الرياض النضرة
في مناقب العشرة الباب العاشر: في مناقب أبي عبيدة بن
الجراح
الفصل الأول والثاني والثالث:
في نسبه وأسمه وصفته
...
الباب العاشر: في مناقب أبي
عبيدة بن الجراح
وفيه عشرة فصول
الفصل الأول والثاني والثالث: في نسبه واسمه وصفته
وقد تقدم ذكره في ذكر الشجرة من باب العشرة، يجتمع هو
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فهر بن مالك، وينسب
إلى فهر فيقال: القرشي الفهري، أمه من بني الحارث بن فهر
أسلمت، قاله ابن قتيبة.
في اسمه
ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام عامرًا، وكنيته أبا
عبيدة وبها اشتهر، لقبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بأمين هذه الأمة؛ وسيأتي في خصائصه.
في صفته
وكان رضي الله عنه رجلا طويلا نحيفا، معروق الوجه، أثرم
(4/345)
الثنيتين، خفيف اللحية، وكان يخضب بالحناء
والكتم. ذكره ابن الضحاك، وسبب ثرمه أنه كان قد انتزع
سهمين من جبهة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد
بثنيتيه فسقطتا، وسيأتي ذكر ذلك. ويروى أنه المنتزع حلقتي
الدرع، ويجوز أن يكون السهمان أثبتا حلقتي الدرع فانتزع
الجميع، فسقطتا لذلك, فما رئي أهتم كان أحسن من أبي عبيدة.
ذكره ابن قتيبة وأبو عمر وغيرهما.
"شرح" الأثرم: الساقط الثنية، وكذلك الأهتم، وقد سبق
ذكرهما في نظيره من مناقب عبد الرحمن بن عوف, والمعروق
الوجه تقدم شرحه في صفة أبي بكر.
(4/346)
الفصل الرابع
والخامس: في إسلامه وهجرته
في إسلامه:
أسلم قديمًا مع عثمان بن مظعون، وهو ممن أسلم على يدي أبي
بكر على ما تقدم بيانه.
في هجرته:
قال الواقدي: هاجر أبو عبيدة إلى أرض الحبشة الهجرة
الثانية، ولم يحك ذلك ابن عقبة ولا غيره، ثم هاجر إلى
المدينة.
(4/346)
الفصل السادس: في
خصائصه
ذكر اختصاصه بأنه أمين هذه الأمة
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: "إن لكل أمة أمينًا، وإن أميننا -أيتها
الأمة- أبو عبيدة بن الجراح" أخرجه البخاري ومسلم، وأخرجه
الترمذي وأبو حاتم ولفظهما: "لكل أمة أمين، وأمين هذه
الأمة ... " الحديث. وأخرجه ابن نجيد وزاد: وطعن في
خاصرته، وقال: هذه خاصرة مؤمنة.
وعن حذيفة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأهل نجران:
"لأبعثن حق أمين" فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة. أخرجه
البخاري.
وعنه قال: جاء السيد والعاقب إلى النبي -صلى الله عليه
وسلم- فقالا: يا رسول الله ابعث معنا أمينك؛ فقال: "سأبعث
معكم أمينًا، حق أمين" فتشرف لها الناس؛ فبعث أبا عبيدة.
أخرجاه.
وعن أبي مسعود قال: لما جاء العاقب والسيد صاحبا نجران
أراد أن يلاعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال
أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا
نفلح نحن ولا عقبنا أبدًا؛ قال: فأتياه فقالا: لا نلاعنك،
ولكن نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا. فقال صلى الله
عليه وسلم: "لأبعثن رجلًا أمينًا حق أمين" قال: فاستشرف
لها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "قم يا
أبا عبيدة بن الجراح" قال: فلما قفا1 قال: "هذا أمين هذه
الأمة" أخرجه أحمد وأخرجه الترمذي وقال: "فبعث أبا عبيدة"
مكان "قم يا أبا عبيدة" ولم يذكر ما بعده. وأخرج ابن إسحاق
معناه عن محمد بن جعفر قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم: "ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين" قال: فكان
عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ
رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجرًا فلما صلى بنا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظر عن يمينه ويساره،
فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا
عبيدة بن الجراح فدعاه، فقال: "اخرج معهم, فاقض بينهم
بالحق فيما اختلفوا فيه" قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة.
