاة، هاءَ الله إذا ولا حظ في الإسلام7 لمن ترك الصلاة"، فصلى وإن جرحه ليثعب دماً"8.
وعن المسور بن مخرمة، قال: "لما طعن عمر رضي الله عنه جعل يأْلَم، فقال له ابن عباس، وكأنه يُجَزِّعُه: يا أمير المؤمنين، ولا كل ذلك، ولقد
__________
1 مطموس في الأصل، سوى (العر).
2 ابن سعد: الطبقات 3/341، 342، بأطول، وابن شبه: تاريخ المدينة 3/917، وإسنادهما صحيح، وابن الجوزي: مناقب ص 222.
3 يثعب: يجري. (لسان العرب 1/236).
4 مالك: الموطّأ (رواية أبي مصعب الزهري) 1/44، وإسناده صحيح، وعبد الرزاق: المصنف1/150، وابن سعد: الطبقات 3/350، وابن أبي شيبة: المصنف14/583، وأحمد: الزهد ص: 124، والبيهقي: السنن 1/357، واللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة رقم: 1528، وأبو نعيم: االمعرفة 1/25، والمتقي الهندي: كنْز العمال 9/622.
5 في الأصل: (فانتبه قد صليت)، وهو تحريف.
6 مطموس في الأصل، سوى (الصا).
7 مطموس في الأصل، سوى (الإسا).
8 ابن سعد: الطبقات 3/350، وإسناده صحيح. وابن الجوزي: مناقب ص 222.

(3/820)


صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أبا بكر رضي الله عنه فأحسنت صحبته، [ثم]1 فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبتهم وأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقَنَّهم وهم عنك راضون"2.
قال: "أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ورضاه فذلك منّ من الله تعالى، منَّ به عليّ [وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر، ورضاه، فإنما ذاك منٌّ من الله - جل ذكره - منَّ به عليَّ]3 وأما ما تراه من جَزَعِي فذلك من أجلك ومن أجل أصحابك، والله لو أن لي طلاعَ الأرض ذهباً4، لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه"5.
وعن ابن عباس: أنه دخل على عمر حين طعن فقال: "أبشر6 يا أمير المؤمنين، أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، وتُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان"، فقال عمر7: "أعد"، فأعدت، فقال عمر: "المغرور من غررتموه، لو أن لي ما على ظهرها من بيضاء وصفراء لافتديت / [119 / أ] به من هول المُطَّلع"8"9.
__________
1 مطموس في الأصل.
2 مطموس في الأصل، سوى (راضـ).
3 سقط من الأصل.
4 مطموس في الأصل، سوى (ذ).
5 سبق تخريجه ص 735.
6 مطموس في الأصل، سوى (أبش).
7 مطموس في الأصل، سوى (عم).
8 المطلع: يريد به الموقف يوم القيامة أو ما يشرف عليه من أمر الآخرة عقيب الموت، فشبّهه بالمُطلع الذي يشرف عليه من موضع عال. (النهاية 3/133).
9 ابن أبي شيبة: المصنف13/20، وإسناده حسن وابن شبه: تاريخ المدينة3/935، 936.

(3/821)


وعن القاسم بن محمّد: أن عمر لما طُعِنَ جاء الناس يثنون عليه، ويودعونه، فقال عمر رضي الله عنه: "أبالإمارة تزكونني؟"، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عني راضٍ، وصحبت أبا بكر رضي الله عنه فسمعت وأطعت، وتُوُفِّيَ أبو بكر وأنا سامع مطيعٌ، وما أصبحت أخاف على نفسي إلاّ إمارتكم هذه"1.
وعن ابن عباس قال: "لما طعن عمر رضي الله عنه دخلت عليه، فقلت: أبشر يا أمير المؤمنين، فإن الله قد مصر بك الأمصار، فدفع بك النفاق"، قال: "أفي الإمارة تثني عليّ يا ابن عباس؟"، فقلت: "وفي غيرها"، فقال: "والذي نفسي بيده، لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها، لا أجرَ ولا وِزْر"2.
وعن أسلم أن عمر رضي الله عنه حين طعن قال: "لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من كرب ساعة - يعني: بذلك الموت - فكيف ولم أرد النار بعد"3.
وعن ابن عباس، قال: "كنت مع عليّ رضي الله عنه فسمعنا الصيحة على عمر، قال: فقام وقمت معه، فدخلنا عليه البيت الذي هو فيه فقال: "ما هذا الصوت؟"، فقالت له امرأةٌ: "سقاه الطبيب نبيذاً فخرج وسقاه4 لبناً
__________
1 ابن أبي شيبة: المصنف 14/584، وابن سعد: الطبقات 3/355، وإسنادهما صحيح إلى القاسم، وهو منقطع بين القاسم وعمر بن الخطاب، وابن الجوزي: مناقب ص 223، والمتقي الهندي: كنْز العمال 12/677.
2 ابن سعد: الطبقات 3/351، ابن شبه: وتاريخ المدينة 3/915، وإسنادهما حسن، فيه سماك الحنفي لا بأس به. وأبو نعيم: الحلية ص 52، وابن عساكر: تاريخ دمشق جـ 13/ ق 171، وابن الجوزي: مناقب ص 224.
3 ابن الجوزي: مناقب ص 224، بدون إسناد.
4 في الأصل: (وسقا).

