باهر البرهان فى معانى مشكلات القرآن

سورة طه
(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)
لتتعب بقيام جميع الليل.
وقيل: لتحزن على قومك بأن لا يؤمنوا.
(يعلم السر)
السر ما يسره العبد عن غيره.
(وأخفى)
ما يخطر بالبال، ويهجس في الصدر.
(ءانست ناراً)
أبصرتها، قال الفرزدق:
755 - وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة في جذبها بالعصائب

(2/898)


756 - إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب
(طوى)
لم ينصرف للعجمة والتعريف، [فإنه] اسم أعجمي [لواد] معروف.
(أكاد أخفيها)
أريد أخفيها.
والمعنى: مقاربة كونها مع تبعيد العلم بوقتها.
وقيل: في الكلام إضمار، أي: أكاد أظهرها، ثم قال: (أخفيها لتجزى كل نفس)، وذلك لأن من الحكمة والمصلحة في التكليف إخفاء أمر الساعة،

(2/899)


ليتوهم العبد صباح مساء فلا يفرط في التوبة، قال البرجمي:
757 - هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
أي: وكدت أقتله.
وعلى قول أبي عبيدة وقطرب: إن أخفيها: أظهرها، لا يكون للتعليل، وإن جاء أخفي بمعنى أظهر. قال عبدة بن الطبيب:
58 - يخفي التراب بأظلاف ثمانية ... في أربه مسهن الأرض تحليل

(2/900)


أي: يظهر التراب، ويستخرجه [بأظلافه] لشدة عدوه.
ومنه الحديث: "لا قطع على المختفي".
والصحيح أن البيت يخفي التراب بفتح الياء، كما في شعر امرئ القيس:
759 - خفاهن من أنفاقهن كأنما ... خفاهن [ودق] من عشي [مجلب].
(أتوكؤا)
كاء عليه اعتمد.

(2/901)


(وأهش)
أخبط الورق [للغنم].
(ولي فيها مئارب أخرى)
قال ابن الأعرابي: العصا يكون مع [الراعي]، [فيذود] بها غنمه، ويطرد بها الذئب، ويقابل بها الخارب، ويهش بها على غنمه إذا [قل] المرعى، ويأتي بها [البغيبغ] الذي لا تناله يده.
-والبغيبغ: ماء قريب من اليد- فيشد صفنه بطرف العصا، فيستقي، ويتعب الراعي فيتكئ عليها، فيزيل تعبه، فيجعلها على كتده بين وايلتي كتفيه، فيجعل بدنه/عليها، ويمشي، فكأنه محمول، ثم يأتي منزله، فيجعلها كالوتد، فيعلق عليها ثيابه، ثم ينكسر العصا، فيجعل منه أوتاداً،

(2/902)


ثم يكسر الأوتاد فيجعل منها أخشة، ثم تبلى الأخشة وتتكسر، فيأخذ دقاقها فيجعل أخلة، ثم يأخذ البواقي، فيجعله توادي، ثم تتفتت التوادي فتصير فتاتاً، فيسمون ذلك الفتات أوقاصاً، فإذا تعسرت النار واشتعالها، قيل له: وقص على نارك، فيلقي عليها من تلك الأوقاص، فتشتعل حتى ترى لها [كالحية أي: لساناً]، وأنشد على هذا:
760 - أقسم بالبيت العتيق والصفا
761 - أنك خير من تفاريق العصا.
(ءاياتنا الكبرى)

(2/903)


أراد الكبر، كقوله في نعت مآرب، (أخرى)، والمراد أخر، ولكن جرياً على نظام الآي.
وقيل: من آياتنا الآية الكبرى.
(ولتصنع على عيني)
أي: بإرادتي ورعايتي.
(وفتناك فتوناً)
بلوناك بلاء، بعد بلاء.
وقيل: خلصناك تخليصاً.
وأصله من فتنت الذهب بالنار، وذلك أن الله ابتلاه عند الولادة وبعدها،

(2/904)


وحين البعثة بأنواع من البلاء، فخلص منها خلوص الذهب من اللهب.
(ثم جئت على قدر)
أي: موعد ومقدار للرسالة، وهو أربعون سنة، فبعدها يوحى إلى الأنبياء.
(لعله يتذكر أو يخشى)
على رجاء الرسول، لا المرسل.
إذ لو يئس الرسول من ذلك لم يصح الإرسال.
وقيل: إن الكلام معدول عن [المرسل إليه] كأن القول: لعله يتذكر

(2/905)


متذكر عنه، وما [حل] به، ويكون لعله حينئذ للإيجاب.
كما في قول الشاعر:
762 - وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا ... نكف ووثقتم لنا كل موثق
763 - فلما كففناها وجدنا عهودكم ... كضاحي سراب بالملا مترقرق.
(نخاف أن يفرط علينا)
يعجل بقتلنا.
(أعطى كل شيء خلقه)
أي: صورته التي لا يشبهه فيها غيره.
وقيل: إن المراد صورة الأنواع المحفوظة بعضها عن بعض، فلا يكون على صورة نوع من حيوان نوع آخر.