وعن أنس بن مالك أن أهل اليمن قدموا على رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فقالوا:
__________
1 تبع الأمر، وقام.
(4/347)
ابعث معنا برجل يعلمنا؛ فأخذ رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- بيد أبي عبيدة وقال: "هذا أمين هذه
الأمة" أخرجه أبو عمر، وأخرجه صاحب الصفوة وقال: إن أهل
اليمن لما قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألوه
أن يبعث معهم رجلًا يعلمهم السنة والإسلام ... وذكر بقية
الحديث.
ذكر اختصاصه بالإمرة في بعض الأحيان:
عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- سرية وأمر عليها أبا عبيدة بن الجراح نتلقى عيرًا
لقريش، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، وكان أبو
عبيدة يعطينا تمرة تمرة، فقيل له: فكيف كنتم تصنعون بها؟
قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا
يومنا إلى الليل، فكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نله بالماء
فنأكله، قال: وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا على ساحل
البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى
العنبر، قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وفي سبيل الله، وقد اضطررتم،
فكلوا؛ قال: فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا،
ولو رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ونقتطع منه
القدر كالثور -أو كقدر الثور- ولقد أخذ منا أبو عبيدة
ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه
فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من
لحمه وشائق. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فذكرنا ذلك له، فقال: "هو رزق الله أخرجه لكم،
فهل معكم من لحمه شيء فتطعموننا?" قال: فأرسلنا إلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- منه فأكله. أخرجه مسلم.
وفي رواية: فأخذ أبو عبيدة ضلعًا من أضلاعه فنصبه, ونظر
إلى أطول بعير في الجيش وأطول رجل فحمله عليه، فجاز تحته،
وأخرجه بهذه الزيادة الخلعي.
(4/348)
"شرح" العير بالكسر: الإبل تحمل الميرة،
ويجوز أن تجمع على عيرات، والكثيب: الرمل المجتمع، وقد
تقدم في فصل هجرة أبي بكر، ووقب العين: نقرتها، ووقبت
عيناه: غارتا, وشائق جمع: وشيق ووشيقة، وهو اللحم يغلي
إغلاء ثم يقدد ويحمل في الأسفار، وهو أبقى قديد يكون.
قال أبو عبيدة: وزعم بعضهم أنه بمنزلة القدر لا تمسه
النار، يقول: وشقت اللحم أشقه وشقا وأشقته مثله, الفدر:
جمع فدرة، وهي القطعة.
ذكر اختصاص عمر إياه بالخلافة إن مات وهو حي:
عن عمر أنه لما بلغ سرغ وحدث أن بالشام وباء شديدًا فقال:
إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته، فإن سألني ربي -عز
وجل- لم استخلفته على أمة محمد? قلت: إني سمعت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن لكل نبي أمينا، وأميني أبو
عبيدة بن الجراح" وإن أدركني أجلي وقد توفي أبو عبيدة
استخلفت معاذ بن جبل, فإن سألني ربي لم استخلفته? قلت: إني
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنه يحشر يوم
القيامة بين يدي العلماء نبذة".
"شرح" سرغ بفتح الراء وسكونها: قرية بوادي تبوك من طريق
الشام، وقيل: على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة, نبذة بفتح
النون وضمها: ناحية، وقد تقدم في فصل خلافة أبي بكر أن عمر
بادر إلى مبايعة أبي عبيدة لما مات النبي -صلى الله عليه
وسلم- وقال: "أنت أمين هذه الأمة" فامتنع معتذرًا بأولوية
أبي بكر، ولما سئلت عائشة: من كان رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- مستخلفًا لو استخلف? قالت: أبا بكر، قيل: ثم
من? قالت: عمر، قيل: ثم من? قالت: أبا عبيدة. وقد تقدم ذلك
في فصل خلافة أبي بكر.