(3/822)


فخرج، فقال: لا أرى أن تمسّ، فما كنت فاعلاً، فافعل". فقالت أم كلثوم: "واعمراه"، وكان معها نسوة فبكين معها فارتج1 البيت بكاء، فقال: "والله لو أن لي ما في الأرض من شيء لافتديت به من هول المطلع".
فقال ابن عباس: والله إني لأرجو أن لا تراها إلا مقدار ما قال الله عزوجل: {وَإِن مِّنْكُم إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71]، كنت ما علمنا لأمير المؤمنين، وسيد المؤمنين، تقضي بكتاب الله، وتقسم بالسوية، فأعجبه قولي فاستوى جالساً، فقال: "أتشهد لي بهذا يا بن عباس؟"، قال: "فكففتُ فضرب على كتفي، فقال: "أتشهد لي؟"، قلت: "نعم. أشهد"2.
وعن قيس بن أبي حازم قال: "لما طعن عمر دخل عليّ وابن عباس، ورأسه في حجر عبد الله بن عمر، فدعا بنبيذٍ فشرب منه، فخرج من طعنته فقال بعضهم: "نبيذٌ، وقال بعضهم: دم، فدعا بشربة من لبن فشرب منه، فخرج بياض اللبن، فعرف أنه ميت، فقال لابن عمر: "ضع رأسي ثكلتك أمك فوضع رأسه، فقال: "لو كان لي ما بين المشرق والمغرب لافتديت به من هول المطلع"، فقال له ابن عباس: "ولِمَ يا أمير المؤمنين؟، فوالله لقد كان إسلامك عزّاً وإمارتك فتحاً، ولقد ملأت الأرض عدلاً". فقال: "تشهد لي بذلك يا ابن عباس؟"، فكأنه كره ذلك، فقال له عليّ بن أبي طالب: "قل نعم. وأنا معك"3.
__________
1 الرّجّ: التحريك، والتحرّك، والاهتزاز. (القاموس ص 243).
2 ابن سعد: الطبقات 3/351، وإسناده ضعيف، فيه كثير النّواء، وهو ضعيف. (التقريب رقم: 5605)، وابن عساكر: تاريخ دمشق جـ 13/ ق 172، 173، عن ابن سعد، وابن الجوزي: مناقب ص 224، وأشار إليه ابن حجر في فتح الباري 7/52.
3 ابن الجوزي: مناقب ص 224، 225، بدون إسناد.

(3/823)


وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما طعن عمر رضي الله عنه كنت قريباً منه فمسست بعض جلده، فقلت: جلد لا تسمه النار أبداً، فنظر إليّ نظرة جعلت أرحمه منها، قال: "وما علمك بذلك؟"، قلت: "يا أمير المؤمنين، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، وفارقته وهو عنك راضٍ، وصحبت أبا بكر رضي الله عنه، بعده فأحسنت صحبته، وفارقته وهو عنك راضٍ، وصحبت المسلمين وفارقتهم - إن شاء الله - وهم عنك / [119/ ب] راضون، قال: "أما ما ذكرت من صحبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنٌّ من الله تعالى عليَّ، وأما ما ذكرت من صحبتي أبا بكر، فمنٌّ من الله، لو أن لي ما في الأرض لافتديت به عن عذاب الله قبل أن ألقاه أو أراه"1.
وعن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - قال: "ما أصابنا حزن منذ اجتمع عقلي منذ حزن أصابنا على عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ليلة طعن، قال: صلى بنا الظهر والعصر والمغرب والعشاء أسرّ الناس، وأحسنه حالاً، فلما كان الفجر صلى بنا رجل أنكرنا تكبيره، فإذا عبد الرحمن بن عوف، فلما انصرفنا قيل: طعن أمير المؤمنين، فانصرف الناس وهو في دمه لم يصلِّ الفجر بعد، فقيل: "يا أمير المؤمنين2، الصلاة الصلاة"، قال: "الصلاة، هاء الله3 إذ لا حظ لامرئ في الإسلام ضيع صلاته". قال: ثم وثب يقوم فانبعث الدم من جرحه، وانبعث جرحه دماً، فقال: "هاتوا لي عمامة"،
__________
1 البخاري: الصحيح، كتاب فضائل الصحابة 3/1350، تعليقاً، ووصله الإسماعيلي في المستخرج كما في تغليق التعليق 4/65، 66، وإسناده صحيح. وابن عساكر: تاريخ دمشق جـ 13/ ق 173، وابن الجوزي: مناقب ص 225، وقد مرّ عن المسور بن مخرمة ص 771، 772.
2 مطموس في الأصل، سوى (المؤ).
3 انظر: ص 937.

