المنتظم

الجزء السادس عشر
ثم دخلت
سنة ثمان وأربعين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها


أنه في مستهل المحرم عقد عميد الملك أبو نصر الكندري وزير طغرلبك على هزارسب بن بكير بن عياض الكردي ضمان البصرة والأهواز وأعمال ذلك لهذه السنة بثلثمائة ألف دينار سلطانية، وأطلقت يده، وأذن في ذكر اسمه في الخطبة بالأهواز.
وفي المحرم: ابتدىء بعقد الجسر من مشرعة الحطابين إلى مشرعة الرواية زيد في زوارقه لعلو الماء، فعصفت ريح شديدة، فقطعت الجسر فانحدرت زوارقه إلى الدباغين، وانحل الطيار المربوط بباب الغربة، وتكسر سكانه، وتشعثت آلاته.
وفي هذه السنة: عم ضرر العسكر بنزولهم في دور الناس وارتكابهم المحظورات، فأمر الخليفة رئيس الرؤساء باستدعاء الكندري، وأن يخاطبه في ذلك، ويحذره العقوبة فإن اعتمد السلطان ما أوجبه الله تعالى وإلا فليساعدنا في النزوع عن هذه المنكرات، فكتب رئيس الرؤساء إلى الكندري، فحضر فشرح له ما جرى، فمضى إلى السلطان فشرح له الحال فقال إنني غير قادر على تهذيب العساكر لكثرتهم، ثم استدعاه في بعض الليل فقال: إني نمت في بعض الليل وقد تداخلتني الخشية لله تعالى مما ذكرت لي فنمت فرأيت شخصاً وقع في نفسي أنه رسول الله صلى الله وعليه وسلم وكأنه واقف عند باب الكعبة، فسلمت عليه فلم يلتفت نحوي، وقال: يحكمك الله في بلاده وعباده فلا تراقبه فيهم، ولا تستحي من جلاله، فامض إلى الديوان وانظر ما يرسمه أمير المؤمنين لأطيع .فأنهى رئيس الرؤساء الحال فخرج التوقيع متضمناً للبشارة برؤية سيدنا رسول الله صلى الله وعليه وسلم، فلما وصل إلى السلطان بكى وأمر بإزالة الترك، وإطلاق من وكل به.
وفي هذه السنة: ابتدأ السلطان طغرلبك ببناء سور عريض، دخل فيه قطعة كثيرة من المخرم، وعزم على بناء دار فيها، وجمع الصناع لتجديد دار المملكة العضدية، وخربت الدور والدروب والمال والأسواق بالجانب الشرقي، وجميع ما يقارب الدار،وأخذت آلاتها للاستعمال، ونقضت دور الأتراك، وسلت أخشابها بالجانب الغربي، وقلع الفقراء أخشاب السدور وباعوه على الخبازين والفراشين.
وفي يوم الخميس لثمان بقين من المحرم: عقد للخليفة القائم بأمر الله على خديجة بنت أخي السلطان طغرلبك، على صداق مبلغه مائة ألف دنيار،وحضر قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني، أتقضى القضاة أبو الحسن الماوردي، ورئيس الرؤساء أبو القاسم ابن المسلمة، وهو الذي خطب، ثم قال: إن رأى سيدنا ومولانا أمير المؤمنين أن ينعم بالقبول فعل.فقال: قد قبلنا هذا النكاح بهذا الصداق.
فلما دخل شهر شعبان مضى ابن المسلمة إلى السلطان، وقال له أمير المؤمنين: يقول لك إن الله تعالى " يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " وقد أذن في نقل الوديعة الكريمة إلى العزيزة، فقال: السمع والطاعة ومضت والدة الخليفة إلى دار المملكة، وأرسلت خاتون بورودها، فانحدرت بها ودخلا باب الغربة وقت العتمة، ودخل معها عميد الملك فقبل الأرض، وقال: الخادم ركن الدين قد امتثل المراسم العالية في حمل الوديعة، وسأل فيها كرم الملاحظة واجتناب الضيعة. ثم انصرفوا فقلبت الجهة الأرض دفعات عدة، فأدناها إليه،وقربها منه، وأجلسها معه إلى جنبه، وطرح عليها فرجية منظومة بالذهب، وتاجاً مرصعاً بالجوهر، وأعطاها من الغد مائة ثوب ديباجا وقصباً مذهباً، وطاسة من ذهب قد نبت فيها الياقوت والفيروزج، وأفرد لها من إقطاع دجلة اثني عشرة ألف دينار.


وفي هذا الوقت غلت الأسعار، فبلغ الكر الحنطة وقد كان يساوي نيفاً وعشرين ديناراً تسعين ديناراً، وتعذر التبن حتى كان يباع الكساء من التبن بعشرة قراريط، وانقطعت الطريق من القوافل للنهب المتدارك ، وكان أهل النواحي يجيئون بأموالهم مع الخفر فيبيعونها ببغداد مخافة النهب، ولحق الفقراء والمتجملين من معاناة الغلاء ما كان سبباً للوباء والموت حتى دفنوا بغير غسل ولاتكفين، وكان الناس يأكلون الميتة، وبيع اللحم رطلاً بقيراط، وأربع دجاجات بدينار، ونصف قفيز أرز بدينار، ومائة كراثة بدينار،ومائة أصل خس بدينار، وعدمت الأشربة فبلغ المن من الشراب ديناراً، والمكوك من بزر البقلة سبعة دنانير، والسفرجلة، والرمانة ديناراً، والخيارة والنيلوفرة ديناراً، واغبر الجو، وفسد الهواء، وكثر الذباب، ووقع الغلاء والموت بمصر أيضاً، وكان يموت في اليوم ألف نفس، وعظم ذلك في رجب وشعبان، حتى كفن السلطان من ماله ثمانية عشر ألف إنسان، وحمل كل أربعة وخمسة في تابوت، وباع عطار في يوم ألف قارورة فيها شراب، وعم الوباء والغلاء مكة، والحجاز، وديار بكر، والموصل، وخراسان، والجبال، والدنيا كلها.
وورد كتاب من مصر أن ثلاثة من اللصوص نقبوا بعض الدور، فوجدوا عند الصباح موتى: أحدهم على باب النقب، والثاني على راس الدرجة، والثالث على الثياب المكورة.
وفي هذه السنة: تقدم رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن ابن المسلمة بأن تنصب أعلام سود في الكرخ، فانزعج لذلك أهلها، وكان يجتهد في أذاهم وإنما كان يدفع منهم عميد الملك الكندري.
وفيها: هبت ريح شديدة، وارتفعت معها سحابة ترابية فأظلمت الدنيا، فاحتاج الناس في الأسواق إلى السرج.
وفيها:احتسب أبو منصور بن ناصر السياري على أهل الذمة، وألزمهم لبس الغيارات والعمائم المصبوغات، وذلك عن أمر السلطان، فصرفت ذلك عن أمر السلطان، فصرفت ذلك عنهم خاتون ومنعت المحتسب.
وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة: ظهر في وقت السحر ذؤابة بيضاء طولها في رأي العين نحو عشرة أذرع، ومكثت على هذه الحال إلى النصف من رجب، ثم اضمحلت، وكانوا يقولون انه طلع مثل هذا بمصر فملكت، وكذلك بغداد لما طلع هذا ملكت وخطب فيها للمصريين.
وفي عشية يوم الثلاثاء سلخ رمضان: خرج الناس لترأئي هلال شوال فلم يروه، وصلى الناس التراويح على عادتهم ونووا صوم غدهم، فلما كان بكرة يوم الأربعاء جاء الشريف أبو الحسين بن المهتدي المعروف: بالغريق الخطيب، وقد لبس سواده وسيفه ومنطقته، ووراءه المكبرون لابسين السواد على هيئته إلى جامع دار الخلافة فرآه مغلقاً، ففتحه ودخل وقال: اليوم يوم العيد، وقد روئي الهلال البارحة بباب البصرة، ورام الصلاة فيه، وجمع الناس به،وعرف رئيس الرؤساء الخبر فغاظه ذلك،وأِحفظه أن لم يحضر الديوان العِِِزيز ويطالعه بما كان وما تجدد في رؤية الهلال، فراسله واستحضره فامتنع وقال: حتى أصلي وأعيد ثم نكفي إلى الديوان، فروجع وأحضر وأنكر عليه إقدامه على فتح الجامع وهو مغلق،وقد علم أنه لا خبر للناس من هذا الأمر محقق، وقال له: قد كان يحبب أن تحضر الديوان العزيز، وتنهي الحال ليحيط به العلم الشريف، ويتقدم فيما يوجبه ويقتضيه. وأغلط له فيما خاطبه فاعتذر، وقال: ما فعلت مما فعلته إلا ثقة بنفسي، وبعد أن وضحت الصورة عندي، وكان قد حضرني البارحة ثمانية أنفس من جيراني أثق بقولهم فشهدوا عندي جميعاً بمشاهدة الهلال، فقطعت بذلك وحكمت وأفطرت وأفطر الناس في باب البصرة، وخرجوا اليوم قاصدين جامع المدنية، ولم أعلم أن هذا لم يشع، فحضرت وأنكرت كون الجامع مغلقاً، ثم جاء قوم فشهدوا برؤية الهلال.
فقال رئيس الرؤساء لقاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني: ما عندك في هذا؟ فقال: أما مذهب أبي مذهب أبي حنيفة الذي هو مذهبي فلا تقبل مع مذهبي فلا تقبل مع صحو السماء، وجواز ما يمنع من مشاهدة الهلال إلا قول العدد الكثير الذي يبلغ مائتين، وأما مذهب الشافعي رضي الله عنه الذي هو مذهب هذا الشريف فإنه يقطع بشهادة اثنين في مثل هذا. وطولع الخليفة بالحال، فأمر بالنداء أن لا يفطر أحد، فأمسك من كان أكل، وكان والد القاضي أبي الحسين قد مضى إلى جامع القطيعة فصلى بالناس وعيد، وكذلك في جامع الحربية ولم يعملوا بما جرى.


وفي هذه السنة: أقيم الأذان في المشهد بمقابر قريش، ومشهد العتيقة، ومساجد الكرخ: " بالصلاة خير من النوم " ، وأزيل ما كانوا يستعملونه في الأذان " حي على خير العمل " وقلع جميع ما كان على أبواب الدور والدروب من " محمد وعلي خير البشر " ودخل إلى الكرخ منشدو أهل السنة من باب البصرة، فأنشدوا الأشعار في مدح الصحابة، وتقدم رئيس الرؤساء إلى ابن النسوي بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ البزازين بباب الطاق، لما كان يتظاهر به من الغلو في الرفض، فقتل وصلب على باب دكانه، وهرب أبو جعفر الطوسي، ونهبت داره.
وتزايد الغلاء، فبيع الكر الحنطة بمائة وثمانين ديناراً، وأتى البساسيري الموصل، فخطب بها للمصري، فاستدعى عميد الملك محمد بن النسوي ، وتقدم إليه بإخراج أبي الحسن بن عبيد كاتب البساسيري وقتله، وكان قد أسلم في الحبس ظناً أن ذلك ينجيه، فقتل.
وفي هذه السنة: سار طغرلبك يطلب الموصل، وقد استصحب النجارين وعمل العرادات والمجانيق، وكانت مدة مقامه ببغداد ثلاثة عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً، واجتهد به الخليفة أن يقيم فلم يقم، وخرج بعسكره فنهبوا أوانا، وعكبرا، وجميع البلاد، وسبوا نساءها، ونهبت تكريت، وحوصرت القلعة، وعم الغلاء جميع الآفاق حتى بلغ الكر الحنطة مائة وتسعين ديناراً، وزار ذلك في المسكر فبيع الخبز رطل بنصف دانق، وعاد ابن فسانجس إلى واسط ومعه الديلم، وخطب للمصري، وورد محمود بن الأخرام الخفاجي من مصر ومعه مال، فخطب بشفاتا، وعين التمر، وبالكوفة للمصري، وكذلك فعل شداد بن أسد في النيل، وسورا.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن عبد الواحد بن سهل بن خلف، أبو محمد ولد في سنة وسبعين وثلثمائة، سمع من ابن حبابة، والدارقطني، والمخلص،وغيرهم،وكان صدوقاً.توفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
الحسين بن جريش بن أحمد بن علي بن يعقوب، أبو عبد الله الكاتب ولد سنة تسع وستين وثلثماثة، وكان يذكر أن أصله من ولد أبي دلف العجلي، سمع المخلص، ويوسف بن عمر القواس، وغيرهما، وكان سماعه صحيحاً، وتوفي في هذه السنة.
بدر بن جعفر بن الحسين بن علي، أبو الحسن العلوي من ساكني الكوفة.كتب عنه أبو بكر الخطيب وقال: كان صدوقاً.
توفي في ذي الحجة من هذه السنة.
عبد الملك بن محمد بن سلمان، أبو محمد العطار سمع أبا الحسن بن لؤلؤ، وابن المظفر، وكان صدوقاً. وتوفي في ذي الحجة من هذه السنة.
علي بن علي بن سلك، أبو الحسن المؤدب، الفالي من أصل بلدة فالة قربية من أيذج، أقام بالبصرة مدة، وسمع بها من أبي عمر بن عبد الواحد الهاشمي وغيره، وقدم بغداد فاستوطنها، وكان ثقة.
أنشدنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أنشدنا أبو زكريا التبريزي قال: أنشدني أبو الحسن الفالي من لفظه لنفسه:
لما تبدلت المجالس أوجهاً ... غير الذين عهدت من علمائها
ورأيتها محفوفة بسوى الألى ... كانوا ولاة صدورها وفنائها
أنشدت بيتاً سائراً متقدماً ... والعين قد شرقت بجاري مائها
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير وأنشد لنفسه::
تصدر للتدريس كل مهوس ... بليد يسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم ان يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
قال أبو زكريا: وجدت بخط الفالي لنفسه وكان قد باع الجمهرة لابن دريد فندم بعد ذلك.
أنست بها عشرين حولاً وبعتها ... لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية ... صغار عليهم تستهل جفوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرتي ... مقالة مكوي الفؤاد حزين
لقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... ذخائر من رزء بهن ضنين
توفي الفالي في ذي القعدة من هذه السنة، ودفن بمقبرة جامع المنصور.
فاطمة بنت القادر بالله


أخت القائم بأمر الله توفيت في هذه السنة، فأخرج تابوتها وتابوت الذخيرة أبي العباس بن القائم،وصلى الخليفة عليهما في صحن السلام، وجلس رئيس الرؤساء في الطيار مع التابوتين، وحملا إلى الرصافة، وحضر في العزاء عدد لا يتجاوزون لخلو البلد، وانقراض الناس بالموت والفقر.
محمد بن أيوب، عميد الرؤساء ومولده سنة سبعين وثلثمائة كتب للخليفة ست عشرة سنة.
وتوفي عن ثمان وسبعين سنة.
محمد بن أحمد بن علي، أبو طائر الدقاق، ابن الأشناني سمع من أبي عمر بن مهدي، وابن الصلت، وأبي عبد الله بن دوست،وكان ثقة، ومات يوم السبت للنصف من صفر هذه السنة.
محمد بن الحسن بن عثمان بن عمر، أبو طاهر الأنباري قدم بغداد في سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، وسمع من الحسين بن هارون الضبي، وأبي عبد الله بن دوست، وكان صدوقاً.
وتوفي في نصف من ربيع الأول من هذه السنة.
محمد بن الحسين بن عثمان بن الحسن، أبو بكر الهمذاني الصيرفي سمع الدار قطني، وابن حبابة ولم يكن به بأس. وتوفي في هذه السنة.
محمد بن الحسين بن محمد، أبو طائر البراز الموصلي.، ابن سعدون ولد بالموصل نشأ ببغداد وسمع من ابن حيوية، وأبي بكر بن شاذان، والدارقطني، وابن بطة، وغيرهم، وكان صدوقاً.
محمد بن عبد الملك بن محمد، ابن بشران سمع محمد بن المظفر، وأبا عمر ابن حيوية، والدارقطني، وغيرهم وكان صدوقاً.وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن في مقبرة باب حرب.
محمد بن عبد الواحد بن الصباغ سمع من ابن شاهين وغيره وكان ثقة فاضلاً، درس فقه الشافعي على أبي حامد الأسفرائيني، وكانت له حلقة للفتوى في جامع المدنية. وشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني.
وتوفي في ذي القعدة من هذه السنة، ودفن بمقبرة باب الدير.
هلال بن إبراهيم بن هلال،أبو الحسين الكاتب الصابي صاحب التاريخ. ولد سنة تسع وخمسين، وسمع أبا علي الفارسي، وعلي بن عيسى الرماني، وغيرهما، وكان صدوقاً وجده أبو إسحاق الصابي صاحب الرسائل وكان أبوه المحسن صابئاً فأما هو فأسلم متأخراً، وكان قد سمع من العلماء في حال كفره، لأنه كان يطلب الأدب.
وتوفي في رمضان هذه السنة.
ذكر سبب إسلامه


أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ، حدثنا الرئيس أبو علي محمد بن سعيد بن نبهان الكاتب قال: قال هلال بن المحسن: رأيت في المنام سنة تسع وتسعين وثلثمائة رسول الله صلى الله وعليه وسلم قد وافى إلى موضع منامي، والزمان شتاء والبرد شديد، والماء جامد، فأقامني فارتعدت حين رأيته، فقال:: لا ترع، فأني رسول الله، وحملني إلى بالوعة في الدار عليها دورق خزف وقال: تؤضأ وضوء الصلاة. فأدخلت يدي في الدورق فإذا الماء جامد، فكسرته وتناولت من الماء ما أمررته على وجهي وذراعي وقدمي، ووقف في صفة وصلى وجذبني إلى جانبه وقرأ الحمد، وإذا جاء نصر الله والفتح، وركع وسجد، وأنا أفعل مثل فعله، وقام ثانياً وقرأ الحمد، وسورة لم أعرفها، ثم سلم وأقبل علي وقال: انت رجل عاقل محصل، والله يريد بك خيراً فلم تدع الإسلام الذي قامت عليه الدلائل والبراهين، وتقيم على ما أنت عليه؟ هات يدك وصافحني، فأعطيته يدي فقال: قل أسلمت وجهي لله، وأشهد أن الله الواحد الصمد الذي لم يكن له صاحبة ولا ولد، وأنك يا محمد رسوله إلى عبادة بالبينات والهدى. فقلت ذاك، ونهض ونهضت، فرأيت نفسي قائماً في الصفة، فصحت صياح الانزعاج والارتياع، فانتبه أهلي وجاءوا، وسمع أبي فقال:: مالكم؟ فصحت به فجاءوا، وأوقدنا المصباح وقصصت عليهم قصتي، فوجموا إلا أبي فإنه تبسم، وقال: ارجع إلى فراشك،7 - ب فالحديث يكون عند الصباح وتأملنا الدورق، فإذا الجمد الذي فيه متشعث بالكسر، وتقدم والدي إلى الجماعة بكتمان ما جرى، وقال: يا بني، هذا منام صحيح، وبشرى محمودة، إلا أن إظهار هذا الأمر فجأة، والانتقال من شريعة إلى شريعة يحتاج إلى مقدمة وأهبة، ولكن اعتقد ما وصيت به، فأنني معنقد مثله، وتصرف في صلاتك ودعائك على أحكامه، ثم شاع الحديث، ومضت مدة فرأيت رسول الله صلى الله وعليه وسلم ثانياً على دجلة في مشرعة باب البستان، وقد تقدمت إليه وقبلت يده فقال: ما فعلت شيئاً مما وافقتني عليه وقررته معي؟ فقال: لا، وأظن أ، قد بقيت في نفسك شبهة، تعال.وحملني إلى باب المسجد الذي في المشرعة، وعليه رجل خراساني نائم على قفاه وجوفه كالغرارة المحشوة من الاستسقاء، ويداه وقدماه منتفختان، فأمر يده على بطنه وقرأ عليه فقام الرجل صحيحاً معافى. صلى الله عليك يا رسول الله فما أحسن تصديق أمرك وأعجز فعلك. وانتبهت.
فلما كان في سنة ثلاث وأربعمائة رأيت في بعض الليالي كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم راكباً على باب خيمة كنت فيها، فانحنى على سرجه حتى أراني وجهه، فقمت إليه وقبلت ركابه ونزل فطرحت له مخدة وجلس، وقال: يا هذا، كم آمرك بما أريد فيه الخير لك 8 أ وأنت تتوقف عنه. قلت: يا مولاي، أما أنا متصرف عليه ؟ قال: بلى، ولكن لا يغني الباطن الجميل مع الظاهر القبيح، وأن تراعي أمراً فمراعاتك الله أولى، قم الآن وافعل ما يجب ولا تخالف. قلت:ك السمع والطاعة. فانتبهت ودخلت إلى الحمام ومضيت إلى المشهد وصليت فيه، وزال عني الشك، فبعث إلي فخر الملك فقال: ما الذي بلغني؟ فقلت:ك هذا أمر كنت أعتقده وأكتمه، حتى رأيت البارحة في النوم كذا وكذا.فقال: قد كان أصحابنا يحدثون أنك كنت تصلي بصلاتنا، وتدعو بدعائنا وحمل إلي دست ثياب ومائتي دينار فرددتها وقلت::: ما أحب أن أخلط بفعلي شيئاً من الدنيا، فاستحسن ما كان مني وعزمت أن أكتب مصحفاً فرأى بعض الشهود رسول الله صلى الله وعليه سلم في المنام وهو يقول له: تقول لهذا المسلم القادم نويت أن تكتب مصحفاً فاكتبه، فيه يتم إسلامك.
قال وحدثتني امرأة تزوجتها بعد إسلامي قالت::ك لما اتصلت بك قيل لي انك على دينك الأول فعزمت على فراقك، فرأيت في المنام رجلاً قيل انه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة قيل هم الصحابة، ورجل معه سيفان قيل انه علي بن أبي طالب، وكأنك قد دخلت فنزع علي أحد السيفين فقلدك إياه وقال: ها هنا ها هنا. وصافحك رسول الله صلى الله وعليه وسلم، فرفع أمير المؤمنين رأسه إلي وأنا أنظر من الغرفة فقال: ما ترين إلى هذا؟ هو أكرم عند الله وعند رسوله منك ومن كثير من الناس، وما جئناك إلا لنعرفك موضعه، ونعلمك أننا زوجناك به تزويجاً فقري عيناً وطيبي نفساً فما ترين إلا خيراً.
فانتبهت وقد زال عني كل شك وشبهة.


قال أبو علي بن نبهان في أثر هذا الحديث عن جده لأمه أبي الحسن الكاتب: ان النبي صلى الله وعليه وسلم قال له في المرة الثالثة: وتحقيق رؤياك إياي أن زوجتك حامل بغلام، فإذا وضعته فسمه محمداً. فكان ذلك كما قال، وأنه ولد له ولد فسماه محمداً وكناه أبا الحسن.
ثم دخلت
سنة تسع وأربعين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه في المحرم فتح الذعار عدة دكاكين من نهر الدجاج، ونهر طابق، والعطارين، وكسروا دراباتها وأخذوا ما فيها، واستعفى ابن النسوي من الشرطة فأعفي.
وفي العشر الأخير من المحرم:: بلغت الكارة الدقيق تسعة دنانير، وكدى المتجملون وكثير من التجار،وأكلت الكلاب والميتات، ومات من الجوع في كل يوم خلق كثير، وشوهدت امرأة معها فخذ كلب ميت قد اخضر وجاف وهي تنهشه، ورمي من سطح طائر ميت فاجتمع عليه خمسة أنفس فاقتسموه وأكلوه، ورؤي رجل قد شوى صبية في أتون فأكلها فقتل، وسددت أبواب دور مات أهلها، وكان الإنسان يمشي في الطريق فلا يرى إلا الواحد بعد الواحد.
وفي صفر هذه السنة: كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ،وأخذ ما وجد من دفاتره، وكرسي كان يجلس عليه للكلام ، وأخرج ذلك إلى الكرخ، وأضيف إليه ثلاثة مجانيق بيض كان الزوار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة، فأحرق الجميع.
وفي جمادى الآخرة: ورد كتاب من تجار ما وراء النهر قد وقع في هذه الديار وباء عظيم مسرف زائد عن الحد،حتى انه خرج من هذا الإقليم في يوم واحد ثمانية عشرة ألف جنازة، وأحصي من مات إلى أن كتب هذا الكتاب فكانوا ألف وستمائة ألف وخمسين ألفاً، والناس يمرون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقاً فارغة، وطرقات خالية، وأبواباً مغلقة، حتى إن البقر نفقت.
وجاء الخبر من آذربيجان وتلك الأعمال بالوباء العظيم، وأنه لم يسلم إلا العد القليل.
ووقع وباء بالأهواز وأعمالها وبواسط، وبالنيل، ومطير أباذ، والكوفة، وطبق الأرض حتى كان يخد للعشرين والثلاثين زبية فيلقون فيها، وكان أكثر سبب ذلك الجوع، وكان الفقراء يشوون الكلاب، وينبشون القبور فيشوون الموتى ويأكلونهم، وكان لرجل جريبان أرضاً دفع إليه في ثمنها عشرة دنانير فلم يبعها، فباعها حينئذ بخمسة أرطال خبز، وأكلها ومات من وقته. وطويت التجارات،وأمور الدنيا، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات والتجهز والدفن، وكان الإنسان قاعداً فينشق قلبه عن دم المهجة فيخرج إلى الفم منه قطرة فيموت الإنسان.
وتاب الناس كلهم، وتصدقوا بمعظم أموالهم، وأراقوا الخمور، وكسروا المعازف، ولزموا المساجد لقراءة القرآن خصوصاً العمال والظلمة، وكل دار فيها خمر يموت أهلها في ليلة واحدة. ووجدوا داراً فيها ثمانية عشر نفساً موتى، ففتشوا متاعهم فوجدوا خابية خمر، فأراقوها. ودخلوا على مريض طال نزعه سبعة أيام، فأشار بإصبعه إلى خابية خمر فقلبوها وخلصه الله تعالى من السكرة، وقبل ذلك كان من يدخل هذه الدار يموت، ومن كان مع امرأة حراماً ماتا من ساعتهما، وكل مسلمين بينهما هجران وأذى فلم يصطلحا ماتا معاً، ومن دخل الدار ليأخذ شيئاً مما قد تخلف فيها وجدوا المتاع معه وهو ميت.
ومات رجل كان مقيماً بمسجد فخلف خمسين ألف درهم، فلم يقبلها أحد، ووضعت في المسجد تسعة أيام بحالها، فدخل أربعة أنفس ليلاً إلى المسجد وأخذوها فماتوا عليها. ويوصي الرجل الرجل فيموت الذي أوصى إليه قبل الموصي، وخلت أكثر المساجد من الجماعات.
وكان أبو محمد عبد الجبار بن محمد الفقيه معه سبعمائة متفقه فمات وماتوا سوى اثني عشر من الكل.
ودخل رجل على ميت وعليه لحاف فأخذه، فمات ويده في طرف اللحاف وباقية على الميت. ودخل دبيس بن علي بلاده فوجدها خراباً لا أكار بها ولاعالمة، وجمع العميد أبو نصر الناس من الطرقات للعمل في دار المملكة، وفيهم الهاشميون، والقضاة، والشهود، والتجار، فكانوا يحملون اللبن على أكتافهم وأيديهم عدة أسابيع.


وفي يوم الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة: احترقت قطيعة عيسى، وسوق الطعام،والكبش، وأصحاب السقط، وباب الشعير، وسوق العطارين، وسوق العروس، وباب العروس، والأنماط،والخشابين، والجزارين، والنجارين، والصف، والقطيعة، وباب محول، ونهر الدجاج، وسويقة غالب، والصفارين، والصباغين، وغير ذلك من المواضيع والرواضع. وعاد طغرلبك من الموصل إلى بغداد وسلم الموصل وأعمالها إلى إبراهيم ينال ابن أخيه فأحسن إبراهيم وفي هذه السنة: لقي السلطان طغرلبك الخليفة القائم بالله، وكان السلطان يسأل في ذلك إلى أن تقرر كون هذا في ذي القعدة، فجلس رئيس الرؤساء في صدر رواق صحن السلام، وبين يديه الحجّاب، ثم استدعى نقيبي العباسيين، والعلويين، وقاضي القضاة، والشهود، فلما تضاحى النهار كتب إلى السلطان طغرلبك بما مضمونه الاذن عن أمير المؤمنين في الحضور، فأنقذ ذلك مع ابني المأمون الهاشميين، ومن خدم الخواص خادمين، ومن الحجّاب حاجبين، ولما وفق السلطان على ذلك نزل في الطيار، وكان قد زيّن وأنفذ إليه فانحدر ومعه عدة زبازب سميريات، وعلى الظهر فيلان يسيران بإزاء الطيار،فدخل الدار والأولاد والأمراء والملوك يمشون بين يديه، ونحو خمسمائة غلام ترك، فلما وصل إلى باب دهليز صحن السلام وقف طويلاً على فرسه حتى فتح له، ونزل فدخل إلى الصحن، ومشى وخرج رئيس الرؤساء إلى وسطه فتلقاه، فدخل على أمير المؤمنين وهو على سرير عال من الأرض نحو سبعة أذرع، عليه قميص وعمامة مصمتان، وعلى منكبه بردة النبي صلى الله وعليه وسلم، وبيده القطيب، فحين شاهد السلطان أمير المؤمنين قبّل الأرض دفعات، فلما دنا من مجلس الخليفة صعد رئيس الرؤساء إلى سرير لطيف دون ذلك السرير بنحو قامة، وقال له أمير المؤمنين: أصعد ركن الدين إليك، وليكن معه محمد بن منصور الكندري. فأصعدهما إليه وتقدم وطرح كرسي جلس، وقال أمير المؤمنين لرئيس الرؤساء: قل له يا علي: أمير المؤمنين حامد لسعيك، شاكر لفضلك، آنس بقربك، زائد الشغف بك، وقد ولاّك جميع ما ولاه تعالى من بلاده، ورد إليك فيه مراعاة عبادة، فاتق الله فيما ولاّك، واعرف نعمته عليك، وعبدك في ذلك، واجتهد في عمارة البلاد، ومصالح العباد، ونشر العدل، وكفّ الظلم.
ففسر له عميد الملك القول، فقام وقبّل الأرض وقال: أنا خادم أمير المؤمنين وعبده، ومتصرف على أمره ونهيه، ومتشرف بما أهلني له واستخدمني فيه، ومن الله تعالى استهداء المعونة والتوفيق.
واستأذن أمير المؤمنين في أن ينهض ويحمل إلى حيث تفاض الخلع عليه، فنزل إلى بيت في جانب البهو، ودخل معه عميد الملك، فألبس الخلع وهي سبع خلع في زي واحد، وترك التاج على رأسه، وعاد فجلس بين يدي أمير المؤمنين سيفاً ورام تقبيل ا لأرض فلم يتمكن لأجل التاج، وأخرج أمير المؤمنين سيفاً من ين يديه فقلّده إياه،وخاطبه بملك المشرق والمغرب، واستدعى ألوية وكانت ثلاثة: اثنان خمرية بكتائب صفر، وآخر بكتائب مذهبة سمي لواء الحمد فعقد منهم أمير المؤمنين لواء الحمدبيده، وأحضر العهد فقال: يسلم إليه ويقال له: يقرأ عليك عهدنا إليك، ويفسر لك لتعمل بموجبه، وبمقتضى ما أمرنا به، خار الله لنا ولك وللمسلمين فيما فعلنا وأبرمناه، آمرك بما أمرك الله به، وأنهاك عما نهاك الله عنه، وهذا منصور بن أحمد نائبنا لديك، وصاحبنا وخليفتنا عندك، ووديعتنا، فاحتفظ به وراعه، فإنه الثقة السديد والأمين الرشيد، وانهض على اسم الله تعالى مصاحباً محروساً.


وكان من السلطان طغرلبك في كل فصل يفصل له من الشكر وتقبيل الأرض ما أن عن حسن طاعته، وصادق محبته، وسأل مصافحته باليد الشريفة فأعطاه أمير المؤمنين يده دفعتين قبل لبسه الخلع وعند انصرافه من حضرته، وهو يقبلها ويضعها على عينيه، ودخل جميع من في الدار من الأكابر والأصاغر إلى المكان فشاهدوا تلك الحل، وخرج إلى صحن دار السلام، فسار والخيل والألوية أمامه، ولما خرجت الألوية رفعت من سطح صحن السلام وحطت على روشن بيت النوبة، ومنه إلى الطيار لئلا تخرج في الأبواب فتنكس، ومضى وهنأه عن الخليفة وقال له: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تجلس للهناء بما أفاضه عليك من نعمة، وولاك من خدمته، وحمل إليه خلعة، فقام وقبّل الأرض وقال: قد أهلني أمير المؤمنين لرتبة يستنفذ شكري ويستعبدني بما بقي من عمري، وأتاه بسدة مذهبه وقال له: أمير المؤمنين يأمرك أن تلبس هذا التشريف، وتجلس في هذا الدست، وتأذن للناس ليشهدوا ما تواتر من إنعامه، فيبتهج الولي، وينقمع العدو.
وحمل السلطان في مقابلة ذلك خمسين غلاماً أتراكاً على خيول بسيوف ومناطق وعشرين رأساً من الخيل، وخمسين ألف دنيار، وخمسين قطعة ثياب.
وفي ذي الحجة من هذه السنة: قبض على أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري بمصر، وعلى ثمانين من صحابه، وقررت عليه أموال عظيمة. وكتب خطة بثلاثة آلاف ألف دنيار، وأخذ من المختصين به ألوف، وكان في ابتداء أمره قد حج وأتى المدنية، وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقط على منكبه قطعة من الخلوق فقال أحد القوام: أيها الشيخ، أبشرك بأمر ةلي الحباء والكرامة إذا بلغت إليه، أعلمك أنك تلي ولاية عظيمة، وهذا الخلوق الذي وقع عليك شاهدها، وهو دليل على علو منزلة من يسقط عليه. فضمن له ما طلبه، فلم يحل الحول حتى ولي الوزارة، وأحسن إلى الرجل، وتفقد الحرمين أحسن تفقد، وكان من أصحاب أبي حنيفة، وكان أبو يوسف القزويني يحكي سيرته ونفاق أهل العلم عليه، وقال انه التقاني يوماً وقد توجه إلى ديوانه، فلما رآني وقف ووقف الناس لأجله، وقال لي: إلى أين؟ فقلت: قصدتك لحوائج كلفني أقوام قضاءها. فقال لا أبرح من مكاني حتى تذكرها. فجعلت أذكر له حاجة وهو يقول: نعم وكرامة، حتى قال في الحاجة الأخيرة: السمع والطاعة، ثم انفرد أمير كان معه بعد انصرافه فقال له: أي شي أنت؟ فقلت: أنا لا شي. فقال: لا شيء؟ يقول له الوزير السمع والطاعة. فقال: أنا من أهل العلم. فقال: استكثر مما معك، فإنه إذا كان في شخص أطاعته الملوك.
ذكر من توفي في هذه السنة من الاكابر
أحمد بن عبد الله بن سليمان، أبو علاء التنوخي المعري ولد يوم الجمعة عند غروب الشمس لثلاث بقين من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلثمائة، وأصابة الجدري في سنة سبع أو أواخر سنة ست، فغشى حدقتيه ببياض فعمي، فقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، وله أشعار كثيرة، وسمع اللغة، وأملى فيها كتباً، وله بها معرفة تامة، ودخل بغداد سنة تسع وتسعين وثلثمائة، وسمع اللغة، وأملى وسبعة أشهر، ثم عاد إلى وطنه، فلزم منزله، وسمى نفسه: رهين المحبسين لذلك ولذهاب بصرة، وبقي خمساً وأربعين سنة لا يأكل اللحم ولا البيض ولا اللبن، ويحرم إيلام الحيوان، ويقتصر على ما تنبت الأرض، ويلبس خشن الثياب، ويظهر دوام الصوم، ولقيه رجل فقال له: لم لا تأكل اللحم؟ فقال: أرحم الحيوان قال:فما تقول في السباع التي لا طعام لها إلا لحوم الحيوان، فإن كان الخالق الذي دبر ذلك فما أنت بأرأف منه، وان كانت الطبائع المحدثة لذلك، فما ما قد ذبحة غيره فأي رحمة قد بقيت في ترك أكله، وكانت أحواله تدل على اختلاف عقيدته وقد حكي لنا عن أبي زكريا أنه قال :قال لي المعري: ما الذي تعتقد؟ فقلت 12 ب في نفسي: اليوم أعرف اعتقاده فقلت: ما أنا إلا شاك فقال: هكذا شيخك. وكان ظاهر أمره يدل أنه يميل إلى مذهب البراهمة، فإنهم لا يرون ذبح الحيوان، ويجحدون الرسل وقد رماه جماعة من أهل العلم بالزندقة والإلحاد، وذلك أمره ظاهر في كلامه وأشعاره، وأنه يرد على الرسل ويعيب الشرائع،ويجحد البعث


ونقلت من خط أبي الوفاء ابن عقيل أنه قال: من العجائب أن المعري أظهر ما أظهر من الكفر البارد الذي لا يبلغ منه شبهات الملحدين، بل قصر فيه كل التقصير، وسقط من عيون الكل، ثم اعتذر بأن لقوله باطناً، وأنه مسلم في باطن، فلا عقل له ولا دين، لأنه تظاهر بالكفر وزعم أنه مسلم في الباطن، وهكذا عكس قضايا المنافقين والزنادقة والمنافقين، إذا كان المتدين يطلب نجاة الآخرة، والزنديق يطلب النجاة في الدنيا، وهو جعل نفسه عرضة لا هلاكها في الدنيا حين طعن في الإسلام، وأبطن الكفر، وأهلك نفسه في المعاد، فلا عقل له ولا دين وهذا ابن الريوندي، وأبو حيان ما هؤلاء من القتل إلا لان إيمان الأكثرين ما صفا. بل في قلوبهم شكوك تختلج، وظنون تعتلج مكتومة إما لترجح الإيمان في القلوب، أو مخافة الإنكار من الجمهور، فلما نطق ناطق شبهاتهم أصغوا إليه، ألا ترى من صدق إيمانه كيف قتل أباه؟ وإذا أردت أن تعلمصحة ما قلت فانظر إلى نفورهم عند الظفر في عشائرهم، وفي بعض أهوائهم، أو في صور يهوونها، فان نظر إلى إراقة الدماء فإذا ندرت نادرة في الدين - وإن كثر وقعها - لم يتحرك منهم نابضة قال المصنف رحمه الله: وقد رأيت للمعري كتاباً سماه الفصول والغايات يعارض به السور والآيات، وهو كلام في نهاية الركة والبرودة، فسبحان من أعمى بصره وبصيرته وقد ذكره على حروف المعجم في آخر كلماته، فما هو على حرف الألف: طوبى لركبان النعال المعتمدين على عصى الطلح، يعارضون الركائب في الهواجر والظلماء، يستغفر لهم قحة القمر وضياء الشمس، وهنيءاً لتاركي النوق في غيطان الفلا، يحوم عليها ابن داية، يطيف بها السرحان وشتان، أوارك قوة الألبان وجرى لبنها أفقد من لبن العطاء وكله على هذا البارد، وقد نظرت في كتابه المسمى لزوم مالا يلزم وهو عشرة مجلدت وحدثني ابن ناصر، عن أبي زكريا عنه يأشعار كثيرة، فمن أشعاره:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ... وترزق مجنوناً وترزق أحمقا
فلا ذنب يا رب العباد على أمرىء ... رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا
وله:
وهيهات البرية في ضلال ... وقد نظر اللبيب لما اعتراها
تقدم صاحب التوراة موسى ... وأوقع في الخسار من افتراها
فقال رجاله وحي أتاه ... وقال الناظرون بل افتراها
ما حجي إلى أحجار بيت ... كؤوس الخمر تشرب فيذراها
إذا رجع الحليم إلى حجاة ... تهاون بالمذاهب وازدراها
وله:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ... ويهود حارت والمجوس مضلله
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخر دين لا عقل له
وله:
فلا تحسب مقال الرسل حقاً ... ولكن قول زور سطروه
وكان الناس في عيش رغيد ... فجاءوا بالمحال وكدروه
وله:
إن الشرائع ألقت بيننا إحنا ... وأورثتنا أفانين العداوات
وهل أبيح نساء الروم عن عرض ... للعرب إلا بأحكام النبوات
وله:
أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما ... دياناتكم مكر من القدماء
وله:
تناقض ماله إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
يد لخمس مئين عسجد فديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
وله:
لا يكذب الناس على ربهم ... ماحرك العرش ولا زلزلا
وله:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمناالايام حتى كأننا ... رجيع زجاج لا يعادلنا سبك
وله:
كون يرى وفساد جاء يتبعه ... تبارك الله مافي في خلقه عبث
وإن يؤذن بلال لابن آمنة ... فبعده لسجاح ما دعى شبث
أراد بالبيت الأول المجون ومعناه:هل هذا إلا عبث، وعني بالبيت الثاني: شبت ابن ربعي فإنه أذن لسجاح التي ادعت النبوة وذكر نبينا عليه السلام باسم أمه، وأراد إن كان قد جرى له هذا فقد جرى مثله لا مرأة وله في هذا المعنى فساد وكون حادثان كلاهما.
وله في مثل ذلك:
شهيد بإن الخلق صنع حكيم
وله مثل الذي قبله:


فربما حل موصوف يراقبه ... فكيف يمحن أطفال بإيلام
وله:
أمور تستخف بها حلوم ... وما يدري الفتىلمن الثبور
كتاب محمد وكتاب موسى ... وإنجيل ابن مريم والزبور
وله:
قلتم لنا خالق قديم ... صدقتم هكذا فقولوا
زعمتموه بلا زمان ... ولا مكان ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء ... معناه ليست لنا عقول
انظر إلى حماقة هذا الجاهل، أنكر أن يكون الخالق موجوداً لا في زمان، ولا14 ب في مكان، ونسي أنه أوجدهما.
وإنما ذكرت هذا من أشعاره ليستدل بها على كفره، فلعنه الله.
وذكر أبو الحسن محمد بن هلال ابن المحسن الصابي في تاريخه قال: ومن أشعار المعري:
صرف الزمان مفرق الإلفين ... فاحكم إلهي بين ذاك وبيني
أنهيت عن قتل النفوس تعمداً ... وبعثت أنت لأهلها ملكين
وزعمت أن لها معاداً ثانياً ... ما كان أغناها عن الحالين
مات أبو العلاء المعري في ربيع الأول من هذه السنةبمعرة النعمان عن ست وثمانين سنة إلا أربعة وعشرين يوماً وقد روي لنا أنه قد أنشد على قبره ثمانون مرثية رثاه بها أصحابه ومن قرأ عليه ومال إليه، فقال بعضهم:
إن كنت لم ترق الدماء زهادة ... فلقد أرقت اليوم من جفني دما
وهؤلاء بين أمرين: إما جهّال بما كان عليه، وإما قليلو الدين، لايبالون به، ومن سبر خفيات الأمور بانت له، فكيف بهذا الكفر الصريح في هذه الأشعار.
قال ابن الصابىء: ولما مات المعري رأى بعض الناس في منامه كأن أفعيين على عاتقي رجل ضرير تدليا إلى صدره، ثم رفعا رأسيهما فهما ينهشان من لحمه وهو يستغيث، فقال: من هذا. فقيل: المعري الملحد.
الحسين بن أحمد بن القاسم بن علي بن أحمد بن أحمد بن إبراهيم بن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي، ابن أبي طالب النسابة ولد في ذي القعدة سنة ثمانين وثلثمائة. وتوفي في صفر هذه السنة.
أخبرنا القزاز، أبو بكر الخطيب قال: كان متميزاً من بين أهله بعلم النسب ومعرفة أيام الناس وله حظ في الأدب، وعلقت عنه حكايات ومقطعات من الشعر.
أبو عثمان أبو عبد الله ابن النصيبي، الحسين بن عثمان سمع علي بن عمر السكري، والدارقطني، والمخلص. قال الخطيب: كتبت عنه وكان صحيح السماع، وكان يذهب إلى الاعتزال، وتوفي في السنة.
سعد بن أبي الفرج محمد بن جعفر ابن أبي الفرج، يكنى أبا الغنائم، علاء الدين، ابن فسانجس وزر مدة للملك أبي نصر بن أبي كاليجار، ونظر في أول أيام الغز بواسطة، وخطب للمصريين، فحمل إلى بغداد وشهّر بها، وصلب بإزاء التاج في هذه السنة وكان عمره سبعاً وثلاثين سنة.
عبيد الله بن الحسين بن نصر، أبو محمد العطار سمع ابن المظفر، والدارقطني.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب قال:كتبت عنه وكان ثقة. وسألته عن مولده فقال: سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة، وتوفي في هذه السنة.
عدنان بن الرضي الموسوي. ولي نقابة الطالبيين وتوفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة خمسين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه وقع في يوم الثلاثاء سادس عشر المحرم برد كبار، وهلك كثير من الغلات، وزنت منه واحدة بصريفين فكانت نيفاً وثلاثين درهماً، وزادت دجلة هذا يوم خمسة عشر ذراعاً.
ثم في يوم السبي رابع عشر صفر، وقع برد بالنهروان وما يقاربها من السواد كبيض الدجاج، رجل ففتحت رأسه، وضربت أخرى رأس فرس فرمى راكبه وشرد.
وزاد العبث من أصحاب السلطان، فكانوا يأخذون عمائم الناس، حتى إنه عبر في جمادى الآخرة أبو منصور ابن يعقوب إلى نقيب العلويين ومعه أبو الحسين بن المهتدي، فلما بلغوا إلى باب الكرخ أخذت عمامة ابن المهتدي فأسرعت العامة إلى أخذها، فاستردوها، وأخذت بعد ذلك بيوم عمامة أبي نصر ابن الصباغ وطيلسانه.
وفي شهر رمضان: تجدد للعوام المتدينين المتسمين بأصحاب عبد الصمد إلزام أهل الذمة بلبس الغيار، وحضر الديوان رجل هاشمي منهم يعرف بابن سكرة


فخاطب رئيس الرؤساء ابن المسلمة في ذكر ما عليه أهل الذمة من الانبساط، وكلّمه بكلام فيه غلطة فأغاظه، فكتب إلى الخليفة بذلك فخرج ما قوى أمر ابن سكرة، وكان أبو علي ابن فضلان الهيودي كاتب خاتون فأمره ابن المسلمة مساغاً لما يريد فصار أهل الذمة ينسلون ويخرجون إلى أشغالهم.
وفي ثامن شوال: نقب جامع المدنية، وأخذت منه الأعلام السود والتستر وما وجد.
وفي ثامن عشر شوال: بين المغرب والعشاء كانت زلزلة عظيمة لبثت ساعة عظيمة، ولحق الناس منها خوف شديد، وتهدمت دور كثيرة، ثم وردت الأخبار أنها اتصلت من بغداد إلى همذان، وواسط، وعانة، وتكريت، وذكر أن أرحاء كانت تدور فوقفت، وبعد هذه الزلزلة بشهر أخرج القائم من داره، وجرت محن عظيمة.
وكان السلطان طغرلبك قد خرج إلى الموصل ثم توجه إلى نصيبين ومعه أخوة إبراهيم ينال فخالف عليه أخوة إبراهيم، وانصرف بجيش عظيم معه يقصد الري وكان البساسيري راسل إبراهيم يشير عليه بالعصيان لأخيه، ويطمعه بالتفرد بالملك ويعد معاضدته، فسار طغرلبك في أثر أخيه إبراهيم وترك العساكر وراءه فتفرقت عنه غير أن وزيره المعروف بالكندري، وربيبه أنو شروان، وزوجته خاتون وردوا بغداد بمن بقي مههم من العسكر في شوال هذه السنة، وانتشر الخبر باجتماع طغرلبك مع أخيه إبراهيم بهمذان وأن إبراهيم استظهر على طغرلبك وحصر في 16 ب همذان فعزمت خاتون وابنها أنو شروان، والكندري على المسير إلى همذان لإنجاد طغرلبك، فاضطرب أمر بغداد اضطراباً شديداً، وأرجف المرجفون باقتراب البساسيري، فبطل عزم الكندري عن المسير، فهمت خاتون بالقبض عليه وعلى ابنها لتركهما مساعدتها على إنجاد زوجها، فنفرا إلى الجانب الغربي من بغداد وقطعا الجسر وراءهما، واستولى من كان مع خاتون من الغز على ما تضمنتها من العين والثياب والسلاح وغبر ذلك من صنوف الأموال، ونفذت خاتون بمن انضوى إليها وهم: جمهور العسكر متوجهة نحو همذان، وخرج الكندري وأنو شروان يؤمان طريق الأهواز، فلما خلا البلد من العساكر انزعج الناس: من أراد أن يخرج فليخرج. فبكى الناس والاطفال، وعبر كثير من الناس إلى الجانب الغربي، فبلغت المعبرة دينارين وثلاثة.
وطار في تلك الليلة على دار الخليفة نحو عشر بومات مجتمعات يصحن صياحاً مزعجاً فقال أبو الأغر بن مزيد رئيس الرؤساء: ليش عندنا من يرد، والرأي خروج الخليفة عن البلد إلى البلاد السافلة، فأجاب الخليفة، ثم صعب عليه مفارقة داره، وامتنع وأظهر رئيس الرؤساء قوة النفس لأجل موافقة الخليفة، وجمعوا من العوام من يصلح للقتال، وركب رئيس الرؤساء وعميد العراق إلى دار المملكة، وأخذا ما يصلح من السلاح وضربا في الباقي النار، فلما كان يوم الجمعة السادس من ذي الفعدة تحقق الناس كون البساسيري بالأنبار، ونهض الناس إلى صلاة الجمعة بجامع 17 أ المنصور، فلم يحضر الإمام فأذّ المؤذنون ونزلوا، فخبروا أنهم رأوا عسكر البساسيري حذاء شارع دار الرقيق، وجاء العسكر، وصلى الناس الظهر بغير خطبة.


ثم ورد في يوم السبت نحو مائتي فارس، ثم دخل البساسيري بغداد يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه الرايات المصرية، فضرب مضاربه على شاطىء دجلة، فتلقاه أهل الكرخ، فوقفوا في وجه فرسه وتضرعوا إليه أن يجتاز عندهم، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الروايا، فخيم بها، وكان على رأسه أعلام عليها مكتوب الامام المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين، وكان قد جمع العيارين وأهل الرساتيق وأطمعهم في نهب دار الخلافة، والناس إذا ذاك في ضر ومجاعة،ونزل قريش ابن بدران في نحو مائتي فارس على مشرعة باب البصرة، فلما استقر بالقوم المنزل ركب عميد العراق من الجانب الشرقي في العسكر وحواشي الدولة والهاشميين والعوام والعجم إلى آخر النهار، فلم يجابهوا عسكر البساسيري بشيء ونهبت دار قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني، وهلك أكثر السجلات والكتب الحكمية، فبيعت على العطارين، ونهبت دور المتعلقين بالخليفة، ونهب أكثر باب البصرة بأيدي أهل الكرخ تشفياً لأجل المذهب، وانصرف الباقون عراة، فجاؤوا إلى سوق المارستان، وقعدوا على الطريق ومعهم النساء والأطفال، وكان البرد حينئذ شديداً وعاود أهل الكرخ الأذان بحي على خير العمل وظهر فيهم السور الكثير، وعماوا راية بيضاء ونصبوها وسط الكرخ وكتبوا عليها اسم المستنصر بالله، وأقام بمكانه والقتال يجري في السفن بدجلة.
17 - ب فلما كان يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة: دعي لصاحب مصر في جامع المنصور، وزيد في الأذان حي على خير العمل وشرع البساسيري في إصلاح الجسر، فقعده بباب الطاق، وعبر عسكره عليه فنزلوا الزاهر، وحضرت الجمعة يوم العشرين من ذي القعدة فدعي لصاحب مصر بجامع الرصافة، وخندق، وحفرت آبار في الحلبة، وخرج رئيس الرؤساء، فوقف دون باب الحلبة يفرق النشاب، ثم فتح الباب فاستجرهم البساسيري، ثم كر عليهم فانهزموا، وامتلأ باب الخليفة بالقتلى، وأجفل رئيس الرؤساء إلى دار الخليفة، فهرب أهل الحريم، وعبروا إلى الجانب الغربي، ونهب العوام من نهر معلى، وديوان الخاص ما لا يحصى، وأحرقوا الأسواق، فركب الخليفة لابساً للسواد، على كتفه البردة، وعلى رأسه اللواء، وبيده سيف مجرد، وحوله زمرة من الهاشميين والجواري حاسرات منشرات، معهن المصاحف على رؤوس القصب، وبين يديه الخدم بالسيوف المسلولة، فوجد عميد العراق قد استأمن إلى قريش بن بدران، وكان قريش قد ظافر البساسيري، وأقبل معه، فصعد الخليفة إلى منظرة له، واطلع أبو القاسم ابن المسلمة وصاح بقريش: يا علم الدين،أمير المؤمنين يستدنيك. فدنا فقال له: قد أتاك الله رتبة لم ينلها أمثالك، فإن أمير المؤمنين يستذم منك على نفسه وأهله وأصحابه بذمام الله تعالى وذمام رسوله صلى الله وعليه وسلم، وذمام العرب ، فقال له قريش: قد أذم الله تعلى له. فقال: ولمن معه؟ قال: نعم. وخلع قلنسوته من تحت عمامته فأعطاها الخليفة ذماماً فتسرح ابن المسلمة إليهم من الحائط، ونزل الخليفة ففتح الأب المقابل لباب الحلبة وخرج، فقبّل قريش الأرض بين يديه 18 أ دفعات فبلغ البساسيري ذلك فراسل، وقال: أتذم لهما وقد استقر بيني وبينك ما استحلفتك عليه؟ وكانا قد تحالفا أن لا ينفرد أحدهما بأمر دون الآخر، وأن يكون جميع ما يتحصل من البلاد والأموال بينها. فقال له قريش: ما عدلت عما استر بيننا، وعدوك هو ابن المسلمة فخذه وأنا آخذه وأنا آخذ الخليفة بإزائه. فقنع بذلك وحمل ابن المسلمة إلى البساسيري، فلما رآه قال: مرحباً بمدفع الدول، ومهلك الأمم، ومخرب البلاد، مبيد العباد. فقال له: أيها الأمير العفو عند المقدرة. فقال: قد قدرت فما عفوت وأنت تاجر وصاحب طيلسان، ولم تستبق من الحرم والأطفال والأجناد، فكيف أعفو عنك وأنا صاحب سيف، وقد أخذت أموالي، وعاقبت حرمي، ونفيتهم في البلاد، وشتتني ودرست دوري، ولكن هذا أيضاً من قصورك الفاسد، وعقلك الناقص.
واجتمع العامة فسبوه وهمّوا به، فأخذه البساسيري يسير إلى جنبه خوفاً عليه من العامة، ولم يزل يوبخه وهو يعتذر، وحل الركابيه حزام البرذون الذي كان تحته ليسقط فيتمكن العامة من قتله، فسقط فوقف البساسيري يذب عنه إلى أن أركبه، ومضى به إلى الخيمة، فقيده ووكل به وضرب ضرباً كثيراً، وقيد.


ثم ظفر بالسيدة خاتون زوجة الخليفة فأكرمها زسلمها إلى أبي عبد الله ابن جردة ومضى الخليفة إلى المعسكر، وقد ضرب له قريش خيمة إزاء بيته بالجانب الشرقي، فدخلها ولحقه قيام الدم، وأذم قريش لابن جردة ابن يوسف، وكان ابن جردة قد ضمن 18 ب لقريش لأجل داره ومن التجأ إليها من التجار عشرة آلاف دينار، ونهبت العوام دار الخليفة، وأخذوا منها ما يعتذر حصره من الديباج والجواهر واليواقيت، وأحرقوا رباط أبي سعد الصوفي، ودار ابن يوسف، ثم نودي برفع النهب، وحمل البساسيري الطيار إلى عسكره، ثم نقله إلى الحريم الظاهري وعليه المطارد البيض.
فلما جاء يوم الجمعة الرابع من ذي الحجة لم يخطب بجامع الخليفة، وخطب في سائر الجوامع لصاحب مصر.
وفي هذا اليوم انقطعت دعوة الخليفة من بغداد وجرى بين البساسيري وقريش بن بدران في أمر الخليفة من التجاذب ما أدى إلى نقله عن بغداد، وأن لا يكون في يد أحدهما، وتسليمه إلى بدوي يعرف بمهارش صاحب حدثية عانة، واعتقاله فيها إلى أن يتقرر لهما عزم، فعرف الخليفة ذلك فراسل قريش بالمجيء إليه فلم يفعل، فقام ومشى إلى خيمته فدخل فعلق بذيله وقال له: ما عرفت ما استقر العزم عليه من إبعادي عنك وإخراجي عن يديك، وما سلمت نفسي إليك إلا لما أعطيتني الذمام الذي يلزمك الوفاء به، وقد دخلت الآن إليك ووجب لي عليك ذمام فإني عليك فالله الله في نفسي، فمتى أسلمتني أهلكتني وضيعتني، وما ذاك معروف في العرب.
فقال: ما ينالك سوء، ولا يلحقك ضيم غير أن هذه الخيمة ليست دار مقام مثلك، وابو الحارث لا بؤثر مقامك في هذا البلد، وأنا أنقلك إلى الحديثة، وأسلمك إلى مهارش ابن عمي، وفيه دين، فلا تخف، واسكن إلى مراعاتي لك وعد إلى مكانك.
فلما يئس منه قال عنه وهو يقول: لله أمر هو بالغه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وعبر قريش ليلة الأربعاء التاسع من ذي الحجة إلى الجانب الغربي، وضرب 19 أ خيمة بقرب جامع المنصور وحمل الخليفة إلى المشهد بمقابر قريش، وقال له: تبيت الليلة فيها. فامتنع وقال هؤلاء العلويون الذين بها يعادوني. فألزم الدخول وبات ليلته في بعض الترب، وحضر من الغد جماعة من أصحاب البساسيري وأصحاب قريش، فتسلموه من موضعه، وأقعده في هودج على جمل، وسيروه إلى الأنبار، ثم إلى حدثية عانة على الفرات، وكان صاحب الحدثية مهارش البدوي حسن الطريقة، فكان يتولى خدمة الخليفة، ولما بلغ الأنبار شكا وصول البرد إلى جسمه، فأخرج شيخ من مشايخ الأنبار يعرف: بابن مهدويه جبة برد، فيها قطن ومقياراً ولحافاً، وكتب الخليفة، ولما بلغ الخليفة الأنبار شكا وصول البرد إلى بغداد يلطف فيها بالبساسيري وقريش، يدعوهما إلى إعادته إلى بغداد، وإحسان العشرة، ويحلف بالأيمان المؤكدة على براءة ساحته من جميع ما نسب إليه، فلم يقع الالتفات إليها ولا أجيب عنها، فأقام الخليفة بالحديثة.
وذكر عبد الملك بن محمد الهمذاني عن بعض الليالي للصلاة، ووجدت في قلبي حلاوة المناجاة، فدعوت الله تعالى فيما سنح، ثم قلت: اللهم أعدني إلى وطني، واجمع بيني وبين أهلي وولدي، ويسر اجتماعنا، وأعد روض الأنس زهراً، وربع القرب عامراً، فقد قل العزاء، وبرج الخفاء، فسمعت قائلاً على شاطىء الفرات يقول بأعلى صوته نعم نعم فقلت هذا رجل يخاطب آخر، ثم أخذت في السؤال والابتهال، فسمعت19 ب ذلك الصائح يقول: إلى الحول إلى الحول. فعلمت أنه هاتف أنطقه الله تعالى بما جرى الأمر عليه، فكان خروجه من داره حولاً كاملاً خرج في ذي القعدة ورجع في ذي القعدة.


وروى محمود بن الفضل الأصبهاني أن القائم كتب في السجن دعاء وسلمه إلى بدوي، وأمره أن يعلقه على الكعبة: إلى الله العظيم من عبده المسكين، اللهم إنك العالم بالسرائر، والمحيط بمكنونات السرائر، اللهم إنك غني بعلمك واطلاعك على أمور خلقك عن إعلامي بما أنا فيه، عبد من عبادك قد كفر بنعمتك وما شكرك وأبقى العواقب، وما ذكرها أطغاه حلمك، واغتر الظالم وأنت المطلع العالم، والمنصف الحاكم، بك نعتز عليه، وإليك نهرب من يديه، فقد تعزز علينا بالمخلوقين ونحن نعتز بك يا رب العالمين، اللهم إنا حاكمناه إليك، وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، وقد رفعت ظلامتي إلى حرمك، ووثقت في كشفها بكرمك، فاحكم بيني وبينه وأنت خير الحاكمين، وأرنا به ما نرتجيه فقد أخذته العزة بالإثم، فاسلبه عزه ومكنا بقدرتك من ناصيته، يا أرحم الراحمين، فحملها البدوي وعلقها على الكعبة، فحسب ذلك اليوم 20 أ فوجد أن البساسيري قتل وجي برأسه بعد سبعة أيام من تاريخ.
ومن شعر القائم الذي قال في الحديثة:
خابت ظنوني فيمن كنت آمله ... ولم يخب ذكر من واليت في خلدي
تعلموا من صروف الدهر كلهم ... فما أرى أحداً يحنو على أحد
وقال أيضاً:
ما لي من الأيام إلا موعد ... فمتى أرى ظفراً بذاك الموعد
يومي يمر وكلما قضيته ... عللت نفسي بالحديث إلى غد
أحيا بنفس تستريح إلى المنا ... وعلى مطامعها تروح وتغتدي
وأما حديث البساسيري: فإنه ركب يوم الخميس عاشر ذي الحجة من سنة خمسين إلى المصلى في الجانب الشرقي وعلى رأسه الألوية والمطادر المصرية، وعيد ونحر وبين يديه أبو منصور بن بكران حاجب الخليفة على عادته في ذاك، وكان قد أمنه وردّ أبا الحسين بن المهتدي إلى منبره بجامع المنصور، ولبس الخطباء والمؤذنون الثياب البياض، ونقل العسكر إلى مشرعة المارستان في الجانب الغربي، وضرب دنانير سماها المستنصرية، وكان عليها من فرد جانب: لا إله ووليه الإمام أبو تميم معد المستنصر بالله أمير المؤمنين، وكان يقبض على أقوام يغرقهم بالليل، وغرق جماعة عزموا على الفتك به، وخرج الناس من الحريم ودار الخلافة، حتى لم يبق لها إلا الضعيف، وخلت الدور.
وفي الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة: أخرج أبو القاسم ابن المسلمة من محبسه بالحريم الظاهري مقيداً وعليه جبة صوف وطرطور من لبد أحمر، وفي 20 ب رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ، وأركب جملاً وطيف به في محال الجانب الغربي، ووراءه من يصفعه بقطعة من جلد وابن المسلمة يقرأ: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتذل من تشاء الآية، وشهر في البلد، ونثر عليه أهل الكرخ لما اجتاز بهم خلقان المداسات، وبصقوا في وجهه، ولعن وسبّ في جميع المحال، ووقف بإزاء دار الخليفة، ثم أعيد إلى المعسكر وقد نصبت له خشبة بباب خراسان، فحط من الجمل، وخيط عليه جلد ثور قد سلخ في الحال، وجعلت قرونه على رأسه، وعلق بكلابين من حديدفي كتفيه واستقي في الخشبة حياً، فقال لهم: قولوا للأجل قد بلغك الله أغراضك مني فاصطنعني لتنظر خدمتي، وإن قتلتني فربما جرى من سلطان خراسان ما يهلك به البلاد والعباد. فسبوه واستقوه ولبث إلى آخر النهار يضطرب ثم مات.
وكان البساسيري قد أمر بترك الكلابين في ترقوته ليبقى حياً أياماً حاله، وأمر أن يطعم كل يوم رغيفين ليحفظ نفسه، فخاف من تولى أمره أن يعفو عنه البساسيري، فضرب الكلابين في مقتله. فقال عند موته الحمد لله الذي أحياني سعيداً وأماتني شهيداً.
ثم أفرج عن قاضي القضاة الدامغاني بعد أن قرر عليه ثلاثة آلاف دينار، فصحح منها سبعمائة، وأمسك البساسيري عن مطالبة الباقي.
ثم إن السلطان طغرلبك خرج من همذان وهزم عسكر أخيه.
وفي هذه السنة: ولي أبو عبد الله بن أبي طالب نقابة الطالبيين.
وفيها: عصى علي بن أبي الخير بالبطائح، وكان متقدم بعض نواحيها، فكسر جيش طغرلبك ومعهم عميد العراق أبو نصر.
ذكر من توفي في هذه السنة من الاكابر
الحسن بن محمد،، أبو عبد الله الولي الفرضي. كان إماماً ثقة، وقتل في الفتنة، ودفن يوم الجمعة تاسع ذي الحجة من هذه السنة.
الحسين بن محمد بن طاهر بن يونس، أبو عبد الله مولى المهدي


سمع الدارقطني، وابن شاهين، وغيرهما، وكان صدوقاً حسن الاعتقاد، كثير الدرس للقرآن، وينزل شارع دار الرقيق.
وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بمقبرة باب حرب.
داود جغريبك، أخو السلطان طغرلبك الأكبر. كان ببلخ بإزاء أولاد محمود بن سبكتكين.
طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، أبو الطيب الطبري الفقيه الشافعي. ولد بآمل سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، وسمع بجرجان من أبي احمد الغطرفي، وبنيسابور من أبي الحسن الماسرجسي، وعليه درس الفقه، وسمع ببغداد من الدارقطني، والمعافى، وغيرهما. وولي القضاء بربع الكرخ بعد موت الصيمري، وكان ثقة دنياً ورعاً عارفاً بأصول الفقه وفروعه، حسن الخلق، سليم الصدر.
أخبرنا القزاز أخبرنا الخطيب قال: سمعت أبا الحسن محمد بن محمد بن عبد الله القاضي يقول: ابتدأ القاضي أبو الطيب الطبري بدرس الفقه، وتعلم العلم وله أربع عشرة سنة، فلم يخلّ به يوماً واحداً إلى أن مات.
أخبرنا محمد بن ناصر، عن المولى بن أحمد قال: سمعت أبا إسحاق الشيرازي يقول: دفع القاضي أبو الطيب الطبري خفاً له إلى خفاف ليصلحه، فكان يمر عليه ليتقاضاه، وكان الخفاف وكلما رأى القاضي أخذ الخف فغمسه في الماء، وقال: الساعة الساعة، فلما طال عليه قال: إنما دفعته إليك لتصلحه ولم أدفعه إليك لتعلمه السباحة.
توفى الطبري يوم السبت لعشر بقين من ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة، وصلى عليه أبو الحسين ابن المهتدي بجامع المنصور، ودفن بمقبرة باب حرب، وقد بلغ من السن مائة وستين سنة، وكان صحيح العقل، ثابت الفهم، سليم الأعضاء، يفتي ويقضي إلى حين وفاته.
عبيد الله بأحمد بن عبد الله، أبو القاسم الرقي العلوي أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: سكن الرقي بغداد في درب أبي خلف من قطيعة الربيع، وكان أحد العلماء بالنحو والأدب واللغة، عارفاً بالفرائض، وقسمة المواريث، وحدّث سيئاً يسيراً، كتبت عنه، وكان صدوقاً. وسألته عن مولده فقال: سنة إحدى وستين وثلثمائة.
وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن في مقبرة باب حرب.
عبد الواحد بن الحسين بن شيطا. سمع أبا محمد بن معروف، وعيسى بن علي بن عيسى الوزير وغيرهما، وكان ثقة وكان بصيراً بالعربية عالماً بوجوه القراءات، حافظاً لمذاهب القرذاء.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: سألت ابن شيطا عن مولده فقال: ولدت يوم الاثنين السادس عشر من رجب سنة سبعين وثلثمائة، ودفن من يومه في مقبرة الخيزران.
عبد العزيز بن علي بن محمد بن عبد الله، ابن بشران، أبو الطيب سمع ابن المظفر، وابن حيويه، وغيرهما وكان سماعه صحيحاً، سألته عن مولده فقال: سنة ثمان وستين وثلثمائة.
وتوفي في صفر هذه السنة، ودفن في مقبرة باب الدير.
علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن الماوردي البصري كان من وجوه فقهاء الشافعية، وله تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه، وله المقترن والنكت في التفسير والأحكام السلطانية وقوانين الوزراء والحكم والأمثال وولي القضاء ببلدان كثيرة، وكان يقول: بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة، وقد اختصرته في أربعين. يريد بالمبسوط الحاوي، وبالمختصر الإقناع وكان وقوراً متأدباً لا يرى أصحابه ذراعه، وكان ثقة صالحاً.
وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن بمقبرة باب حرب، وبلغ ستاً وثمانين سنة.
علي بن عمر، أبو الحسن البرمكي، أخو أبي اسحاق سمع من ابن حبابة، والمعافى. توفى في هذه السنة، ودفن بمقبرة باب حرب.
علي بن الحسن بن أحمد بن محمد بن عمر، أبو القاسم بن المسلمة سمع أبا أحمد الفرضي وغيره، وكان أحد الشهود المعدلين، ثم استكتبه الخليفة القائم بأمر الله واستوزره، ولقّبه: رئيس الرؤساء شرف الوزراء جمال الورى، وكان مضطلعاً بعلوم كثيرة مع رأي ووفور عقل.