(4/349)
ذكر اختصاص أبي بكر إياه بالكون معه:
وروى أبو حذيفة إسحاق بن بشر في كتابه "فتوح الشام" أن
طوائف من أحياء العرب كانت تأتي من عامة الآفاق إلى أبي
بكر إمدادًا للمسلمين، فيستعمل عليهم الرجل منهم، ويخبرهم
أن يمضوا إلى أي أمرائه أحبوا، فإذا قالوا: اختر لنا يا
خليفة رسول الله، قال: عليكم بالهين اللين الذي إذا ظلم لم
يظلم، وإذا أسيء إليه غفر، وإذا قطع وصل، رحيم بالمؤمنين،
شديد على الكافرين. عليكم بأبي عبيدة بن الجراح.
"شرح" هين: لين مخفف ومشدد، وقوم هينون: لينون.
وقد تقدم في فصل خلافة أبي بكر أنه قال يوم السقيفة: وقد
رضيت لكم أحد الرجلين عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح,
أما أبو عبيدة فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة" وأما عمر
فسمعته يقول: "اللهم أيد الدين بعمر, أو بأبي جهل".
الحديث. وقد تقدم في فصل إسلام عمر.
(4/350)
الفصل السابع: في شهادة النبي -صلى الله
عليه وسلم- له بالجنة
وأحاديث هذا الفصل تقدمت في نظيره من باب العشرة, من حديث
عبد الرحمن وسعيد بن زيد.
(4/350)
الفصل الثامن: في
ذكر نبذ من فضائله
شهد أبو عبيدة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بدرًا وهو
ابن إحدى وأربعين سنة وما بعدها من المشاهد كلها، وشهد
بيعة الرضوان، وثبت معه يوم أحد، وقتل أباه يوم بدر كافرًا
فأنزل الله -جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُم} 1 الآية،
وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، كان رضي الله عنه يسير
في العسكر ويقول: ألا ربَّ مبيض لثيابه ومدنس لدينه، ألا
رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، بادروا السيئات القديمات
بالحسنات الحادثات، فلو أن أحدكم عمل في السيئات ما بينه
وبين السماء ثم عمل حسنة, لعلت فوق سيئاته حتى تقهرها.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة
بن الجراح" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن.
ذكر أحبية النبي -صلى الله عليه وسلم- له:
عن عائشة وقد سئلت: أي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- كان أحب إليه? قالت: أبو بكر، قيل: ثم من? قالت: أبو
عبيدة بن الجراح. وقد تقدم ذلك في باب ما دون العشرة.
ذكر ثناء أبي بكر وعمر وغيرهما عليه:
تقدم ثناء أبي بكر في فصل الخصائص, وطرف من ثناء عمر.
وعن عمر أنه قال لأصحابه يومًا: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو
أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله -عز وجل-
فقال: تمنوا, فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا
وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله -عز وجل- وأتصدق به،
ثم قال: تمنوا, قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين?
قال عمر: لكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي
عبيدة بن الجراح. أخرجه صاحب الصفوة، وأخرجه الفضائلي
وزاد: فقال رجل: ما آلوت الإسلام، قال: ذلك الذي أردت.
__________
1 سورة المجادلة الآية 22.
(4/351)
"شرح" آلوت: قصرت عنه.
وعن عمرو بن العاص قال: ثلاثة من قريش أصبح الناس وجوهًا
وأحسنهم أخلاقًا وأشدهم حياء، إن حدثوك لم يكذبوك، وإن
حدثتهم لم يكذبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو
عبيدة بن الجراح. أخرجه الفضائلي.