(3/824)


يعصب بها جرحه، ثم صلى، فلما صلى قال:
"يا أيها الناس على ملأ منكم1؟"، فقال له عليّ بن أبي طالب: "لا والله، لا ندري من الطاعن من خلق الله، أنفسنا تفتدي نفسك، ودماؤنا تفدي دمك"، فالتفت إلى عبد الله بن عباس، فقال: "اخرج فاسأل الناس ما بالهم وأصدقني الحديث"، فخرج ثم جاء فقال: "يا أمير المؤمنين، أبشر بالجنة، لا والله، ما رأيت عيناً2 تطرف من خلق الله من ذكر ولا أنثى إلا باكية عليك، يفدونك بالآباء، والأمهات، طعنك عبدُ المغيرة بن شعبة المجوسي، وطعن معك اثني عشر رجلاً، فهم في دمائهم حتى يقضي الله فيهم ما هو قاضٍ، فتهنأك يا أمير المؤمنين الجنة، فقال: "غرّ بهذا غير يا ابن عباس"، قال: ولِمَ لا أقول لك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن كان إسلامك لعزّاً وإن كانت هجرتك لفتحاً، وإن كان ولايتك لعدلاً، وقد قتلت مظلوماً".
ثم التفت إلى ابن عباس فقال: "أتشهد لي بذلك عند الله يوم القيامة؟"، فكأنه تلكأ، قال: يقول عليّ بن أبي طالب من جانبه: "نعم، يا أمير المؤمنين، نشهد لك بذلك عند الله يوم القيامة"، ثم التفت إلى ابنه عبد الله بن عمر3 فقال: "ضع خدي على الأرض"، فلم أعج4 لها، وظننت أن ذلك اختلاس من عقله، فقالها مرة أخرى: "ضع خدي إلى الأرض لا أم لك"، فعرفت أنه مجتمع العقل، ولم يمنعه هو إلا مما به من الغلبة، قال: فوضعت خده إلى الأرض، قال: حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من بين
__________
1 في الأصل " مامنكم " وهو تحريف .
2 مطموس في الأصل، سوى (عينـ).
3 مطموس في الأصل، سوى (عمـ).
4 ما عاجَ بقوله عيجاً وعَيْجُوجة: لم يكترث له. (لسان العرب 2/336).

(3/825)


أضغاث1 التراب، قال: وبكى حتى نظرت إلى الطين قد لصق بعينه قال: فأصغيت أذني لأسمع ما يقول، قال: فسمعته يقول: "يا ويل عمر، وويل أمه إن لم يتجاوز الله عنه"2.
وعن عبد الله بن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لما طعن قال له الناس: "يا أمير المؤمنين، لو شربت شربة". قال: "اسقوني نبيذاً"، وكان / [120 / أ] من أحبّ الشراب إليه، قال: فخرج النبيذ من جُرحه من صديد الدم فلم يتبين لهم ذلك أنه شرابه الذي شرب، فقالوا: "لو شربت لبناً"، فأتي به فلما شرب اللبن خرج من جُرحه، فلما رأى بياضه بكى وأبكى3 من حوله من الصحابة، وقال: "هذا حينٌ لو أن لي ما طلعت عليه الشمس، لافتديت به من هول المطلع"، قالوا: "ما أبكاك إلا هذا؟"، قال: "ما أبكاني غيره". قال: فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "يا أمير المؤمنين والله إن كان إسلامك لنصراً، وإن كانت إمارتك لفتحاً، والله لقد ملأتَ الأرض عدلاً، ما من اثنين يختصمان إليك إلا انتهيا إلى قولك". فقال عمر رضي الله عنه: "أجلسوني"، فلما جلس قال لابن عباس: "أعد عليَّ كلامك"، فلما أعاد عليه قال: "أتشهد لي بهذا عند الله عزوجل يوم القيامة؟"، فقال ابن عباس: "نعم". ففرح عمر بذلك وأعجبه4.
__________
1 الضّغث: قبضة من قضبان مختلفة أصل واحد، مثل: الأسل، والكراثِ، والثمام، وربما استعير ذلك في الشعر. (لسان العرب 2/164).
2 ابن الجوزي: مناقب ص 225، 226، بدون إسناد.
3 في الأصل: (بكى).
4 ابن سعد: الطبقات 3/354، وابن أبي شيبة: المصنف 12/36، 37، وابن عساكر: تاريخ دمشق جـ 13/ ق 175، من طريق ابن سعد. وهو ضعيف لانقطاعه بين عبد الله بن عبيد الله وعمر بن الخطاب، وابن الجوزي: مناقب ص 227، والمتقي الهندي: كنْز العمال 12/677، 678.