قال المصنف رحمه الله: ونقلت من خط أبي الوفاء بن عقيل أنه قال: ذكر لي بعض أهل العلم المحققين أن رئيس الرؤساء قال للشيخ أبي اسحاق في مسألة القائل لزوجته: إن دخلت أو خرجت إلا باذني فأنت طالق هل يكفي فيه إذن مرة أليس قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق لا يقتضي التكرار ولا فيه لفظ من ألفاظ التكرار، وإنما هو حرف من حروف الشرط، فإذا كان كذلك فلا وجه لا عتبار تكرر الإذن ولا لتكرار الوقوع بعدم الإذن. فكان الشيخ أبو اسحاق يقول ؛ عولوا على هذا دليلاً في المسألة.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: سمعت علي بن الحسن الوزير يقول: ولدت في شعبان سنة سبع وتسعين وثلثمائة فرأيت في المنام وأنا حدث كأني أعطيت شبه النبقة الكبيرة، وقد ملأت كفي، وألقى في روعي أنها من الجنة فعضضت منها عضة، ونويت بذلك حفظ القرآن، وعضضت أخرى ونويت درس النحو، وعضضت أخرى ونويت درس العروض، فما من هذه العلوم إلا وقد رزقني اله منه.
قتل الوزبر أبو القاسم يوم ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة، قتله البساسيري ثم قتل البساسيري وطيف برأسه في بغداد خامس عشر ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة.
وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني المؤرخ قال: من عجيب الاتفاق: لما ولي ابن المسلمة وزارته ركب إلى جامع المنصور بعد أن خلع عليه، فأتى إلى تل فنزل في موكبه وصلى عليه ركعتين، وقال: هذا موضع مبارك، وكان قديماً بيت عبادة، وعنده صلب الحسين بن منصور الحلاج. ثم أصابت رئيس الرؤساء عند ذلك رعدة شديدة، وكان الناس يقولون إنه حلاجي المذهب. فبقي في الوزارة اثنتي عشرة سنة، وأشهراً وصلب في ذلك المكان بعينه. فعلم الناس أن رعدته كانت لذلك، وبلغ من العمر اثنتين وخمسين سنة وخمسة أشهر.
أبو الفوارس الأسدي صاحب الجزيرة، منصور بن الحسين توفي واجتمعت العشيرة على ولده صدقة.
ثم دخلت
سنة إحدى وخمسين وأربعمائة
فمن الحوداث فيها: أن أبا منصور بن يوسف انتقل عن معسكر قريش إلى داره بدرب خلف بعد أن حمله البساسيري، وجمع بينهما حتى رضي عنه، وأصلح بينه وبينه، والتزم أبو منصور له شيئاً قرره عليه، وركب البساسيري إليه في هذا اليوم نظرية لجاهه، وخاطبه بالجميل وطيب نفسه بما بذله له، ووعدهبه، وركب قريش بن بدران من غد إليه أيضاً، وعاد جاهه طرياً إلا أنه خائف من البساسيري.
وفي هذا الشهر: كتبت والدة الخليفة إلى البساسيري من مكان كانت فيه مستترة رقعة تشرح فيها ما لحقها من الأذى والضرر والفقر ، حتى إن القوت يعتذر عليها، فأحضرها، وهي جارية أرمينية قد ناهزت التسعين واحدودبت، وافرد لها داراً في الحريم الطاهري، وأعطاها جاريتين تخدمانها، وأجرى عليها في كل يوم اثني عشر رطلاً خبزاً وأريعة أرطال لحماً.
وفي يوم الإثنين ثاني عشر صفر: أحضر البساسيري قاضي القضاة أبا عبد الله الدامغاني، وأبا منصور بن يوسف، وأبا الحسين بن الغريق الخطيب، وجماعة من وجوه العلويين والعباسيين وأخذ عليهم البيعة للمستنصر بالله، واستحلفهم له، ودخل إلى دار الخلافة بعد أيام وهؤلاء الجماعة معه.
وفي ليلة الأحد ثاني ربيع الأول: نقلت جثة أبي القاسم ابن المسلمة إلى ما يقارب الحريم الطاهري، ونصبت على دجلة.
وفي بكرة الثلاثاء رابع هذا الشهر، خرج البساسيري إلى زيارة المشهد بالكوفة على أن ينحدر من هناك إلى واسط واستصحب معه غلة في زورق ليرتب العمال في حفر النهر المعروف بالعلقمي، ويجريه إلى المشهد بالحائر، وفاء بنذر كان عليه، وأنفذ من ابتدأ بنقض تاج الخليفة فنقضت شرافاته فقيل له: هذا لا معنى فيه، والقباحة فيه أكثر من الفائدة، فأمسك عن ذلك.
ثم إن السلطان طغرلبك ظفر بأخيه إبراهيم فقتله، وقتل الوفا من التركمان، وأنفذ إلى قريش يلمتس خاتون ويخلط بذلك ذكر الخليفة، ورده إلى مكانه، فرد خاتون وأجاب عما يتعلق بالخليفة بأن ما جرى كان من فعل ابن المسلمة، ومتى وقع تسرع في المسير إلى العراق، فلست آمن أن يتم على الخليفة أمر يفوت وسبب يسوء، ولسنا بحيث نقف لك ولا نحاربك، وإنما نبعد وندعك، فربما ماست العساكر من بلادها ففتحت البنوق وخرجت السواد، وأنا أتوصل في جميع ما تراد من البساسيري.


وراسل قريش البساسيري يشير عليه بما التمسه السلطان طغرلبك، ويحذره المخالفة له ويقول: قد دعوت إلى السلطان على ستمائة فرسخ فخدمناه، وفعلنا ما لم يكن يظنه، ومضى لنا ستة أشهر مذ فتحنا العراق ما عرفنا منه خبراً، ولا كتب إلنيا حرفاً، ولا فكر فنيا، وقد عادت رسلنا بعد سنة وكسر صفراً من شكر وكتاب،فضلاً عن مال ورجال، ومتى تجدد خطب فما يشقى به غيري وغيرك، والصواب المهادنة والمسالمة، وردّ الخليفة إلى أمره، والدخول تحت طاعته، وأن يستكتب أمنه.
وفي هذه السنة: كان بمكة رخص لم يشاهد مثله، وبلغ البر والتمر مائتي رطل بدينار وهذا غريب هناك.
وورد كتاب المسافرين من دمشق بسلامتهم وأنهم مطروا في نصف تموز حتى كانت الجمال تخوض في الماء، وامتلأت المصانع والزبى.
وفيها: زاردت الغارات، حتى إن قوماً من التجار أعطوا على وجه الخفارة من النهوان أربعة عشر ألف دينار ومائة كرومائتي رأساً من الغنم.
وفي شوال: عاد لقريش بن بدران رسول يقال له: نجدة من حضرة السلطان، وكان قريش قد أنفذ هذا الصاحب في صحبة السيدة أرسلان خاتون امرأة القائم بأمر الله، وأصحبه رسالة إلى السلطان يعده بردّ الخليفة إلى داره، ويشير عنه بالقرب ليفعل ذلك، ويتمكن منه، وكان قد ورد كتاب من السلطان إلى قريش عنوانه للأمير الجليل علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران مولى أمير المؤمنين من شاهنشاه المعظم ملك المشرق والمغرب طغرلبك أبي طالب محمد بن ميكايل بن سلجوق وعلى رأس الكتاب العلامة السلطانية بخط السلطان: حسبي الله وكان في الكتاب والآن قد سرت بنا المقادير إلى كل عدو للدين، والملك ولم يبق لنا وعلينا من المهمات إلا خدمة سيدنا ومولانا الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين واطلاع أبهة إمامته على سرير عزة، فإن الذي يلزمنا ذلك ولا فسحة في التضجيع فيه ساعة واحة من الزمان، وقد أقبلنا بخيول المشرق إلى هذا المهم العظيم، ونريد من الأمير الجليل علم الدين إتمام السعي النجبج، الذي وفق له، أمير المؤمنين من أحد الوجهين إما أن يقبل به إلى ذكر عزة، ومثوى إمامته، وموقف خلافته من مدنية السلام، وينتدب بين يديه مولياً أمره ومنفذاً حكمه، وشاهراً سيفه وقلمه، وذلك المراد، وهو خليفتنا في تلك الخدمة المفروضة، وتوليه العراق بأسرها، وتصفى له مشارع برها لا يطأ حافر خيل من خيول العجم شبراً من أراضي تلك المملك إلا بالتماسه لمعاونته ومظاهرته، واما أن يحافظ على شخصه الكريم العالي بتحويله من القلعة إلى حلته، أو في القلعة إلى حين لحاقنا بخدمته، فنتكفل بإعادته، وليكون الأمير الجليل مخيراً بين أن يلتقي بنا أو يقيم حيث شاء، فنوليه العراق ونستخلفه في الخدمة الإمامية، ونصرف أعنتنا إلى المملك الشرقية، فهممنا لا تقتضي إلا هذا الغرض من العرض، ولانسف إلى مملكة من تلك الممالك بل لهمة دينية، وهو أدام الله تمكينه يتقن ما ذكرنا، ويعلم أن توجهنا أثر هذا الكتاب لهذا الغرض المعلوم ولا غرض سواه، فلا يشعرون قلوب عشائره رهبة، فانهم كلهم إخواننا، وفي ذمتنا وعهدنا، وعلنيا به عهد الله وميثاقه ما داموا موافقين للأمير الجليل في موالينا، ومن اتصل به من سائر العرب والعجم والأكراد، فإنهم مقرون في جملته، وداخلون في عهدنا وذمتنا، ولكل مخترم في العراق عفونا وأماننا مما بدر منه، إلا البساسيري، فأنه لا عهد له ولا أمان، وهو موكول إلى الشيطان وتساويله، وقد ارتكب في دين الله عظيماً، وهو إن شاء الله مأخوذ حيث وجد، معذّب على ما عمل، فقد سعى في دماء خلق كثير بسوء دخيلته، ودلّت أفعاله على فساد عقيدته، فإن سرب في الأرض فإلى أن يلحقه المكتوب على جبهته، وإن وقف فالقضاء سابق إلى مهجته، والله تعالى يجازي الأمير الجليل على كل سعي تجشم في مصالح الدين، وفي خدمة إمام المسلمين. وقد حملنا الأستاذ العالم أبا بكر أحمد بن محمد بن أيوب بن فورك، ومعتمد الدولة أبا الوفاء زيرك ما يؤديانه من الرسائل وهو يصغي إليهما، ويعتمد عليهما ويسرحهما إلى القلعة ليخدما مجلس سيدنا ومولانا أمير المؤمنين عنا، وكتب في رمضان سنة إحدى وخمسين.
وحمل مع هذين الرسولين خدمة إلى الخليفة أربعون ثوباً أنواعاً، وعشرة دسوت ثياب مخيطة، وخمسة آلاف دينار، وخمسة دسوت مخيطة من جهة خاتون زوجة القائم.


فحكى نجدة لقريش أن السلطان طغرلبك بهمذان في عساكر كثيرة، وهو بنية المسير إلى العراق متى لم يرد الخليفة إلى بغداد، فخاف قريش وارتاع، فاتباع جمالاً عدة، وأصلح بيوتاً كثيرة، وأنفذ إلى البرية من يحفر فيها ويعمرها ليدخلها، ثم أنفذ الكتاب الوارد إليه مع نجدة إلى البساسيري ليدبر الأمر على مقتضاه، فأنفذ البساسيري إلى بغداد، فأخذ دوابه وجماله ورحله إلى مقره بواسط، وكاتب أهله يطيب نفوسهم ويقول: متى صح عزم هذا الرجل على قصد العراق سرت إليكم وأخذتكم، فلا تشغلوا قلوبكم.
وتقدم بأن يسلخ ثور أسود ويؤخذ جلده فيكسى به رمة أبي القاسم ابن المسلمة، ويجعل قرناه على رأسه وفوقهما طرطور أحمر، ففعل ذلك.
ثم أجاب البساسيري إلى عود الخليفة، والخادم دون غيره، وردّ خوزستان، والبصرة إليه على قديم عادته، وأن يخطب للخليفة فقط دون أن يشاركه في الخطبة ركن الدين، وبعث مع رسل السلطان طغرلبك إلى الخليفة من يتولى إحلاف الخليفة له على ما اشترط، وعرف البساسيري قرب السلطان، فكاتب أصحابه بالبصرة ليصعدوا إليه ليقصد بغداد، فأعجل الأمر عن ذلك وانحدر حرم البساسيري وأولاده وأصحابهم وأهل الكرخ والمتشبهون في دجلة، وعلى الظهر وبلغت أجرة السمارية إلى النعمانية عشرة دنانير، ونهب الأعراب والأكراد أكثر المشاة، ولما وصل السائرون على الظهر إلى صرصر غرق في عبورهم قوم منهم، وعروا نساءهم، وتقطعت قطعة منهم في السواد، وكان خروج أصحاب البساسيري في اليوم السادس من ذي القعدة، وكذلك كان دخولهم إلى بغداد في سادس ذي القعدة، وكان تملكهم سنة كاملة، وثار الهاشميون وأهل باب البصرة إلى الكرخ فنهبوها وطرحوا النار في أسواقها ودروبها، واحترقت دار الكتب التي وقفها سابور بن أردشير الوزير في سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة، وكان فيها كتب كثيرة، واحترق درب الزعفراني وكان فيه ألف ومائتا دينار لكل دار منها قيمة، ونهبت الكوفة نيفاً وثلاثين يوماً.
وأما الخليفة فإن مهارشاً العقيلي صاحب الحديثة الذي كان مودعاً عنده حلف له ووثق من نفسه في حراسة مهجته، وأن لا يسلمه إلى عدو، وكان قد تغير على السباسيري لوعود وعده بها ولم يف له، وأجفل قريش في البرية مصعداً إلى الموصل بعد أن بعث إلى مهارش يقول له: قد علمت أننا أودعنا الخليفة عندك ثقة بأمانتك، وقد طلبوه الآن، وربما قصدوك وحاصروك وأخذوه منك، فخذه منك، فخذه وارحل به وأهلك وولدك إليّ فإنهم إذا علموا حصوله بأيدينا لم يقدموا على طرق العراق، ثم نقرر الأمر في عوده على قاعدة نكون معها سالمين، ونقترح ما نريد من البلاء عوضاً عن رده، وما أروم تسليمه منك، بل يكون في يدك على حملته بحيث لا يمكن أن يؤخذ قهراً من أيدينا.
فقال مهارش للرسول: قل له ان البساسيري غدرني، ولم يف بما ضمنه لي، وبعثت بصاحبي إلى بغداد، وقلت له قد برئت من اليمين التي لكم في عنقي، فأنفذوا وتسلموا صاحبي إلى بغداد، وقلت له قد برئت من اليمين التي لكم في عنقي، فأنفذوا وتسلموا صاحبكم الذي عندي فلم يفعل، وعرف الخليفة خلاص رقبتي من اليمين التي كانت عليّ فاستحلفني لنفسه، وتوثق مني بما لا يمكن فسخه.
وقال مهارش للخليفة: الرأي الخروج والمضي إلى بلد بدران بن مهلهل لننظر ما قد يجد من أمر هذا السلطان الوارد، ونكون في موضع نأمن به وندبر أمورنا بمقتضى الأمر، فما آمن أن يجيئنا البساسيري فيحضرنا فلا نملك اختيارنا. فقال له: افعل ما ترى.


فسارا من الحديثة في يوم الاثنين الحادي عشر من ذي القعدة إلى أن حصلا بقلعة تل عكبروا، فلقيه ابن فورك هناك وسلم إليه ما أنفذه السلطان يخبره الحال ويسأله إنفاذ سرادق كبير، وخيم، وفروش، وكان السلطان حينئذ قد وصل إلى بغداد ففرج السلطان بذلك ونهب عسكر السلطان ما بقي من نهر طابق، وباب البصرة، وجميع البلد، ولم يسلم من ذلك إلا حريم الخليفة، وكان أكثره خالياً وأخذ الناس فعوقبوا، واستخرجت منهم الأموال بأنواع العذاب، وتشاغل بعمارة دار المملكة، فوقع النقض في أكثر ما سلم، وبعث السلطان عميد الملك ومن استعقلة من الأمراء والحجّاب في نحو ثلثمائة غلام، وأصحبهم أربع عشرة بختية عليها السرادق الكبير، والعدد من الخيم، والخركاهات، والآلات، والفروش، ستة أبغل عليها الثياب والأواني، وبغلاً عليه مهد مسجف، وثلاثة أفراس بالمراكب الذب.
قال ابن فورك: فاستقبلتهم، فاستشرحني عميد الملك ما جرى فشرحته. فقال: تقدم واضرب السرادق والخيام وانقل أمير المؤمنين من حيث هو إليها ليلقاه فيها، وإذا حضرنا فليؤخرالإذن لنا ساعة كبيرة، فسبقت وفعلت ذلك، ودخل عميد الملك فأورد ما أوجب إيراده من سرور السلطان وابتهاجه بما يسره الله تعالى له من خلاصه، وشكر مهارشاً على جميل فعله، وسأل الخليفة السير فقال: بل نستريح يومين ونرحل، فقد لحقنا من النصب ما يجب أن يحلل بالراحة قال: كما ترى.
وكتب عميد الملك إلى السلطان كتاباً فشرح له ما جرى فيه وأجب أخذ خط الخليفة على رأسه تصديقاً لما يتضمنه فلم يكن عنده دواة حاضر عميد الملك من خيمته دواة فتركها بين يديه، وأضاف إليها سيفاً منتخباً وقال: هذه خدمة محمد بن منصور - جمع في هذه الدولة بين خدمة السيف والقلم فشكره الخليفة وأقاموا يومين، ثم وقع الرحيل فوصلوا إلى النهروان يوم الأحد الرابع والعشرين من ذي القعدة. فأشعر السلطان بذلك فقال: قولوا لأبي نصر - يعني عميد الملك - يقيم إلى أن ينزل الخليفة ويستريح، ويصلي ويتناول الطعام، ثم يعرفني حتى أجيء وأخدمه.
فلما جاء وقت العصر جاء عميد الملك فأخبرها السلطان بعد أن أستأذن له الخليفة، فركب فلما وقعت عينه على السرادق نزل عن فرسه ومشى إلى أن وصله، فدخل فقبّل الأرض سبع مرات، فأخذ الخليفة مخدة من دسته فطرحها له بين يديه، وقال: اجلس فأخذ المخدة فقبّلها، ثم تركها وجلس عليها، وأخرج من قبائه الجبل الياقوت الأحمر الذي كان لبني بويه، فطرح بين يديه، وأخرج اثنتي عشرة حبة لؤلؤاً كباراً مثمنة، فقال: أرسلان خاتون - يعني زوجة - الخليفة تخدم وتسأل أن تسبح بهذه السبحة، فقد أنفذتها معي، وكان يكلم عميد الملك وهو يفسره، واعتذر عن تأخره عن الورود إلى الحضرة الشريفة واستخلاص المهجة الكريمة بما كان من عصيان أخيه إبراهيم، وقال: كان من الأخوة الحسدة، وقد جرت له بالعصيان عوائد عفوت عنه فيها، فأطمعه ذلك، فلما عاد فعله بالضرر على أمير المؤمنين والدين والدولة العباسية خنقته بوتر قوسه، وشفع ذلك وفاة الأخ الأكبر داود، فأحوجني الأمر إلى ترتيب حتى رتبت أولاده مكانه، فلم يمكن أن أصمد لهذه الخدمة، ثم أعدت لأصل إلى الحديثة، وأخدم المهجة الشريفة، فوصل إليّ الخبر بما كان من تفضل الله تعالى في خلاصها وخدمة هذا الرجل - يعني مهارشاً - بما أبان عن صحيح ديانته، وصادق عقيدته، وأنا إن شاء الله أمضي وراء هذا الكلب - يعني البساسيري - وأقتنصه وأيمم إلى الشام، وأفعل بصاحب مصر فيها ما يكون جزاء لفعل البساسيري ها هنا.
فدعا له الخليفة وشكره وقلّده بيده سيفاً كان إلى جنبه، وقال: إنه لم يسلم مع أمير المؤمنين وقت خروجه غير هذا السيف، وقد تبرك به، وشرّفك بتقليده. قبّل الأرض، ونهض واستأذن للعسكر فأذن، فدخل الأتراك من جوانب السرادق، وكشفت أغطية الخركاه المضروبة على الخليفة حتى شاهدوه وخدموه وانصرفوا، ووقع المسير من غد والدخول إلى بغداد.
وتقدم الخليفة بضرب خيمة في معسكر السلطان وقال: أريد أن أكون معه إلى أن يكفي الله من أمر هذا اللعين، فما تأمن الخدمة الشريفة المقام في مكان لا يكون فيه.


فقال السلطان: الله الله، ما هذا مما يجوز أن يكون مثله ونحن الذي يصلح للحرب والسفر والتهجم والخطر دون أمير المؤمنين، وإذا خرج بنفسه فأي حكم لنا وأي خدمة تقع منا. وامتنع أن يجيبه إلى ذلك، فدخل الخليفة البلد، وتقدم السلطان إلى باب النوبي، وقعد مكان الحاجب على دكته إلى أن ورد الخليفة والعسكر محتفون به، ولم يكن في بغداد من يستقبله سوى قاضي القضاة وثلاثة أنفس من الشهود، وذلك لهرب الناس عن البلد ومن بقي منهم، فهو في العقوبات وآثار النهب، فلما وصل إلى الدار أخذ بلجام بغلته حتى وصل إلى باب الحجرة، وذلك في يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة، فانصرف وعبر إلى معسكره، فجاءه سرايا ابن منيع متقدم بني خفاجة، فقال له: الرأي أيها السلطان أن تنفذ معي ألفي غلام من العسكر حتى أمضي إلى طريق الكوفة، فاشغل السباسيري عن الإصعاد إلى الشام، ويأخذه من عرقوبه لما تنحدر أنت وراءه، فلم يعجب السلطان ذلك، إلا أنه خلع عليه وأعطاه سبعمائة دينار وأنزل في العسكر.
فلما انتصف الليل انتبه السلطان، فاستدعى خمارتكين فقال له: اعلم أني قد رأيت الساعة في منامي كأني قد ظفرت بالبساسيري وقتلته، وينبغي أن يسير عسكر إليه من طريق الكوفة كما قال سرايا، فإن نشطت أنت فكن مع القوم. فقال: السمع والطاعة.
فسار وسار معه أنوشروان وجماعة من الأمراء، وتبعهم السلطان في يوم الجمعة تاسع وعشرين من الشهر فأما مهارش فإنه اقترح اقترحات كثيرة، فأطلق له السلطان طغرلبك عشرة آلاف دينار ولم يرض، وأما البساسيري فإنه أقام بواسط متشاغلاً بجمع الغلات والتمور وحطها في السفن ليصعد بها إلى بغداد، مستهيناً بالأمور إلى أن ورد عليه الخبر بانحدار أهله وولده، ودخول الغز، فأصعد إلى النعمانية بالسفن التي جمع فيها الغلات، فورد عليه الخبر بدخول السلطان بغداد، فكاتب ابن مزيد ليجمع العرب، ولم يتصور أن السلطان نيته الانحدار، فجاء ابن مزيد إلى نصف الطريق ثم عاد ثم جاء ثم عاد خوفاً وخوراً، فانحدر البساسيري إليه وكان قد وكل بأبي منصور بن يوسف، فأزال ابن مزيد التوكيل عنه وقال له: هذا وقت التقبيح. وكان البساسيري شاكاً في مزيد مستشعراً منه، إلا أن الضرورة قادته إليه.
وعلمت العرب أن السلطان نيته قصدهم وبوادي الشام، فتقرقوا ولم يشعروا إلا بورود السرية إليهم، وذلك في يوم السبت ثامن ذي الحجة من طريق الكوفة، فقال البساسيري لابن مزيد: الرأي كبسهم الليلة، فإنهم قد قدموا على كلال وتعب. فامنتع وقال: نباكرهم غداً.
فراسل أنو شروان ابن مزيد والتمس الاجتماع معه، فالتقى به فقال له أنوشروان: إن عميد الملك يقرئك السلام ويقول لك: قد مكنت في نفس السلطان من أمرك ما جعلت لك فيه المحل اللطيف، والموقع المنيف، وشرحت له ما أنت عليه من الطاعة والولاء، ولا القصد يتعداه، لما اقترف من عظيم الجرم، وإن امتنعت واحتججت بالعربية وذمامها وحزمة نزوله عليك فانصرف عنه ودعنا وإياه.
فقال: ما أنا إلا خادم للسلطان مطيع، إلا أن للبدوية حكمها، وقد نزل هذا الرجل عليّنزولاً، وما آثرته ولا اخترته، بل كرهته، وقد طال أمر هذا الرجل، والصواب أن نشرع في صلاح حاله واستخدامه.
فقال أنوشروان: هذا هو الصواب، ونحن نبعد عنكم مرحلة وتبعدون عنا مثلها حتى لا يتطرق بعضنا إلى بعض، وأراسل السلطان بما رأيته، فأنه على نية اللحاق بنا، ولا شك في وصوله إلى النعمانية، وما نخالفك على شي تراه.
وما في الرجلين إلا من قصد خديعة صاحبه، فأما ابن مزيد: فأنه أراد المدافعة بالحال لتحققه بانحدار السلطان حتى يبعد عنه السرية فيصعد إلى البرية إلى حيث يأمن إلى حلته وعشيرته، ويدبر أمر انفصاله عن البساسيري. وأما أنوشروان: فأراد أن يبعد عن القوم ليفسح لهم طريق الانصراف فإذا رحلوا تبعهم وأكب عليهم وهم مشتغلون بالرحلة عن الحرب.
وعاد ابن مزيد فأخبر البساسيري بما جرى، فرد التدبير إليه وقال: الأمر أمرك، وتأهبت السرية واستظهرت بأخذ العلوفة، ورحل البساسيري وابن مزيد يوم الثلاثاء حادي عشر ذي الحجة والأتراك يراصدونهم، فلما أبعدوا عن أعينهم تبعوهم فحاربوهم، فثبت البساسيري وجماعته، وأسرع ابن مزيد إلى أوائل الظعن ليحطه ويرد


العرب إلى القتال، فلم يقبلوا منه، وأسر منصور، وجماعة أولاد ابن مزيد، وانهزم البساسيري على فرسه فلم ينجه، وضرب فرسه بنشابة فرمته إلى الأرض، وأدركه بعض الغلمان فضربه ضربة على وجهه ولم يعرفه، وأسره كمشتكين دواتي عميد الملك، وحز رأسه وحمله إلى السلطان، وساق الترك الظعن، وأخذت أموال عظمية عجزوا عن حملها، وهلك من البغداديين الذين كانوا معهم خلق كثير، وأخذت أموالهم، وتبدوا في البراري والآجام، وأخذت العرب من سلم.
وقد ذكرنا أن أصحاب البساسيري دخلوا إلى بغداد في اليوم السادس من ذي القعدة وخرجوا منها في سادس ذي القعدة، وكان ملكهم سنة كاملة، واتفق إخراج الخليفة من داره يوم الثلاثاء ثامن عشر كانون الثاني، ومقتل البساسيري يوم الثلاثاء ثامن عشر كانون الثاني من السنة الآتية، وهذا من الاتفاقات الظريفة.
ولما حمل الرأس إلى السلطان حكى له الذي أسره أنه وجد في جيبه خمسة دنانير، وأحضرها، فتقدم السلطان إلى أن يفرغ المخ من رأسه ويأخذ الخمسة دنانير، ثم أنفذه حينئذ إلى دار الخلافة، فوصل في يوم السبت النصف من ذي الحجة، فغسل ونظف، ثم ترك على قناة، وطيف به من غد، وضربت البوقات والدبادت بين يديه، واجتمع من النساء والنفاطين وغيرهم بالدفوف ومن يغني بين يديه، ونصب من بعد ذلك على رأس الطيار مدة بإزاء دار الخلافة، ثم أخذ إلى الدار.
وعرض في يوم السبت المذكور من الجو انقضاض كواكب كثيرة، ورعد شديد قبل طلوع الشمس بساعة، وكان ذلك مفرطاً.
وهرب ابن مزيد إلى البطيحة ونجامعه ابن البساسيري وبنته وأخواه الصغيران ووالدتهما، وكانت العرب سلبتهم فاستهجن ابن مزيد ذلك وارتجع ما أخذ، ثم هرب ابن البساسيري إلى حلب، ثم توسط أمر ابن مزيد مع السلطان، فأطلق أولاده وأخوته، وحضر فداس البساط، وأصعد معه إلى بغداد، ونهب العسكر مابين واسط والبصرة والأهواز.
وفي هذا الشهر: أنفذ السلطان من واسط والدة الخليفة، ووالدة الأمير أبي القاسم عدة الدين بن ذخيرة الدين، ووصال القهرمانة، وكنّ في أسير البساسيري، فتبعهم جمع كثير من الرجال والنساء المأخوذين في الوقعة.
وفي هذا الشهر: عول من الديوان علي بن أبي علي الحسن بن عبد الودود بن المهتدي في الخطابة بجامع المنصور بدلاً من أبي الحسن بن أحمد بن المهتدي، وعزلا له لأجل ماأقدما عليه في أيام البساسيري من تولي الخطبة في هذا الجامع لصاحب مصر.
قال محمد بن عبد الملك الهمذاني: ولما علد القائم من الحديثة لم ينم علىوطاء، ولم يمكن أحداً أن يقرب إليه فطوره ولا طهوره، ولأنه نذر أن يتولى ذلك بنفسه، وعقد مع الله سبحانه العفو عمن أساء إليه والصفح، وجميع من تعدى عليه، فوفى بذلك، وأشرف في بعض الأيام على البنائين والنجارين في الدار، فرأى فيهم روزجارياً فأمر الخادمن بإخراجه من بينهم، فلما كان في بعض الأيام عاد فرآه معهم، فتقدم إلى الخادم أن يبره بدينار، وأن يخرجه ويتهدده إن عاد، فأتاه الخادم ففعل ما رسم له وقال: إن رأيناك ها هنا قتلناك فسئل الخليفة عن السبب فقال: إن هذا الروزجاري بعينه أسمعنا عند خروجنا من الدار الكلام الشنيع وتبعنا بذلك إلى المكان الذي نزلناه من مشهد باب التبن، ولم يكفه ذلك حتى نقب السقف، فإذا أنا بغبارة، وتبعنا إلى عقرقوف فبدر من جهله ما أمسكنا عن معاقبته رجاء ثواب الله تعالى، وما عاقبت من عصى الله فيك بأكثر من أن تطيع الله فيه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أرسلان أبو الحارث، المظفر، وهو البساسيري التركي كان مقدماً على الأتراك، وكان القائم بأمر الله لا يقطع أمراً دونه، فتجبر وذكر عنه أنه أراد تغيير الدولة، ثم أظهر ذلك وخطب للمصري، فجلاى له ما ذكرنا في الحوادث إلى أن قتل.
الحسن بن علي بن محمد بن خلف بن سليمان، أبو سعيد الكتبي ولد سنة خمس وسبعين وثلثمائة سمع من ابن شاهين وغيره، وكان صدوقاً.
وتوفي في ذي الحجة من هذه السنة.
الحسن بن أبي الفضل، أبو علي الشرمقاني المؤدب وشرمقان قرية من قرى نسا. نزل بغداد، وكان أحد حفّاظ القرآن العالمين باختلاف القراء ووجوه القراآت، وحدّث عن جماعة، وكان صدوقاً.


وجرت له قصة ظريفة رواها محمد بن أبي الفضل الهمذاني، عن أبيه قال: كان الشرمقاني المقرىء يقرأ على ابن العلاف، وكان يأوي إلى مسجد بدرب الزعفراني، فاتفق أن ابن العلاف رآه ذات يوم في وقت مجاعة، وقد نزل إلى دجلة، وأخذ من أوراق الخس ما يرمي به أصحابه، وجعل يأكله، فشق ذلك عليه، وأتى إلى رئيس الرؤساء فأخبره بحاله، فتقدم إلى غلام له غلام له بالمضي إلى المسجد الذي يأوي إليه الشرمقاني، وأن يعمل لبابه مفتاحاً من غير أن يعلمه، ففعل وتقدم أن يحمل في كل يوم ثلاثة أرطال خبزاً سميذاً ومعها دجاجة وحلوى وسكر، ففعل الغلام ذلك، وكان يحمله على الدوام، فأتى الشرمقاني في أول يوم فرأى ذلك في القبلة مطروحاً، ورأى الباب مغلقاً فتعجب، وقال في نفسه: هذا من الجنة ويجب كتمانه، وأن لا أتحدث به، فإن من شرط الكرامة كتمانه، وأنشد:
من أطلعوه على سر فباح به ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
فلما استوت حاله،وأخصب جسمه سأله ابن العلاف عن سبب ذلك وهو عارف به، وقصده المزاح معه، فأخذ يورى ولا يصرّح، ويكني ولا يفصح، ولم يزل ابن العلاف يستخبره حتى أخبره أن الذي يجد في المسجد كرامة نزلت من الجنة، إذ لا طريق لمخلوق عليه. فقال ابن العلاف: يجب أن تدعو لابن المسلمة، فإنه هو الذي فعل ذلك، فنغص عليه عشيه، وبانت عليه شواهد الانكسار.
وتوفي الشرمقاني في صفر هذه السنة.
الحسين بن أبي عامر، علي بن أبي محمد بن أبي سليمان، أبو يعلى الغزال حدّث عن ابن شاهين، وكان سماعه صحيحاً، وكان يسكن باب الشام .
وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
حمدان بن سليمان بن حمدان، هو:، أبو القاسم الطحان حدّث عن المخلص، والكتاني.
قال الخطيب: كتبت عنه وكان صدوقاً. توفي في ذي الحجة من هذه السنة.
عبيد الله بن أحمد بن علي، أبو الفضل الصيرفي، ابن الكوفي سمع الكتاني والمخلص.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب قال: كتبت عنه وكان سماعه صحيحاً، وكان من حفاظ القرآن،والعارفين باختلاف القراآت، ومنزله بدرب الدنانير من نواحي نهر طابق، وسمعته يذكر أنه في ولد في سنة سبعين وثلثمائة. وتوفي في هذه السنة.
علي بن محمود بن إبراهيم بن ماخرة، أبو الحسن الزوزني وكان ماخرة مجوسياً، ولد أبو الحسن الحصري، وروى عن أبي عبد الرحمن السلمي، وصار شيخ الصوفية، والرباط المقابل لجامع المنصور ينتسب إلى الزوزني هذا، وإنما بني للحصري، والزوزني صاحب الحصري فنسب إليه، وكان يقول: صحبت ألف شيخ أحدهم الحصري، أحفظ عن كل شيخ حكاية.
توفي الزوزني في رمضان هذه السنة ودفن بالرباط.
محمد بن علي بن الفتح بن محمد بن علي، أبو طالب الحربي العشاري ولد في محرم سنة ست وستين وثلثمائة، وكان جسده طويلاً فقيل له: العشاري لذلك. وسمع من ابن شاهين، والدارقطني، وابن حبابة، وخلقاً كثيراً، وكان ثقة ديّناً صالحاً.
توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، وقد أناف عن الثمانين، ودفن بباب حرب.
ثم دخلت
سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أن السلطان أصعد من واسط، فدخل بغداد في يوم الخميس السابع عشر من صفر وجلس له الخليفة فوصل إليه يوم الإثنين الحادي والعشرين من الشهر، فخلع عليه وحمل إلى دار الخليفة على رواق الروشن المشرف على دجلة بعد أن أعيدت شرافاته التي قلعها البساسيري، ورم شعثة في يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من هذا الشهر سماطاً حضر السلطان طغرلبك والأمراء أصحاب الاطراف ووجوه الأتراك والحواشي، وتبع ذلك سماط عمله السلطان في داره، وأحضر الجماعة في يوم الخميس ثاني ربيع الأول، وتأخر بعده عميد الملك لتدبير الأمور، ودخل إلى الخليفة فودّعه فشكره واعتد بخدمته، ولقّبه سيد الوزراء مضافاً إلى عميد الملك.
وفي سادس عشرين هذا الشهر: قبل قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني شهادة أبي بكر محمد بن المظفر الشامي.
وفي يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة: انقض كوكب عظيم القدر عند طلوع، الشمس من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق فطال مكثه.


وفي يوم الثلاثاء تاسع جمادى الآخرة: ورد الأمير عدة الدين أبو القاسم عبد الله ابن ذخيرة الدين، وجدته، وعمته وسنة يومئذ أربع سنين، مع أبي الغنائم ابن المحلبان، واستقبله الناس وجلس في زبزب كبير، وعلى رأسه أبو الغنائم إلى باب الغربة، قدم له فرس فركبه فحمله أبو الغنائم على كتفه فأركبه الفرس، ودخل به إلى الخليفة فشكره على خدمته له ثم خرج، وكان أبو الغنائم ابن المحلبان قد دخل إلى دار بباب المراتب في أيام البساسيري. فوجد فيها زوجة أبي القاسم ابن المسلمة وأولاده، وكان البساسيري شديد الطلب لهم، فقالوا له: قد تحيرنا وما ندري ما نعمل، ولما استشرنا صاحبنا أين نأخذ - يعنون ابن المسلمة - قال مالكم غير ابن المحلبان فخلطهم بحرمه، ثم أخرجهم إلى ميا فارقين، وجاءه محمد الوكيل فقال له: قد علمت أن ابن الذخيرة وبنت الخليفة ووالدتها يبيتون في المساجد. وينتقلون من مسجد إلى مسجد مع المكدين، ولا يشبعون من الخبز، ولا يدفأون من البرد،وقد علموا ما قد فعلته مع بنت ابن المسلمة، فسألوني خطابك في مضائهم وقد ذكروا أنهم أطلعوا أبا منصور بن يوسف على حالهم، فأرشدهم إليك، وكان البساسيري قد أذكى العيون عليهم، وشدد في البحث عنهم، فلم يعرف لهم خبراً.
فقال ابن المحلبان لمحمد الوكيل: واعدهم المسجد الفلاني حتى أنفذ زوجتي إليهم تمشي بين أيديهم إلى أن يدخلوا دارها.
ففعل وحمل إليهم الكسوة الحسنة، وأقام بهم وخاطر بذلك، فلما علموا بمجيء السلطان انزعجوا وقالوا: إن خوفنا من هذا كخوفنا من البساسيري لأجل أن خاتون ضرة لجدة هذا الصبي، تكره سلامته، فأخرجهم إلى قريب من سنجار، ثم حملهم إلى حران، فلما سكنت الثائرة مضى وأقدمهم إلى بغداد.
وفي جمادى الآخرة: وقع في الخيل والبغال موتان، وكان مرضها نفخة العينين والرأس وضيق الحلق.
وفي رجب: وقف أبو الحسن محمد بن هلال الصابي دار كتب بشارع ابن أبي عوف من غربي مدنية السلام، ونقل إليها نحو ألف كتاب.
وكان السبب أن الدار التي وقفها سابور الوزير بين السورين احترقت، ونهب أكثر ما فيها، فبعثه الخوف على ذهاب العلم أن وقف هذه الكتب.
وفي شعبان: ملك محمود بن نصر حلب والقلعة، فمدحه ابن أبي حصينة فقال:
صبرت على الأهوال صبر ابن حرة ... فأعطاك حسن الصبر حسن العواقب
وأتعبت نفساً يا ابن نصر نفيسة ... إلى أن أتاك النصر من كل جانب
وأنت امرؤ تبني العلى غير عاجز ... وتسعى إلى طرق الردى غير هائب
تطول بمحمود بن نصر وفعله ... كلاب كما طالت تميم بحاجب
وعاد طغرلبك إلى الجبل في هذه السنة بعد ان عقد بغداد وأعمالها على أبي الفتح المظفر بن الحسين العميد في هذه السنة بمائة ألف دينار، ولسنتين بعدها بثلثمائة ألف دينار، فشرع العميد في عمارة سوق الكرخ، وتقدم إلى من بقى من أهلها بالرجوع إليها، ونهاهم عن العبور إلى الحريم والتعايش فيه، وابتدأت العمارة ثم تزايدت مع الأيام حتى عاد السوق كما كان دون الدروب والخانات. والمساكن.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أي بن جعفر بن باي، أبو منصور الجيلي الفقيه أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب قال: سكن باي بغداد، ودرس فقه الشافعي على أبي حامد الأسفرائيني، وسمع من أبي الحسن بن الجندي، وأبي القاسم الصيدلاني، وعبد الرحمن بن حمة الخلال، كتبنا عنه وكان ثقة، وولي القضاء بباب الطاق وبحريم دار الخلافة، ومات في المحرم سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة.
الحسن بن أبي الفضل، أبو محمد النسوي الوالي سمع الحديث من ابن حبابة، والمخلص.وحدّ بشيء يسير، وكانت له في شغله فطنة عظيمة.
وحدثني أبو محمد المقرىء قال: كان أصحابه أصحاب الحديث إذا جاءوا إلى ابن النسوي يقول: ويلكم، هذا سمعناه على أن يكون فنينا خير.
وسمع ليلة صوت برادة تحط، وكان ذلك في زمان الشتاء، فأمر بكبس الدار فوجدوا رجلاً مع امرأة، فسألوه من أين علمت؟ فقال: برادة لا تكون في الشتاء، وإنما هي علامة بين اثنين.


قال: وأتى بجماعة متهمين فأقامهم بين يديه، واستدعى بكوز ماء، فلما جيء به شرب ثم رمى باكوز من يده، فانزعجوا إلا واحداً منهم، فإنه لم يتغير، فقال:خذوه فأخذوه، فكانت العملة معه. فقيل له: من أين علمت؟ فقال: اللص يكون قوي القلب.
وشاع عنه أنه كان يقتل أقواماً ويأخذ أموالهم، وقد ذكرنا فيما تقدم أنه شهد قوم 34 أ عند أبي الطيب الطبري على ابن النسوي أنه قتل جماعة، وأن أبا الطيب حكم بقتله فصانع بمال فرق على الجند وسلم. وتوفي في رجب هذه السنة.
قطر الندى والدة الخليفة القائم بأمر الله، هكذا سماها أبو القاسم التنوخي. وقال أبو الحسن بن عبد السلام: أسمها بدر الدجى. وقال غيرهما: اسمها علم. وكانت جارية أرمينية توفيت ليلة السبت الحادي عشر من رجب، وقدم تابوتها وقت المغرب فصلى عليها بمن حضر في الرواق بصحن السلام بعد صلاة المغرب،وحملت إلى التراب بالراصفة، وجلس للعزاء بها في بيت النوبة.
محمد بن الحسين بن محمد بن الحسن بن علي بن بكران، أبو علي، الجازري النهرواني حدث عن المعافى بن زكرياء وغيره، وكان صدوقاً وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة.
محمد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن عمرو بن، أبو الفضل البزاز كان من القراء المجودين وسمع أبا القاسم بن حباحة، وابن شاهين، والمخلص، وغيرهم، وانتهت الفتوى في الفقه على مذهب مالك إليه، وكان ديّناً ثقة، وقبل قاضي أبو عبد الله الدامغاني شهادته.
وتوفي في محرم هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أن أرسلان خاتون زوجة الخليفة حملت إلى السلطان طغرلبك في يوم البساسيري على ما سبق ذكره، فأريد ردّها إلى دار الخليفة والسلطان يعد بذلك ولا ينجزه، ثم خطب طغرلبك بنت الخليفة والسلطان يعد بذلك ولا ينجزه، ثم خطب طغرلبك بنت الخليفة لنفسه بعد موت زوجته، وكانت زوجته سديدة عاقلة، وكان أمره إليها فأوصه قبل موتها بمثل هذا، واتفق أن يقهرمانة الخليفة لوّحت للسلطان بهذا، وقد نسب إلى عميد الدولة أيضاً فبعث أبا سعد بن صاعد يطلب هذا، فثقل الأمر على الخليفة وانزعج منه، فأخذ ابن صاعد يتكلم في بيت النوبة بكلام يشبه التهدد إن لم تقع الإجابة. فقال الخليفة؛ هذا ما لم تجر العادة به، ولم يسم أحد من الخلفاء مثله، ولكن ركن الدين أمتع الله به عضد الدولة والمحامي عنها وما يجوز أن يسومنا ثم أجاب إجابة خلطها بالاقتراحات التي ظن أنها تبطلها، فمنها: تسليم واسط وجميع ما كان لخاتون من الأملاك والأقطاع والرسوم في سائر الأصقاع وثلثمائة ألف دينار عيناً منسوبة إلى المهر، وأن يرد السلطان إلى بغداد ويكون مقامه فيها، ولا يحدّث نفسه بالرحيل عنها.
فقال العميد أبو الفتح: أما الملتمس وغيره فمجاب إليه من جهتي عن السلطان، ولو أنه اضعافه، فإن أمضيتم الأمر، وعقدتم العهد، وعقدتم العهد سلم جميعه وأما مجيء السلطان إلى بغداد ومقامه فيها فهذا أمر لابد من عرضه عليه، وأخذ رأيه فيه. ، وندب للخروج إلى الري في ذلك أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب، وأصحب تذكرة بذلك، ورسم له الخطاب على الاستقصاء في الاستعفاء، فإن تم فهو المراد، وإلا عرضت التذكرة. وأنفذ طراد بن محمد الزينبي نقيب الهاشميين في ذلك أيضاً، وأنفذ أبو نصر غانم صاحب قريش بن بدران برسالة من الخليفة إلى السلطان في معنى قريش، وإظهار الرضا عنه، والتقدم برد أعماله المأخوذه منه، وكان قد بذل للخليفة عند تمام ذلك عشرة آلاف دينار، وحلف له الخليفة على صفاء النية، وخلوص السيرة، والتجاوز عما مضى.


فلما وصل القوم وقد حملوا الخلع للسلطان، فقام حين وضعت بين يديه وخدم، ثم استحضروا في غد، وطيف بهم في مجالس الدار حتى شاهدوا المفارش والآلات، وقيل لهم: هذا كله للجهة الملتمسة، وكان من جملة ذلك بيت في صدره دست مؤزر، ومفروش بالنسيج، ووسطه سماط من ذهب فيه تماثيل المحكم والبلور والكافور والمسك والعنبر، يوفي وزن ما في المساط على أربعمائة ألف دينار وبيت مثله يوفي ما فيه على مائة ألف دينار في أشياء يطول شرحها فاجتمع أبو محمد التميمي بعميد الملك وفاوضه في ذلك الأمر وعرض عليه التذكرة لا يحسن عرضها، فإن الامتناع لا يحسن في جواب الضراعة، ولا المطالبة بالاموال في مقالبة الرغبة في التجمل، ومتى طرق هذا سمع السلطان، حتى يعلم أن الرغبة في الشيء لا فيه، والإيثار للمال لا له تغيرت نيته، وهو يفعل في جواب الإجابة أكثر مما يطلب منه. فقال له أبو محمد الأمر إليك، ومهما رأيت فافعل.
فطالع السلطان بذلك، فسر وأعلم الأكابر به ثم تقدم إلى عميد الملك بأن 35 ب يأخذ خط التميمي بذلك، فراسله بأن السلطان قد شكر ما أعلمته من خدمتك في هذا الأمر، وتقدم بالمسير فيه، وأريد أن تكتب خطك بذاك لأطلعه عليك، فكتب خطه بمقتض الرسالة والتذكرة، فشق ذلك على عميد الملك.
وفي يوم الثلاثاء ثاني ربيع الأول: قبل قاضي أبو عبد الله الدامغاني شهادة الشريف أبي جعفر بن أبي جعفر بن أبي موسى الهاشمي، وابي علي يعقوب بن إبراهيم الحنبلي.
وفي يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الأولى: وردت أرسلان خاتون إلى دار الخلافة ومعها عميد الملك أبو نصر وقاضي الري، وفي الصحبة المهر والجهاز الجديد، وأمر الوصلة بابنة الخليفة، وبعث مائة ألف دينار منسوبة إلى المهر، وأشياء كثيرة من آلات الذهب، والفضة، والحلي، والنثار، والجواري، والكراع، وألفان ومائتان وخمسون قطعة من الجوهر من جملتها سبعمائة وعشرون قطعة وزن الواحدة ما بين ثلاثة مثاقيل إلى مثقال، فبان للخليفة أن الشروط التي شرطها مع أبي محمد التميمي والاقتراحات لم يكن عنها جواب محرر، والمهر إنما حمل منه مائة ألف مثقال، وقبح للخليفة الأمر من كل جهة، وقيل: أنه تشنع فيه ما لا خفاء به، إذ كان ما لم تجر به عادة أحد من الملك بأحد من الخلفاء مثله، فامتنع من العقد وقال: إن أعفيت، وإلاخرجت من البلد.
وأطلق عميد الملك لسانه بالقبيح وقال: قد كان يجب أن يقع الامتناع في أول الأمر، ولا يكون اقتراح وتذكره. ثم غضب وأخرج نوبه فضربها بالنهروان، وسأله قاضي القضاة أبو منصور بن يوسف التوقف، وكاتبا الخليفة وأرهباه وساقا الأمر إلى العقد على أن يشهد عميد الملك وقاضي الري بحكم وكالتها في هذا الأمر على نفوسها أنهما لا يطالبان بالجهة المطلوبة مدة أربع سنين، ثم استفتى الفقهاء في ذلك، فقال الحنفيون: العقد يصح والشرط يلغو. وقال الشافعيون: العقد يبطل إذا دخله شرط.
ووصل عميد الملك إلى الخليفة في ليلة الجمعة ثامن جمادى الآخرة فوعظه ونهاه عما قد لج فيه، فقال: نحن نحضر جماعة من الواردين صحبتك، ونرد هذا الأمر إلى رأيك وتدبيرك، فيظهر جلوسنا وإجابتنا للخاص والعام، وتكفينا أنت بحسن نياتك في هذا الأمر في هذا الأمر في الباطن، ففيه الغضاضة والوهن، ولم تجر لبني العباس بمثله عادة من قبل.
وجاء كتاب من السلطان إلى عميد الملك يأمره بالرفق، وأن لا يخاطب في هذا الأمر إلا بالجميل، وذلك في جواب كتاب من الديوان إلى خمارتكين يشكو فيه مما يجري من عميد الملك، ويؤمر بإطلاع السلطان عليه، فعاد جواب خمارتكين أن السلطان غير مؤثر لشيء مما يجري، ولا يكرهه على هذه الحال، فبقيت الحال على ما هي عليه، وعميد الملك يقول ويكثر، والخليفة يحتمل يصبر، وجاء يوماً إلى الديوان بثياب بيض، وتوسط الأمر على أن كتب الخليفة لعميد الملك: إننا قد استخلفناك على هذا الأمر ورضينا بك فيما تفعله، مما يعود بمرضاتنا ومرضاة ركن الدين، فاعمل في ذلك برأيك الصائب الموفق، تزجية للحال، ودفعاً بالأيام، وترقباً لأحد أمرين: إما قناعة السلطان بهذا الأمر، أو طلب الإتمام ، فلا يمكن المخالفة.


ثم دخل عميد الملك يوماً إلى الخليفة ومعه قاضي القضاة وجماعة من الشهود، وقال: أسال مولانا أمير المؤمنين التطول بذكر ما شرف به ركن الدين الخادم الناصح فيما رغب فيه، وسمت نفسه إليه ليعرفه الجماعة من رأيه الكريم، وأراد أن يقول الخليفة ما يلزمه به الحجة بالإجابة. ففطن لذلك فقال: قد شرط في المعنى ما فيه كفاية، والحال عليه جارية. فانصرف مغتاظاً، ورحل في عشية يوم الثلاثاء السادس والعشرون من جمادى الآخرة، ورد المال والجواهر والآلات إلى همذان، وبقي الناس وجلين من هذه المنازعة.
وفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى على ساعتين منه: انكسفت الشمس جميعها، وأظلمت الدنيا وشوهدت الكواكب كلها، وسقطت الطيور في طيرانها، وكان المنجمون قد زعموا أنه يبقى سدسها فلم منها شيء، وكان انجلاؤها على أربع ساعات وكسر ، ولم يكن الكسوف في غير بغداد وأقطارها عامّاً في جميع الشمس.
وفي رجب: ورد رسول من عميد الملك يذكر أن كتاب السلطان ورد عليه بأن الخليفة إن لم يجب إلى الوصلة التي سألناها فطالبه بتسليم أرسلان خاتون إليك وأعدها معك، لأسير بنفسي وأتولى الخطاب على هذا، وإنه أراد العود من الطريق لفعل ما رسم له من هذا، فخاف أن لا ينضبط له العسكر إذا عادوا إلى بغداد ويقول: إني قد أعدت هذا الرسول لحمل أرسلان خاتون إلى دار المملكة الى حين اجتماعي بالسلطان وإصلاح هذه القصة، وكاتب أرسلان بمثل ذلك وبانتقالها عن الدار، فتجدد الإنزاع والخوف، ودافع الخليفة عن الجواب، وتبسط أصحاب في أشياء توجب خرق الحرمة فأظهر الخليفة الخروج من بغداد، وتقدم بإصلاح الطيار فحل صفره، ورم شعثه، وانزعج الناس من ذلك وخافوا، فنودي فيهم أنه ما يبرح فسكتوا، ثم جاء أمر السلطان إلى شحنته ببغداد يأمره بما يوجب دفع المراقبة، وقيل في ذلك، وهذا في عن الدار العزيزة، والمقام في دار المملكة إلى أن يرد من يسيرها، وأدخلوا أيديهم في الجواري، فروسلوا بأن هذا يقبح فأمسكوا.
وفي يوم الخميس لأربع بقين من رجب: خلع في بيت النوبة على طراد الزينبي، وردت إليه نقابة العباسيين، وتقلد نقابة الطالبيين أبو الفتح أسامة بن أبي عبد الله بن أحمد بن أبي علي طالب العلوي، وانحدر من بغداد إلى البصرة،واستخلف ببغداد أخاه أبا طالب، وضمن أبو إسحاق إبراهيم بن علان اليهودي جميع ضياع الخليفة من واسط إلى صرصر مدة سنة واحدة بستة وثمانين ألف دينار وسبعة عشر ألف كر، وسبع مائة كر.
وفي سابع رمضان: رأى إنسان زمن طويل المرض من نهر طابق رسوله الله صلى الله وعليه وسلم في المنام قائماً مع أسطوانة، وقد جاءه ثلاثة أنفس، فقالوا له: قم فإن رسول الله صلى الله وعليه وسلم قائم، فقال لهم؛ أنا زمن، ولا يمكنني الحركة. فقالوا: هات يدك. وأقاموه فأصبح معافى يمشي في حوائجه ويتصرف في أموره.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن مروان، أبو نصر الكردي صاحب ديار بكر، وميافارقين، لقبه القادر: نصر الدولة، فاستولى على الأمور بديار بكر وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، وعمّر الثغوروضبطها، وتنعم تنعماً لم يسمع به عن أحد من أهل زمانه، وملك من الجواري والمغنيات ما اشترى بعضهن بخمسة آلاف دينار، واشترى منهن بأربعة عشر ألفاً، وملك خمسمائة سرية سوى توابعهن، وخمسمائة خادم، وكان يكون في مجلسه من آلات الجواهر ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار، وتزوج من بنات الملوك جملة، وكان إذا قصده عدو يقول: كم يلزمني من النفقة على قتال هذا فإذا قالوا : خمسون ألفاً بعث بهذا القدر أو مايقع عليه الاتفاق، وقال: أدفع هذا إلى العدو وأكفه بذلك، وآمن على عسكره من المخاطرة، وأنفذ السلطان طغرلبك هدايا عظمية، ومنها: الجبل الياقوت الذي كان لبني بويه، واتباعه من ورثة الملك أبي منصور بن أبي طاهر، وأنفذ مع ذلك مائة ألف دينار عيناً، ووزر له أبو القاسم المغربي نويتين، ووزر له أبو نصر محمد بن محمد بن جهير، ورجت الأسعار في زمانه، وتظاهر الناس بالأموال، ووفد إليه الشعراء، وسكن عنده العلماء والزهاد، وبلغه أن الطيور في الشتاء تخرج من الجبال إلى القرى فتصاد، فتقدم بفتح الأهراء وأن يطرح لها من الحب ما يشبعها، فكانت في ضيافته طول عمره.


توف في هذه السنة عن سبع وسبعين، وقيل عبر الثمانين سنة، وكانت إمارته اثنتين وخمسين سنة.
ثم دخلت
سنة اربع وخمسين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه خرج في يوم الخميس غرة صفر أبو الغنائم بن المحلبان إلى باب السلطان طغرلبك من الديوان العزيز بالإجابة إلى الوصلة. وكان السبب أن الكتب وردت من السلطان إلى بغداد وواسط والبصرة بإدخال اليد في الاقطاع المفردة لوكلاء الدار العزيزة، والحواشي، الأصحاب، وإلى أصحاب الأطراف وغيرهم، بتعديد ما فعل من الجميل دفعة، وما كان من المقابلة في الرد عما وقعت الرغبة فيه على أقبح حال، وخرج الكلام في ذلك إلى ما ينافي قانون الطاعة ومقتضى الخدمة، وقطعت المكاتبة إلى الديوان، ووصل الكتاب إلى قاضي القضاة عنوانه: إلى القضاة من شاهنشاه المعظم ملك المشرق والمغرب، محيي الإسلام، خليفة الإمام، يمين خليفة الله أمير المؤمنين، فكان في الكتاب أن قاضي القضاة يعلم أن تلك الوصلة لم تكن جفوة قصدناها حتى يستوجب قبح المكافأة على جميع ما قدمناه من الؤاثرات، وإن كنا لا نؤهل للإجابة، ولانحض بالمساءة، وليس يخفى على العوام ما قدمناه من الاهتمام، وأوجبناه من الإنعام، وأظهرناه من التذلل والخضوع الذي ما كان لنا به عهد ظننا بإننا نتقرب إلى الله تعالى بذلك، فصارت كلها وبالاً علنيا ولكنا واثقون بصنع الله تعالى أنه لا يضيع جميل أفعالنا ونرى سوء المغبًة لمن يضمر لنا سوءاً فينا، واقتضى الرأي استرداد جميع ما كان للديوان الخاص وقصر أيدي وكلاء تلك الجهة عنها، ليقصروا على ما كان لهم يوم وردت راياتنا العراق، فيجب أن نشير عليهم بالتخلية عنها، وترك المراجعة فيها فإنها لا تفيد غير الجدال والنزاع، وقد خاطبنا الشيخ الزكي أبا منصور بن يوسف بكتاب أشبعنا فيه القول، فيجب أن يتأمله ويعمل به، لئلا يتكرر الكلام، والسلام. وكتب في منتصف شعبان سنة ثلاث وخمسين.
ثم مازالت المشورة على الخليفة بما في هذا الأمر قبل أن لا يتلافى، فعين على أبي الغنائم بن المحلبان في الخروج إلى السلطان واستسلال ما حصل في نفسه، فقال: متى لم يقترن بخروجي إليه إجابته إلى غرضه من الوصلة كان قصدي زائداً في غيظه، وتوقف عن الخروج، ودافع واتسع الخرق بما قصد به الخليفة من الأذى، فأجاب حينئذ مكرهاً بعد أن يمنع ثلاث سنين، وكتب وكالة لعميد الملك في العقد، وأذن في الوصول لقاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني، أبي منصور بن يوسف حتى شهدا بما سمعاه من الإجابة، وخرج أبو الغنائم، وورد بعد خروجه بخمسة أيام ركابية بكتب تتضمن ردالأقطاع إلى وكلاء الدار العزيزة، وكثر الاعتذار مما جرّه سوء المقدار من تلك الأسباب المكرومة، والتقدم بإنفاذ أبي نصر بن صاعد رسولاً بخدمة وهدية ومشافهة بالتنصل مما جرى، وشاع هذا فطابت النفوس ووقعت البشائر في الدار العزيزة، وخلع منها على الركابية، وضربت الدبادت والبوقات بين أيديهم، وطيف بهم في البلد، وأعيد الاقطاع إلى أيدي الوكلاء.
وورد كتاب من عميد الملك إلى أبي منصور بن يوسف يخبره بأن تلك اللوثة زالت من غير مذكر، بل برأي رآه السلطان حسماً لقالة تظهر، أوعدو يشمت وكوتب أبو الغنائم بن المحلبان بالتوقف حيث وصل من الطريق إلى أن يصل أبو نصر بن صاعد ويصدر في صحبته على ما يقتضيه جوابه، ورسم له طي ذلك وستره، فوصله الأمر وهو بشهرزور، فأقام متعللاً بالأمطار والثلوج، وجرح ساقه، ثم أظهر أن مادة قد نزلت فمنعته من الركوب.
وفي ربيع الأول: وكان ذلك في السابع عشر من آذار، ورد سيل شديد ليلاً ونهاراً، فوقف الماء في الدروب، وسقطت منه الحيطان، واتصل المطر والغيم بقية آذار وجميع نيسان، حتى لم يجد يوم ذاك، وكان في أثنائه من البرد الكبار ما أهلك كثيراً من الثمار، ووزنت واحدة فإذا فيها رطل، وتحدث المسافرين أنه كان مثل ذلك بفارس، والجبال، وأعمال الثغور، وأنه قد ورد مطر بسنجار ثمانين يوماً متولية ما طلعت فيها الشمس، وجاء سيل على حلة الأطراد فأقلعتها، وشوهدت الخيل المقيدة غرقى على رأس الماء.