ذكر كراهية عمر خلاف أبي عبيدة:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن عمر لما خرج إلى الشام
وأخبر أن الوباء قد وقع به فجمع أصحاب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- واستشارهم فاختلفوا، فرأى عمر رأي من رأى
الرجوع فرجع، فقال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله?
فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة? وكان عمر يكره
خلافه, نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله, أرأيت لو كان لك
إبل فنزلت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة،
أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة
رعيتها بقدر الله? أخرجاه.
"شرح" العدوة بضم العين وكسرها: شاطئ الوادي أي: جانبه.
ذكر زهده:
عن عروة بن الزبير قال: لما قدم عمر بن الخطاب من الشام
تلقاه أمراء الأجناد وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي?
قالوا: من? قال: أبو عبيدة، قالوا: يأتيك الآن، فلما أتاه
نزل فاعتنقه، ثم دخل عليه بيته فلم ير في بيته إلا سيفه
وترسه ورحله، فقال له عمر: ألا اتخذت ما اتخذ صاحبك? فقال:
يا أمير المؤمنين هذا يبلغني المقيل. أخرجه في الصفوة
والفضائلي وزاد بعد قوله "يأتيك الآن": "فجاء على ناقة
مخطومة بحبل".
وفي رواية: أن عمر قال له: اذهب بنا إلى منزلك، قال: وما
(4/352)
تصنع? ما تريد إلا أن تعصر عينيك علي? قال:
فدخل منزله فلم ير شيئًا، قال: أين متاعك? ما أرى إلا
لبدًا وصحفة وشنا، وأنت أمير عندك طعام، فقام أبو عبيدة
إلى جونة فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال أبو عبيدة: قد
قلت لك: ستعصر عينيك علي يا أمير المؤمنين، يكفيك ما يبلغك
المقيل، فقال عمر: غرتنا الدنيا، كلنا غيرك يا أبا عبيدة.
وأخرج جميع ذلك بتغيير بعض ألفاظه صاحب "فتوح الشام" وأخرج
أيضًا أبو حذيفة في فتوح الشام أن أبا بكر لما توفي وخالد
على الشام واليًا واستخلف عمر, كتب إلى أبي عبيدة بالولاية
على الجماعة وعزل خالدًا، فكتم أبو عبيدة الكتاب من خالد
وغيره حتى انقضت الحرب وكتب خالد الأمان لأهل دمشق وأبو
عبيدة الأمير وهم لا يدرون, ثم لما علم خالد بذلك بعدما
مضى نحو من عشرين ليلة دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله
لك، جاءك كتاب أمير المؤمنين بالولاية فلم تعلمني وأنت
تصلي خلفي والسلطان سلطانك? فقال له أبو عبيدة: ويغفر الله
لك، ما كنت لأعلمك حتى تعلمه من غيري, وما كنت لأكسر عليك
حربك حتى ينقضي ذلك كله وقد كنت أعلمك إن شاء الله تعالى،
وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما نرى سيصير
إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان وقوام بأمر الله -عز
وجل- وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ولا دنياه بل
يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما
في الخطيئة لما يعرض من الهلكة إلا من عصم الله -عز وجل-
وقليل ما هم, فدفع أبو عبيدة عند ذلك الكتاب إلى خالد.