(3/826)


وعن ابن سيرين: قال: "لما طعن عمر رضي الله عنه جعل الناس يدخلون إليه، فقال لرجل: "انظر"، فأدخل يده فنظر، فقال: "ما وجدت؟"، فقال: "إني أجده قد بقي من وتينك1 ما تقضي منه حاجتك"، قال: "أنت أصدقهم وخيرهم"، فقال رجل: "والله إني لأرجو أن لا تمس النار جلدك أبداً"، قال: فنظر إليه حتى أوينا2 له3، ثم قال: "إن علمك بذلك يا ابن فلان لقليل، لو أن لي ما في الأرض لافتديت به من هول المُطَّلع"4.
قال ابن عباس: فقال عمر: "إن غُلب على عقلي فاحفظ عني اثنين لم أستخلف أحداً، ولم أقض في الكلالة شيئاً"5.
وذكر أبو القاسم الأصفهاني في (سيرة السلف)، عن ابن عباس قال: "لما طعن عمر دخلت عليه فقلت: أبشر يا أمير المؤمنين فإن الله قد مصّر بك الأمصار، ودفع بك النفاق، وأفشى بك الرزق، فقال: "أفي الإمارة تثني عليّ؟"، فقلت: وفي غيرها، قال: "والذي نفسي بيده، لوددت أني خرجت منها
__________
1 الوتين: عِرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه. (القاموس ص 1596).
2 في الأصل: (ابنا)، وهو تحريف.
3 أوى له: رَقَّ له. (القاموس ص 1628).
4 سك 3/352، ومن طريقه وابن عساكر: تاريخ دمشق جـ 13/ ق 175، وهو حسن فيه هوذة بن خليفة وهو صدوق. (التقريب رقم: 7327)، لكنه منقطع بين محمّد بن سيرين وعمر بن الخطاب، وابن الجوزي: مناقب ص 227، والمتقي الهندي: كنْز العمال 12/685، وعزاه لابن سعد.
5 ابن سعد: الطبقات 3/352، وإسناده حسن فيه هوذة بن خليفة وهو صدوق. والأثر مرّ بنحوه ص 893.

(3/827)


كما دخلت لا أجر ولا وزر"1.
وذكر أبو القاسم الأصفهاني عن عمرو بن ميمون قال: "شهدت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه حين طعن، فما منعني أن أكون في الصّفّ المقدم إلا هيبته، وكان مهيباً وكنت في الصّفّ الذي يليه، وكان عمر رضي الله عنه لا يكبّر حتى يستقبل [الصّفّ]2 المقدم بوجهه فإذا رأى رجلاً متقدماً من الصّفّ، أو متأخراً ضربه بالدّرّة فذلك الذي منعني منه"3.
قال: وفي رواية المسور بن مخرمة: لما طعن عمر دخلت فأخذت بعضادتي 4الباب، فقلت: كيف ترونه؟ قالوا: "كما ترى"، قلت: "فأيقضوه بالصلاة، فإنكم لن توقضوه بشيء أفزع له من الصلاة، فقلت: الصلاة يا أمير المؤمنين، قال: "الصلاة، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة"، ثم قام فصلى وجرحه يثعب دماً5.
وعن عمرو بن ميمون، قال: "أصيب عمر يوم أصيب وعليه إزار أصفر، فسمعته يقول: [حين]6 وجد مسّ الحديد: {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب: 38]7.
__________
1 أبو القاسم الأصفهاني: سير السلف ص 132، وقد سبق تخريجه ص 975.
2 سقط من الأصل.
3 أبو القاسم الأصفهاني: سير السلف ص 149، ابن سعد: الطبقات 3/340، بأطول، وأبو نعيم: الحلية 4/150، عن أبي إسحاق السبيعي، وهو مدلّس، وقد عنعن، وقد سبق تخريجه ص 870، 879.
4 عضادتا الباب: الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل ومنه شماله. (لسان العرب 3/294).
5 أبو القاسم الأصفهاني: سير السلف ص 149، والأثر سبق تخريجه ص 974.
6 سقط من الأصل.
7 سبق تخريجه ص 963.

(3/828)


قلت: تضمن أمر عمر أحكاماً:
الأوّل: لا يكره الإيثار بالقرب، والمكان الفضيل في الحياة والموت، خلافاً لبعضهم1.
الثّاني: إذا بذل لا يكره القبول، خلافاً لمن نهى عنه2.
الثّالث: من قتل مظلوماً يغسل، ويكفن، ويصلَّى عليه، وهو الصحيح عندنا3.
الرّابع: الجريح تجوز له الصلاة بجرحه ودمه4.
الخامس: أن تارك الصلاة يكفر وهو إحدى الروايتين5 عن أحمد، فيقتل كفراً لا يغسل ولا يصلى عليه6.
والثّانية: لا يكفر، ويقتل لتركها حداً كالزنى ونحوه يغسل7 ويصلى عليه. / [120 / ب].
__________
1 انظر: ابن قدامة: المغني 3/233، ابن مفلح: الفروع 2/106، 107، البهوتي: الروض المربع مع الحاشية 2/483.
2 انظر: ابن قدامة: المغني 3/233، ابن مفلح: الفروع 2/106، 107، البهوتي: الروضة المربع مع الحاشية 2/483.
3 انظر: ابن قدامة: المغني 3/475، 476، ابن مفلح: الفروع 2/213، المرداوي: الإنصاف 2/503.
4 انظر: ابن حجر: فتح الباري 1/281.
5 في الأصل: (الرواتين)، وهو تحريف.
6 ابن قدامة: المغني 3/351، المرداوي: الإنصاف 1/327، 328، الحجاوي: منتهى الإرادات 2/499.
7 ابن قدامة: المغني 3/355، المرداوي: الإنصاف 10/327.