وفي هذا الشهر: زادت دجلة فبلغت الزيادة إحدى وعشرين ذراعاً، ورمت عدة دور، وعلمت السكور على نهر معلى، وباب المراتب، وباب الأزح، والزاهر، وخرج الخليفة من باب البشرى إلى دجلة ليلاً، وغمس القطيب النبوي في الماء دفعتين، فكان ينقص ثم يزيد بعد.
وزادت تامرا اثنين وعشرين ذراعاً وكسراً، وكانت زيادته المعروفة ثمانية وتفجرت فيه بثوقه، ودار الماء من جلولا وتامرا على الوحش فحصرها، فلم يكن لها مسلك، فكان أهل السواد يسبحون فيأخذونه بأيديهم، فيحصل للواحد منهم في اليوم مائتي رطل لحماً.
وفي ربيع الآخر: عطلت المواخير وغلقت، ونودي بإزالتها، وكان السبب أنه كثر الفساد وشرب الخمر، وشرب رجل يهودي وتغنى بالقرآن.
ولما طالت أيام أبي الغنائم بن المحلبان في تأخره ببلد شهرزور عن السلطان علم أنه أمر بالتوقف، فحرك الخليفة بأن أنفذ كتاباً إلى الجهة الخاتونية مع جابر بن صقلاب، يتضمن اشتياقاً إليها، يتضمن اشتياقاً إليها، وإيثاراً لمشاهدتها، ورسم لها المسير إليه، والخروج من دار الخلافة على الخلافة على أي حال أوجبته ومضيق العذر في التأخر وكتاب إلى الحاجب ترمس بملازمتها إلى أن تسير وتردد الخطاب في السبب الموجب لذلك،إلى أن أفصح به ابن صقلاب، وأنه بسبب تأخر الغنائم بن المحلبان، فقيل: إنما توقف لانتظارنا ابن صاعد الرسول الذي ذكرتم إنفاذه إلى بابنا لنسمع رسالته، ويكون إنفاذهما جميعاً، وحيث تأخر ذلك، وأوجب هذا الاستعشار، فنحن نكاتب ابن المحلبان ونأمر بالإتمام، ففعل ذلك.
وفي يوم الخميس ثالث عشر شعبان: كان العقد للسلطان على السيدة بنت الخليفة بظاهر تبريز، فكتب ابن المحلبان إلى الخليفة يخبره أنه عمل سماط عظيم، وأنه قرأ نسخة التوقيع الشريف إلى السلطان على الناس والسلطان حاضر، وأنه سلم الوكالة إلى عميد الملك فقبلها، ورفع يده بها إلى السلطان حاضر، فقام عند مشاهدتها وقبلها وقبّل الأرض ودعا، ثم أعادها إلى عميد الملك فقرأها، وقد رسم فيها تعيين المهر وهو: أربعمائة ألف دينار، فارتفعت الأصوات بالدعاء للخليفة، وعقد العقد ونثر الذهب واللؤلؤ، وتكلم السلطان بما معناه الشكر والدعاء، وأنه المملوك القن الذي قد سلم نفسه ورقة وما حوته يده وما يكسبه باقي عمره إلى الخدمة الشريفة.
ونفذ في شوال خدمة للديوان العزيز تشتمل على ثلاثين غلاماً أتراكاً على ثلاثين فرساً، وخادمين، وفرس وبمركب وسرج من ذهب مرصع بالجواهر الثمينة، وعشرة آلاف دينار للخليفة، وعشرة آلاف دينار لكريمته، وعقد جوهر فيه نيف وثلاثون حبة في كل حبة مثقال، وجميع ما كان لخاتون المتوفاة من الاقطاع بالعراق، وثلاثة آلاف دينار لوالدتها، وخمسة آلاف للأمير عدة الدين، فتولت أرسلان خاتون تسليم ذلك.
ووردت الكتب في ذي القعدة بتوجيه السلطان إلى بغداد.
وفي ذي الحجة: كثر الإرجاف بالسلطان طغرلبك ووفاته، واختلط الناس إلى أن جاءت البشارة بعد أيام بسلامته من مرض شديد.
وفي ذي هذه السنة: عم الرخص جميع الأصقاع، وبيع بالبصرة كل ألف رطل تمر بثمانية قراريط.
وفيها: عزل أبو الفتح محمد بن منصور بن دارست عن وزارة القائم، وأقبل أبو منصور محمد بن محمد بن جهير من ميارفارقين وقد سفر له في الوزارة تقلدها، ولقب فخر الدولة شرف الوزراء.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
ثمال بن صالح، معز الدولة صاحب حلب كان كريماً فأغنى أهل البلد، وكان حليما؛ بينا الفراش يصب عليه ضربت بلبلة الإبريق ثنيته فسقطت في الطست فعفا عنه، فقال عنه، فقال له ابن أبي حصينة:
وسن العدل في حلب فأخلت ... بحسن العدل بقعته البقاعا
حليم عن جرائمنا إليه ... وحي عن ثنيته انقلاعا
مكارم ما افتدى فيها بخلق ... ولكن ركبت فيه طباعا
إذا فعل الكريم بلا قياس ... فعالاً كان ما فعل ابتداعا
الحسن بن علي بن محمد، أبو محمد الجوهري، ابن المقنعي


أخبرنا ابن ناصر، عن أبي محمد بن طاهر المقدسي قال: سمعتهم يقولون ان أول من يضع تحت العمامة كما يفعل العدول اليوم ببغداد ولد الحسن في شعبان سنة ثلاث وستين وثلثمائة، وكان يكن درب الزعفراني، وهو شيرازي الأصل، وسمع الكثير، وكان يسكن درب الزعفراني، وختم الإسناد وهو آخر من حدّث عن أبي بكر بن مالك القطيعي، وابن صالح الأبهري، وابن العباس الوراق، وابن شاذان، وابن أيوب القطان، وابن إسحاق الصفار، وعن أبي الحسن ابن كيسان النحوي، وابن لؤلؤ أبي الحسن الجراحي، وابن إسماعيل الأنباري، وابن وأبي عزة العطار، وابن العباس الرفاء، وابن أبي القصب الشاعر وأبيه أبي الحسن الجوهري، وعن أبي عبيد الله الحسين بن الضراب، وابن مروان الكوفي، وابن مهدي الأزدي، وابن عبيد الدقاق، وعن أبي القاسم الخرقي، وابن جعفر المقرىء، وطلحة الشاهد، وعن أبي جعفر بن الجهم الكاتب، وابن العباس الجوهري، وعن أبي محمد بن عبد الله بن ماهود الأصبهاني، وعبد العزيز بن أبي صابر، وعن أبي علي العطشي، والفارسي، وعن أبي العباس بن حمزة الهاشمي، وابن مكرم المعدل، وعن أبي الحسن بن يعقوب المقرىء، وأبي حفص جعفر بن علي القطان، وأبي سعيد بن الوضاح: وكان ثقة أميناً، وتوفي في ذي القعدة من السنة.ودفن في الجانب الشرقي من مقبرة باب أبرز. ؟الحسين بن أبي زيد، أبو علي الدباغ، واسم أبي زيد: منصور، وأصله من الصّغد. سمع سيفان بن عيينة، ووكيعاً، وأبا معاوية في آخرين. روى عنه الباعندي، وكان من الثقات. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت أبا بكر محمد بن جعفر يقول: سمعت أبا الحسن السراج يقول: سمعت الحسين بن أبي زيد يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحييني على الإسلام. فقال: إيه والسنة، وجمع إبهامه وسبابته وحلق حلقه، وقال ثلاث مرات: والسنة، والسنة، والسنة " .
؟؟سعد بن محمد بن منصور، أبو المحاسن الجرجاني كان رئيساً في أيام والده في سنة عشر وأربعمائة فدرس الفقه وتخرج على يده جماعة، وروى الحديث، ووجه رسولاً إاى محمود بن سبكتكين، فخرج وعقد له مجلس النظر في جميع البلدان بنيسابور وهراة وغزتة، وقتل ظلماً باستراباذ في رجب هذه السنة.رحمه الله وإيانا وجميع المسلمين آمين.
ثم دخلت
سنة خمس وخمسين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أن السلطان وصل إلى ازاء القفص فعزم الخليفة على تلقيه، فاستعفى فأعفي من ذلك، فأخرج إليه الوزير أبو منصور، فلما دخل العسكر نزلوا في دور الناس وأخرجوهم، وأوقدوا أخشاب الدور لبرد عظيم كان، وكانوا يتعرضون لحرم الناس، حتى إن قوماً من الأتراك صعدوا إلى جامات حمام ففتحوها وطالعوا النساء، ثم نزلوا فهجموا عليهن فأخذوا من أرادوا منهن، وخرج الباقيات عراة إلى الطريق، فاجتمع الناس وخلصوهن من أيديهم، فعلوا هذا بحمامين.
وجاء عميد الملك إلى دار الخلافة وخدم عن السلطان فأوصله الخليفة وخاطبه بالجميل، وأعطاه عدة أقطاع ثياب تشريفاً له، وتردد الخطاب في نقل الجهة إلى دار المملكة، وبعث السلطان إلى الجهة بخاتمه، وكان ذهباً وعليه فص ماس وزنه درهمان، وبعث جبتين في سستحة، ولازم عميد الملك المطالبة بها حتى بان في هذه الوصلة التشرف بها، والذكر الجميل، وكنا نقول لك:إننا مانمتنع من ذاك إلا خوفاً من المطالبة بالتسليم، وجرى ما قد علمته، ثمأخرجنا ابن المحلبان، وقرر معكم قبل العقد ما أخذ به خطك، وأنه إن كان يوماً ما يطالبه برؤية واجتماع كان ذلك الدار العزيزة النبوية، ولم يسم إخراج هذه الجهة من دارنا، فقال عميد الملك: هذا جميعه صحيح، والسلطان مقيم عليه وعازم على الانتقال إلى هذه الدار العزيزة حسب ما استقر، وهو يسأل أن يفرد لحجابه وغلمانه وخواصه فيها مواضع يسكنونها، فما يمكنه بعدهم عنه، فقطع بهذا الكلام الحجة، ثم راجع وكرر إلى أن استقر انتقالها إلى دار المملكة على أن لا تخرج من بغداد، وان تكون بها إذا سافر السلطان، وأحضر قاضي القضاة الدامغاني حتى استخلفه على الاجتهاد في ذلك.


وحمل السلطان إلى الخليفة مائة ألف دينار ومائة وخمسين ألف درهم وأربعة آلاف ثوب فيها عشرة طميم كل ذلك منسوب إليه.
وفي ليلة الإثنين خامس عشر صفر: زفت السيدة ابنة الخليفة إلى دار المملكة، ونصب لها من دجلة إلى الدار سرادق، وضربت البوقات والدبادب عند دخولها الدار، فجلست على سرير ملبس بالذهب، ودخل السلطان إليها فقبّل الأرض لها وخدمها، وشكر الخليفة وخرج من غير أن يجلس، ولا قامت له ولا كشفت برقعاً كان على وجهها ولا أبصرته، وكان السلطان والحجّاب ووجوه الأتراك يرقصون في صحن الدار فرحاً وسروراً، وأنفذ لها مع أرسلان خاتون، وكانت قد مضت في صحبتها عقدين فاخرين، وقطعة ياقوت أحمر كبيرة ودخل من الغد فقبّل الأرض وخدمها، وجلس على سرير ملبس بالفضة بإزائها ساعة، ثم خرج وأنفذ إليها جواهر كثيرة مثمنة، وفرجية نسيج مكللة بالحب، ومازال على مثل ذلك كل يوم يحضر ويخدم، فظهر منهسور شديد من الخليفة تألم لما ألزمه من ذلك، وخلع السلطان في بكرة يوم الثنين على عميد الملك، وزاد في ألقابه جزاء على توصله إلى هذا، واتصل في دار المملكة السماط أسبوعاً، ثم كان في يوم الأحد لتسع بقين من الشهر سماط كبير، وخلع على جميع الأمراء.
وفي يوم الخميس تاسع ربيع الأول: حضر عميد الملك بيت النوبة، واستأذن للسلطان طغرلبك في الانصراف وللسيدة خاتون في المسير صحبته، وأنه يستردها مدة ستة أشهر، فأذن الخليفة للسلطان ولم يأذن لأرسلان، وقال: هذا لا يحسن. وتردد من المراجعة ما أدى إلى إذن الخليفة فيه، وكانت شاكية من إطراحه لها، وأنه لم يقرب منها اتصل إليها.
وأنفذ للسلطان في يوم السبت حادي عشر الشهر خلع من حضرة الخليفة، وخرج من الغد وهو ثقيل من علته، مأيوس من سلامته، واستصحب السيدة ابنة الخليفة معه بعد أن امتنعت، فألزمها لم يصحبها من دار الخلافة إلا ثلاث نسوة برسم خدمتها، ولحق والدتها من الحزن ما لم يمكن دفعه عنها.
وفي ليلة الإثنين لخمس بقين من ربيع الآخر: انقض كوكب كبير كان له ضوء كبير، وفي صبيحته جاءت ريح ومطر فيه برق متصل، لحق منه قافلة وردت من دجيلة عند قبر الإمام أحمد بن حنبل ما أحرق واحداً من أهلها فمات من وقته، كان الموضع الذي احتراق من جسمه وثوبه أبيض لم يتغير القميص في منظر العين، ووجدوه عند مسه هباء منثوراً.
وفي ليلة الأربعاء لثمان بقين من شعبان: رأت امرأة هاشمية في منامها النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب في مسجد صغير بالمأمونية من الحريم الشريف، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " مريهم أن يعمروا هذا المسجد " . فقالت: لا يصدقونني في رؤيتي لكم. فمد يده إلى حائط عقد هناك قديم مبني بالجص والآجر، وهو من أحد حيطان المسجد وجر آجرة من وسطها حتى برز بثلثها وقال لها: " هذا دليل على صدق قولك وصحة رؤياك " .
وفي هذا الشهر: كانت زلزلة بأنطاكية، واللاذقية، وقطعة من بلاد الروم، وطرابلس، وصور، وأماكن من الشام، ووقع من سور طرابلس قطعة.
وورد الخبر بموت طغرلبك إلى بغداد من جهة السيدة ابنة الخليفة ليلة الأحد الرابع والعشرين من رمضان، وشرى العيارون بهمذان فقتلوا العميد وسبعمائة رجل من أصحاب الشحنة،وأحضروا المخانيث بالطبول والزمور، وأكلوا نهاراً وشربوا على القتلى، وكانوا كذلك بقية الشهر.
ولما توفي طغرلبك بعث إلى عميد الملك الكندري، وكان على سبعين فرسخاً فجاء قبل أن يدفن، وأخذ البيعة لسليمان بن داود بن أخي طغرلبك، وكان طغرلبك، وكان طغرلبك قد نص عليه، وحط من القلعة سبعمائة ألف دينار وكسر، وستة عشر ألف ثوب من ديباج، وسقلاطون وسلاحاً تساوي مائتي ألف دينار وكسر، فسكن الناس، ولم يبق لهم خوف إلا من الملك ألب أرسلان، وهو محمد بن داود، فإن العسكر مالوا إليه.


وانتشرت في هذه الأيام الأعراب في سواد بغداد وما حولها، وقطعوا الطرقات، وأخذوا ثياب الناس حتى في الزاهر وأطراف البلد، واستاقوا من عقرقوف من الجواميس ما قيمته ألوف دنانير، وتحدث الناس بما عليه مسلم بن قريش من دخول بغداد والجلوس في دار المملكة، وحصار دار الخلافة ونهبها، فانزعج الناس وتعرض مسلم للنواحي الخاصة جميعها، وقرر على أهلها مالاً، ونهب من امتنع من ذلك، ونهب المواشي والعوامل، وامتنعت الزاعة إلا على المخاطرة، وكثرت استغاثة أهل السواد على الأبواب العزيزة، وخرج العسكر لمقاومته، فبعث يعتذر ويقول: أنا الخادم وكان عميد الملك قد طالب الجهة الخليفية بجواهر كانت للسلطان معها وذكر زيادة قيمتها وحاجته إلى صرفها إلى الغلمان فأنكرت ذلك، فاعترض نواحيها كذلك وأقطاعها ثم استظهر عليها.
وفي ذي الحجة: كانت زلزلة بأرض واسط لبث طويلاً.
وفي هذه السنة: وقع موتان بالجدري والفجأة، ونقض في هذا الوقت الدور الباقية بمشرعة الزوايا، والفرضة، ومن بقايا المسنيات، والور الشاطية، وغيرهما شيء كبير، وأخذت أخشاب الدور، وحملت الأنقاض إلى الخليفة، فكانت عدة الدور ذوات المسنيات في الماء في سنة سبع وأربعين وأربعمائة عند دخول طغرلبك إلى بغداد مائة ونيّفاً وسبعين داراً.
ووقع الوباء بمصر وكان يخرج منها في اليوم الواحد نحو ألف جنازة، وقبض على أبي الفرج المغربي وزير مصر، ونظر أبو الفرج عبد الله بن محمد البابلي مدة ثم عزل .
وفيها دخل صاحب اليمن مكة فأحسن السيرة، وجلب إليها الأقوات، وفعل الجيل.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
؟الحسن بن علي بن علي بن حزام أحمد بن علي، أبو نصر الجذامي ورد بغداد، وتفقه على أبي حامد الأسفرائيني، وسمع المخلص، وانحدار إلى البصرة فسمع سنن أبي داود من القاضي أبي عمر الهاشمي، وحدّث بالكثير، وكان يرجع إليه في الفتاوى والمشكلات، وتوفي بسرخس.؟؟؟؟ سعيد بن مروان.
صاحب آمد، توفي في هذه السنة، وقيل إن أبا الفرج الخازن سقاه السم باتفاق من نصر بن سعيد صاحب ميافارقين، فأحس سعيد، وأمر بقتل أبي الفرج فقطع قطعاً.
؟؟؟؟؟؟؟محمد بن أحمد بن محمد بن حسنون، أبو الحسين القرشي ولد في صفر سنة سبع وستين وتوفي في يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر هذه السنة.
قال أبو الفضل بن خيرون: هو ثقة ثقة ثقة.
؟محمد بن ميكائيل بن سلجوق، أبو طالب السلطان، الذي يقال له: طغرلبك.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وأصله من جيل من التركمان، وكان ابن سلجوق قد زوج ابنته من رجل يعرف بعلي تكين، فاستفحل أمرهما وأفسدا على محمود بن سبكنكين فقصدهما، فأما علي تكين فأفلت من محمود، وأما ابن سلجوق فقبض عليه محمود، وحصل من أصحابه أربعة آلاف خركاه منتقلة في البلاد، وتوفي محمود فاشتغل ابنه مسعود بلذاته، فاجتمع أصحاب ابن سلجوق وشنوا الغارات على سواد نيسابور، واستولى العيارون على نيسابور فوردها طغرلبك فهذبها، فمال إليه المستورون فحصل الأموال، فسار مسعود للقاء طغرلبك حين استفحل أمره فالتقيا فانهزم مسعود، واستولى طغرلبك على خراسان، وذلك في سنة ثلاثين، وولى أخاه لأمه إبراهيم ينال بن يوسف قهستان وخراسان، وقصد بنفسه الري فخربها أصحابه، ووقع على دفائن وأموال وفتح أصبهاني سنة ثلاث وأربعين واستطابها، وعول على أن يجعلها دار مقامه، ونقل إليها أمواله من الري، وولى أخاه داود في سنة ثلاثين مرو، وسرخس، وبلخ إلى نيسابور، وولى ابن عمه الحسن بن موسى هراة، وبوشنج، وسجستان.
وكان قد كتب إلى دار الخليفة في سنة خمس وثلاثين كتاباً إلى عميد الرؤساء الوزير، وخاطبه بالشيخ الأجل أبي طالب محمد بن أيوب، فمض في الجواب إليه من دار الخلافة أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، ولقيه بجرجان فاستقبله على أربعة فراسخ إجلالاً لرسالة الخليفة، ثم أعطاه على التشريف الذي صحبه، ثلاثين ألف دينار، وعشرين ألفاً للخليفة، وعشرة آلاف لحواشيه، وسارت عساكر طغرلبك إلى الأهواز فنهبوها، ثم قدم بغداد وجلس له القائم، وفوض إليه الأعمال، وخاطبه بملك المشرق والمغرب.


وطغرلبك أول ملك من السلجوقية، وهو الذي بنى لهم الدولة، وكان مدبراً حكيماً يطلع على أفعال تسوءه فلا يؤاخذ بها، ولقد كتب بعض خواصه سوء سيرته إلى أبي كاليجار فرأى الملطفة ولم يعاتبه، وبعث إليه ملك الروم أموالاً كثيرة.
وقد ذكرناها فيما تقدم وذكرنا أحواله على ترتيب السنين، وكيف ردّ القائم من حديثة عانة وقتل البساسيري وتزوج ابنة الخليفة.
وتوفي بالري يوم الجمعة ثامن رمضان هذه السنة، وكانت مملكته ثلاثين سنة وعمره سبعين.
ثم دخلت
سنة ست وخمسين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه لما أفسدت الأعاريب في سواد بغداد وأطرافها حملت العوام السلاح لقتالهم، وكان ذلك سبباً إلى كثرة العيارين وانتشارهم في محرم هذه السنة.
ووقع الإرجاف بأن السلطان ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل وارد إلى بغداد فغلت الأسعار، ثم ورد الخبر أن السلطان ألب أرسلان قبض على عميد الملك أبي نصر منصور بن محمد بن الكندري في عشية يوم السبت السابع من المحرم، وأخذ ماله، ثم أنفذ إلى مرو الروذ واعتقل بها، وخلع على وزيره نظام الملك أبي علي الحسن بن إسحاق الطوسي في ذلك اليوم، وروسلت السيدة ابنة الخليفة في الحال بالإذن لها في المسير إلى بغداد، وأنفذ إليهما خمسة آلاف دينار للنفقة فأبت أن تقبل، فقبح عليها أن ترد فقبلت، ووصلت إلى بغداد عشية يوم الأحد ثالث عشر ربيع الآخر، واجتمع العوام لمشاهدة دخولها فدخلت ليلاً، وكان في صحبتها القاضي الدامغاني أن يكون جلوس هذا القاضي الوارد دونه فلم يجب، وأمر أن يجلس على روشن بيت النوبة بمعزل من المجلس، فقام هذا القاضي فخطب خطبة وصف فيها ألب أرسلان، وشكر وزيره نظام الملك، ثم جلس وسلم الكتب الواصلة معه، وكانت كتابين إلى الخليفة، وكتاباً إلى الوزير فخر الدولة أبي نصر بن جهير، فخرج الجواب يتضمن شكر السلطان ألب أرسلان، والاعتداد بخدمته في تسيير السيدة، وتقدم إلى الخطباء بإقامة الدعوة، فقيل في الدعاء: اللهم أصلح السلطان المعظم عضد الدولة وتاج الملة أبا شجاع ألب أرسلان محمد بن داود، فبعث عشرة آلاف دينار وزناً ومائتي ثوب إبريسمية أنواعاً، وحوالة على الناظر ببغداد بعشرة آلالف أخرى، وعشرة أفراس، وعشرة بغلات، وقيل للسلطان في ر عميد الملك، وأنه لا فائدة في بقائه، فإنه غير مأمون أن يفسد، فأمر بالمكاتبة إلى مقدم مرو الزوذ بقتله وصلبه، وأنفذ ثلاثة غلمانه لذلك.
وبيعت في هذا الزمان دار بنهر طابق بثلاثة قرايط، وبيعت دار بواسط بدرهم.
وفي ربيع الأول: شاع ببغداد أن قوماً من الأكراد خرجوا متصيدين فرأوا في البرية خيماً سوداً سمعوا فيها لطماً شديداً، وعويلاً كبيراً، وقائلاً يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم به عليه ولم يقم فيه مأتم قلع أصله، وأهلك أهله. فخرج النساء العواهر من حريم بغداد إلى المقابر يلطمن ثلاثة أيام، ويخرقن ثيابهن وينشرون شعورهن، وخرج رجال من السفساف يفعلون ذلك، وفعل هذا في واسط وخوزستان من البلاد، وكان هذا فناً من الحمق لم ينقل مثله.
ولما فرغت خلع السلطان سأل العميد أبو الحسن أن يجلس الخليفة جلوساً عاماً لذلك، فجلس يوم الخميس سابع جمادى الآخرة في البيت المستقبل بالتاج المشرف على دجلة، وأوصل إليه الوزير فخر الملك، وتقدم بإيصال العميد والقاضي أبي عمر فدخلا فشافههما بتولية عضد الدولة، واستدعى اللواءين فعقدهما بيده، وسلمت الخلع بحضرته، ورتب للخروج بالخلع أبو الفوارس طرد الزينبي، وأبو محمد التميمي، وموفق الخادم، وكتب معهم إلى السلطان كتاب بتوليته، ولقب العميد شيخ الدولة ثقة الحضرتين، ولقب نظام الملك قوام الدين والدولة رضى أمير المؤمنين، وهو يذكر في تلك البلاد بخواجا بزرك.
وفي يوم الجمعة الثاني عشر من شعبان: هجم قوم من أصحاب عبد الصمد على أبي علي بن الوليد المدرس لمذهب المعتزلة فسبوه وشتموه لا متناعه من الصلاة في الجامع وتدرسيه لهذا المذهب، فقال لهم: لعن الله من لا يؤثر الصلاة، ولعن الله من يمنعني منها ويخيفني فيها. إيماء إليهم وإلى أمثالهم من العوام لما يعتقدونه في أهل هذا المذهب من استحلال الدم، ونسبتهم إلى الكفر، وأوقعوا به وجرحوه، وصاح صياحاً


خافوا اجتماع أهل الموضع معه عليهم، فتركوه ثم أغلق بابه واتصل اللعن للمعتزلة في جامع المنصور، وجلس أبو سعد بن أبي عمامة فلعن المعتزلة.
وفي يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من رمضان: جمع أبو عبد الله بن جردة البيع جمعاً عظيماً من الضعفاء ليتصدق عليهم، فكثروا، فمنهم بواب باب المراتب فأثخنوه ضرباً، فقرق على نحو مائتي نفس قميصاً ودرهمين، ثم كثر الجمع وجاء النفاطون والركابية فخافهم على نفسه، فرمى الثياب والدراهم عليهم ومضى، فازدحموا فمات خمسة رجال وأربع نسوة، وصار الرجل إذا لقي الرجل فيقول: كنت في وقعة ابن جردة. فيقول: الحمد الله على سلامتك.
وفي شوال: ورد الخبر بغزاة السلطان أبي الفتح الروم، وأنه دخل بلداً عظيماً كان لهم فيها سبعمائة ألف دار، وألف بيعة ودير، وقتل به ما لا يحصى، وأسر خمسمائة ألف منهم.
وفي ذي القعدة: وكان تشرين الأول، وامتد إلى تشرين الثاني: حدث وباء عظيم وتفاقم بنهر الملك، وتعدى إلى بغداد، وكان فيها حر شديد، وفساد هواء، وزيادة إنداء، وعدم التمر الهندي حتى بلغ الرطل منه أربع دنانير، وكذلك الشير خشك.
وخلع في ذي القعدة على النقيب أبي الغنائم المعمر بن محمد بن عبيد الله العلوي في بيت النوبة، وقلد نقابة الطالبيين، والحج، والمظالم، ولقب بالطاهر ذي المناقب، وقرىء عهده في الموكب.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
؟عبد الواحد بن علي بن برهان، أبو القاسم النحوي كان مجوداً في النحو وكان له أخلاق شرسة ولم يلبس سراويللاً قط، ولا قبل عطاء أحد، كان مجوداً.
وذكر محمد بن عبد الملك قال: كان ابن برهان يميل إلى المرد الصباح ويقبّلهم من غير ريبة.
قال المصنف: وقوله: من غير ريبة أقبح من التقبيل؛ لأن النظر إليهم ممنوع منه إذا كان بشهوة، فهل يكون التقبيل بغير شهوة.
قال ابن عقيل: وكان يختار مذهب المرجئة المعتزلة، وينفي خلود الكفار، ويقول: قوله: " خالدين فيها أبداً " أي: أبداً من الآباد، وما لا غاية له، لا يجمع ولا يقبل التثنية، فيقال: أبدان، وآباد. ويقول: دوام العقاب في حق من لا يجوز عليه التشفي لا وجه مع ما وصف به نفسه من الرحمة، وهو إنما يوجد من الشاهد لما يعتري الغضبان من غليان دم قلبه طلباً للانتقام، وهذا مستحل في حقه سبحانه وتعالى.
قال ابن عقيل: هذا كلام يرده على قائله جميع ما ذكره، وذلك أنه أخذ صفات البارىء في صفات الشاهد، وذكر أن المثير للغضب ما يدخل على قلب الغضبان البارىء في صفات الشاهد، وذكر أن المثير للغضب ما يدخل على قلب الغضب من غليان الدم طلباً للانتقام، وأوجب بذلك منع دوام العقاب حيث لا يوجد في حقه سبحانه التشفي، والشاهد يرد عليه ما ذكره، وذلك أنه أخذ صفات البارىء في صفات الشاهد، وذكر أن المثير للغضب ما يدخل على قلب الغضبان من غليان الدم طلباً للانتقام، وأوجب بذلك منع دوام العقاب حيث لا يوجد في حقه سبحانه التشفي، والشاهد يرد عليه ما ذكره؛ لأن المانع من التشفي عليه الرأفة والرحمة، وكلاهما رقة طبع، وليس البارىء بهذا الوصف، وليس الرحمة والغضب من أوصاف المخلوقين بشيء، وهذا الذي ذكره من عدم التشفي كما يمنع الدوام يمنع ابتداء العقوبة إذا كان المحيل الدوام من عدم التشفي، وفورة الغضب وغليان الدم، كما يمنع دخوله في الدوام يمنع دخول ه عليه، ووصفه به، فينبغي بهذه الطريقة أن يمنع أصل الوعيد، ويحليه في حقه سبحانه كسائر المستحيلات عليه لا يختلف نفس وجودها ودوامها، فلا أفسد اعتقاداً ممن أخذ صفات الله تعالى من صفاتنا، وقاس أفعاله على أفعالنا، وأي أوصافه تلحق بأوصافنا.
قال المصنف: وكان ابن برهان يقدح في أصحاب أحمد ومن يخالف اعتقاده اعتقاد المسلمين، إذ كلهم أجمعوا على خلود الكفار في النار، ولا ينبغي أن يؤثر قدحه في أحد.
توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة وقد أناف على الثمانين.
ثم دخلت
سنة سبع وخمسين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها : أن أهل باب البصرة قلعوا باب مشهد العتيقة وأخذوه ليلاً، وكان من حديد، فبحث عمن فعله حتى عرف وأخذ منه.
وفيها: أن السلطان ألب أرسلان نفذ إلى عميد الملك تركياً فقتله.


وفي جمادى الأولى: عقد مسعود الرازي الحنفي حلقة بجامع المنصور، وحضرها قاضي القضاة الدامغاني وجماعة الشهود إلا القاضي أبا يعلى، والشريف أبا جعفر، فإن قاضي القضاة استدعاهما فلم يحضرا ولم يفارقا حلقتهما.
وفي ليلة الثلاثاء ثالث رمضان: انقض كوكب عظيم، وانبسط نوره كالقمر، ثم تقطع قطعاً وأسمع دوياً مفزعاً.
وفيها: خرج جماعة من الحاج بحفز فعدوا بهم فرجعوا إلى الكوفة بعد أن خاصموهم في ثامن ذي القعدة.
وفي ذي الحجة: بدىء بعمل المدرسة النظامية، ببغداد، ونقض لأجل بقية الدور الشاطية بمشرعة الزوايا، والفرضة، وباب الشعير، ودرب الزعفراني.
وتوفي أبو منصور بن بكران حاجب الباب، فولي مكانه أبو عبد الله المردوسي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
محمد بن أحمد بن محمد بن علي أبو الحسين، ابن الآنبوسي الصيرفي ولد سنة ست وسبعين وثلثمائة ورى عن الدارقطني وغيره، وتوفي هذه السنة، وصلى عليه في جامع الشرقية، ودفن في مقبرة باب حرب.
محمد بن منصور وزير طغرلبك.، أبو نصر الكندريّ وكان يلقب عميد الملك، منسوب إلى " كندر طريثيت قريق من قراها، وقد ينسب الكندري إلى قرية يقال لها كندر قربياً من قزوين، ومنها: أبو غانم، وأبو الحسن، ابنا عيسى بن الحسن الكندري سمعا أبا عبد الرحمن السلمي، وكتبا تصانيفه، ووقفا كتباً كثيرة.
وينسب الكندري إلى بيع الكندر منهم: عبد الملك بن سليمان، أبو حسان سمع حسان بن إبراهيم، ذكره أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر.
وكان الكندري له فضل وله شعر، وكان طغرلبك قد بعثه ليتزوج له امرأة فتزوجها هو فخصاه طغرلبك، ثم أقره على خدمته.
فلما مات وتمكن ألب أرسلان بعثه إلى مرو الزود، فقيل له: انه لا يؤمن. فبعث غلماناً لقتله، فدخلوا عليه فقال له أحدهم: قم فصل ركعتين وتب إلى الله تعالى.
فقال: أدخل أودع أهلي ثم أخرج. فقالوا: افعل فنهض فدخل إلى زوجته، وارتفع الصياح وعلق الجواري به نشرن شعورهن، وحثون التراب على رؤوسن، فدخل الغلام فقال: قم. قال: خذ بيدي فقد منعني هؤلاء الجواري من الخروج. فخرج إلى مسجد هناك، فصلى فيه ركعتين، ثم مشى حافياً إلى وراء المسجد، فجلس وخلع فرجية سموراً عليه فأعطاهم إياها، وخرق قميصه وسراويله حتى لا يؤخذا، فجاءوا بشاروفه فقال: لست بعيار ولا لص فأخنق، والسيف أروح لي. فشدوا عينيه بخرقة خرقها هو من طرف كمه وضربوه بالسيف، وأخذوا رأسه وتركوا جثته، فأخذتها أخته، فحملتها إلى كندر بلده، وكان عمره نيفاً وأربعين سنة.، أبو منصور بن بكران الحاجب قد ذكرنا وفاته.
ثم دخلت
سنة ثمان وخمسين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أن أهل الكرخ أغلقوا دكاكينهم يوم عاشوراء، وأحضروا نساء فنحن على الحسين عليه السلام على ما كانوا قديماً يستعملونه، واتفق أنه حملت جنازة رجل من باب المحول إلى الكرخ ومعها الناحية، فصلى عليها، وناح الرجال بحجتها على الحسين، وأنكر الخليفة على الطاهر أبي الغنائم المعمر بن عبيد الله نقيب الطالبين تمكينه من ذلك، فذكر أنه لم يعلم به إلا بعد فعله، وأنه لما علم أنكره وأزاله، فقيل له: لا تفسح بعدها في شي من البدع التي كانت تستعمل.
واجتمع في يوم الخميس رابع عشر المحرم خلق كثير من الحربية، والنصرية،وشارع دار الرقيق، وباب البصرة، والقلائين، ونهر طابق بعد أن أغلقوا دكاكينهم، وقصدوا دار الخلافة وبين أيديهم الدعاة والقراء وهم يلعنون أهل الكرخ واجتمعوا وازدحموا على باب الغربة، وتكلموا من غبر تحفظ في القول، فراسلهم الخليفة ببعض الخدم أننا قد أنكرنا ما أنكرتم، وتقدمنا بأن لا يقع معاودة، ونحن نغفل في هذا ما لا يقع به المراد. فانصرفوا وقبض على ابن الفاخر العلوي في آخرين، ووكل بهم في الديوان،وهرب صاحب الشرطة لأنه كان أجاز لأهل الكرخ وإيقاع الفتنة، ثم واصل أهل الكرخ التردد إلى الديوان، والتنصل مما كان، والاحتجاج بصاحب الشرطة، وأنه أمرهم بذلك، والسؤال في معنى المعتقلين، فأخرج عنهم في ثامن عشر المحرم بعد أن خرج توقيع بلعن من يسب الصحابة، ويظهر البدع.
وفي شهر ربيع الأول بباب الأزح صبية لها رأسان، ووجهان، ورقبتان مفترقتان،وأربع أيد على بدن كامل، ثم ماتت.


وفي هذا الشهر: مرض الأمير عدة الدين أبو القاسم، وتعدى ذلك إلى الخليفة جده، ولحق الناس من الانزعاج والارتياع أمر عظيم؛ لأنه لم يكن بقي من يلتجأ إليه غير هذا الجناب، فتفضل الله تعالى بعافيتهما، فاجتمع العوام إلى باب الغربة داعين وشاكرين الله تعالى على نعمه.
وفي العشر الأول من جمادى الأولى: ظهر في السماء كوكب كبير له في المشرق ذؤابة عرضها نحو ثلاثة أذرع، وطولها أذرع، إلى حد المجرة من وسط السماء مادة إلى المغرب، ولبث إلى ليلة الأحد لست بقين من هذا الشهر، وغاب ثم ظهر في ليلة الثلاثاء عند غروب الشمس، قد استدار نوره عليه كالقمر فارتاع الناس وانزعجوا، ولما أعتم الليل رمى ذؤابة نحو الجنوب وبقي عشرة أيام حتى اضمحل.
ووردت كتب التجار من بعد بأن ستة وعشرين مركباً خطفت من سواحل البحر طالبة لعمان، فغرقت في الليلة الأخيرة من طلوع هذا الكوكب وهلك فيها نحو من ثمانية عشر ألف إنسان وجميع المتاع الذي حوته، وكان من جملته عشرة آلاف طبلة كافور.
وفي جمادى الآخرة: كانت زلزلة بخراسان لبثت أياماً فصدعت منها الجبال، وأهلكت جماعة، وخسفت بعدة قرى، وخرج الناس إلى الصحراء وأقاموا هناك.
وفي يوم الأحد تاسع جمادى الآخرة: خلع فخر الدولة أبي نصر بن جهير بعد أن شافهه بما طاب قلبه ورفع من متبته.
وفي هذا اليوم: عند مغيب الشمس وقع حريق بنهر معلى في دكان خباز، فاحترق من باب الجديد إلى آخر السوق الجديد في الجانبين، وتلف من المال والعقار ما لا يحصى، ونهب الناس بعضهم بعضاً، وكان الذي احترق مائة دكان وثلاثة دور.
وفي شعبان: وقع قتال في دمشق فضربوا داراً كان مجاوراً للجامع بالنار، فاحترق جامع دمشق.
وفي شعبان: ذكر رجل من أهل سوق يحيى يقال له: أخو جمادى، وكانت يده اليسرى قد خبثت وأشرف على وأشرف على قطعها أنه رأى النبي صلى الله ليه وسلم في منامه كأنه يصلي في مسجد بدرب داود، فدنا منه وأراه يده عليها فأصبح معافى، وانثال الناس لمشاهدته، وكان يغمس يده في الماء فيقتسمونه، وستأتي قصته مستوفاة في السنة التي مات فيها إن شاء الله تعالى.
ورخصت الأسعار في هذه السنة رخصاً متفاحشاً حتى صار الكر الجيد من الحنطة بعشرة دنانير.
وفي ليلة الأحد لأربع بقين من شعبان: انقض كوكبان كان لأحدهما ضوء كضوء القمر، وتبعهما في نحو ساعة بضعة عشر كوكباً صغاراً إلى نحو المغرب.
وفي رمضان: نقص الماء من دجلة فاستوعبه القاطول، وتعلق نهر الدجيل عليه، فهلكت الثمار، وزادت الأسعار، وامتنعت السفن من عكبرا وأنا من الانحدار، فكان أقوام يعبرون إلى أوانا بمداساتهم على الآجر، وغارت المياه في الآبار ببغداد.
وفي هذا الشهرر: كسي جامع المنصور، وفرش بالبواري، فدخل فيه أربع وعشرون ألف ذراع بواري، ثلثمائة مناً خيوط، وأخذ الصناع الخياطين لها أجرتهم عشرين دينار.
وفي شوال: أنفذ خادم خاص إلى السلطان للتهنئة بسلامته في غزوته، وإقامة تشريفات عليه، وأضيف إلى الخادم أبو محمد التميمي، ورسم لهما الخطاب فيما يستعمله النظام مع الحواشي الدار من التعرض لما في أيديهم، والخطاب على التقدم إلى السيدة أرسلان خاتون بالمسير إلى دار الخلافة، فقد طالت غيبتها، وأخرج الوزير أبو نصر حاجباً بقود وتحف.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى، أبو بكر البيهقي ولد سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وكان واحد زمانه في الحفظ والإتقان، حسن التصنيف، وجمع علم الحديث، والفقه، والأصول، وهو من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله، ومنه تخرج، وسافر وجمع الكثير، وله التصانيف الكثيرة الحسنة، وحمع نصوص الشافعي رضى الله عنه في عشر مجلدات، وكان متعففاً زاهداً، وورد نيسابور مراراً، وبها توفي ونقل تابوته إلى بيهق في جمادى الأولى من هذه السنة.
الحسن بن غالب بن علي بن منصور بن صلعوك، أبو علي التميمي، ابن المبارك ولد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وستسن وثلثمائة، وصحب ابن سمعون.


أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: كان الحسن ابن غالب زوج بنت إبراهيم بن عمر البرمكي، وحدّث عن عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري، وابن أخي ميمي وغيرهما، وكان له سمت وهيئة وظاهر صلاح، وكان يقرىء فأقر بحروف خرق بها الإجماع، وادعى فيها رواية عن بعض الأئمة المتقدمين، وجعل لها أسانيد باطلة مستحيلة، فأنكر أهل العلم عليه ذلك إاى أن استتيب منها، وذكر أنه قرأ على إدريس المؤدب، وإدريس قرأ على ابن شنبوذ، وابن شنبوذ قرأ على أبيي خالد، وكل ذلك باطل لأن ابن شنبوذ لم يدرك أبا خالد، وإدريس لم يقرأ على ابن شنبوذ، وادعى أشياء غير ذلك يتبين فيها كذبه واختلافه.
وقال أبو علي ابن البرداني: كان الحسن بن غالب متهماً في سماعه من أبي الفضل الزهري، وجرت له أمور مع أبي الحسن القزويني بسبب قراآت أقرىء بها عن إدريس وكتب عليه بذلك محضر.
وقال أبو محمد بن السمرقندي: كان كذاباً. وتوفي في ليلة السبت العاشر من رمضان هذه السنة، ودفن صبيحة تلك الليلة عند قبر إبراهيم الحربي.
عبد العزيز بن محمد بن الحسين بن محمد بن الفضل، أبو القاسم القطان سمع المخلص، وكان يسكن دار القطن، وكان صدوقاً وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، أبو يعلى ولد في محرم سنة ثمانين، وسمع الحديث الكثير، وحدّث عن أبي القاسم بن حبابة، وأول ما سمع من أبي الطيب بن علي بن معروف البزاز، وعلي بن عمر الحرابي، وأملى الحديث، وهو آخر من حدّث عن أبي القاسم موسى السراج، وكان عنده مصنفات قد تفرد بها، منها كتاب الزاهر لابن الأنباري فإنه حدّث به عن ابن سويد عنه. وكتاب المطر لابن دريد، وكتاب التفسير ليحيى بن سلام وغير ذلك،وكان من سادات الثقات، وشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله بن ماكولا، والدامغاني، فقبلاشهادته وتولى النظر في الحكم بحريم دار الخلافة، وكان إماماً في الفقه، له التصانيف الحسان الكثيرة في مذهب أحمد، ودرس وأفتى سنين، وانتهى إليه المذهب، وانتشرت تصانيفه وأصحابه، وجمع الإمامة، والفقه، والصدق، وحسن الخلق، والتعبد، والتقشف، والخشوع، وحسن السمت، والصمت، عما لا يعني واتباع السلف.
حدثنا عنه أبو بكر بن عبد الباقي، وأبو سيعد الزوزني. وتوفي في ليلة الإثنين وقت العشاء، ودفن يوم الإثنين لعشرين من رمضان هذه السنة، وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وغسله الشريف أبو جعفر بوصية إليه،وكان من وصيته إليه أن يكفن في ثلاثة أثواب، وأن لا يدخل معه القبر غير ما غزله لنفسه من الأكفان، ولا يخرق عليه عليه ثوب، ولا يقعد لعزاء، واجتمع له خلق لا يحصون، وعطلت الأسواق، ومشى مع جنازته القاضي أبو عبد الله الدامغاني وجماعة الفقهاء والقضاة والشهود، ونقيب الهاشميين أبو الفوارس طراد، وأرباب الدولة، وأبو منصور بن يوسف، وأبو عبد الله ابن جردة، وصلى عليه ابنه أبو القاسم عبيد الله وهو يؤمئذ ابن خمس عشرة سنة، وكان قد خلف عبيد الله، وأبا الحسن، وأبا حازم، وأفطر جماعة ممن تبعه لشدة الحر، لأنه دفن في اليوم الثالث عشر من آب، وقبره ظاهر بمقبرة باب حرب.
قال أبو علي البرداني: رأيت القاضي أبا يعلى فقلت له: ياسيدي، مافعل الله بك؟ فقال لي وجعل يعد بأصابعه: رحمني وغفر لي، ورفع منزلتي، وأكرمني. فقلت: بالعلم؟ فقال لي: بالصدق.
ثم دخلت
سنة تسع وخمسين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أن السيدة أرسلان خاتون زوجة الخليفة دخلت إلى بغداد في جمادى الأولى، وخرج الناس لتقيها، واستقبها الوزير فخر الدولة على نحو فرسخ وخدمها بالدعاء على ظهر فرسه، وحضر العميد أبو سعد المستوفي في بيت النوبة حتى قرئت الكتب الواردة في هذه الصحبة، وهي مشتملة على التمسك بالطاعة، والتصرف على قوانين الخدمة، والإجابة إلى المرسوم، وخوطب فيها الوزير بالوزير الأجل بعد أن كان يكتب إليه الرئيس الأجل.
وفي هذه الأيام بنى أبو سعد المستوفي الملقب شرف الملك مشهد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وعمل لقبره ملبناً، وعقد القبة، وعمل المدرسة بإزائه، وأنزلها الفقهاء، ورتب لهم مدرساً، فدخل أبو جعفر ابن البياضي إلى الزيارة فقال ارتجالاً:
ألم تر أن العلم كان مضيّاً ... فجمعه هذا المغيّب في اللحد


كذلك كانت هذه الأرض ميتة ... فأنشرها جود العميد أبي سعد
قال المصنف رحمه الله: قرأت بخط أبي الوفاء بن أبي عقيل قال: وضع أساس مسجد بين يدي ضريح أبي حنيفة بالكلس والنورة وغيره، فجمع سنة ست وثلاثين وأربعمائة وأنا ابن خمس سنين أو دونها بأشهر، وكان المنفق عليه تركياً قدم حاجاً، ثم قدم أبو سعد المستوفي، وكان حنفياً متعصباً، وكان قبر أبي حنيفة تحت سقف عمله بعض الأمراء التركمان، وكان قبل ذلك وأنا صبي عليه خربشت خاصاً له، وذلك في سننتي سبع أوثمان وثلاثين قبل دخول الغز بغداد سنة سبع وأربعين، فلما جاء شرف الملك سنة ثلاث وخمسين عزم على إحداث القبة وهي هذه، فهدم جميع أبنية المسجد وما يحيط بالقبر، وبنى هذا المشهد، وحفر أساس القبة، وكانوا يطلبون الأرض الصلبة فلم يبغلوا إليها إلا بعد حفر سبعة عشر ذراعاً في ستة عشر يوماً، فخرج من هذا الحفر عظام الأموات الذين كانوا يطلبون جوار النعمان أربعمائة صن، ونقلت جميعها إلى بقعة كانت ملكاً لقوم،فحفر لها ودفنت، وخرج في ذلك الأساس شخص منتظم العظام له ريح كريح الكافور.
قال ابن عقيل: فقلت: وما يدريكم لعل النعمان قد خرجت عظامه في هذه العظام وبقيت هذه القبة فارغة من مقصود.
قال: فبعث شرف الملك إلى أبي منصور بن يوسف شاكياً منه مقابلتي على ذلك، فكان غاية ما قال لي بعد أن أحضرني في خلوة: يا سيدي، رأيت منكراً فاشياً فما ملت نفرتي الدينية.
قال ابن عقيل: وكانت العمارة في سنة تسع وخمسين، وساجه وأبوابه غصب من بعض بيع سامرا، فما عند هؤلاء من الدين خبر.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، أنبانا أبو الحسين المبارك ابن عبد الجبار الصيرفي قال: سمعت أبا الحسين ابن المهتدي يقول: لا يصح أن قبر أبي حنيفة في هذا الموضع الذي بنوا عليه القبة، وكان الحجيج قبل ذلك يردون ويطوفون حول المقبرة فيزورون أبا حنيفة لا يعينون موضعاً.
وفي شعبان:هبت ريح حارة فقتلت بضعة عشر نفساً كانوا مصعدين من واسط، وخيلاً كثيرة، وأهلكت ببغداد شجر الأترج والليمون.
وفي ليلة الأحد سلخ شعبان؛ احترقت تربة معروف الكرخي، وكان السبب أن القيم بها كان مريضاً فطبخ له شعير، فبعدت النار إلى خشب وبواري هناك، وارتفعت إلى السقوف، فأتت على الكل فاحترقت القبة والساباط، وجميع ما كان ، ثم أمر القائم بأمر الله بعمارة المكان.
وفي شوال: لحق الدواب موتان، وانتفخت رؤوسها وأعينها، حتى كانوا يصيدون حمر الوحش بأيديهم فيعافون أكلها، ووقع عقيب ذلك بنيسابور وأعمال خراسان الغلاء الشديد، والوباء المفرط، وكذلك بدمشق، وحلب، وحران.
وفي هذه السنة: قبل قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني شهادة الشريف أبي الحسن محمد بن علي بن المهتدي، وأبي طاهر عبد الباقي بن محمد البزار.
وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة: جمع العميد أبو سعد القاضي الناس على طبقاتهم إلى المدرسة النظامية التي بناها نظام الملك ببغداد للشافعية، وجعلها برسم أبي اسحاق الشيرازي بعد أن وافقه على ذلك، فلما كان يوم اجتماع الناس فيها وتوقعوا مجيء أبي إسحاق فلم يحضر، فطلب فلم يظهر، وكان السبب أن شاباً لقيه فقال: يا سيدنا، تريد تدرس في المدرسة؟ فقال: نعم، فقال: كيف تدرس في مكان مغصوب؟ فغيّر نيّته فلم يحضر، فوقع العدول إلى أبي نصر بن الصباغ فجعل مكانه، فركن إلى قوله فجلس، وجرت مناظرة وتفرقا، وأجرى للمتفقهة لكل واحد أربعة أرطال خبز كل يوم، وبلغ نظام الملك فأقام القيمة على العميد، وظهر أبو إسحاق في مسجد بباب المراتب، فدرس على عادته، فاجتمع العوام فدعوا وأثنوا عليه، وكان قد بلغ إليهم أنه قال: إني لم أطب نفساً بالجلوس في هذه المدرسة لما بلغني أن أبا سعد القاشي غصب أكثر آلاتها، ونقض قطعة من البلد لأجلها، ولحق أصحابه غم.
وراسلوه لما عرضوا فيه بالانصراف عنه والمضي إلى ابن الصباغ إن لم يجب إلى الجلوس في المدرس ويرجع عن هذه الأخلاق الشرسة، فأرضاهم بالاستجابة تطييباً لقلوبهم، وسعوا وهو أيضاً في ذلك إلى أن استقر الأمر في ذلك له، وصرف ابن الصباغ فكانت مدة مقامه بها عشرين يوماً، وجلس أبو إسحاق فيها في ذي الحجة، وكان إذا حضر وقت الصلاة خرج منها وقصد بعض المساجد فأداها.


أنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي، عن أبيه قال: سمعت أبا القاسم منصور بن محمد بن الفضل - وكان فقيهاً متورعاً - يقول: سمعت أبا علي المقدسي ببغداد يقول: رأيت أبا إسحاق الشيرازي في المنام فسألته عن حاله فقال: طولبت بهذه البنية - يعني المدرسة النظامية - ولولا أني ما أديت فيها الفرض لكنت من الهالكين.
وفي هذه السنة: عقدت البصرة وواسط على هزارسب بثلثمائة ألف دينار.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عبد الكريم بن علي بن أحمد، أبو عبد الله التميمي المعروف: بالسني القصري من قصر ابن هبيرة. ولد سنة إحدى وسبعين وثلثمائة سكن بغداد وحدّث بها عن أبي محمد بن الأكفاني، وكان صدوقاً ديناً كثير التلاوة بالقرآن.
وتوفي في محرم هذه السنة، ودفن في مقبرة باب حرب.
محمد بن إسماعيل بن محمد، أبو علي القاضي من أهل طوس ولي القضاء بطوس، ولقّب: بالعراقي لظرافته وطول مقامه ببغداد، وكان فقيهاً فاضلاً مبرزاً بفقهه ببغداد، اختلف إلى أبي محمد الباقي، ثم إلى أبي حامد الاسفرائيني، وسمع الحديث من أبي طاهر المخلص.
وتوفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ستين وأربعمائة
أنه خلع على أبي القاسم عبد الله بن أحمد بن رضوان في دار الخلافة الخلع الكاملة والطيلسان، ورد إليه النظر في المارستان.
وبنيت تربة قبر معروف في ربيع الأول، وعقد مشهده أزاجاً بالجص والآجر.
وفي جمادى الأولى: كانت زلزلة بأرض فلسطين أهلكت بلد الرملة، ورمت شرافتين من مسجد رسول الله صلى عليه وسلم، ولحقت وادي الصفراءءء وخبير، وانشقت الأرض عن كنوز من المال، وبلغ حسها إلى الرحبة والكوفة، وجاء كتاب بعض التجار في الزلزلة، ويقول: إنها خسفت الرملة جميعها حتى لم يسلم منها إلا دربان فقط، وهلك منها خمية عشر ألف نسمة، وانشقت الصخرة التي ببيت المقدس، ثم عادت فالتأمت بقدرة الله تعالى، وغار البحر مسيرة يوم وساح في البر، وخرّب الدنيا، ودخل الناس إلى أرضه يلتقطون فرجع إليهم فأهلك خلقاً عظيماً منهم.
قال المصنف: وقرأت بخط أبي علي بن البناء قال: اجتمع الأصحاب وجماعة الفقهاء وأعيان أصحاب وجماعة الفقهاء وأعيان أصحاب الحديث في السبت النصف من جمادى الأولى من سنة ستين بالديوان العزيز، وسألوا إخراج الاعتقاد القادري وقراءته، فأجيبوا وقرىء هناك بمحضر من الجمع، وكان السبب أن ابن الوليد المعتزلي عزم على التدريس، وحرضه على ذلك جماعة من أهل مذهبه، وقالوا: قد مات الأجل بن يوسف وما بقى من ينصرهم، فعبر الشريف أبو جعفر إلى جامع المنصور، وفرح أهل السنة بذلك، وكان أبو مسلم الليثي البخاري المحدّث معه كتاب التوحيد لابن حزمة فقرأه على الجماعة، وكان الاجتماع يوم السبت في الديوان لقراءة الاعتقاد القادري والقائمي، وفيه قال السلطان وعلى الرافضة لعنة الله وكلهم كفار قال: ومن لا يكفرهم فهو كافر، ونهض ابن فورك قائماً فلعن المبتدعة وقال: لا اعتقاد لنا إلا لنا ما اشتمل عليه هذا الاعتقاد، فشكرته الجماعة على ذلك، وكان الشريف أبو جعفر والزاهد أبو طاهر الصحراوي وقد سألا أن يسلم إليهم الاعتقاد، فقال لهما الوزير ابن جهير: ليس ها هنا نسخة غير هذه ونحن نكتب لكم نسخة لتقرأ في المجالس، فقال: هكذا فعلنا في أيام القادر، قرىء في المساجد والجوامع، وقال: هكذا تفعلون فليس اعتقاد غير هذا. وانصرفوا شاكرين.
وفي يوم الأحد سابع جمادى الآخرة: قرأ الشريف أبو الحسين بن المهتدي الاعتقاد القادري والقائمي بباب البصرة، وحضر الخاص والعام، وكان قد سمعه من القادر.


وفي يوم الثلاثاء ثامن ذي القعدة خرج توقيع الخليفة إلى الوزير فخر الدولة أبي نصر محمد بن محمد بن جهير متضمناً بعزله بمحضر من قاضي القضاة الدامغاني، وعددت فيه ذنوبه، فمنها: أنه قيل له إنك بدلت أشياء في الخدمة، فوفيت بالبعض ومنها: إنك تحضر باب الحجرة من غير استئذان، وقد قلت: ما يجب أن يدخل هذا المكان غيري، ومنها: إنك لبست خلع عضد الدولة في الدار العزيزة في أشياء أخر. وقيلله: انظر إلى أي جهة تحب أن تقصدها لنوجهك لنوصلك إليها. فبكى في الجواب بكاء شديداً، وقلق عظيماً، واعتذر عن كل ذنب بما يصلح، وقال:إذا رؤي إبعادي فإلى حلة ابن مزيد، وبعد فأنا أضرع إلى العواطف المقدسة في إجرائي على كريم العادة المألوفة في ترك المؤاخذ. فخرج الجواب عن الفصل الأخير المتعلق بالمسير إلى الحلة بأن الأمر يجري عليه، واطرح جواب ما عداه، ثم أذن له غلاته والتصرف في ماله، وباع أصحابه ما لهم من الرحل والمتاع وطلقوا النساء، وظهر من الاغتمام عليه من جميع أهل دار الخليفة الأمر العظيم، وكانوا يحضرون عنده فيبكي ويبكون، وخرج غلمانه وأصحابه في يوم الخميس عاشر ذي القعدة، وقدم له وقت العتمة من ليلة الجمعة سميرية خالية من فرش وبارية، وجاء هو وأولاده حتى وقف عند شباك المدورة وظن أن الخليفة في الشباك، فقبّل الأرض عدة دفعات وبكى بكاء شديداً، وقال الله بينى و بينه من ثقل قلبك علي يا أمير المؤمنين، فارحم شيبتي وأولادي وذلي وموقفي، فلما يئس نزل إلى دجلة معضداً بين نفسين وهو يبكي، والعامة تبكي لبكائه، وتدعوا له فيرد عليهم ويودعهم، ثم أعيد إلى الوزارة بشفاعة دبيس بن مزيد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
خديجة بنت محمد بن علي بن عبد الله الواعظة الشاهجانية ولدت سنة أربع وسبعين وثلثمائة، وروت عن ابن سمعون، وابن شاهين، وكانت صادقة صالحة تسكن قطيعة الربيع.
وتوفيت في هذه السنة ودفنت إلى جنب ابن سمعون، وكانت قد صحبته.
عبد الملك بن محمد بن يوسف، أبو منصور، الشيخ الأجل ولم يكن في زمانه من يخاطب بالشيخ الأجل سواه، ولد في سنة خمس وتسعين وثلثمائة، وسمع أبا عمر بن المهدي، وأبا الحسن بن الصلت، وأبا الحسين بن بشران، وغيرهم، وكان أوحد زمانه في فعل المعروف، والقيام بأمور العلم، والنصرة لأهل السنة، والقمع لأهل البدع، وافتقاد المستورين بالبر، ودوام الصدقة، وكان إذا وصل أحد وصله سراً حيث لايراه أحد، فإذا شكره المعطي قال: إنما أنا في هذه العطية وسيط وليس مالي، ولما انحدر البساسيري إلى واسط أخذ ابن معه فنزل على رجل طحان، فلما رحل عنه أعطاه شيئاً ثم مضت مدة فركب الطحان ديون، فقصد بغداد ودخل على ابن يوسف فأكرمه، وأفرد له حجرة، وكساه وأمر بعض غلمانه أن يسأله سبب قدومه فأخبره، فحدث ابن يوسف بذلك، فأرسل رجلاً إلى واسط واكترى له سفينة، وحمل فيها ما يصلح حمله من الفوالكه والتحف وكسوة كبيرة، وأعطاه مائتي دينار وقال له: ناد في الجامع من له دين على فلان فليحضر ومعه وثيقتة، فإذا حضروا فعرفهم فقرة، وإن رجلاً أقرضه شيئاً ليصالحوه على بعض ديونهم. ففعل ذلك، وأشهد عليهم بالقبض، وحمل تلك التحف إلى بيت الطحان، وعاد الطحان فظن أن ابن يوسف قد نسيه، فأحضره وسأل عن سبب قدومه فأخبره الوثائق، وأعطاه مائة دينار.


قال المصنف رحمه الله: قرأت بخط أبي الوفاء بن عقيل قال: كان أبو منصور بن يوسف عين زمنا، وكان قد انتقد أهل زمانه فاستعمل كل واحد منهم فيما يصلح لهم، فاستعمل للحجر والباعة أفره من وجد من الأحداث الأقوياء الشطار، فما قهر على رأي ولا كسر له غرض في بيع، واستعمل في إقامة الديانة الحنابلة مشايخ أفراد زهاد منتزهين عن معاشرة السلاطين ومكاثرة أبناء الدنيا يقصدون ولا يقصدون، العوام تعظمهم وتحبهم، والسلاطين توقرهم، وأخذ بالعطاء والكفاية أصحاب عبد الصمد، وهم أئمة المساجد والزهاد، واستعبد القصاص والوعاظ، وأكرم بني هاشم الأشراف بالعطاء الجزيل، ثم عطف على الشحن والعمداء والعرب والتركمان فأرغبهم باللطائف والهدايا، فصار في الحشمة والمحبة الذي لا يناله أحد، فاحتاج إلى جاهه الخلفاء والملوك، وما يسمع منه كلمة تدل على فعل فعله، ولا إنعام أسداه، ولا منة على أحد، وصمد لحوائج الناس، وكان يعظم من يقصده في حاجة أكثر من تعظيمة من يقصده في غير حاجة.
وتولى ابن يوسف المارستان وهو لا يوجد فيه دواء ولا طبيب، والمرضى ينامون على بواري النقض، فطبقه بخمسة وعشرين ألف طابق، ورتب فيه ثمانية وعشرين طبيباً، وثلاثة خزان، واتباع له أملاكاً نفسية وكان مقدماً عند السلاطين.
ولقد ماتت ابنته وكانت زوجة أبي عبد الله بن جردة، فتبعها الأكابر والقضاة، ومشوا بعض الطريق، وجاءت صلف القهرمانة بطعام وشراب من عند الخليفة.
وتوفي ابن يوسف في داره بباب المراتب يوم الثلاثاء، ودفن يوم الاربعاء لأربع عشرة من محرم هذه السنة بقبر أحمد، وأبيه وجده لأمه أبي الحسين بن السوسنجردي، وغسله القاضي أبو الحسين بن المهتدي، وصلى عليه ابنه أبو محمد الحسن داخل المقصورة، وتبعه مائة ألف رجل سوى النساء، وعطلت أسواق بغداد.
قال محمد بن الفضل الهمذاني: حدثني رجل من أهل النهروان أن ابن يوسف كان يعطيه كل سنة عشرة دنانير، فأتى بعد وفاته إلى ابن رضوان فأذكره بها، فأعرض عنه، فألح عليه، فقال له: اطلب من الذي كان يعطيك. فمضى إلى قبر ابن يوسف وجلس عنده يترحم عليه ويقرأ القرآن، فوجد عنده قرطاساً فيه عشرة دنانير فأخذه، وجاء إلى ابن رضوان فعرفه الحال، فتعجب وتفكر، فذكر أنه زار القبر وفي صحبته كواغد فيها دنانير قد أعدها للصداقة فسقط أحدها، فقال ابن رضوان: خذه ولن أقطعك إياه كل سنة ما دمت حياً.
ومن العجائب: ما ذكره هبة الله بن المبارك السقطي قال: توفي الأجل أبو منصور بن يوسف فورث عنه ابناه ثلاثين ألف دينار، فتزوجا بابنتي علي بن جردة، وقد ورثتا عن أبيهما ثلاثين ألف دينار عقاراً وعينا فانفق الجماعة ذلك في أيسر زمان، حتى ظل قوم منهم يتكففون الناس.، أبو جعفر الطوسي.
فقيه الشيعة، توفي بمشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
ثم دخلت
سنة احدى وستين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها


أن الرغبات في الوزارة زادت،فطلبها من لا يصلح،واستقر أمر ابن عبد الرحيم، فكتب العوام الرقاع وألصقوها في الجامع باللعن لمن يسعى في هذا، لأن ابن عبد الرحيم كان مع البساسيري نهب الحرم، وقالت خاتون للخليفة: هذا الرجل من جملة من نهبني، وكان ابن جهير يواصل السؤال في العفو عن نفسه، وتكلمت القهرمانة في حقه، وبذل عنه خمسة عشر ألف دينار، فوقعت الإجابة، وأعفي من المال، وبعث حاحب الباب أبو عبد الله المردوسي ومعه خادمان لاستدعائه، فأقبل إلى بغداد في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر، وفرج الناس بمجيئه حتى صام بعضهم وتصدق آخرون، وصعد الخليفة إلى المنظرة التي على الحلبة لمشاهدته، فلما نزل إلى باب النوبي نزل تحتها وقبّل ودعا، ثم ركب والعوام حوله، فلما وصل إلى باب النوبي نزل فقبّل العتبة، ثم دخل إلى الديوان، وانتهى حضوره فخرج في التوقيع: وقف على ما انهيته وحصولك واستقرارك بمقر عز خدمتك من الديوان، مشمولاً بعز خدمتك الخدمة الشريفة، قد أكمل الله لك بيمن بركتها كل بغية، وأعادك إلى أفضل ما عهدته، وليس فيما جرى بقادح في موضعك فأكثر حمد الله على ما أولاك، ثم حمع الناس إلى بيت النوبة في يوم الأربعاء ثالث ربيع الأول، وجلس الخليفة في التاج على دجلة وأوصل الوزير إلى حضرته فقال للوزير: الحمد لله جامع الشمل بعد شتاته، وواصل الحبل بعد بتاته، ثم خلع عليهم وركبوا في يوم الجمعة سادس ربيع الأول إلى جامع المدنية في موكب كبير، والناس يضجون بالدعاء والسرور به، ومدحه ابن الفضل فقال:
قد رجع الحق إلى نصابه ... وأنت من دون الورى أولى به
ما كانت إلا السيف سلته يد ... ثم أعادته إلى قرابه
هزّته حتى إذا رأته صارماً ... رؤيته تغنيك عن ضرابه
أكرم بها وزارة ما سلمت ... ما استودعت إلا إلى أربابه
مشوقة إليك مذ فارقتها ... شوق أخي الشيب إلى شبابه
حاولها قوم ومن هذا الذي ... يخرج ليثاً حادراً من غابه
يدمى أبو الأشبال من زاحمه ... في خيسه بظفره ونابه
إن الهلال يرتجى طلوعه ... بعد السرار ليلة احتجابه
والشمس لا يوءس من طوعها ... وعن طواها الليل في جلبابه
ما أطيب الأوطان إلا أنها ... أحلى عليه أثر اغترابه
لو قرب الدر على جالبه ... ما لجج الغائص في طلابه
ولو أقام لازماً أصدافه ... لم تكن التيجان في حسابه
ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه ... الا وراء الهول من عبابه
طوراً صدوداً مرة ... ولذة الوامق في عتابه
ذل لفخر الدولة الصعب الذرى ... وعلم الإمام من آدابه
وفي ربيع الآخر: جرت فتنة لأجل أبي الوفاء بن عقيل، وكان أصحابنا قد نقموا عليه تردده إلى أبي علي بن الوليد لأجل أشياء كان يقولها وكان في ابن عقيل فيه فطنه وذكاء، فأحب الاطلاع على كل مذهب يقصد ابن الوليد، وقرأ عليه شيئاً من الكلام في الكلام في السر، وكان ربما تأوّل بعض أخبار الصفات، فإذا أنكر عليه ذلك حاول عنه، واتفق أنه مرض فأعطى رجلاً ممن كان يلوذ به يقال له: معالي الحائك بعض كتبه، وقال له: إن مت فأحرقها بعدي فأطّلع عليها ذلك الرجل، فرأى فيها ما يدل على تعظيم المعتزلة والرحم على الحلاج، وكان قد صنف في مدح الحلاج جزءاً في زمان شبابه، وذلك الجزء عندي بخطه، تأول فيه أقوال وأفعاله وفسر أسراره، واعتذر له، فمض ذلك الحائك فأطلع على ذلك الشريف أبا جعفر وغيره، فاشتد ذلك له، على أصحابنا، وراموا الإيقاع به، فاختفى ثم التجأ إلى باب المراتب، ولم يزل في الأمر يختبط إلى أن آل الصلاح في سنة خمسين وستين.
وفي جمادى الأولى: بلغت زيادة دجلة إحدى وعشرين ذراعاً وثلثين وبلغ إلى الثريا وفجرت بثقاً فوق دار الغربة، ودخل الماء إلى مشهد النذور، ومشهد المالكية والسبتي وتلوفي وسدّ.