ذكر خوفه من الله -عز وجل:
روى أحمد في مسنده أن أبا عبيدة دخل عليه إنسان وهو يبكي
فقال: ما يبكيك يا أبا عبيدة? فقال: يبكيني أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ذكر يومًا ما يفتح الله على
المسلمين، حتى ذكر الشام فقال: "إن ينسأ من أجلك يا أبا
عبيدة فحسبك من الخدم ثلاثة: خادم يخدمك، وخادم يسافر معك،
وخادم
(4/353)
يخدم أهلك ويرد عليهم، وحسبك من الدواب
ثلاث: دابة لرحلك، ودابة لثقلك، ودابة لغلامك" ثم أنا أنظر
إلى بيتي قد امتلأ رقيقا، وأنظر إلى مربطي قد امتلأ خيلا
ودواب؛ وكيف ألقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هذا,
وقد أوصانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن أحبكم إلي
وأقربكم مني من لقيني على الحال التي فارقني عليها"؟
ذكر تواضعه, وإنصافه لرعيته, ومساواته لهم:
روى أبو حذيفة في "فتوح الشام" أن أبا بكر قد بعث عمرو بن
العاص في نفر وقال له: يا عمرو؛ هؤلاء أشراف قومك يخرجون
مجاهدين في سبيل الله، بائعين أنفسهم لله، فاخرج فعسكر حتى
أندب الناس معك، فقال عمرو: يا خليفة رسول الله, ألست أنا
الوالي على الناس? قال: بلى أنت الوالي على من أبعثه معك
من ههنا؛ فقال: بل على من أقدم عليه من المسلمين؛ قال:
فقال: لا، ولكن أحد الأمراء فإن جمعتكم حرب فأبو عبيدة
أميركم؛ فسكت عمرو، ثم لما حضر شخوصه جاء إلى عمر فقال: يا
أبا حفص، قد علمت نصرتي في الحرب ومناقبي في العدو؛ وقد
رأيت منزلتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أرى
أبا بكر ليس يعصيك، فأشر عليه رحمك الله أن يوليني أمر هذه
الجنود بالشام، فإني أرجو أن يفتح الله على يدي البلاد،
وأن يريكم الله والمسلمون ما تسرون به؛ فقال عمر: ما كنت
لأكذبك، ما كنت لأكلمك في ذلك, وما يوافقني أن يبعثك على
أبي عبيدة وأبو عبيدة أفضل عندنا منزلة منك، قال: فإنه لا
ينقص أبا عبيدة شيئًا من فضله إن ولاني عليه؛ قال: فلما
قدم عمرو على أبي عبيدة قال له أبو عبيدة: مرحبًا بك يا
أبا عبد الله, رب يوم قد شهدته مبارك للمسلمين فيه برأيك
ومحضرك، وإنما أنا رجل منكم، لست -وإن كنت الوالي عليكم-
بقاطع أمرًا دونكم فاحضرني برأيك في كل يوم بما ترى، فإنه
ليس لي عنك غنى، قال: فقال عمرو: أفعل، وفقك الله لما يصلح
للمسلمين ونكبت به العدو.
(4/354)
وروى أيضًا أبو حذيفة في "فتوح الشام" أن
الروم بعثوا إلى أبي عبيدة: إنا نريد أن نبعث إليك رجلا
منا يعرض عليك الصلح ويدعوك إلى النصف، فإن قبلت منه فلعل
ذلك أن يكون خيرًا لك لنا, وإن أبيت فما نراه إلا شرا لك,
فقال لهم: ابعثوا من شئتم. فبعثوا رجلا طويلا أحمر أزرق،
فجاء، فلما دنا من المسلمين لم يعرف أبا عبيدة من القوم،
ولم يدر أهو فيهم أم لا, ولم يرهبه مكان أمير من الأمراء.
فقال: يا معشر العرب، أين أميركم? فقالوا له: ها هو ذا،
فنظر فإذا هو بأبي عبيدة جالسًا عليه الدرع، وهو ممسك
الفرس، وبيده أسهم يقلبها وهو جالس على أرض، فقال له: أنت
أمير هؤلاء? قال: نعم، قال: ما يجلسك على الأرض? أرأيت إن
كنت جالسًا على وسادة أو كان تحتك بساط أكان ذلك واضعك عند
الله، أو هل يبعدك من الإحسان? قال له أبو عبيدة: إن الله
لا يستحي من الحق، لأصدقنك: ما أصبحت أملك إلا سيفي وفرسي
وسلاحي، ولقد احتجت أمس إلى نفقة فاقترضت من أخي هذا شيئًا
-يعني معاذ بن جبل- وكان عنده شيء فاقترضت، ولو كان عندي
بساط أو وسادة ما كنت لأجلس عليه وأجلس أخي المسلم -الذي
لا أدري لعله خير مني منزلة عند الله عز وجل- على الأرض،
ونحن عباد الله، نمشي على الأرض ونجلس عليها ونأكل عليها
ونضطجع عليها، وليس ذلك بناقصنا عند الله شيئًا، بل تعظم
به أجورنا وترفع درجاتنا، فهلم حاجتك التي جئت لها.