(3/829)


الباب الثمانون: وصاياه ونيه عن الندب
...
الباب الثمانون: في ذكر وصاياه ونهيه عن النّدب
في الصحيح عن عمرو بن ميمون عن عمر قال: "أوصيه - يعني الخليفة من بعده - بذمة الله وذمة رسول الله أن يُوفَى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يُكلّفوا إلاّ طاقتهم"1.
وعن عمرو بن ميمون قال: قال عمر: "أوصي الخليفة بالمهاجرين الأوّلين، أن يُعرف لهم حقهم، وأوصي الخليفة بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلِ أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل من محسنهم، وأن يعفى عن مسيئهم"2.
وعن ابن عمر قال: "دفع إليّ عمر رضي الله عنه كتاباً، فقال: "إذا اجتمع الناس على رجل فادفع إليه هذا الكتاب، وأقرأه مني السلام، فإذا فيه أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله، وأوصيه بالمهاجرين الأوّلين {الَّذِينَ أُخْرِجُوا من دِيَارِهِم وَأَمْوَالِهِم يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} [الحشر: 8-9]، أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً، {الَّّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإِيمَانَ مِن قَبْلِهِم يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهُم وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} ، إلى قوله: {المُفْلِحُونَ} [الحشر: 8-9] أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأن يشركوا في الأمر، وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يوفي بعهدهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم، وأن يقاتل من روائهم"3.
__________
1 سبق تخريجه ص 957، 968.
2 البخاري: الصحيح، كتاب التفسير 4/1854، رقم: 4606.
3 ابن الجوزي: مناقب ص 228، بدون إسناد.

(3/830)


وعن جويرية1 بن قدامة قال: "حججتُ فأتيتُ المدينةَ العام الذي أصيب فيه عمر، قال: فخطب فقال: "إني رأيت ديكاً أحمر نقرني نقرتين، أو نقرة"2. وكان من أمره أنه طعن، فأذن للناس عليه، فكان أوّل من دخل عليه أصحاب النبِي صلى الله عليه وسلم، ثم أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق، فخلتُ فيمن دخل، قال: فكان كلما دخل عليه قوم أثنوا عليه، وبكوا، قال: فلما دخلنا عليه، وقد عصب بطنه بعمامة سوداءَ، والدم يسيل، قال: فقلنا: أوصنا، قال: وما سأله الوصية أحد غيرنا، فقال: "عليكم بكتاب الله، فإنكم لن تضلوا ما اتّبعتموه". فقلنا: أوصنا، فقال: "أوصيكم بالمهاجرين فإن الناس سيكثرون ويقلون، وأوصيكم بالأنصار فإنهم شَعْب الإسلام الذي لجئ3 إليه، وأوصيكم بالأعراب، فإنهم أصلكم، ومادتكم، وأوصيكم بأهل ذمتكم فإنها عهد نبيّكم ورزق عيالكم قوموا عني". فما زاد على هؤلاء الكلمات"4.
وعن عمرو بن ميمون قال: "شهدت عمر رضي الله عنه يوم طعن، فقال: "ادعوا لي عليّاً، وعثمان، وطلحة، والزبير، وابن عوف، وسعد بن أبي وقاص"، فلم يكلم أحداً منهم غير عليّ وعثمان، فقال: "يا عليّ لعل هؤلاء القوم يعرفون لك حقّك، وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهرك، وما آتاك الله من الفقه والعلم، إن وليت هذا الأمر فاتق الله"، ثم دعا عثمان، فقال: "يا عثمان
__________
1 في الأصل: (جويره).
2 قوله: (نقرتين)، تكرر في الأصل.
3 في الأصل: (نجا)، وهو تحريف.
4 ابن سعد: الطبقات 336، 337، أحمد: المسند 1/309، 310، وابن شبه: تاريخ المدينة 3/936، وأسانديهم صحيحة. وابن أبي شيبة: المصنف 11/73، وأصله البخاري: الصحيح، كتاب الجزية3/1154، رقم: 2991، والتاريخ الكبير2/241.