(2/906)


وقيل: أعطى كل شيء من الأعضاء خلقه، فأدرك كل حاسة بإدراك، وأنطق اللسان، ومكن اليد من البطش، والأعمال العجيبة، والرجل من المشي.
(خلق كل شيء فقدره تقديراً).
(ثم هدى)
للمعيشة في الدنيا، والسعادة في الآخرة.
(قال فما بال القرون الأولى)
وذلك أنه حذره البعث، فقال: ما بال الأمم الخالية كيف يبعثون؟ ومتى يبعثون وهم رمم بالية؟.
(مكاناً سوى)
-بكسر السين، وضمها- هو المكان النصف بين الفريقين، تستوي مسافته عليهما.
و (يوم الزينة)

(2/907)


ارتفع [يوم لأنه خبر (موعدكم).
على أن الموعد اسم زمان الوعد أو مكانه، ومن نصب]، نصبه على الظرف للموعد، وجعل الموعد حدثاً كالوعد، أي: وعدكم في يوم الزينة، لئلا يؤدي إلى إدخال الزمان في الزمان. (فيسحتكم)
يستأصلكم، [سحت] وأسحت.
(إن هذان لساحران)
قال أبو عمرو: إني لأستحي من الله أن أقرأ: "إن هذان"، والقرآن أنزله بأفصح اللغات، وكان يقرأ: إن هذين.

(2/908)


وأما خط المصحف: فقد روى عيسى بن عمر أن عثمان قال: أرى فيه لحناً ستقيمه العرب بألسنتها.
وقرأ ابن كثير: "إن هذان" بجزم النون، فيكون ارتفاع هذان على وجهين:
أحدهما: أنها خفيفة من الثقيلة،/فضعفت في نفسها فلم تعمل فيما بعدها، فارتفع ما بعدها على الابتداء والخبر، ودخل اللام الخبر للفرق بينها، وبين "إن" التي هي نافية، بمعنى [ما].

(2/909)


والثاني: أنها بمعنى "ما"، واللام في خبرها بمعنى "إلا" أي: "ما هذان إلا ساحران" كقوله: (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) أي: إلا فاسقين، وقوله: (وإن نظنك لمن الكاذبين).
وأما القراءة المعروفة، فيقال: إنها جاءت على لغة كنانة وبلحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد، ومراد، وبني عذرة، وجماعة من قبائل اليمن،

(2/910)


فإن في لغاتها أن الثنية في الأحوال بالألف، ولا يختلف إعرابها، وأنشد:
764 - إن أباها وأبا أباها
765 - قد بلغا في المجد غايتاها
ويقال أيضاً "إن" بمعنى ["نعم".
وقيل: هو على حذف الهاء، بمعنى "إنه"] كما قال عبد الله بن قيس:
766 - بكرت علي عواذلي ... يلحينني وألومهنه
767 - ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت فقلت إنه

(2/911)


إلا أن التعسف في القولين ظاهر، لأن لام التوكيد يختص بخبر إن.
والأوجه: ما قاله أبو علي -رحمه الله-: إن [هذان] ليس بتثنية "هذا"، لأن هذا من أسماء الإشارة، فلا يكون أبداً إلا معرفة، والتثنية من خصائص النكرات كالجمع، لأن واحداً أعرف من اثنين، فلما [لم] يصح تنكير "هذا" لم يصح تثنية "هذا" من لفظه، ألا ترى أن: أنت، وهو، وهي -لما كانت معارف- لم يثن على لفظها، فلا يقال: أنتان، وهوان، وهيان.
وإذا [مست] الحاجة إلى تثنيتها، يصاغ لها أسماء مبنية لا [تختلف] أبداً على صورة الأسماء المثناة، وهي: أنتما، وهما. [فكذلك] صيغ لـ"هذا" عند التثنية [لفظ مخترع مبني]، لا يعمل فيها

(2/912)


عامل ألا ترى أنهم كيف فعلوا في "الذين" هكذا.
(فأجمعوا أمركم)
يكون إجماع الأمر بمعنى جمعه، وبمعنى اجتماع الرأي والتدبير. قال:
768 - يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوماً وأمري [مجمع].
(ثم ائتوا صفاً)
أي [مصطفين] جميعاً.