وأخرج أيضًا أبو حذيفة أن أبا عبيدة لما وجهه عمر إلى
الشام تلقاه في جنوده وهو على قلوص مكتنفها بعباءة خطامها
من شعر، لابس سلاحه, متنكب قوسه.
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- أن عمر كتب إلى أبي عبيدة في
الطاعون الذي وقع بالشام أنه: قد عرضت حاجة عندنا ولا غنى
فيها عنك، فإذا أتاك كتابي هذا فإني أعزم عليك إن أتاك
كتابي ليلا أن لا
(4/355)
تصبح حتى تركب، وإن أتاك نهارا أن لا تمسي
حتى تركب إليَّ. فلما قرأ الكتاب قال: قد عرفت حاجة أمير
المؤمنين، إنه يريد أن يستبقي من ليس بباق، ثم كتب: إني قد
عرفت حاجتك التي لك، فخلني من عزمتك يا أمير المؤمنين،
فإني في جند من أجناد المسلمين لا أرغب بنفسي عنهم. فلما
قرأ عمر الكتاب بكى، فقيل له: مات أبو عبيدة? قال: لا.
وكان قد كتب إليه عمر أن الأردن أرض غمقة، وأن الجابية أرض
نزهة، فاظهر بالمسلمين إلى الجابية. فلما قرأ أبو عبيدة
الكتاب قال: هذا نسمع فيه أمير المؤمنين ونطيعه. أخرجه أبو
حذيفة والفضائلي.
"شرح" الطاعون: الموت من الوباء وهو المرض العام لفساد
الهواء, فتفسد لذلك الأمزجة والأبدان، يقال: طعن الرجل فهو
مطعون وطعين. والأردن بضم الهمزة وتشديد النون: نهر وكورة
بأعلى الشام والجابية: قرية بدمشق، وغمقة -بالغين المعجمة-
أي: قريبة من الماء والنزور والحضر، والغمق: فساد الريح
"وغموقها من كثرة الأنداء" فيحصل منها الوباء، والغمق
أيضًا: ركوب الندى الأرض, وأرض غمقة: ذات ندى, وقال
الأصمعي: الغمق: الندى. نزهة أي: بعيدة من الماء فهي أقل
وباء، قال ابن السكيت: ومما يضعه الناس في غير موضعه
قولهم: خرجنا نتنزه إذا خرجوا إلى البساتين، قال: وأما
التنزه التباعد عن المياه والأرياف، ومنه قولهم: فلان
يتنزه عن الأقذار أي: يتباعد عنها.
وعن عروة بن الزبير أن طاعون عمواس كان معافى منه أبو
عبيدة بن الجراح وأهله، فقال: اللهم نصيبه في آل أبي
عبيدة، فخرجت بثرة في خنصر أبي عبيدة، فجعل ينظر إليها،
فقيل له: إنها ليست بشيء، فقال: إني أرجو أن يبارك الله
فيها, إنه إذا بارك في القليل كان كثيرًا. أخرجه الفضائلي
وأبو حذيفة.
(4/356)
"شرح" طاعون عمواس: قال الجوهري: هو أول
طاعون كان في الإسلام بالشام، والبثرة: خراج صغير، وجمعها
بثور، وفي هذا إشعار بأن الطاعون مفسر بغير ما فسر به
آنفًا، وأن أوله خراج في البدن, ولا يبعد أن يقال: كل مرض
عام من خراج أو غيره يسمى طاعونًا، وكان ذلك الطاعون على
ذلك النحو، والله أعلم.