(3/831)


علّ هؤلاء القوم أن يعرفوا لك صهرك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنك وشرفك، فإن وليت هذا الأمر فاتق الله فيهم"، ثم قال: "ادعوا لي صهيباً"، فدعي له، فقال: "صلّ بالناس ثلاثاً، وليَخل هؤلاء القوم في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل، فمن خالف فاضربوا رقبته". فلما خرجوا من عنده، قال: "إن يولوها الأجلحَ1 يسلك بهم الطريق". فقال له ابنه: "فما يمنعك يا أمير المؤمنين؟"، قال: "إني أكره أن أتحملها حيّاً وميّتاً"2.
وعن ابن عمر: أن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة - رضي الله عنها - فإن ماتت فإلى الأكابر من آل عمر3. / [121 / أ].
وقال ابن سعد4: "أوصى عمر أن تُقرّ عُمّاله سنةً، فأقرهم عثمان سنة"5.
وعن الشعبي، قال: "كتب عمر رضي الله عنه في وصيته أن لا يقر عامل أكثر من سنة، فأقروا الأشعري - يعني أبا موسى - أربع سنين"6.
وعن ابن عون7، قال: "سمعت رجلاً يحدّث محمّداً قال: "كانت
__________
1 الجَلَحُ: محرّكة: انحسار الشعر عن جانبي الرأس. (القاموس ص275)، وهو عليّ بن أبي طالب.
2 البلاذري: أنساب الأشراف (الشيخان: أبو بكر وعمر) ص 346، 347، وابن عبد البر: الاستيعاب 3/1153، 1154، وفي إسنادهما أبو إسحاق السبيعي، وهو مدلّس، وقد عنعن. والمحب الطبري: الرياض النضرة1/410، 411، وعزاه للنسائي.
3 ابن سعد: الطبقات 3/357، وإسناده صحيح. ومن طريقه البلاذري: أنساب الأشراف (الشيخان: أبو بكر وعمر) ص372، والمتقي الهندي: كنْز العمال12/687، وعزاه لابن سعد.
4 في الأصل: (مسعود)، وهو تحريف.
5 ابن سعد: الطبقات 3/359، وهو ضعيف لانقطاعه بين ربيعة بن عثمان وعمر بن الخطاب، وفيه الواقدي.
6 ابن الجوزي: مناقب ص 230.
7 عبد الله بن عون بن أرطبان .

(3/832)


وصية عمر عند أم المؤمنين حفصة، فلما توفيت صارت إلى عبد الله بن عمر، فلما توفي عبد الله بن عمر أوصى إلى ابنه، قال: وصارت الوصية بعد إلى سالم، وقال ابن عون: "فشهدته يقسمها قال: فرأيت من يوسعه شيئاً، غبطته عليه، قال: وجاءه رجل عليه كسوة حسنة وهيئة حسنة فأعطاه منها"1.
وعن ابن عمر قال: "وصاني عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال: "إذا وضعتني فأفض بخدي إلى الأرض حتى لا يكون بين خدي وبين الأرض شيء"2.
وعن المقداد بن معدي كرب3 قال: "لما أصيب عمر دخلت عليه حفصة - رضي الله عنها - فقالت: "يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا أمير المؤمنين، فقال عمر: "[يا عبد الله]4 أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع، فأسنده5 إلى صدره6، فقال لها: "إني [أُحرِّج]7 عليك بما لي من الحق أن تندبيني بعد مجلسك هذا، فأما عينكِ فلن أملكها، إنه ليس من ميت نُندبُ بما ليس فيه إلاّ الملائكة تمقته"8.
__________
1 ابن الجوزي: مناقب ص 230.
2 أحمد: الزهد ص: 120، وفي إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف. وابن الجوزي: مناقب ص 230، وأبو القاسم الأصفهاني: سير السلف ص 187، والمتقي الهندي: كنْز العمال 12/690، وعزاه لابن منيع.
3 الكندي، صحابي مشهور، توفي سنة سبع وثمانين على الصحيح. (التقريب ص 545).
4 سقط من الأصل.
5 في الأصل: (فأسندته)، وهو تحريف.
6 في الأصل: (صدرها)، وهو تحريف.
7 سقط من الأصل.
8 ابن سعد: الطبقات 3/361، والحارث في مسنده كما في بغية الباحث 1/365، وإسنادهما صحيح، وصححه الحافظ ابن حجر. (فتح الباري 7/67).

(3/833)