وفي عشية يوم الأربعاء رابع رجب: ولد للأمير عدة الدين بن أبي القاسم مولودكني: أبا الفضل، وسمي أحمد، وجلس الوزير فخر الدولة من غد للهناء به بباب الفرودس، وابتدأ العوام بتعليق الأسواق، ونصب القباب، وتوفي وقت الظهر وحمل سراً إلى الترب بالرصافة، فحط ما علق.
وورد من بلاد الروممن أخبر أن الأمير الأفشين التركي ومن معه من الغزاة خربوا بلاد الروم، وبلغوا إلى عمورية، واتفق أن ملك الروم قبض على بطريق كبير من بطارقته، وهرب أخوة عند علمه بذلك، فصادف الأفشين في طريقه فعرفه ما لحق أخاه من الملك، ووعده أن يحتال على عمورية، وبين يديه الصلبان، وراسل من فيها بأن الملك أنفذني إليكم لأعاونكم وأشد منكم لأجل هؤلاء الغزاة العائثين في أعمالكم، فخرجوا فتلقوه ومشوا بين يديه، فحين ملك البطريق ومن معه البلد لحقه الأفشين، فدخل البلد فنهبه وقتل وسبى، وأخذ من الأموال شيئاً عظيماً وأسرى إلى قريب من بحيرة قسطنطينية فارغاً على خير بلاد الروم هناك وأخذ منه نحو ستة آلاف أسير، وعاد إلى أنطاكية فحصرها فتقرر عليها عشرين ألف دينار أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ، أخبرنا أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون النرسي قال: بيع السمك النيّىء عندنا بالكوفة - يعني في هذه السنة - في حدود أربعين رطلاً؛ بحبة ذهب وما رأينا بالكوفة هكذا ولا حدثنا.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن الحسن بن الفضل، أبو الحسن ابن الكاتب من ساكني الحريم الطاهري، ولد سنة ست وسبعين وثلثمائة، وسمع ابني بشران أبا الحسين وأبا القاسم، وغيرهما، وكان صالحاً ثقة...ز وتوفي في ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر، ودفن يوم السبت بباب حرب.
أحمد بن أبي حنيفة السوسنجردي. حدّث عن أبي الحسين السوسنجردي.
وتوفي يوم الخميس خامس عشر ربيع الأول ودفن بباب حرب.
عبد الباقي بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، صهر عبد الله البزار المعدل ولد إحدى وثمانين وثلثمائة، وحدّث عن أبي الحسن بن الصلت، وتوفي في صفر، وقيل: في محرم سنة إحدى وستين، وكان ثقة.
ثم دخلت سن اثنتين وستين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه كان ثلاث ساعات من يوم الثلاثاء الحادي عشر من جمادى الأولى وهو الثامن آذار زلزلة عظيمة بالرملة وأعمالها، فذهب أكثرها وانهدم سورها، وعم ذلك ببيت المقدس وتنس، وانخسفت أيلة كلها، وانجفل البحر في وقت الزلزلة حتى انكشفت أرضه، ومشى الناس فيه، ثم عاد إلى حاله. وتغيرت إحدى زوايا الجامع بمصر، وتبع هذه الزلزلة في ساعتها زلزلتان.
وتوجه ملك الروم من قسطنطينية إلى الشام في ثلثمائة ألف، ونزل على منبج ستة عشر يوماً، وسار إليه المسلون، فانهزم المسلمون وقتل جماعة منهم، وأحرق ما بين بلد الروم ومنبج من الضياع والقرى، وقتل رجالهم، وسبى نساءهم، وخاف أهل حلب خوفاً شديداً، ثم انقطعت الميرة عن الملك الروم فهلك من معه جوعاً فرجع.
وفي هذه السنة: فسدت أحوال ملك مصر وقوتل، فاحتاج فبعث فأخذ ما في مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وضاقت يد أبي هاشم أمر مكة لا نقطاع ما كان يصله من مصر وغيرهما، فعمد إلى ثياب الكعبة فقطع الذهب الذي فيها وسبكه، وإلى قبلتها وميزابها وحلق بابها، فكسره وضربه دنانير ودراهم، ثم عدل إلى مصادارات أهل مكة حتى رحلوا عنها، وكذلك صنع أمير المدنية، فأخذ قناديل وآلات فضة كانت هناك فسكبها.
وفي يوم الثنين السادس والعشرين من جمادى الآخرة: حمع الأمير العميد أبو نصر الوجوه فأحضر أبا القاسم بن الوزير فخر الدولة، والنقيبين، والأشراف، وقاضي القضاة، والشهود إلى المدرسة النظامية وقرئت كتب وقفتها، ووقف كتب فيها ووقف ضياع وأملاك وسوق أبنت عليها، وعلى بابها عليه وعلى أولاد نظام الملك على شروط شرطت فيها.
وفي شهر رجب: وصل رسول السلطان للخدمة والدعاء وأجيب بما أشرف به وأضحت توقيعاً بإقطاع مبلغ ارتفاعه سبعة آلاف دينار كل سنة من واسط والبصرة.


وفي ذي القعدة: ورد من مصر والشام عدد كثير من رجال ونساء هاربين من الجرف والغلاء، وأخبروا أن مصر لم يبق بها كبير أحد من الجوع والموت، وأن الناس أكل بعضهم بعضاً، وظهر على رجل قد ذبح عدة من الصبيان والنساء وطبخ لحومهم وباعها، وحفر حفيرة دفن فيها رؤوسهم وأطرافهم، فقتل، وأكلت البهائم فلم يبق إلا ثلاثة أفراس لصاحب مصر بعد ألوف من الكراع، وماتت الفيلة، وبيع الكلب بخمسة دنانير، وأوقية زيت بقيراط، واللوز والسكر بوزن الدراهم، والبيضة بعشرة قراريط، والراوية الماء بدينار لغسل الثياب...
وخرج وزير صاحب مصر إلى السلطان، فنزل عن بغلته وما معه إلا غلام واحد لعدم ما يطعم الغلمان، فدخل وشغل الركابي عن البغلة لضعف قوته، فأخذها ثلاثة أنفس ومضوا بها، فذبحوها وأكلوها فأنهى ذلك إلى صاحب مصر، فتقدم بقتلهم وصلبهم فصلبوا، فلما كان من الغد وجدت عظامهم مرمية تحت خشبهم وقد أكلهم الناس، وكانت البادية تجلب الطعام، فتبيع الحمل بثلاثمائة دينار خارج، ولا يتجاسرون أن يدخلوا البلد، ومن اشترى منه فربما نهبه الناس منه، وبيع من ثياب صاحب مصر وآلاته ما اشترى منه في دار الخلافة، فوجدت فيه أشياء كانت نهبت عند القبض على مصر أحد عشر ألف درع، وتجفاف، وعشرون ألف سيف محلى، وثمانون ألف قطعة بلور كبار، وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج القديم، وبيعت ثياب النساء، وسجف المهود، وبيع من هذا الجنس وحده نحو ثمانين ألف قطعة، وبيع نحو خمس مسبعين ألف قطعة من الثياب الديباج، وبيعت عشر حبات وزنها عشرة مثاقيل بأربعمائة دينار، وباع رجل داراً بمصر كان ابتاعها بتسعمائة دينار بسبعين دينارأ، فاشترى بها دون الكارة من الدقيق..
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن محمد بن سياووش الكازروني. سمع أبا أحمد الفرضي، وهلالاً الحفار، وأبا عبد الله بن دوست، وغيرهم، وكان مكثراً ثقة صاالحاً من هذه السنة، صحيح السماع، حدثنا عنه أبو عبد الله بن السلال وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن قريباً من رباط عتاب بالجانب الغربي.
أحمد بن الحسن، اللحياني الصفار توفي في رجب وكان يقرىء القرآن أحمد بن علي، الأسد آباذي أبو منصور حدّث عن الصيدلاني وغيره. روى عنه أبو الفضل بن خيرون، وأطلق عليه الكذب الصريح واختلاق الشيوخ الذين لم يكونوا وادعى ما لم يسمع.
الحسن بن علي بن محمد بن باري، أبو الجوائز الكاتب الواسطي ولد سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، سكن بغداد دهراً طويلاً، وكان أديباً شاعراً مليح الشعر.
أخبرنا أبو محمد بن عبد الباقي قال: أنشدنا أبو الجوائز الحسن بن علي بن باري الواسطي لنفسه:
واحربا من قولها ... خان عهودي ولها
وحق من صيرني ... وقفاًعليها ولها
ما خطرت بخاطري ... الا كستني ولها
عبد الله بن عبد العزيز بن باكويه: روى الحديث وتوفي في باب حرب..
محمد بن أحمد بن سهل، أبو غالب بن بشران النحوي الواسطي، ابن الخالة ولد سنة ثلاثين وثلثمائة وكان عالماً بالأدب وانتهت اليه الرحلة في اللغة سمع أبا الحسين علي بن محمد بن عبد الرحيم، وأبا القاسم علي بن طلحة، وأبا عبد الله الحسين بن الحسن العلةي في آخرين، حدّث عنه أبو عبد الله الحميدي وغيره، وله من الشعر المستحسن.
أخبرنا محمد بن ناصر قال: أنشدنا أبو عبد الله الحميدي قال: أنشدني أبو غالب بن بشران لنفسه:
يا شائداً للقصور كهلاً ... أقصر فقصر الفتى الممات
لم يجتمع شمل أهل قصر ... إلا وقصراهم الشتات
وإنما العيش مثل ظل ... منتقل ماله ثيات
قال: وأنشدني لنفسه:
سيان إن لاموا وإن غدوا ... مالي عن الأحباب مصطير
إن واصلوا شكروا، وإن هجروا ... عذروا، وما اجترموه مغتفر
لا غرو إن أغرى بحبهم ... إذ ليس لي في غيرهم وطر
فليفعلوا ما حاولوا فهم ... مني بحيث السمع والبصر
لا بد لي منهم وإن تركوا ... قلبي بنار الهجر يستعر
وعلي أن أرضى بما اصنطعوا ... وأطيعهم في كل ما أمروا


قال: وانشدني لنفسه:
ولما أثاروا العيس بالبين بينت ... غرامي لمن حولي دموع وأنفاس
فقلت لهم لا بأس بي فتعجبوا ... وقالوا الذي أبديته كله أس
تعوض بانس الصبر من وحشة الاسى ... فقد فارق الاحباب من قبلك الناس
قال: وأنشدني لنفسه:
ودعتهم ولي الدنيا مودعة ... ورحت مالي سوى ذكراهم وطر
وقلت يا لذتي بيني لبينهم ... فإن صفو حياتي بعدهم كدر
لولا تعلل قلبي بالرجاء لهم ... ألفيته إذ حدوا بالعيس ينفطر
يا ليت عيسهم ويوم النوى نحرت ... أوليتها للضواري بالفلا جزر
يا ساعة البين أنت الساعة اقتربت ... يا لوعة البين أنت النار تستعر
قال: وأنشدني لنفسه:
طلبت صديقاً في البرية كلها ... فأعيا طلابي أن أصيب صديقا
بلى من تسمى بالصديق مجازة ... ولم يك في معنى الوداد صدوقا
فطلقت ود العالمين صريمة ... وأصبحت من أسر الحفاظ طليقا
توفي ابن بشران في منتصف رجب هذه السنة.
محمد بن الحين بن عبد الله بن أحمد بن الحسن، ابن أبي علانة ولد في سنة ثمانين وثلثمائة، وحدّث عن أبي طاهر المخلص، روى عنه أبو بكر الخطيب، وكان سماعه صحيحاً.
وتوفي فجأة يوم الخمس العشرين في شعبان من هذه السنة ودفن يوم الجمعة عند قبر معروف الكرخي.
ثم دخلت
سنة ثلاث وستين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه ورد على السلطان خبر ملك الروم في جمعه العساكر الكثيرة ومسيره نحو البلاد الإسلامية، وكان السلطان في فل من العسكر، لأنهم عادوا من الشام جافلين إلى خراسان للغلاء الذي استنفد أموالهم، فطلبوا مراكزهم راجعين، وبقي السلطان في نحو أربعة آلاف غلام، ولم يرمع ذاك أن يرجع إلى بلاده، ولم يجمع عساكره فيكون هزيمة على الإسلام، وأحب الغزاة والصبر فيها، فأنفذ خاتون السفرية ونظام الملك والأثقال إلى همذان، وتقدم إليه بجمع العساكر وإنفاذها إليه، وقال له ولوجوه عسكره: أنا صابر في هذه الغزاة صبر المحتسبين وصائر إليها مصير المخاطرين، فإن سلمت فذاك ظني في الله تعالى، وإن تكن الأخرى فأنا أعهد إليكم وأشهد الله عليكم أ، تسمعوا لولدي ملك شاه وتطيعوه، وتقيموه مقامي، وتملكوه عليكم، فقد وقفت هذا الأمر عليه، ورددته إليه.
فأجوبوه بالدعاء والسمع والطاعة، وكان من فعل نظام الملك وترتبيه ورأيه، وأبقى السلطان مع القطعة من العسكر المذكورة جريدة، ومع غلام فرس يركبه وفرس يجنبه، وسار قاصداً لملك الروم وأنفذ أحد الحجاب في جماعة من الغلمان مقدمة له، فصادف عند خلاط صليباً تحته عشرة آلاف من الروم فحاربهم فنصر عليهم، وأخذ الصليب، وهربوا بعد أن أثخنوا قتلا وجراحاً، وحمل مقدمهم إلى السلطان فأمر بجدع أنفه، وأنفذ الصليب وكان خشباً وعليه فضة وإقطاع من الفيروزج، وإنجيلاً كان معه في سفط من فضة إلى همذان، وكتب معه إلى نظام الملك بالفتح، وأمر أن يحمل إلى حضرة الخلافة...
ووصل ملك الروم فالتقيا بموضع يقال له الرهوة في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وكثر عسكر الروم وجملة من كان السلطان يقاربون عشرين ألفا، وأما ملك الروم فإنه كان معه خمسة وثلاثون ألفا من الإفرنج وخمسة وثلاثون ألفا مائتين بطريق، ومتقدم مع كل رجل منهم بين ألفي فارس إلى خمسمائة، وكان معه خمسة عشر ألفاً من الغز الذين من وراء القسطنطينية، ومائة ألف روزجاري، وأربعمائة عجلة تجرها ثمانمائة جاموسة عليها نعال ومسامير للدواب، وألف عجلة عليها السلاح والسروج والعرادات والمجانيق، ومنها يمده ألف رجل نقّاب وحفّار، ومائة ألف رجل ومائتا رجل.
فراسل السلطان ملك الروم بأن يعود إلى بلاده وأعود أنا، وتتم الهدنة بيننا التي توسطنا فيها الخليفة، وكان ملك الروم قد بعث رسوله يسأل الخليفة أن يتقدم إلى السلطان بالصلح والهدنة، فعاد جواب ملك الروم بأني قد أنفقت الأموال الكثيرة، وجمعت العساكر الكثيرة للوصول إلى مثل هذه الحالة، فإذا ظفرت بها فكيف أتركها، هيهات لا هدنة إلا بالري، ولا رجوع إلا بعد أن أفعل ببلاد الإسلام مثل ما فعل ببلاد الروم.


فلما كان وقت الصلاة من يوم الجمعة صلى السلطان، ودعا الله تعالى وابتهل وبكى وتضرع وقال لهم: نحن مع القوم تحت الناقص، وأريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة التي يدعى فيها لنا والمسلمين على المنابر، فإما أن أبلغ الغرض، وإما أن أمضي شهيداً إلى الجنة، فمن أحب أن يتبعني منكم فليتبعني، ومن أحب أن ينصرف فليمض مصاحباً عني، فما ها هنا سلطان يأمر، ولا عسكر يؤمر، فإنما أنا اليوم واحد منكم، وغاز معكم، فمن تبعني ووهب نفسه لله تعالى فله الجنة والغنيمة، ومن مضى حقت عليه النار والفضحية.
فقالوا له: أيها السلطان، نحن عبيدك، ومهما فعلته تبعناك فيه وأعنّاك عليه، فافعل ما تريد.
فرمى القوس والنشاب، ولبس السلاح، وأخذ الدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده وركبها، ففعلوا مثله، وزحف إلى الروم، وصاح وصاحوا، وحمل عليهم وثار الغبار، واقتتلوا ساعة أجلت الحال فيها عن هزيمة الكفار، فقتلوا يومهم وليلتهم القتل الذريع، ونهبوا وسبوا النهب والسبي العظيم.
ثم عاد السلطان إلى موضعه، فدخل عليه الكهراي الخادم فقال: يا سلطان، أحد غلماني قد ذكر أن ملك الروم في أسره، وهذا الغلام عرض على نظام الملك في جملة العسكر فاحتقره وأسقطه، فخوطب في أمره فأبى أن يثبته، وقال مستهزئاً لعله أن يجيئنا بملك الروم أسيراً، فأجرى الله تعالى أسر ملك الروم على يده. واستبعد السلطان ذلك، واستحضر غلاماً يسمى: شاذي كان مضى دفعات مع الرسل إلى ملك الروم، فأمره بمشاهدته وتحقيق أمره، فمضى فرآه ثم عاد فقال: هوهو. فتقدم بضرب خيمة له، ونقله إليها وتقييده وغل يده إلى عنقه، وأن يوكل به مائة غلام، وخلع على الذي أسره وحجبه، وأعطاه ما اقترحه، واستشرحه الحال فقال: قصدته وما أعرفه وحوله عشرة صبيان من الخدم، فقال لي أحدهم: لا تقتله فإنه الملك فأسرته وحملته.
فتقدم السلطان بإحضاره فأحضر بين ثلاث مقارع أو أربعاً، ورفسه مثلها فقال له: ألم آذن لرسل الخليفة في قصدك وإمضاء الهدنة معك وإجابتك في ذلك إلى ملتمسك، ألم أرسلك الآن وأبذل لك الرجوع عنك فأبيت إلا ما يشبهك، وأي شيء حملك على البغي؟ فقال: قد جمعت أيها السلطان واستكثرت واستظهرت، وكان النصر لك، فافعل ما تريد ودعني من التوبيخ.
قال: فلو وقعت معك ماذا كنت تفعل بي. قال: القبيح. قال: صدق والله، ولو قال غير ذلك لكذب، وهذا رجل عاقل جلد لا ينبغي أن يقتل.
قال: وما تظن الآن أن يفعل بك. قال: أحد ثلاثة أقسام: الأولى قتلي. والثاني: إشهاري في بلادك التي تحدثت بقصدها وأخذها، والثالث: لا فائدة في ذكره فإنك لا تفعله. قال فاذكره. قال: العفو عني وقبول الأموال والفدية مني، واصطناعي وردي إلى ملكي مملوكاً لك نائباً في ملك الروم عنك.
فقال: ما اعتزمت فيك إلا هذا الذي وقع يأسك منه، وبعد ظنك عنه، فهات الأموال التي تفك رقبتك. فقال يقول السلطان ما شاء، فقال: أريد عشرة آلاف ألف دينار. فقال: والله إنك تستحق مني ملك الروم إذا وهبت لي نفسي، ولكني قد أنفقت واستهاكت من أموال الروم أحد عشر ألف ألف دينار، منذ وليت عليهم في تجديد العساكر والحروب التي بليت بها إلى يومي هذا، فأفقرتهم بذلك، ولولا هذا ما استكثرت شيئاً تقترخه.
فلم يزل الخطاب يتردد إلى أن استقر الأمر على ألف ألف وخمسمائة ألف دينار، وفي الهدنة على ثلاثمائة ألف وستين ألف في كل سنة، وإطلاق كل أسير في الروم، وحمل ألطاف وتحف مضافة إلى ذلك، وأن يحمل من عساكر الروم المزاحة فقال له: إذا كنت قد عليّ فعجّل تسريحي قبل أن تنصّب الروم ملكاً غيري، ولا يمكنني أن أقرب منهم، ولا أفي بشيء مما بذلته.
فقال السلطان: أريد أن تعيد أنطاكية، والرها، ومنبج، فإنها أخذت من المسلمين عن قرب، وتطلق أسارى المسلمين. فقال: إذا رجعت إلى ملكي سوف أريك ما أفعل فأنفذ إلى كل موضع منها عسكراً وحاصره، لا توصل إلى تسليمها، فأما أن أبتدىء بذلك فلا يقبل مني، وأما الأسارى فأنا أسرحهم وأفعل الجميل معهم.
فتقدم السلطان يفك قيده وغله، ثم قال: أعطوه قدحاً ليسقينيه، فأعطي فظن أنه له فأراد أن فمنع منه، وأمر أن يخدم السلطان، ويتقدم إليه ويناوله إياه، وأومأ إلى الأرض إيماء قليلاً على عادة الروم، وتقدم إليه فأخذ السلطان القدح، وجز شعره، فجعل وجهه على الأرض وقال: إذا خدمت الملوك فافعل هكذا.


وكان لذلك سبب اقتضاه وهو أن السلطان قال بالري: ها أنا أمضي إلى قتال ملك الروم وآخذه أسيراً، وأقيمه على رأسي ساقياً.
وانصرف ملك الروم إلى خيمته، فاقترض عشرة آلاف دينار فأصلح منها شأنه، وفرّق في الحواشي والأتباع والموكلين به، واشترى جماعة من بطارقته واستوهب. فلما كان من الغد أحضره وقد ضرب له سريره وكرسيه اللذان أخذا منه، فأجلسه عليهما، . وخلع قباءه وقلنسوته فألبسه إياهما وقال له: إني قد اصطنعتك وقنعت بقولك، وأنا أسيّرك إلى بلادك، وأردّك إلى ملكت.
فقبّل الأرض، أليس ينفذ إليك خليفة الله تعالى في أرضه رسولاً يحملك به ويقصد إصلاح أمرك؟ فتأمر بأن يكشف رأسه ويشد وسطه ويقبّل الأرض بين يديك، وكان بلغه أنه فعل هذا بابن المحلبان فقال ما فعلت؟ فقال: أليس الأمر على ما يقول. وبان له منه تغير فقال: يا سلطان في أي شي وفقت حتى أوفق في هذا؟ وقام وكشف رأسه، وأوما إلى الأرض وقال: هذا عوض عما فعلته برسوله فسر السلطان بذلك، وتقدم بأن عقدت له راية عليها مكتوب: " لا اله الله محمد رسول الله محمد رسول الله " فرفعها على رأسه وأنفذ حاجبين ومائة غلام يسيرون معه إلى قسطنطينية، وشيعه نحو فرسخ، فلما ودّعه أراد أن يترجل فمنعه السلطان، واعتنقا ثم افترقا.
وهذا الفتح في الإسلام كان عجباً لا نظير له، فإن القوم اجتمعوا ليزيلوا الإسلام وأهله، وكان ملك الروم قد حدثته نفسه بالميسر إلى السلطان ولوالي الري، وأقطع البطارقة البلاد الإسلامية وقال لمن أقطعه بغداد: لا تتعرض لذلك الشيخ الصالح، فإنه صديقنا - يعني الخليفة - وكانت البطارقة تقول: لا بد أن نشتو بالري ونصيف بالعراق، ونأخذ في عودنا بلاد الشام.
فلما كان الفتح ووصل الخبر إلى بغداد ضربت الدبادب والبوقات، وجمع الناس في بيت النوبة، وقرئت كتب الفتح، ولما بلغ الروم ما جرى حالوا بينه وبين الرجوع إلى بلاده، وملّكوا غيره، فأظهر الزهد ولبس الصوف، وأنفذ إلى السلطان مائتي ألف دينار وطبق ذهب عليه جواهر قيمتها تسعون ألف دينار، وحلف بالإنجيل أنه ما يقدر على غير ذلك، وقصد ملك الأرمن مستضيفاً به وكحله وبعث إلى السلطان يعلمه بذلك.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن محمد بن عبد العزيز، أبو طاهر العكبري ولد سنة تسعين وثلثمائة، وسمع الحديث مع أخيه أبي منصور النديم. وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة، وكان سماعه صحيحاً.
أحمد بن علي بن ثابت بن مهدي الخطيب، أبو بكر ولد يوم الخمس لست بقين من جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وثلثمائاة كذا رأيته بخط أبي الفضل بن خيرون، وأول ما سمع الحديث في سنة ثلاث وأربعمائة وهو احدى عشرة سنة وكان أبوه يخطب بدرب ريحان ونشأ أبو بكر ببغداد، وقرأ القرآن والقراآت، وتفقه على أبي الطيب الطبري، وأكثر من السماع من البغدايين، ورحل إلى البصرة، ثم إلى نيسابور، ثم إلى أصبهان، ودخل في طريقه همذان والجبال، ثم عاد إلى بغداد، وخرج إلى الشام، وسمع بدمشق وصور، ووصل إلى مكة، وقد حج في تلك السنة أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي فسمع منه، وقرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد المروزية، وكان قد أظهر بعض اليهود كتاباً وادعى أنه كتاباً وادعى أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خبير، وفيه شهادات الصحابة، وأن خط علي بن أبي طالب فيه، فعرضه رئيس الرؤساء ابن المسلمة على أبي بكر الخطيب، فقال: هذا مزوّر. قيل: من أين لك؟ قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخبير كانت في سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ وكان قد مات يوم أسلم يوم الخندق. فاستحسن ذلك منه، فلما جاءت نوبة البساسيري استتر الخطيب، وخرج من بغداد إلى الشام، وأقام بدمشق، ثم خرج إلى صور، ثم إلى طرابلس، ثم عاد إلى بغداد في سنة اثنتين وستين، وأقام بها سنة ثم توفي.


فروى تاريخ بغداد وسنن أبي داود وغير ذلك، وانتهى إليه علم الحديث، وصنّف فأجاد، فله ستة وخمسون مصنفاً بعيدة المثل منها: تاريخ بغداد، وشرف أصحاب الحديث، وكتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، والكفاية في معرفة أصول علم الرواية، وكتاب المتفق والمفترق، وكتاب السابق واللاحق، وتلخيص المتشابه في الرسم، وكتاب باقي التلخيص، وكتاب الفصل والوصل، والمكمل في بيان المهمل، والفقه والمتفقه، وكتاب غنية المقتبس في تمييز الملتبس، وكتاب الأسماء المبهمة والأنباء المحكمة، وكتاب الموضح أوهام الجمع والترفيق، وكتاب المؤتنف بكلمة المختلف والمؤتلف، وكتاب لهج الصواب في أن التسمية من فاتحة الكتاب، وكتاب الجهر بالبسملة، وكتاب رافع الارتياب في القلوب من الأسماء والألقاب، وكتاب القنوت، وكتاب من وافق كنيته اسم أبيه، وكتاب تمييز المزيد في متصل الأسانيد، وكتاب الرحلة، وكتاب الرواة عن مالك، وكتاب الاحتجاج عن الشافعي فيما أسند إليه والرّد على الطاعنين بجهلم عليه، وكتاب التفصيل لمبهم المراسيل، وكتاب اقتفاء العلم بالعمل، وكتاب تقييد العلم، وكتاب القول في علم النجوم، وكتاب روايات الصحابة عن التابعين، وكتاب صلاة التسبيح، وكتاب مسند نعيم بن حماد، وكتاب النهي عن صوم يوم الشك، وكتاب الإجازة للمعدوم والمجهول، وكتاب روايات السنة من التابعين، وكتاب البخلاء.
فهذا الذي ظهر لنا من مصنفاته، ومن نظر فيها عرف قدر الرجل وما هيئ له مما لم وقد روي لنا عن أبي الحسين بن الطيوري أنه قال: أكثر كتب الخطيب متفادة من كتب الصوري، ابتدأ بهما.
قال: المصنف: وقد يضع الإنسان طريقاً فتسلك، وما قصر الخطيب على كل حال، وكان حريصاً على علم الحديث، وكان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه، وكان حسن القراءة، فصيح اللهجة، عارفاً بالأدب، يقول الشعر الحسن.
أنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن إبراهيم الصائغ قال: أنبأنا أبو بكر الخطيب أنه قال لنفسه:
لعمرك ما شجاني رسم دار ... وقفت به ولا ذكر المغاني
ولا أثر الخيام أراق دمعي ... لأجل تذكري عهد الغواني
ولا ملك الهوى يوماً قيادي ... ولا عاصيته فثنى عناني
عرفت فعاله بذوي التصابي ... وما يلقون من ذل الهوان
فلم أطعمه في وكم قتيل ... له في الناس ما يحصى وعان
طلبت أخاً صحيح الود محضاً ... سليم الغيب مأمون اللسان
فلم أعرف من الإخوان إلا ... نفاقاً في التباعد والتداني
وعالم دهرنا لا خير فيه ... ترى صوراً تروق بلا معاني
ووصف جميعهم هذا فما أن ... أقول سوى فلان أو فلان
ولما لم أجد حراً يؤاتي ... على ما ناب من صرف الزمان
صبرت تكرماً لفراغ دهري ... ولم أجزع لما منه دهاني
ولم أك في الشدائد مستكيناً ... أقول لها ألا كفي كفاني
ولكني صليب العود عود ... ربيط الجأش مجتمع الجنان
أبيّ النفس لا أختار رزقاً ... يجيء بغير سيفي أو سناني
لعز في لظى باغيه يشوى ... ألذ من المذلة في الجنان
ومن طلب المعالي وابتغاها ... أدار لها رحى الحرب العوان
قال المصنف رحمه الله: هذه الأبيات نقلتها من خط أبي بكر قالها لنفسه، وله أشعار كثيرة، وكان أبو بكر الخطيب قديماً على مذهب أحمد بن حنبل، فماله عليه أصحابنا لما رأوا من ميله إلى المبتدعة وآذوه، فانتقل إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه وتعصب في تصانيفه عليهم فرمز إلى ذمهم، وصرّح بقدر ما أمكنه، فقال في ترجمة أحمد بن حنبل سيد المحدثين، وفي ترجمة الشافعي: تاج الفقهاء، فلم يذكر أحمد بالفقه.
وحكى في ترجمة حسين الكرابيسي أنه قال عن أحمد: أيش نعمل بهذا الصبي إن قلنا لفظنا بالقرآن مخلوق؛ قال: بدعة وإن قلنا غير مخلوق؛ قال: بدعة، ثم التفت إلى أصحاب أحمد فقدح فيهم بما أمكن.


وله دسائس في ذمهم عجيبة من ذلك: أنه ذكر مهنأ بن يحيى وكان من كبار أصحاب أحمد، وذكر عن الدارقطني أنه قال: مهنأ ثقة نبيل، وحكى بعد ذلك عن أبي الفتح الأزدي أنه قال: مهنأ منكر الحديث، وهو يعلم أن الأرذيمطعون فيه فيه عند الكل..
قال الخطيب: حدثني أبو النجيب عبد الغفار بن عبد الواحد الأموري قال: رأيت أهل الموصل يهينون أبا الفتح الأزدي ولا يعدونه شيئاً.
قال الخطيب: حدثني محمد بن صدقة الموصلي: أن أبا الفتح قدم بغداد على ابن بويه، فوضع له حديثاً: أن جبريل عليه سلام كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في صورنا، فأعطاه دراهم أفلا يستحي الخطيب أن يقابل قول الدارقطني في مهنأ بقول هذا، ثم لا يتكلم عليه هذا ينبىء عن عصبية وقلة دين.
قال الخطيب على أبي الحسن التميمي بقول أبي القاسم عبد الواحد بن علي الأسدي وهو ابن برهان، وكان الأسدي معتزلياً، وقد انتصرت للتميمي من الخطيب في ترجمته قال الخطيب على أبي عبد الله بن بطة بعد أن ذكر عن القاضي أبي حامد الدلوي والعتيقي: إنه كان صالحاً مستجاب الدعوة، ثم عاد يحكي عن أبي ذر الهروي وهو أول من أدخل الحرم مذهب الأشعري القدح في ابن بطة، ويحكي عن أبي القاسم بن برهان القدح فيه، وقد انتصرت لابن بطة من الخطيب في ترجمة، ومال الخطيب على أبي علي بن المذهب بما لا يقدح عند الفقهاء، وإنما يقدح ما ذكره في قلة فهمه، وقد ذكرت ذلك في ترجمة ابن المذهب.
وكان في الخطيب شيئان أحدهما: الجري على عادة عوام المحدثين في الجرح والتعديل، فإنهم يجرحون بما ليس يجرح، وذلك لقلة فهمهم، والثاني: التعصب على مذهب أحمد يجرحون بما ليس يجرح، وذلك لقلة فهمهم، والثاني: التعصب على مذهب أحمد وأصحابه، وقد ذكر في ذكر في كتاب الجهر أحاديث نعلم أنها لا تصح، وفي كتاب القنوت أيضاً، وذكر في مسألة صوم يوم الغيم حديثاً يدري أنه موضوع فاحتج به، ولم يذكر عليه شيئاً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من روى حديثاً يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين.
وقد كشفت عن جميع ذلك في كتاب التحقيق في أحاديث التعليق وتعصبه على ابن المذهب ولأهل البدع مألوف منه، وقد بان لمن قبلنا.
فأنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، عن أبيه قال: سمعت إسماعيل بن أبي الفضل القومسي وكان من أهل المعرفة بالحديث يقول: ثلاثة من الحفاظ لا أحبهم لشدة تعصبهم وقلة إنصافهم: الحاكم أبو عبد الله، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو بكر الخطيب.
قال المصنف: لقد صدق إسماعيل وقد كان من كبار الحفاظ ثقة صدوقاً، له معرفة حسنة بالرجال والمتون، غزير الديانة، سمع أبا الحسين بن المهتدي، وجابر بن ياسين، وابن النقور وغيرهم، وقال الحق، فإن الحاكم كان متشيعاً ظاهر التشيع، والآخران كانا يتعصبان للمتكلين والأشاعرة، وما يليق هذا بأصحاب الحديث، لأن الحديث جاء في ذم الكلام، وقد أكد الشافعي في هذا حتى قال: رأيي في أصحاب الكلام أن يحملوا على البغال ويطاف بهم.
وكان للخطيب شيء من المال، فكتب إلى القائم بأمر الله: إني إذا مت كان مالي لبيت المال، وإني أستأذن أن أفرقه على من شئت. فأذن له ففرقه على أصحاب الحديث، وكان مائتي دينار، ووقف كتبه على المسلمين، وسلمها إلى أبي الفضل، فكان يعزها، ثم صارت إلى ابنه الفضل فاحترقت في داره.
ووصى الخطيب أن يتصدق بجميع ما عليه من الثياب، وكان يقول: شربت ماء زمزم لثلاث: على نية أن أدخل بغداد، وأروي بها التاريخ، وأن أموت بها وأدفن إلى جنب بشر بن الحارث، وقد رزقني الله تعالى دخولها، ورواية التاريخ بها، وأنا أرجو الثالثة، وأوصى أن يدفن إلى جانب بشر.


توفي ضحوة نهار يوم الثنين سابع ذي الحجة من هذه السنة في حجرة كان يسكنها بدرب السلسلة في جوار المدرسة النظامية، وحمل جنازته أبو إسحاق الشيرازي، وعبر به على الجسر، وجازوا به في الكرخ، وحمل إلى جامع المنصور، وحضر الأماثل والفقهاء والخلق الكثير، وصلى عليه أبو الحسين بن المهتدي، ودفن إلى جانب بشر، وكان أحمد بن علي الطريثيثي قد حفر هناك قبراً لنفسه، فكان يمضي إلى ذلك الموضع ويختم فيه القرآن عدة سنين،فلما أرادوا دفن الخطيب هناك منهم، وقال: هذا قبري أنا حفرته وختمت فيه القرآن عدة دفعات ولا أمكنكم. فقال له أبو سعد الصوفي: يا شيخ لو كان بشر الحافي في الحياة ودخلت أنت والخطيب عليه أيكما كان يقعد إلى جانبه، فقال: الخطيب. فقال: كذا ينبغي أن يكون في حالة الموت. فطاب قلبه ورضي فدفن الخطيب هناك.
حسان بن سعيد ابن حسان بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن منيع بن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي المنيعي، أبو علي.
كان في شبابه يجمع بين الدهقنة والتجارة، فساد أهل ناحيته بالثروة والمروءة، ثم أعرض عن الدنيا اشتغالاً بالتقوى والورع، وسمع الحديث من جماعة وأخذ في بناء المساجد، والرباطات والقناطر، وبنى الجامع ببلده مرو الروذ، وكان السلطان يجيء إليه ويتبرك به، ووقع غلاء فكان ينصب القدور كل يوم، ويطبخ فيها، ويحضر زيادة على ألف منا من الخبر ويجمع الفقراء، ويفرق عليهم ويوصل إليهم صدقة السر بحيث لا يعلم أحد، ويتعهد المنقطعين في الزوايا، ويتخذ كل سنة للشتاء الجباب والقمص والسراويلات، فيكسو قريباً من ألف فقير، ويجهز بنات الفقراء الأيتام، ورفع الأعشار من أبواب نيسابور، والوظائف عنه غيره، ويمشي من بيته إلى المسجد، ويلبس الغليظ من الثياب، ويتمندل بإزار من صوف، ويصلي على قطعة لبد، ويقعد على التراب فأصابه مرض من شدة تعبده، فحمل إلى بلدته فتوفي في ذي القعدة من هذه السنة.
كريمة بنت أحمد بن محمد بن أبي حاتم المروزيّة من أهل كشميهن قرية من قرى مرو، وكانت عالمة صالحة، سمعت أبا الهيثم الكشميهني وغيره، وقرأ عليها الأئمة: كالخطيب، وابن المطلب، والسمعاني، وأبي طالب الزينبي، توفيت بمكة في هذه السنة.
محمد بن وشاح بن عبد الله، أبو علي، مولى أبي تمام محمد بن علي، ابن أبي الحسن الزينبي ولد سنة تسع وسبعين وثلثمائة. في جمادى الآخرة وقيل سنة ست وسبعين وكان كاتباً لنقيب النقباء الكامل، وكان أديباً شاعراً، وسمع أبا حفص بن شاهين، وأبا طاهر المخلص، وغيرهما، وحدّث عنهم، وكان يرمى بالاعتزال والرفض.
توفي في ليلة الأحد سابع عشرين رجب هذه السنة عن أربع وثمانين سنة، وقبره في مقبرة جامع المنصور.
أنبأنا محمد بن طاهر قال: أنشدنا أبو علي بن وشاح لنفسه:
حملت العصا لا الضعف أوجب حملها ... عليّ ولا أني انحنيت من الكبر
ولكنني ألزمت نفسي بحملها ... لأعلمها أني المقيم على سفر
محمد بن علي بن الحسن بن الدجاجي، أبو الغنائم القاضي سمع أبا الحسن الحربي السكوني، وأبا طاهر المخلص، وابن معروف، وغيرهم، وكان سماعه صحيحاً وهو من أهل السّنّة، حدثنا عنه، وكان له مال فافتقر في آخر عمره، فجمع له أهل الحديث شيئاّ فلم يقبل، وقال: وافضيحتنا، آخذ على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله.
وتوفي يوم الخميس سلخ شعبان، ودفن يوم الجمعة غرة رمضان بمقبرة الخيزران.
محمد بن الحسين بن حمزة، أبو يعلي الجعفري فقيه الإمامية.
ثم دخلت
سنة اربع وستين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه ركب قاضي القضاة في المحرم عائداً أبا نصر بن الصباغ.


وفي يوم الخميس حادي عشر ربيع الآخر: وصل سعد الدولة، وخرج الجماعة وقبّل عتبة باب النوبي، ونزل دار المملكة، وتردد إلى الديوان، وسأل الوصول إلى الخدمة وتسليم كتابه من يديه، وإيراد رسالة من لفظه، فأذن في ذلك يوم السبت لعشر بقين من ربيع الآخر، فوصل مع فخر الدولة أبي نصر بن جهير، وكان يؤثر دخوله وحده فلم يجب، فسلم كتاب السلطان في خريطة سوداء، ولم يمكنه مع حضور فخر الدولة المشافهة بالرسالة، فسطر في رقعة، وتعرف الخليفة خبر السلطان وسلامته عن سلامته في نفسه واستقامة الأمور لديه، ثم استأذن في إحضار ثلاثة حجّاب، فأذن لهم فدخلوا فخدموا ثم انصرفوا.
وفي ليلة الجمعة لأربع بقين من ربيع الآخر، وقت طلوع الفجر، وقت طلوع الفجر: حدثت زلزلة ارتجت لها الأرض ست مرات.
وفي جمادى الآخرة: لقي أبو سعد بن أبي عمامة مغنية قد خرجت من تركي بنهر طابق فقبض على عودها وقطع أوتاره، فعادت إلى التركي فأخبرته، فبعث التركي إليه من كبس داره وأفلت، وعبر إلى الحريم إلى ابن أبي موسى الهاشمي شاكياً ما لقي، واجتمع الحنابلة في جامع القصر من الغد فأقاموا فيه مستغيثين، وأدخلوا معهم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وأصحابه، وطلبوا قلع المواخير وتتبع المفسدات ومن يبيع النبيذ، وضرب دارهم تقع المعاملة بها عوض القراضة، فتقدم أمير المؤمنين بذلك، فهرب المفسدات، وكبست الدور، وارتفعت الأنبذة، ووعد بقلع المواخير ومكاتبة عضد الدولة برفعها، والتقدم بضرب دراهم يتعامل بها، فلم يقتنع أقوام منهم بالوعد، وأظهر أبو اسحاق الخروج من البلد فروسل برسالة سكتته.
وحكى أبو المعالي صالح بن شافع عمّن حدّثه أن الشريف أبا جعفر رأى محمد ابن الوكيل حين غرقت بغداد في سنة ست وستين، وجرى على دار الخلافة العجائب، وقد جاء ببعض الجهات إلى الترب بالرصافة أو غيرها من تلك الأماكن، وهم على غاية التخبيط، فقال له الشريف: يا محمد يا محمد، قال: لبيك يا سيدنا. قال. كتبنا وكتبتم، وجاء جوابنا قبل جوابكم يشير إلى قوله سأكتب في رفع المواخير ويريد بالجواب الغرق وما فيه.
وفي هذا الوقت غلت الأسعار، وتعذر اللحم ووقع الموتان في الحيوان، حتى إن راعياً في بعض طريق خراسان قام عند الصباح إلى غنمه ليسوقها فوجدها موتى.
ووقع سيل عظيم، وبرد كثير في طريق خراسان، وكان في المكان المسمى بباغ ثلاثة آلاف وخمسمائة جريب حنطة وشعيراً فبرد ونسفته الريح فلم يشاهد له أثر، وانقلع شجر التوت العظيم من أصله، وإحدى عشرة نخلة، وقام في ساقية من البرد إلى فخذ الإنسان، وأحضر قوم من قردلي بندقاً من الطين قد وقع مع البرد كبيضة العصفور طيب الرائحة.
وفي هذه الأيام كان ابن محسن الوكيل قد توكل على صاحب الظفر الخادم في معنى دار، فحضر ظفر عند الوزير فخر الدين، وخاصم ابن محسن، واستخف به، حتى قال: هذا يأخذ أموال الناس ويبيع الشريعة بالثمن الخسيس، ويحكم القضاة بما لا يحل، ويشهد الشهود بما لا يجوز. وكان قاضي القضاة حاضراً فغالظه وأظهر أنه لم يسمع، فأعان الوزير ابن محسن، فنهض ظفر مغضباً وقال لأصحابه: أين رأيتم ابن محسن فاقتلوه. فركب قاضي القضاة للقاء صافي الخادم، وقد قدم من عند السلطان، فخرج معه ابن محسن، فضربه أصحاب ظفر، ووقعت مقرعة في القاضي القضاة فامتعض ونزل عن البغلة، ومشى من الحلبة إلى شاطئ دجلة على ثقل بدنه، وعبر إلى داره، وراسله الوزير أن يعود إلى الوزير بصرف ظفر من الدار، والختم على داره وإصطبلاته وما يتعلق به، ونقض الدار التي جرى عليها الخصام، وضرب الغلام الذي ضرب ابن محسن على باب النوبي مائة سوط، وركب أحد الغلمان الخواص إلى قاضي القضاة فاعتذر إليه مما جرى.
وعقد للأمير عدة الدين على ابنة السلطان من خاتون السفرية، وكان القعد في دار المملكة بنيسابور، وضربت الدبادت والبوقات وامتلأت الدّار بالفيلة المزينة، والخيل المجفجفة، وجلس السلطان ألب أرسلان على سرير الملك ونظام الملك قائم بين يديه وخطب الشطبي، ووكل السلطان نظام الملك وكان وكيل عدة الدين عميد الدولة أبي نصر بن جهير، فعقد العقد، ووقع النثار.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن عثمان بن الفضل بن جعفر، أبو الفرج المخبزي


ولد في سنة ست وسبعين وثلثمائة، وحدّث عن أبي القاسم بن حبابة، وعلي بن عيسى، وتوفي ليلة الأربعاء العشرين من صفر.
بكر بن محمد بن حيدر، أبو منصور النيسابوري ولد في سنة ست وثمانين وثلثمائة، وذكر أنه من ولد عثمان بن عفان، وسمع من أبي علي بن المذهب، وكان ثقة، وتوفي بالري في محرم هذه السنة.
جابر بن ياسين بن الحسن بن محمد بن محمويه، أبو الحسن الجبائي العطار ولد يوم الثلاثاء ثامن محرم سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة، وسمع أبا حفص الكتاني وأبا طاهر المخلص، وعيسى بن علي وغيرهم، وحدّث وكان ثقة من أهل السّنّة، حدّثنا عنه جماعة من مشايخنا، وتوفي في ليلة الأحد خامس عشرين شوال، ودفن في مقبرة باب حرب قريباً من قبة السعيد.
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو الحسن الهاشمي خطيب جامع المنصور. ولد في شوال سنة أربع وثمانين، وقرأ القرآن على أبي القاسم الصيدلاني، وحدّث عن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن بكير الحافظ، وأبي الحسن بن رزقويه، وعثمان الباقلاوي وغيرهم، حدّثنا عنه مشايخنا، وقد حدّث عنه الخطيب، وكان عدلاً ثقة، شهد عند ابن ماكولا، وأبي عبد الله الدامغاني فقبلا شهادته، وكان ممن يلبس القلانس الطول التي تسميها العوام: الدنيات، وتوفي يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، وصلى عليه أبو الفوارس الزينبي النقيب في جامع المدينة، ودفن بقرب قبر بشر الحافي.
محمد بن أحمد بن شاده بن جعفر، أبو عبد الله الاصبهاني القاضي بدجيل تفقه على مذهب الشافعي رضي الله عنه، وسمع أبا عمرو بن مهدي، وغيره، روى عنه أشياخنا، وكان ثقة، توفي فجأة يوم الجمعة حادي عشر ذي القعدة من هذه السنة، وصلي عليه في جامع المدنية، وحمل إلى القرية المعروفة بواسط دجيل فدفن فيها.
محمد بن علي بن عبيد الله، أبو بكر الطحان، ابن القابلة سمع أبا الحسين بن سمعون، وتوفي يوم عيد الفطر من هذه السنة وكان رجلاً صالحاً.
ثم دخلت
سنة خمس وستين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه يوم الحادي عشر من محرم حضر أبو الوفاء ابن عقيل الديوان ومعه جماعة من الحنابلة واصطلحوا، ولم يحضر الشريف أبو جعفر الديوان يومئذ لأجل ما جرى منه فيما يتعلق بإنكار المواخير على ما سبق ذكره، فمضى ابن عقيل إلى بيت الشريف وصالحه، وكانت نسخة ما كتب به ابن عقيل خطه ونسب إلى توبته: بسم الله الرحمن الرحيم يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب المبتدعة والاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم والتكثر بأخلافهم وما كنت علقته ووجد خطي به من مذاهبهم وضلالاتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته، وإن قوماً قالوا: هو أجسام سود، وقلت: الصحيح ما سمعت من الشيخ أبي علي، وأنه قال: هو عدم، ولا يسمى جسماً ولا شيئاً أصلاً، واعتقدت أنا ذلك، وأنا تائب إلى الله تعالى منه، واعتقدت في الحلاج أنه من أهل الدين والزهد والكرامات، ونصرت ذلك في جزء عملته، وأنا تائب إلى الله تعالى منه، وأنه قتل بإجماع فقهاء عصره، وأصابوا في ذلك، وأخطأ هو، ومع ذلك فإني استغفر الله تعالى وأتوب إليه مخالطة المبتدعة والمعتزلة وغيرهم، ومكاثرتهم، والترحم عليهم، والتعظيم لهم، فإن ذلك كله حرام، ولا يحل لمسلم فعله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " ، وقد كان الشريف أبو جعفر ومن معه من الشيوخ واالأتباع ساداتي وإخواني - حرسهم الله - مصيبين في الإنكار علي لما شاهدوه بخطي في الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها، وأتحقق أني كتبت مخطئاً وغير مصيب، ومتى حفظ عليّ ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك بما يوجبه الشرع من ردع ونكال وإبعاد وغير ذلك فأشهدت الله تعالى وملائكته وأولي العلم على غير مجبر ولا مكره، وباطني وظاهري يعلم الله تعالى في ذلك سواء. قال الله تعالى: " ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام " وكتب يوم الأربعاء عاشر محرم سنة خمس وستين وأربعمائة. وشهد عليه بذلك جماعة كثيرة من الشهود.


وفي ربيع الأول وقع الإجاف بقتل السلطان ألب أرسلان محمد بن داود، فنودي من دار الخلافة في الحريم بالتوعد لمن يتفوه بذاك، ثم تزايدت الكتب من الأهواز، والري بصحته، وكان السلطان قد غزا في أول هذه السنة جيحون على جسر مده، وكان معه زيادة على مائتي ألف فارس، وعبر عسكره النهر في صفر وأتاه أصحابه بمستحفظ قلعة يعرف بيوسف الخوارزمي في سادس ربيع الأول، فحضر إليه بيد غلامين، كل واحد قد أمسك يده، فلما وصل شتمه السلطان وواقفه على أفعال قبيحة كانت منه، وتقدم بأن يضربه أربعة أوتاد، وتشد أطرافه إليها، فقال له يوسف: يا مخنث، مثلي هذه القتلة؟! فاحتد السلطان، وأخذ القوس والنشابة، وقال للغلامين: خلياه، فرماه بسهم فأخطأ، فعدا يوسف إليه، كان جالساً على سدة فنهض فنزل، فعثر ووقع على وجهه، فبرك عليه يوسف فضربه بسكين كانت معه في خاصرته، فلحقه الجند فقتلوه، وشدّت جراحة السلطان، وعاد إلى جيحون فتوفي، وكان ذلك يوم السبت عاشر ربيع الأول.
وكان لما بلغ أهل بخارى عبوره، وتقدمت سريته، اجتاحت ونهبت، واجتمع الصالحون وصاموا ودعوا عليه فهلك.
فلما مات جمع العسكر، وجلس ولده على سدة الملك، والأمراء وقيام، فقال له نظام الملك: تكلم أيها السلطان! فقال: الأكبر منكم أبي، والأوسط أخي، والأصغر ولدي، وسأفعل معكم ما لم أسبق إليه. فأمسكوا فأعاد القول فأجوبوا بالسمع والطاعة.
وتولى نظام الملك وأبو سعد المستوفي أخذ البيعة عليهم، وإطلاق الأموال لهم، وزيدوا في الجامكية ما قدره سبع مائة ألف دينار، وسار إلى مرو، فدفن بها إلىجنب قبر أبيه، وجلس الوزير فخر الدولة للعزاء بالسلطان في صحن السلام يوم الأحد الثامن من جمادى الأولى، وخرج في يوم الثلاثاء توقيع من الخليفة يتضمن الجزع على السلطان، ويذكر سعيه في مصالح المسلمين، وفتكه بالوم، وغلقت الأسواق أيام العزاء، وأقامت خاتون زوجة الخليفة العزاء والمناحة، وجلست على التراب.
ووردت كتب السلطان إلى دار الخلافة في ثامن رجب يذكر وفاة والده، ويسأل إقامة الخطبة، فأقيمت من غد على المنابر.وفي شعبان: ثارت فتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة، والقلائين، أحرق فيها، أحرق فيها من الكرخ الصاغة وقطعة من الصف، وقتل فيها خلق كثير.
ولما بلغ قاورت بك وفاة أخيه ألب أرسلان سار طالباً للري والممالك، فسبقه إليها ملك شاه، فالتقوا بقرب همذان في رابع شعبان، وكان العسكر مائلاً إلى قاورت بك، فحمل قاورت على ميمنة ملك شاه فكسرها، وحمل هؤلاء على مينته فهزموها، فالتجأ قاورت إلى بعض القرى، فجاء رجل سوادي فأخبر ملك شاه، فأخذه وكان قبل ذلك قد داراه، ووعده بالاقطاع الكثير فسطع وأبى وحارب، فجيء به ماشياً فأومأ بتقبيل الأرض، ثم قبّل يد السلطان فقال له ملك شاه: يا عم، كيف أنت من تعبك أما تستحي من هذا الفعل؟ أطرحت وصية أخيك، وأظهرت الشماتة به، وقصدت ولده، وفعلت ما لقاك الله جوابه، فقال: والله ما أردت قصدك، وإنما عسكرك واصلوا مكاتبتي.
فأنفذ إلى همذان فاعتقل هناك، فلما وصل السلطان إلى همذان أمر بقتله فخنق ثم إن العسكر تبسطوا وقالوا: ما يمنع السلطان أن يعطينا ما نريد إلا نظام الملك، وبسطوا أيديهم في التصرف، فذكر النظام للسلطان طرفاً من هذا، وبيّن له ما في هذا من الوهن، وخرق السياسية، وقال: ما يمكنني أن أعمل شيئاً من غير إذنك، فإنما أن تدبر أنت، أو تأمرني فيه بما أعتمده فقال له: قد ورددت إليك الأمور كبيرها وصغيرها، وقليلها وكثيرها، وما مني اعتراض عليك، ولا ردّ لما يكون منك، وأنت الوالد. وحلف له، وأقطعه طوس بلده، وتقدم بإضافة الخلع عليه، وأعطاه دواة وعليها ألف ثوب ديباج، وعشرين ألف دينار، ولقّبه: أتابك، ومعناه: الأمير الوالد.
وظهر من النظام من الرجلة والشهامة والصبر إلى حين ظفر بالمراد واللطف بالرعية، حتى إن المرأة الضعيفة تخاطبها، ولقد رفع بعض حجابه امرأة ضعيفة فزبرة وقال: أنا أستخدمتك لتوصل إليّ مثل هذه، لا لتوصل إليّ رجلاً كبيراً، أو حاجباً. ثم صرفه، وكان إذا اجتاز بضيعة فأفسدها العسكر غرم لصاحبها فيه ما أفسدوا.
وفي شعبان: قصد أهل المحال الكرخ، فقاتلوا أهلها، وأحرقوا فيها شيئاً كثيراً، وخرج الشحنة، فأخذ من ثياب أهل باب البصرة وثياب أهل القلائين ما حمله أصحابه على البغال.


وفي رمضان: ورد جراد عظيم أكل ما وجد، حتى عدم البقل في آخر هذا الشهر فبيع ما جلب منه من عكبرا بالميزان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن الحسن، ابن عبد الودود بن المهتدي بالله سمع أبا الحسين بن المتيم، والصرصري، وغيرهما، وحدّث.
وتوفي في يوم الأربعاء رابع عشرين شوال.
ألب أرسلان، واسمه: محمد إنما غلب عليه ألب أرسلان بن داود السلطان: قد ذكرنا سيره في الحوادث، وكيفية قتله، وكان يقول حين قتل: ما وجه قصدته إلا واستعنت الله عليه إلا هذا الوجه، فإني اشتغلت بالعساكر، ولم يخطر ربي بقلبي. قال: ولما كان في أمسنا صعدت تلاً فارتجت الأرض تحتي من عظم الجيش وكثرة العسكر، فقلت في نفسي: أنا ملك الدنيا، وما يقدر أحد عليّ، فجاءتني قدرة لم يخطر على بالي، وأنا أستغفر الله من الخاطر، ووصى العسكر بولده ملك شاه الذي جعل فيه الملك بعده، ونظام الملك وزيره، والطاعة لهما، وأحلف من ينبغي أن يحلف، واستوثق وأوصى أن يعطي أخاه قاورت بك أعمال فارس، وكرمان، وشيئاً عيّنه من المالئ، وأن يتزوج بزوجته، وأن يعطي ابنه إياز ما كان لداود والده وهو خمسمائة ألف دينار، وأن يكون لولده ملك شاه القلعة وما ضمها.
وتوفي في يوم السبت عاشر ربيع الأول من هذه السنة، ودفن عند قبر أبيه بمرو.
الحسن بن محمد بن علي بن فهد العلاف. سمع الحديث، . وقرىء عليه، وكان صالحاً ورعاً مجتهداً، وعمّر حتى جاوز المائة سنة بثلاث سنين، وسقطت أسنانه ثم نبتت، وتطرأ شعر لحيته. توفي في ذي الحجة من هذه السنة.
الحسين بن محمد، أبو محمد الهاشمي الدلال من أهل نهر طابق، سمع أبا بكر بن بشران، وأبا الحسن الدارقطني، توفي يوم الأحد رابع عشرين ربيع الآخر، ومّر بجنازته في الكرخ وجرت فتنة عظيمة، ودفن في مقبرة باب الدير.
عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة، أبو القاسم القشيري قشيري الأب، سلمي الأم، ولد سنة ست وسبعين وثلثمائة، توفي أبوه وهو طفل، فنشأ وقرأ الأدب والعربية، وكان يهوى مخالطة أهل الدنيا، فحضر عند أبي علي الدقاق فجذبه عن ذلك، فسمع الفقه من أبي بكر محمد بن بكر الطوسي، ثم اختلف إلى بكر بن فورك فأخذ عنه الكلام، وصار رأساً في الأشاعرة، وصنّف التفسير الكبير، وخرج إلى الحج في رفقة فيها أبو المعالي الجويني، وأبو بكر البيهقي، فسمع معهما الحديث ببغداد والحجاز، ثم أملى الحديث، وكان يعظ.
وتوفي في رجب هذه السنة بنيسابور، ودفن إلى جانب شيخه أبي علي الدقلق، ولم يدخل أحد من أولاده بيته، ولا مس ثيابه ولا كتبه إلا بعد سنين احتراماً له وتعظيماً، ومن عجيب ما وقع أن الفرس التي كان يركبها كانت قد أهديت إليه، فركبها عشرين سنة لم يركب غيرها، فذكر أنها لم تعلف بعد وفاته، وتلفت بعد إسبوع.
عبد الصمد بن علي بن محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون، أبو الغنائم ولد سنة أربع وسبعين وثلثمائة وسمع الدارقطني، والمخلص، وأبا الحسن الحربي، وغيرهم، وحدّث وكان ثقة، وحدثنا عنه جماعة من شيوخنا آخرهم محمد بن عمر بن يوسف الأموري.
وتوفي ليلة الخميس ثامن عشر من شوال، ودفن بمقبرة باب حرب عند الشهداء.
عمر بن محمد، بن درهم سمع أبا الحسين بن بشران، وتوفي في ليلة الجمعة تاسع عشرين ربيع الآخر، وصلي عليه بجامع المنصور، ودفن بمقبرة باب حرب.
علي بن الحسن بن علي بن الفضل، أبو منصور الكاتب، ابن صربعر وقال له نظام الملك: أنت صردر، لا ابن صربعر.
وهجاه ابن البياضي فلطمه فقال:
لئن نبز الناس شحاً ... فسموه من شحه صربعرا
فإنك تنبز بالصربعرا ... عقوقاً له وتسميه شعرا
وهذا ظلم فاحش، فإن شعره غاية في الحسن، ومن شعره:
تزاورن عن أذرعات يميناً ... نواشر ليس يطعن البرينا
كلفن بنجد كأن الرياض ... أخذن لنجد عليها يمينا
وأقسمن يحملن إلا نحيلاً ... إليه ويبلغن إلا حزينا
ولما استمعن زفير المشوق ... ونوح الحمام تركن الحنينا
إذا جئتما بانه الواديين ... فأرخوا النسوع وحلوا الوضينا


فثم علائق من أجلها ... ملاء الدجى والضحى قد طوينا
وقد أنبأتهم مياه الجفون ... بأنّ بقلبك داء دفينا
وله أيضاً:
ايه أحاديث نعمان وساكنه ... إن الحديث عن الأحباب أسمار
أفتش الريح عنكم كلما نفحت ... من نحو أرضكم نكباء معطار
وله أيضاً:
والنجاء النجاء من أرض نجد ... قبل أن يعلق الفؤاد بنجد
وله أيضاً:
ما مر ذو شجن يكتّمه ... إلا أقول متيم مثلي
وعهودهم بالرمل قد نقضت ... وكذاك ما يبنى على الرمل
من يطّلع شرفاً فيعلم لي ... هل روح الرعيان بالإبل
أم غرد الحادي بقافية ... منها غراب البين يستملي
وله أيضاً:
أكلف القلب أن يهوى وأسأله ... صبراً وذلك جمع بين أضداد
وأكتم الركب أوطاري وأسألهم ... حاجات نفسي لقد أتعبت روادي
هل مدلج عنده من مبكر خبر ... وكيف يعلم حال الرائح الغادي
وإن رويت أحاديث الذين نأوا ... فعن نسيم الدجى والبرق إسنادي
وحفظ القرآن، وسمع الحديث من ابن بشران وغيره، وحدّث، وركب يوماّ فتردى هو والدابة في البئر فماتا، وذلك في صفر هذه السنة، ودفن بباب أبرز.
قال المصنف: وقرأت بخط ابن عقيل قال: كان صربعر خازناً بالرصافة ينبز بالإلحاد.
محد بن نصر بن الحسن، أبو سعد، ابن البصري سمع أبا القاسم بن بشران، وكان صالحاً، وتوفي في يوم الجمعة ثامن عشر صفر هذه السنة وصلى عليه القاضي أبو الحسين ابن المهتدي، ودفن بباب حرب.
محمد بن أحمد بن محمد بن عمر بن الحسن بن عبيد بن عمرو بن خالد بن الرفيل، أبو جعفر ابن المسلمة القريشي أسلم الرفيل على يدي عمر بن الخطاب، ولد في سنة خمس وسبعين وثلثمائة، وسمع أبا الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري، وهو آخر من حدّث عنه، وأبا محمد بن معروف، وهو آخر من حدّث عنه، وأبا عمرو الآدمي، وأبا الحسين بن أخي ميي، وأبا طاهر المخلص، وأبا الفرج ابن المسلمة أباه في آخرين، وكان صحيح السماع، واسع الرواية، نبيلاً ثقة صالحاً، حدّث بالكتب الكبار، وحدثنا عنه جماعة من شيوخنا وكان ثقة، وقد حدّث عنه الكبار من العلماء، وخرج له الخطيب مجالس، وتوفي ليلة السبت جمادى الأولى من هذه السنة، وصلى عليه في جامع الرصافة، ودفن بالخيزرانية، وكان يوماً مشهودا.
محمد بن أحمد بن قفرجل، أبو البركات المجهر سمع أبا أحمد الفرضي، وأبا الحسين بن بشران، وحدّث بشيء يسير، وكان ثقة، وكان يملك نحواً من عشرين ألف دينار فأوصى بالثلث صدقة، وأخرج قبل موته ألف دينار، فتصدق بها، وتوفي يوم الجمعة ثالث جمادى، ودفن في مقبرة باب الدير قريباً من قبر معروف.
محمد بن عمر بن إبراهيم، أبو بكر ابن الآدمي سمع أبا القاسم بن بشران، وكان ثقة، وتوفي ليلة الخميس ثالث عشرين ربيع الآخر، ودفن بمقبرة الخيزران.
محمد بن علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو الحسين، ابن الغريق ولد يوم الثلاثاء غرة ذي القعدة من سنة سبعين وثلثمائة، وسمع أبا الحسن الدارقطني، وأبا الفتح القواس في آخرين، وكان ثقة صالحاً كثير الصيام والتلاوة، رقيق القلب، بكّاء عند الذكر، حسن الصوت بالقرآن، وكان من اشتهر بالصلاح والتعبد حتى كان يقال له: زاهد بني هاشم، وكان غزير العلم والعقل، رحل الناس إليه من البلاد لعلو إسناده، وكان مكثراً، وثقل سمعه في آخر عمره فكان يقرأ هو على الناس، وذهبت إحدى عينيه، وكان آخر من حدّث في الدنيا عن الدارقطني، وابن شاهين، وأبي بكر بن دوست، خطب وله ست عشرة سنة، وشهد في سنة سبع وأربعمائة، وولي القضاء في سنة تسع وأربعمائة فبقي يخطب بجامعي المنصور والمهدي ستاّ وسبعين سنة، وشهد ستين سنة، وتقضى ستاً وخمسين سنة.
وتوفي وقت المغرب من يوم الأربعاء سلخ ذي القعدة من هذه السنة، ودفن يوم الخميس غرة ذي الحجة خلف القبة الخضراء، وكان قد جاوز التسعين، وحضره خلق عظيم، وكان يوماً مشهوداً. رؤي في المنام فقال: غفر لي بطول تهجدي.


قال أبو بكر بن الخاضبة: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، ومناد ينادي: اين ابن الخاضبة؟ فقيل لي: ادخل الجنة فدخلت، فاستلقيت فرفعت رأسي فرأيت بغلة مسروجة ملجومة في يد غلام، فقلت: لمن هذه؟ فقيل: للشريف أبي الحسين بن الغريق. فلما كانت صبيحة تلك الليلة نعي إلينا الشريف أنه مات تلك الليلة.
هناد بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن إسماعيل، أبو المظفر النسفي ولد سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وسمع أبا الحسين بن بشران، وأبا عمر القاسم بن جعفر الهاشمي، وأبا عبد الرحمن السلمي، وغيرهم من أهل البلاد المختلفة. سمع منه شيوخنا وحوثونا عنه، وكانوا يتهمونه لأن الغالب على حديثه المناكير.
توفي هناد في ربيع من هذه السنة ببعقوبا وكان قاضيها، ودفن هناك.
ثم دخلت
سنة ست وستين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه في صفر جلس الخليفة جلوساً عاماً وعلى رأسه الأمير عدة الدين وسنه ثماني عشرة وهو في غاية الحسن، وأوصل إليه سعد الدولة الكوهرائين والجماعة، وسلم إليه العهد المنشأ للسلطان بعد أن قرأ الوزير فخر الدولة أوله، واللواء بعد أن عقده الخليفة بيده. وكان الزحام عظيماً حتى هنأ الناس بعضهم بعضاً بالسلامة.
وفي هذا الشهر: وردت التوقيعات لبعض التركمان بعدة نواح من أقطاع حواشي الدار العزيزة، وذلك لتغير رأي نظام الملك في الخدمة الشريفة بما أوقعه الأعداء من الضغائن بينه وبين فخر الدولة، وكان من فعل العميد أبي الوفاء، فلوطف التركمانية من الديوان بمال رضوا به عما كانوا أقطعوه.
وهذا الشهر: وردت الكتب إلى الديوان تتضمن البشارة بفتح بيت المقدس في شوال سنة حمس وستين، وإقامة الخطبة هناك، وكانوا قد حوصروا حتى بلغت الكارة سبعين ديناراً.
وفي جمادى الأخرة: ورد الحاجب السليماني من عكبرا فدخل الديوان، فرسم له تدارك القورج الذي هو فوق الدار المعزية، وكانت دجلة قد زادت زيادة مفرطة، واتصل المطر بالموصل والجبال، ونودي بالعوام أن يخرجوا معه لذلك، فخرج من الديوان، وأراد قصد الموضع فرأى الماء قد حجز بينه وبين الطريق، فرجع إلى دار المملكة، وخلا وجمع زواريق، وطرح فيها رحله ليعبر فهرب، فجاءت في الليل ريح شديدة جداً، وسيل عظيم، وطفح الماء من البرية إلى الحريم، وطغى على أسوار المحال فهدمها، ونزل من فوقها وأسفل منها، وصعد من تحت الأرض، وقلع الطوابيق، ونبع من آبار والبلالبع فرماها في ليلتها فصارت تلالاً عالية، ثم صبح دار الخلافة ففعل بأكثرها مثل ذلك، وكان قد دخلها من بيت النوبة ومن سور باب الغربة، ثم باب النوبي وباب العامة والجامع، فهرب الخدم والخواص متحيرين، والمطر يأتي من فوق، وخرج الماء على الخليفة من تحت السرير الذي كان جالساً عليه، فنهض إلى الباب فلم يجد طريقاً، فحمله أحد الخدم على ظهره إلى تاج، وخرج الجواري حاسرات، فعبرن إلى الجانب الغربي، وأقيم في الدار أربع ركاء، وحطت إليها الأموال والحرم، ولبس الخليفة البردة، وأخذ بيده القضيب ولم يطعم يومه وليلته.
وأما الوزير فخر الدولة فإنه دخل عليه الماء في داره بباب العامة، فركب وخاض بالفرس إلى حضرة الخليفة، فاستأذن فيما يفعل فقيل له: اطلب لنفسك مخلصاً قبل أن لا تجده، فمضى إلى الطيار على باب الغربة، فأقام فيه، وجاءه الملاح بثلاثة أرغفة يابسة وفأكل واستلقى على البارية.
وهلك من أموال الناس تحت الهدم الكثير، وتلف من سكان درب القباب الجم الغفير، وهرب الناس إلى باب الطاق، ودار المملكة، وتلال الصحراء العالية، والجانب الغربي على تخبيط شديد، وتضنك قبيح، وجاء الماء من البرية كالجبال يهلك ما مر به من أنس ووحش، وجاء على رأس الماء في الأبواب والأخشاب والآلات والحباب شيء كثير، وشوهد على تل في وسط الماء سبع ويحمور وافقين، وهلك من الوحوش ما لا يحصى، وصعد بعضها الرادفي فصعد السوادية سباحة فأحخذوها.