(2/913)


وقال أبو عبيدة: الصف: مجتمع القوم، وحكى عن [أبي] العرب: ما [ا] استطعت أن آتي الصف، يعني المصلى.
(فأوجس)
أسر وأخفى.
(تلقف ما صنعوا)
تأخذ [هـ] بفيها وتبتلعها.
(لا تخاف دركاً)
منصوب على [معنى] الحال، اي: اضرب لهم طريقاً غير خائف. ويجوز كونه منصوباً على نعت الطريق، أي: طريقاً يبساً مأموناً غير مخشي فيه الدرك.

(2/914)


(ما أخلفنا موعدك بملكنا)
بطاقتنا.
وقيل: لم نملك أنفسنا.
(ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم)
وذلك أن السامري قال لهم: إنها أوزار الذنوب، و [الـ]ـمال الحرام، فاجمعوه وانبذوه في النار، وكان صائغاً.
(فنسي)
ترك السامري إيمانه.
وقيل: هو قول السامري: إن موسى نسي إلاهه عندكم، فلذلك أبطأ. (فقبضت قبضة من أثر الرسول) [96]

(2/915)


أي: من تراب حافر فرس الرسول، فحذف المضافات.
(فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس)
وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل: أن لا تقاربوه، ولا تخالطوه. وقيل: إن السامري هرب من الناس، وتوحش في البراري خوفاً على نفسه، لا يماس أحداً، أي لا يدنو منه. قال:
769 - حتى تقول الأزد [لا مساسا]
أي: لا خلاط.
(ظلت)
ظللت، فخفف كقولهم: مست في مسست وأحست/في أحسست. قال الراجز:

(2/916)


770 - ظلوا يحجون وظلنا نحجبه
771 - وظل يرمى بالحصى [مبوبه].
(لننسفنه)
نذرينه، نسف الطعام بالمنسف: إذا ذراه لتطير قشوره.
(زرقاً)
عمياً.
وقال الأزهري: تزرق عيونهم لشدة العطش، وهو كما تزرق لشدة الغضب. قال ضرار بن الخطاب:
772 - إني لأنمى إذا انتميت إلى ... عز رفيع ومعشر صدق

(2/917)


774 - بيض جعاد كأن أعينهم ... تكحل عند [الهياج] بالزرق.
(يتخافتون)
يتناجون.
(عوجاً)
غوراً.
و (أمتاً)
نجداً.
وقيل: الأمت: الأخاديد في الأرض.
(همساً)
صوتاً خفياً.
(وعنت الوجوه)
ذلت وخشعت، ومنه العاني للأسير.

(2/918)


(ولا تعجل بالقرآن)
لا تسأل إنزاله قبل أن يوحى إليك.
وقيل: إنه كان يعاجل جبريل عليهما السلام في التلقن حرصاً. (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى)
أي: فتشقى أنت وزوجك.
وقيل: لأن الرجل هو الذي يكدح في المعيشة، ويشقى بالكسب، والمرأة: تنعم بالهاء مكفية، كما قال المخزومي:
774 - وأعجبها في عيشها ظل غرفة ... وريان ملتف الحدائق أخضر
775 - ووال كفاها كل شيء يهمها ... فليست لشيء آخر الدهر تسهر.

(2/919)


(ولا تضحى)
لا تظهر لحر الشمس. قال المخزومي أيضاً:
776 - رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر
777 - أخا سفر جواب [قفر] تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر.
(فغوى)
فضل عن الرأي.
(ولولا كلمة سبقت)
تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً، أي: عذاباً لازماً عاجلاً فقدم وأخر/، كما قال جرير:

(2/920)


778 - طاف الخيال وأين منك لماما ... فارجع لزورك بالسلام سلاما.
أي: طاف الخيال لماماً، وأين منك.
وقال الأخطل:
779 - إن الفرزدق صخرة [ملمومة] ... طالت فليس تنالها [الأوعالا]
أي: طالت الأوعال.
[تمت سورة طه]

(2/921)