وقال ابن سيرين: قال صهيب: "واعمراه، وا أخاه، من لنا بعدك؟"، فقال له عمر: "مه، يا أخي أما شعرت أنّه من يعوَّل1 عليه يعذَّب؟"2.
وفي الصحيح عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال: "توفيت ابنة لعثمان بمكّة، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس، وإني لجالسٌ بينهما، أو قال: جلستُ إلى أحدهما، ثم جاء الآخر، فجلس إلى جنبي، فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان3: "ألا تنتهي عن البكاء؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" . فقال ابن عباس: "قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثم حدّث قال: صدرت مع عمر من مكّة حتى إذا كنا بالبيداء4، إذا هو بركب تحت سمرة، فقال: "اذهب فانظر من هؤلاء الركب"، قال: فنظرت فإذا هو صهيب، فأخبرته، فقال: "ادعه لي"، فرجعت إلى صهيب فقلت: "ارتحل فالحق أمير المؤمنين، فلما أصيب عمر، دخل صهيب يبكي، ويقول: "وا أخاه، وصاحبا، فقال عمر: "يا صهيب أتبكي عليَّ؟"، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه" ، قال ابن عباس: فَلَمَّا مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت: "يرحم الله عمر، ما حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه" ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليزيدُ الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه" ، وقالت: حسبكم القرآن ولا تزر وازرة وزر أخرى5، قال
__________
1 المعوّل عليه، أي: الذي يُبكى عليه من الموتى. (النهاية 3/321).
2 ابن سعد: الطبقات 3/362، وإسناده صحيح إلى ابن سيرين.
3 ابن عفان الأموي، ثقة، من الثالثة. (التقريب ص 424).
4 البيداء: اسم لأرض مَلسَاء بين مكّة والمدينة، وهي إلى المدينة أقرب، تُعَدُّ من الشّرَف أمام ذي الحليفة. (معجم البلدان 1/523).
5 تشير إلى قوله تعالى: {أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة النجم آية: 38].

(3/834)


ابن عباس عند ذلك: "والله هو أضحك وأبكى".
قال ابن أبي مليكة: / [121/ب] والله ما قال ابن عمر شيئاً"1.
وعن أبي بردة عن أبيه، قال: "لما أصيب عمر جعل صهيب يقول: "وا أخاه"2، فقال عمر: "أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميّت ليعذب ببكاء الحي؟" 3.
ورواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن أبي مليكة ولفظه: "كنتُ عند عبد الله بن عمر ونحن ننظر جنازة أم أبان بنت عثمان، وعنده عمرو بن عثمان، فجاء ابن عباس يقوده قائده4 قال: فأراه أخبر5 بمكان ابن عمر، فجاء حتى جلس إلى جنبي، وكنت بينهما فإذا صوت من الدار، فقال ابن عمر: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" ، فأرسلها عبد الله مرسلة، قال ابن عباس: "كنا مع أمير المؤمنين عمر، حتى إذا كنا بالبيداء إذ هو برجل نازل في ظل شجرة، فقال لي: "انطلق فاعلم من ذلك فانطلقت، فإذا هو صهيب، فرجعت إليه، فقلت: إنك أمرتني أن أعلم لك من ذاك، وإنه صهيب، فقال: "مرّوه فليلحق بنا"، فقلت: إن معه أهله، قال: "وإن كان معه أهله"، وربما
__________
1 البخاري: الصحيح، كتاب الجنائز 1/432، رقم: 1226، ومسلم: الصّحيح، كتاب الجنائز 2/640، رقم: 927، 928.
2 في الأصل: (وأخا)، والمثبت من صحيح البخاري.
3 البخاري: الصحيح، كتاب الجنائز 1/433، رقم: 1228، ومسلم: الصّحيح، كتاب الجنائز 2/640، رقم: 927.
4 في الأصل: (قائد)، والمثبت من مسند أحمد.
5 في الأصل: (أخبر)، والمثبت من مسند أحمد.

(3/835)


قال أيوب1 مرة: "فليلحق بنا"، فلما بلغنا المدينة لم يلبث أمير المؤمنين أن أصيب، فجاء صهيب، فقال: "واأخاه!!، واصاحباه!!"2، فقال عمر: "ألم تعلم، ألم تسمع3، أو قال: "ألم تعلم أو لم تسمع4، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله".
فأما عبد الله فأرسلها مرسلة، وأما عمر فقال: ببعض، فأتيت عائشة، فذكرت لها قول عمر، فقالت: "لا، والله ما قاله رسول الله، أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الكافر ليزيده الله ببكاء أهله عذاباً" . وإن الله لهو أضحك وأبكى، ولا تزر وازرة وزر أخرى5.
قال أيوب: وقال ابن أبي مليكة: حدّثني القاسم، قال: "لما بلغ عائشة - رضي الله عنها - قول عمر بن الخطّاب، وابن عمر، قالت: "إنكم لتحدّثوني عن غير كاذبين، ولا مكذّبين، ولكن السمع يخطئ"6.
فائدة
يجوز البكاء على الميت لقوله عليه السلام: "العين تدمع، والقلب يحزن" 7.
وأما النياحة، وما أشبه ذلك من شقّ الثياب، ولطم الخدود،
__________
1 أيوب بن أبي تميمة السختياني، البصري، ثقة ثبت، حجة من كبار الفقهاء العُبّاد، توفي سنة إحدى وثلاثين ومئة. (التقريب ص 117).
2 مطموس في الأصل، سوى (واصاحبا).
3 في الأصل: (أولم تعلم أو لم تسمع).
4 مسلم: الصّحيح، كتاب الجنائز 2/640، رقم: 928.
5 تشير إلى قوله تعالى: {أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}. سورة النجم آية: (38-42).
6 أحمد: المسند1/280، وإسناده صحيح، ومسلم: الصّحيح، كتاب الجنائز2/640، رقم: 928.
7 البخاري: الصحيح، كتاب الجنائز 1/349، رقم: 1241، ومسلم: الصّحيح، كتاب الفضائل 4/1808، رقم: 2115.