وجاء الخبر من الموصل أن الماء ورد في البرية كالجبال، فلطم سور سنجار وكان حجراً فهدم قطعة منه، ودحا بأحد بابيه أربعة فراسخ، ووقعت آدر بباب المراتب منها دار ابن جردة، وكانت تشتمل على ثلاثين داراً، وعلى بستان، وحمام يساوي عشرات ألوف، ووقع مشهد باب أبرز ومنارته، وغرقت المقابر، وصعدت التوابيت على الماء، وخرق مشهد النذور، ومقبرة الخيزران، وقر السبتي، وتهدم الحريم من باب النوبي أكثر المأمونية، وباب الأزح، وخرابة ظفر، ودرب الشاكرية، ودرب المطبخ، ودرب حلاوة، والمسعودة، والشمعية، وخرج الناس من هذه المواضيع لا يلتفت أحد على أحد، ووقع في درب القيار عدل قطن وسط الدرب، وعبر الناس صغيران فما زال يخوض بهما حتى أوعيا فرمى بهما ونجا بنفسه، وهلك من الناس والبهائم عدد كثير، ثم عنّ لأقوام من المفسدين أن يزحفوا على الخليفة ليتسلطوا بذلك على النهب، ونودي في الملاحين أن لا يأخذوا من الناس إلا ما جرت به العادة في العبور، وأقيمت الجمعة في الطيار أسبوعين، وفي الحلبة ثلاث جمع بعد ذلك، فهيّىء للخطيب في الحلبة، ثلاث قواصر، فصعد عليها، وكان الماء واقفاً في الجامع أكثر من قامه، ووقع معظمه، ومالت حيطانه.
وأما الجانب الغربي فإنه وقع فيه مشهد الكف، وغرقت مقابر قريش، ومقبرة أحمد بن حنبل، ودخل الماء من شبابيك المارستان العضدي، فوقف فيه، وصمد نقيب النقباء الكامل بمواضع في أعلى البلد فسدّها والطاهر نقيب العاويين بمواضع في جانب الكرخ فسدها ولما نفص الماء تحول فخر الدولة من الطيار إلى صحن السلام، فضرب فيه خيماً وخركاهات، وكانت داره بباب العامة قد غرقت، وعمل الخدم أكواخاً، وبلغت أجرة الوزجاري خمسة قراريط إلى ثلاثة قراريط، وجلس حاجب الباب أبو عبد الله المردوسي في كوخ على عمل له عند باب النوبي، ثم أردف هذا الطرق تغير الهواء بريح الغلات ونتن الأشياء الغريقة، وتولى نقيب النقباء القورج.
ومن العجائب: أن أسافل دجلة وواسط كانت تغرق من دون هذه الزيادة، فما تجاوز هذا الأمر بغداد، وكان الناس يظنون أن السمك يكثر بهذا الماء، فصار كالمعدوم، وزرع الناس البطيخ والقثاء فداد حتى كان الناس إذا مروا بالقراح أمسكوا على الأنف.
وزاد في هذا الوقت جيحون حتى ذهب ماؤه أربع فراسخ، وتعذّر الصناع حتى كان النساء يضربن اللبن.
ودخل في يوم هذه الأيام مؤيد الملك أبو بكر بن نظام الملك لأجل تزوجه بابنه أبي القاسم بن رضوان البيع، ونزل في دار حموه بباب المراتب، فلم يكن للناس طريق إلى تلقيه، فأخذ في نفسه من ذلك، فبعث الخليفة إليه من طيّب قلبه، وأقام العذر، وحمل له خلعاً، وأذن له في الركوب بباب المراتب عن سؤال تكرر منه، فلبس الخلع ومضى إلى بيت النوبة، وتلقاه الوزير لم تجر به عادة تطييباً لقلبه، وانصرف إلى دار بناها والده مع المدرسة، فمضى الوزير إليه من غد في موكب.
وفي شعبان: وقعت الفتنة بين القلائين والكرخ، وجعلوا يشتمون الشحنة ومن قلده، فعبر إليهم، وقتل منهم وأحرق أماكن.
وليلة الأربعاء سادس عشر ذي الحجة: ظهر في المساء برق كثير في جميع الأوقات، واسودت السماء بالغيم، وهبت بالليل ريح رمت عدة من الستر، وجاء معها تراب كثير ورمل، وسقط من أعمال البصرة نحو من خمسة آلاف نخلة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن محمد بن أحمد، أبة الحسن السمناني القاضي، حمو قاضي القضاة، أبي عبد الله الدامغاني ولد في شعبان سنة أربع وثمانين وثلثمائة يسمنان، وقدم بغداد، وسمع بها من أبي أحمد الفرضي، وأبي عمر بن مهدي وغيرهما. روي عنه أشياخنا وكان ثقة، صاهره أبو عبد الله الدامغاني على ابنته، وولاّه نيابة القضاء، فقلّده قطعة من السواد، وقضاء باب الطاق، وكان نبيلاً من ذوي الهيئات، وكان أشعرياً، وهذا مما يستظرف أن يكون الحنفي أشعرياً. وتوي يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الأولى، ودفن بداره بنهر القلائين، وجلس القاضي القضاة للعزاء به، ثم نقل إلى الخيزرانية.
إبراهيم بن محمد بن محمد بن أحمد، أبو علي العلوي


من أولاد زيد بن علي. سمع الحديث، وقرأ اللغة والأدب، وسافر إلى الأقطار، ونفق على أهل مصر، وحصل له من المستنصر خمسة آلاف مصرية، ومرض مدة بدمشق فبكى وقال: اشتهي أموت بالكوفة حتى إذا نشرت يوم القيامة أخرجت رأسي من التراب فرأيت ابن عمي ووجوهاً أعرفها. فعودني وعاد إلى الكوفة، فمات بها في هذه السنة.
وله شعر حسن فمنه قوله:
راخ لها زمامها والأنسعا ... ورم بها من العلى شسعا
وارحل بها مغترباً عن العدى ... توطئك عن أرض العدى متسعا
يارائد الظعن بأكناف الحمى ... بلغ سلامي إن وصلت لعلعا
وحي خدراً بأثيلات بأكناف الحمى ... عهدت فيها قمراً مبرقعا
ماذا عليها لو رثت لساهر ... لولا انتظار طيفها ما هجعا
عبد العزيز بن أحمد بن علي بن سلمان الكتاني، أبو محمد سمع أبا القاسم الحمامي، والخرقي، وابن بشران، وأبا الحسن بن البادا، وابن مخلد، وابن الروزبهان، والرازي، وأبا علي بن شاذان، وسمع بدمشق وغيرها من جماعة، روى عنه أبو بكر الخطيب، وكان من المكثرين في الحديث كتابة وسماعاً، ومن المعنيين به من صدق وأمانة، وصحة استقامة، وسلامة مذهب، ودرس القرآن.
وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
علي بن الحسين بن عبد الرحيم، أبو الحسن. مات بالنيل فجاءة بشرقة، وقد عبر السبعين.
محمد بن إبراهيم، بن علي بن إبراهيم بن جعفر، أبو بكر القطان الأصبهاني الحاقظ مستملي أبي نعيم. سمع الثير بالبلاد، وورد بغداد أيام أبي علي بن شاذان، وكتب عنه، وعلق عنه أبو بكر الخطيب حديثاً واحداً، وهو عظيم الشأن عند أهل بلده، ثقة، وكان يملي من حفظه، وتوفي في هذه السنة.
محمد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن أبي الرعد الحنفي، أبو نصر قاضي عكبرا سمع أبا أحمد الفرضي، وأبا عمر بن مهدي. توفي يوم الجمعة ثالث ربيع الآخر من هذه السنة.
الماوردية ذكرها هلال بن المحسن في تاريخه قال: كانت الماوردية عجوزاً صالحة بالبصرة قاربت ثمانين سنة، بقيت منها خمسين سنة لا تفطر، ولا تنام بالليل، ولا تأكل خبزاً ولا رطباً ولا تمراً، وإنما يطحن لها قلى فتخبز منه خبزاً فتقتات به، وتأكل التين اليابس دون الرطب، وتنال من الزبيب والعنب واللحم شيئاً يسيراً، وكانت تكتب وتقرأ وتعظ الناس، وكانت كثيرة الخير، توفيت بالبصرة في هذه السنة، وتبع جنازتها أكثر الناس، ودفنت خارج البلد عند قبور الصالحين.
ثم دخلت
سنة سبع وستين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها انه في صفر مرض القائم بأمر الله مرضاً شديداً، وانتفخ حلقه، وامتنع من الفصد، فقصد الوزير فخر الدولة باب الحجرة ليلاً وحلف بالأيمان المغلظة أنه لا يبرح حتى يقع الفصد، فأذن في إحضار الطبيب، وافتصد فصلح بذلك، وانزعج الناس في البلد والحريم ونقلوا أموالهم إلى الجانب الغربي، فلما وقعت العافية سكن الناس.
وفي هذا الشهر: جاء سيل متتابع قاسى الناس منه بلاءً صعباً، قرب أمره من يوم الغرق، فإن أكثر الأبنية لم تكن تمت، وإنما رفع الناس من البنيان ما قعدوا فيه فاحتاجوا إلى أن خرج أكثرهم وثيابهم على رؤوسهم، فقعدوا على التلول يقاسون، المطر، وزاد تامرا من ذلك بضعة عشر ذراعاً ووقع وباء بالرحبة، فهلك فيه عشرة آلاف إنسان، وكذلك في أوانا، وصريفين، وعكبرا، وطريق خراسان، وواسط، والبصرة، وخوزستان.


وفي يوم الخميس الثامن والعشرين من رجب: فصد الخليفة من ماشري لحقته، وكان من وقت الغرق يعتاده المرض، فنام بعد الفصد فأنفج فصاده وانتبه، وقد مضت القوة ووقع اليأس منه وكثر الإرجاف به، وماج الناس واختلطوا، ونقلوا أموالهم من الحريم إلى دواخل الدار وإلى الجانب الغربي، وخيف من العيارين، وكانوا يقامرون ويقترضون على موت الخليفة لينهبوا، فلما أحس الخليفة بانقراض المدة استدعى عدة الدين وقال له: يا بني، قد استخدمت في أيامي ابن أيوب، وابن أيوب، وابن المسلمة، وابن دارسة، وابن جهير، فما رأيت أصلح للدولة من ابن جهير وولده، فلا تعدل عنهما. فقبّل يده وبكى بين يديه، وأحضرت الدواة وكتب القائم بأمر الله رقعة بذاك إليه، وقال: اكتب خطك في جوابها، وبالإجابة وبالتعويل على عميد الملك في وزارتك تعويل معترض عليك. فكتب فأحضر قاضي القضاة والنقيبان والشهود في يوم الأحد تاسع شعبان، فأقاموا في الديوان إلى الليل، ثم استدعوا مع الوزير إلى الحجرة، وكان الخليفة وراء الشباك مستنداً وعدة الدين قائم على رأسه، والقوم يسمعون كلامه ولا يرون شخصه فقال: اشهدوا على ما تضمنته هذه الرقعة التي كتبت فيها سطرين بخطي. فقالوا: السمع والطاعة. واسبلت الستارة.
وكان مضمون الرقعة ولاية العهد لعدة الدين، وردّ الأمر إليه والوصاة له بما يجب الرضا به.
ونسختها: بسم الله الرحمن الرحيم، إن أمير المؤمنين يحكم ما وكله الله إليه من أمور عباده وبلاده وأوجبه عليه من صلة طريقة في إحسان الاياله بقلاده رأى أن ينتهي في مراعاة أحوال المسلمين، والنظر في مصالحهم، وإسباغ ظل العاطفة على أكابرهم وأصاغرهم إلى الحد الذي تحلى مشارتهم من ملابس الكبد وتعرى مشارتهم من ملابس الحذر، فلذلك اقتضت عزائمه الميمونة إحضار وزير دولته الناظر في خدمته محمد بن محمد بن جهير وولده، ونقيب النقباء طراد بن محمد، وقاضي القضاة محمد بن علي، والمعمر بن محمد نقيب الطالبيين، ومحمد بن البيضاوي، وعبد الله بن عبد السيد السيبي، وعبد الله بن محمد الدامغاني في ليلة الأحد التاسع من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، فحين مثلوا بين سدته الشريفة أنعم متبرعاً في إيصاله من رأيه، ونفاذ عزائمه بمشافهة سلالته الطاهرة أبي القاسم عبيد الله بن محمد أمير المؤمنين بتوليته العهد، وتصييره خليفة بعده في المسلمين، ووصاه بما يطابق الشرع في مثل هذه الحال، ويحل من رضى الله أجل المحال، حيث وجده أهلاً لذلك وراءه، واستوثق كل مسعى له في الرشاد وارتضاه، وألفاه ناهضاً بأعباء ما ولاّه، ناهجاً للسنن الذي أوجبه جميل خلاله، وأوصاه مجتمعة فيه شرائط ما فوضه إليه واستكفاه، والله يمد أمير المؤمنين بالتوفيق في إيجابه وعزائمه، ويقرن التشديد بمفاتح عزمه وخواتمه، ويحسن الخبرة له ولولي عهده ولكافة المسلمين فيما أذن فيه، وقصد به إحكام دعائم الصلاح ومبانيه بمنه.
واستدعى عدة الدين من الغد عميد الدولة أبا منصور، وتقدم بإفاضة الخلع عليه، وماج الناس بإرجاف الخليفة بالوفاة، ورتب الوزير فخر الدولة الأتراك والهاشميين بالسلاح يطوفون، وتقدم إلى الشحنة أن يضرب خيماً عند دار المملكة، فقامت الهيبة، واتفقت الوفاة ليلة الخميس الثالث عشر من شعبان، وجلس الوزير فخر الدولة وولده عميد الديوان العزيز على الأرض حافيين، قد خرقا ثوبيهما، ونحيا عمامتيهما، وطرح ردائين لطيفين عوضهما، وفعل الناس مثل ذلك، ومنع عدة الدين الجواري والخدم من الصراخ.
باب ذكر خلافة المقتدي بأمر الله


واسمه: عبد الله بن ذخيرة الدين أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله، ويكنى: أبا القاسم. ومولده في سحرة يوم الأربعاء ثامن جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وأمه أم ولد أرمنية، تسمى: أرجوان، وتدعى قرة العين، أدركت خلافته وخلافة ابنه وابن ابنه، وكان الذخيرة قد بقي من أولاد القائم ولم يبق له ذكر سواه، فاستشعر الناس انتقاض الدولة الأمر لعدم ولد للبيت القادري، وأن من سواهم من الأسرة مخالط للعوام في البلد، وجارى مجاري السوقة، وذلك تنفر قلوب العوام عن المتولي، فحفظ الله هذا البيت بأن كان الذخيرة قد ألم بجاريته أرجوان فتشوقت النفوس إلى ما يكون من ذلك، فجاءت بالمقتدي بعد موت الذخيرة بخمسة أشهر وكسر، فوقعت البشائر ولم يزل جده ضنيناً به، حذراً عليه، فلما كانت نوبة البساسيري كان للمتقدي دون الأربع سنين، فستره أهله وحملوه إلى أبي الغنائم محمد بن علي بن المحلبان، فسار به إلى حران على ما قد سبق ذكره، فلما عاد القائم إلى منزله أعيد المقتدي، فبلغ والقائم حي، فأشهد القائم على نفسه بولاية العهد، فظهرت ألطاف الله سبحانه في أمر المقتدي من حيث ولادته وأنها كانت سبباً لحفظ هذا البيت من جهة حراسته في الفتنة ومن جهة بلوغه مرتبة الخلافة في حياة جده، ومن جهة سلب ملك شاه حين تغيرت نيته عليه، وأراد منه أن يخرج من بغداد فقال: أمهلني عشرة أيام، فهلك السلطان في اليوم العاشر.
ذكر بيعة المقتدي بأمر الله قد ذكرنا أنه لما ورد احتضر القائم كتب ولاية العهد للمقتدي، فلما توفي استخلف المقتدي يوم الجمعة ثالث عشر شعبان هذه السنة، ولقّب بأمر الله، وجلس في دار الشجرة بقميص أبيض، وعمامة لطيفة بيضاء، وطرحة قصب درية، ودخل الوزير فخر الدولة وعميد الدولة، واستدعى مؤيد الملك بن النظام، والنقيبان طراد العلوي، وقاضي القضاة الدامغاني، ودبيس، وأبو طالب الزينبي، وابن رضوان، وابن جردة، ووجوه الأشراف والشهود والمتقدمون وبايعوه، وكان أول من بايعه الشريف أبو جعفر: لما أن بايعته أنشدته: إذا سيد منا قام سيد ثم ارتجز على تمامة فقال هو: قؤول بما قال الرجال فعول وبايعه مع الجماعة أبو إسحاق، وأبو نصر بن الصباغ، وأبو محمد التميمي، وبرز فصلى بالناس العصر، وبعد ساعة حمل التابوت على الطيار يبكون من غير صراخ، وصلى عليه فكبر أربعاً، ودفن في حجرته التي كانت برسم خلوته، وكان المقتدي من رجال بني العباس، له همة عالية وشجاعة وهيبة، وفي زمانه قامت حشمة الدولة، ولما استفحل أمر تتش بعد وفاة أخيه ملك شاه، واشتدت شوكته، وكثرت عساكره، واستولى على ديار وبلاء العرب كاتب المقتدي يسأله أن يقيم له الخطبة، وخلط السؤال بنوع تهديد، فأمر المقتدي أن يكتب له كتاب فيه خشونة، وكانت فيه: صلح أن يكون خطابك في الخطبة إذا حصلت الدنيا بحكمك وخزائن الأموال بأصفهان، وولايتها تحت يدك، والبلاد بأسرها في قبضتك، ولم يبق من أولاد أخيك من يخالفك، ثم تسأل حينئذ تشريفك بالخطبة وتأهيلك للخدمة، فأما في هذه الحال فلا سبيل إلى ما التمسته، ولا طريق إلى ما تحاوله، فلا تعد حد العبيد فيما تنهيه وتسطره، والاتباع فيما تورده وتصدره، وليكن خطابك ضراعة لا تحكماً، وسؤال تخير، فإن أطعت فنفسك نفعت، وإن خالفت وقصدتنا رددناك و منعنا طلبتك، واعتمدنا معك ما يقتضيه حكم الإمام والسلطان، وأتاك من الله تعالى ما لا قبل لك به، ولا يدان.
وخطب للمقتدي في اليمن، والشامات، وبيت المقدس، والحرمين، واسترجع المسلمون الرها وأنطاكية، وعمّ الجانب الشرقي من بغداد، فعمرت البصلية، والقطيعة، والحلبة، والأجمة، ودرب القيار، وخرابة ابن جردة، وخرابة الهراس، والخاتونيتين، والمقتدية، وبنى الدار الشاطئية على دجلة، والأبنية العجبية في داخل الدار، وكانت أيام المقتدي كثيرة الخير، ووزر له أبو منصور محمد بن جهير، ثم أبو شجاع، ثم عاد أبو منصور، وكان قضاته أبو عبد الله المردوسي، ثم بعده أبو منصور المعوج.


في شعبان: تقدم فخر الدولة إلى المحتسب في الحريم بنفي المفسدات، وبيع دورهن فشهر جماعة منهن على الحير مناديات على أنفسهن وأبعدهن إلى الجانب الغربي، ومنع الناس من دخول الحمامات بلا مآزر وقلع الهوادي والأبراج، ومنع العلب بالطيور لأجل الاطلاع على سطوح الناس، ومنع الحماميين من إجراء ماء الحمامات إلى دجلة، وألزمهم أن يحفروا لها آباراً تجتمع المياه فيها، وصار من يغسل السمك والمالح يعبر إلى النجمي فيغسل هناك، ومنع الملاحين أن يحملوا الرجال والنساء مجتمعين.
وفي يوم الخميس السابع والعشرين من رمضان: خرج عميد الدولة أبو منصور وسار إلى حضرة السلطان لأخذ البيعة للمتقدي، وحمل معه ثماني مائة ثوب أنواعاً وخمسة عشر ألف دينار.
ووقعت نار في شوال في دكان خباز في نهر المعلى، فأتت على السوق جميعه، وأذهبت اثنان وثمانون دكاناً غير الدور، ثم وقعت نار في المأمونية، ثم في الظفرية، ثم في درب المطبخ، ثم في دار الخليفة، ثم في حمام السمرقندي، ثم في باب الأزح، ثم في درب فراشة، ثم في الجانب الغربي من نهر طابق، ونهر القلائين والقطيعة، ونهر البوابين، باب البصرة.
وورد الكتاب أنه وقع الحريق بواسط في تسعة مواضع، واحترقت أربع وثمانون داراً وست خانات سوى الحوانيت اللطاف، وآدر ليس عندها نار فذهب الفكر.
وفي عيد الأضحى: قطعت الخطبة العباسية والسلطانية من مكة، وأعيدت الخطبة المصرية، وكان مدة الخطبة العباسية بها أربع سنين وخمسة أشهر، وسبب ذلك أن صاحب مصر قوي أمره، فتراجع الناس إلى مصر، ورخصت الأسعار واتفقت وفاة السلطان ووفاة الخليفة وخوف امير مكة واجتمع اليه اصحابه فقالوا: إنما سلمنا هذا المر لبني العباس لما عدمنا المعونة من مصر، ولما رجعت إلنيا المعونة فإنا لا نبتغي بابن عمنا بدلاً، فأجابهم الأمير على كره، وفرق المال الذي بعث، وردت الأسماء المصرية التي كانت قلعت من قبة المقام.
وفي هذه السنة: جلت السوادية من أسافل دجلة، وهلك أكثرهم بالوباء وجفلوا من نهر الملك بنسائهم وأولادهم وعواملهم، فمنهم من التجأ إلى واسط، ومنهم من عبر النهروانات، ومنهم من قصد طريق خراسان لنقصان الفرات نقيصة قل أن يتحدث بمثلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن عبد الودود بن عبد المكبر بن المهتدي، أبو علي الهاشمي سمع أبا القاسم الصيدلاني، وغيره، ولد سنة ثمانين وثلثمائة وكان صدوقاً مقبول الشهادة عند الحكام وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن في داره بسكة الخرقي، ثم أخرج بعد ذلك فدفن في مقبرة جامع المدنية.
عبد الله القائم بأمر الله. أمير المؤمنين، توفي ليلة الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان من هذه السنة، وكانت ليلة ذات ريح ومطر، وكان الزمان ربيعاً، وصلى عليه في صبيحتها وغسله الشريف أبو جعفر بن موسى، وأعطي ما كان عنده فامتنع فلم يأخذ شيئاً.
أنبأنا علي بن عبيد الله، عن أبي محمد التميمي قال: ما حسدت أحداً قط إلا الشريف أبا جعفر في ذلك اليوم، وقد نلت مرتبة التدريس والتذكير والسفارة بين الملوك، ورواية الأحاديث، والمنزلة اللطيفة عند الخاص والعام، فلما كان ذلك اليوم خرج علينا الشريف وقد غسل القائم عن وصية بذلك، ثم لم يقبل شيئاً من الدنيا، وبايع ثم انسل طالباً لمسجده ونحن كل منا جالس على الأرض، متحف مغير لزيه، مخرق ثوبه، يهمه ما يحدث بعد موت هذا الرجل على قدر ماله تعلق بهم، فعرفت أن الرجل هو ذاك، وغلقت الأسواق لموت القائم، وعلقت المسوح، وفرشت البواري مقلوبة، وتردد عبد الكريم النائح في الطرقات ينوح، ولطم نساء الهاشميين ليلاً، وجلس الوزير وابنه عميد الدولة للعزاء ثلاثة أيام في صحن السلام، ثم خرج توقيع يتضمن التعزية والإذن في النهوض، وكان عمر القائم أربعاً وسبعين سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام، وكانت خلافته أربعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر، وخمسة وعشرين يوماً.
عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود، أبو الحسن بن علي بن أبي طلحة الداودي


ولد سنة أربع وسبعين وثلثمائة، وسمع أبا الحسن بن الصلت، وأبا عمر بن مهدي في خلق كثير، وقرأ الفقه على أبي بكر عبد الرحمن السلمي، ودرّس، وأفتى، ووعظ، وصنّف وكان له حظ من النظم والنثر، وكان لا يفتر عن ذكر الله تعالى، واتفق أنه وقعت نهوب فترك أكل اللحم سنين، ودخل عليه نظام الملك فقعد بين يديه فقال له: إن الله قد سلطك على عبادة فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن علي المقرىء، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عطاء الإبراهيمي قال: أنشدنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودي لنفسه:
كان في الاجتماع للناس نور ... فمضى النور وادلهم الظلام
فسد الناس والزمان جميعاً ... فعلى الناس والزمان السلام
توفي الداودي في هذه السنة ببوشنج، وحدثنا عنه أبو الوقت عبد الأول بن عيسى السجري.
عبد السلام بن أحمد بن محمد بن عمر، أبو الغنائم الأنصاري نقيب الأنصاري نقيب الأنصار. ولد سنة ست وثمانين وثلثمائة، وسمع هلالاً الحفار، أبا الحسين بن بشران، وأبا الفتح ابن أبي الفوارس، وأبا الحسن بن رزقويه وغيرهم. روى عنه أشياخنا، وكان ثقة صدوقاً متديناً، من أمثال الشيوخ وأعيانهم.
وتوفي في شعبان هذه السنة ودفن بمقبرة جامع المدنية.
علي بن عبد الملك، أبو الحسن الشهوري المعدل القارىء كان لذيذ التلاوة، قد قرأ بالقراآت الكثيرة توفي في ليلة السبت ثاني عشرين شعبان، وصلي عليه بجامعي القصر والمنصور، وتبعه الخلق العظيم، ودفن بمقبرة باب حرب.
محمد بن علي بن موسى بن محمد بن موسى بن جعفر، أبو بكر الخياط المقرىء ولد سنة ست وسبعين وثلثمائة، وقرأ القرآن على أبي أحمد الفرضي، وأبي بكر بن شاذان، وابن السوسنجردي، وأبي الحسن الحمامي، وتوحّد في عصره في القراآت، وسمع الحديث الكثير، وحدّث الكثير، وكان ثقة صالحاً، حدثنا عنه أشياخنا.
توفي في ليلة الخميس ثالث جمادى الأولى، ودفن في مقبرة جامع المدنية.
منصور بن أحمد بن دارست أبو الفتح. وزر للقائم، وتوفي بالأهواز في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثمان وستين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه جاء جراد في شعبان كعدد الرمل والحصى، فأكل الغلات، فكدى أكثر الناس وجاعوا، وطحن السوداوية الخرنوب مخلوطاً بدقيق الدخن، ووقع الوباء، ثم منع الله سبحانه الجراد من الفساد، وكان يمر بالقراح فلا لا يقع منه عليه واحدة، ورخصت لذلك الأسعار.
وفي شوال: خلع الخليفة على الوزير أبي منصور، وولد الوزير فخر الدولة أبي نصر بعد أن استدعاهما إلى حضرته وخطبهما بما طيب نفوسهما، ورد الأمور إلى عميد الدولة.
وفي ذي الحجة: وصل الخبر بالغلاء في دمشق بأن الكارة بلغت نيفاً و ثمانين ديناراً، و بقيت على هذا ثلاث سنين.
وكان غلام يعرف بابن الرواس من أهل الكرخ يحب امرأة فماتت، فحزن عليها فبقي لا يطعم الطعام، و انتهى به الأمر إلى أن خنق نفسه.
وفي هذا الشهر: أعيدت الخطبة العباسية والسلطانية بمكه، وكان السبب أن سلار الحاج قرر مع ابن أبي هاشم أن يزوجه أخت السلطان جلال الدولة ملك شاه، فتعلق طعمه بذلك، فبعث رجلين إلى مصر ينظران، فإن كان أمر صاحب مصر صالحاً يرجى دام على خطبته، فرجعا إليه فقالا: ما بقي ثمّ شيء يرجى، وقد فسدت الأحوال، ونفذ المال، ونفذ صاحب مصر ألف دينار. فورد كتاب سلار الحاج يخبره بأنه قد قرر أمر الوصلة، وأنه قد أعطى للسنين الماضية والأتيه عشرين ألف دينار عزل منها عشرة آلاف للمهر، فرأى ابن أبي هاشم أن دنانير للمهر قد أخذت، والوصلة قد تمت فسر بذلك وخطب. للعباس والسلطان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن عبد محمد بن إبراهيم بن كمادى، أبو علي الواسطي حدّث عن جماعة، وتوفي بواسط في جمادى الأولى من هذه السنة.
أحمد بن علي بن أحمد، أبو سعد السّدوسي حدّث عن أبي أحمد القرضي، وكان ثقة، وتوفي في ليلة عيد الفطر.
أحمد بن إبراهيم بن عمر البرمكي، أخو أبي إسحاق حدّث بشيء يسير، وكان ثقة صالحاً، وتوفي ليلة الثلاثاء ثاني ذي القعدة، ودفن بباب الحرب.
الحسن بن القاسم، أبو علي المقرىء، غلام الهرّاس الواسطي توفي ليلة الخميس سادس جمادى الأولى بواسط.


قال المصنّف: ورأيت بخط أبي الفضل بن خيرون قال: قيل عنه انه خلط في شيء من القراآت، وادعى إسناداً لا حقيقة له، وروى عجائب.
عبد الجبار بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن برزة، أبو الفتح الأردستاني الجوهري الواعظ. ولد سنة ثمان وسبعين، وسافر الكثير، وسمع بلبلاد زكان تاجراً.
وتوفي بأصبهان في هذه السنة.
علي بن الحسين بن جاء العكبري. سمع أبا علي بن شاذان، والبرقاني، وكان ثقة، وحدّث، وتوفي في هذه السنة.
محمد بن إسماعيل بن محمد بن إبراهيم بن كثير، أبو حاجب الأستراباذي من أهل مازندران، سمع الكثير، وحدّث، وبرع في الفقه والنظر.
وتوفي في هذه السنة.
محمد بن أحمد بن عبيد، ابن صاحب الزيادة سمع أبا الحسن الحمامي، وأبا القاسم بن بشران، توفي في ذي الحجة من هذه السنة، ودفن بمقبرة جامع المدنية.
محمد بن علي بن محمد بن أحمد ابن أحمد بن محمد بن عيسى بن أبي موسى أبو همام بن أبي القاسم ابن القاضي، أبي علي الهاشمي العبدي المقرىء، سمع الحديث، وولي نقابة الهاشميين، وهو ابن عم أبي جعفر بن أبي موسى الفقيه الحنبلي، روى عنه شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي. توفي في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن في مقبرة باب حرب.
محمد بن القاسم بن حبيب بن عبدوس، أبو بكر الصفاري من أهل نيسابور، سمع أبا عبد الله الحاكم وأبا عبد الرحمن السلمي، وخلقاً كثيراً، وتفقه على الجويني، وكان يخلفه وينوب عنه. توفي بنيسابور في ربيع الآخر من هذه السنة.
محمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الله، أبو الحسن البيضاوي الشافعي ختن القاضي أبي الطيب الطبري على ابنته، ولد في سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة وحدّث عن أبي الحسن بن الجندي وغيره، وكان ثقة خيراً، روى عنه أشياخنا، وتوفي يوم الجمعة سابع عشر شعبان بالكرخ، وتقدم بالصلاة عليه أبو نصر بن الصباغ، وصلى عليه قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني مأموماً ودفن في داره بقطيعة الربيع.
محمود بن نصر بن صالح أمير حلب. كان من أحسن الناس، نزل بها في سنة سبع وخمسين، وقوي على عمه، وكان عطية قد ملكها بعد نصر فحاصره فخرج منها، فقال ابن حيوس:
أبى الله إلا أن يكون لك السعد ... فليس لما تبغيه منع ولا رد
قضت حلب ميعادها بعد مطله ... وأطيب وصل ما مضى قبله صد
تهز لواء النصر حولك عصبة ... إذا طلبوا نالوا وإن عقدوا اشدوا
وخطية سم وبيض قواضب ... وصافية رعف وصافنة جرد
مسعود بن المحسن بن الحسن بن عبد الرزاق، أبو جعفر بن البياض الشاعر له شعر مطبوع. أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أنشدني أبو جعفر بن البياض لنفسه:
ليس لي صاحب معين سوى اللي ... ل إذا طال بالصدود عليا
أنا أشكو بعد الحبيب إليه ... وهو يشكو بعد الصباح إليا
قال: وأنشدني لنفسه:
يا من لبست لهجرة ثوب الضنا ... حتى خفيت به عن العواد
وأنست بالسهر الطويل فأنيت ... أجفان عيني كيف كان رقادي
إن كان يوسف بالجمال مقطع ال ... أيدي فأنت مقطع الأكباد
قال: وأنشدني لنفسه:
لأية علة ولأي حال ... صرمت حبال وصلك من حبالي
وبدلت البعاد من التدني ... ومر الهجر من حلو الوصال
فإن تكن الوشاة سعوا بشيء ... عليّ فربّ ساع بالمحال
فعاقبني عليه بكل شيء ... أردت سوى الصدود فما أبالي
وإن تلك مثل ما زعموا ملولاً ... لما تهوى سريع الأنتقال
صبرت على ملالك لي برغمي ... وقلت عسى تمل من الملال
ولم أنشدك حين صرمت حبلي ... بدا لي من محبتكم بدالي
وتوفي ابن البياضي في ذي القعدة من هذه السنة ودفن بباب أبرز.
!خطأ الإشارة المرجعية غير معرفة. بن علي التركي المضافري، أبو منصور، والد شيخنا أبي الفضل بن ناصر.


ولد سنة سبع وثلاثين وأربعمائة وقرأ القرآن بالقراآت، وسمع الحديث من أبي الحسين بن المهتدي، وأبي جعفر ابن المسلمة، والصريفيني، وغيرهم، وكتب الكثير من اللغة، وقال الشعر، فكان أبو بكر الخطيب يرى له ويقدمه على الأشياخ، وتولى قراءة التاريخ عليه بحضرة الشيوخ، وكان ظريفاً صبيحاً، وتوفي في حداثته ليلة الأحد الثالث عشر من ذي القعدة من هذه السنة فرثاه شيخنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الوهاب الدباس ويعرف بالبارع.
أنبأنا أبو عبد الله البارع أنه قال:
سلام وأنى يرد السلاما ... معاشر في الترب أمسوا رماما
لدى البيد صرعى كأن الحمام ... سقاهم بكأس المنايا مداها
أحباءنا في بطون الثرى ... فأبلين تلك الوجوه الوساما
فلو تبصر العين ما في الصفيح ... نهاها تخوفها أن تناما
ألا هل أرى لكم أوبة ... وللشمل بعد الفراق التئاما
ألا كل يوم مطايا المنون ... تحف بكم موحداً أو تؤاما
نحيي ضرائكم إنها ... تضمن قوماً علينا كراما
سلام على جدث بالعرا ... ق اغمدت بالأمس فيه حساما
أناصر يفدك من لو أطا ... ق دافع عنك المنايا وحامى
دفنت العلا والتقى والعفا ... ف والحلم والعلم فيه حماما
أناصر لو أن لي ناصراً ... صببت على الموت موتاً زؤاما
هو الدهر لا يتقى ضيمه ... لشيء فأحذر أن لا يضاما
اناديك اذ لات حين الدعا ... ء بمسمعه لو أطقت الكلاما
لقد خصني يا قرين الشبا ... ب فيك المصاب وعم الاناما
وأوجدني منك ريب المنو ... ن ظمآن لم أشف منك الأواما
وكيف يطير مهيض الجنا ... ح خانته عند النهوض القدامى
وأطفىء بالدمع نار الحشا ... ويأبى لها الوجد الا ضراما
وكنت ألام على أدمعي ... فايقنت بعدك ان لا ألاما
فلا استشعر القلب عنك السلو ... ولا ازداد بعدك إلا مناما
اذا رام صبرا تمثلت فيه ... فأقصى خيالك ذاك المراما
وما أنا من بعد علم اليقين ... أحسب يومك إلا منايا
لقد كنت غرة وجه الزمان ... فقد عاد من عاد بشر جهاما
وكنت على تاجه درة ... تضيء الدجى وتزين النظاما
فأضحى بك الدهر عن أهله ... وجلّلنا بعد نور ظلاما
وضن بك الدهر عن أهله ... فنلت حميداً ولم تلق ذاما
وأيقنت أن الدنا للفنا ... ء فاعتضت في الخلد عيشاً دواما
فغض ببرد الزلال أمرؤ ... يرى أن ورد المنايا أماما
لتبك عليك فنون العلو ... م فقد كنت في كل فن إماما
وما كنت إلا قريع الزما ... ن وما الناس بعدك إلا انفحاما
الا لا أرى مشكلات العلو ... م يزددن بعدك إلا انفحاما
فمن ذا يفرج عنا الهمو ... م إذا ازدحمت في الصدور ازدحاما
ومن للمجالس صدر سواك ... اذا اضطرمت أبحر العلم عاما
ومن للمحاريب أهل سواك ... وقدماً تقدمت فيها غلاما
تجاوزت في العلم حد الشيوخ ... وكل سنيك ثلاثون عاما
ولم أر كاليوم بدراً سوا ... ك عاجل فيه السرار التماما
كفى حزناً أنني لا أرى ... ضريحك يزداد إلا لماما
وإن لو يفي بالاخاء الوفا ... ء اذا لسقى ثراه استلاما
وإني لأنظر دون الصفيح ... بحار العلوم لديه نظاما


ارى زفراتي تحدو الى ... ضريحك من عبراتي غماما
فيا ساكن القبر حيا ثراه ... مريض النسيم بريح الخزامى
ولا برحت بالغدو الشمال ... ولا بالأصائل فيه النعامى
وجاد أصيل الغيث فكاكه ... تبل الثرى وتروي العظاما
ولا كحل الترب تلك الجفون ... ولا اضمحل اللحد ذاك القواما
وحاشا لساناً تلا ما تلو ... ت يصبح للدود يوماً طعاما
وحاشا لكف يخط العلوم ... تعري أشاجعها والسلامى
فلست أرى جثث الأولياء ... على الدود في الأرض الا حراما
يهون وجدي أني غداً ... كما قد لقيت ملاق حماما
وان سوف يجمعنا موقف ... ترى الخلق في حافتيه قياما
عليك السلام فإني امرؤ ... على القرب والبعد أهدي السلاما
يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد، أبو القاسم النهرواني ولد سنة ثمانين وثلثمائة وكان يسكن رباط الزوزني، وحدّث عن أبي أحمد الفرضي وغيره، وخرّج له أبو بكر الخطيب مشيخه، وحدثنا عنه أبو الفضل الأرموي، وكان ثقة، وتوفي يوم الأربعاء رابع عشر ذي الحجة ودفن على باب الرباط.
يوسف بن محمد بن يوسف بن الحسن، أبو القاسم الخطيب الهمذاني ولد سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وسمع الكثير، ورحل بنفسه وجمع وصنّف، وانتشرت عنه الرواية، وكان خيّراً صالحاً ديّناً، توفي في ذي القعدة من السنة.
ثم دخلت
سنة تسع وستين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه مرض الخليفة في المحرم فأرجف به، فركب في التاج حتى رآه العوام فسكنوا.
وكان بالمدنية أمير يقال له: الحسين بن مهنأ قد وضع على من يرد لزيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضريبة تشبيهاً بما يفعل بمكة، وإنما كان يؤخذ من التجار القاصدين مكة، فأما المدينة فإنه لا يراد منها إلا الزيارة، ونشأت بذلك السمعة، فدخل رجل علوي المدنية فخطب بها للمصري في صفر، وهرب ابن مهنأ.
وكان قد توفي محمود بن نصر صاحب حلب ووصى لابنه شبيب بالبلد والقلعة، فلم يتم ذلك وأعطيها ولده الأكبر واسمه: نصر، فسلك طريق أبيه في كرمه، وقد مدحه ابن حيوس بقصيدة فقال فيها:
ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ... ولا افترقت ما فر عن ناظر شفر
ضميرك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وعزمك والنصر
وكان لمحمود بن نصر سجية ... وغالب ظني أن سيخلفها نصر
فقال: والله لو قال سيضعفها نصر لأضعفتها له، وأمر له بما أمر له أبوه، وهو ألف دينار في طبق فضة، وكان بابه جماعة من الشعراء فقال أحدهم:
على بابك المعمور منا عصابة ... مفاليس فانظر في أمور المفاليس
وقد قنعت منك العصابة كلها ... بعشر الذي أعطيته لابن حيوس
وما بيننا هذا التفاوت كله ... ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس
فقال: والله لوقال مثل الذي أعطيته لأعطيتم ذلك. وأمر لهم بنصفه، ثم أنه وثب على هذا الأمير بعض الأتراك فقتله، وولى أخوه سابور بن محمود، وهو الذي نص عليه أبوه.
وفي جمادى الآخرة: زادت دجلة فبلغت الزيادة إحدى وعشرين ذراعاً ونصفاً، ونقل الناس أموالهم، وخرج الوزير فخر الدولة إلى الفورح وبات عليه، وخيف من دخول الماء إلى دار الخلافة فنقل تابوت القائم بأمر الله ليلاً إلى التراب بالرصافة.


وفي شوال: وقعت الفتنة بي الحنابلة والأشعرية، وكان السبب أنه ورد إلى بغداد أبو نصر ابن القشيري، وجلس في النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى نصرة القشيري، وكتب إلى النظام يشكو الحنابلة ويسأله المعونة، ويسأل الشريف أبا جعفر، وكان مقيماً بالرصافة، فبلغه أن القشيري على نية الصلاة في جامع الرصافة يوم الجمعة، فمضى إلى باب المراتب فأقام أياماً، ثم مضى إلى المسجد المعروف اليوم بابن شافع وهو المقابل لباب النوبي، فأقام فيه وكان يبذل لليهود مالاً ليسلموا على يد ابن القشيري ليقوي الغوغاء، فكان العوام يقولون: هذا إسلام الرشاء، لا إسلام التقى.
فأسلم يوماً يهودي، وحمل على دابة، واتفقوا على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده والإيقاع به، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومة إن وقعت فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر، فوقعت الفتنة ووصل الآجر إلى حاجب الباب، وقتل من أولئك خياط من سوق الثلاثاء، وصاح أصحابها على باب النوبي المستنصر بالله: يامنصور، تهمة للديوان بمعرفة الحنابلة، وتشنيعاً عليه، وغضب أبو إسحاق الشيرازي، ومضى إلى باب الطاق، وأخذ في إعداد أهبة السفر، فأنفذ إليه الخليفة من ردّه عن رأية، فبعث الفقهاء أبا بكر الشاشي وغيره من النظام يشرح له الحال، فجاء كتاب النظام إلى الوزير فخر الدولة بالامتعاض مما جرى، والغضب لتسلط الحابلة على الطائفة الأخرى، وإني أرى حسم القول في ما يتلعق بالمدرسة التي بنيتها في أشياء من ه1ا الجنس.
وحكى الشيخ أبو المعالي صالح بن شافع عن شيخة أبي الفتح الحلوني وغيره ممن شاهد الحال: أن الخليفة لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام أمر الوزير أن يجيل الفكر فيما تنحسم به الفتنة، فاستدعى الشريف أبا جعفر، وكان فيمن نفذه إليه ابن جردة فتلطف به ابن جردة حتى حضر في الليل، وحضر أبو إسحاق، وأبو سعد الصوفي، وأبو نصر ابن القشيري، فلما حضر الشريف عظمه الوزير ورفعه، وقال: إن أمير الؤمنين ساءه ما جرى من اختلاف المسلمين في عقائدهم وهؤلاء يصالحونك على ما تريد.
وأمر هم بالدنو من الشريف، فقام إليه أبو إسحاق، وقد كان يتردد في أيام المناظرة إلى مسجده بدرب المطبخ، فقال له: أنا ذاك الذي تعرف، وهذه كتبي في أصول الفقه، أقول فيها خلافاً للأشعرية، ثم قبّل رأسه فقال الشريف: قد كان ما تقول، إلا أنك لما كنت فقيراً لم يظهر لنا ما في نفسك فلما جاءك الأعوان والسلطان وخواجا بزرك أبديت ما كان مخفياً.
ثم قام أبو سعد الصوفي فقبّل يد الشريف وتلطف به فالتفت الشريف مغضباً وقال: أيها الشيخ، أما الفقهاء فإذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، فأما أنت فصاحب لهو سماع وبغتة، فمن زاحمك على ذلك وعلى ما نلته من قبول عند أمثالك حتى داخلت المتكلمين والفقهاء، فأقمت سوق التعصب.
ثم قام القشيري وكان أقلّهم للشريف أبي جعفر لجروانه معه، فقال الشريف: من هذا؟ فقيل: أبو نصر القشيري. فقال: لو جاز أن يشكر أحد على بدعته لكان هذا الشاب؛ لأنه بادهنا بما في نفسه، ولم ينافقنا كما فعل هذان، وثم التفت إلى الوزير وقال: أي صلح بيننا، إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية أو دنيا، أوقسمة ميراث، أو تنازع في الملك، فأما هولاء القوم فهم يزعمون أننا كفار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كافر، فأي صلح بيننا وهذا الإمام مفزع المسلمين، وقد كان جده القائم والفادر أخرجا اعتقادهما للناس، وقرىء عليهم في دواوينهم، وحمله عنهما الخراسانيون والحجيج إلى أطراف الأرض، ونحن على اعتقادهما.
وأنهى الوزير ما جرى، فخرج في الجواب: عرفنا ما أنهيته في حضور ابن العم، كثر الله في الأولياء مثله، وحضور من حضر من أهل العلم، الحمد لله الذي جمع الكلمة، وضم الألفة، فليؤذن الجماعة في الانصراف، وليقل لابن أبي موسى انه قد أفراد له موضع قريب من الخدمة ليراجع في كثير من الأمور الدينية، وليتبرك بمكانه.


فلما سمع الشريف هذا قال: فعلتموها، فحمل إلى موضع أفراد له وكان الناس يدخلون عليه مديدة ثم قيل له: قد كثر استطراق الناس دار الخلافة فاقتصر على من يعين دخوله. فقال: ما لي غرض في دخول أحد عليّ. فامتنع الناس، ثم مرض الشريف مرضاً أثر في جليه فانتفختا، فيقال: ان بعض المتفقهة من الأعداد نزل له في مداسه سماً، والله أعلم.
وفي ذي القعدة: كثرت العلل والأمراض ببغداد، وواسط، السواد، وكثر الموت حتى بقي معظم الغلات بحالها في الصحراء لعدم من يرفعها، وورد الخبر من الشام كذلك.
وفي يوم الأربعاء لعشر بقين منذي القعدة: أزيلت المواخير، ودور الفسق ببغداد ونقضت، وهرب الفواسق وذلك لخطاب جرى من الخليفة للشحنة الذي كانت هذه إقطاعه، وبذل له عنها ألف دينار فامتنع، وقال: هذه يحصل منها ألف وثماني مائة دينار، فكوتب النظام بما جرى، فعوض الشحنة من عنده، وكتب بإزالتها.
وفي ذي العقدة: أخرج أبو طالب الزينبي إلى مكة لأجل البيعة للمقتدي على أمير مكة ابن أبي هاشم وأصحب خلعة.
وفي ذي الحجة: ورد الخبر بأن سابور بن محمود صاحب حلب أنفذ إلى أنطاكية بمن حاصرها، فبلغ الخبز بها رطلين بدينار، وقرر عليها مائة وخمسون ألفاً وأخذوها وعادوا.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
اسبهند وست بن محمد بن الحسن، أبو منصور الديلمي شاعر مجود لقي أبا عبد الله بن الحجاج، وعبد العزيز بن نباته، وغيرهما من الشعراء، وكان يتشيع ثم تاب من ذلك.
وذكر توبته في قصيدة يقول فيها:
لاح الهدى فجلا عن الأبصار ... كالليل يجلوه ضياء نهار
ورأت سبيل الرشد عيني بعدما ... غطى عليها الجهل بالأستار
لابد فاعلم للفتى من توبة ... قبل الرحيل إلى ديار بوار
يمحو بها ما قد مضى من ذنبه ... وينال عفو إلهه الغفار
يا رب إني قد أتيتك تائباً ... من زلتي يا عالم الأسرار
وعلمت أنهم هداة قادة ... وأئمة مثل النجوم دراري
وعدلت عما كنت معتقداً له ... في الصحب صحب صبيّة المختار
والسيد الصديق والعدل الرضى ... عمر وعثمان شهيد الدار
صحب النبي الغر بل خلفاؤه ... فينا بأمر الواحد القهار
رحماء بينهم بذاك صفاتهم ... وردت أشداء على الكفار
وتراهم من راكعين وسجد ... يستغفرون الله بالأسحار
أيقنت حقاً أن من والاهم ... سيفوز بالحسنى بدار قرار
فعدلت نحوهم مقراً بالولا ... ومخالفاً للعصبة الأشرار
مترجياً عفو الإله ومحوه ... ما قدمته يدي من الأوزار
وإذا سئلت عن اعتقادي قلت ما ... كانت عليه مذاهب الأبرار
وأقول خير الناس بعده خير الورى ... أكرم بهم من سادة أطهار
هذا اعتقادي والذي أرجو به ... فوزي وعتقي من عذاب النار
وسئل شيخنا عبد الوهاب الأنماطي عن اسبهندوست قال: كان شاعراً يشتم أعراض الناس.
توفي في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن في مقبرة الخيزران.
رزق الله بن محمد بن أحمد بن علي، أبو سعد الأنباري الخطيب، ابن الأخضر من أهل الأنبار. سمع أبا أحمد الفرضي، وأبا عمر بن مهدي وغيرهما، وتفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وحدث وكان يفهم ما يقرأ عليه، ويحفظ عامة حديثه، وانتشرت عنه الرواية، وكان صدوقاً ثقة، وحسن الصوت والسمت، وهو أخو أبي الحسن علي بن محمد بن محمد الخطيب. توفي في ليلة عيد الفطر من هذه السنة.
طاهر بن أحمد بن بابشاذ، أبو الحسن المصري النحوي اللغوي. توفي في رجب هذه السنة، وكان سبب وفاته أنه سقط في جامع عمرو بن العاص فتوفي من ساعته.
عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن أحمد بن المجمع بن مجيب بن بحر بن معبد بن هزارمرد، أبو محمد الصريفيني ولد ليلة الجمعة سابع صفر سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، ويعرف بابن المعلم.


سكن صريفين وسمع أبا القايم بن حبابة، وابن أخي ميمي، وأبا حفص الكناني، والمخلص وغيرهم، وهو آخر من حدّث بكتاب علي بن الجعد. وكان قد انقطع عن بغداد. حدثنا عنه عبد الوهاب الأنماطي وغيره.
أبنأنا محمد بن ناصر قال: أنبأنا محمد بن طاهر المقدسي قال: سمعت أبا القاسم هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي يقول: دخلت بغداد وسمعت ما قدرت عليه من المشايخ، ثم خرجت أريد الموصل، فدخلت صريفين فكنت في مسجدها فقال: كان أبي يحملني إلى أبي حفص الكتاني، وابن حبابة وغيرهما، وعندي أجزاء فقلت: أخرجها لي حتى أنظر إليها، فأخرج إليّ حزمة فيها كتاب علي بن الجعد بالتمام مع غيره من الأجزاء فقراته عليه، ثم كتبت إلى أهل بغداد، فرحلوا إليه وأحضرته للكبراء من أهل بغداد، وأحضره قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني، وكل من سمع من الصريفيني فالمنة لأبي القاسم، وفي بعض ألفاظ هذه الحكاية من طريق آخر: أن الأصول التي أخرجها كانت بخط ابن الصقال وغيره من العلماء، وأنه سمع منه أبو بكر الخطيب، وكان ثقة محمود الطريقة صافي الطوية.
وتوفي بصريفين في جمادى الأولى من هذه السنة.
عبد الله بن سعيد بن حاتم، أبو نصر السجزي الوائلي الحافظ منسوب إلى قرية على ثلاث فراسخ من سجستان يقال لها: وائل، ويقع في الحديث جماعة يقال لهم الوائلى إلا أنهم منسوبون إلى بني وائل.
سمع أبو نصر الحديث الكثير وفقه وفهم، وصنّف وخرج وكان قيماً بالأصوال والفروع، وله التصانيف الحسان منها: الإبانة في الرد على الرافعين وأقام بالحرم.
أنبأنا محمد بن ناصر، عن أبي اسحاق بن إبراهيم بن سعيد الحبال قال: خرج أبو نصر على أكثر من مائة شيخ ما بقي منهم غيري، قال: وكان أحفظ من خمسين مثل الصوري.
عبد الباقي بن أحمد بن عمر، أبو نصر الداهداري الواعظ سمع من ابن بشران وغيره، وحدّث، ولا نعلم به بأساً، وتوفي يوم السبت العشرين من شعبان.
عبد الكريم بن الحسن بن علي بن رزمة، أبو طاهر الخباز. ولد سنة إحدى وتسعين وثلثمائة، سمع أبا عمر بن مهدي، وابن رزقويه، وابن بشران وغيرهم، وكان ثقة، وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
عبد الكريم بن أحمد بن طاهر بن أحمد، أبو سعد الوزان التميمي من أهل طبرستان، سمع الحديث بمرو، وما وراء النهر، وبغداد، وروى عنه زاهر بن طاهر، وتفقه وبرع في المناظرة وكانت له فصاحة، وتوفي في هذه السنة علي بن خليفة بن رجاء بن الصقر، أبو القاسم الخرقي، وروى عنه شيخنا أبو منصور بن زريق وتوفي في ليلة الجمعة سابع عشرين ذي الحجة، ودفن بمقابر الشهداء.
محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن بن الحسين بن علي بن هارون، أبو الحسن البرداني أبو أبي علي البرداني ولد سنة ثمانين وثلثمائة بالبردان، ثم انتقل إلىبغداد، وسمع من أبي الحسن ابن رزقويه، وابن بشران، وابن شاذان، وغيرهم، وكان له علم بالقراآت، وكان ثقة عالماًصالحاً أميناً. توفي ليلة الجمعة سلخ ذي القعدة من هذه السنة. وحدّث عنه شيخنا أبو بكر بن طاهر.
محمد بن علي بن الحسين المعروف بابن سيكنة، أبو عبد الله الأنماطي ولد سنة تسعين وثلثمائة وحدّث عن أبي القاسم الصيدلاني وغيره، وكان كثير السماع، ثقة حدثنا عنه جماعة من مشايخنا وتوفي في ذي القعدة من هذه السنة ودفن بباب أبرز.
ثم دخلت
سنة سبعين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها : أنه وقعت صاعقة في شهر ربيع الأول في محله التوثة من الجانب الغربي على نخلتين من مسجد فأحرقتهما ، فصعد الناس فأطفأوا النار بعد أن اشتعل من سعفهما و كربهما وليفهما ، فرمي ، فأخذه الصبيان وهو يشتعل في أيديهم كالشمع وفي رمضان : حمل إلى مكة مع أصحاب محمد بن أبي هاشم العلوي أمير مكة منبر كبير ، جميعه منقوش مذهب ، تولى الوزير فخر الدولة أبو نصر بن جهير عمله في داره بباب العامة ، وكان مكتوباً عليه : " لا إله إلا الله محمد رسول الله ، الإمام المقتدي بأمر الله أمير المؤمنين " مما أمر بعمله محمد بن محمد بن جهير ، فاتفق وصوله إلى مكة وقد أعيدت الخطبة المصرية ، وقد قطعت العباسية ، فآل أمره إلى أن كسر واحرق .


وورد كتاب من النظام إلى أبي إسحاق الشيرازي في جواب بعض كتبه الصادرة إليه في معنى الحنابلة ، وفيه : ورد كتابك بشرح أطلت فيه الخطاب ، وليس توجب سياسة السلطان وقضية المعدلة إلى أن نميل في المذاهب إلى جهة دون جهة ، ونحن بتأييد السنن أولى من تشييد الفتن ، ولم نتقدم ببناء هذه المدرسة إلا لصيانة أهل العلم والمصلحة ، لا للاختلاف و تفريق الكلمة ،ومتى جرت الأمور على خلاف ما أردناه من هذه الأسباب فليس إلا التقدم بسد الباب ، وليس في المكنة إلا بيان على بغداد و نواحيها ، ونقلهم عن ما جرت عليه عاداتهم فيها ، فإن الغالب هناك وهو مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمة الله عليه ، ومحله معروف بين الأئمة ، وقدرة معلوم في السنة ، وكان ما انتهى إلينا أن السبب في تجديد ما تجدد مسألة سئل عنها أبو نصر القشيري عن الأصول ، فأجاب عنها بخلاف ما عرفوه في معتقداتهم ، والشيخ الإمام أبو إسحاق وفقه الله رجل سليم الصدر ، سلس الانقياد ، ويصغي إلى كل من ينقل إليه ، و عندنا تصادر كتبه ما يدل على ما وصفناه من سهولة يجتذبه و السلام .
فتداول هذا الكلام بين الحنابلة وسروا به ، وقووا معه ، فلما كان يوم الثلاثاء ثاني شوال وهو يوم يسمى بفرح ساعة خرج من المدرسة متفقة يعرف بالاسكندراني ، ومعه بعض من يؤثر الفتنة إلى سوق الثلاثاء ، فتكلم بتكفير الحنابلة فرمي بآجرّه ، فدخل إلى سوق المدرسة و استغاث بأهلها ، فخرجوا معه إلى سوق الثلاثاء، ونهبوا بعض ما كان فيه ، ووقع الشر ، وغلب أهل سوق الثلاثاء بالعوام ، ودخلوا سوق المدرسة فنهبوا القطعة التي تليهم منه ، وقتلوا مريضاً وجدوه في غرفة ، وخاف نؤيد الملك على داره فأرسل إلى العميد أبي نصر يعلمه الحال ، فأنقذ إليه الديلم والخراسانية فدفعوا العوام ، وقتلوا النشاب بضعة عشر ، وأنقذ من الديوان خدم لإطفاء الثائرة ، ولحمل المقتولين إلى الديوان حتى شهدهم القضاة و الشهود ، وكتبوا خطوطهم بذلك ، وكان نساؤهم على باب النوبي يلطمن ، وكتب بذلك إلى النظام فجاءت مكاتبات منه بالجميل ، ثم ثناها بضد ذلك .
وفي بكرة السبت تاسع عشر شوال ولد للمقتدي مولود سماه أحمد ، وكناه : أبا العباس ، وجلس الوزير فخر الدولة في باب الفردوس للهناء ،و علق الحريم ، وما بقي من محال الكرخ ، ونهر كابق ، ونهر القلائين ، وباب البصرة ، وشارع دار الرقيق سبعة أيام ، وهو الذي آل الأمر إليه ، وسمي : المستظهر بالله ، وولد له آخر وقت الظهر يوم الأحد السادس و العشرين من ذي القعدة سماه : هارون ، وكناه : أبا محمد ، وجلس لهنائه يوم الاثنين .
وولي تاج الدولة تتش بن ألب ارسلان الشام ، وحاصر حلب .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر .
أحمد بن أحمد بن سليمان بن علي الواسطي سمع أبا أحمد الفرضي وأبا عمر بن مهدي وغيرهما ، وكان سماته صحيحاً . وتوفي يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول ، ومكث عنه شيخنا أبو القاسم بن السمرقيدي ، ودفن بباب حرب .
حمد بن حمد بن طالب ، أبو طالب الدلال، ابن القزويني الزاهد ولد سنة سبع وسبعين و ثلثمائة ، وحدث عن أبي الحسن ابن رزقوية وغيره ، وتوفي يوم الاثنين سابع عشر ربيع الأول ودفن بباب حرب .
أحمد بن محمد بن أحمد بن يعقوب بن حمد، أبو بكر الوزان المقرئ ولد في صفر سنة إحدى وثمانين وثلثمائة ، وحدث عن خلق كثير وهو آخر من حدث عن أبي الحسين بن سمعون ، وكان ثقة زاهداً متعبداً حسن الطريقة كتب عنه أبو بكر الخطيب ،و كان صدوقاً .
وتوفي في ليلة السبت رابع عشرين ذي الحجة ،ودفن بمقبرة باب حرب .
أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله، ابن النقور البزاز ولد في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وثلثمائة ، وسمع من أبن حبابة ، وابن مردك و المخلص ، وخلق كثير ،وكان مكثراً صدوقاً ثقة ، متحرياً فيما يرويه ، تفرد بنسخ رواها البغوي عن أشياخه : كشيخة هدبة ، وكامل بن طلحة ، وعمر بن زرارة ، وأبي السكن البلدي ، وكان يأخذ على جزء طالوت بن عباد ديناراً.
قال شيخنا ابن ناصر : كان أصحاب الحديث يشغلونه عن الكسب لعياله ، فأفتاه أبو إسحاق الشيرازي بجواز أخذ الأجرة على التحديث ، وكان يأخذ الأجرة زكاة ، ويسكن طرف درب الزعفران ممايلي الكرخ .


حدثنا عنه جماعة من أشياخنا آخرهم أبو القاسم بن الحاسب ، وهو آخر من حدث عنه ، وتوفي يوم الجمعة النصف من رجب هذه السنة ، ودفن من الغد في مقابر الشهداء بباب حرب أحمد بن عبد الملك بن علي بن أحمد، أبو صالح المؤذن النيسابوري ولد سنة ثمان وثمانين ، وحفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، وسمع الكثير، وكتب الكثير وصنف، وكان حافظاً ثقة، ذا دين متين وأمانة وثقة وكان يعظ ويؤذن .
أنبأنا زاهر بن طاهر قال : خرج أبو صالح المؤذن ألف حديث عن ألف شيخ .
عبد الله بن الحسن بن محمد بن الحسن بن علي، أبو القاسم بن أبي محمد الخلال ولد في شعبان سنة خمس وثمانين ، وسمع من المخلص ، وأبي حفص الكتاني و غيرهما ، وهو آخر من حدث عن الكتاني وعمر ، ونقل عنه الكثير وروى عنه أشياخه وكان ثقة .
أخبرنا أبو منصور القزاز ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال : عبد الله بن محمد الخلال : كتبت عنه ، وكان صدوقاً ينزل باب الأزج، وسألته عن مولده فقال : ولدت في سنة خمسين وثمانين و ثلثمائة .
توفي يوم الأحد ثامن عشر صفر هذه السنة ، وصلي عليه في جامع المدينة ، ودفن بمقبرة باب حرب .
عبد الرحمن بن محمد ابن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم بن مندة ، ومنده لقب إبراهيم، أبو القاسم بن أبي عبد الله الأصبهاني الإمام ابن الإمام .
ولد سنة ثمان وثمانين وثلثمائة ،وسمع أباه ، وأبا بكر بن مردويه وخلقاً كثيراً ، وكان كثير السماع ، كبير الشأن ، سافر البلاد ، وصنف التصانيف ، وخرج التاريخ ، وكان له وقار وسمت وأتباع فيهم كثرة ، وكان متمسكاً بالسنة ، معرضاً عن أهل البدع ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، لا يخاف في الله لومة لائم ، وكان سعد بن محمد الزنجاني يقول : حفظه الله الإسلام برجلين : أحدهما بأصبهان ، والآخر بهراة عبد الرحمن بن منده ، وعبد الله الأنصاري .
توفي بأصبهان في هذه السنة وصلى أخوه عليه عبد الوهاب وحضر جنازته خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى .
عبد الملك بن عبد الغفار بن محمد بن المظفر بن علي، أبو القاسم الهمذاني يلقب سحير سمع خلقاً كثيراً بهمذان وبغداد ، وكان فقيهاً حافظاً وكان من الأولياء كان يكتب للطلبة بخطه ، ويقرأ لهم .
توفي باكري في محرم هذه السنة ، ودفن بجنب إبراهيم الخواص عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن عيسى بن أحمد بن موسى بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب، أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة ، وكان عالماً فقيهاً ، ورعاً عابداً زاهداً ، قؤولاً بالحق لا يحابي أحداً ، ولا تأخذه في الله لومة لائم .
سمع أبا القاسم بشران ، وأبا محمد الخلال ، وأبا إسحاق البرمكي ، وأبا طالب العشاري وغيرهم، وتفقه على القاضي أبي يعلى ، ثم ترك الشهادة قبل وفاته ، ولم يزل يدرس في مسجده بسكة الخرقي من باب البصرة و بجامع المنصور ، ثم انتقل إلى الجانب الشرقي فدرس في مسجد مقابل لدار الخلافة ثم انتقل لأجل الغرق إلى باب الطاق ، وسكن درب الديوان من الرصافة ، ودرس بجامع المهدي ، وبالمسجد الذي على باب درب الديوان ، وكان له مجلس نظر ، ولما احتضر القائم بأمر الله قال : يغسلني عبد الخالق. ففعل ولم يأخذ مما هناك شيئاً فقيل له: قد وصى لك أمير المؤمنين بأشياء كثيرة . فأبى أن يأخذ . فقيل له: فقميص أمير المؤمنين تتبرك به. فأخذ فوطة نفسه فنشفه بها ، وقال: قد لحق هذه الفوطة بركة أمير المؤمنين .
ثم استدعاه في مكانه المقتدي فبايعه منفرداً، فلما وصل إلى بغداد أبو نصر بن القشيري طهرب الفتن، فكان هو شديداً على المبتدعة وقمعهم، وحبس فضج الناس من حبسه، وإنما حبس قطعاً للفتن في دار والناس يدخلون عليه، فقيل له : نكون قريباً منك نراجعك في أشياء، فلما اشتد مرضه تحامل بين اثنين، ومضى إلى باب الحجرة وقال: قد جاء الموت، ودنا الوقت، وما أحب أن أموت إلا في بيتي بين أهلي: فأذن له، فمضى إلى بيت أخته بالحريم الظاهري .