ذكر اهتمامه حين استنهضه عمر عام القحط:
روي أن الناس قحطوا في خلافة عمر، فكتب إلى أبي عبيدة بن
الجراح وهو يومئذ بالشام: الغوث الغوث، أدرك المسلمين.
فكتب إليه أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، كتبت إلي: "الغوث
الغوث" وقد أتتك العير, أولها عندك وآخرها بالشام.
(4/357)
الفصل التاسع: في ذكر وفاته, وما يتعلق بها
مات رضي الله عنه في طاعون عمواس بالأردن من الشام -وفيها
قبره- سنة ثماني عشرة، في خلافة عمر، وهو ابن ثمان وخمسين
سنة، وصلى عليه معاذ بن جبل، ونزل في قبره معاذ وعمرو بن
العاص والضحاك بن قيس. ذكره أبو عمر وصاحب الصفوة.
وذكر المدائني عن العجلاني عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان
قال: مات في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفًا، وقيل: لما وقع
الطاعون قال عمرو بن العاص: إنه رجز فتفرقوا عنه، فبلغ
شرحبيل بن حسنة فقال: صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وعمرو أضل من بعير أهله، إنه دعوة نبيكم ورحمة من ربكم
وموت الصالحين قبلكم، فاجتمعوا له ولا تتفرقوا عنه, فبلغ
ذلك عمرو، فقال: صدق. وروي أن عمرو بن العاص قال: تفرقوا
عن هذا الرجز في الشعاب
(4/357)
والأودية ورءوس الجبال، قال معاذ بن جبل:
بل هو شهادة ورحمة ودعوة نبيكم, اللهم أعط معاذا وأهله
نصيبه من رحمتك, فطعن فمات.
وقال أبو قلابة: قد عرفت الشهادة والرحمة، وبها عرفت ما
دعوة نبيكم، فسألت عنها فقيل: دعا النبي -صلى الله عليه
وسلم- أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا أن لا
يجعل بأسهم بينهم، فمنعها فدعا بهذا. قال أهل العلم: إنما
يكون شهادة لمن صبر عليه محتسبًا عالمًا بأن ما أصابه لم
يكن ليخطئه, وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فأما من فر منه
فأصابه فليس بشهيد. أخرج من قول المدائني إلى هنا القلعي.
ذكر وصيته -رضي الله عنه:
عن سعيد بن المسيب قال: لما طعن أبو عبيدة بالأردن دعا من
حضره من المسلمين وقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن
تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا,
وحجوا واعتمروا, وتواصوا، وأنصحوا لأمرائكم ولا تغشوهم،
ولا تلهكم الدنيا فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من
أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون. إن الله تعالى كتب الموت
على بني آدم فهم ميتون، فأكيسهم أطوعهم لربه وأعملهم ليوم
معاده، والسلام عليكم ورحمة الله، يا معاذ بن جبل صل
بالناس.
ومات رحمه الله فقام معاذ في الناس، فقال: يا أيها الناس,
توبوا إلى الله من ذنوبكم، فأيما عبد يلقى الله تعالى
تائبًا من ذنبه إلا كان على الله حقا أن يغفر له، من كان
عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم
مهاجرًا أخاه فليلقه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر
أخاه أكثر من ثلاثة أيام، أيها المسلمون قد فجعتم برجل ما
أزعم أني رأيت عبدًا أبر صدرًا ولا أبعد من الغائلة ولا
أشد حبا للعامة ولا أنصح منه، فترحموا عليه واحضروا الصلاة
عليه.
(4/358)
الفصل العاشر: في
ذكر ولده
وكان له من الولد "يزيد" و"عمير" أمهما هند بنت جابر,
ودرجا ولم يبق له عقب، والله أعلم.
(4/359)
|