سيرة عمر بن عبد العزيز

موعظة يزِيد الرقاشِي عمر بن عبد الْعَزِيز

قَالَ وَدخل يزِيد الرقاشِي على عمر بن عبد الْعَزِيز فَقَالَ عظني يَا يزِيد فَقَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَيْسَ بَين آدم وَبَيْنك مِمَّن ولدك أَب حَيّ قَالَ زِدْنِي قَالَ يَا أَمِير الؤمنين أَنْت أول خَليفَة يَمُوت قَالَ زِدْنِي قَالَ لَيْسَ بَين الْجنَّة وَالنَّار منزلَة
بكاء عمر من الموعظة حَتَّى طفئ الكانون من دُمُوعه

قَالَ وَدخل عَلَيْهِ رجل وَبَين يَدَيْهِ كانون فِيهِ نَار فَقَالَ عظني قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ينفعك من دخل الْجنَّة إِذا دخلت أَنْت النَّار وَمَا يَضرك من دخل النَّار إِذا دخلت انت الْجنَّة قَالَ فَبكى عمر حَتَّى طفئ الكانون الَّذِي كَانَ بَين يَدَيْهِ من دُمُوعه
موعظة الْحسن الْبَصْرِيّ لعمر

وَكتب الْحسن بن أبي الْحسن الْبَصْرِيّ إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز أما بعد فَكَأَن الدُّنْيَا لم تكن وَكَأن الْآخِرَة لم تزل وَكَأن مَا هُوَ كَائِن قد كَانَ وَالسَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته

(1/94)


موعظة أُخْرَى لَهُ

وَكتب الْحسن أَيْضا إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز أما بعد فَإِن الْأَهْوَال العظائم والمفظعات من الأموركلها أمامك لم تقطع مِنْهَا شَيْئا بعد وَلَا بُد وَالله من مُعَاينَة ذَلِك ومشاهدته فإمَّا بالسلامة وَإِمَّا بالعطب وَالسَّلَام
خطْبَة ابْن الاهتم فِي عمر بن عبد الْعَزِيز

وَدخل خَالِد بن صَفْوَان بن الْأَهْتَم على عمر بن عبد الْعَزِيز فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَتُحِبُّ أَن تطرأ قَالَ لَا قَالَ أفتحب أَن توعظ قَالَ نعم قَالَ فَقَامَ فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ أما بعد فَإِن الله بجلاله خلق الْخلق غَنِيا عَن طاعتهم آمنا لمعصيتهم وَالنَّاس فِي الْمنَازل والرأي مُخْتَلفُونَ وَالْعرب بشر تِلْكَ الْمنَازل أهل دبر وَأهل وثن وَأهل حجر فَلَمَّا أَرَادَ الله أَن يبْعَث فيهم رَسُوله وَأَرَادَ أَن ينشر فيهم رَحمته بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم {عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيم} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يمنعهُم ذَلِك من أَن جرحوه فِي جِسْمه ولقبوه فِي اسْمه وأخرجوه من دَاره مَعَه من الله بَيِّنَة لَا يتَقَدَّم إِلَّا بأَمْره وَلَا يخرج إِلَّا بِإِذْنِهِ ويمده بملائكته ويخبره بِالْغَيْبِ المكتوم من أمره وَضمن لَهُ ظفر عَاقِبَة الْأُمُور وَقد

(1/95)