وقرأت بخط أبي علي بن البناء، قال : جاءت رقعة بخط الشريف أبي جعفر ووصيته إلى الشيخ أبي عبد الله بن جردة فكتبها وهذه نسختها: مالي يشهد الله سوى الدلو و الحبل أو شيء يخفي علي لا قدر له، و الشيخ أبو عبد الله ، لئن راعاكم بعدي وإلا فالله لكم، قال الله عز و جل: " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليلتقوا الله " ومذهبي الكتاب و السنة و إجماع الأمة، وما عليه مالك و أحمد و الشافعي، وغيرهم ممن يكثر ذكرهم، والصلاة بجامع المنصور إن سهل ذلك عليهم، ولا يقعد لي عزاء، ولا يشق علي جيب، ولا يلطم خد، فمن فعل ذلك حسيبة .
فتوفي ليلة الخميس للنصف من صفر، وتولى غسله أبو سعيد البرداني وابن الفتي، لأنه أوصى إليه بذلك، وكانا قد خدماه طول مرضه، وصلي عليه يوم الجمعة بجامع المنصور فازدحم الناس، وكان يوماً مشهوداً لم ير مثله، وكانت العوام تقول: ترحموا على الشريف الشهيد القتيل المسموم، لأنه قيل أن بعض المبتدعة ألقى سماً في مداسه. ودفن إلى جانب قبر أحمد بن حنبل، وكان النسا يبيتون هناك كل ليلة أربعاء ويختمون الختمات، وتخرج المتعيشون فيبيعون المأكولات، وصار ذلك فرجة للناس، ولم يزالوا كذلك إلى أن جاء الشتاء فامتنعوا، فختم على قبره في تلك المدة أكثر من عشرة آلاف ختمة .
محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله، أبو عبد الله بن أبي الحسن، البيضاوي والد شيخنا أبي الفتح . حدث بشيء يسير عن أبي القاسم عمر بن الحسين الخفاف ، وكان فقيهاً على مذهب الشافعي ، تولى القضاء بربع الكرخ .
وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن إلى جانب أبيه في مقبرة باب حرب .
بنت الوزير نظام الملك وهي زوجة الوزير عميد الدولة ابن الوزير فخر الدولة توفيت في شعبان نفساء بولد ذكر مات بعدها فدفنا بدار بباب العامة لأبيها، ولم تكن العادة جارية بالدفن في ما يدور السور، وجلس فخر الدولة وعميد الدولة للعزاء بها ثلاثة أيام.
ثم دخلت
سنة إحدى وسبعين وأربعمائة
فمن الحوادث رسالة من السلطان مشتملة على كراهية الوزير فخر الدولة و المطالبة بعزله، وأن لاييفذ إلى خراسان رسول من دار الخلافة، وأن لا يكون فيها غلمان أتراك للخاص و لا للخدم و الاتباع، ثم واصل سعد الدولة الكوهرايين إنفاذ أصحابه إلى باب الفردوس، والملازمة فيه لأجل الوزير، و المطالبة بعزله ، وجرى من التهدد و امتناع الخليفة ما يطول شرحه، حتى قيل إنه ليس بوزير، وإنما عميد الدولة وزيرنا، وقد أنفذناه إليكم في مهماتنا، ولما خلا الديوان، وأنفذت مع ركابي يعرف: " بالدكاك " مرتب لأمثالها، فخرج بها فأخذ منها أصحاب سعد الدولة ما أخذوا وضربوه، وتمم إلى أصبهان فشكا ما لقي، فلم يشك، وحضر سعد الدولة باب الفردوس وهو سكران وقال: إن سلم الوزير إلي وإلا دخلت أخذته، وإن كلمني في معناه إنسان فلوطف فعاد من الغد وبات في جماعة في باب الفردوس، وضربت هناك الطوابل،و شدت فيها خيل الأتراك، ونقل الناس أموالهم من نهر معلى و الحريم إلى باب المراتب و الجانب الغربي، وأحضر الوزير قوماُ بسلاح فباتوا على باب الديوان، وحضر في بكرة فسأل الإذن في ملازمة بيته فأذن له، وخرج إلى سعد الدولة توقيع فيه: لما عرف محمد بن محمد بن جهير ما عليه جلال الدولة ونظام الملك من المطالبة بصرفه سأل الإذن في ملازمة داره إلى أن نكاتبهما بحقيقة حاله، وما هو عليه من الولاء و المخالصة . فأذن له .
فأخذ سعد الدولة التوقيع وانصرف، وأقام الوزير في داره، وجعل ولديه أبا القاسم وأبا البركات ينظران في الأعمال، وأما الوزير عميد الدولة فإنه لما وصل إلى العسكر وجد من النظام التغير الشديد، فأعياه أن يطيبه، وندب نقيب النقباء للخروج إلى أصبهان و الخطاب على اعتبار ما قصد له الوزير عميد الدولة ليعود إلى مراعاة أمر الديوان، فإنه قد وقع الاستضرار ببعده، وليشرح ما جرى من سعد الدولة، فخرج في ليلة الأحد الحادي والعشرين من صفر، فأنقذ سعد الدولة من النهروان، وجرت في ذلك أمور حتى تمكن من السير، ثم ورد صاحب الوزير بكتابين من السلطان و النظام إلى سعد الدولة أنه انتهى إلينا أنك تعرضت بنواحي الديوان العزيز والوزير فخر الدولة، فأخذت منهما ما يجب أن تعيده، فلا تتعرض بما لم تؤمر به .


وأحضر سعد الدولة إلى باب الفردوس من غد، وسلمت الكتب إليه، وعوتب على ما كان منه من فظيع الفعل و قبيح القول، فقال: الله يعلم أن الذي أمرت به أضعاف ما فعلته، وأنا ماض إلى هناك، فإنني قد استدعيت سأوافق على ذلك بمشهد من عميد الدولة. ثم إن الوزير عميد الدولة تلطف بصبره وبوصله إلى أن استسل ما في نفس نظام الملك إظهاراً لرجوع المودة إلى حالها المعهود، وقضى له كل حاجة، وزوجة بابنته، وقدم الوزير إلى بغداد وقد تغير قلب الخليفة له لأفعال الفقهاء الأعداء، و كتب إليه: قد أعدتك إلى والديك، ولا مراجعة لك بعد هذا إلى خدمتنا. فانكفأ مصاحباً فدخل إلى والده بباب العامة، وأغلق الديوان، وسمرت أبوابه التي تلي باب العامة .
وفي يوم السبت سلخ جمادى الآخرة: وفتح الديوان، ورتب الخليفة فيه الوزير أبا شجاع محمد بن الحسين نائباً فيه فجلس بغير مخدة .
وفي يوم الثلاثاء السادس عشر من ذي القعدة: وقع الرضا عن الوزير عميد الدولة، والتعويل عليه في الخدمة، وورد غلام تركي النظام إلى الخليفة يشير برده إلى خدمته، لأنه استشير فيمن يرتب، وقال: ما وصلته بولدي وقد بقي في نفسي بقية مكروهة .
وفي هذا اليوم، انقطع أبو شجاع محمد بن الحسين عن الديوان العزيز، ورتب على باب الحجرة فكان ينهى ويخرج إليه الجواب .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء، أبو علي المقرئ الفقيه المحدث. ولد في سنة ست وتسعين وثلثمائة، وقرأ القرآن على أبي الحسن الحمامي وغيره، وسمع الحديث بين ابني بشران، وهلال الحفار، وأبي الفتح بن أبي الفوارس، وابن رزقويه في خلق كثير، وتفقه على القاضي أبي يعلى بن الفراء، وصنف في كل فن، فحكي عنه أنه قال : صنفت خمسين ومائة مصنف، وكان له حلقة بجامع القصر من مشايخنا، وتوفي ليلة السبت خامس رجب هذه السنة، وأم الناس في الصلاة عليه أبو محمد التميمي، ودفن في مقبرة باب حرب .
وقد حكى أبو سعد السمعاني قال : سمعت أبا القاسم بن السمرقندي يقول : كان واحد من أصحاب الحديث اسمه الحسن بن أحمد بن عبد الله النيسابوري، وكان سمع الكثير، وكان ابن البناء يكشط من التسميع بوري ويمد السين، وقد صار الحسن بن أحمد بن عبد الله البناء، قال كذا قيل أنه يفعل هذا .
قال المصنف: وهذا القول بعيد الصحة لثلاثة أوجه: أحدها : أنه قال - كذا قيل - ولم يحك عن علمه بذلك، فلا يثبت هذا . والثاني: أن الرجل مكثر لا يحتاج إلى الاستزادة لما يسمع، ومتدين و لا يحسن أن يظن بمتدين الكذب. و الثالث: أنه قد اشتهرت كثرة رواية أبي علي بن البناء، فأين هذا الرجل الذي يقال له الحسن بن أحمد بن عبد الله النيسابوري، و من ذكره، ومن يعرفه، ومعلوم أن من اشتهر سماعه لا يخفي، فمن هذا الرجل، فنعوذ بالله من القدح بغير حجة .
سعد بن علي بن محمد بن علي بن الحسين، أبو القاسم الزنجاني طاف البلاد، ولقي الشيوخ بمصر والشام والسواحل، وقرأ، وكان إماماً حافظاً ورعاً متعبداً متقناً، وانقطع في آخر عمره بمكة، وكان الناس يتبركون به، فإذا خرج يطوف قبلوا يده أكثر مما يقبلون الحجر، وتوفي في هذه السنة بمكة .
أنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي ، عن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد الكوفي يقول: لما عزم سعد على الإقامة بمكة و المجاورة عزم على نفسه نيفاً وعشرين عزيمة أنه يلزمها من المجاهدات والعبادات ومات بعد ذلك بأربعين سنة، ولم يخل منها بعزيمة واحدة .
سليم الحوزي وحوزي قرية من أعمال دجيل، كان زاهداً عابداً، وكان يقول: أعرف من بقي مدة يأكل كل يوم زبيبة يعني نفسه وسمع الحديث.
وتوفي يوم الثلاثاء ثامن عشر شوال ودفن بقريته .
سلمان بن الحسن بن عبد الله، أبو نصر صاحب ابن الذهبية ولد سنة ست وستين وثلثمائة، وسمع من ابن مخلد، والخرقي، و كان سماعه صحيحاً، وكان من أهل الستر و الصلاح، روى عنه شيخنا عبد الوهاب الأنماطي، وتوفي يوم الثلاثاء من رجب ودفن بمقبرة باب حرب .
عبد الله بن سبعون، أبو محمد المالكي القيرواني سمع الكثير روى عنه أشياخنا، و توفي في ليلة السبت ثالث عشر رمضان، ودفن بباب حرب .
عبد الرحمن بن أحمد بن علي، أبو القاسم الطبري، ابن الزجاجي


سمع أبا أحمد الفرضي، وتوفي يوم الأحد سادس عشر ربيع الأول .
عبد الرحمن بن علوان بن عقيل بن قيس، أبو أحمد الشيباني سمع جماعة، وتوفي يوم الاثنين رابع ربيع الآخر، وقد حدثنا عنه أشياخنا .
عبد الباقي بن محمد بن غالب، أبو منصور المعدل ولد سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وسمع المخلص وغيره، وكان سماعه صحيحاً، وروى عنه أشياخنا، وكان صدوقاً .
وتوفي في ليلة الأحد خامس عشرين ربيع الآخر، ودفن بمقبرة باب حرب .
عبد العزيز بن علي بن أحمد بن الحسين أبو القاسم الحربي الأنماطي، ابن بنت أبي الحسن على بن عمر السكري ولد سنة ثمان وثمانين وثلثمائة، وسمع أبا طاهر المخلص، وغيره، وكان سماعه صحيحاً ، وروى عنه أشياخنا .
قال شيخنا عبد الوهاب بن المبارك: كان عبد العزيز بن علي ثقة، وكنا عنده يوماً نقرأ عليه فاحتاج إلى القيام، فقلنا له: تقيم ساعة، ما بقي إلا ورقة فأقعدنا وقرأنا عليه ، ثم قلنا: قد فرغت الورقة. فقال: وأنا أيضاً قد بلت في ثيابي .
توفي في رجب هذه السنة، ودفن في مقبرة باب حرب .
عمر بن أبي الفتح عبد الملك بن عمر بن خلف الرزاز. كان زاهداً، وحدث عن أبن رزقويه، وابن شاذان وغيرهما، وابتلي بمرض أقعد منه، وتوفي في السبت خامس رجب، وتوفي في ليلة السبت خامس رجب، ودفن في مقبرة باب حرب .
عمر بن عبيد الله بي عمر، أبو الفضل البقال الشافعي سمع أبا الحسين بن بشران وغيره، وكان ثقة، روى عنه أشياخنا .
وتوفي يوم الثلاثاء النصف من ذي الحجة ، ودفن بباب حرب .
علي بن محمد بن علي، أبو القاسم الكوفي الأصل النيسابوري المولد. ولد في غرة ذي الحجة سنة ثمان وأربعمائة، وسمع من أبي سعيد محمد بن موسى الصيرفي، وأبي بكر أحمد بن الحسن الحيري، وخلق كثير. وسمع مسند شعبة، وحدث بمسند الشافعي رضي الله عنه .
محمد بن علي، أبو عبد الله بن المهدي الهاشمي، ابن الحندقوقي الشاعر سمع أبا عمر الهاشمي، وأبا الحسن بن رزقوية، وكان سماعه صحيحاً، وتوفي يوم الأحد سادس ذي الحجة، ودفن في داره بباب البصرة .
ثم دخلت
سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها : أنه في يوم الجمعة خامس ربيع الأول رتب في الحسبة بالحريم أبو جعفر بن الخرقي الشاهد، وكان التطفيف فاشياً، و الأمور فاسدة، حتى إنه وجد في ميزان بعض المتعيشين حبات على شكل الأرز من رخام وزن الواحدة حبتان و نصف، فتولى ذلك على أن يبسط يده في الخاص و العام، وأن لا يستعمل مراقبة، ولا يجيب شفاعة، فوعده عميد الدولة بذلك، وتنجز له به التوقيع، فزم الأمور، وأقام الهيبة، وأدب وعزر، ولم يقبل شفاعة فاتحرست الأمور، وانحسمت الأدواء .
وفي رجب : وصل السلطان جلال الدولة إلى الأهواز للصيد و الفرجة، وقبض على ابن علان اليهودي ضامن البصرة وقتله، وأخذ من ذخائره نحو من أربعمائة ألف دينار، وكان هذا الرجل منتمياً إلى نظام الملك وكان بين نظام الملك وبين خمارتكين بن الشراي وبنيه وسعد الدولة الكوهرائي عداوة، فتوصلا فيهلاك ابن علان لينفرا لنظام الملك ويوحشا السلطان منه، وعرف نظام الملك الحال فنفر وأغلق بابه ثلاثة أيام، وأشير عليه بالرجوع عن هذا الفعل فرجع، ولما عاد السلطان إلى أصبهان عمل له نظام الملك دعوة اغترم عليها جملة، وعاتبه عتاباً أجابه عنه بتطييب نفسه . وكان ابن علان قد تفاقم أمره حتى إن زوجته ماتت فمشى خلف جنازتها جميع من بالبصرة سوى القاضي، وكان معه تذكرة بأمواله، فلما تقدم بتغريقه رمى التذكرة إلى الماء قبله، ووجد له برموز في تذكرة فأخذ أكثر ذلك، وكان فيها مكنسة ألف دينار، فلم يفطن لذلك حتى رأوا امرأة مقعدة ترجف فأرهبوها فأقرت. وضمن خمارتكين بن الشراي البصرة بمائة ألف دينار ومائة فرس كل سنة .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن محمد بن عثمان، أبو عمر السنخواني


وسنخوان قرية من قرى نسا، وهو من أولاد الحسن بن سفيان الشيباني . ولد سنة أربعمائة اشتغل بالعلم مدة وسمع الحديث من جماعة، وناب في القضاء، ثم استعفى وخرج إلى الحجاز، وقطع البادية على التجريد، ثم عاد إلى نيسابور، و قدم أبا سعيد بن أبي الخير، وأبا القاسم القشيري، ثم عاد إلى قريته فبنى بها رباطاً، وجلس محافظاً للأوقات، كثير الذكر، وقصده المريدون من النواحي .
توفي في هذه السنة، ودفن في قريته .
عبد الله بن أحمد بن عبيد الله بن عثمان، أبو محمد السكري ولد سنة خمس وتسعين وثلثمائة، سمع أبا الحسن بن الصلت، وأبا أحمد الفرضي وغيرهما، وصاحب عبد الصمد، وانتمى إليه، وتأدب بأخلاقه، وكان أميناً مأموناً، روى عنه شيخنا أبو القاسم ابن السمرقندي، وتوفي في رجب من هذه السنة، وصلى عليه بجامع المنصور أبو محمد التميمي، ودفن في مقبرة باب حرب، وقد ذكره شجاع فقال : عبد الله بن عثمان فنسبه إلى جده .
عبد الملك بن الحسن بن أحمد، ابن خيرون، أبو نصر روى الحديث، وكان زاهداً يختم كل ليلة ختمة، ويسرد الصوم، وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة .
محمد بن هبة الله بن الحسين بن منصور، أبو بكر بن أبي القاسم الطبري اللاكاني ولد سنة تسع وأربعمائة، وحدث عن هلال الحفار وغيره، وكان ثقة كثير السماع، حدثنا عنه أبو القاسم بن السمرقندي وغيره، وتوفي في يوم الجمعة رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن بمقبرة الشونيزية .
محمد بن عبد العزيز، أبو يعلى الدلال، ابن الظاهري، ويعرف بابن المناتقي سمع بن ابن رزقوية وغيره، وكان سماعه صحيحاً .
وتوفي في يوم الثلاثاء النصف من رمضان .
محمد بن محمد بن أحمد بن الحسين بن عبد العزيز بن مهران، أبو منصور العكبري ولد يوم الأحد سابع عشر رجب سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة، وسمع هلال الحفار، والحمامي، وابن رزقوية، وابن بشران وغيرهم، وقد ذكره الخطيب فقال كان صدوقاً، وذكره أبو الفضل بن خيرون فغمزه وقال : خلط ونسبه إلى التشيع، وقال: استعار مني جزءاً لنفسه فيه . ومن الجائز أن يكون قد عارض نسخة فيها سماعه، فلا يجوز القطع بالتضعيف من أمر محتمل، والأثبت في حاله أنه صادق، إلا أنه كان صاحب جد وهزل، وكان نديماً، يحكي الحكايات المتستحسنة، و كان مليح النادرة، وله هيئة حسنة، ومازال يخالط أبناء الدنيا .
أنشدنا أبو نصر أحمد بن محمد الطوسي قال : أنشدنا أبو منصور بن عبد العزيز العكبري :
أطيل تفكيري في أي ناس ... مضوا عنا وفيمن خلفونا
هم الأحياء بعد الموت حقا ... ونحن من الخمول الميتونا
لذلك قد تعاطيت التحافي ... وإن خلائقي كالماء لينا
ولم أبخل بصحبتهم لدهر ... ولكن هات ناساً يصحبونا
توفي أبو المنصور في رمضان هذه السنة .
محمد بن علي بن محمود، أبو بكر الزوزني الصوفي حدث عن أبي القاسم الخرقي، وتوفي يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة، ودفن إلى جانب أبيه على باب الرباط المقابل لجامع المنصور .
محمد بن عامر، أبو الفضل وكيل المقتدي و القائم على الجميع أموالهما .
هياج بن عبيد بن الحسين، أبو محمد الحطيني الشامي وحطين قرية من قرى الشام بين طبرية وعكا، بها قبر شعيب النبي عليه السلام وبنته صفورا زوجة موسى عليه السلام .
سمع هياج الحديث من جماعة كثيرة وتفقه، وكان فقيه الحرم في عصره، ومفتي أهل مكة، وكان زاهداً ورعاً متنسكاً مجتهداً في العبادة، كثير الصوم و الصلاة، وكان يأكل كل ثلاث مرة، وكان يعتمر كل يوم ثلاث مرات على قدميه ويذكر عدة دروس لأصحابه، ومذ دخل الحرم لم يلبس نعلاً، وكان يزور رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة كل سنة ماشياً حافياً، فكان إذا خرج فأي من يأخذ بيده يكون في مؤنته إلى أن يرجع، وكان يزور ابن عباس في كل سنة مرة، وبالطائف أخرى، وكان لا يدخر شيئاً ولا يلبس غير ثوب، ووقعت بين أهل السنة و الشيعة فتنة فاتفق أن بعض الروافض شكا إلى أمير مكة محمد بن أبي هاشم فقال : إن أهل السنة ينالون منا ويبغضوننا . فأخذ هياجاً فضربه ضرباً شديداً فحمل إلى زاويته، فبقي أياماً ومات في هذه السنة وقد نيف على الثمانين .
ثم دخلت


سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها : أنه جميع الوعاظ في جمادى الآخرة في الديوان أذن لهم في معاودة الجلوس، وقد كانوا منعوا من ذلك منذ فتنة القشير، وتقدم إليهم أن لا يخلطوا وعظهم بذكر شيء من الأصول والمذاهب .
وفي ذي الحجة : قبض على إنسان يعرف: بابن الرسولي الخباز، وعلى عبد القادر الهاشمي البزاز، وجماعة انتسبوا إلى الفتوة، وكان هذا ابن الرسولي قد صنف شيئاً في معنى الفتوة وفضائلها وقانونها، وجعل عبد القادر المتقدم على من يدخل في الفتوة، وأن يكونوا تلامذته، وكتب لكل منهم منشوراً وقلده صقعاً، ولقب نفسه: كاتب الفتيان، وجعل ذلك طريقاُ إلى دعوات ومجتمعات تعود بمصلحةته، وكتب إلى خادم لصاحب مصر بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم يعرف : بخالصه الملك ريحان الاسكندراني، قد ندب نفسه لرياسة الفتيان، وصارت المكاتبات من جميع البلدان صادرة منه وإليه، والتعويل في هذا الفن وقف عليه، وعن لابن الرسولي أن جعل اجتماعهم بمسجد براثا، وكان مسدود الباب مهجوراً، ففتح بابه ونصب عليه باباً، ورتب فيه من يراعيه، فعرف ذلك أصحاب عبد الصمد فأنكروه وشكوه إلى الديوان، وعظموا مايكون منه وما يتفرع عنه، وقالوا: إن هؤلاء القوم يدعون لصاحب مصر، ويجعلون ذكر الفتوة عنواناً لجمع الكلمة على هذا الباطن، فطالع الوزير عميد الدولة بالحال، فتقدم حينئذ بالقبض على ابن الرسولي وعبد القادر، والكشف عن الحال، ووجد لابن الرسولي في هذا المعنى كتب كثيرة، وكتاب منه إلى الخادم المقدم ذكره، فاستخلاه الوزير عميد الدولة وسأله عن الداخلين في هذا الجهل، فاثبته له جميعهم، وطلبوا فقبض على من وجد منهم، وهرب الباقون، وجعل الشحنة و الوالي ذلك طريقاً إلى الشنقصة وقطع المصانعات عليهم، ونهبت دورهم، ثم أخذت فتاوى الفقهاء عليهم بوجوب كفهم عن هذا الفساد .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن محمد بن عمر بن محم محمد بن اسماعيل بن الأخضر، أبو عبد الله سمع أبا علي بن شاذان، وروى عنه أشياخنا، وكان يذهب إلى مذهب أهل الظاهر، وكان أحسن الناس تلاوة للقرآن في المحراب، حسن الطريقة، حميد السيرة، مقلاً من الدنيا قنوعاً، توفي ليلة الخميس لليلتين بقيتا من شهر ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بمقبرة باب حرب .
عبد السلام بن أحمد بن محمد بن جعفر، أبو الفتح الصوفي، ابن سالبة من أهل فارس، سافر الكثير وجال في البلاد، وسمع بها الحديث، وورد بغداد في سنة خمسة وعشرين وأربعمائة فسمع بها من أبي القاسم ابن بشران، وأبي علي ابي شاذان، وبمصر من أبي عبد الله ابن نظيف، وبأصبهان من أبي بكر ابن ريذة، سمع منه يحيى بن عبد الوهاب بن منده، وتوفي ببيضاء فارس في جمادى الأولى من هذه السنة .
محمد بن محمد بن علي بن الخوزراني، العكبري، أبو الفضل ولد ليلة عرفة سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة،وحدث عن ابن رزقوية .
وتوفي يوم الجمعة للنصف من ربيع الأول محمد بن أحمد بن الحسين الدواني، أبو طاهر الدباس من ساكني الخلالين محلة كانت عند نهر القلائين، سمع أبا القاسم بن بشران، وروى عنه شيخنا إسماعيل السمرقندي، وعبد الوهاب .
توفي يوم الثلاثاء غرة شعبان، ودفن بمقبرة باب حرب.
محمد بن الحسين بن عبد الله بن أحمد بن يوسف بن الشبل، أبو علي الشاعر. من أهل شارع دار الرقيق، سمع الحديث من أحمد بن علي البلدي وغيره، روى لنا عنه اشياخنا وكان أحد الشعراء المجودين، فمن جيد شعره :
لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في السراء و الضراء
فلرحمة المتوجعين مرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء
وله :
يفني البخيل بجمع المال مدته ... وللحوادث والأيام مايدع
كدودة القز ما تبنيه يهدمها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
وقد روي من شعره ما يدل على فساد عقيدته وهو:
ربك أيها الفلك المدار ... أقصد ذا المسير أم اضطرار
مدارك قل لنا في أي شئ ... ففي أفهامنا عنك انبهار
ودنيا كلما وضعت جنيناً ... عراه من نوائبها طوار
هي العشواء ما خبطت هشيم ... هي العجماء ماجرحت جبار


فإن يك آدم أشقى بنيه ... يذهب بذنب ماله منه اعتذار
فكم من بعد غفران وعفو ... يغيرما تلاليلاً نهار
لقد بلغ العدو بنا مناه ... وحل بآدم وبنا الصغار
وتهنا ضائعين كقوم موسى ... ولا عجل أضل ولا خوار
فيا لك أكلة ما زال فيها ... علينا نقمى وعليه عار
نعاقب في الظهوروما ولدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار
ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضب أخرجه الوجار
وكانت أنعماً لو أن كوناً ... نشاور قبله أو نستشار
وما أرض عصته ولا سماء ... ففيم يغول أنجماً انكدار
وبعض هذه الأبيات يكفي في بيان قبح العقيدة .
توفي ابن الشبل في محرم هذه السنة، ودفن بمقبرة باب حرب.
نصر بن أحمد بن نصر، أبو الفتح السمنجاني الخطيب حدث عن أبي علي ابي شاذان وغيره، وتوفي يوم الأحد السابع و العشرين من جمادى الآخرة، ودفن في مقبرة باب الدير.
يوسف بن الحسن بن محمد بن الحسن، أبو القاسم التفكري من أهل زنجان. ولد سنة خمس وتسعين وثلثمائة بزنجان، ورحل إلى ابي نعيم الأصبهاني فقرأ عليه الكثير، و علىغيره، وانتقل إلى بغداد محدثاً فقيهاً، ولحق أبا الطيب الطبري، وتفقه على أبي إسحاق، وكان ورعاً زاهداً عاملاً بعلمه، خاشعاً بكاء عند الذكر، مقبلاً على العبادة، وروى عنه شيخنا أبو القاسم السمرقندي .
وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن في مقبرة باب حرب .
ثم دخلت
سنة أربع وسبعين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أن ابن بهمنيار كاتب خمارتكين الشرابي اجتمع مع السلطان، وتكلم على نظام الملك وقال أنه سرق من الأموال كل سنة سبعمائة الف دينار، وأقام وجوهاً بها في كل بلد، وضمن أصبهان بزيادة سبعين ألف دينار، فأخذت من يد ضامنها وسلمت إليه، وجاء في أثناء هذا رجل صوفي إلى نظام الملك، فأخرج له قرصين وسأله أن يتبرك بأكل شيء منهما، وذكر أنهما من فاضل إفطار بعض الزهاد هناك فلما مد يده إليهما أومأ إليه صوفي آخر بأن لا تفعل، فأنهما مسمومان، وهما دسيس ابن بهمنيار، فاختبر أفصح ذلك فيهما، وأخذ الصوفي ليقتل فمنع نظام الملك من ذلك وبره بشيء، وشكا ذلك إلى السلطان قول ولم يسمع فيه، ثم آل الأمر إلى أن كحل وكفى النظام أمره.
وفي يوم الخميس حادي عشر ذي الحجة : توفي داود ولد السلطان جلال الدولة بأصفهان، فلحقه عليه مازاد على المعهود، ولم يسمع بأمثاله، ورام قتل نفسه دفعات، فمنعه خواصه، ومنع من أخذه وغسله لقلة صبره على فراقه، إلى أن تغير فمكن من ذلك، وامتنع عن المأكل و المشرب، ونزع أثواب الصبر، وأغلق أبواب السلو، وجز الأتراك و التركمان شعورهم، وكذلك نساء الحشم و الحواشي والخيول، وأقام أهل البلد المآتم في المنازل و الأسواق، وبقيت الحال على هذا سبعة أيام، وخرج السلطان بعد شهر إلى الصيد وكتب بخطه رقعة يقول فيها :أما أنا يا ولدي داود فقد خرجت إلى الصيد، وأنت غائب عني، وعندي من الاستيحاش لفراقك و الانزعاج لبعدك عني، و البكاء على أخذك مني، ماأسهر ليلي، ونغص عيشي، وقطع كبدي، وضاعف كمدي، فأخبر أنت بعدي مالك وحالك، وما غير البلى منك، وما فعل الدود بجسمك، والتراب بوجهك وعينك، وهل عندك علي مثل ما عندي، وعل بلغ الحزن بك ما بلغ بي، فواشوقاه إليك، وواحسرتاه عليك، ووأسفاه على ما فات منك .
وحملت الرقعة إلى نظام الملك فقرأها وبكى بكاءاً شديداً، وجمع الوجوه والمحتشمين وقصد بهم القبر، وقرأ الرقعة عليه وارتج المكان بالبكاء والعويل، وتجدد الحزن في البلد واللطم وعادت المصيبة كأول يوم، وجلس الوزير عميد الدولة للعزاء في صحن السلام ثلاثة أيام أولها يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة .
وفي هذه السنة : دخل خادمان لشرف الدولة مسلم بن قريش عليه الحمام فخنقاه وأدركه أصحابه وقد شارف على الموت، فنجا وقتل الخادمان .


وذكر محمد بن عبد الملك أن خادماً واحداً وثب في الحمام فخنقه وسمعت زوجته الصراخ فبادرت إلى الحمام، فوجدته مغلقاً فكسرت الباب. خرج خادم فقال: إن هذا الأمير يراودني على نفسي، ويطلب مني الفاحشة، وأنا أبى ذلك. فخرج فركب فرساً فدخلت إليه فرأته تالفاً، ثم ظفر بالخادم أيام، فجيء به إلى شرف الدولة فقطع لسانه وقتله.
وورد في هذه السنة من واسط خبر عجيب، جاء به كتاب ابن وهبان الوساطي : يذكر قصة عجيبة وهي: أن امرأة عندهم في نهر الفصيلي أصابها الجذام حتى أسقط أنفها وشفتيها وأصابع يديها ورجليها، وجافت ريحها، وتأذى أهلها بها، فأخرجها زوجها وولدها إلى ظاهر المحلة على شوط منها، وعملوا لها كوخاً فكانت فيه، ولا يمكن الاجتياز بها من نتن ريحها، وإنما كان ولدها يأتيها برغيفين يرميهما إليها، فجاء يوماً فقالت له: يابني، بالله قف حتى أبصرك وجئني بجرعة ماء أشربها ، فلم يفعل وهرب. وكان قريباً من الموضع جوية ماء الكتان، فحملها العطش على قصدها، فتحاملت فوقعت عندها فأغمي عليها، فذكرت بعد إفاقتها أنها رأت رجلين وامرأتين جلوساً عندها فأخرجوا لها قرصين عليهما ورقة خضراء، وجاءوها بكراز فيه ماء وقالوا لها: كلي من هذا الخبز واشربي من هذا الماء . قالت : فكل ما أكلت عاد القرص كما كان إلى أن شبعت، وشربت من الكراز ماء لم أشرب قط ألذ منه . فقلت : ياسادتي، من أنتم ؟ فقال أحدهم : أنا الحسن، وهذا الحسين، وهذه خديجة الكبرى، وهذه فاطمة الزهراء، ثم أمرّ الحسن يده على صدري ووجهي، والحسين يده على ظهري، فعادت شفتاي وأنفي ونبتت أصابعي، وأقاموني فسقط مني نحو ثلثين كهيئة صدف السمك، فأقبل الناس من البلاد لمشاهدتها و التبرك بها .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن محمد بن ابراهيم بن علي، أبو طاهر القصاري الخوارزمي ولد ببغداد سنة خمسة وتسعين وثلثمائة، وسمع من أبي القاسم إسماعيل بن الحسن الصرصري، حدث عنه أشياخنا، وكان يترسل من الديوان إلى غزنة.
توفي يوم السبت ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة، ودفن في مقبرة معروف .
أحمد بن عبد العزيز بن محمد، أبو طالب الجرجاني الشروطي حدث عن أبي علي بن شاذان .
وتوفي يوم السبت غرة محرم، ودفن في مقبرة باب الدير.
أحمد بن هبة الله بن محمد بن يوسف، أبي بكر الرحبي السعدي من ولد سعد بن معاذ، ولد سنة سبعين وثلثمائة، سمع أبا الحسين بن بشران وغيره. روى عنه أشياخنا .
وتوفي يوم السبت رابع رجب عن مائة واربع سنين ودفن بباب حرب .
أحمد بن علي بن الحسن بن محمد بن عمرو بن أبي عثمان وكان من أهل نهر القلائين
ثم دخلت
سنة خمس وسبعين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها : أنه في يوم الثلاثاء حادي عشر صفر ورد بشير أن السلطان جلال الدولة أجاب على تزويج ابنته من الخليفة، وأن فخر الدولة أخذ يده على ذلك، وكان الخليفة قد تقدم إلى الوزير فخر الدولة بالخروج إلى أصبهان لذلك، فخرج ومعه الهدايا والألطاف بنحو من عشرين ألف دينار، فوصل إلى أصبهان، فخرج نظام الملك والأمراء فاستقبلوه، واتفق أن توفي داود ابن السلطان، وانزعج السلطان لذلك، فلما انقضى الشهر خاطب فخر الدولة نظام الملك في هذا فقال: ما استقر في هذا شيء، فإن رأيتم أن تجردوا الطلب من والدة الصبية . فقيل له : أنت الذي تتولى هذا . فمضى إليها فقال لها : إن أمير المؤمنين راغب بابنتك .فقالت قد رغب إلى في هذا ملك غزنة بابنه وغيره من الملوك، وبذل كل واحد أربعمائة ألف دينار، فإن أعطاني أمي المؤمنين هذا القدر كان هو أحب إلي، فقال لها: رغبة أمير المؤمنين لا تقابل بهذا .


وجرى في ذلك مراجعات انتهت إلى تسليم خمسين ألف دينار عن حق الرضاع، وهذه عادة الأتراك عند التزويج، ومائة ألف دينار بكتب المهر. فقيل لها : مافي صحبتنا مال معجل ونحن نحصل هاهنا عشرة آلاف، وننفذ من بغداد أربعين ألفاً . فوقع الرضاء بهذا، وشرع في تحصيل العشرة آلاف، فلم يكن لها وجه، وعرف السلطان ذلك فتقدم بتأخيره لينفذ الكل من بغداد . وقالت خاتون: إذا ملكت ابنتي بأمير المؤمنين فأريد أن يخرج أمه وعمته وجدته، ومن يجري مجراهن من أهل بيته، والمحتشمون من أهل دولته، وأحضر خواتين غزنة، وسمرقند، وخراسان ووجوه البلاد، ويكون القعد بمحضرهم: فطلب الوزير فخر الدولة أن تعطيه يدها على ذلك لتقع الثقة، فأعظم نظام الملك عندها أن تردها بغير قضاء حاجته، فأذن السلطان في ذلك و أعطى يده، وكانت من خاتون اقتراحات منها: أن لا يبقى في دار الخليفة سرية ولا قهرمانة، وأن يكون مقامه عندها .
ووصل في جمادى الآخرة مؤيد الملك إلى بغداد، فخرج الموكب لتلقيه إلى النهروان، وخرج إليه عميد الدولة فلقيه في الحلبة، وضربت له الدبادب والبوقات في وقت الفجر والمغرب والعشاء بإزاء دار الخلافة، فثقل ذلك، وروسل حتى تركه.
وفي يوم الأحد سلخ شعبان: وجدت أمرأة مقتولة ملقاة في درب الدواب، فاستدعى صاحب المعونة و الحارس، وأمر بالاستكشاف عن هذا، فقال بعض المجتازين: هاهنا إنسان أعرج يخبز القطائف، يعرف هذه الأمور، فاستدعوه وتقدموا إليه بالبحث عن هذا فذكر أن بعض المماليك الأتراك فعل هذا، فأحضر الغلام فأنكر وبهته الأعرج فقال بعض الرجالة: على المرأة آثار تبن وهذا يدل على أنها قتلت في موضع فيه تبن. فقيل له : فتش الدور هناك، فبدأ بدار الأعرج وحمل إلى الوزير فاستخلاه ولطف به، فأقر بأنه في هذه الليلة جمع بين هذه المرأة وبين رجل، وأنها أخذت من الرجل قراريط، وأنه طالبها بأجرته فقالت : خذ ما تريد ، فوقع عليها . فقتلها، وأخذما معها من الحلي والدنانير، ورمى بها، فسمع الشهود إقراره بذلك فحبس، وحضرت ابنة المرأة وطالبت بقتله فقتل في يوم السبت سادس رمضان بالحلبة، ودفن هناك .
وفي شوال : تكاملت عمارة جامع القصر المتصل بدار الخلافة، وبني ماكان فيه خراباً، وأوسع وعمل له منبر جديد، وقد كان فخر الدولة عمل فيه سقاية، وأجرى فيها الماء من داره في قنى تحت الأرض، وجعل لها فوارت، فانتفع الناس بذلك منفعة عظيمة.
وفي يوم الجمعة لخميس بقين من شوال: عبر قاص من الأشعرية يقال له : البكري إلى جامع المنصور ومعه الفضولي الشحنة و الأتراك والعجم بالسلاح فوعظ، وكان هذا البكري فيه حدة وطيش، وكان النظام قد أنفذ ابن القشيري فتلقاه الحنابلة بالسب، وكان له عرض فائق من هذا فأخذه النظام إليه، وبعث إليهم هذا الرجل، وكان ممن لا خلاق له، فأخذ يسب الحنابلة ويستخف بهم، وكان معه كتاب من النظام يتضمن الإذن له في الجلوس في المدرسة، والتكلم بمذهب الأشعرية، فجلس في الأماكن كلها، وقال : لابد من جامع المنصور. فقيل لنقيب النقباء ، فقال لا طاقة لي بأهل باب البصرة فقيل : لابد من مداراة هذا الأمر . فقال : ابعثوا إلى أصحاب الشحنة، فأقام على كل باب من أبواب الجامع تركياً، ونادى من باب البصرة وتلك الاصقاع دعوا لنا اليوم الجامع، فمنعهم من الحضور، وحضر الفضولي الشحنة و الأتراك والعجم بالسلاح، وصعد المنبر وقال: " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " ماكفر أحمد بن حنبل، وإنما أصحابه، فجاء الأجر فأخذ النقيب قوام الجامع، وقال ك هذا من أين ؟ فقالوا: إن قوماً من الهاشميين تبطنوا السقف وفعلوا هذا .
وكان الحنابلة يكتبون إليه العجائب فيستخف بهم في جواتها، واتفق أنه عبر إلى قاضي القضاة أبي عبد الله في يوم الأحد ثالث عشر شوال فاجتاز في نهر القلائين، فجرى بين أصحابه ابي الحسين بن الفراء سباب وخصام، فعاد إلى العميد وأعلمه بذلك، فبعث من وكل بدار ابن الفراء ونهبت الدار، وأخذ منها كتاب الصفات وجعله العميد بين يديه يقرئه لكل من يدخل إليه ويقول: أيجوز لمن يكتب هذا أن يحمى أو يؤوى في بلد ؟


قال المصنف: قرأت بخط ابن عقيل: أنه لما أنفذ نظام الملك بأبي نصر ابن القشيري تكلم بمذهب أبي الحسن، فقابلوه بأسخف كلام على السن العوام، فصبر لهم هنيئة، ثم أنفذ البكري سفيهاً طرقياً شاهد أحواله الإلحاد، فحكى عن الحنابلة ما لايليق بالله سبحانه، فأعزى بشتمهم وقال : هؤلاء يقولون الله ذكر فرماه الله في ذلك العضو بالخبيث فمات .
وفيها: حارب ملك شاه أخاه تكش، فأسره ثم من عليه .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن علي بي سهل بن عبد الله، أبو إسحاق الحلبي سمع ابا القاسم بن بشران، وروى عنه أشياخنا. قال شجاع بن فارس: ولد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة . قال شيخنا أبو الفضل بن ناصر: توفي إبراهيم ينة خمس سبعين وأربعمائة، ودفن بباب حرب .
عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي، أبو عمرو بن أبي عبد الله من بيت العلم و الحديث، سمع الحديث الكثير، وروى، ورحل الناس إليه من الأقطار، و حدثنا عنه أشياخنا، وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة بأصبهان.
أبي القاسم هبة الله بن علي بن جعفر بن علكان بن محمد بن دلف بن أبي دلف العجلي الذي يقال له : ابن ماكولا.، أبو نصر علي ابن الوزير ولد سنة عشرين و أربعمائة، سمع الكثير سافر في طلب الحديث، وكان له علم به، وصنف كتاب الإكمال جمع فيه بين كتاب الدارقطني في المؤتلف و المختلف وكتابي عبد الغني في المؤتلف وفي مشتبه النسبة وبين كتاب المؤتنفلأبي بكر الخطيب، ثم عمل كتاباً آخر ذكر فيه أوهامهم في ذلك، وسافر بأخرة نحو كرمان ومعه جماعة من مماليكه الأتراك، فغدروا به وقتلوه، وأخذوا الموجود من ماله وذلك في هذه السنة .، أبو منصور بن نظام الملك : وكان يلي خراسان توفي في هذه السنة، وقيل إنه اراد ملك شاه قتله فسم لئلا ينكر بذلك أبوه .
ثم دخلت
سنة ست وسبعين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها : أن خرج توقيع يوم الجمعة لخمس بقين من صفر إلى الوزير عميد الدولة بعزله تضمنه: لكل أجل كتاب، انصرف من الديوان إلى دارك، وخل ما أنت منوط به من نظرك. فخرج هو وولداه وأهله إلى دار المملكة من غير استئذان الخليفة، ثم ساروا إلى ناحية خراسان، فكتب الخليفة إلى السلطان بأن بني جهير لا طريق إلى إعادتهم واستخدامهم، و ألتمس أن يبعدوا من العسكر ولا يؤون، وكان السبب في هذا الثقة بهم، فصاروا متهمين، فرتب في الديوان أبو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء أبي القاسم ابن المسلمة منفذاً وناظراً، وقد كان مرتباً على أبنية الدار وغيرها، ولما وصل بنو جهير تلقوا وأكرموا، وعقد للوزير فخر الدولة على ديار بكر، وخلع عليه الخلع، وأعطي الكوسات، وأذن له في ضربها أوقات الصلوات الخمس بديار بكر، والصلوات الثلاث : الفجر، و المغرب، والعشاء في المعسكر السلطاني .
وفي جمادى الآخرة : توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فأجلس مؤيد الملك مكانه أبا سعد عبد الرحمن بن المأمون المتولي .


وفي يوم الخميس النصف من شعبانك خلع الخليفة على الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين خلع الوزارة، ولقب بظهير الدينن وكان أبو المحاسن بن أبي الرضا قد نفق على السلطان كثيرا حتى عول عليه، وأطرح نظام الملك، وضمن أبو المحاسن النظام بألف ألف دينار، فعرف النظام بذلك، فصنع سماطاً ودعا السلطان إليه وخلا به بعد أن أقام مماليكه و الأتراك على خيولهم، وكانو أكثر من ألف غلام، وقال له : إن قيل لك أيها السلطان إنني آخذ عشر أموالك وأرتفق بالشيء من أعمالك وعمالك فإنني أخرجه إلى هذا العسكر الذي تراه بين يديك، فإن جامكيتهم تشتمل على مائتي ألف دينار في كل سنة، وطرح بين يده ثبتاً بما يتحصل له كل سنة، وأنه ما يكون أكثر من هذا المقدار، وقال : لو لم أفعل هذا لاحتجت أن يخرج لهم كل سنة، وأنه ما يكون أكثر من هذا المقدار، وقال :لو لم أفعل هذا لاحتجت أن يخرج لهم كل سنة من خزانتك، وقد جمعتهم بسلاحهم، فتقدم بنقلهم إلى من تراه من الحجاب، ويكون هذا العشر الذي آخذه منصرفاً إليهم، وأخلص من التعب، ومع هذا فقد خدمت جدك وأباك وشيخت في دولتكم، وأنا والله مشفق من مضيك على ما أنت عليه، وخائف من عقبى ما أنت خائض فيه، وحمل من الجواهر وغيرها ما ملأبه عينه، وضمن له استخراج مال آخر من المتكلمين عليه، فأطلعه السلطان على ماجرى في معناه وحلف له، وقبض على أبي المحاسن وحمله إلى قلعة ساوة، وقورت عيناه بالسكين، وحملت إلى السلطان، فتقدم بطرحهما لكلب الصيد، وأخذ من أبن أبي الرضا مائتي ألف دينار .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي الشيرازي ولد سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، وتفقه بفارس على أبي الفرج ابن البيضاوي، وبالبصرة على الجزري، وببغداد على أبي طالب الطبري، وسمع أبا علي بن شاذان و البرقاني غيرهما، وبني له نظام الملك المدرسة بنهر المعلي، وصنف المهذب و التنبيه و النكت في الخلاف، واللمع و التبصرة و المعونة و طبقات الفقهاء وكانت له اليد البيضاء في النظم .
أخبرنا محمد بن ناصر قال :أنشدني أبو زكريا بن علي السلار العقيلي :
كفاني إذا عز الحوادث صارم ... ينيلني المأكول بالأثر و الأثر
يقد ويفري في اللقاء كأنه ... لسان أبي إسحاق في مجلس النظر
وكثر أتباعه ومالوا إليه، وانتشرت تصانيفه لحسن نيته وقصده، وكان طلق الوجه، دائم البشر، مليح المحاورة، يحكي الحكايات الحسنة، وينشد الاشعار المليحة، وذلك أنه حضر عند يحيى بن علي بن يوسف بن القاسم بن يعقوب الصوفي برباطه بغزنة يعزيه عن ابن شيخه المطهر بن أبي سعيد بن أبي الخير، وكان قد غرق في الماء بالنهروان فأنشد :
غريق كأن الموت رق لأخذه ... فلان له في صورة الماء جانبه
أبى الله أن أنساه دهري فإنه ... توفاه في الماء الذي أنا شاربه
وكان يعيد الدرس في بدايته مائة مرة .
قال المصنف رحمه الله : قال شيخنا أبو بكر محمد بن عبد الباقيك قال: أبو إسحاق الشيرازي: كنت أشتهي وقت طلبي العلم الثريد بماء الباقلاء فلا يتيسر لي سنين، فما صح لي لاشتغالي بالدرس وأخذي السبق بالغدوات و العشيات، وكان يقول بترك التكلف حته إنه حضر يوماً الديوان فناظر مع أبي نصر أبن القشيري فأحس في كمه بثقل فقال له: يا سيدي، ماهذا ؟ فقال : قرصني الملاح .
وكان قشف العيش متورعاً، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: ياشيخ فكان يفتخر بهذا ويقول : سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخاً .
وحكى أبو سعد بن السمعاني عن جماعة من أشياخه : أنه لما قدم أبو إسحاق الشيرازي رسولاً إلى نيسابور تلقاه الناس، وحمل إمام الحرمين أبو المعالي الجويني غاشيته، ومشى بين يديه كالخدم وقال : أنا أفتخر بهذا .
أنشدنا أبو نصر أحمد بن محمد الطوسي قال: أنشدنا أبو إسحاق لنفسه:
سألت الناس عن خل وفي ... فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسك إن ظفرت بود حر ... فإن الحر في الدنيا قليل
وأنبأنا أبو نصر قال : صحبت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي في طريق فأنشدني :
إذا طال الطريق عليك يوماً ... فليس دواؤه إلا الرفيق


تحدثه وتشكو ما تلاقي ... ويقرب بالحديث لك الطريق
وسئل يوماً ما التأويل فقال : حمل الكلام على أخفى محتمله.
توفي ليلة الأحد الحادي و العشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة في دار المظفر ابن رئيس الرؤساء بدار الخلافة من الجانب، الشرقي، غسله أبو الوفاء بن عقيل، وصلى عليه بباب الفردوس لأجل نظام الملك، وأول من صلى عليه المقتدي بأمر الله، وتقدم في الصلاه عليه أبو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء وهو حينئذ نائب بالديوان، ثم حمل إلى جامع القصر فصلى عليه، ودفن بباب أبرز، وقبره ظاهر.
والعجب أنه لم يقدر له الحج، قال بعض أصحابه:لم يكن له شيء يحج به، ولو شاء لحملوه على الأحداق. قال : كذلك أبو عبد الله الدامغاني لم يقدر له الحج، إلا إن ذاك كان يمكنه ولم يفعل .
وحدثني أبو يعلى بن الفراء قال : رأيت ابا إسحاق الشيرازي في المنام فقلت له : أليس قدمت ؟ فقال: لا و الله ما مت، ثم أبرأ إلى الله من المدرسة وما فيها . قلت : أليس قد دفنت في التربة التي تعرف ببيت فلان؟ فقال : لا والله ما مت .
طاهر بن الحسين بن أحمد بن عبد الله، أبو الوفاء القواس ولد سنة تسعين وثلثمائة، وقرأ القرآن الكريم على أبي الحسن الحمامي، وسمع الحديث من هلال الحفار، وأبي الحسين بن بشران وغيرهما، وتفقه على أبي الطيب الطبري، ثم تركه وتفقه على القاضي أبي يعلى، وأفتى ودرس، وكانت له حلقة بجامع المنصور وللمناظرة والفتوى، وكان ثقة ورعاً زاهداً، ولازم مسجده المعروف بباب البصرة لا يبرح منه خمسين سنة، روى لنا عنه أشياخنا .
وتوفي يوم الجمعةسابع عشر شعبان من هذه السنة، ودفن إلى جانب الشريف أبي جعفر في دكة الإمام أحمد بن حنبل .
عبد الله بن عطاء بن عبد الله، أبو محمد الإبراهيمي من أهل هراة، رحل في طلب الحديث، وعني بجمعه، سمع بهراة من أبي عمر المليحي، وأبي إسماعيل الأنصاري وغيرهما، وببوشنج من أبي الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودي، وكان يخرج الأمالي، وسمع بنيسابور، وبأصبهان، وببغداد، حدثنا عنه مشايخنا، وكان حافظاً متقناً .
قال : أبو زكريا بن منده الحافظ: كان حافظاً صدوقاً، وقدح فيه هبة الله بن المبارك السقطي فقال: كان يصحف أسماء الرواة والمتون، ويصر على غلطه، ويركب الأسانيد على متون. و السقطي لا يقبل قوله. توفي أبو محمد بن عطاء يوم الجمعة في هذه السنة في طريق مكة حين عاد منها .
محمد بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن عبد الجباربن مفلح، أبو طاهر بن أبي السفر الأنباري الخطيب ولد ليلة الأربعاء منتصف ذي الحجة سنة ست وسبعين وثلثمائة، سمع خلقاً كثيراً، وكان من الجوالين في الآفاق، والمكثرين من شيوخ الأمصار، وكان يقول : هذه كتبي أحب إلي من وزنها ذهباً، وكان ثقة ثبتاً فاضلاً صواماً قواماً، حدثنا عنه جماعة من أشياخنا، وقد سمع منه أبو بكر الخطيب، روى عنه في مصنفاته فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد اللخمي.
توفي في شعبان هذه السنة، وقيل :في جمادى الآخرة ودفن بالإنبار.
محمد بن أحمد بن الحسن، أبو عبد الله بن جردة أصله من عكبرا، ورد بغداد فزوجه أبو منصور بن يوسف ابنته، وكان شيخاً لم ير أحسن منه، وأظهر صباحه، وكان أصل بضاعته عشرة نصافي ينحدر بها من عكبرا إلى بغداد، ووسع عليه الرزق حتى كان يحزر بثلثمائة ألف دينار، وهو الذي دفع إلى قريش بن بدران عند مجيئه مع البساسيري عشرة آلاف دينار حتى حمى داره من النهب، وكان فيها خاتون زوجة القائم، ولما اجتمعت بعمها السلطان طغرلبك أخبرته بحقه عليها، فجاء إلى داره شاكراً : وكانت داره بباب المراتب بضرب بها المثل، وكانت تشتمل على ثلاثين داراً وعلى بستان وحمام، ولها بابان على كل باب مسجد، إذا أذن في أحدهما لم يسمع الآخر، وكان لا يخرج عن حال التجار في ملبسه ومأكله، وهو الذي بنى المسجد المعروف به بنهر معلى، وقد ختم فيه القرآن ألوفاً، توفي ليلة الأربعاء، ودفن يوم الأربعاء عاشر دي القعدة من هذه السنة في التربة الملاصقة لتربة القزويني بالحربية.
ثم دخلت
سنة سبع وسبعين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها :


أن كوكباً انقض في ليلة الثلاثاء لعشر بقين من صفر من المشرق إلى المغرب كان حجمه كحجم القمر ليلة البدر، وضوءه كضوئه، وسار مدى بعيداً على تمهل وتؤدة في نحو ساعة، ولم يكن له شبه في الكواكب المنقضة .
وفي شوال : أعطى الخليفة الوزيرأبا شجاع إقطاعاً ببضعة عشر ألف دينار، وخرج التوقيع بمدحه الوافر.
وفي هذا الشهر : أعاد السلطان ملكشاه جماعة من الأولاد العرب الذين أخذوا في وقعه بينهم التركمان وجمالاً كثيرة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن مسعدة بن إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم، أبو القاسم الجرجاني الاسماعيلي ولد سنة سبع وأربعمائة، وسمع الكثير، وكان ديناً فاضلاً متواضعاً، وافر العقل، تام المروءة، صدوقاً، يفتي ويدرس، وكان بيته جامعاً لعلم الحديث والفقه، ودخل بغداد سنة اثنبين وسبعين فحدث بها فسمع منه جماعة من شيوخنا وحدثونا عنه وتوفي بجرجان في هذه السنة .
أحمد بن محمد بن دوست، أبو سعيد النيسابوري الصوفي صحب أبا سعيد بن أبي الخير مدة، وسافر الكثير، وسافر الكثير، وحج مرات حتى انقطعت طريق الحج، وكان يجمع جماعة من الفقراء ويخرج معهم ويدور في قبائل العرب فينتقل من حلة إلى حلة، وقدم مرة البادية فنزل عند صاحبه أبي بكر الطريثيثي وكان بينهما صداقة وكانت له زاوية صغيرة فقال له: ياأبا بكر، لو بنيت للأصحاب موضعاً أوسع من هذا وأرفع باباً. فقال له : إذا بنيت رباطاً للصوفية فاجعل له باباً يدخل فيه جمل براكبه، فذهب ابو سعد إلى نيسابور فباع جميع أملاكه، وجاء إلى بغداد، وكتب إلى القائم باأمر الله يلتمس منه خربة يبني فيها رباطاً، وكانت له خدمة في زمن البساسيري، فأذن له، وأمر بعرض المواضع عليه، فبنى الرباط وجمع الأصحاب، وأحضر أبا بكر الطريثيثي، وأركب رجلاً جملاً فدخل راكباً من الباب، فقال : يا أبا بكر، قد امتثلت ما رسمت. ثم جاء الغرق في سنة ست وستين فهدم الرباط، فأعاده أجود مما كان، وكان قبل بناء الرباط ينزل في رباط عتاب، فخرج يوماً فرأى الخبز النقي، فقال في نفسه : الصوفية خشكار فهم الآن على ذلك .
وتوفي ليلة الجمعة ودفن من يومه تاسع ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن في مقبرة باب أبرز، وقد نيف على السبعين، وأوصى أن يستخلف ابنه، فاستخلف وكان له اثنتا عشرة سنة .
أحمد بن المحسن بن محمد بن علي بن العباس بن أحمد بن العطار الوكيل، أبو الحسن بن أبي يعلى بن أبي بكر بن أبي الحسن ولد سنة إحدى وأربعمائة، وسمع أبا علي بن شاذان، وأبا القاسم الخرقي، وأبا الحسن بن مخلد وغيرهم، روى عنه أشياخنا، وكان عالماً بالوكالة والشروط، متبحراً في ذلك حتى يضرب به المثل في الوكالة، وكان فيه ذكاء مفرط، ودهاء غالب .
قال شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي: طلق رجل إمرأته فتزوجت بعد يوم، فجاء الزوج المطلق إلى القاضي ابي عبد الله البيضاوي وكان يلي القضاء بربع الكرخ، فقال له: طلقت أمس وتزوجها، فتقدم القاضي بأن تحضر المرأة وتركب الحمار، ويطاف بها في السوق، فمضت المرأة إلى أبن محسن وأعطته مبلغاً من المال، فجاء إلى القاضي وقال : له ياسيدنا القاضي، الله الله لا يسمع الناس هذا ويظنون أنك تعرف هذا القدر. فقال له القاضي: طلقها أمس و تزوجت اليوم ، فأين العدة ؟ فقال: له: هذه كانت حاملاً فطلقها أمس، ووضعت الحمل البارحة، ومات الولد، فتزوجت اليوم، فسكت القاضي وتخلصت المرأة .
توفي يوم الثلاثاء عاشر رجب من هذه السنة .
عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحيم، أبو عبد الله أصله واصل بني عبد الرحيم من براز الروم للملك أبي كاليجار وللملك أبي نصر، وخلصت له أموال كثيرة، وكان كريماً، وقتله أبو نصر في دار المملكة في رمضان هذه السنة وعمره تسع وأربعون سنة .
عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر، أبو نصر الصباغ


ولد سنة أربعمائة ببغداد، وسمع أبا الحسين بن الفضل القطان، وبرع في الفقه، وكان فقيه العراق، وكان يضاهي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، ويقدم عليه في معرفة المذهب وغيره، وكان ثقة ثبتاً ديناً خيراً، ومن تصانيفه الشامل و الكامل و تذكرة العالم و الطريق السالم . ولي التدريس بالنظامية ببغداد قبل أبي إسحاق عشرين يوماً، ثم بعد وفاة أبي إسحاق، وكان قد سافر إلى السلطان ففعل معه هناك كل جميل، فأقام قدومه ثلاثة أيام يهنأ بذلك .
قال أبو الوفاء بن عقيل : ماكان يثبت مع قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني ويشفى في مناظرته من أصحاب الشافعي مثل أبي نصر الصباغ .
توفي بكرة الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن في داره بدرب السلولي من الكرخ، ثم نقل إلى مقبرة باب حرب.
محمد بن أحمد بن محمد بن القاسم بن إسماعيل، أبو الفضل المحاملي ولد سنة ست وأربعمائة، وسمع أبا الحسين بن بشران، وأبا علي بن شاذان، وأبا الفرج بن المسلمة وغيرهم، وتفقه على أبيه، وأبوه صاحب التعليقة، وحدث عنه مشايخنا وكان فطناً، ثم دخل في أشغال الدنيا.
وتوفي يوم الخميس خامس رجب، ودفن في أشغال الدنيا.
وتوفي يوم الخميس خامس رجب، ودفن بمقبرة باب حرب في هذه السنة.
مسعود بن ناصر بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل، أبو سعيد الشجري أقام مدة ببغداد يدور على الشيوخ ويفيد الواردين، سمع بها من أبي طالب بن غيلان، وأبي بكر بن بشران، وأبي القاسم التنوخي، وأبي محمد الخلال الجوهري. وسمع بواسط، وبهراة، ونيسابور وسجستان وغيرهما، وجال في الآفاق، وسمع منه أبو بكر الخطيب، وحصل كتباً كثيرة، ونسخاً نفيسة، وكان حسن الخط، صحيح النقل، حافظاً ضابطاً متقناً ومكثراً، واحتبسه نظام الملك بناحية بيهق مدة، ثم بطرس للاستفادة منه، ثم انتقل في آخر عمره إلى نيسابور فاستوطنها، ووقف كتبه فيها في مسجد عقيل.
وقال أبو بكر بن الخاضبة: وكان مسعود قدرياً، سمعته يقرأ الحديث، فلما أتى على حديث ابي هريرة: " احتج آدم وموسى " في الحديث، وقال : " فحج آدم موسى " فجعل موسى فاعلاً وآدم محجوجاً، نوزع في ذلك، وجرت قصة.
وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة بنيسابور، وصلى عليه أبو المعالي الجويني .
ثم دخلت
سنة ثمان وسبعين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها : أنه وصل الخبر في المحرم بأن أرجان زلزلت وما تاخمها من النواحي، وهلك خلق، وسقطت منارة الجامع ، وهلك تحت الردم أمم من الآدميين والمواشي.
وفي ربيع الأول: هبت ريح عظيمة بعد العشاء، واسودت الدنيا وادلهمت، وكثر الرعد والبرق، وعلا على السطوح رمل عطيم وتراب، وكانت النيران تضطرم في جوانب السماء، ووقعت صواعق بألسن و البوازنج، وكسرت بالنيل نخيل كثيرة، وغرقت سفن، وخر كثير من الناس على وجوههم، فاستمر ذلك إلى نصف الليل حتى ظنوا أنها القيامة، ثم انجلت .
وفي هذا الشهر ولد للمقتدي ولد سماه: حسيناً : وكناه : أبا عبد الله، وجلس النائب بالديوان العزيز بباب الفردوس للتهنئة به، وضربت الطبول والبوقات، وكثرت الصدقات، وخرج توقيع من أمير المؤمنين وفيه قد رفع إلى مجلس العرض الأشرف مما أخذ منهم نقضوا العهد، وبرئت منهم الذمة. قال الله تعالى: " فليحذر اللذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو عذاب أليم " .
وفي جمادى الأولى : فتح فخر الدولة أبو نصر ميافارقين عنوة، فتم له بذلك الاستيلاء على ديار بكر .


وفيه : بدأ الطاعون ببغداد ونواحيها، وكان عامة أمراضهم الصفراء، بينا الرجل في شغله أخذته رعدة فخر لوجهه، ثم عر لهم شناج وبرسام وصداع، وكان الأطباء يصفون مع هذه الأمراض أكل اللحم لحفظ القوة، فإنهم ما كانت تزيدهم الحمية إلا قوة مرض، وكانوا يسمونها: مخوية، وتقول الأطباء : ما رأينا مثل هذه الأمراض لا تلائمها المبردات ولا المسخنات ، واستمر ذلك إلى آخر رمضان فمات منه نحو عشرين ألف ببغداد، وكان المرض يكون خمسة أيام وستة ثم يأتي الموت، وكان الناس يوصون في حال صحتهم، وكان الميت يلبث يوماً ويومين لعدم غاسل وحامل وحافر، وكان الحفارون يحفرون عامة ليلتهم بالروحانية ليفي ذلك بمن يقبر نهاراً، ووهب المقتدي للناس ضيعة تسمى الأجمة فامتلأت بالقبور، وفرغت قرى من أهلها منها المحول.وحكى بعض الاتراك أنه مر بالمحول، فرأى كثرة الموتى، ورأى طفلة على باب بيت تنادي: هل من مسلم يؤجر في فيأخذني، فإن أبي وأمي وأخوتي في هذا البيت . قال: فنزلت بها في صدر أمها ميتة .
وحكى عبيد الله بن طلحة الدامغاني أن درباً من دروب التوثة مات جميع أهله فسد باب الدرب، وهلك عامة أهل باب البصرة، وأهل حربي، وعم هذا الطاعون خراسان، والشام، والحجاز، وتعقبه موت الفجأة، ثم أخذ الناس الجدري في أطفالهم، ثم تعقبه موت الوحوش في البرية، ثم علاه موت الدواب و المواشي، ثم قحط الناس، وعزت الألبان واللحوم، ثم أصاب الناس بعد ذلك الخوانيق، والأورام، والطحال، وأمد المقتدي بأمرالله الفقراء بالأدوية و المال، ففرق ما لا يحصى، وتقدم إلى أطباء المارستان بمراعاة جميع المرضى.
وفي جمادى الآخرة: هبت ريح سوداء، وادلهمت السماء، وكان في خلال ذلك نار وتراب كالجبال يسير بين السماء و الأرض، فانجلت وقد هلك خلق كثير من الناس والبهائم، ودخل اللصوص الحمامات فأخذوا ثياب الناس، ونهبوا الأسواق، وغرقت سفن، وسقط رأس منارة باب الأزج .
وفي شعبان : بدأت الفتن بين أهل الكرخ ومحال السنة، ونهبت قطعة من نهر الدجاج، وقلعت الأخشاب حتى من المساجد، وضرب الشحنة خيماً هناك حتى انكف الشر.
وفي يوم الخميس ثاني عشر شعبان: خلع على أبي بكر محمد بن المظفر الشامي في الديوان وولي قضاء القضاة.
قال عبد الله بن المبارك السقطي: لما توفي محمد بن علي الدامغاني وكان يحمل إليه أموال كثيرة من الأمصار، وترشح ولده لقضاء القضاة، وبذل مالاً جزيلاً فرأى أمير المؤمنين رفع الظنة عنه بقبول مال، فعدل إلى الشامي، فخرج التوقيع بولايته، فاستبشر الناس .
وفي رمضان تكلم بهراة متكلم فلسفي فأنكر عليه عبد الله الأنصاري، فتعصب لذلك قوم فافتتنت هراة، وخرج ذلك المتكلم إلى فوسنج بعد أن أثخن ضرباً، وأحرقت داره، فلجأ إلى دار القاضي أبي سعد بن أبي يوسف مدرس فوسنج، فاتبعه قوم من أصحاب الأنصاري إلى فوسنج وهجموا عليه، ونالوا منه ومن أبي سعد، فافتتنت فوسنج، وسود باب مدرسة النظام، وكانت فيها جراحات فبعث النظام فقبض على الأنصاري، فأبعده عن هراة حتى خبت الفتنة، ثم أعاده إلى هراة.
وفي ذي القعدة: جاء سيل لم يشاهد مثله منذ سنين، فغرق عامة المنازل ببغداد، ودام يوماً وليلة، وبقي أثر ذلك السحاب في البرية إلى الصيف.
وفي هذا الشهرك قبض بدر الجمالي أمير مصر على ولده الأكبر وأربعة من الأمراء، وكان الولد قد واطأهم على قتل ابيه لينفرد بالملك، فوشى بذلك خازن أحد الأمراء، فأخذ الأربعة، وضرب رقابهم وصلبهم، وعفى أثر ولده، فقال قوم: قطع عنه القوت فمات، وقال قوم : غرقه، وقال قوم: دفنه حياً، وكان بدر هذا قد نفى عن مصر والقاهرة كل من وقعت عليه سيماء العلم بعد أن قتل خلقاً كثيراً من العلماء، وقال : العلماء أعداء هذه الدولة هم الذين ينبهون العوام على مايقولونه، ونفى مذكري أهل السنة، وحمل الناس أن يكبروا خمساً من الجنائز، وأن يسدلوا إيمانهم في الصلاة، وأن يتختموا في الإيمان، وأن يثوبوا في صلاة الفجر " حي على خير العمل " وحبس أقواماً رووا فضائل الصحابة .
وزاد نيل مصر في هذه السنة زيادة لم يعهدوها منذ سنين وكثر الخصب.