(3/836)


ونتف الشعور، وتسويد الوجه، فإنه لا يجوز1.
والنياحة: رفع الصوت2. والندب: هو تعداد أوصاف الميت، وما أشبه ذلك3. والله أعلم. / [122 / أ].
__________
1 النووي: شرح صحيح مسلم 2/110، 111، 6/235، 236، ابن حجر: فتح الباري 3/161، 163، 165.
2 انظر: ابن حجر: فتح الباري 3/161.
3 انظر: ابن منظور: لسان العرب 1/754.

(3/837)


الباب الحادي والثمانون: إظهاره الذل عند موته
...
الباب الحادي والثمانون: في إظهاره الذّلّ عند موته
ذكر ابن الجوزي عن ابن عمر قال: "كان عمر رضي الله عنه على فخذي في مرضه الذي مات فيه، فقال لي: "ضع رأس على الأرض"، فقلت: "وما عليك، كان على الأرض أو على فخذي؟"، فقال ضعه على الأرض"، فوضعته على الأرض، فقال: "ويل وويل أمي إن لم يرحمني ربي"1.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: "أنا آخركم عهداً بعمر رضي الله عنه دخلت عليه ورأسه في حجر ابنه عبد الله، فقال له: "ضع رأسي على الأرض"، فقال: "فهل فخذي والأرض إلا سواء؟"، فقال: "ضع خدي بالأرض لا أم لك"، في الثانية أو في الثالثة، وسمعته يقول: "ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي". حتى فاضت"2.
وعن عثمان رضي الله عنه قال: "آخر كلمة قالها عمر رضي الله عنه: "ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي، وويل أمي إن لم يغفر الله لي"3.
__________
1 ابن الجوزي: مناقب ص 231، وابن سعد: الطبقات 3/360، وابن أبي شيبة: المصنف 13/276، وأبو نعيم: الحلية 1/52، وابن عساكر: تاريخ دمشق جـ 13/ ق 183. ومداره على عاصم بن عبيد الله العدوي وهو ضعيف. (التقريب رقم: 3065). وابن شبه: تاريخ المدينة 3/918، وإسناده حسن، في إسناده جويرية بن أسماء، وهو صدوق. (التقريب رقم: 988).
2 ابن سعد: الطبقات 3/360، وابن شبه: تاريخ المدينة 3/919، وإسنادهما صحيح، وابن عساكر: تاريخ دمشق جـ 13/ ق 183، من طريق ابن سعد، وابن الجوزي: مناقب ص 231.
3 ابن سعد: الطبقات 3/360، 361، وأحمد: الزهد ص: 118، وابن شبه: تاريخ المدينة 3/919، وهو ضعيف، مداره على عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف.

(3/838)


وسبق بعض ذلك في الباب التّاسع والسّبعون1.
وذكر القاسم الأصفهاني في "سيرة السلف"، عن ابن عمر، قال: "كان رأس عمر رضي الله عنه على فخذي في مرضه الذي مات فيه، فقال لي: "ضع رأسي على الأرض"، فقلت: "وما عليك على فخذي أم على الأرض؟"، قال: "ضعه على الأرض"، فوضعته على الأرض، فقال: "ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربّي"2.
وعن ابن عمر قال: "أوصاني عمر رضي الله عنه قال: "إذا وضعتني في لحدي فأفض بخدي إلى الأرض"3.
لما قرب القرب من القدوم على حبيبه أحبّ إظهار الذّلّ، وأكثر ما يقصد إظهار الذّلّ عند4 إرادة التقرب من الحبيب، كما قال الشاعر:
أُهينُ لهم نَفسي لكي يكرمونها5 ... ولن يكرموا6 النفسَ التي لا تُهينها7
وقال آخر:
اخضع لمن تهوى وذلّ له ... فليس في شرع الهوى أنف يشال ويعقد8
__________
1 ص 803.
2 سقط من الأصل 132، وسبق تخريجه.
3 سبق تخريجه ص 833.
4 في الأصل: (عن)، وهو تحريف.
5 في ديوان الشافعي، وجامع بيان العلم، والحلية: (وأكرِمُها بهم).
6 في ديوان الشافعي، والحلية: (لا تُكرم)، وفي جامع بيان العلم، والحلية، وآداب الشافعي: (ولن تكرم).
7 الشافعي: الديوان ص 89، وأبو نعيم: الحلية 9/148، ابن عبد البر: جامع بيان العلم ص 189، الرازي: آداب الشافعي ص 158.
8 لم أعثر عليه.

(3/839)