اضطروه إِلَى بطن غَار اخْتَبَأَ فِيهِ وَأخذ حَبل الذِّمَّة من الأملاء فَلَمَّا أَمر بالعزم وَحمل على الْجِهَاد انبسط لأمر الله وَمضى على الَّذِي أَمر بِهِ من تَبْلِيغ الرسَالَة وَإِظْهَار الْحق ومجاهدة الْعَدو فَقَبضهُ الله على سنته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ثمَّ قَامَ من بعده أَبُو بكر فارتدت عَلَيْهِ الْعَرَب أَو من ارْتَدَّ مِنْهُم وعرضوا على أَن يقيموا الصَّلَاة وَلَا يؤتوا الزَّكَاة فَأبى أَن يقبل مِنْهُم إِلَّا مَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبل مِنْهُم فِي حَيَاته فَانْتزع السيوف من أغمادها وأوقد النيرَان فِي شعلها وَركب بِحَق الله أكتاف أهل الْبَاطِل فَمَا برح يخرق أعراضهم ويسقي الأَرْض من دِمَائِهِمْ حَتَّى أدخلهم فِي الْبَاب الَّذِي خَرجُوا مِنْهُ فَلَمَّا أَبْطَأَ الْأَمر على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَقد كَانَ نَالَ من فيئهم شَيْئا وَهِي لقوح يرتضح من لَبنهَا وَبكر يرتوي عَلَيْهِ وحبشية أرضعت ابْنه فَلَمَّا حضرت وَفَاته رأى أَن الَّذِي نَالَ من ذَلِك فِي حَيَاته غُصَّة فِي حلقه وَثقل على كَاهِله فأداه إِلَى ابْن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَقَبضهُ الله على سنة صَاحبه
ثمَّ قَامَ من بعده عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فمصر الْأَمْصَار وخلط الشدَّة باللين وحسر عَن ذِرَاعَيْهِ وشمر عَن سَاقيه وَأعد للأمور أقرنها فَأَصَابَهُ قين للْمُغِيرَة بن شُعْبَة يُقَال لَهُ فَيْرُوز يكنى بِأبي لؤلؤة فَأمر ابْن عَبَّاس يُنَادي فِي النَّاس فَقَالَ هَل تعلمُونَ قاتلي فَقَالُوا قَتلك أَبُو لؤلؤة غُلَام الْمُغيرَة بن شُعْبَة فَاسْتهلَّ عمر بِحَمْد الله أَن لَا يكون أَصَابَهُ ذُو حق فِي الْفَيْء إِنَّمَا اسْتحلَّ ذَلِك مِنْهُ لما أَخذ من

(1/96)


حَقه من غير مؤامرته ثمَّ نظر فِي دينه فَلم يرض فِي ذَلِك بكفالة وَلَده حَتَّى كسر فِي ذَلِك رباعه وَأدّى ذَلِك إِلَى بَيت مَال الْمُسلمين
ثمَّ أَنْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بَين يَدي الدُّنْيَا وَلدتك مُلُوكهَا وغدتك كلأها وألقمتك ثديها وَأَنت بت فِيهَا تلتمسها من مظانها حَتَّى إِذا أفضت إِلَيْك أخطارك مِنْهَا قذرتها وحقرتها وألقيتها حَيْثُ أَلْقَاهَا الله إِلَّا مَا تزودت مِنْهَا فَالْحَمْد لله الَّذِي جلا بك حوبتنا وكشف بك كربتنا وَصدق بك قَوْلنَا عَلَيْك فَامْضِ وَلَا تلْتَفت فَإِنَّهُ لَا يذل على الْحق شَيْء وَلَا يعز على الْبَاطِل شَيْء أَقُول قولي هَذَا وَأَسْتَغْفِر الله الْعَظِيم لي وَلكم
نبذة من أدعية عمر

وَكَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاء اللَّهُمَّ رضني بِقَضَائِك وَبَارك لي فِي قدرتك حَتَّى لَا أحب تَعْجِيل مَا أخرت وَلَا تَأْخِير مَا عجلت وَكَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز يَقُول مَا برح بِي هَذَا الدُّعَاء حَتَّى لقد أَصبَحت وَمَالِي فِي شَيْء من الْأُمُور هوى إِلَّا فِي مَوَاضِع الْقَضَاء
وَكَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز إِذا دخل الْكَعْبَة قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك وعدت الْأمان دخال

(1/97)