وفي ذي الحجة عادت الفتن بين اهل الكرخ والسنة، وأحرق شطر من الكرخ ومن باب البصرة، وعبر الشحنة فأحرق من باب البصرة، وقتل هاشمياً فعبر أهل باب البصرة إلى الديوان، ورجموا المتعيشين في الحريم، وغلقوا الدكاكين، فنفذ من منع الشحنة منهم، وأصلح بينهم.
ومما حدث في هذه السنة: أن رجلاً من الهاشميين يقال له: ابن الحب كانت له بنت فهويها جار لهم وهويته فافتضها، فدخل إبوها فرآها على تلك الحال فغشي عليه، ثم أفاق بعد زمان وجرد سيفاً وعدا ليقتلها، فهربت إلى جيرانها، ثم ظفر بها فسألها عن الحال فاعترفت فمضى إلى الديوان في جماعة من الهاشميين يستنفر على الرجل، فلم تلبث له بينة ولا أقر الرجل، فحبس الشريف ابنته في بيت، وسد عليها الباب، وكان لها أخ يرمي إليها من روزنة البيت يسيراً من القوت فعلم أبوها فأخرجه من الدار، فبقيت أياماً ليس لها قوت فماتت.
ومما حدث : أن قوماً وقعوا على حاج مصر فقتلوا خلقاً كثيراً منهم، وأخذوا أموالهم، وعاد من سلم غير حاج.
وخرج توقيع من المقتدي بأمر الله ينقض ما علا من دور بني الحرر اليهود وسد أبواب لهم كانت تقابل الجامع، وأخذ عليهم غض الصوت بقراءة التوراة في منازلهم، وإظهار الغيار على رؤوسهم، ونودي بالأمر بالمعروف النهي عن المنكر، والتقدم إلى والي كل محلة بالسد من الطائفة الصمدية، وأريقت الخمور، وكسرت الملاهي، ونقضت دوراً أهل الفساد
ذكر من توفي هذه السنة من الأكابر
أحمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن إبراهيم بن أبي أيوب، أبو بكر الفوركي، وهو سبط أبي بكر بن فورك نزل بغداد واستوطنها وكان متكلماً مناظراً واعظاً، وكان ختن أبي القاسم القشيري على ابنته، وكان يعظ في النظامية فوقعت بسببه الفتنة في المذاهب، وكان مؤثراً للدنيا، طالباً للجاه، لا يتحاشى من لبس الحرير، وقد سمع من أصحاب الأصم، وقيل لأبي منصور بن جهير: نحضره لنسمع منه؟ فقال : الحديث أصلف من الحال التي هو عليها، فاستحسن الناس ذلك منه.
وقال شيخنا أبو الفضل بن ناصر: كان داعية إلى البدعة يأخذ كسر الفحم من الحدادين ويأكل منه .
وتوفي في شعبان هذه السنة عن نيف وستين سنة،ودفن عند قبر الاشعري بمشرعة الروايا من الجانب الغربي .
الحسين بن علي، أبو عبد الله المردوسي كان رئيس زمانه، وكان قد خدم في زمن بني بويه، وبقي إلى زمان المقتدي، وارتفع أمره حتى كانت ملوك الأطراف تكتب إليه عبده وخادمه، وكان كامل المروءة، لا يسعى إلا في مكرمة، وكان كثير البر والصدقة، والصوم والتهجد، وحفر لنفسه قبراً وأعدو كفناً قبل وفاته بخمسين سنة، وتوفي عن خمس وتسعين ودفن بمقبرة باب التين .
حمزة بن علي بن محمد بن عثمان، أبو الغنائم ابن السواق البندار ولد سنة اثنتين وأربعمائة، وسمع من أبي الحسين بن بشران وغيره، وكان ثقة صدوقاً من أثبت المحدثين، حدثنا عنه أشياخنا، وتوفي في شعبان هذه السنة .
عبد الله بن محمد، أبو الحسن البستي قاضي الحريم الشريف، ولد سنة أربع وتسعين وثلثمائة، وتوفي في هذه السنة .
عبد الرحمن بن مأمون بن علي، أبو سعد المتولي ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة، وسمع الحديث، وقرأ الفقه على جماعة، ودرس بالنظامية ببغداد بعد أبي إسحاق، ودرس الأصول مدة، ثم قال: الفروع أسلم، وكان فصيحاً فاضلاً، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر شوال من هذه السنة، وصلى عليه أبو بكر الشامي، ودفن بمقبرة باب أبرز.
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، أبو المعالي الجويني إمام الحرمين من أهل نيسابور، وجوين قرية من قرى نيسابور، ولد سنة ستع عشرة وأربعمائة، وتفقه في صباه على والده وله دون العشرين سنة، فأقعده مكانه للتدريس فأقام التدريس، وسمع الحديث الكثير في البلاد، وفي بغداد من أبي محمد الجوهري، وروى عنه شيخنا زاهر بن طاهر الشحامي، وخرج إلى الحجاز فأقام بمكة أربع سنين، وعاد إلى نيسابور فجلس للتدريس ثلاثين سنة، وقد سلم إليه التدريس و المحراب و المنبر والخطابة ومجلس التذكير يوم الجمعة، وكان يحضر درسه كل يوم نحو ثلثمائة، وتخرج به جماعة من الاكابر، حتى درسوا في حياته، وصرف أكثر عنايته في آخر عمره إلى تصنيف الكتاب الذي سماه: " نهاية المطلب في دراية المذهب " وكان الشيخ أبو إسحاق يقول له: أنت إمام الأئمة .


وكان الجويني قد بالغ بالكلام، وصنف الكتب الكثيرة فيه، ثم رأى أن مذهب السلف أولى، فروى عنه أبو جعفر الحافظ أنه قال : ركبت البحر الأعظم، وغصت في الذي نهى عنه أهل الإسلام كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطف بره وإلا فالويل لابن الجويني.
وأنبأنا أبو زرعة، عن أبيه محمد بن طاهر المقدسي قال : سمعت أبا الحسن القيرواني وكان يختلف إلى درس أبي المعالي الجويني يقرأ عليه الكلام يقول : سمعت أبا المعالي اليوم يقول: يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام، فلو علمت أن الكلام يبلغ إلى مابلغ مااشتغلت به .
قال المصنف رحمه الله: وشاع عن أبي المعالي أنه كان يقول أن الله يعلم جمل الأشياء ولا يعلم التفاصيل، فواعجبا! أترى التفاصيل يقع عليها أسم شيء أو لا؟ فإن وقع عليها أسم شيء فقد قال الله " وهو بكل شيء عليم " " وكنا بكل شيء عالمين " .
ونقلت من خط أبي الوفاء بن عقيل قال : قدم أبو المعالي الجويني بغداد أول ما دخل الغز، وتكلم في أبي إسحاق، وأبي نصر بن الصباغ، وسمعت كلامه قال : وذكر الجويني في بعض كتبه ما خالف به إجماع الأمة، فقال: إن الله تعالى يعلم المعلومات من طريق الجملة لا من طريق التفصيل. قال : وذكر لي الحاكي عنه وهو من الفضلاء: من مذهبه أنه ذكر على ذلك شبهات سماها حججاً برهانية. قال ابن عقيل: فقلت له : ياهذا، تخالف نص الكتاب، قال الله تعالى : " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " وقال : " يعلم ما في أنفسكم " و " يعلم مافي الأرحام " و " يعلم السر وأخفى " و " وهو بكل شيء عليم " ثم انتقل إلى بيان علم مالم يكن إن لو كان كيف كان يكون فقال : " لو ردوا لعادوا " وهذا من جهة السمع، فأمامن جهة العقل فإنه خلق جميع الأشياء الكليات والجزئيات، وهذا غاية الدليل على الإحاطة بتفاصيل أحواله، ومعلوم أن دقائق حكمته المدفونة في النحل وهو ذياب من سمع وبصر وتهد إلى دقائق في حيز الإهمال، ومن نفى عن نفسه الجهل وأثبت لها العلم كيف يقال فيه هذا . وقد عجبت من تهجمه بمثل هذه، وهذه المقالة غاية الضلالة، هذا كله كلام ابن عقيل.
وحكى هبة الله بن المبارك السقطي قال : قال لي محمد بن الخليل البوشنجي: حدثني محمد بن علي الهريري وكان تلميذ أبي المعالي الجويني قال : دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه أسنانه تتناثر من فيه ويسقط منه الدود لا يستطاع شم فيه: فقال: هذا عقوبة تعرضي بالكلام فاحذره .
مرض الجويني أياماً ، وكان مرضه غلبة الحرارة حمل إلى بشتنقان لاعتدال الهواء فزاد ضعفه، وتوفي ليلة الأربعاء بعد العشاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة عن تسع وخمسين سنة، ونقل في ليلته إلى البلد، ودفن في داره، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين فدفن إلى جانب والده، وكان أصحابه المقتبسون من علمه نحو أربعمائة يطوفون في البلد وينوحون عليه.
محمد بن أحمد ابن ذي البراعتين، أبو المعالي من أهل باب الطاق، حدث عن أبي القاسم بن بشران، وحدث عنه شيخنا أبو القاسم السمرقندي، وكان يتصرف في أعمال السلطان.
وقال شيخنا ابن ناصرك كان رافضياً لا تحل الرواية عنه .
توفي في رمضان هذه السنة .
محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد، أبو علي المعتزلي من الدعاة، كان يدرس علم الاعتزال، وعلم الفلسفة و المنطق، فاضطره أهل السنة إلى لزم بيته خمسين سنة لا يتجاسر أن يظهر، ولم يكن عنده من الحديث إلا حديث واحد لم يرو غيره، سمعه من شيخه أبي الحسينبن البصري، ولم يروا أبو الحسين غيره. وهو قوله عليه السلام: " إذا لم تستحي فاصنع ماشئت " فكأنهما خوطبا بهذا الحديث لأنهما لم يستحييا من بدعتهما التي خالفا بها السنة. وعارضاها بها ومن فعل ذلك فما استحيا.


ولهذا الحديث قصة عجيبة : وهو أنه رواه القعنبي عن شعبة، ولم يسمع من شعبة ويكثر، فصادف مجلسه وقد انقضى، فمضى إلى منزله فوجد الباب مفتوحاً وشعبة على ، البالوعة، فهجم فدخل من غير استئذان وقال : غريب قصدت من بلد بعيد لتحدثني، فاستعظم شعبة ذلك وقال: دخلت منزلي بغير إذني، وتكلمني وأنا على مثل هذه الحال، أكتب : حدثنا منصور، عن ربعي، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا لم تستحي فاصنع ماشئت " ثم قال : والله لاحدثتك غيره ولا حدثت قوماً أنت معهم .
والثاني: أنبأنا محمد بن ناصر قال: أنبأنا الحسن بن محمد البناء قال: أخبرنا هلال بن محمد بن جعفر قال: حدثنا أحمد بن الصباح قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الكشي قال: حدثني بعض القضاة عن بعض ولد القعنبي قال :كان أبي يشرب النبيذ ويصحب الأحداث، فقعد يوماً ينتظرهم على الباب، فمر شعبة والناس خلفه يهرعون فقال: من هذا؟ قيل شعبة. قال: وأي شعبة؟ قيل: محدث . فقام إليه وعليه إزار أحمر فقال له : حدثني. قال له : ما أنت من أصحاب الحديث فشهر سكينه فقال : أتحدثني أو أجرحك. فقال له : حدثنا منصور، عن ربعين ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا لم تستحي فاصنع ماشئت " ، فرمى سكينه ورجع إلى منزله، فأهراق ما عنده، ومضى إلى المدينة فلزم مالك بن أنس، ثم رجع إلى البصرة وقد مات شعبة، فما سمع منه غير هذا الحديث .
وقال شيخنا ابن ناصر: كان ابن الوليد داعية إلى الاعتزال، لاتحل الرواية عنه.
قال المصنف رحمه الله : قرأت بخط أبي الوفاء بن عقيل قال: جرت مسألة بين أمراجهم في جماعهم وإنشاء شهوتهم لذلك، قال أبو علي بن الوليد : لا يمتنع أن يجعل من جملة لذاتهم ذلك لزوال المفسدة فيه في الجنة، لأنه إنما منع منه في الدنيا لما فيه من قطع النسل، وكونه محلاً للأذى ليس في الجنة ذلك، ولذلك أمرجوا في شرب الخمر لما أمن من السكر وغائلته من العربدة والعداوة، وزوال العقل، فلما أمن ذلك من شربه لم يمنع من الالتذاذ بها. فقال أبو يوسف: إن الميل إلى الذكور عاهة، وهو قبيح في نفسه، إذ لم يخلق هذا المحل للوطء، ولهذا لم يبح في شريعة، بخلاف الخمر، وإنما خلق مخرجاً للحدث، وإذا كان عاهة فالجنة منزهة عن العاهات. فقال أبو علي: إن العاهة هي التلويث بالأذى،وإذا لم يكن إذى لم يكن إلا مجرد الالتذاذ، فلا عاهة.
قال ابن عقيل: قول أبي يوسف كلام جاهل، إنما حرم بالشرع، وكما عادت الأجزاء كلها لاشتراكها في التكليف ينبغي أن تعاد القوى و الشهوات، لأنها تشارك الأجزاء في التكليف ويتعص بالمنع من قضاء أوطارها، و الممتنع من هذا معالج طبعه بالكف، فينبغي أن تقابل هذه المكابدة بالإباحة. ثم عاد وقال : لا وجه لتصوير اللواط، لأنه ما يثبت أن يخلق لأهل الجنة مخرج غائط، إذ لا غائط .
توفي أبن الوليد في ليلة الأحد ثالث ذي الحجة من هذه السنة وصلى عليه أبو طاهر الزينبي ودفن بالشونيزية.
محمد بن علي بن محمد بن الحسين بن عبد الملك بن عبد الوهاب بن حموية، أبو عبد الله الدامغاني ولد في ليلة الاثنين ثامن ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وثلثمائة بدامغان، وتفقه ببلده، ثم دخل إلى بغداد يوم الخميس سادس عشرين رمضان سنة تسع عشرة فتفقه على أبي عبد الله الحسين بن علي الصيمري، وأبي الحسين أحمد بن محمد القدوري، وسمع منهما الحديث، وبرع في الفقه، وخص بالعقل الوافر والتواضع، فارتفع وشيوخه أحياء، وانتهت إليه الرياسة في مذهب العراقيين، وكان فصيح العبارة، كثير النشوار في درسه، سهل الأخلاق، روى عنه شيوخنا، وعاني الفقر في طلب العلم، فربما استضوأ بسراج الحارس.


وحكى عنه أبو الوفاء ابن عقيل أنه قال: كان لي من الحرص على الفقه في ابتداء أمري أني كنت آخذ المختصرات وأنزل إلى دجلة أطلب أفياء الدور الشاطئية والمسنيات، فأنظر في الجزء وأعيده، ولا أقوم إلا وقد حفظته، فأدى بي السعي إلى مسناه الحريم الطاهري، فجلست في فيئها الثخين، وهوائها الرقيق، واستغرقني النظر، فإذا شيخ حسن الهيئة قد أطلع على، ثم جاءني بعد هنيهة فراش فقال: قم معي.فقمت معه حتى جاء بي إلى باب كبير وعليه جماعة حواش، فدخل بي إلى دار كبيرة وفيها دست مضروب ليس في أحد، فأدناني منه فجلست، إذا بذلك الشيخ الذي أطلع علي قد خرج فاستدناني منه، وسألني عن بلدي فقلت: دامغان، وكان علي قميص خام وسخ وعليه آثار الحبر، فقال ما مذهبك، وعلى من تقرأ؟ فقلت: حنفي، قدمت منذ سنين وأقرأ على الصيمري، وابن القدوري. فقال: من أين مؤنتك ؟ قلت:لا جهة لي أتمون منها فقال: ماتقول في مسألة كذا وكذا من الطلاق؟ وبسطني ثم قال: تجيء كل خميس إلي ها هنا . فلما جئن أقوم أخذ قرطاساً وكتب شيئاً ودفعه إلى وقال : تعرض هذا على من فيه اسمه وتأخذ ما يعطيك. فأخذته ودعوت له، فأخرجت من باب آخر غير الذي دخلت منه، وإذا عليه رجل مستند إلى مخده، فتقدمت إليه فقلت: من صاحب هذه الدار؟ فقال: هذا ابن المقتدر بالله. فقال: فما معك؟ فقلت: شيء كتبه لي. فقال: بخطه، أين كان الكاتب؟ فقلت على من هذا ؟ فقال : على رجل من أهل باب الأزج: عشر كارات دقيق سميد فائق، وكانت الكارة تساوي ثمانية دنانير، وكتب لك بعشرة دنانير. فسررت ومضي إلى الرجل، فأخذ الخط ودهش، وقال : هذا خط مولانا الأمير، فبادر فوزن الدنانير وقال: كيف تريد الدقيق ؟ جملة أو تفاريق؟ فقلت: أريد كارتين منها، وثمن الباقي. ففعل فاشتريت كتباً كفقيه بعشرين و كاغداً بدينارين.
وشهد عند أبي عبد الله بن ماكولا قاضي القضاة في يوم الاربعاء ثالث عشر ربيع الأول سنة إحدى واربعين، فلما توفي ابن ماكولا قال القائم بأمر الله لأبي منصور بن يوسف: قد كان هذا الرجل يعني ابن ماكولا قاضياً حسناً نزهاً، ولكنه كان خالياً من العلم، ونريد قاضياً عالماً ديناً. فنظر ابن يوسف إلى عميد الملك الكندري هو المستولي على الدولة، وهو الوزير، وهو شديد التعصب لأصحاب الإمام أبي حنيفة، فأراد التقرب إليه، فاستدعى أبا عبد الله الدامغاني فولى قاضي القضاة يوم الثلاثاء تاسع ذي القعدة سنة سبع وأربعين، وخلع عليه، وقرئ عهده، وقصد خدمة السلطان طغرليك في يوم الأربعاء عاشر ذي القعدة، فأعطاه دست ثياب وبغلة، واستمرت ولايته ثلاثين سنة، ونظر نيابة عن الوزارة مرتين: مرة للقائم بأمر الله، ومرة للمقتدي.ٍ وكان يوصف بالأكل الكثير، فروى الأمير باتكين بن عبد الله الزعيمي قال: حضرت طبق الوزير فخر الدولة ابن جهير، وكان يحضره الأكابر، فحضر قاضي القضاة محمد بن علي، فأحببت أن أنظر إلى أكله، فوقفت بإزائه، فأبهرني كثرة أكله حتى جاوز الحد، وكان من عادة الوزير أن ينادم الحاضرين على الطبق، ونشاغلهم حتى يأكلوا، ولا يرفع يده إلا بعد الكل، فلما وفرغ الناس من الأكل قدمت إليهم أصحن الحلوى، وقدم بين يدي قاضي القضاة صحن فيه قطائف بسكر وكانت الأصحن كباراً، يسع الصحن منها أكثر من ثلاثين رطلاً، فقال له الوزير يداعبه: هذا برسمك فقال: هلا أعلمتموني، ثم أكله حتى أتى على آخره .
مرض أبو عبد الله الدامغاني يوم الأربعاء سابع عشر رجب، وكان الناس يدخلون فيعودونه إلى آخر يوم الأربعاء الرابع والعشرين من رجب، فحجب عن الناس يوم الخميس والجمعة، وتوفي ليلة السبت الرابع والعشرين من رجب. وقد ناهز الثمانين. فنزع الفقهاء طيالستهم يوم موته، وصلى عليه أبنه أبو الحسن، ودفن بداره بنهر القلائين، ثم نقل إلى مشهد أبي حنيفة .
محمد بن علي بن المطلب، أبو سعد كان قد قرأ النحو و اللغة، والسير والآداب، وأخبار الأوائل، وقال شعراً كثيراً، إلا أنه كان كثير الهجو، ثم مال عن ذلك، وأكثر الصوم والصلاة و الصدقة، وروى الحديث عن ابن بشران، وابن شاذان، وغيرهما، وغسل مسودات شعره، وأحرق بعضها بالنار، وتوفي في هذه السنة وهو ابن ست وثمانين سنة.
محمد بن أبي طاهر، العباسي، ابن الرجحي


تفقه على أبي نصر ابن الصباغ وشهد عند الدامغاني وناب في القضاء فحمدت طريقته وتوفي في ذي القعدة من هذه السنة ودفن بمقبرة الجامع .
منصور بن دبيس بن علي بن مزيد توفي وتولى الإمارة أبنه سيف الدولة صدقة وتوفي في رجب هذه السنة.
بن أحمد بن السيبي، أبو الحسن، هبة الله بن عبد الله ولد سنة أربع وتسعين وثلثمائة، وسمع أبا الحسين بن بشران، وابن أبي الفوارس، وأبن الحمامي، وابن شاذان، وكان مؤدباً للمقتدي، ثم أدب أولاده.
توفي في محرم هذه السنة، ودفن بمقبرة باب حرب، وبلغ خمساً وثمانين سنة.
وكان ينشد من إنشائه:
رجوت الثمانين من خالقي ... لما جاء فيها عن المصطفى
فبلغنيها وشكراً له ... وزاد ثلاثاً بها أردفا
وها أنا منتظر وعده ... لينجزه فهو أهل الوفا، أبو البركات الوسوي الشريف:
كان له نقابة المشهد بسامرا، وكان من ظراف البغداديين وكرمائهم، وكان يصلي عامة الليل، وتوفي في شعبان هذه السنة، عن ثلاثة عشر ولداً ذكراً، وبنت واحدة.
الجهة القائمية، أم ولد القائم بأمر الله الذخيرة والسيدة. توفيت يوم الجمعة رابع عشرين جمادى الآخرة، وأخرجت عشية الجمعة، وصلى عليها ابن ابنها المقتدي بأمر الله، وحملت في الطيا إلى باب الطاق، فوصلت بعد عتمة، ومشى الناس كلهم سوى الوزير إلى التربة بشارع الرصافة، وجلس للعزاء بها ثلاثة أيام، وكانت قد أوصت بجزء من مالها للحج والصدقات والقرب، ويذكر عنها الصوم والصلاة والورع .
يحيى بن محمد بن القاسم، أبو المعمر، ابن طباطبا العلوي وكان بقية شيوخ الطالبيين، وكان هو وأخوه نسابتهم، وكان ينزل بالبركة من ربع الكرخ، وكان مجمعاً لظراف الطالبيين وعلمائهم وشعرائهم وفضلائهم، وكان يذهب مذهب الإمامية وقد قرأ طرفاً من الأدب.
وتوفي في رمضان هذه السنة، وهو آخر بني طاطبا ولم يعقب.
ثم دخلت
سنة تسع وسبعين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها : أنه في المحرم تقدم أمير المؤمنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونودي بذلك في الأسواق، وأريقت الخمور، كسرت الملاهي، ونقضت دور يلجأ إليها المفسدون.
وفيه : قتل رجلان كان السبب في قتلهما أن امرأة كانت تطر وتأخذ أموال الناس وتنفقهما عليهما، ثم مالت إلى أحدهما دون الآخر، فظفر به الآخر فقتله، فظفرت بالقاتل أخت المقتول فجرحته، فجاء أخوها فقتله فقبرا من ساعتهما.
وفيه : قتل منفوخة المسلحي بالكرخ بين السورين، فركب الشحنة وكبس دار الطاهر نقيب الطالبيين، وقد كان لجأ إليها جماعة من المتهمين، فقبض عليهم وأخذ منهم أموالاً، فاتفقت السنة والشيعة على الاستغاثة على الشحنة، فتغيب فطلبه الأتراك، فأخذ مسحوباً إلى الباب فاعتقل، وأمر برد ما أخذ وأخرج منفوخة فأحرق على بابه.
وفي صفر تقدم المقتدي بإحضار زعيم الكفاة أبي منصور محمد بن محمد بن الحسين بن المعوج إلى الديوان فخلع عليه، فحضره أرباب الدولة، وخرج التوقيع بتقليده المظالم، وكان فيه: " ولما رأى أمير المؤمنين في محمد بن محمد بن الحسين من العفاف والديانة والثقة والصيانة قلده المظالم، وقد أخذ عليه تقوى الله وطاعته والسعي في كل ما كان يزلفه عنده ويقربه من أمير المؤمنين " فكان كل ما قرئ هذا قبل الأرض، ثم خرج فجلس بباب النوبي، ثم دعا الأمراء بالمعروف فكانوا أعوانه، وكان صيناً نزهاً .
وفي هذا الشهر : ثارت الفتنة بين السنة والشيعة، وقتل جماعة منهم أبو الحسن بن المهتدي الخطيب، وكانت الوقعة بين جامع المنصور والقنظرة العتيقة، فتولى قتال أهل السنة العميد والشحنة، ثم حاصر الطائفتان أياماً فلم يقدر أحد أن يظهر، فجبي لهما مال تولى جبايته النقيبان، فتقدم أمي المؤمنين بالقبض على النقيبين فحبس النقيبين، فأنكرا، وألزم العميد الشحنة رد ما أخذا .
وفي هذا الشهر: قدم خدم ابن أبي هاشم من مكة بخرق الدم معلقة على حراب الأضاحي، وخرج حجاب الديوان لتلقيهم، وعادوا والقراء بين أيديهم، فنزلوا وقبلوا العتبة الشريفة، وصاروا إلى دار الضيافة، فأدر عليهم ما جرت به العادة .


وبعث في هذه السنة صفائح ذهب وفضة لتعلق على الباب ففعل ذلك، وقلع كل ما كان على الباب مما عليه أسم صاحب مصر، وكتب اسم المقتدي.
وفي صفر أيضاً : دخل عريف الصناع والفعلة والصناع معه على العادة إلى دار الخلافة، فخرج المقتدي بالله يمشي في الدار، فخرج إليه ثلاثة من الرجال فقبلوا الأرض وقالوا: نحن رجال من رؤساء نهر الفضل صودرنا وعوقبنا، ولنا أربعة أشهر على الباب لم ينجز لنا حال، فتوصلنا إلى أن دخلنا في حد الروزجارية فقال: فمن فعل بكم هذا ؟ قال : ابن زريق الناظر بواسط، فوعدهم الجميل فخرجوا، وتقدم من ساعته بإيضاح الحال، فإن كان كما ذكروا فليعزل ابن زريق عن أعمال واسط، وليصعد به منكلاً. ثم إلى صاحب المظالم أن لا يطوي حال أحد من الرعية، ثم وصل أولئك وأحدرهم واصحبهم من يستوفي من ابن زريق مالهم، وينفذ فيه ما تقدم به.
وفي جمادى الأولى: وصل الشريف العلوي الدبوسي، كان قد استدعاه النظام للتدريس بمدرسته ببغداد فتلقى، وكان بعيد النظر في معرفة الجدل، فدرس في النظامية بعد موت أبي سعد المتولي.
وفي جمادى الآخر: بدأ الطاعون بالعراق، وكان عامة أمراضهم حمى الربع، ثم يتعقبها الموت، فلما كثر ذلك أمر المقتدي بتفرقة الأدوية والأشربة على المحال، ثم فض عليهم المال.
وفي هذا الشهر : سار ملك شاه فنزل الموصل في رجب، ثم مضى إلى قلعة جعبر، وقد كان تحصن بها شاري يعرف بسابق بن جعبر في عدد من السلوح يغيرون ويلجأون إليها، فراسله السلطان في تسليمها وأن يؤمنه على نفسه وماله، وفلم يجب، فنصب العرادات، ونقب السور، وفتحت وقتل عامة من كان فيها، وقبض على سابق، وأرادوا قتله بالسيف، فوقعت عليه زوجته وقالت: لا أفارقه أو تقتلوني معه، فألقوه من أعلى السور فتكسر، ثم ضرب بالسيوف نصفين فألقت نفسها وراءه فسلمت، فقال لها السلطان: ما حملك على هذا ؟ فقالت: إنا قوم لم يتحدث عنا بالخنا، فخفت أن يخلو بي من الترك في القلعة، فيقول الناس شاءوا . فاستحسن ذلك منها .
وفي رجب : وقعت صاعقة في خان الخليفة المقابل لباب النوبي فأحرقت جزءاً من كنيسة الخان، وفتنت اسطوانة حتى صارت رميماً، وسقط منها مثل كباب القطن الكبار ناراً، فخر الناس على وجوههم، وسقطت أخرى بخرابة أبن جردة فقتلت غلاماً تركياً، وسقطت أخرى على جبل آمد فصار رماداً، ووقعت صواعق في البرية لا تحصى في ديار الشام.
وفي رمضان: كثرت الوحول في الطرقات، فأمر أميرالمؤمنين بتنظيفها، وأقيم عدد من الفعلة لتنظيفها ومائة من البهائم لنقلها.
وفي أول يوم من شوال: حضر الموكب النقيبان والأشراف و القضاة والشهود، فنهض بعض المتفقهة وأورد أخباراً في مدح الصحابة، وقال : مابال الجنائز تمنع من ذكر الصحابة عليها بمقابر قريش وربع الكرخ والسنة ظاهرة ويد أمير المؤمنين الباسطة القاهرة. فطولع بما قال، فخرج التوقيع بما معناه: أنهى ما ارتكب بمقابر قريش من إخمال ذكر صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي عنهما، وتورطهم في هذه الجهالة، واستمرارهم على هذه الضلالة التي استوجبوا به النكال، واستحقوا عظيم الخزي و الوبال ، وإنما يتوجه العتب في ذلك نحو نقيب الطالبيين ولولا ما تدرع به من جلباب الحلم، وأسباب يتوخاها لتقدم في فرضه ما يرتدع به الجهال، فليؤجر بإظهار شغل السنة في مقابر باب التبن وربع الكرخ من ذكر الصحابة على الجنائز، وحثهم على الجمعة و الجماعة، والتثويب " بالصلاة خير من النوم " وذكر الصحابة على مساجدهم ومحاريبهم أسوة بمساجد السنة، والتقدم بمكاتبة ابن مزيد ليجري على هذه السنة في بلاده " فليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " .
وفي شوال: وصل رسول السلطان بكتب تتضمن الدعاء للمواقف المقدسة، والاعتذار من تأخره عن الخدمة، وأنه بسعادة الخدمة فتح حلب، وأنطاكية، والرها، وقلعة جعبر، وطرفا من بلاد الروم، وهو في أثر هذه الخدمة، فخرج من بغداد النقيبان طراد و المعمر، فخدماه بالموصل، وتلاهما عفيف، ثم ذوو المناصب، فلما وصل الصالحين نفذ من الإقامات مالا يحصى، وخرج الموكب لتلقيه، فتوجه الوزير أبو شجاع و النقيبان والجماعة والقراء والطبول و البوقات فبلغوه عن المقتدي بأمر الله السلام والتهنئة بالتقدم، فقام وقبل الأرض ثم دخل بغداد .


وفي شوال: وقعت الفتنة بين السنة و الشيعة وتفاقم الأمر إلى أن نهبت قطعة من نهر الدجاج، وطرحت النار، وكان ينادي على نهوب الشيعة إذا بيعت في الجانب الشرقي: هذا مال الروافض وشراؤه وتملكه حلال.
وفي ذي الحجة: قدم السلطان أبو الفتح ملك شاه إلى بغداد ألزمته خاتون بهذا لتنقل ابنتها إلى الخليفة، فدخل دار المملكة والعوام يترددون إليه ولايمنعون، وضرب الوزير نظام الملك سرادقة في الزاهر ليقتدي به العسكر ولا ينزلون في دور الناس، فلم يقدم أحد على النزول في دار أحد، وركب السلطان إلى مشهد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه فزاره، وعبر إلى قبر معروف وقبر موسى بن جعفر والعوام بين يديه وانحدر إلى سلمان فزاره، وأبصر إيوان كسرى، وزار مشهد الحسين عليه السلام، وأمر بعمارة سوره، ويمم إلى مشهد علي عليه السلام فأطلق لمن فيه ثلثمائة دينار، وتقدم باستخراج نهر من الفرات بطرح الماء إلى النجف فبدئ فيه، وعمل له الطاهر نقيب العلويين المقيم هناك سماطاً كبيراً .
وفي ليلة الاثنين سابع ذي الحجة : مضت والدة الخليفة وعمته إلى خاتون في دار المملكة، فضربت سرداقاً من الدار إلى دجلة، ونزلت إليهما فخدمتهما، وصعدتا إلى دار المملكة، ثم نزلتا وهي معهما وانحدرن.
وفي ليلة الخميس سابع عشر هذا الشهر: وصل النظام إلى الخليفة من التاج ومشى وحده إلى أن وصل إليه وهو جالس من وراء الشباك فخدم، فقربه وأدناه وأخرج يده من الشباك إليه فقبلها ووضعها على عينه، وخاطبه بما جمله به .
وكان جماعة من الفقراء يأؤون إلى كويخات بباب الغربة، فتقدم أمير المؤمنين بأن يشتري لكل واحد داراً بالمقتدية، وبالمسعودة، والمختارة، وملكوها ونقضت كويخاتهم.
وتوفي فقير صاحب مرقعة بجامع المنصور كان يسأل الناس، فوجدوا في مرقعته ستمائة دينار مغربية.
وظهر فيها بين ديار بني أسد وواسط عيار مقطوع اليد اليسرى، كان يقع على القفل بنفسه فيقتل ويمثل ويأخذ المال، وكان يغوص عرض دجلة في غوصتين، وكان يقفز خمسة عشر ذراعاً، ويتسلق الحيطان الملس، ولا يقدر عليه فخرج عن أرض العراق سالماً .
وفي هذه السنة : صنع سيف الدولة سماطاً للسلطان جلال الدولة بظاهر الأجمة في الجانب الشرقي، ذكر أنه ذبح ألف كبش ومائة رأس دواب وجمال، وأنه سبك عشرين إلفاً مناً سكراً، وكان السماط أحسن شيء، وقد علق عليه ما صنع من منفوخ السكر من الطيور و الوحوش، وأنواع التماثيل، فحضر السلطان، وأشار إلى شيء منه، ثم نهب وانتقل إلى طعام خاص، ومجلس عبي له سرادق ديباج في خيم ديباج اشتمل على خمسمائة قطعة م أواني الفضة، وزين بتماثيل الكافور والعنبر والندو المسك الأذفر، فجلس وقضى منه وطرأ، فلما نهض خدم سيف الدولة بحمل عشرين ألف دينار، والسرادق والأواني، وقبل الأرض بين يديه وانصرف.
وفي هذه السنة: وقعت العرب على الحاج فقاتلوهم يومهم، وأمسوا يسألون الله النجاة، فبلغ العرب أن قوماً منهم علموا خلو أبياتهم فاستاقوا مواشيهم فولوا.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
إبراهيم بن عبد الواحد بن طاهر بن الطيب، أبو الخطيب القطان سمع البرقاني، والخرقي، وعبد الله بن بشران، روى عنه شيخنا عبد الوهاب، وأثنى عليه فقال: كان خيراً كيساً، توفي في جمادى الأخرة من هذه السنة.
اسماعيل بن زاهر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله، أبو القاسم النوقاني من أهل نيسابور. ولد سنة سبع وتسعين وثلثمائة، سمع بالبلاد من خلق كثير، وكان ثقة صدوقاً فقيهاً أديباً حسن السيرة، روى عنه أشياخنا، وتوفي في هذه السنة.
الحسن بن محمد بن القاسم، أبو علي بن زينة سمع من هلال الحفار، وأبي الحسن الحمامي، وغيرهما، وروى عنه شيخنا أبو محمد المقرئ. توفي في صفر هذه السنة.
ختلغ بن كنتكين، أبو منصور أمير الحاج كان شجاعاً وله وقعات مع عرب البرية، وكانوا يخافونه، وكان حسن السيرة محافظاً على الصلوات في جماعة، يختم القرآن كل يوم، ويختص به العلماء والقراء، وله آثار جميلة في المشاهد والمساجد والمصانع بين مكة والمدينة، ولبث في أمره الحاج اثنتي عشرة سنة، توفي في يوم الخميس بين الظهر والعصر سابع جمادى الأولى من هذه السنة، فبلغ ذلك النظام فقال: مات ألف رجل .
صافي عتيق القائم بأمر الله .


قرأ القرآن، وصاحب الأخبار، وتبع أبا علي بن موسى الهاشمي الحنبلي، فأخذ من هديه، وكان متورعاً له تهجد وعبادات وبر وصدقات، وأعتق عند موته عبيده وإماءه، وأوصى لكل منهم بجزء من ماله، ووقف على أبواب البر، وأجاز ذلك المقتدي، وصلى عليه ثم حمل إلى تربة الطائع فقبر هناك .
عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي، أبو جعفر أبو أبي الفضل سمع أبا القاسم بن بشران وغيره، روى عنه شيخنا أبو القاسم السمرقندي، وكان من ذوي الهيئات النبلاء والخطباء الفصحاء، وكان صاحب مفاكهة وأشعار، وطرف وأخبار، توفي في شعبان هذه السنة، ودفن في مقبرة جامع المدينة .
عبد الخالق بن هبة الله بن سلامة بن نصر، أبو عبد الله المفسر الواعظ. ولد سنة تسعين وثلثمائة، وسمع اباه وأبا علي بي شاذان وغيرهما، وكان له سمت ووقار، وكان كثير التهجد والتعبد.
وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة وهو ابن أربع وتسعين، ودفن بمقبرة الجامع.
عبد الواحد بن محمد بن عبد السميع، أبو الفضل العباسي من ولد الواثق، روى الحديث، وكان ثقة صالحاً.
توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة عن نيف وتسعين، ودفن بمقبرة الجامع.
علي بن أبي نصر بن ودعة كان يؤثر عنه الخير والأمانة والديانة، وكان رئيس التجار بالموصل.
توفي ببغداد، وحملت جنازته إلى الموصل فكان يوماً مشهوداً .
علي بي فضال، أبو الحسن المجاشعي النحوي سمع الحديث، وكان له علم غزير وتصانيف حسان، إلا أنه مضعف في الرواية، توفي في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن بباب أبرز.
علي بن أحمد بن علي، أبو القاسم، ابن الكوفي سمع ابن شاذان، وابن غيلان، وغيرهما، وقرأ القرآن على أبي العلاء الواسطي وغيره، وولي النظر بالمارستان العضدي، فأحسن مراعاة المرضى.
توفي في رجب هذه السنة، ودفن بالشونيزية.
محمد بن أحمد، أبو علي التستري كان متقدم البصرة في الحال المال وله مراكب في البحر، حفظ القرآن، وسمع الحديث، وانفرد برواية سنن أبي داود عن أبي عمر، وكان حسن المعتقد، صحيح السماع، وتوفي في رجب هذه السنة.
محمد بن أحمد بن القزاز المطيري. روى الحديث، ونظم الشعر، وكانت له يد في القراآت إلا أنهم حكوا عنه تسمحاً في الرواية، توفي المطيري عن مائة وثلاث عشرة سنة.
محمد بن محمد بن أحمد ابن المسلمة، أبو علي بن أبي جعفر ولد سنة إحدى وأربعمائة، وروى عن هلال الحفار وغيره، فروى عنه أشياخنا، وتوفي في رمضان هذه السنة، ودفن بباب حرب، وكان زاهداً صموتاً ثقة.
محمد بن محمد بن علي بن الحسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، أبو نصر بن أبي طاهر بن علي ولد في صفر سنة تسع وثمانين وثلثمائة، وسمع من المخلص وأبي بكر بن زنبور، وأبي الحسن الحمامي وغيرهم، وتزهد في شبابه فانقطع في رباط أبي سعد الصوفي، ثم انتقل إلى الحريم الطاهري، وكان ثقة، وعاش ثلاثاً وتسعين سنة، فلم يبق في الدنيا من سمع أصحاب البغوي غيره، وكان آخر من حدث عن المخلص، وحدثنا عنه أشياخنا، وآخر من حدثنا عنه سعيد بن أحمد بن البناء، وتوفي في ليلة السبت الحادي والعشرين من جمادى الآخرة، وصلى عليه أخوه الكامل، ودفن في مقابر الشهداء قريباً من باب حرب.
محمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف، أبو بكر. سمع الكثير من أبي الحسين بن بشران، وأبي الحسن الحمامي، وابن أبي الفوارس وغيرهم، روى عنه أشياخنا وكان رجلاً صالحاً، قليل المخالطة لا يخرج إلا في أوقات الصلوات، يتشدد في السنة، حضر أخوه مجلس أبي نصر القشيري فهجره. وقال شيخنا ابن ناصر: كان عالماً متقناً ذا ورع وتقى وثقة كثير السماع.
توفي ليلة الخميس ثالث ربيع الأول، ودفن بمقبرة باب حرب.
مطلب الهاشمي كان خطيباً قديماً ثم اقتطعه القائم بأمر الله إلى إمامته، فكان يصلي به، وكان خيراً حسن المعتقد، يذهب إلى مذهب أحمد بن حنبل.
توفي في رمضان هذه السنة وهو في عشر السبعين.
هبة الله ابن القاضي محمد بن علي بن المهتدي، أبو الحسن الخطيب


ولد في سنة تسع عشرة وأربعمائة، وروى عن البرقاني وغيره، وكان إليه القضاء بعد أبيه، وخرج في أيام الفتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة، فوقع فيه سهم فمات ودفن يوم الجمعة تاسع عشر صفر عند أبيه خلف القبة الخضراء.
يحيى بن الحسين بن إسماعيل بن زيد، أبو الحسين الحسني وكان مفتي طائفته على مذهب زيد بن علي، وكان له معرفة بالأصول والحديث.
ثم دخلت
سنة ثمانين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه نودي في يوم الخميس غرة المحرم برفع الضرائب و المكوس بتوقيع شريف صدر عن المقتدي بأمر الله، وكتبت ألواح ألصقت على الجوامع بتحريم ذلك.
وخرج السلطان ملك شاه في رابع المحرم إلى ناحية الكوفة للصيد فاصطاد هو وعسكره ألوفاً حتى بنى من حوافزها منارة كبيرة عند الرباط الذي أمر ببنائه بالسبيعي بقرب الرحبة في طريق مكة، وهي باقية إلى الآن، وتسمى منارة القرون، وقيل أنه كان فيها أربعة آلاف رأس.
وخرج نظام الملك إلى المشهد بالكوفة والحائر فزارهما.
وفي يوم السبت سابع عشر المحرم: بعث المقتدي ظفر الخادم فاستدعى السلطان ملك شاه، فأنقذ إليه الطيار، فلما وصل السلطان إلى باب الغربة قدم إليه مركوب الخليفة بمركب جديد صيني وسرج من لبد أسود، فكبه ووصل إلى الخليفة فأمره بالجلوس فامتنع، فأمره ثانياً وأقسم عليه حتى جلس، وتقدم بإضافة الخلع عليه، ولم يزل نظام الملك يأتي بأمير أمير إلى تجاه السدة فيقول للأمير بالفارسية: هذا أمير المؤمنين، ثم يقول للخليفة: هذا العبد الخادم فلان بن فلان ولايته كذا، وعسكره كذا، وذلك الأمير يقبل الأرض، وكانوا أكثر من أربعين أميراً، وكان في جملة الأمراء آيتكين خال السلطان، فلما حضر استقبل القبلة، وصلى بإزاء الخليفة ركعتين، واستلم الحيطان، ومسح بيده وجسمه، وعاد السلطان وعليه الخلع والتاج والطوقان، وكمشتكين الجامدار يرفع ذيله عن يمينه، وسعد الدولة يرفعه عن شماله، فمثل بين يدي السدة وقبل الأرض دفعات، فقلده سيفين فقال الوزير أبو شجاع: يا جلال الدولة، هذا سيدنا ومولانا أمير المؤمنين الذي اصطفاه الله بعز الإمامة، واسترعاه الأمة، فقد أوقع الوديعة عندك موقعها، وقلدك سيفين لتكون قوياُ على أعداء الله. فسأل تقبيل يد الخليفة لم يجبه، فسأل خاتمه فأعطاه إياه فقبله ووضعه في عينه، وحضر الناس بأجمعهم فشاهدوا الخليفة والسلطان، ثم انكفأ وحمل بين يديه ثلاثة ألوية، وثلاث أفراس في السفن، وأربعة على الطريق، واستقبل من داره بالدبادب والرايات، ونثرت الدراهم والدنانير، وأنفذ إليه الخليفة سريراً مدهباً ومخاداً .
وفي يوم الاثنين عشر محرم: جاء نظام الملك إلى دار ابنه مؤيد الملك، فبات بها وجاء من الغد إلى المدرسة، ولم يكن رآها نهاراً، وجلس بها وقرئ عليه فيها الحديث، وأملي أيضاً الحديث، وبات بدار ولده، وعاد إلى الزاهر من الغد.
وأنفذ السلطان في ثامن عشر المحرم إلى الخليفة صندوقين فيهما مال وعمل للأمراء سماطاً، ثم اجتاز السلطان في الحريم ولم يكن رآه، وخرج إلى الحلبة، ثم عاد بعد أيام فجاز فيه، فنثرت عليه الدراهم والدنانير وأثواب الديباج وغلق البلد لذلك، ثم عبر في هذا اليوم إلى الجانب الغربي، فدخل العطارين والقطيعتين، ومضى إلى الشونيزي والتوثة، ونزل دجلة.
قال المصنف: قيل قال: دخل نظام الملك بغداد أواخر سنة ثمانين، فلم يدرك رجلاً يومئ إليه من أهل العلم .
وفي يوم الأحد خامس عشرين محرم : أمر الناس بتعليق وتزيين البلد لأجل زفاف خاتون بنت ملك شاه إلى المقتدي، وكان الزفاف في مستهل صفر، ونقل الجهاز على مائة وثلاثين جملاً، وبين يديه البوقات والطبول والخدم في نحو ثلاثة ألاف فارس، ونثر عليه بغداد، ثم نقل بعد ذلك شيء آخر على أربعة وسبعين بغلاً، وكان على ستة منها الخزانة وهي أثنا عشر من فضة، وبين يديها ثلاثة وثلاثون فرساً، والخدم والأمراء بين يدي ذلك .


فلما كانت عشية الجمعة سلخ محرم ركب الوزير أبو شجاع إلى خاتون زوجة السلطان فقال : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " وقد أذن في نقل الوديعة إلى الدار العزيزة. فقالت: " السمع والطاعة للمراسم الشريفة، فجاء نظام الملك وأبو سعد المستوفي والأمراء وكل واحد معه الأمناء الكثيرة، ثم جاءت خاتون الخليفة من وراء ذلك كل في محفة مرصعة بالجوهر وقد أحاط عجفتها مائتا جارية من خواصها بالمراكب العجيبة، فوصلت إلى الخليفة فأهديت إليه تلك الليلة .
فلما كان يوم السبت مستهل صفر صبيحة البناء أحضر الخليفة عسكر السلطان على سماط استعمل فيه أربعون ألفاً مناً سكراً، وخرج السلطان ليلة الزفاف إلى الصيد على عادة الملوك فغاب ثلاثة أيام .
وفي خامس صفر: تقدم السلطان بالنداء في سوق المدرسة: لا حريم إلا لأمير المؤمنين، وهذا الموضع داخل في حريمه.
وفي هذا اليوم : هرب تركي إلى دار الخليفة من أجل أنه أخذ صبياً فأدخل في دبره دبوساً فمات، فسلمه الخليفة إلى أصحاب الملك فصلب.
وفي نصف صفر : خرج ملك شاه من بغداد نحو أصفهان ومعه نظام الملك، وخرج الوزير أبو شجاع فودعه بالنهروان.
وفي هذا الشهر: ولد للسلطان ولك سماه محموداً، وهو الذي خطب له بالمملكة بعده، وحضر الناس صبيحة ذلك اليوم فحملوا الأموال، وجلس للتهنئة، ونفذ إليه الموكب يهنئه.
وفي ربيع الأول : وقع حريق في أحطاب جمعت في أشهر لشواخير الآجر بالحلبة، قصد إيقاع عدو لأصحابها، فأصاب من تلك النار سطوح الناس والحريم كله، حتى كأن في كل سطح شموعاً، فخرج الناس لإطفائه فما قدر أحد أن يقاربه من خمسمائة ذراع إلى أن انتهى الحطب فخمدت النار.
وفي ربيع الأول: غرق ستون مركباً ببحر الشام، وهلك فيها ثلثمائة رجل، ورمى قوم أنفسهم إلى الماء فنجوا.
وفي شعبان: وصلت الكتب السلطانية تتضمن سؤال الخدمة الشريفة أن يتقدم إلى خطباء المنابر بذكر الأمير أحمد بن ملك شاه تالي ذكر أبيه، وكان السلطان قد جعله ولي عهده وسار في ركابه، ففعل ذلك، ونثرت الدنانير على الخطباء.
وفي هذا الشهر: زلزلت همذان وما داناها من ارض الجبل، فرجفت بهم الأرض سبعة أيام، ووقعت منازل كثيرة، وهلك خلق كثير تحت الردم، وسقط برجان من قلعة همذان، وهلك من سوادها ناحيتان، وخرج الناس إلى الصحراء حتى سكنت ثم عادوا.
وفي رابع ذي القعدة: ولد المقتدي من خاتون ابنة السلطان ولد فسماه جعفراً، وكناه: أبا الفضل، وزين البلد لأجله، وجلس الوزير للهناء بباب الفردوس، ونصبت القباب بنهر معلى، وزينت سوق الصيارفة بأواني الذهب والفضة والجواهر، وأظهر الكافوريون تماثيل من الكافور، وأظهر قوم من صناعتهم عجباً، فسير الملاحون سفينة على عجل، وأظهر الطحانون أرحاء تطحن على وجه الأرض.
وفي هذا الشهرك وقع القتال بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة، وأصعد أقل باب الأزج ناصرين أهل باب البصرة بالزينة والسلاح والأعلام، فقصدهم سعد الدولة، فمنعهم عن العبور وقاتلهم وأخذ سلاحهم، فانطفأت الفتنة بذلك.
وفي ذي الحجة: خرج المرسوم أنه قد انهى حال يهود بطريق خراسان وبلاد أبن مزيد لا يلبسون غياراً، ولهم شعور كالأتراك، ويكنون بكنة المسلمين، فتقدم بخروج من عين من العدول والفقهاء فهذبوا نواحي بغداد، وقصدوا حلة ابن مزيد فهذبوها، وجاء يدعي النبوة وأنه خاطبه الجبل والملائكة، فتصفح حاله فإذا به من مهوسي العرب، فكادوا يحملونه إلى المارستان ثم صفح عنه، زود فرحل.
وفي هذه السنة: بنيت التاجية بباب أبرز، وجددت على الزاهر مسناه كان لها أساس قائم، وغرس فيه نخل وشجر وسور عليها، وذلك بأمر السلطان ملك شاه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
اسماعيل بن عبد الله بن موسى بن سعيد، أبو القاسم السامري من أهل نيسابور سمع الحديث الكثير من أبي بكر الحيري، وأبي سعيد الصيرفي، وأبن باكويه وغيرهم، وسافر البلاد، وعبر وراء النهر. روى عنه أشياخنا، وكان ثقة فاضلاً له حظ من الأدب ومعرفة بالعربية، وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة بنيسابور.
شافع بن صالح بن حاتم، أبو محمد الجيلي سمع من أبي علي بن المذهب والعشاري، وأبي يعلى الفراء وعليه تفقه توفي في صفر هذه السنة.
طاهر بن الحسين، أبو الوفاء البندقجي الهمذاني


كان شاعراُ مبرزاً، له قوة في لزوم مالا يلزم، وله قصيدتان إحداهما في مدح نظام الملك وهي نيف وأربعون بيتاً غير معجمة كلها أولها:
لاموا ولا علموا ما اللوم ما لاموا ... ورد لومهم هم وآلام
وأخرى معجمة كلها نحوها في العدد، وكان قوياً في علم النحو واللغة والعروض، ولم يمدح لابتغء عرض، وكان يعد ذلك عاراً توفي في رمضان هذه السنة عن نيف وسبعين سنة بالبندنيجين.
عبد الله بن نصر، أبو محمد الحجادي سمع الحديث، وصحب الزهاد، وتفقه على مذهب أحمد بن حنبل، وكان خشن العيش في عبادته، وحج على قدميه بضع عشرة سنة ودفن في ربيع الاول من هذه السنة بباب حرب .
عبد الملك بن الحسن بن خيرون بن إبراهيم، أبو القاسم الدباس أخو أبي الفضل ابن خيرون أبو شيخنا أبي منصور.
كان رجلاً صالحاً من خيار البغداديين، روى عنه ابنه، وشيخنا عبد الوهاب.
توفي في ذي الحجة من هذه السنة ودفن بمقبرة باب حرب.
فاطمة بنت علي المؤدب بنت الأقرع الكاتبة سمعت أبا عمر بن مهدي وغيره، حدثنا عنها أشياخنا، وكان خطها مستحسناً في الغاية، وكانت تكتب على طريقة ابن البواب، وكتب الناس على خطها، وأهلت لحسن خطها لكتابة " الهدنة " إلى ملك الروم من الديوان العزيز، وسافرت إلى بلاد الجبل إلى عميد الملك أبي نصر الكندري.
وسمعت شيخنا أبا بكر محمد بن عبد الباقي البزار يقول : الكاتبة فاطمة بنت الأقرع تقول : كتبت ورقة لعميد الملك الكندري فأعطاني ألف دينار.
وتوفيت في محرم هذه السنة، ودفنت بباب أبرز .
محمد بن أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله. توفي عن جدري وقد قارب تسع سنين، فاشتدت الرزيئة فيه، وجلس للعزاء بباب الفردوس ثلاثة أيام، وحضر الناس على طبقاتهم، فخرج التوقيع يتضمن أن أمير المؤمنين أولى من أقتدى بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: الذين أصابتهم مصيبة قالوا " إنا لل وه إنا إليه راجعون " .
وذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات ولده إبراهيم، وقد عزى أمير المؤمنين نفسه بما عزى الله تعالى به الأمة بعد نبيه بقوله: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " فإنا لله وإنا إليه راجعون، تسليماً لحكمه ورضا بقضائه، فيعلم الحاضرون ما رجع إليه أمير المؤمنين وأن العلم الشريف محيط بحضورهم، وليؤذن لهم في الانكفاء.
المرتضى ذو الشرفين محمد بن محمد بن زيد بن علي بن موسى بن جفعر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب الحسيني، ذو الكنيتين: أبو المعالي وأبو الحسن ولد سنة خمس وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير، وصحب أبا بكر الخطيب، وتلمذ له وأخذ عنه علم الحديث، فصارت له به معرفة حسنة، وسمع بقاءته الكثير من شيوخه، وروى عنه الخطيب في مصنفاته، وكان بغدادي الولد والمنشأ، ثم سكن سمرقند، وأملى الحديث بأصبهان وغيرها، وكان يرجع إلى عقل كامل، وفضل وافر، ورأي صائب، وصنف فأجاد، وكان له دنيا وافرة، وكان يملك نحو أربعين قرية بنواحي كش، وكان يخرج زكاه ماله ثم يتنفل بالصدقة الوافرة، فكان ينفذ إلى جماعة من الأئمة الأموال إلى كل بلد واحد من ألف دينار إلى خمسمائة إلى سبعمائة، فربما بلغ ببعثه عشرة آلاف دينار، وكان يقول: هذه زكاة مالي، وأنا غريب لا أعرف الفقراء ففرقوها أنتم عليهم، وكل من أعطيتموه شيئاً من المال فابعثوه إلى حتى أعطيه عشر الغلة، وكان يصرف أمواله إلى سبل البر.


وحسده قاضي البلد فقال للخضر بن إبراهيم وهو ملك ما وراء النهر: إن له بستاناً ليس للملوك مثله. فبعث إليه إني أريد أن أحضر بستانك. فقال للرسول: لا سبيل إلى ذلك، لأني عمرته من المال الحلال ليجتمع عندي فيه أهل الدين، فلا أمكنه من الشرب فيه. فأخبر الأمير فغضب، وأعاد الرسول فأعاد الشريف الجواب، وأراد أن يقبض عليه فاختفى، وطلب فلم ير، فأظهروا أن الخضر قد ندم على ما كان فعل، فظهر فبعث إليه الأمير بعد مدة نريد أن نشاورك في مهمات، فحضر فحبسه واستولى على أمواله .فحكى بعض وكلائه قال: توصلت إليه وقلت إنهم يأخذون مالك من غير اختيارك فأعطهم ما يريدون وتخلص، فقال: لا أفعل وقد طاب لي الحبس والجوع، فإني كنت أفكر في نفسي منذ مدة وأقول من يكون من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يبتلي في ماله ونفسه، وأنا قد ربيت في النعم والدولة، فلعل في خللاً فلما وقعت هذه الوقعة فرحت بها، وعلمت أن نسبي صحيح متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أفعل شيئاً إلا برضى الله تعالى، فمنعوه من الطعام فمات.
وكان هذا في هذه السنة، وأخرج في الليل من القلعة، فلما علم ولده نقله إلى موضع آخر، فقبره هناك يزار.
وحكى أبو العباس جعفر بن أحمد الطبري قال : رأيت المرتضى أبا المعالي بعد موته وهو في الجنة بين يديه مائدة طعام موضوعة . فقيل له: ألا تأكل؟ قال: لا حتى يجيء ابني فإنه غداً يجيء، فلما انتبهت من نومي قتل ابنه الظهر في ذلك اليوم.
محمد بن أبي سعد، أحمد بن الحسن بن علي بن سليمان بي الفرج، أبو الفضل المعروف بالبغدادي، وهو من أهل أصبهان.
ولد في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وسمع وحدث ووعظ، وكان يوصف بالفصاحة والعلم بالتفسير والمعاني. روى عنه ولده أبو سعد شيخنا وعبد الوهاب الحافظ. توفي ببغداد عند رجوعه من الحج في صفر هذه السنة.
محمد بن هلال بن المحسن بن أبراهيم، أبو الحسن الصابي، غرس النعمة سمع أباه وأبا علي بن شاذان. وذيل على تاريخ والده الذي ذيله أبوه على تاريخ ثابت بن سنان الذي ذيله على تاريخ ابن جرير، وكان له صدقة معروف، وخلف سبعين ألف دينار. توفي في ذي القعدة من هذه السنة ودفن في داره بشارع ابن عوف، ثم نقل إلى مشهد علي عليه السلام .
قال المصنف رحمه الله: ونقلت من خط أبي الوفاء بن عقيل قال: حضرنا عند بعض الصدور فقال: هل بقي ببغداد مؤرخ بعد أبن الصابي ؟ فقال القوم : لا فقال لا حول ولا قوة إلا بالله، يخلو هذا البلد العظيم من مؤرخ حنبلي يعني ابن عقيل نفسه هذا مما يجب حمد الله عليه، فإنه لما كان البلد مملوءاً بالأخبار وأهل المناقب قبض الله لها من يحكيها، فلما عدموا وبقي المؤذي والذميم الفعل أعدم المؤرخ، وكان هذه ستر عورة.
وحكى عنه هبة الله بن المبارك السقطي: أنه كان يجازف في تاريخه، ويذكر ما ليس بصحيح، قال: وقد ابتنى بشارع ابن أبي عوف دار كتب، ووقف فيها نحواً من أربعمائة مجلد في فنون العلوم، ورتب بها خازناً يقال له: ابن الأقساسي العلوي، وتكرر العلماء إليه سنين كثيرة ما لم تزل له أجرة، فصرف الخازن وحك ذكر الوقف من الكتب وباعها، فأنكرت ذلك عليه فقال: قد أستغني عنها بدار الكتب النظامية.
قال المصنف: فقلت بيع وقفها محظور. فقال: قد صرفت ثمنها في الصدقات.
هبة الله بن علي بن محمد بن أحمد المحلي، أبو نصر. سمع ابن المهتدي، وابن المأمون، والخطيب وخلقاً كثيراً، وكتب الكثير، وكان حلو الخط، وصنف وجمع وأنشأ الخطب و المواعظ، وأدركته المنية قبل بلوغ زمان الرواية، وإنما سمع منه القليل، فتوفي في هذه السنة ودفن بمقبرة جامع المنصور .، أبو بكر بن عمر .
أمير الملثمين، كان بأرض غانة في مجاهدة الكفار، وقام له ناموس لم يقم مثله لأحد بالدين والزهد، وكان يركب إذا ركب أصحابه، ويطعم إذا طعموا، ويجوع إذا جاعوا. وقد قيل أنه لم يتوجه في وجه من مجاهدة أو دفع عدو في أقل من خمسمائة ألف كل يعتقد طاعة الله في طاعته، وكان يحفظ الحرمات، ويراعي قوانين الإسلام مع صحة المعتقد، وموالاة الدولة العباسية، فأصابته نشابة في حلقه فمات بها في هذه السنة عن نيف وستين سنة.ٍ
ثم دخلت
سنة إحدى وثمانين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها


أن أهل باب البصرة شرعوا في بناء القنطرة الجديدة في صفر، ونقلوا الآجر في أطباق الذهب والفضة و بين أيديهم البوقات والدبادب، وجاء إليهم أهل المحال وأهل باب الأزج فاجتازوا بامرآة تسقي الماء، فجعلوا يتناولون منها ويقولون: السبيل فاتفق أنه جاز سعد الدولة، فاستغاثت المرآن إليه، فأمر بإبعادهم عنها، فضربهم الأتراك بالمقارع، فجذبوا سيوفهم وضربوا وجه فرس بنمياز حاجبه فرمته، فحمل سعد الدولة الحنق فصعد فخبطه في الماء والطين، وحرصوا أن يقع هذا الرجل فما قدروا عليه، وأخذ ثمانية من القوم لم يكن معهم سلاح فقتل واحد، وقطعت أعصاب ثلاثة .
وفي ربيع الآخر : بنى أهل الكرخ عقداً لأنفسهم.
وفي هذا الشهر: ابتاع تركي من أصحاب خاتون زوجة الخليفة من طواف شيئاً، فتنابذا فضربه التركي فشجه، فاستغاثت العامة، فخرج توقيع الخليفة بإبعاد الأتراك أصحاب خاتون من الحريم، وأن لا يبيت أحد منهم فيه. فأخرجوا من ساعتهم على أقبح صورة، فباتوا بدار المملكة .
وفي هذه السنة : فتح ملك شاه سمرقند.
وفيها : حج الوزير أبو شجاع واستناب ابنه أبا منصور وطراد بن محمد الزينبي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عبد الصمد بن أبي الفضل التاجر الغورجي الهروي، أبو بكر.
أحمد بن ابي الحاتم سمع أبا محمد الجراحي، حدثنا عنه أبو الفتح الكروخي.
وتوفي في يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي الحجة فجأة .
أحمد بن محمد بن الحسن بن الخضر، أبو طاهر الجواليقي، والد شيخنا أبي منصور سمع أبا القاسم عبد الملك بن بشران، روى عنه شيخنا عبد الوهاب .
قال شيخنا أبن ناصر: كان شيخاً صالحاً متعبدأً من أهل البيوتات القديمة ببغداد، ذا مذهب حسن وتعبد، وكان جده الخضر صاحب قرى وضياع، ودخل كثير.
وتوفي أبو طاهر فجأة في رجب هذه السنة.
عبد الله بن محمد بن علي بن جعفر، أبو إسماعيل الأنصاري الهروي ولد في ذي الحجة سنة خمس وتسعين وثلثمائة، وكان كثير السهر بالليل، وحدث وصنف، وكان شديداً على أهل البدع، قوياً في نصرة السنة، حدثنا عنه أبو الفتح الكروخي.
وأنبأنا محمد بن ناصر عن المؤتمن بن أحمد الحافظ قال: كان عبد الله الأنصاري لا يشد على الذهب شيئاً، و يتركه كما يكون ويذهب إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا توكي فيوكى عليك " وكان لا يصوم رجب، وينهي عن ذلك ويقول ، ما صح في فضل رجب وفي صيامه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، وكان يملي في شعبان وفي رمضان، ولا يملي في رجب، توفي بهراة في يوم الجمعة وقت غروب الشمس رابع عشرين ذي الحجة من هذه السنة .
عبد العزيز بن طاهر بن الحسين بن علي، أبو طاهر الصحراوي، من أهل باب البصرة حدث عن أبن رزقويه وغيره بشيء يسير، وكان صالحاً زاهداً فآثر العزلة، واشتغل بالتعبد، وكان مقيماً في جامع المدينة.
وتوفي في شعبان هذه السنة، ودفن في المقبرة الشونيزية .
محمد بن أحمد بن محمد بن علي، أبو الحسين أبن الآبنوسي ولد في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وسمع من الدارقطني، وابن شاهين، وابن حبابة، والكتاني، والمخلص، وغيرهم، وكان سماعه صحيحاً، حدثنا عنه أشياخنا، وتوفي ليلة الاثنين تاسع عشرين شوال هذه السنة، ودفن في مقبرة باب حرب.
محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن جعفر، أبو الحسن الباقرحي ولد في شعبان سنة سبع وتسعين وثلثمائة، وسمع من أبي الحسين ابن المتيم، وابي الحسن بن رزقويه، وابن شاذان، وغيرهم، وحدثنا عنه أشياخنا، وهو من الثقات أهل بيت الحديث والعلم والعدالة، من ظراف البغداديين.
وتوفي في يوم الأحد ثاني رمضان هذه السنة ودفن في باب حرب.
محمد بن أحمد بن محمد، أبو جابر الزهري من ولد عبد الرحمن بن عوف سمع أبا عبد الله أحمد بن عبد الله المحاملي، وأبا علي الحسين بن علي بن بطحاء وغيرهما، روى عنه شيخنا أبو القاسم السمرقندي.
توفي في يوم الأربعاء عاشر شوال هذه السنة.
محمد بن الحسين بن علي بن محمد بن محمود، أبو يعلى السراج من أهل همذان، سمع صحيح البخاري من كريمة بنت أحمد بن محمد بن أبي حاتم المروزية بمكة، وبمصر من أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، وحدث عن أبي محمد الجوهري، وتوفي في صفر هذا السنة.


محمد بن القاسم بن محمد بن عامر القاضي الأزدي، من ولد المهلب بن أبي صفرة.
سمع أبا محمد الجراحي، روى عنه أبو الفتح الكروخي.
وتوفي في جمادى الآخرة بهراة.
ثم دخلت
سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أنه في تاسع عشر المحرم درس أبو بكر الشاشي في المدرسة التي بناها تاج الملك أبو الغنائم بباب أبرز، ووقفها على أصحاب الشافعي، سماها التاجية.
وفي ثالث صفر: ورد إلى بغداد بزان وصواب بعثهما السلطان إلى المقتدي، فطلبا تسليم خاتون إليهما، وكانت خاتون قد أكثرت الشكاية إلى أبيها من أعراض الخليفة عنها، فأجاب الخليفة إلى ذلك، وخرجت وأصحبها الخليفة النقيبين الكامل والطاهر وجماعة من الخدم، وخرج معها ابنها الأمير أبو الفضل جعفر بن المقتدي، وكان خروجها يوم الأربعاء سادس عشر ربيع الأول،وخرج الوزير عشية الخميس مشيعاً لهم النهروان، وكان بين يدي محفة الأمير أبي الفضل، ووصل الخبر في ثاني شوال بموتها بأصفهان بالجدري، فجلس الوزير أبو شجاع بباب الفردوس للعزاء لها سبعة أيام، ووصل النقيبان من أصبهان في ثالث عشر شوال. وفي سلخ ذي الحجة : خرج أبو محمد التميمي وعفيف لتعزية السلطان، فأما التميمي فعاد من أصبهان لأن السلطان توجه إلى ماوراء النهر وأكبر الخليفة عوده بغير إذن، ويمم إلى السلطان.
وفي عشية الجمعة تاسع عشر صفر: كبس أهل باب البصرة الكرخيين، فقتلوا رجلاً وجرحوا آخر، فأغلقت اسواق الكرخ، ورفعت المصاحف على القصب، وما زالت الفتن تزيد وتنقص إلى جمادى الأولى، فقويت نارها، وقتل خلق كثير، واستولى أهل المحال على قطعة كبيرة من الكرخ فنهبوها، فنزل خمارتاش نائب الشحنة على دجلة ليكف الفتنة فلم يقدر، وكانٍ أهل الكرخ يخرجون إليه وإلى أصحابه الإقامة، وكان أهل باب البصرة يأتون ومعهم سبع أحمر يقاتلون تمته، وعزموا على قصد باب التبن فمنعهم اهل الحربية والهاشميون من ذلك، وركب حاجب الخليفة وخدمه، والقضاة: أبو الفرج بن السيبي، ويعقوب البرزيني، وأبو منصور ابن الصياغ، و الشيوخ: أبو الوفاء بن عقيل، وأبو الخطاب، وأبو جفعر بن الخرقي المحتسب، وعبروا إلى الشحنة وقرأوا منشوراً بالكرخ من الديوان وفيه : قد حكي عنكم أمور يجب أن نأخذ علماءكم على أيدي سفهائكم، وأن يدينوا بمذهب أهل السنة، فأذعنوا بالطاعة.
فبينا على ذلك جاء الصارخ من نهر الدجاج ألحقونا. ونصب أهل الكرخ رايتين على باب السماكين، وكتبوا على مساجدهم: خير الناس بعد رسول الله أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
وفي غد يوم القتال نهب أهل الكرخ شارع ابن أبي عوف، وكان في جملة بانهب دار أبي الفضل بن خيرون، فقصد الديوان مستنفراً ومعه الناس، ورفع العامة الصلبان على القصب، تهجموا على الوزير أبي شجاع في حجرته من الديوان وكثروا من الكلام الشنيع، ولم يصل حاكب الباب في جامع القصر إشفاقاً من العامة، وكان قد مات يومئذ هاشمي من أهل باب الأزج بنشابة وقعت فيه، فقتل العامة علوياً ورموه في خربة الحمام، وزاد أمر الفتنة وأمر الخليفة بمكاتبه سيف الدولة صدقة بن مزيد بإنفاذ جند، وففعل وخلع عليهم، وجعل عليه أبو الحسن الفاسي، فنقض دور الذين قتلوا العلوي، وحلق شعور من ليس بشريف ولا جندي، وقتل قوم، ونفي قوم، فسكنت الفتنة.


قال المصنف: ونقل من خط أبي الوفاء بن عقيل قال :عظمت الفتنة الجارية بين السنة وأهل الكرخ، فقتل نحو مائتي قتيل، ودامت شهوراً من سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وانقهر الشحنة، واتحش السلطان، وصار العوام يتبع بعضهم بعضاً في الطرقات والسفن، فيقتل القوي الضعيف، ويأخذ ماله، وكان الشباب قد أحدثوا الشعور والجمم، وحملوا السلاح، وعملوا الدروع، ورموا عن القسي بالنشاب والنبل، وسب أهل الكرخ الصحابة وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم على السطوح، وارتفعوا إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أجد من سكان الكرخ من الفقهاء والصلحاء من غضب ولا انزعج عن مساكنتهم، فنفر المقتدي إمام العصر نفرة قبض فيها على العوام، وأركب الأتراك، وألبس الأجناد الأسلحة، وحلق الجمم و الكلالجات، وضرب بالسياط، وحبسهم في البيوت تحت السقوف، وكان شهر آب، فكثر الكلام على السلطان وقال العوام: هلك الدين مات السنة، ونصبت البدعة، ونرى أن الله ما ينصر إلى الرافضة فنرتد عن الأسلام.
قال ابن عقيل: فخرجت إلى المسجد وقلت: بلغني أن أقواماً يتسمون بالإسلام والسنة قد غضبوا على الله وهجروا شريعته، وعزموا على الارتداد وقد ارتدوا، فإن المسلمين أجمعوا على أن العزم على الكفر كفر، فلقد بلغ الشيطان منهم كل مبلغ حيث دلس عليهم نفوسهم، وغطى عيوبهم، وأراهم أن إزالة النصرة عنهم مع استحقاقهم لها، ولم يكشف عن عوار أديانهم حيث صب عليهم النعم صبا، وأرخص اسعارهم، وأمن ديارهم، وجعل سلطانهم رحيماً لطيفاً، وجعل لهم وزيراً صالحاًيجتهد في إخراج الحكومات المشتبهة إلى الفقهاء ليخلص دينه من التبعات، ويأخذ الإجماع في أكثر العبادات، ولا يتكبر ولا يحتجب، فأمرجوا في المعاصي، ثم انتقلوا إلى بناء العقود بالطبول، ولهج منهم قوم بسب، فلما نهض السلطان بعصبية دينية أو سياسة، وقد استحقوا قطع الرؤوس، وتخليد الحبوس، فقعد الحمقى في مأتم النياحة يقولون: هل رأيتم في الزمن الماضي مثل ما جرى على أهل السنة في هذه الدولة، طاب والله الانتقال عن الإسلام لو كان ما نحن فيه حقاً في نصرة الله ، وحملوا الصلبان في حلوقهم، ودعوا بشعار الرفض، وقالوا، لا دين إلا دين أهل الكرخ، وهل كانوا على الدين فيخرجوا، وهل الدين النطق باللسان من غير تحقيق معتقد، وأس المعتقد من قوم تناهوا في العصيان والشرود عن الشرع، وسفكوا الدماء، فلما فرضوا بعذاب ردعاً لهم ليقلعوا أنكروا وتسخطوا، فأردتم أن يتبع الحق أهواءكم ويسكت السلاطين عن قبيح أفعالكم، حتى تفانون بالخصومة والمحاربة، فلا في أيام السعة و الدعة شكرتم النعم، ولا في أيام التأديب سلمتم للحكيم الحكم، فليتكم لما فسدت دنياكم أبقت بقية من أمر أديانكم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن محمد بن صاعد بن محمد بن أحمد، أبو نصر النيسابوري ولد سنة عشر وأربعمائة، وسمع بنيسابور من جده أبي العلاء صاعد بن محمد، ومن أبيه محمد بن صاعد، و وعمه إسماعيل بن صاعد، وأبي بكر الحيري، وأبي سعيد الصيرفي، وسمع ببخارا من أبي سهل الكلاباذي، وأبي ثابت البخاري، وأبي سعيد ببغداد من أبي الطيب الطبري وغيره. روى عنه أشياخنا، وكان في صباه من أجمل الشباب وأجمعهم لأسباب السيادة من الفروسية والرمي، وصار رئيس نيسابور، وأملى الحديث، وتوفي في شعبان هذه السنة، ودفن بنيسابور.
أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر، أبو الفتح المقرئ مقرئ أصبهان، قرأ القراآت على جماعة، وسمع الحديث من جماعة وتوفي في هذه السنة.
أحمد بن محمد بن أحمد، أبو العباس الجرجاني قاضي البصرة سمع من أبي طالب بن غيلان، وأبي القاسم التنوخي، وأبي محمد الجوهري، وغيرهم، وكان رجلاُ جلداً ذكياً، وتوفي في هذه السنة في طريق البصرة.
عبد العزيز بن محمد بن علي بن إبراهيم بن ثمامة، أبو نصر الهروي سمع أبا محمد الجراحي، وتوفي في رمضان بهراة.
عبد الصمد بن أحمد بن علي، أبو محمد السليطي المعروف بطاهر النيسابوري


رازي المولد و المنشأ، نيسابوريالأصل، رحل البلاد، وسمع الحديث الكثير نسخ الكثير، وجود الضبط وكان أحد الحفاظ وأوعية العلم، سمع من أبن المذهب، وأبي الحسن الباقلاوي، وأبي الطيب الطبري، وأبي محمد الجوهري، وخرج له الأمالي، وكان صدوقاً، وتوفي بهمذان في هذه السنة.
علي بن أبي يعلى بن زيد، أبو القاسم الدبوسي من أهل دبوسة بلده سمرقند وبخارا، ولي التدريس بالنظامية في بغداد، وتوحد في الفقه والجدل، وسمع الحديث، وتوفي ببغداد في شعبان هذه السنة.
علي بن محمد بن علي الطراح، أبو الحسن المدير توفي في ذي الحجة.، أبو الحسن بن علي بن المعوج.
كاتب الزمام توفي في هذه السنة.
عاصم بن الحسن بن محمد بن علي بن عاصم بن مهران، أبو الحسين العاصمي ولد سنة سبع وتسعين وثلثمائة، وهو من أهل الكرخ، يسكن باب الشعير، من ملاح البغداديين وظرفائهم، له الأشعار الرائقة النادرة المستحسنة، وكان من أهل الفضل والأدب، سمع أبا عمر عبد الواحد بن مهدي، وأبا الحسين بن المتيم، وأبا الحسين بن بشران وغيرهم، وحدث عن أبي بكر الخطيب، وكان ثقة متقناً، حدثنا عنه أشياخنا كثيراً .
وأنشدونا من شعره:
ماذا على متلون الأخلاق ... لو زارني وأبثه أشواقي
وأبوح بالشكوى إليه تذللاً ... وأفض ختم الدمع من آماقي
فعساه يسمح بالوصال لمدنف ... ذي لوعة وصبابة مشتاق
أسر الفؤاد ولم يرق لموثق ... ما ضره لو جاد بالاطلاق
إن كان قد لسعت عقارب صدغه ... قلبي فإن رضابه درياقي
يا قاتلي ظلماً بسيف صدوده ... حاشاك تقتلني بلا استحقاق
ما مذهبي شرب السلاف وإنني ... لأحب شرب سلافة الأرياق
وسقيتني دمعي وما يروى به ... ظمأي ولكن لا عدمت الساقي
ومن شعره الرائق:
لهفي على قوم بكاظمة ... ودعتهم و الركب معترض
لم تترك العبرات مذ بعدوا ... لي مقلة ترنو وتغتمض
رحلوا فطرفي دمعه هطل ... جار وقلبي حشوة مرض
وتعوضوا لا ذقت فقدهم ... عني ومالي عنهم عوض
أقرضتهم قلبي على ثقة ... به فما ردوا الذي اقترضوا
وله:
أتعجبون من بياض لمتي ... وهجركم قد شيب المفارقا
فإن تولت شرتي فطالما ... عهدتموني مرخياً غرانقا
لما رأيت داركم خالية ... من بعد ماثورتم الأيانقا
بكيت في ربوعها صبابة ... فأنبتت مدامعي شقائقا
أنبأنا عبد الوهاب الأنماطي، قال: أنشدنا عاصم بن الحسن لنفسه: وله أيضاً قال المصنف رحمه الله: سمعت شيخنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي يقول: قال عاصم: مرضت فغسلت شعري، وكان غسلي له في المرض.
توفي عاصم في جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن في مقبرة جامع المدينة.
محمد بن أحمد بن حامد بن عبيد، أبو جفعر البخاري البيكندي المتكلم، قاضي حلب داعية الاعتزال، ورد بغداد في أيام أبي منصور عبد الملك بن محمد بن يوسف فمنعه أن يدخلها. فلما مات ابن يوسف دخلها وسكنها، ومات بها.
قال شيخنا عبد الوهاب: كان كذابا.
توفي في هذه السنة، ودفن بمقبرة باب حرب.
محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن اسماعيل، أبو الفتح الأصبهاني، سمكويه ولد بأصبهان سنة تسع وأربعمائة، ثم نزل مدة، ثم هراه مدة، ثم خرج عنها، وكان من الحفاظ المعروفين بالطلب والرحلة، وسمع الكثير، وجمع الكتب، وورد بغداد، فسمع أبا محمد الخلال وغيره، ثم خرج إلى مارواء النهر، وكتب ورجع إلى هراة فتديرها، وكان على رأي العلماء والصالحين مشغولاً بنفسه عما لا يعنيه .
وتوفي بنيسابور ليلة الأربعاء سابع عشر ذي الحجة من هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها : أنه ورد أبو عبد الله الطبري الفقيه في المحرم بمنشور من نظام الملك بتوليه التدريس بالنظامية، فدرس بها، ثم وصل في ربيع الآخر أبو محمد عبد الوهاب الشيرازي ومعه منشور بالتدريس بها، فتقرر أن يدرس فيها هذا هوماً وهذا يوماً.


وفي ربيع الآخر: خلع على أبي القاسم علي بن طراد، وكتب له منشور بنقابة العباسيين بعد أبيه.
وفي جمادى الأولى: ورد البصرة رجل كان ينظر في علوم النجوم يقال له : تليا، واستغوى جماعة، وادعى أنه الإمام المهدي، وأحرق البصرة فأحرقت دار كتب عملت قبل عضد الدولة، وهي أول دار كتب عملت في الإسلام، وخربت وقوف البصرة التي وقفت على الدواليب التي تدور، وتحمل الماء فتطرحه في قناة الرصاص الجارية إلى المصانع التي أماكنها على فرسخ من الماء .
وحكى طالوت بن عباد: أنه رأى محمد بن سليمان أمير البصرة في المنام فقال له:ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وحوض المربد لهلكت.
وكان محمداً قد ابتدأ بهذا المصنع عند خروجه إلى مكة، وعاد إلى البصرة، فاستقبل بمائه فشربه وصلى على جانبه ركعتين شكراً لله تعالى على تمام هذه المصلحة، فأصبح طالوتن فعمل مصنعاً وقف عليه وقوفاً.
قال المصنف: وقرأت بخط ابن عقيل: استفتى على المعلمين في سنة ثلاث وثمانين فأخرجهم ظهير الدين يعني من المساجد وبقي خالوه مجبراً، وكان رجلاً صالحاً من أصحاب الشافعي في مسجد كبير يصونه ويصلي فيه بهم .وينظفه، فاستثنى بالسؤال فيه فقال قائل: لم يخص هذا .
قال ابن عقيل: قد ورد التخصيص بالفضائل في المساجد خاصة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " سدوا هذه الخوخات التي في المسجد إلى خوخة أبي بكر " ولا نشك أنه إنما خصه لسابقته، وهذا فقيه يدري كيف يصان المسجد، وله حرمة، وهو فقير لا يقدر على استئجار منزل فجاز تخصيصه بهذا .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جعفر بن محمد بن جعفر بن المكتفي بالله أبو محمد سمع أبا القاسم بن بشران، حدث عنه شيخنا عبد الوهاب وأثنى عليه ووصفه بالخيرية، وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بمقبرة باب حرب، وبلغ تسعأً وستين سنة.
محمد بن أحمد بن عمر، أبو يعلى المؤذن سمع أبا الحسن عل بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي، وكان شيخاً صالحاً خيراً، روى عنه أشياخنا.
وتوفي في ذي القعدة من هذه السنة، ودفن في مقبرة الخلد على شاطئ الفرات.
محمد بن محمد بن جهير، أبو نصر وزر للقائم والمقتدي، ولد بالموصل، ثم أعادته الأقدار إلى الموصل، فمات بها.
محمد بن علي بن الحسن، أبو طالب الواسطي حدث عن القاضي أبي الحسين بن المهتدي وغيره. سمع منه صاعد بن سيار. وكان الرجل من أهل بغداد فخرج إلى خراسان فتوفي بها في صفر.
محمد بن علي بن محمد بن جعفر، أبو سعد الرسيم ولد سنة أربعمائة، وسمع من أبي الحسين بن بشران، وأبي الحسن القطان وغيرهما، وروى عنه شيخنا عبد الوهاب، وأثنى عليه وقال: كان رجلاً فيه الخير .
وتوفي هذه السنة، ودفن في مقبرة جامع المدينة.
محمد بن علي ابن الحسن بن محمد بن أبي عثمان عمر بن محمد بن عثمان ابن المنتاب الدقاق، وهو أخو أبي محمد، وأبي تمام، وهو أصغرهم.
سمع أبا عمر بن مهدي، وأبا الحسين بن بشران، واب رزقويه وغيرهم، وحدثنا عنه أشياخنا، وكان ثقة ديناً.
وتوفي في يوم الأربعاء للنصف من جمادى الآخرة، ودفن ف مقبرة الشونيزية.
محمد بن أحمد بن محمد بن اللحاس العطار، ابن الجبان سمع ابن رزقويه، وابن بشران،وابن أبي الفوارس وغيرهم، حدثنا عنه عبد الوهاب وقال: كان رجلاً صالحاً وكان مزاحاً.
وتوفي يوم الجمعة ثامن رجب في هذه السنة، ودفن بباب حرب.
محمد بن أحمد بن محمد بن عمر، أبو يعلى سمع أبا الحسن علي بن عبد الله الهاشمي العيسوي، روى عنه أشياخنا، وتوفي في يوم السبت سابع عشر ذي القعدة، ودفن ف مقبرة الخلد على شاطئ الفرات.
ثم دخلت
سنة اربع وثمانين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها : أنه لما أحرق المنجم البصرة كتب إلى واسط يدعوهم إلى طاعته ويقول: أنا الإمام المهدي صاحب الزمان، آمر بالمعروف أنهى عن المنكر، وأهدي الخلق إلى الحق، فإن صدقتم بي أمنتكم من العذاب، وإن عدلتم عن الحق خسفت بكم فآمنوا بالله وبالإمام المهدي .


وفي رابع عشر صفر: خرج توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة بلبس الغيار والزنار، والدرهم الرصاص المعلق في أعناقهم مكتوب عليه: ذمي، وأن تلبس النساء مثل هذا الدرهم في حلوقهن عند دخول الحمام ليعرفن، وأن تلبس الخفاف فرداً أسود وفرداً أحمر، وجلجلاً في أرجلهن، وشدد الوزير أبو شجاع في هذا، فأجابه المقتدي إلى ما أشار به، وأسلم حينئذ أبو سعد بن الموصلايا كاتب الإنشاء، وابن أخته أبو نصر هبة الله بحضرة الخليفة.
وفي جمادى الأولى: قدم أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي من اصبهان إلى بغداد للتدريس بالنظامية، ولقبه نظام الملك : بزين الدين، شرف الأئمة، وكان كلامه معسولاً وذكاؤه شديداً.
وفي يوم الخميس تاسع رمضان: خرج التوقيع بعزل الوزير أبي شجاع، وكان السبب أن أصحاب السلطان شكوا منه، فصادف ذلك غرض النظام في عزله، فأكد نوبته، وكتب السلطان إلى الخليفة يشكو منه، فصادف ذلك ضجراً من الخليفة من أفعاله التي تصدر عن قلة رغبة في الخدمة، فعزله وكان يكسر أعراض الديوان والعسكر متابعة للشرع، حتى إنه لما فتحت سمرقند على يدي ملك شاه جاء البشير فخلع عليه فقال: وأي بشارة هذه ، كأنه قد فتح بلداً من بلاد الكفر، وهل هم إلا قوم مسلمون استبيح منهم مالا يستباح من المسلمين. فبلغ هذا السلطان مع ما في قلب الخليفة فعزله وهو في الديوان، فانصرف إلى داره على حالته مع حواشيه، وأنشد حينئذ :
تولاها وليس له عدو ... وفارقها وليس له صديق
فلما كان يوم الجمعة عاشر الشهر: خرج إلى الجامع من داره بباب المراتب ماشياً متلفعاً بمنديل من قطن مع جماعة من العلماء والزهاد، فعظمت العامة ذلك وشنعوا، وقال الأعداء: إنما قصد الشناعة، فأنكر عليه أشد الإنكار، وألزم منزله، وأخذ الجماعة الذين مشوا معه فأهينوا، ثم وردت كتب النظام بأن يخرج من بغداد فأخرج إلى دراورد وهو موطنه قديماً، فأقام هناك مدة، ثم استأذن ف الحج فأذن لهن فجاء إلى النيل فأقام بها، فلم تطب له الكثرة منكرها، فمضى إلى مشهد علي عليه السلام، ثم سافر إلى مكة، فلما أراد الخروج إلى مكة سلحت له نية نظام الملك، فبعث إليه يقول : أنا أسألك أن أكون عديلك، وكان النظام قد استعد ذلك، لكن لم يقدر له، فقال للرسول : تخدم عني وتقول منذ أطبق دواتي أمير المؤمنين لم افتحها، ولولا بذلك لكتبت الجواب، وأنا أعادل بالدعاء، وناب ابن الموصلايا، ولقب: أمين الدولة، وخلع عليه، وتقدم إلى أبي محمد التميمي، ويمن الخادم بالخروج إلى باب السلطان لاستدعاء أبي منصور بن جهير، وتقرير وزارته.
وفي خامس عشرين رمضان: رضي الخليفة عن أبي بكر الشامي قاضي القضاة، وخرج إليه توقيع يأمره فيه بالإغضاء عما كان من الشهود والوكلاء في حقه، كانوا قد بالغوا في عداوته، وخرج الشهود في صحبته لتلقي السلطان مع ابن الموصلايا، ومعه فتيت لإفطاره، ولم يقبل شيئاً.
وفي رمضان دخل السلطان ملك شاه إلى بغداد وخرج لتلقيه ابن الموصلايا، ونزل نظام الملك بدار ولده مؤيد الملك.
وفي ذي القعدة: خرج ملك شاه وابنه وابن بنته الذي أبوه المقتدي في خلق عظيم وزي عظيم إلى الكوفة.
وفي ذي القعدة: استوزر أبو منصور بن جهير وهي النوبة الثانية من وزارته للمقتدي وخلع عليه، وركب إليه نظام الملك إلى دار بباب العامة فهنأه.
وفي ذي الحجة عمل السلطان ملك شاه الصدق بدجلة، وهو إشعال النيران والشموع العظيمة في السميريات، والزواريق الكبار، وعلى كل زورق قبة عظيمة، وخرج أهل بغداد للفرجة، فباتوا على الشواطئ وزينت دجلة بإشعال النار، وأظهر أرباب المملكة كنظام الملك وغيره من زينتهم ما قدروا عليه، وحملوا في السفن بأنواع الملاهي، وأخذوا السفن الكبار فالقوا فيها الحطب وأضرموا فيها النار، وأحدروها من مسناه دار معز الدولة إلى دار نظام الملك، ونزل أهل محال الجانب الغربي كل واحد معه شمعة واثنتان، وكان على سطح دار المملكة إلى دجلة حبال قد أحكم شدها، وفيها سميرية يصعد بها رجل في الحبال، ثم ينحدر بها وفيها نار، وصف الشعراء ما جرى تلك الليلة فقال أبو القاسم المطرز:
وكل نار على العشاق مضرمة ... من نار قلبي أو من ليلة الصدق
نار تجلت بها الظلماء واشتبهت ... بدفة الليل فيها غرة الفلق


وزارت الشمس فيها البدر واصطلحا ... على الكواكب بعد الغيظ والحنق
مدت على الأرض بسطاً من جواهرها ... ما بين مجتمع وار ومفترق
مثل المصابيح إلا أنها نزلت ... من السماء بلا رجم ولا حرق
أعجب بنار ورضوان يسعرها ... ومالك قائم منها على فرق
في مجلس ضحكت روض الجنان له ... لما جلت ثغره عن واضح يقق
وللشموع عيون كلما نظرت ... تظلمت من يديها أنجم الغسق
من كل مرهفة الأعطاف كالغصن ال ... مياد لكنه عار من الورق
إني لأعجب منها وهي وادعة ... تبكي وعيشتها في ضربة العنق
ومن غد تلك الليلة أخرج تليا المنجم وشهر على راسه طرطور بودع، والدرة تأخذه وهو على جمل يشتم الناس ويشتمونه.
قال المصنف : نقلت من خط أبي الوفاء بن عقيل قال: لما دخل جلال الدولة أي نظام الملك في هذه السنة قال : أريد استدعي بهم وأسألهم عن مذهبهم، فقد قيل لي أنهم مجسمة يعني الحنابلة فأحببت أن أسوغ كلاماُ يجوز أن يقال إذا سأل فقلت لهؤلاء الجماعة يسألون عن صاحبنا، فإذا أجمعوا على حفظه لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا أنه كان ثقة فالشريعة ليست بأكثر من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله إلا ماكان للراي فيه مدخل من الحوادث الفقيهة، فنحن على مذهب ذلك الرجل الذي أجمعوا على تعديله كما أنهم على مذهب قوم أجمعنا على سلامتهم من البدعة، فإن وافقوا أننا على مذهبه فقد أجمعوا على سلامتنا معه، لأن متبع السليم سليم وإن ادعى علينا أنا تركنا مذهبه وتمذهبنا بما يخالف الفقهاء، فليذكروا ذلك ليكون الجوانب بحسبه، وإن قالوا أحمد ماشبه وأنتم شبهتم، قلنا: الشافعي لم يكن اشعرياً، وأنتم أشعرية، فإن كان مكذوباً عليكم فقد كذب علينا، ونحن نفزع في التأويل مع نفي التشبيه، فلا يعاب علينا إلا تزك الخوض والبحث، وليس بطريقة السلف، ثم مايريد الطاعنون علينا ونحن لا نزاحمهم على طلب الدنيا.
ذكر من توفي هذه السنة من الأكابر
عبد الرحمن بن أحمد بن علك، أبو طاهر ولد بأصبهان، وسمع الحديثن وتفقه بسمرقند، وهو كان السبب في فتحها، وكان من رؤساء الشافعية حتى قال يحيى بن عبد الوهاب بن منده: لم نرفقيهاً في وقتنا أنصف منه ولا أعلم، وكان بهيج المنظر، فصيح اللهجة، ذا مروءة وكانت له حال عظيمة، ونعمة كبيرة، وكان يقرض الأمراء الخمسين ألف دينار وما زاد، وتوفي ببغداد، فمشى تاج الملك وغيره في جنازته من المدرسة النظامية إلى باب أبرز، ولم يتبعه راكب سوى نظام الملك، واعتذر بعلو السن، ودفن بتربة أبي إسحاق إلى جانبه، وجاء السلطان عشية ذلك اليوم إلى قبره.
قال ابن عقيل: جلست إلى جانب نظام الملك بتربة أبي إسحاق و الملك قيام بين يديه، واجترأت على ذلك بالعلم، وكان جالساً للتعزية بابن علك، فقال: لا إله إلا الله. دفن في هذا المكان أرغب أهل الدنيا في الدنيا يعني ابن علك وأزهدهم فيها يعني أبا إسحاق ورئي ليلة دفن عنده أبو طاهر كأنه قد خرج من قبره وجلس على شفير القبر، وهو يحرك إصبعه المسبحة ويقول: يابني الأتراك يابني الأتراك. فكأنه يستغيث من جواره.
علي بن أحمد بن عبد الله بن النظر، أبو طاهر الدقاق توفي يوم الأربعاء سادس عشر صفر.
علي بن الحسين بن قريش، أبو الحسن البناء ولد سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، حدثنا عنه أشياخنا.
وتوفي يوم الجمعة سابع عشر ذي الحجة ودفن بباب حرب.
عفيف القائمي كان له اختصاص بالقائم، وكانت فيه معان.
محمد بن عبد السلام بن علي بن عمر بن عفان، أبو الوفاء الواعظ سمع أبا علي بن شاذان حدثنا عنه أشياخنا، وكان يسكن نهر طابق ويعظ، وله قبول، ولما رأى أصحاب أحمد بن حنبل أبن عفان قد مالأ الأشاعرة في أيام ابن القشيري هجروه، وتوفي يوم الأحد رابع عشر جمادى الآخر، ودفن في داره بقطيعة عيسى.
محمد بن عبد السلام بن علي بن نظيف، أبو سعد الصيدلاني سمع أبا طالب الزهري، وأبا الحسين النهرواني، حدثنا عنه أشياخنا.
توفي في يوم الخميس حادي عشر ذي القعدة.


محمد بن أحمد بن علي بن حامد، أبو نصر المروزي كان إماماً في القراآت، أوحد وقته، وصنف فيه التصانيف، وسافر الكثير في طلب علم القرآن، وغرق مرة في البحر فذكر أنه كان الموج يلعب به، فنظر إلى الشمس وقد زالت، ودخل وقت الظهر فغاص في الماء، ونوى الظهر، وشرع في الصلاة على حسب الطاقة فخلص ببركة ذلك. وتوفي في يوم الأحد ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة، وهو ابن نيف وتسعين سنة.
محمد بن عبد الله بن الحسين، أبو بكر الناصح الحنفي قاضي قضاة الري. سمع وحدث، وكان فقيهاً مناظراً متكلماً يميل إلى الاعتزال، وكان وكلاء مجلسه يميلون إلى أخذ الرشاء، فصرف عن قضاء نيسابور، وتوجه إلى الري قاضياً، وتوفي في رجب هذه السنة.
ثم دخلت
سنة خمس وثمانين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها أن السلطان ملك شاه تقدم في المحرم ببناء سوق المدينة لمقاربة داره التي بمدينة طغرليك، وبنى فيها خانات الباعة، وسوقاً عنده، ودروباً، وآدر، وبنت خاتون حجرة لدار الضرب، ونودي أن لا تعامل إلا بالدنانير، ثم بمعماره الجامع الذي تمم بأخرة على يدي بهروز الخادم في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وتولى السلطان تقدير هذا الجامع بنفسه وبدرهم منجمه وجماعة من الرصدين، وأشرف على ذلك قاضي القضاة أبو بكر الشامي، وجلبت أخشابه من جامع سامرا، وكثرت العمارة بالسوق، واستأجر نظام الملك بستان الجسر وما يليه من وقوف المارستان مدة خمسين سنة. وتجرد لعمارة ذلك دارا وأهدى له أبو الحسن الهروي خانه، وتولى عمارة ذلك أبو سعد بن سمحا اليهودي، وابتاع تاج الملك أبو الغنائم دار الهمام وما يليها بقصر بني المأمون، ودار ختلغ أمير الحاج، بني جميع ذلك دارا، وتولى عمارتها الرئيس أبو طاهر ابن الأصباغي.
وفي المحرم: قصد الأمير جعفر بن المقتدي أباه أمير المؤمنين ليلاً فزاره ثم عاد.
وفي المحرم: مرض نظام الملك فكان يداوي نفسه بالصدقة، فيجتمع عنده خلق من الضعفاء فيتصدق عليهم، فعوفي.
وفي النصف من ربيع الأول : توجه السلطان خارجاً إلى أصفهانن وخرج صحبته الأمير أبو الفضل بن المقتدي.
وفي يوم الثلاثاء تاسع جمادى الأولى: وقع الحريق بنهر معلى في الموضع المعروف بنهر الحديد إلى خرابة الهراس وإلى باب دار الضرب، واحترق سوق الصاغة، والصيارف، والمخلطيين، والريحانيين من الظهر إلى العصر، وهلك خلق كثير من الناس، ومن جملتهم الشيخ مالك البانياسي المحدث، وأبو بكر بن أبي الفضل الحداد، وكان من المجودين في علم القرآن، وأحاطت النار بمسجد الرزاقين ولم يحترق، وتقدم الخليفة إلى عميد الدولة أبي منصور بن جهير، فركب ووقف عند مسجد ابن جردة ، وتقدم بحشر السقائين والفعلة، فلم يزل راكباً حتى طفئت النار.
وفي مستهل رمضانك توجه السلطان من أصفهان إلى بغداد بنية غير مرضية، ذكر أنه أراد تشعيث أمر المقتدي، كان معه النظام، فقتل النظام في عاشر رمضان في الطريق، ووصل نعيه إلى بغداد في ثامن عشر رمضان، فلما قارب السلطان بغداد خلع المقتدي على وزيره عميد الدولة أبي منصور تشرفاً له وجبراً لمصابه بنظام الملك، فإنه كان يعتضد به، وهو الذي سفر له في عوده إلى منصبه، وكان عميد الدولة قد تزوج بنت نظام، فخرج في الموكب للتلقي يوم الخميس ثاني عشرين رمضان، وسار إلى النهروان، وأقام إلى العصر من يوم الجمعة، ودخل ليلة السبت ودخل السلطان إلى دار المملكة يوم السبت ومنع تاج الملك العسكر أن ينزل في دار أحد وركب عميد الدولة وأربها معه إلى دار السلطان، فهنأه عن الخليفة بمقدمه وبعث السلطان إلى الخليفة يقول: لابد أن تترك لي بغداد وتنصرف إلى أي البلاد شئت، فانزعج الخليفة من هذا انزعاجاً شديداً، ثم قال: أمهلني شهراً . فعاد الجواب: لايمكن أن تؤخر ساعة . فقال الخليفة لوزير السلطان: سله أن يؤخره عشرة أيام. فجاء إليه فقال : لو أن رجلاً من العوام أراد أن ينتقل من دار تكلف للخروج، فكيف بمن يريد أن ينقل أهله.


ومن يتعلق به، فيحسن أن تمهله عشرة أيام فقال: يجوز . فلما كان يوم عيد الفطر صلى السلطان بالمصلى العتيق، وخرج إلى الصيد فافتصد، فأخذته الحمى وكان قد فوض الأمر إلى تاج الملوك أبي الغنام وأوقع عليه اسم الوزارة واستقر أن تفاض عليه الخلع يوم الاثنين رابع شوال فمنع هذا الأمر الذي جرى، وركب عميد الدولة مع الجماعة إلى السلطان فلم يصلوا إليه، ونقل أرباب الدولة أموالهم إلى حريم الخليفة، وتوفي السلطان فضبطت زوجته زبيدة خاتون العسكر بعد موته أحسن ضبط، فلم يلطم خد، ولم يشق ثوب، وبعثت بخاتم السلطان مع الأمير قوام الدولة صاحب الموصل إلى القلعة التي بأصبهان تأمر صاحبها بتسليمها، وأتبعته بالأمير فماج، فاستوليا على أمور القلعة، وساست الأمور سياسة عظيمة. وأنفقت الأموال التي جمعها ملك شاه فأرضت بها العسكر وكان تزيد على عشرين ألف ألف دينار واستقر مع الخليفة ترتيب ولدها محمود في السلطنة وعمره يومئذ خمس سنين وعشرة أشهر خطب له على منابر الحضرة، وترتب لوزارته تاج الملك أبو غنام المرزبان بن خثرو، وجاء عميد الدولة بخلع من الخليفة فأفاضها على محمود، ودخل إلى أمه فعزلها وهنأها عن الخليفة ثم خرج العسكر وخاتون وولدها المعقود له السلطنة ووزيره هذا يوم الثلاثاء السادس و العشرين من شوال وحمل الأمير أبو الفضل جعفر بن المهتدي إلى أبيه، ودخل أولئك إلى أصبهان، وخطب لمحمود بالحرمين، وراسلت أمه الخليفة أن يكتب له عهداً، فجرت في ذلك محاولات إلى أن اقتضى الرأي أن يكتب له عهد باسم السلطنة، وراسلت أمه الخليفة أن يكتب له عهد باسم السلطنة وخاصة، ويكتب للأمير أنر عهد في تدبير الجيوش ويكتب لتاج الملك عهداُ لترتيب العمال وجباية الأموال فأبت الأم إلا أن يستند ذلك كله إلى أبيها فلم يجب الخليفة وقال : هذا لا يجيزه الشرع واستفتى الفقهاء، فتجرد أبو حامد الغزالي وقال: لا يجوز إلا الخليفة، وقال المشطب بن محمد الحنفي : يجوز ما قالته الأم، فغلب قول الغزالي.
وفي شوال: قتل بن سمحة اليهودي .
في ذي القعدة: طمع بنو خفاجة في الحاج لموت السلطان، وبعد العسكر، فهجموا عليهم حين خرجوا من الكوفة، فوقعوا على ابن ختلغ الطويل وقتلوا أكثر العسكر وانهزموا بقيهم إلى الكوفة فدخل بنو خفاجة الكوفة فأغاروا وقتلوا فرماهم الناس بالنشاب فأعروا الرجال والنساء، فبعث من بغداد عسكر، فانهزم بنو خفاجة ونهبت أموالهم، وقتل منهم خلق كثير فأما مماليك النظام فإن من بعده أووا إلى بركيارق ابن السلطان ملك شاه الكبير وخطب له بالري، انحاز إليه أكثر العسكر سوى الخاصكية، فأنهم التجئوا إلى خاتون، ففرقت عليهم ثلاثة آلاف دينار، وأنفذتهم إلى القتال بالبركيارق ابن السلطان ملك شاه الكبير وخطبوا له بالري وانحاز إليه أكثر العسكر سوى الخاصكية لأنهم التجئوا إلى خاتون ففرقت عليهم ثلاثة آلاف دينار، وانفذتهم إلى قتال بركيارق وكان مدبر العسكر ووزيره الوزير تاج الملك، فالتقى الفريقات في سادس عشر ذي الحجة بالقرب من بروجرد، فاستاء من أكثر الخاصكية إلى بلك يارق، ووقعت الهزيمة وأسر تاج الملك وقتل.
وجاء الخبر بما نزل بأهل البصرة من البرد الذي في الواحدة منهم خمسة أرطال، وبلغ بعضه ثلاثة عشر رطلاً فرم الابرج المبنية بالجص والآجر وقصف قلوب النخلة وأحرقها، وكان معه ريح فقصف عشرات ألوف من النخل، واستدعى قريباً قاضي واسط ابن حرز إلى بغداد فعزل وقلد القضاء أبو العلي الحسن بن إبراهيم الفالقي، ووصل إلى واسط في جمادى الأولى
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن إبراهيم بن عثمان، أبو غالب الآدمي القاري سمع أبا علي من شاذان وغيره، روى عنه شيخنا عبد الوهاب، وأثنى عليه ووصفه بالخير، وكان حسن التلاوي لكتاب الله العزيز، يقرأ بين أيدي الوعاظ، توفي في ذي الحجة من هذه السنة ودفن في مقبرة باب ابرز.
جعفر بن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن، أبو الفضل التميمي، الحكاك


ولد سنة سبعة عشر، وقيل : سنة ست وأربعمائة، ورحل في طلب الحديث إلى الشام، العراق، فارس، خورستان، والجبل، وأصبهان. وسمع من خلق كثير منهم : أبو نصر الشجزي، وأبو زر الهري وأكثر عن العراقيين، وخرج لأبي الحسين ابن النقور أجزاء من مسموعاته، وتكلم عن الأحاديث بكلام حسن وكان حافظاً متقناً أديباً فهماً ثقة صدوقاً خيراً، وكان يتبسل عن ابن أبي هاشم أمير مكة إلى الخلفاء والأمراء، ويتولى ما يوقع له من مال وكسوة، وكان من ذوي الهيئات النبلاء حدثنا عنه أشياخنا والآخر من حدث عنه ابن البطي، توفي يوم الجمعة رابع عشر صفر حين قدم الحجة، وكانت وفاته بالكوفة، ودفن في مقبرة البيع.
الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس، أبو علي الطوسي، نظام الملك وزير السلطانين ألب أرسلان وولده ملك شاه نسقاً متتالياً تسعاً وعشرين سنة. ولد بطوس، وكان من أولاد الدهاقين وأرباب الضياع بناحية بيهق، كان علي الهمة إلا أنه كان فقيراً مشغولاً بالفقه، والحديث ثم اتصل بخدمة أبي علي بن شاذان المعتمد عليه ببلخ، فكان يكتب له، وكان يصادر كل سنة، فهرب منه فقصد داود بن ميكائيل والد السلطان ألب أرسلان، وعرفه رغبته في خدمته، فلما دخل عليه أخذ بيده فسلمه إلى ولده ألب أرسلان، وقال: هذا حسن الطوسي، فتسلمه واتخذه والداً لا تخالفه، وقيل: بل خدم ابن شاذان إلى أن توفي فأوصى به إلى ألب أرسلان فلما صار الملك إلى ألب أرسلان دبر له الملك فأحسن التدبير، فبقي في خدمته عشر سنين ثم مات، وازدحم أولاده على الملك، وطغى الخصوم، فدبر الأمور، ووطد الملك لملك شاه فصار الأمر كله إليه وليس للسلطان إلا التخت والصيد، فبقي على هذا عشرين سنة ودخل على المقتدي ، فأذن له في الجلوس بين يديه وقال: يا حسن رضي الله عنك برضا أمير المؤمنين وأهل الدين عنك، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء وأئمة المسلمين من العلماء قد بسطتهم في مجلسك حتى شغلوك عن مصالح الرعية ليلاً ونهاراً، فإن تقدمت أن لا يوصل أحد منهم إلا بأذن، وإذا وصل جلس بحيث لا يضيق عليك مجلسك. فقال: هذه الطائفة أركان الإسلام، وهم جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلست كلا منهم على رأسي لا ستقللت لهم ذلك.
وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني يقوم لهما ويجلسهما في مسند ويجلس في المسند على حالته.
فإذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني يقوم لهما ويجلسهما في مسند ويجلس في المسند على حالته.
فإذا دخل عليه أبو علي الفارمذي قام وأجلسه في مكانه وجلس بين يديه، فامتعض من هذا الجويني فقال لحاجبه في ذلك فأخبره، فقال: هو و القشيري وأمثالهما قالوا لي: أنت أنت، وأطروني بما ليس في، فيزيدني كلامهم تيهاً، والفارمذي يذكر لي عيوبي، وظلمي فأنكر وأرجع عن كثير مما أنا فيه، وكان المتصوفة تنفق عليه حتى أنه أعطى بعض متمنيهم في مرات ثمانين ألف دينار.
أنبأنا علي بن عبد الله عن أبي محمد التميمي قال: سألت نظام الملك عن سبب تعظيمه الصوفية فقال: أتاني صوفي وأنا في خدمة بعض الأمراء، فوعظني وقال: أخدم من تنفعك خدمته، ولا تشتغل بما تأكله الكلاب غدأ لم أعرف معنى قوله، فشرب ذلك الأمير من الغد، وكانت له كلاب كالسباع تفرس الغرباء بالليل، فغلبه السكر وخرج وحده فلم تعرفه الكلاب فمزقته، فعلمت أن الرجل كوشف بذلك فأنا أطلب أمثاله.
وكان للنظام من المكرمات مالا يحصى كلما سمع الأذان أمسك عما هو فيه، وكان يراعي أوقات الصلوات، ويصوم الاثنين والخميس، ويكثر الصدقة، وكان له الحلم والوقار وأحسن خلاله مراعاة العلماء، وتربية العلم، وبناء المدارس والمساجد والرباطات والوقوف عليها، وأثره العجيب ببغداد هذه المدرسة وسقوفها الموقوف عليها، وفي كتاب شرطها أنها وقف على أصحاب الشافعي أصلاً وفرعاً، وكذلك الأملاك الموقوفة عليها شرط فيها أن يكون على أصحاب الشافعي أصلاً وفرعاً، وكذلك شرط في المدرس الذي يكون بها والواعظ الذي يعظ بها ومتولي الكتب، وشرط أن يكون فيها مقرئ القرآن، ونحوي يدرس العربية، وفرض لكل قسطاً من الوقف، وكان يطلق ببغداد كل سنة من الصلات مائتي كر، وثمانية عشر ألف دينار.


ولما طالت ولايته تقررت قواعده قبل قدره، ولما عبر في جيحون وقع للملاحين بأجرتهن على عامل أنطاكية بعشرة آلاف دينار، وملك من الغلمان الأتراك ألوفاً، وحدث بمرو، ونيسابور، و الري، و أصبهان، وبغداد، وأملى في جامع المهدي، وفي مدرسته، وكان يقول: إني لأعلم أني لست أهلاً للرواية، ولكني أريد أن أربط نفسي على فطار النقلة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدث عنه جماعة من شيوخنا منهم أبو الفضل الأرموي، وآخر من روى عنه أبو القاسم العكبري، وكان النظام يقول: كنت أتمنى أن يكون لي قرية ومسجد أتخلى فيه بطاعة ربي، ثم تمنيت بعد ذلك قطعة من الأرض بشربها أقوت برفعها، وأتخلى في مسجد في جبل، ثم الآن أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم وأتعبد في مسجد.
وقال : رأيت إبليس في النوم، فقلت له: ويلك، خلقك الله ثم أمرك بسجدة فلم تفعل، وأنا الحسن أمرني بالسجود فأنا أسجد له كل يوم سجدات فقال:
من لم يكن للوصال أهلاً ... فكل إحسانه ذنوب
وكان له أولاد جماعة وزر منهم خمسة للسلاطين، وزر أحمد بن النظام لمحمد ابن ملك شاه وللمسترشد، خرج النظام مع ملك شاه يقصد العراق من أصفهان يوم الخميس غرة رمضان وكان آخر سفره سافرها فلما أفطر ركب في محفة وسير به فبلغ غلى قرية قريبة من نهاوند فقال: هذا الموضع قتل فيه جماعة من الصحابة زمن عمر، فطوبى لمن كان معهم، فقتل تلك الليلة اعترضه صبي ديلمي على صفة الصوفية معه قصة، فدعا له وسأل تناولها فمد يده ليأخذها فضربه بسكين في فؤاده، فحمل إلى مضربه فمات، وقتل القاتل في الحال بعد أن هرب فعثر بطنب خيمة فوقع، فحمل إلي مضربه فمات، وقتل القاتل في الحال بعد أن هرب فعثر بطنب خيمة فوقع، فركب السلطان إلى معسكره فسكنهم، وذلك في ليلة السبت عاشر رمضان، وكان عمره ستاً سبعين سنة، وعشرة أشهر، وتسعة عشر يوماً.
وشاع بين الناس أن السلطان سئم طوال عمره وصور له أعداؤه كثرة ما يخرج من الأموال، وقد كان عثمان بن النظام رئيس مرو فأنفذ السلطان مملوكاً له كبيراً قد جعله شحنة فاختصما، فقبض عليه عثمان وأخرق به، فلما أطلقه قصد السلطان مستغيثاً، فاستدعى السلطان أرباب الدولة وقال: أمضوا إلى خواجة حسن وقولوا له إن كنت شريكي في الملك فلذلك حكم، وإن كنت تابعي فيجب أن تلزم حدك، وهؤلاء أولادك قد استولوا على الدنيا، ولا يقنعهم حتى يخرجوا من الحرمة. فلما أبلغوه قال لهم: كيف جمعت الناس عليه، وعبرت بالعساكر النهر، وفتحت الأمصار، وصار الملك بحسن تدبيري بين راج للرأفة ووجل من المخافة، وبعد هذا فقولوا له وعرفوه أن ثبات القلنسوة مصدوق بفتح هذه الدواة، ومتى أطبقت هذه زالت تلك فحكى ذلك للسلطان، فما زالت تلك للسلطان، فما زال يدبر عليه فيقال أنه ألف عليه بمواطاة تاج الملك أبي الغنائم من قتله، فلم تطل مدة السلطان بعده، وإنما كان بينهما خمسة وثلاثون يوماً، فكان في ذلك عبرة، فكان الناس يتحدثون أن السلطان إنما رضي بقتله لأن السلطان كان قد عزم على تشعيث أمر المقتدي، ودبر ذلك تاج الملك وخاتون زوجة السلطان لأنها أرادت من السلطان أن ينص على ولدها محمود فثناه عن رأيه النظام، فخشوا من النظام تثبيطاً عن مرادهم.
ووصل نعي نظام الملك إلى بغداد يوم الأحد ثامن عشر رمضان، فجلس عميد الدولة للعزاء به في الديوان ثلاثة أيام، وحضر الناس على طبقاتهم، وخرج التوقيع يوم الثالث. وفي آخره، وفي بقاء معز الدولة مما يجبر المسلمين، ويعضد أمير المؤمنين.
قال المصنف: ونقلت من خط أبي الوفاء أبي الوفاء بن عقيل قال: رأينا في أوائل أعمارنا ناساً طاب العيش معهم، من العلماء والزهاد وأعيان الناس، وأما النظام فإن سيرته بهرت العقول جوداً وكرماً وحشمة وإحياء لمعالم الدين، فبنى المدارس، ووقف عليها الوقوف ونعش العلم وأهله، وعمر الحرمين، وعمر دور الكتب، وابتاع الكتب فكانت سوق العلم في أيامه قائمة، والعلماء مستطيلين على الصدور من أبناء الدنيا، وما ظنك برجل كان الدهر في خفارته، لأنه كان قد أفاض من الإنعام ما أرضى الناس ، وإنما كانوا يذمون الدهر لضيق أرزاق واختلال أحوال، فلما عمهم إحسانه أمسكوا عن ذم زمانهم.


قال ابن عقيل: بلغت كلمتي هذه وهي قوله كان الدهر في خفارته جماعة من الناس والوزراء والعمداء فسطروها واستحسنها العقلاء الذين سمعوها.
قال ابن عقيل: وقلت مرة في وصفه ترك الناس بعد موتى أهل العلم والفقراء ففقدوا العيس بعده بانقطاع الأرزاق، وأما الصدور والأغنياء فقد كانوا مستورين بالغنا عنهم، فلما عرضت الحاجات إليهم عجزوا عن تحمل بعض ما عود من الإحسان، فانكشفت معايتهم من ضيق الصدور، فهؤلاء موتى بالمنع وهؤلاء موتى بالذم، وهو حي بعد موته بمدح الناس لأيامه، ثم ختم له بالشهادة فكفاه الله أمر آخرته كما كفى أهل العلم أمر دنياهم، ولقد كان نعمة من الله على أهل الإسلام فما شكروها فسلبوها.
قال المصنف رحمه الله: وقد رثاه مقاتل بن عطية المسمى بشبل الدولة فذكر هذا المعنى:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة صاغها الرحمان من شرف
عزت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها غيرة منه إلى الصدف
عبد الباقي بن محمد بن الحسين بن داود بن ناقيا، أبو القاسم الشاعر من أهل الحريم الطاهري، ولد سنة عشر وأربعمائة، وسمع أبا القاسم الخرقي وغيره، وكان أديباً حدث عنه أشياخنا، ورموه بأنه كان يرى رأي الأوائل، ويطعن على الشريعة، وقال شيخنا عبد الوهاب الأنماطي: ما كان يصلي، وكان يقول في السماء نهر من خمر، ونهر من لبن، ونهر من عسل ما سقط منه شيء قط سقط هذا الذي يخرب البيوت ويهدم السقوف.
توفي في محرم هذه السنة، ودفن بباب الشام، وأنبأنا عمر بن ظفر المغازلي قال:سمعت أبا الحسن علي بن محمد الدهان يقول: دخلت على أبي القاسم بن ناقيا بعد موته لأغسله فوجدت يده مضمومة فاجتهدت على فتحها فإذا فيها مكتوب.
نزلت بجار لا يخيب ضيفه ... أرجّي نجاتي من عذاب جهنم
وإني على خوفي من الله واثق ... بانعامه والله أكرم منعم
عبد الرحمن بن محمد، أبو محمد العماني كان يتولى قضاء ربع الكرخ ببغداد ثم ولي قضاء البصرة.
وتوفي في رمضان هذه السنة.
مالك بن أحمد بن علي بن إبراهيم، أبو عبد الله البانياسي وبانياس بلد الغور قريب من فلسطين، ولد سنة ثمان وتسعين، وهذا الرجل له إسمان وكنيتان يقال له: أبو عبد الله مالك، وأبو الحسن علي، وكان يقول سماني أبي مالكاً، وكناني بأبي عبد الله، واسمتني أمي علياً، وكنتني بأبي الحسن، فأنا أعرف بهما لكنه اشتهر بما سماه أبوه، سمع أبا الحسن بن الصلت وهو آخر من حدّث عنه مشايخنا آخرهم أبو الفتح ابن البطي، وكان ثقة.
واحترق بسوق الريحانيين يوم الثلاثاء بين الظهر والعصر تاسع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة وهلك فيه جماعة من الناس فاحترق فيه مالك البانياسي، وكان في غرفته ودفن يوم الأربعاء.
ملكشاه ويكنى: أبا الفتح بن أبي شجاع محمد ألب أرسلان ابن داود بن ميكائيل بن سلجوق جلال الدولة، عمّر القناطر، وأسقط المكوس والضرائب وحفر الأنهار الخراب، وبنى الجامع الذي يقال له جامع السلطان الذي يقال له انه جدد بناه ببغداد، وبنى مدرسة أبي حنيفة والسوق، وبنى منارة القرون من صيوده، وهي التي بظاهر الكوفة، وبنى مثلها وراء النهر، وتذكر ما اصطاده بنفسه، فكان عشرة آلاف فتصدق بعشرة آلاف دينار، وقال: إني خائف من الله سبحانه من إرهاق روخ لغير مأكلة، وخطب له من أقصى بلاد الترك إلى أقصى بلاد اليمن، وراسله الملوك حتى قال النظام: كم من يوم وقعت بإطلاق إذ مات لرسل ملك الروم، واللان، والخزر، والشام، واليمن، وفارس وغير ذلك. قال: وإن خرج هذا السلطان في السنة أكثر من عشرين ألف ألف دينار، وكانت السبل في زمانه آمنة، وكانت نيته في الخير جميلة، وكان يقف للمرأة والضعيف ولا يبرح إلا بعد إنصافهم.


ومن محاسن ما جرى له في ذلك أن بعض التجار قال: كنت يوماً في معسكره، فركب يوماً إلى الصيد، فلقيه سوادي يبكي فقال له: مالك؟ فقال له يا خيلباشي كان معي حمل بطيخ هو بضاعتي فلقيني ثلاثة غلمان فأخذوه. فقال له: امض إلى العسكر، فهناك قبة حمراء، فاقعد عندها ولا تبرح إلى آخر النهار، فأنا أرجع وأعطيك ما يغنيك. فلما عاد قال للشرابي قد اشتهيت بطيخاً ففتش العسكر وخيمهم ففعل، فأحضر البطيخ فقال له: عند من رأيتموه؟ فقال: في خيمة فلان الحاجب. فقال: أحضروه فأحضر فقال له: من أين لك هذا البطيخ؟ فقال: جاء به الغلمان. فقل: أريدهم هذه الساعة. فمضى وقد أحس بالشر، فهرب الغلمان خوفاً من أن يقتلهم، وعاد وقال: قد هربوا لما علموا أن السلطان يطلبهم فقال: أحضروا السوادي، فأحضر فقال له: هذا بطيخك الذي أخذ منك؟ قال: نعم فقال: هذا الحاجب مملوك أبي مملوكي، وقد سلمته إليك ووهبته لك، ولم يحضر الذين أخذوا مالك، ووالله لئن تركته لا ضربن رقبتك. فأخذ السوادي بيد الاجب نفسه منه بثلثمائة دينار، فعاد السوادي إلى السلطان فقال: يا سلطان قد بعت المملوك الذي وهبته لي بثلثمائة دينار. فقال: قد رضيت بذلك؟ قال: نعم. فقال: اقبضها وامض مصاحباً.
ومن محاسن أفعاله أنه لقي إنساناً تاجراً على عقبة معه بغال عليها متاع فذهب أصحابه ينحون البغال إلى صاحب الخيل، فقال: لا تفعلوا نحن على خيل يمكننا أن نصعد إلى هناك، وهذه البغال عليها أثقال وفي ترقيتها خطر، فصعد على الجادة إلى أن مضى التاجر بأحماله، ثم عاد، ولقي امرأة تمشى فقال لها: إلى أين؟ قالت: إلى الحج. قال: كيف تقدرين على ذلك؟ قالت: أمشي إلى بغداد وأطرح نفسي هناك على من يحملني لطلب الثواب، فأخرج ما كان في خريطته من الدنانير فطرحه في إزارها، وقال: خذي هذا فاشتري منه مركوباً، واصرفي بقيته في نفقتك، ولما توجه إلى الحرب أخيه تكش اجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا بطوس فدخل للزيادة ومعه النظام، فلما خرجا قال له: يا حسن، بما دعوت؟ فقال: دعوت الله أن يظفرك بأخيك فقال: إنني لم أسال ذلك، وإنما قلت: إن كان أخي أصلح للملمين مني فظفره بي، وإن كنت أصلح لهم فظفرني به.
وجاء إليه تركماني قد لازم تركمانيا فقال له: إني وجدت هذا قد ابتنى بابنتي، وأريد أن تأذن لي في قتله. فقال: لا تقتله ولكنا نزوجها به، ونعطي المهر من خزانتنا عنه. فقال: لا أقنع إلا بقتله. فقال: هاتوا سيفاً. فجيء به فأخذه وسله قال للرجل: تعال. فتعجب الناس وظنوا أنه يقتل الأب، فلما قرب منه أعطاه السيف وأمسك بيده الجفن، وأمره أن يعيد السيف إلى الجفن فكلما رام الرجل ذلك قلب السلطان الجفن، وأمره أن يعيد السيف إلى الجفن فكلما رام الرجل ذلك قلب السلطان الجفن فلم يمكنه من إدخال السيف فيه، فقال: مالك لا تدخل السيف؟ فقال: يا سلطان، ما تدعني. فقال: كذلك ابنتك لو ترد ما فعل بها هذا الرجل، ولما أمكنه غصبها وقهرها، فإن كنت تريد قتله لأجل فعله فاقتلهما جميعاً، فبقي الرجل لا يرد جواباً، وقال: الأمر للسلطان. فاحضر من زوجة بها وأعطى المهر من الخزانة.
ودخل على هذا السلطان واعظ فحكى له أن بعض الأكاسرة انفرد عن عسكره،فجاز على بستان فطلب منه ماء ليشرب، فأخرجت له صبية إناء فيه ماء قصب السكر يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا فيخرج منه هذا الماء. فقال: احضريني شيئاً آخر منه فمضت وهي لا تعرفه فنوى في نفسه اصطفاء المكان لنفسه وتعويضهم عنه، فما كان بأسرع من أن خرجت باكية فقال لها: ما لك؟ فقالت. نية سلطاننا قد تغيرت علينا. فقال لها: من أين علمت؟ قالت كنت آخذ من هذا الماء ما أريد من غير تعسف، والآن فقد اجتهدت في العصر فلم يسمح ببعض ما كان يخرج عفواً. فعلم صدقها فقال: ارجعي الآن فإنك تلقين الغرض، ونوى أن لا يفعل ما عزم عليه، فخرجت ومعها ما شاءت وهي مستبشرة.


فلما حكى الواعظ هذا قال له السلطان: أنت تحكي لي مثل هذا فلم لا تحكي للرعية أن كسرى اجتاز وحده على بستان فقال للناطور: ناولني عنقوداً من الحصرم فقد كظني العطش واستولت علي الصفراء فقال له: ما يمكنني، فإن السلطان لم يأخذ حقه منه فما يمكنني جنايته، فعجب من حضر وكان فيهم نظام الملك، من مقابلة السلطان تلك الحكاية بهذه، واستدلوا على قوة فطنته، وقد سار هذا السلطان من أصبهان إلى إنطاكية، وعاد إلى بغداد، فما نقل أن أحداً من عسكره أخذ شيئاً بغير حق ودخل إلى بغداد ثلاث مرات وكان الناس يخافون الغلاء فيظهر الأمر بخلاف ما ظنوا، وكانت السوقة تخترق عسكره ليلاً ونهاراً، والسوادي يطوف بالتين والدجاج في وسط العسكر ولا يخافون ولا يبيعون إلا بما يريدون. وتقدم بترك المكوس فقال له أحد المستوفين يا سلطان، العام قد أسقطت من خزائن أموالك ستمائة ألف ونيفاً فيما هذا سبيله، فقال: المال مال الله، والعبيد عبيده، والبلاد بلاده، وإنما يبقى في ذلك، فمتى راجعني أحد في ذلك تقدمت بضرب عنقه.
وذكر هبة الله بن المبارك بن يوسف السقطي في تاريخه قال: حدثني عبد السميع بن داود العباسي قال: قصد ملك شاه رجلان من أهل البلاد السفلى من أرض العراق يعرفان: بابني غزال، من قرية تعرف بالحدادية، فتعلقا بركابه وقالا: نحن من أسفل واسط من قرية تعرف بالحدادية، مقطعة لخمارتكين الحلبي، صادرنا على ألف وستمائة دينار، وكسر ثنيتي أحدنا والثنيتان بيده، وقد قصدناك أيها الملك لتقتص لنا منه، فقد شاع من عدلك ما حملنا على قصدك، فإن أخذت بحقنا كما أوجب الله عليك وإلا فالله الحاكم بالعدل بيننا. وفسر على ما قالاه. قال عبد السميع: فشاهدت السلطان وقد نزل عن فرسه وقال: ليمسك كل واحد منكما بطرف كمي واسحباني إلى دار حسن هو نظام الملك فأفزعهما ذلك، ولم يقدما عليه، فأقسم عليهما إلا فعلا، فأخذ كل واحد منهما بطرف كمه وسارا به إلى باب النظام، فبلغه الخبر، فخرج مسرعاً وقبّل الأرض بين يديه وقال أيها السلطان المعظم، ما حملك على هذا؟ فقال: كيف يكون حالي غداً بين يدي الله إذا طولبت بحقوق المسلمين وقد قلدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف، فإن تطرق على الرعية ثلم لم يتطرق على الرعية إلا بك وأنت المطالب، فانظر بين يديك، فقبّل الأرض وسار في خدمته، وعاد من وقته، فكتب بعزل خمارتكين وحل اقطاعه، وردّ المال إليها وقلع ثنيتية إن ثبت عليه البينة، ووصلهما بمائة دينار، وعادا من وقتهما.
واستحضر ملك شاه مغنية مستحسنة بالري فأعجبته بغنائها واستطابه، فتاقت نفسه إليها فقالت له: يا سلطان، إني أغار على هذا الوجه الجميل أن يعذّب بالنار وأن بين الحلال والحرام كلمة. فقال: صدمت. واستدعى القاضي فزوّجه إياها وكان هذا السلطان قد أفسد عقيدته الباطنية، ثم رجع إلى الصلاح.


قال المصنف: نقلت من خط ابن عقيل قال: كان الجرجاني الواعظ مختصاً بجلال الدولة فاستسرني أن الملك قد أفسد الباطنية، فصار يقول لي: إيش هو الله؟ وإلى ما تشيرون بقولكم الله؟ فبهت وأردت جواباً حسناً فكتبت: إعلم أيها الملك أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس، فإذا فقدوه جحدوه، وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة، وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس، ولم يجحدها العقل، ولم يمكننا جحدها لقيام دلالة العقل على إثباتها، فإن قال لك أحد من هؤلاء: لا يثبت إلا ما نرى فمن هاهنا دخل الإلحاد على جهال العوام الذين يستثقلون الأمر والنهي، وهم يرون أن لنا هذه الأجساد الطويلة العميقة التي تنمي ولا يعد وتقبل الأغذية وتصدر عنها الأعمال المحكمة كالطب، والهندسة، فعلموا أن ذلك صادر عن أمر وراء هذه الأجساد المستحيلة وهو الروح والعقل، فإذا سألناهم هل أدركتم هذين الأمرين بشيء من إحساسكم؟ قالوا: لا لكنا أدركناهما من طريق الاستدلال بما صدر عنهما من التأثيرات. قلنا: فما بالكم جحدتم الإله حيث فقدتموه حساً مع ما صدر عنه من إنشاء الرياح والنجوم، وإدارة الأفلاك، وإنبات الزرع، وتقليب الأزمنة؟ وكما أن لهذا الجسد روحاً وعقلاً بهما قوامه، ولا يدركهما الحسن، لكن شهدت بهما أدلة العقل من حيث الآثار، كذلك الله سبحانه وتعالى، وله المثل الأعلى، ثبت بالعقل لمشاهدة الإحساس من آثار صنائعه، وإتقان أفعاله. قال: فحكى لي أنه أعاده عليه فاستحسنه، وهش إليه، ولعن أولئك، وكشف إليه ما تقولون له ثم إن السلطان ملك شاه قدم ما سبق ذكره في حوادث السنين فتوفى السلطان في ليلة الجمعة النصف من شوال، وقد ذكروا في سبب موته ثلاثة آقوال: أحدها: أنه خرج إلى الصيد بعد صلاة العيد فأكل من لحم الصيد وافتصد فحمّ فمات. والثاني: أنه طرقته حمى حادة فمات. والثالث: أن خردك سمّه في خلال هلك به، وكان عمره سبعاً وثلاثين سنة، ومده ملكه تسع عشرة سنة وأشهر، ودفن في الشونيزية، ولم يصل عليه أحد.
المرزبان بن التاجية ببغداد، وبنى تربة الشيخ أبي إسحاق، وعمل لقبره ملبناً، وكان قد زعم ملك شاه أن يستوزره بعد النظام فهلك ملك شاه، فتولى أمر ابنهمحمود، وخرج ليقاتل بركيارق فقتل، وقطّعه غلمان النظام إرباًإرباً لما كانوا ينسبون إليه من قتل النظام، ومثلوا به وذلك في ذي الحجة من هذه السنة.
هبة الله بن عبد الوارث بن علي بن أحمد بن نوري، أبو القاسم الشيرازي أحد الرحالين في طلب الحديث، الجوالين في الآفاق، البالغين منه، سمع بخراسان والعراق، وقومس، والجبال، وفارس، وخوزستان، والحجاز، والبصرة، واليمن، والجزيرة، والشامات، والثغور، والسواحل، وديار مصر، وكان حافظاًمتقناًثقة صالحاً خيراً ورعاً، حسن السيرة، كثيرة العبادة، مشتغلا بنفسه، وخرّج التخاريج، وصنّف، وأبي الحسين بن المهتدي، وأبي الغائم بن المأمون، وأبي على يعلى بن وشاح، وجابر بن ياسين، ودخل صريفيني فسأله: هل سمعت شيئاًمن الحديث؟ فأخرج إليه أصوله فقرأها عليه وكتب إلى بغداد فأخبر الناس فرحلوا إليه، وكان هبة الله محمد بن عبد الوارث يحكي عن والدته فاطمة بنت علي قالت:سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد المعروف بابن أبي زرعة الطبري قال: سافرت مع أبي إلى مكة فأصابتنا فاقة شديدة فدخلنا مدنية الرسول صلى الله عليه وسلم وبتنا طاويين، وكنت دون البالغ، فكنت أجيء إلى أبي وأقول: أنا جائع. فأتى بي أبي إلى الحضرة وقال: يا رسول الله، أنا ضيفك الليلة. وجلس فلما كان بعد ساعة رفع رأسه وجعل يبكي ساعة، ويضحك ساعة. فقال: رأيت رسول الله عليه وسلم فوضع في يدي دراهم، ففتح يده فإذا فيها دراهم وبارك الله فيها إلى رجعنا إلى شيراز وكنا ننفق منها. توفي هبة الله في هذه السنة بمرو، وكانت علته البطن، فقام في ليلة وفاته سبعين مرة أو نحوها، في كل مرة يغتسل في النهر إلى أن توفي على الطهارة. رحمه الله وإيانا وجماعة المسلمين.