بَيْتك وَأَنت خير منزول بِهِ فِي بَيته اللَّهُمَّ اجْعَل أَمَان مَا تؤمنني بِهِ أَن تكفيني مؤونة الدُّنْيَا وكل هول دون الْجنَّة حَتَّى تبلغنيها بِرَحْمَتك يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ
وَكَانَ أَيْضا يَدْعُو فَيَقُول اللَّهُمَّ ألبسني الْعَافِيَة حَتَّى تهنيني الْمَعيشَة وأختم لي بالمغفرة حَتَّى لَا تضرني الذُّنُوب واكفني كل هول دون الْجنَّة حَتَّى تبلغنيها بِرَحْمَتك يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ
وَكَانَ إِذا وقف بِعَرَفَات قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك دَعَوْت إِلَى حج بَيْتك ووعدت بِهِ مَنْفَعَة على شُهُود مناسكك وَقد جئْتُك اللَّهُمَّ اجْعَل مَنْفَعَة مَا تنفعني بِهِ أَن تؤتيني فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وَأَن تقيني عَذَاب النَّار
وَكَانَ يَقُول اللَّهُمَّ لَا تعطني فِي الدُّنْيَا عَطاء يبعدني من رحمتك فِي الاخرة
وَكَانَ يَقُول يَا رب خلقتني وأمرتني ونهيتني ورغبتني فِي ثَوَاب مَا أَمرتنِي بِهِ ورهبتني عِقَاب مَا نهيتني عَنهُ وسلطت عَليّ عدوا فأسكنته صَدْرِي وأسكنته مجْرى دمي إِن أهم بِفَاحِشَة شجعني وَإِن أهم بِطَاعَة ثبطني لَا يغْفل إِن غفلت وَلَا ينسى إِن نسيت ينصب لي فِي الشَّهَوَات ويتعرض لي فِي الشُّبُهَات وَإِلَّا تصرف عني كَيده يستزلني اللَّهُمَّ فاقهر سُلْطَانه عَليّ بسلطانك عَلَيْهِ حَتَّى تخسئه بِكَثْرَة ذكري لَك فأفوز مَعَ المعصومين بك وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بك
وَكَانَ يَقُول يَا رب انفعني بعقلي وَاجعَل مَا أصير إِلَيْهِ أهم إِلَيّ مِمَّا يَنْقَطِع عني اللَّهُمَّ إِنِّي أَحْسَنت بك الظَّن فَأحْسن لي الثَّوَاب اللَّهُمَّ أَعْطِنِي من الدُّنْيَا مَا تقيني بِهِ فتنتها وتغنيني بِهِ عَن أَهلهَا وتجعله لي بلاغا إِلَى مَا هُوَ خير لي مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بك

(1/98)


شِرَاء عمر مَوضِع قَبره

وَكَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز قد اشْترى مَوضِع قَبره بِعشْرين دِينَارا وَقيل بِعشْرَة دَنَانِير
تمني عمر الرحيل عَن هَذِه الدُّنْيَا ودعاؤه فِي ذَلِك

وَلما كَانَ قبل وَفَاة عمر بن عبد الْعَزِيز توفّي أَخُوهُ سهل وَولده عبد الْملك ومولاه مُزَاحم وَكَانُوا أعوانه على هَذَا الْأَمر فَخرج فَخَطب النَّاس فَأَمرهمْ بِشَيْء مِمَّا يصلحهم فكأنهم تثاقلوا عَنهُ واغتم لذَلِك ثمَّ انْصَرف وَدخل وَذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة وَكَانَ يدْخل عَلَيْهِ بنوه فيستقرئهم الْقُرْآن بعد الْجُمُعَة فَدَخَلُوا عَلَيْهِ كَمَا كَانُوا يدْخلُونَ فاستقرأهم فقرأأ وَلَهُم {طسم تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين لَعَلَّك باخع نَفسك أَلا يَكُونُوا مُؤمنين إِن نَشأ ننزل عَلَيْهِم من السَّمَاء آيَة فظلت أَعْنَاقهم لَهَا خاضعين} فَقَالَ لقد عزاني الله على لِسَان ابْني هَذَا وتجلى عَنهُ بعض غمه وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي قد مللتهم وملوني فأرحني مِنْهُم وأرحهم مني فَمَا عَاد إِلَى الْمِنْبَر ثَانِيَة حَتَّى قَبضه الله عزوجل
استدعاؤه ابْن أبي زَكَرِيَّا ليدعو لَهُ بِالْمَوْتِ

وَبعث عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى عبد الله بن أبي زَكَرِيَّا وَكَانَ من صلحاء أهل الشَّام فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ عمر يَا ابْن أبي زَكَرِيَّا هَل تَدْرِي لم بعثت إِلَيْك قَالَ لَا قَالَ لأمر لست ذاكره لَك حَتَّى تحلف لي قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تَسْأَلنِي شَيْئا إِلَّا فعلته قَالَ لَهُ فاحلف لي فَلَمَّا حلف لَهُ قَالَ ادْع الله أَن يميتني قَالَ بئس الْوَافِد أَنا للْمُسلمين وَأَنا إِذا عَدو لأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هاه قد حَلَفت لي فَقَالَ الْحَمد لله ودعا لَهُ ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ لَا تبقني بعده وَأَقْبل صبي صَغِير لعمر فَقَالَ وَهَذَا فَإِنِّي أحبه فَدَعَا لَهُ قَالَ فَمَاتَ عمر وَمَات ابْن أبي زَكَرِيَّا وَمَات الصَّبِي

(1/99)